المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 469 - بتاريخ: 29 - 06 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٦٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 469

- بتاريخ: 29 - 06 - 1942

ص: -1

‌الحب الضائع

للأستاذ عباس محمود العقاد

تكلم سان بيف - إن صدقتني الذاكرة - على أدب المذكرات الخاصة الذي شاع بين القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر في طائفة المثقفين والمثقفات من أهل فرنسا فعلل شيوع هذا الأدب بحب الظهور أو حب التحدث عن النفس والعكوف عليها. وقال ما فحواه: إننا نحن الفرنسيين نحب أن يتحدث عنا الناس وأن نتحدث عن أنفسنا فكتبنا. فأن عز علينا ذلك في المحافل والأندية خلونا إلى أنفسنا فكتبنا عنها في مذكراتنا الخاصة وجعلنا من سيرتنا موضوعاً يشغلنا كأننا أبطال المسرح ونظارته في وقت واحد. وهذا هو عنده - إن صدقتني الذاكرة مرة أخرى - تعليل أدب المذكرات الذي شاع قبيل عصره بين الفرنسيين والفرنسيات

وصاحب هذا التعليل لم يوفّ السبب الصحيح كل التوفية فيما نراه

فإن المذكرات الخاصة لم تشع بين الفرنسيين وحدهم في تلك الفترة، ولكنها شاعت كذلك بين الإنجليز وبدأت عندهم على الأرجح قبل ابتدائها عند الفرنسيين. فأثرت عنهم اليوميات من أوائل القرن السادس عشر إلى أيام الثورة الفرنسية، وكانت لهم فيها أفانين لا تنحصر في نوع واحد من أنواع الملاحظة والتدوين

والأغلب في اعتقادنا أن كتابة المذكرات الخاصة عادة سرت إلى أبناء فرنسا وإنجلترا معاً من عادة الاعتراف التي دان بها التابعون للكنسية الكاثوليكية زمناً في كلتا الأمتين. فكان إفضاء الكاتب بأسراره إلى دفتره المكنون ضرباً من الاعتراف بين يدي الكاهن بالخطايا والذنوب وخفايا النيات، وأصبحت كتابة المذكرات هي باب الاعتراف الوحيد الذي ظل مفتوحاً لمن تحولوا عن الكنيسة الكاثوليكية وعدلوا عن الاعتراف بين أيدي الكهان

وربما أضيفت إلى هذا السبب أسبابٌ أخرى نفسية كمزاج البوح والمكاشفة الذي يطبع عليه بعض الناس، وأسباب أخرى سياسية واجتماعية كاضطرام الفتن واختلاف العادات، وصعوبة المفاتحة بالأسرار بين أناس متدابرين مستريبين فيما يضمر كل منهم من العقائد والميول

والدكتور طه حسين قد جمع بين حسن الإلهام وحسن التعليل حين عرض لهذا الأمر في

ص: 1

الصفحات الأولى من روايته الجديدة (الحب الضائع) فقص لنا قصة الفتاة التي انتقلت من الاعتراف للقسيس إلى الاعتراف للدفتر وقال لنا بلسانها: (إني لأفكر في هذا فأذكر مواقف وقفتها في عهد الطفولة ولا أزال أقفها إلى الآن وقد كدت أبلغ العشرين من العمر. وهي مواقفي من القسيس. . .)

إلى أن تقول: (. . . فأخترع الخطايا اختراعاً وألقيها إلى القسيس متكلفة غالية في التكلف. فيقبل القسيس مني حيناً ويرفض حيناً آخر. حتى انتهى به الأمر ذات يوم إلى أن كلفني أن أعترف له بكل ما أثقلت به نفسي من هذه الأكاذيب والأباطيل ونبهني إلى أن الكذب عليه كذبٌ على الله، وإلى أن هذه الخطيئة الساذجة في ظاهر الأمر قد تستحيل إلى خطيئة مهلكة لأنها تعودني الكذب، وتغريني بالتكلف، وتدفعني إلى النفاق، وتنشئ بيني وبين الآثام صلات قد تنتهي بي إلى الشر. فأقلعت منذ ذلك اليوم عن انتحال الخطايا وتكلف الآثام للقسيس، ولكني ألاحظ الآن أني قد جلست إلى هذا الدفتر لأنتحل الأحاديث وأتكلف الأسرار وما في نفسي من حديث وما لضميري من سر. . .)

فها هنا طفلة أحبت الاعتراف لأنها أحبت أن تتشبه بالفتيات الناميات ولو في انتحال الخطايا واختلاف الذنوب، ثم حال القسيس بينها وبين الاعتراف الكاذب فرجعت إلى قسيس صامت لا يمنعها أن تعترف بما تشاء ولو لم تكن فيه مدعاة اعتراف، وهو الدفتر الذي تطويه عن الانتظار وتجد عنده مزيجاً من متعة البوح ومتعة الكتمان

هذا مزاج الاعتراف واتخاذ الدفاتر الخاصة معاً قد مثل لنا على صورته الجلية الصادقة في أطوار هذه الفتاة التي يحدثنا عنها مؤلف (الحب الضائع)

ولعلنا نلمس في هذه الحقيقة طابع الصدق الفني والصدق الواقعي الذي اتسمت به الرواية في سرد حوادثها ورصف نسائها ورجالها

تأخذ في قراءة هذه الرواية وتعبر منها صفحة بعد صفحة فلا يزال يرتفع في خلدك شعور بالسؤال: مني كنت هنا قبل الآن!

أو لا تزال تشعر كشعور الرجل الذي رأى وجهاً عرفه ولا يذكر أين رآه أول مرة، أو كشعور الرجل الذي رأى مكاناً تخيله ووصف له وظن أنه نزل به يوماً ولا يذكر متى كان ذلك اليوم

ص: 2

ثم تعرض مقروءاتك من بعيد وقريب فيتراءى لك من بينها اسم (فرتر) الذي لا ينساه طويلاً من عرفه بعض حين

أي نعم هو (فرتر) بعينه. . . هو فرتر لا مراء

أفمعنى ذلك أن رواية الحب الضائع تشابه رواية فرتر في وقائعها؟

أفمعناه أنها تشابهها في سياقها أو أسلوب كتابتها أو طريقة في فن القصص أو مواقف الأبطال الموصوفين فيها؟

كلا. لا تشابه من هذا القبيل بين الروايتين، وكل ما بينهما من التشابه أنهما تتحدثان لنا عن حب يائس انتهى بامرأتين صديقتين إلى الموت. وهذا في الحقيقة موضوع عام تشترك فيه روايات لا تحصى، ثم لا تذكرك واحدة منها بالأخرى

إنما التشابه في جو الطيبة والوداعة الذي يغمر القارئ وهو يتقدم في قراءة الروايتين

وليس هذا كل ما هنالك وكفى!

بل هي طيبة لا تشبه كل طيبة في لبابها، لأنها طيبة جادة تعرف كيف تستسلم وكيف تجمح وكيف تنطوي على نفسها وكيف تقبل الحياة بشرائطها هي لا بشرائط الحياة

وهي كذلك طيبة لا تحسها من مصدر واحد في الرواية، فلا تحسها من الزوجة وحدها ولا من الزوج وحده ولا من الصديقة التي خانت فقتلت نفسها ولا من الأسرة التي فرقها الموت أو جمعتها الشيخوخة والأسى

بل هي طيبة الجو كله، وإن برزت فيه الخيانة كما تبرز الشياطين في حظيرة الملائكة العلويين

وهي طيبة العلاقات والأواصر التي تخلق البيئة وتشمل من فيها، فإذا هم كلهم طيبون يريدون ذلك أو لا يريدون

فتاة تتزوج بخطيبها الذي اختاره لها أهلها وقد فجعتهم الحرب في أعز الأبناء. ثم تحب هذا الزوج وتخلص له وترزق منه صبياً يؤكد هذا الحب بينهما، ثم تساق إلى الأسرة صديقةٌ فجعت في قرينها فيلقاها الزوجان بالحفاوة والمودة والمؤاساة، ثم تنشأ بين الصديقة والزوج علاقة لم يحسبا لها حساباً، وكان ينبغي أن يحسبا لها بعض الحساب، فتهرب الصديقة من خطر الخيانة إلى مكان بعيد، وتعالج المقاومة ما استطاعت حتى تعجز عنها وعن الصبر

ص: 3

فتعود، ولكنها لا تطيق مقام الخيانة بين الزوجين فتحتال هي وعاشقها على اللقاء في مزار معهود. ويكبر على ضمير الرجل إثم الخيانة فيسوغه بالفلسفة التي يراها خيراً له من مصارحة نفسه بخيانة زوجة تخلص له ولا تفكر في غير الإخلاص ولو على سبيل القصاص. أما الفلسفة التي أهتدي إليها، فهي القول بتعدد الزوجات واستطاعة القلب أن يوفق بين حب اثنتين في كثير من الأوقات، أو كما قال الدفتر الذي تكتبه الزوجة لنفسها ونعلم منه وقائع القصة مروية بلسانها حيث تقول:(. . . كما نسمر في بيتنا كما تعودنا أن نفعل مع جماعة من الأصدقاء الذين تعرفينهم، وكنا نتجاذب الحوار في موضوعات مختلفة كما تعودنا أن نفعل، فانتهينا إلى الحب وانتهينا إلى الوفاء، وأفضنا في ذلك حتى عرض مكسيم لعادة تقرها بعض الجماعات المتحضرة: عادة تعدد الزوجات، وإذا مكسيم يدافع عن هذه العادة دفاعاً حاراً ويذود عنها ذياداً عنيفاُ، وأنا أسمع ذلك ضاحكة منه أول الأمر، ثم منكرة للغلو فيه، ثم دهشة لهذه الحماسة التي يظهرها مكسيم، ثم منتبهة لما كان يرد به فيليب من ألفاظ لا تخلو من تلميح وتعريض، ثم نتفرق وقد وقر في نفسي من هذا الحوار شيء لم يخل من تنغيص لما كان بيني وبين مكسيم من صفو. . .)

هرب الرجل من ألم الضمير إلى الفلسفة كما يفعل الرجال في معظم الأحوال.

أما المرأة، فقد هربت من ألم القلب إلى ملاذ آخر لعله أهون عليها من فلسفة الرجال، وهو الموت!

نعلم ذلك من الأسطر الأربعة التي هي كل ما نبأنا بها المؤلف بلسانه بعد ختام الدفتر على نحو من الاقتضاب كأنما هو اقتضاب القطع بالسكين. . . (وأصبح الناس ذات يوم وقد قرءوا في صحف الإقليم نعي سيدتين أهدت كل واحدة منهما نفسها إلى الموت، وجعل الناس في المدينة إذا لقي بعضهم بعضاً يلمون بهذا النبأ ويقول بعضهم لبعض: يا عجباً! كأنما كانت على ميعاد!)

هنا مظهر الطيبة القوية كلها أو مظهر القوة الطيبة كلها فهنا صدمة طاغية تودي بحياتين ويوشك أن تودي بثالثة، أو هي قد أودت فعلاً بما هو مساك تلك الحياة وهو الاطمئنان وسكينة الضمير

تمت هذه الخاتمة القاصمة دون أن تنفرج الشفاه بكلمة واحدة تبعثر آلام الصدور في آذان

ص: 4

من يعنيهم الأمر ومن لا يعنيهم من الفضوليين

ولو كانت طيبة سخيفة لاستنفدت نفسها في اللجاجة والثرثرة والقال والقيل في غير طائل

ولو كانت قوة تخلو من الطيبة لما خلت من الإجرام والفضيحة والتنغيص الذي لا يطاق

ولكنها الطيبة التي قلنا إنها تعرف كيف تستسلم وكيف تجمح، وتعرف كيف تحب وكيف تموت. ومن عجائب الدنيا أنه لا يعرف كيف يحب وكيف يموت إلا من هو أحق الناس بالحياة

والسؤال الذي يخيل إلى أنني سامعه من كل لسان في هذا الموقف هو: أفي العالم اليوم مثل هذا الحب! وإن كان في العالم أفي أوربا؟ وإن كان في أوربا أفي الديار الفرنسية؟

وهنا الكشف الذي يستحق أن تكتب من أجله الروايات والمصنفات، لا الرواية الواحدة ولا المصنف الواحد

فحب النزوات ما استغرق قط نفوس بني الإنسان في هذا الزمان ولا في غير هذه النزوات

وفرنسا ليست ببدع في ذلك بين أمم العالم الحديث. فليست فرنسا كلها باريس ولا باريس كلها بأحياء السهر والمجون، بل هناك فرنسا أخرى كتب عنها العارفون واختبرها الناقدون الملهمون الذين لا يكذبون، وبسطوا للناس من أوصافها ما يأذن بحب كهذا الحب، وجدٍّ كهذا الجد، وطيبة كهذه الطيبة، وكرامة كهذه الكرامة، وإن كثرت من فوقها الفقاقيع التي تحجب القاع، وتخدع فيه الأبصار والأسماع

وضمان هذه الحقيقة أن القلب الإنساني حيث كان يفقد قابلية العيش إذا هو فقد قابلية الحب الذي يعز عليه أن يضيع، والذي يؤثر أن يضيع الحياة ولا يضيعه وهو باق بعده بين الأحياء

إذا فني من قلب الإنسان في أرجاء الدنيا هذا المعين المقدس فهي الدنيا الفانية أو هي الأسطورة التي يستحمقها الخيال قبل أن تستحمقها العقول

وهذا هو الكشف الذي من أجله وحده تستحق رواية (الحب الضائع) أن تقرأ وتحفظ، وفيها غير ذلك ما تستحق من أجله القراءة والحفظ والتأمل الطويل

وقد اشتمل غلاف الرواية على توابع أخرى من القصص الصغار التي تنتهي الواحدة منها في بضع صفحات، تختلف في نمط التأليف وفي سرد الحادث وصور الأبطال، ولكنها

ص: 5

تتفق في مزية واحدة تحمد للمؤلف الكبير، وهي مزية الجد في تصوير العاطفة التي هانت على ألسنة الناس وعلى نفوسهم في مجالس أهل الفضول. فليس الحب الذي تحكيه هذه القصص الصغار نزوة جسد، ولا مشغلة فراغ ولا لعبة عازلين، ولكنه كما يجمل بالإنسان كأس تصلح أن يملأها الموت كما تصلح أن تملأها الحياة، وتغترف من معين كامن فيما وراء الطبيعة كما تغترف من معين يسطع عليه نور الشمس وتخفق عليه نسمات الفضاء.

عباس محمود العقاد

ص: 6

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

علاج النفس - الخادع المخدوع - مداخل الشيطان - صورة

إسلامية - المنافق الجميل

علاج النفس

كتب إلينا حضرة (. . .) الموظف بوزارة المالية خطاباً يذكر فيه أنه يعاني أزمات نفسية تتمثل في تجسيم الخلاف الذي يثور بينه وبين أهله وأصدقائه من حين إلى حين، وهو يستحلفنا بالله أن ندله على طريق الخلاص من هذه الأزمات السُّود

ونحن من جانبنا نستحلفه بالله أن ينظر في الصور آلاتية:

1 -

رجلٌ صائم يشعر بأن الصيام قد يحمله على سرعة الانفعال، فهو يتجنب الاصطدام بالناس، لئلا يؤذيهم بغير حق

2 -

رجلٌ ترك التدخين بعد طول العهد بالتدخين، فهو يعرف أنه في الأيام الأولى محتاج إلى التصبُّر، ومضطر إلى البعد قليلاً عن المجتمع، لئلا يحمله ضيق النفس على الوقوع في محرجات لا تليق

3 -

رجلٌ مأزوم يخفي كربه عن زوجته وأبنائه، فهو يبتعد عامداً عن الحديث في المطالب المعاشية، لئلا تلوح فرصة يثور فيها كربه فتنفرج شفتاه عن بعض الألفاظ الغلاظ في إيذاء الزوجة والأبناء

4 -

قاض ينسحب من الجلسة وقد أحسّ بنوبة مَرضية خوفاً من الإضرار بالمتقاضين، لأنه يعرف أن العلة ولو كانت خفيفة تعرّض أحكامه للاعتلال

5 -

مدرس غاضب على أحد التلاميذ، وهو لحرصه على النزاهة يرفض امتحان ذلك التلميذ، لئلا يؤثر غضبه في تقدير الدرجات، وهو نوع من القضاء

6 -

غريب يشعر بالضجر من أحد البلاد، فيمنعه العقل من اغتياب ذلك البلد، إيماناً بأن الغربة قد تلوِّن أحاسيس المغتربين بالحزن والانقباض، فهم يرون الدمامة ويعمَوْن عن الجمال

ص: 7

7 -

خصمٌ شريف يعرف أن الخصومة قد تُفسد أحكام الرجال على الرجال، فهو يحاسب نفسه قبل أن ينطق بكلمة تسيء خصمه اللدود

فما رأيك في هذه الصور السبع، ولها أمثال تفوق الإحصاء؟

إن كان حكمك على هذه الصور يوافق أحكام أولئك الرجال فادرس نفسك وزمانك لتعرف أنك معرض لآفات نفسية تفرضها عليك الظروف في هذه الأيام (البيض)

أحترس كل الاحتراس من نفسك في هذه الأوقات، واعلم أن سلامة الأعصاب تعرضتْ لمصاعب لا تطاق، ومن النادر أن تجد رجلاً يساير الحياة بقلبٍ سليم، وقد قضت متاعب الحرب بأن يصير الناس جميعاً مجنَّدين، ولو كانوا من سكان المغاور والكهوف

يومك الحاضر متعب، ولا تمر فيه لحظة بلا منغصات، ولذلك أرجوك أن تسارع فتتهم نفسك قبل أن تتهم الأهل والأصدقاء عند اشتجار الخلاف

ومن المؤكد أن (مرض العصر) لا يمسك وحدك، لأنه وباء، والوباء لا يقتصر شره على الأفراد، فهو يمس الجميع بلا استثناء

فهل تكون عند حسن الظن بك فتقف موقف الطبيب من مرضاه؟

ومع من تجسَّم الخلاف؟

إنك تعامل أقواماً ضعُفت أعصابهم أقبح الضعف، بسبب المضجرات التي ساقتها أعوام الحرب، فهم في حقيقة الأمر مرضى لا أصحاء، والعاقل لا يطالب المريض بما يطالب به الصحيح

وأنا مع هذا أنصحك بما لا أنصح به نفسي، فأنا أكتب هذه الكلمات في أعقاب ثورة نفسية قضت بالقطيعة بيني وبين صديق لا ذنب له غير العيش في أيام تُجسَّم فيها أشباح الهفوات

وما جاز عندي أن أنصحك بما لا أنصح به نفسي، إلا لأني أرجو أن تكون قدرتك على نفسك أكبر من قدرتي على نفسي. . . وليتك تتأدب بأدبي، فأنا لا أنفض يديَّ من صديق إلا بعد الصبر عليه عدداً من السنين الطوال، ثم لا يكون عقابه غير الهجر الجميل

لطف الله بي وبك، وهداني وهداك!!

الخادع المخدوع

هو من يوهمه اللؤم أو توهمه الحماقة أن صداقات الرجال تُنال بالرياء، وأن لُطف

ص: 8

المحضر يغني عن صدق المَغيب

الصديق الحق هو الذي يستطيع أن يغزو قلبك بأشعة روحانية توحي إليك أنه أنيسك في النعماء، وحليفك في الضراء، وأن وداده الصحيح هو القبس الذي تستضيء به عند اعتكار الظلمات

الصديق الحق هو الذي يدرك بوضوح أن الصداقة تفرض عليه أن يكون سنادك في جميع الأحايين، وأن يؤاخي من آخاك ويعادي من عاداك، ولو كنت على ضلال. وهل يستطيع الصديق أن يرى في صديقه غير كرائم المناقب وروائع الخصال!

ليس بصديق من يرى عيوبك، أو يسمع فيك أقوال مبغضيك. وليس بصديق من يجوز عنده أنك واحد من الناس يقترب إليه باسم الصداقة، ويبتعد عنه باسم العقل. وليس بصديق من لا يراك في جميع أحوالك أشرف الرجال

إن استباح الصديق أن يتعقب صديقه بالملام، في جد أو في مزاح، فهو عدو يلبس ثوب الصديق

قال الرسول عليه السلام: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)

وقد أوَّل قومٌ هذا الحديث فقالوا إن نصر الأخ الظالم هو نهيه عن الظلم

وأقول إن هذا الحديث الشريف يرمى إلى غاية لم يفطن إليها أولئك المؤولون، وهو عندي دعوة إلى العصبية الأخوَّية، وهي الغاية في شرف الإخاء، وتلك العصبية توجب أن نكون في صفوف الإخوان ولو كانوا ظالمين، لأن الوداد الصحيح هو الاشتراك الوثيق في المحاسن والعيوب

أقول هذا وأنا أعلم أن في خلق الله من يثور على هفوات صديقه ليتسم بالنزاهة والعدل، ولو عقل لأدرك أن مؤاخذة الصديق - ولو بحق - هي أقبح ألوان الظلم والجور والإجحاف

مداخل الشيطان

إن جاريت العقائد الدينية فالشيطان مخلوق يوسوس لك بلا انقطاع ليضلك عن سواء السبيل. وإن جاريت المذاهب الفلسفية فالشيطان هو هواك، وأنت بين هذين الفرضين مسئول عن مقاومة هذا الهوى أو ذلك المخلوق، لأنه في حاليْة مشئوم مشئوم

ص: 9

ينزع الشيطان فيقول: لك أن تختار بين إيثار صديقك وإيثار الحق

وعند هذه الفكرة المضللة تلتفت فترى الحق أجدر بإيثارك فتثور على الصديق

ثم تلتفت مرة ثانية فترى ناساً يُعجبون بشجاعتك ونزاهتك لأنك آثرت الحق على الصديق

وتلتفت مرة ثالثة فتراك وُصفتَ بأوصاف لطاف هي منحة الشيطان لمن يثور على الصديق

ثم تلتفت مرة رابعة فتراك مسئولاً عن تبرير ثورتك على الصديق، ولا يتم ذلك بغير مآثم يكون منها أنك أشرف من صديقك، ولا يقول رجلٌ إنه أشرف من صديقه إلا حين يُشرف على هاوية الانحطاط!

إن الإفك في محاربة عدوّك أشرف من الصدق في محاربة صديقك، ولك أن تقول إني أفضّل الإفك على الصدق في بعض الأحيان

عِرضُ الصديق هو عِرضُك، ولن تكون رجلاً إلا حين تفرح بضلال صديقك قبل أن تفرح بهُداه

كن صديقاً صدوقاً، ثم تجرّدْ من سائر الفضائل إن شئت، فما يقيم الله وزناً لغير أعمال الصديق الصدوق

اسمع كلامي، يا غافل، إن كان لك سمعٌ أو قلب، اسمع ثم أجبْ:

هل تعرف لأي سبب قلّت الصداقات في هذه السنين العجاف؟ وأساعدك على الجواب فأقول:

قّلت الصداقات، لأنها جواهر نفيسة وكريمة، ونحن في زمن لم يرتفع فيه غير ثمن الرغيف المخلوط بالتراب. . . وما أُحب أن أزيد!

صورة إسلامية

في أحد أيام سنة 1938 - وكنت ضيف العراق - أطلعني السيد صادق الوكيل رحمه الله على قصة صدرت في بيروت تسمى (خطيئة الشيخ) أو (توبة الشيخ) فما أذكر اسمها بالضبط، ولعل إحدى المكاتب ترسلها إليّ بالثمن محوّلاً على البريد فأعرف ما فيها من مقاصد وأغراض

أخذ السيد صادق الوكيل يقرأ من تلك القصة صفحات معيّنة، وهي الصفحات التي يشرح

ص: 10

فيها المؤلف كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، بصورة مُزِج فيها القَصص بالتعليم، ثم عقّب فقال: ترضيني هذه الطريقة، فأنا أخشى أن يجيء يوم ننسى فيه كيفية الوضوء وكيفية الصلاة!

وفي صيف سنة 1939 قضيتُ أياماً في الإسكندرية لأستكمل الصور المنشودة لكتاب (أدب الشواطئ) وهو كتابٌ صرفتني عنه صروف الحرب، أو صرفني عنه إقفار الشواطئ من احتراب العيون والقلوب، وسأرجع إلى إتمامه ونشره يوم يرجع الأمان إلى صدر الزمان

وأواجه الغرض من هذه الكلمة فأقول:

في ساحة الفتون بالشاطئ الإسكندري لقيني الشيخ محمد أبو العيون، وهو أزهريٌّ طيب القلب جداً، وقد تهمّ حين تراه بأن تسأله الدعاء، على قلة هذا النوع في هذا الجيل، وإني لأرجو أن يتفضل فيذكرني بالدعوات الصالحات حين أخطر في البال

كنت أمتع عينيّ بأحد ملاعب (التِّنِسْ) في الشاطئ حين لقيني الشيخ محمد أبو العيون، ولملاعب التنس فوق الشاطئ الإسكندري جاذبيه تفوق الوصف، ولكن قدوم هذا الشيخ الصالح صدّني عن ذلك النعيم، وأشعرني أن للتقوى جاذبية رائعة، وأن النظر في وجه الرجل العابد يوحي من اشعر ما لا يوحيه النظر في طلعة البدر الوهاج

ولم يكن بدٌّ من صحبة هذا الشيخ في ذلك الوقت، وكانت الشمس تتأهب للاستحمام، وهي تستحم في البحر كل يوم قُبَيل الغروب، ولعل هذا هو السبب في أن جسمها خالد الإشراق!

- هل يضايقك أن نتعشى معاً، يا حضرة الدكتور؟

- أنا لا أتناول طعاماً بالليل، ويكفي أن أكون في ضيافتك الروحية

- تعال معي إلى الفندق، فهنالك مشكلة ينفع في حلها تعاون الرفاق

- وما تلك المشكلة؟

- خادمٌ بالفندق يرفض أن يتعلم كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، مع أني عرضت عليه خمسة قروش. ولو أنه استزادني لزدته؛ ولكنه يرفض

مضينا معاً إلى الفندق لحل تلك المشكلة، وأنا أبتسم ابتسامةً تخفي على الشيخ، فمن (المضحك) أن يُفكر روّاد الشواطئ في تعليم خدّمّة الفنادق كيفية الوضوء وكيفية الصلاة

ونظرتُ إلى الخادم فرأيته فتىً تشهد ملامحه بأنه مسلمٌ لفظاً لا معنىً، وأن طول عهده

ص: 11

بخدمة الفنادق والقهوات راضه على اليقين بأن المصطافين ليس فيهم من يذكر الله بصدق وإخلاص. . . وهل تزار الإسكندرية في الصيف لأداء الصلوات؟

عَرض الشيخ من جديد خمسة قروش، وعرضتُ عشرة قروش فقبِل الخادم (وهو يضحك ضحكة السخرية) أن يطيعنا فيتعلم كيفية الوضوء وكيفية الصلاة

أخذ الشيخ يعلَّم الفتى كيفية الوضوء بإيجاز، وكان الموقف في جملته من غرائب المضحكات، لأن قروش الشيخ وقروشي جعلت الفتى من المأجورين المأزورين، ولا قيمة لعبادة يكون جزاؤها بأيدي الناس!

كان الفتى يضحك ويلعب، ثم تغيَّر وجهه فجأة فصار في خشوع النسّاك، واحتجزّنا ساعتين لنعلَّمه سائر الفروض الإسلامية، ولم يَفُته أن يردَ القرَوش التي أخذها من الشيخ والقروش التي أخذها مني، برغم الإلحاح في قبول الهدية، وكانت حجته أنه قضي في صحبتنا لحظات هي أثمن وأنفس من أطايب الأموال

وفي الأسبوع الماضي زرت الإسكندرية لبعض الشئون، فراعني أن أجد فتى يهجم على يدي فيقبّلها بحرارة وشوق، ثم يسألني الدعاء، وهو الفتى نفسه، الفتى الذي علَّمناه كيف يصلي وكيف يصوم

خُذ علمي وأعطني إيمانك، أيها الجاهل السعيد، فلا حياة للعلم بدون إيمان

المنافق الجميل

هو شجرة الخِلاف أو الصَّفصاف، وهي شجرة غرستُها بيدي عشرات المرات، قبل أن أهاجر من سنتريس إلى باريس

لا يدوم جمال هذه الشجرة غر سنتين أو ثلاث، ثم تُخّوَّخ، والتخويخ في عُرف أهل مصر هو أن تعتلّ الشجرة بعلة الجوف، فيكون لها ظاهرٌ صحيح، وباطنٌ عليل، على نحو ما تكون شجرة الصفصاف بعد أعوام قصار، وعلى نحو ما تكون ضمائر الأصدقاء المزيّفين بعد أيام طوال!

رجال القلم هم أطباء النفوس والقلوب والعقول، والطبيب بلا مَرَضى كالمحامي بلا قضايا والمدرس بلا تلاميذ

ومن أجل هذا أحبك، أيها المنافق الجميل، لأن وجودك فرصة لدرس الغرائز والسرائر

ص: 12

والأهواء

أدامَ الله عليك نعمة الغدر، وأدام عليَّ نعمة الوفاء.

زكي مبارك

ص: 13

‌التصوير عند العرب

للمرحوم أحمد تيمور باشا

للدكتور محمد مصطفى

خيل إليَّ وأنا أقرأ كتاب (التصوير عند العرب) أنني أجلس في (الخزانة التيمورية) أراقب صاحبها - رحمة الله عليه - فأراه يقوم إلى أحد الرفوف ويتناول كتاباً معيناً، من بين الكتب الكثيرة المرصوصة بعناية فائقة، ليقرأ فيه ويسجل على حواشيه ما يخطر له من آراء وأفكار. وأكاد أرى هذا الكتاب وهو يهتز بين يديه طرباً وسروراً، بل أكاد أسمع هذا الكتاب وهو يتغنى بمديح صاحبه ويفخر بين الكتب الأخرى بما خط على جوانب صفحاته من ملاحظات ترفع من قيمته في أعين العارفين. نعم. . . إن الكتب ترقص وتغني إذا هي وجدت من يعني بأمرها ويرعاها في عطف وحنان. ولو تركت (الخزانة التيمورية) وشأنها - وما فيها من عشرين ألف مجلد - لملأت جو القاهرة وضواحيها بما تتغنى به من أناشيد، تشيد فيها بذكرى صاحبها الراحل الكريم، ولكانت تجلب السلوة والعزاء إلى قلوب الكثيرين من سكان هذا القطر والأقطار الشقيقة، بل إلى قلوب أناس عديدين عصفت بهم الشدائد في تلك النواحي النائية البعيدة، ولكانت تكف عن هذا الصراخ والعويل الذي ينبعث من (قبر) شاءت الأحوال أن تظل حبيسة فيه، بعيدة عن عشاقها ومحبيها

حقاً كان المرحوم أحمد تيمور باشا صاحب (الخزانة التيمورية) ومؤلف كتاب (التصوير عند العرب) من أولئك الذين أسعدهم الدهر بأن يولدوا في وسط عائلي مولع بالأدب وقرض الشعر، فهو الذي قالت في ولادته أخته عائشة التيمورية من أبيات:

لاح السعود وأسفر التوفيق

وتلا لنا سور العلا توفيق

وكان قد سمى عند ولادته (أحمد توفيق) ولكن لقب العائلة غلب عليه. وقامت أخته عائشة على تربيته بعد وفاة والده إسماعيل تيمور باشا، فتلقى علوم اللغة والمنطق والقراءات على فطاحل أساتذة ذلك العصر أمثال رضوان محمد وحسن الطويل والشنقيطي الكبير، وظل مثابراً على الدرس ومجالسة العلماء والأخذ عنهم، حتى أصبح الحجة في اللغة من بعدهم. وكانت داره بدرب سعادة منتدى يؤمه شيوخ الأدب واللغة للبحث والمناقشة أمثال: أحمد مفتاح، وطاهر الجزائرلي، ومحمد عبده، ويحيى الأفغاني، وغيرهم كثيرون من علماء

ص: 14

وأدباء الشرق والغرب. وفي هذا الوسط شب على حب جمع الكتب والتفنن في اختيارها واقتنائها، حتى بلغ ما جمعه في خزانته 15. 000 كتاب في نحو 20. 000 مجلد أكثرها من المخطوطات. ويؤكد الأستاذ حسن عبد الوهاب - وقد كان على اتصال به - أن (هذا العدد من الكتب قد اطلع عليه رحمة الله وعلق عليه ملاحظات له، ما بين وفاة مؤلف أو بيان ذيول وضعت على الكتاب، أو الإشارة إلى قوة المؤلف والاعتماد عليه في النقل) مما يدل على سعة اطلاعه وحبه للآداب والعلوم والفنون.

وكان رحمه الله دقيقاً في بحوثه العلمية، متوفر النشاط، يكثر من الكتابة والتأليف. وله مقالات كثيرة في اللغة والأدب والحضارة العربية والتاريخ الإسلامي، نشرها في جرائد ومجلات عديدة: كالمؤيد والضياء والمقتطف والمقطم والأهرام والهلال والهندسة والزهراء والهداية الإسلامية. أما ما ألفه من كتب فكثير، ولم ينشر بعضها بعد، وإني أذكر البعض مما نشر منها مثل: تصحيح لسان العرب، تصحيح القاموس، نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة وانتشارها، أبو العلاء المعري، تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر، قبر الإمام السيوطي وتحقيق موضعه، وأخيراً كتابه الفذ التصوير عند العرب

وناشر هذا الكتاب - الدكتور زكي محمد حسن - غني عن التعريف، فقد تسنى لي أن أنشر على صفحات هذه المجلة حواراً علمياً بيني وبينه، قابله بما نعهده فيه من ترحاب وسعة صدر! والمؤلف والناشر يتشابهان في بعض الصفات كل على طريقته الخاصة وطريقة عنصره. فكلاهما من هواة جمع الكتب، الأول صاحب الخزانة الشهيرة في الشرق والغرب، والثاني كوَّن لنفسه مكتبة في الفن الإسلامي يتمنى الكثيرون - ومنهم كاتب هذه السطور - اقتناء مثلها. وكلاهما واسع الاطلاع، الأول يحفظ بالذاكرة ويدون ملاحظاته في (كراسات) للرجوع إليها، والثاني يعتمد في بحثه العلمي على طريقة (جذاذات الورق) - وإني أفضل الجمع بين الطريقتين. وكلاهما معتد بنفسه وبمركزه العلمي، الأول في تواضع، والثاني فيما تفرضه مقتضيات عصره من كبرياء لا ذنب له فيها

ولا غرابة إذن أن يقول الناشر في تصدير الكتاب: (إن المؤلف كان حجة في اللغة والأدب، واسع الاطلاع على كتب التاريخ والبلدان، نافذ البصيرة، دقيق الملاحظة. فكان طبيعياً أني لم أجد في متن الكتاب ما يحتاج إلى تقويم أو تصويب من الناحيتين الأدبية

ص: 15

والتاريخية، ولكن دراسة الفنون والآثار الإسلامية لم تكن ناضجة في مصر حين كتب فصول هذا الكتاب ولم يكن المؤلف رحمه الله أخصائيا وثيق الصلة بالدراسات الفنية في الغرب، فدفعني هذا كله إلى الإقبال على التعليقات والدراسات الفنية مع توضيح الكتاب بالصور)

والحق يقال إن القارئ لا يدري هل هو تواضع المؤلف الذي يطغى على هذا الكتاب مع ما نراه من غزارة مادته في ناحيتي الأدب والتاريخ، أم كبرياء الناشر وما أظهر من سعة الإطلاع في تعليقاته ودراساته الفنية. وما الأدب والتاريخ سوى دعامتي الفن الإسلامي، بهما يثبت قوامه، وبدونهما تتقوض أركانه

وإني لا أجد لتوضيح ذلك أقوى مما قاله المؤلف في صلة الشعر بالفن، فهو يقول في مقدمة الكتاب:(وقد اعتمدت في كثير مما ذكرته على الشواهد الشعرية، لأني وجدت الشعر أصدق قيلاً وأفصح بياناً في هذه المواضيع، فالشاعر إذا وصف فإنما يصف شيئاً موجوداً وقع عليه نظرة فرواه لنا كما رآه، ولأنه يجتهد في تقريبه للأذهان فيصور من دقائقه في شعره ما لا تصوره عبارة أخرى، لا يقصد منها إلا رواية خبر ربما لا يهم راويه إلا ذكر جملته دون تفصيله)

وبدأ المؤلف كتابه بأنواع التصوير فذكر منها ما كان على الجدران والثياب والستور والأقداح والأواني والمصابيح والأثاث والسلاح والنقود والشارات والبنود، وفي الكتب والصحف والألواح. ثم أتبعها بذكر التماثيل على أنواعها من ثابتة ومتحركة ومصوتة بأنواع الحيل وتماثيل الحلوى والزهر والحقول واللعب وتماثيل الصبيان، وأتى بعد ذلك على ما عثر عليه من أسماء المصورين. ويقول في ذلك:(وفي هذا الفصل ما يدحض قول القائلين بقصور العرب في هذا الفن البديع)

ويقع هذا القسم من الكتاب في 114 صفحة هي متن الكتاب الذي حرره المؤلف مع الحواشي التي خطرت له. وليست قيمة هذا القسم في قلة عدد صفحاته أو كثرتها، بل فيما تحتويه هذه الصفحات من بيانات ونصوص، تدل على ما بذله المؤلف من جهود كبيرة ليجمعها من بطون الكثير من الكتب المطبوعة والمخطوطة. وليس أدل على ذلك من قول المؤلف في مقدمته: ثم لا يخفى على من عانى أمثال هذه المباحث أعتياص هذا الموضوع،

ص: 16

والتواؤه على محاوله، لتشتته بين تضاعيف الأسفار بعد ذهاب ما كتب عنه، وجمع فيه. فلا غرو أن يعد صغيره كبيراً، ويسيره كثيراً، وألا يُستهان بما يظفر به منه، فإنه إن لم ينقع غُلَّة، ويصرح عن المحض، فلا أقل من أن يتخذ أُسًّا يبنى عليه)

وقد تحققت نبوءة المؤلف هذه واتخذ الكتاب أُسًّا وبُني عليه، وجاءت تعليقات الناشر ودراساته الفنية متممة لهذا (الصغير الكبير، واليسير الكثير) فرد النصوص إلى مصادرها، ووضح الكتاب بالصور، وعمل على إعداد فهرس هجائي طويل لمتن الكتاب وما كتبه من تعليقات وما رجع إليه من مصادر، وإني أشاركه رجاءه في أن يقبل المؤلفون على عمل مثل هذا الفهرس فيما يكتبون وينشرون

ولعل الناشر ظن أن ذكرى مؤلف الكتاب لا تزال حية في قلوب أفراد الجيل الحاضر، فرأى أن ذلك قد يعفيه من الترجمة له، على غير المألوف في نشر المخطوطات. وقد كنا نود لو أن الناشر كان قد افتتح هذا السفر الجليل بترجمة وافية لمؤلفه رحمه الله يجمع فيها شتات ما قيل وكتب عنه، لتبقى ذكراه خالدة مع كتابه، لنا وللأجيال القادمة. وإني أرجو أن يحقق الناشر هذه الرغبة إذا أُتيح له أن ينشر من هذا الكتاب طبعة ثانية

وتكلم الناشر في تعليقاته (ص 119 وما بعدها) عن موضوع (حكم التصوير في الإسلام) وأراد أن (يفند الحجج التي يسوقها أصحاب القول بأن التصوير لم يكن مكروها في فجر الإسلام). فحلل هذه الحجج تحليلاً علمياً ورد عليها. وقد تكون لي عودة لمناقشة هذا الموضوع في مقال آخر

وقد توخى الناشر الدقة التامة في تعليقاته وفي توضيح ما نشره من الصور؛ وليس أدل على ذلك من صورة لشخص على دعامة وجدت مدفونة تحت قاعة العرش في قصر الجوسق بمدينة سامرا، وصفها الناشر:(ص 143 وحاشية 1) بأنها لامرأة (تحمل على كتفيها عجلاً)؛ ثم قال في الحاشية: إن (أكبر الظن أن هذا الرسم توضيح لقصة فتنة محظية بهرام جور) وبعد أن سرد هذه القصة اختتم الحاشية بقوله: (ويرى القارئ صورة لهذا المشهد العجيب في مخطوط من المنظومات الخمسة للشاعر نظامي، كتب في تبريز للشاه طهماسب)؛ وقد بدا للناشر بعد ذلك أن يغير رأيه في شرح هذه الصورة فقال: (ص 253 وحاشية 1) إن هذا النقش (قد يمثل سيدة تحمل فوق كتفيها عجلاً، فيكون ذلك توضيحاً

ص: 17

لقصة فتنة محظية بهرام جور)؛ وبعد أن تكلم باختصار عن هذه القصة قال: (ولكن الحق أننا لا نستطيع أن نجزم تماماً بأن الرسم يمثل سيدة وليس رجلاً، وبأن الحيوان المحمول عجلاً لا خروفاً؛ وإذا كان من المحتمل جداً أن يكون المقصود رسم رجل يحمل خروفاً فإن المنظر لا يكون من قصة محظية بهرام جور، بل يكون منظراً مسيحياً يمثل قصة الراعي الصالح)؛ وفي الحاشية روى هذه القصة وجاء بمراجع قيمة لبعض صور الراعي الصالح

والحق يقال أنه لا يمكن للقارئ أن يجزم بأي شيء من هذه الصورة وهي في حالتها الراهنة، والناشر على حق في كلا التفسيرين، ولكن إذا تأملنا الرسم الذي حاول فيه الأستاذ هرتزفلد (شكل 65 ص 88 من المرجع الذي ذكره الناشر) أن يرجع هذه الصورة إلى أصلها مع مقارنتها بمثيلاتها على جدران قصر الجوسق بسامرا، أمكننا أن نتبين أنه لامرأة تحمل على كتفيها عجلاً، وأن نستبعد قصة الراعي الصالح البيزنطية الأصل، لما نراه في الصورة من التأثير الساساني الشديد، ولمشابهة صورة المرأة فيها من حيث الرسم والملابس لصور الآلهات على تيجان أعمدة قصر الملك خسرو الثاني الساساني. وكذلك لم يذهب الناشر بعيداً في ظنه أن هذه الصورة تمثل الراعي الصالح إذ لا يبعد - كما أثبت الأستاذ هرتزفلد ذلك في ص 89 من المرجع السابق - أن تكون الصورة البيزنطية للراعي الصالح وعلى كتفيه الخروف قد أوحت للفنان الساساني أن يستبدل بالرجل امرأة وبالخروف عجلاً، فيمثل في صورته هذه (فتنة) محظية بهرام جور، وهي تحمل العجل على كتفيها، كي تتفق الصورة مع القصة الساسانية

ولاشك أن مراجع (الفن الإسلامي) التي ضمها الناشر لما ذكره المؤلف من مراجع الأدب والتاريخ، قد جعلت لهذا الكتاب ميزة خاصة به، فصار وافياً في الغرض الذي كتب من أجله

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربية

ص: 18

‌شعر علي بن أبي طالب

للأستاذ السيد يعقوب بكر

هل كان شاعراً؟

لعلنا في حاجة قبل كل شيء إلى أن نصل إلى رأي في هذه المسألة: وهي هل كان علي شاعراً أم لم يكن؟ ذلك لأنه قد ثارت حول هذه المسألة مجادلات؛ فذهب قوم إلى أن علياً كان شاعراً، وذهب آخرون إلى أنه لم يكن كذلك، وإنما كان كاتباً وخطيباً. أقول إننا في حاجة إلى أن نصل إلى رأي في هذه المسألة قبل كل شيء. والواقع أننا لسنا في حاجة إلى شيء بعد ذلك لأننا قد وصلنا إلى رأي في هذه المسألة: هو أن علياً كان من الشعراء. ولقد وصلنا إلى هذا الرأي بعد أن خطونا ثلاث خطوات:

1 -

وجود الموهبة الشعرية عند علي

ونقصد بالموهبة الشعرية هنا تلك الموهبة التي تولد مع الشاعر وتنمو بنموه وتنضج بنضوجه، وتدفعه إلى قول الشعر ونظم القصيد. نقصد بها ذلك الاستعداد لقول الشعر واصطناعه وسيلة من وسائل التعبير عن النفس والتصوير لخلجات الوجدان ونوازع القلب

هذه الموهبة الشعرية يكفي في الدلالة عليها حياة النفس، ويقظة القلب، وتنبه الضمير، والتأثر السريع العميق بما من شأنه التأثير السريع العميق. يكفي في الدلالة عليها اتقاد العواطف وحرارة الانفعالات

ولقد كان علي بن أبي طالب موهبة شعرية على هذا الأساس. فلقد كان حي النفس، يقظ القلب، مُتنبِّه الضمير، يتأثر تأثراً سريعاً عميقاً بما من شأنه التأثير السريع العميق؛ ولقد كان متقد العواطف حار الانفعالات

ويكفي في التحقق من ذلك قراءة ما صح من خطبه وكتبه، ففي هذه الخطب والكتب نلمس الشعور الفياض ونحس به سارياً في أثناء الكلام. فنحن إذا قرأنا الخطبة الشقشقية شعرنا بما يضطرم في صدر علي من الألم لظفر أبي بكر ثم عمر ثم عثمان بالخلافة دونه، مع أنه - في نظره هو - أحق منهم بها لقربه من الرسول وتحدره من بيته. وهذا الألم الذي يضطرم في صدر علي ألم قوي شديد، ينفث في الكلام مرارة يستشعرها القارئ، وشكوى

ص: 19

مفعمة بالأسى، وظلالاً من الشعور بالحرمان

ونحن إذا قرأنا جوابه عن كتاب معاوية إليه شعرنا بإيمان صاحب الحق بما له من حق، وحرصه عليه، وثورة نفسه على من يسعى لاغتصابه منه أو حرمانه إياه أو الاستئثار به دونه

وهكذا تنتظم خطب علي وكتبه نفسه الحماسية ووجدانه الثائر وعواطفه الجياشة، وتقوم دليلاً على أنه شاعري الروح عظيم الحظ من الموهبة الشعرية

ولقد أحسَّ بروكلمان هذه الموهبة الشعرية عند علي فقال في خلال حديثه عن الديوان المنسوب ج1 ص43: (ليس من شك في أن علياً كان ذا ملكة شعرية. . .)

2 -

نسبة أشعار إليه في بعض المراجع العربية المعتمدة

(1)

جاء في عيون الأخبار لأبن قتيبة (ج 3 ص 5 ط دار الكتب): (وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه:

أخوك الذي إن أحوجتك ملمّة

من الدهر لم يبرح لها الدهرَ واجما

وليس أخوك الحقُّ من أن تشعّبت

عليك أمور ظل يلحاك لائما

(ب) جاء في معجم الأدباء لياقوت (ج 5 ص 263 ط مرجليوث): (قرأت بخط أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي في كتاب التهذيب له قال أبو عثمان المازني لم يصح عندنا أن علي بن أبي طالب تكلم من الشعر غير هذين البيتين:

تلكم قريش تمناني لتقتلني

ولا وَجدِّك ما بروا ولا ظفروا

فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لهم

بذات روقين لا يعفو لها أثر

قال ويقال داهية ذات روقين وذات ودقين إذا كانت عظيمة

وجاء فيه أيضاً (ج 5 ص 266): (وما يروي أن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن لي فضائل: كان أبي سيّدا في الجاهلية وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخال المؤمنين وكاتب الوحي. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أبا الفضائل تفتخر على يا ابن آكلة الأكباد؟ أكتب إليه يا غلام:

محمد النبي أخي وصهري

وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي يضحي ويمسي

يطير مع الملائكة ابن عمي

ص: 20

وبنت محمد سكني وعرسي

مشوب لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها

فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طراً

صغيراً ما بلغت أوان حلمي

فقال معاوية أخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب

(ج) جاء في مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني (ص 14 ط المطبعة الحيدرية بالنجف الأشرف): وكانت فاطمة بنت أسد أمُّه لما ولدته سمته حيدرة فغير أبو طالب اسمه وسماه علياً. وقيل إن ذلك اسم كانت قريش تسميه به. والقول الأول أصح، ويدل على ذلك خبره يوم خيبر وقد برز إليه مِرْحب اليهودي وهو يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرَّب

إذا الحروب أقبلت تلهَّب

فبرز إليه علي عليه السلام وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي حيدرهْ

كليث غاب في العرين قسورهْ

أكيلكم بالصاع كيل السندرهْ

(د) جاء في العمدة لأبن رشيق (ج 1 ص 14 ط الخانجي):

(ومن شعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان مجدداً قال له يوم صفين يدكر همْدان ونصرهم إياه

ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا

نواصيها حمرَ النحور دوامي

وأعرض نقع في السماء كأنه

عجاجة دجن ملبس بقتام

ونادى ابن هند في الطلاع وحمير

وكندة في لخم وحيّ حذام

تيممت همدان الذين همُ همُ

إذا ناب دهر جنتي وسهامي

فجاوبني من خيل همدان عصبة

فوارس من همدان غير لئام

فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها

وكانوا لدى الهيجا كِشرب مدام

فلو كنت بواباً على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وهو القائل بصفين أيضاً:

لمن راية حمراء يخفق ظلها

إذا قلت قدمْها حصين تقدما

ص: 21

فيوردها في الصف حتى يَرِدْ بها=حياض المنايا تقطر الموت والدما

(هـ) جاء في ديوان الحماسة للبحتري (ص 61 ليدن): وما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

من أي يوميَّ من الموت أفرْ

أيوم لم يقدر أم يوم قُدِرْ

وقال عليه السلام أيضاً:

أعلىَّ يقتحم الفوارس هكذا

عني وعنهم خبروا أصحابي

اليوم تمنعني الفرار حفيظتي

ومهنَّد بالكف ليس يناب

آلي ابن عبد حين شدَّ أليَّة

وحلفت فاستمعوا من الكذاب

ألا يصد ولا أهلل فالتقى

بطلان يضطربان كل ضراب

فصددت حين تركته متجدلاً

كالجذع بين دكادك وروابي

وكففت عن أثوابه ولو أنني

كنت المجدَّل بزني أثوابي

(و) جاء في الكامل للمبرد (ص 544 من الطبعة الأوربية): (ومن شعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لا اختلاف فيه أنه قاله وأنه كان يردده أنهم لما ساموه (يعني الخوارج) أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام؛ فقال: أبعد صحبة رسول الله عليه السلام والتفقه في الدين أرجع كافراً:

يا شاهد الله عليَّ فاشهد

أني على دين النبي أحمد

من شك في الله فإني مهتدى

(ز) جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه (ج 3 ص 123): (. . . ومن قول علي كرَّم الله وجهه بصفين:

أمن راية سوداء يخفق ظلها

إذا قيل قدمها حصين تقدما

فيوردها في الصف حتى يردَّها

حياض المنايا تقطر السم والدما

جزى الله عني والجزاءُ بكفه

ربيعة خيرا ما أعف وأكرما)

فهو غير قليلاً في ألفاظ البيتين اللذين ذكرهما ابن رشيق، وزاد بيتاً ثالثاً

هذه جملة أشعار وجدناه منسوبةً إلى علي في هذه المراجع العربية المعتمدة، وهي بطبيعة الحال ليست كل ما في هذه المراجع، فإننا لو بحثنا فيها أكثر مما بحثنا، لوجدنا جملة

ص: 22

أخرى من الأشعار المنسوبة إلى علي؛ ولكننا نستطيع أن نقول واثقين: إن هذه الأشعار التي وجدناه هي معظم ما في هذه المراجع من الشعر المنسوب إلى علي، وهي تكفينا على كل حال في هذا البحث

3 -

هذه الأشعار مما يمكن صدوره عن علي وفي عصر

علي

هي مما يمكن أن يصدر عن علي، لأنها تشف عن شخصيته وتصور ما ألم به من الأحداث. فأنت إذا قرأت البيتين المذكورين له في عيون الأخبار طالعتك صورة الحكيم المجرب الذي يرى أن صداقة الصديق لا تكون إلا إذا حزن لحزنك وبكى لبكائك ووجم لوجومك ومن ينكر أن علياً كان حكيماً مجرباً؟ وكذلك إذا قرأت البيت المذكور له في ديوان الحماسة طالعتك صورة العاقل الذي يرى ألا فرار من الموت في أية حال من الأحوال، ومن ينكر أن علياً كان عاقلاً؟

وأنت إذا قرأت الرجز المذكور له في مقاتل الطالبين، والأبيات الستة المذكورة له في ديوان الحماسة، طالعتك صورة الشجاع المغوار الذي يعمل جاهداً في نشر الإسلام بالسيف بعد أن لم تُجدِ الحجة؛ ومن ينكر أن علياً كان شجاعاً مغواراً؟

وإذا قرأت الأبيات الخمسة المذكورة له في معجم الأدباء، طالعتك صورة صاحب الحق يدلِّل على ما له من حق، وكذلك كان علي طيلة حياته، فقد كان يشعر بمقر هذا ويألم لإغضاء أبي بكر وعمر وعثمان عنه ثم لتنكر معاوية آخر الأمر له.

فهذه الأبيات كلها تشف عن شخصيته، وتصور نوازعه وخوالجه وروحه. ثم إنك إذا قرأت سائر الأبيات وجدت فيها صوراً من الأحداث التي ألمت به؛ فالبيتان المشهوران المذكوران له في معجم الأدباء يصوران رغبة قريش في قتاله وقتله، تلك الرغبة التي ظهرت في سير طلحة والزبير وعائشة إليه ووقوع وقعة الجمل بعد ذلك. والرجز المذكور في الكامل على قِصَره يعطينا صورة عن خروج الخوارج عليه واعتقادهم كفره ثم استتابتهم إياه. والأبيات التي قالها في صفين تصور هذه الواقعة أجمل تصوير وأقواه

فأنت ترى إذن أن هذه الأبيات التي وجدناها له مما يمكن صدوره منه لأنها تصور

ص: 23

شخصيته وحوادث عصره

ثم هي أيضاً مما يمكن صدوره في عصره، ونقصد بذلك أنها تتسم بالطابع الذي يطبع آداب هذا العصر وهو طابع القوة والصدق. فنحن نعرف أن هذا العصر عصر عربي خالص لم تشبه بعدُ شوائب العجمة، فهو إلى البداوة أقرب منه إلى الحضارة. ونحن نعرف أيضاً أن الروح العربية الخالصة روح قوية صادقة لم يُغَشِّها شيء ولم يلبسْها شيء. ولذلك وجدنا آداب هذا العصر العربي الخالص متسمة بهذه الروح العربية الخالصة بما فيها من قوة وصدق. وليست هذه الأشعار التي نقرأها لعلي ببعيدة عن هذا الطابع الذي يطبع آداب هذا العصر الذي عاش فيه علي. ويمكن لكل ذي ذوق أن يحس ذلك إحساساً واضحاً

هذه هي الخطوات الثلاث التي خطوناها فأدت إلى الرأي الذي قدمناه في أول هذا القسم من البحث وهو أن علياً كان من الشعراء. وليست الخطوة الواحدة من هذه الخطوات بقادرة وحدها على أن تؤدي بنا إلى هذا الرأي، وإنما هي تؤدي بنا إليه إذا تعاونت مع أختيها وانضمت إليهما

ونحن نحب بعد أن أثبتنا رأينا هذا أن نعود إليه فنقويه بأقوال بعض المؤيدين لنا من المتقدمين:

1 -

يقول السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 70 ط الميمنية): (وأخرج عن الشعبي قال كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول الشعر وكان علي أشعر الثلاثة)

هكذا يقول الشعبي وهو ثقة، ثم هو أيضاً من المتقدمين فقد كان معاصراً للحجاج وعبد الملك ابن مروان

2 -

يقول ابن عبد ربه (ج 2 ص 123): (وقال سعيد ابن المسيب كان أبو بكر شاعراً وعمر شاعراً وعلي أشعر الثلاثة)

فسعيد بن المسيب يقول قول الشعبي، وهو ثقة فقد كان أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ثم هو متقدم فقد كان معاصراً لعبد الملك وتوفي بالمدينة سنة 98هـ

(للبحث بقية)

السيد يعقوب بكر

ص: 24

‌على هامش النقد

كتب وشخصيات

للأستاذ سيد قطب

1 -

(عبقرية محمد) للعقاد

العقاد رجل متعب بالقياس إلى النقاد وبخاصة في كتاب (عبقرية محمد)، فالناقد لا يحس بلذة عمله إلا حين يجد مجالاً لمشاركة المؤلف في عملية الإنشاء والخلق. حين يجد مجالاً لمناقشة الفكرة، والزيادة عليها في بعض الأحيان، أو التعرض لها من زاوية غير التي تعرض لها المؤلف. . . وبالإجمال حين يجد له عملاً آخر بجانب المؤلف غير مجرد الاستعراض

والعقاد - وبخاصة في كتابه الأخير - يحرم الناقد هذه اللذة، ويكاد يقعده عن الكتابة. . . وما جدوى أن يكتب الناقد ليقول:(هذا جيد. . . وهذا جيد كذلك. . . وهذا كذلك جيداً أيضاً!) حتى ينتهي من صفحات الكتاب وفصوله، وهو يكرر جملة واحدة أو ما في معناها؟ إنها إذن تحية وليست نقداً كما يشاء النقاد!

الرجل موهوب - هذا ما لا شك فيه - ثم هو لا يقنع بهذه الهبة الضخمة - كما يقنع مع الأسف كثير من شبابنا المتطلعين إلى الشهرة في هذه الأيام لمجرد إحساسهم بنوع من الهبة الطبيعية - إنما هو كذلك قارئ عظيم، وقارئ يعرف كيف يقرأ وكيف يفيد من هذه القراءة؛ قارئ يحس أن القراءة وظيفة له في هذه الحياة، لا يجوز أن تعوقه عنها وظيفة أخرى، حتى وظائف كسب العيش، ووظائف الخدمة العامة

ومن الموهبة الضخمة والقراءة الكثيرة، كان هذا الذي يلاقيه الناقد من العنت والتعب حين يتعرض لأدب العقاد ولنثره خاصة، فشعره لإجماله ولأنه تعبير عن النفس الإنسانية، فيه مجال للشرح والتحليل واستخلاص ملامح النفس من خلاله، وفي هذا كله إرضاء لشعور الناقد، وإشعار له بأنه يعمل شيئاً بجوار الشاعر!

جالت في نفسي هذه الخواطر وأنا أقرأ كتاب (عبقرية محمد) للمرة الثالثة، عسى أن أجد ما أقوله غير (هذا جيد، وذاك جيد؛ وذلك كذلك جيد. . .) ثم عدت لأرى أن الاستعراض أسلم

ص: 26

طريق.

ما موضع هذا الكتاب في مكتبة (محمد) وما وظيفته التي يؤديها ولا تؤديها المؤلفات الكثيرة والأخبار المروية، عنه عليه السلام؟

موضع هذا الكتاب أنه خلاصة لهذه المكتبة ولكنها خلاصة (مكيَّفة) تكاد أن تكون شيئاً آخر غير ما استخلصت منه (خلاصة ماهر) والعقاد يقول في أحد أبياته:

ليست خلاصة كل شيء غنية

عنه وإن كانت خلاصة ماهر

ولكنها في هذه المرة خلاصة تغنى من يريد أن يعرف من هو محمد على وجه التحقيق، لأن فيها من التعليقات والتوضيحات والتحليلات ما يجعلها غنية وافية كل الوفاء، وليس بالقليل أن تستعيض من مكتبته كتاباً

ووظيفته التي يؤديها وينفرد في أدائها، أن كل من عرف (محمداً) من قبل في جميع الروايات والسير والأسانيد والشروح وكل من لم يعرفه كذلك، كلاهما في حاجة أن يعرف (محمداً) مرة أخرى في هذا الكتاب! وأن يرى صورته في هذه المرآة الوضيئة، وإنه لواجد حتماً في الصورة عامة، وفي كثير من جزئياتها جديداً لم يره من قبل في أية مرآة. . . وسينظر ويتأمل ثم يقول المرة بعد المرة: ويْ. . . إن هذا القسم من الصورة لم يكن هكذا في ضميري؛ أو يقول: نعم. . . كنت أعرف ذلك ولكن ليس على هذا النحو الذي أره الآن!!

ومع هذا وذلك، فليس في (عبقرية محمد) خبر غير مروي من قبل، ولا حادثة لم تكن كذلك معروفة، ولا جزئية واحدة لم يتعرض لها الرواة والمحدثون؛ وهذا ما يجعل البعض يقول لأول وهلة: كل ما في الكتاب معروف! وما قد يجعلهم يحسون بالسهولة واليسر في الجهد الذي بذله المؤلف!

والحقيقة أن هذا شعور خدَّاع، وأن عبقرية العقاد ونضوجه في هذه الأيام هما اللذان يهيئان ذلك؛ وإنها لعبقرية - لاشك - ونضوج أن تصنع من المادة الميسرة للجميع شيئاً لم يتيسر من قبل للجميع!

وإن العقاد لمحق حين يرى في مقدمة الكتاب أن الثلاثين عاماً التي مضت بين مولد هذه الفكرة في نفسه وبين تنفيذها، كانت لازمة لفسح نفسه، حتى تستطيع أن تستوعب انفساح

ص: 27

(عبقرية محمد). . . وإن في الكتاب للفتات نفسية وفكرية لا تتيسر لكل إنسان، ولعلها لم تكن تتيسر للعقاد نفسه قبل هذا الزمان. . . وإنه ليقول:

(أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟

(إنها مسافات في عالم الفكر والروح، لو تمثلت مكاناً منظوراً، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار، وامتداد النظر بغير قرار)

والذين يعرفون طبيعة العقاد وانفساحها وتوفزها والتهامها لكل جديد، وتجددها حيناً بعد حين، وازدحامها بالخواطر عدد الثواني واللحظات، هم الذين يعرفون حقيقة هذه المسافات في عالم الفكر والروح، ويعرفون أنه يعني ما يقول حين يقول:(لو تمثلتْ مكاناً منظوراً، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار)!

قلت في التمهيد لهذه الكلمات: إن العقاد دارس شخصيات وإن كل إنسان يدرسه العقاد تستطيع أن تعرف (من هو) وإن لم يستوعب كل صفاته وكل ما وقع له في حياته؛ وهذا ما تجده في (عبقرية محمد) في نضج واستواء؛ وإنه ليبدأ بعد المقدمة مباشرة في ص 16 فيرسم بخطوط سريعة التصميم الأولى للصورة تحت عنوانات: (عالَم. أمة. قبيلة. بيت. أب. رجل). . . فتحس بعمل الريشة الماهرة المتيقظة لما تريد، العليمة بقواعد التصميم والتلوين؛ فإذا انتهى إلى ص 26 أحسست أن التصميم كله قد تهيأ على اللوحة، وأن صورة محمد وعصره ووظيفته في هذا العصر قد برزت من خلال هذه الخطوط السريعة، فلم يبق للريشة المدربة إلا التلوين، وملء الفجوات، وتوضيح القسمات، وذلك هو بقية فصول الكتاب!

وسنحاول أن نعرض هنا بعض لمسات هذه الريشة المدربة في تخطيط التصميم الأولى السريع:

يقول في ص 26 و27: (عالم يتطلع إلى نبي، وأمة تتطلع إلي نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي. . . ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقوماته، ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة: في المدينة، وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره

(نبيل عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب

ص: 28

(فقير وليس بالغني المترف، فيطغيه بأس النبلاء والأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار

(يتيم بين رحماء، فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح وفضيلة العطف على الآخرين

(خبير بكل ما يختبره العربي من ضروب العيش في البادية والحاضرة: تربى في الصحراء وألف المدينة، ورعى القطعان واشتغل بالتجارة وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة ولم يبتعد من الفقراء

(فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية، وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه، فلا هو يجهلها فيغفل عنها، ولا هو يغامسها كل المغامسة فيغرق في لجتها.

(اصلح رجل من أصلح بين في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة على غير علم من الدنيا التي ترقبها

(ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام. . .)

وذلك جانب من التصميم الأولي للصورة البارعة التي تأخذ هذه الريشة المدربة بعد ذلك في ملئها وتلوينها بما هو أبرع من هذه البراعة، وبما يتفق للألوان المنتقاة وللريشة الدقيقة في اليد البصيرة من الإبداع

وليس من المستطاع بطبيعة الحال أن أنقل هنا أكثر من هذه الفقرات، فهنالك أشياء أخرى لا بد أن تقال

قلت: إن كل الحوادث والأسانيد والروايات التي وردت في (عبقرية محمد) مروية معروفة وليس فيها من جديد. إنما الجديد هو عرضها واستخدامها واستخلاص النتائج منها. وهو اختيار الحادثة المناسبة في موضعها المناسب. ومن هذا كله تبدو الحوادث والروايات والنصوص في مواضعها وكأنها جديدة هناك، يطالعها القارئ لأول مرة، ويخطر له من معانيها في مواضعها هذه ما لم يخطر له قط وهو يراها من قبل مرة ومرة.

فسرية عبد الله بن جحش وأخبارها معروفة مكرورة ولكنها هناك تدل على (عبقرية محمد

ص: 29

العسكرية) كأحسن ما تكون الدلالة بغير تعسف ولا عنت. وعهد الحديبية وأخباره معروفة كذلك مكرورة، ولكنها هناك تبرز بوضوح ويسر (عبقرية محمد السياسية) كأوضح ما تكون العبقرية السياسية بأي ميزان وزنتها به في جميع الأزمان. وقصة الإفك مذكورة في كل كتب السيرة والتفسير مشهورة عند المسلمين وغير المسلمين ولكنها هناك تصور (سماحة محمد) وتلمس النفس الإنسانية فتدرك حقيقة هذه السماحة ومداها الرفيع. وقصة المتاع وأزواج النبي التي ترويها الآية:(يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها. . . الخ) متداولة في السيرة والتفسير ولكنها هناك دليل نفسي وعقلي لا يرقى إليه الشك، ولا يجادل فيه إلا المكابرون على كذب ما افتراه المفترون من استغراق لذات الحس لمحمد عليه السلام

وهكذا وهكذا من حسن الاختيار ووضوح العرض، وبراعة التعليق، وعبقرية التحليل، ووضاحة التدليل.

(البقية في العدد القادم)

سيد قطب

ص: 30

‌مطالعات في الأدب الغربي

عقليات الشعوب في معادلات رياضية

للأستاذ علي كمال

(لن يوتانج) أعظم الكتاب الصينيين المعاصرين، وهو من أشهر مفكري القرن العشرين وكتبه من أوسع الكتب الحديثة انتشاراً، أكتسب شهرة واسعة لتوفقه في فهم طبيعة العقل الغربي ومقارنته بأعرق العقليات الشرقية قدماً وهو العقل الغربي ومقارنته بأعرق العقليات الشرقية قدماً وهو العقل الصيني. وكتابه (أهمية الحياة) يعتبر أهم كتبه وقد أعيد طبعه في أمريكا أكثر من عشر مرات في نحو من سنتين. وفي هذا الكتاب فصول قيمة ننقل إلى القارئ منها خلاصة فصل طريف ضمنه دراسة لعقليات الشعوب حاول رسمها بمعادلات رياضة

(. . . يظهر أن الجنس البشري يقسم إلى طائفتين: الواحدة مثالية والأخرى واقعية. والمثالية والواقعية هما القوتان العظيمتان اللتان تتجاذبان التقدم الإنساني. فطَفْل الإنسانية قد صار ليناً مرناً بماء المثالية. . . إن هاتين القوتين المثالية في طرف والواقعية في طرف آخر تتجاذبان في جميع حقول النشاط الإنساني، والتقدم الحقيقي ممكن فقط بمزج هذين العنصرين بنسب موافقة حتى يظل الطين ليناً مرناً، فلا يشتد طبعه فيصعب تدبيره، ولا يلين قوامه فيصبح وحلاً. فالشعب الإنجليزي وهو أحكم الشعوب قد مزج الواقعية والمثالية بنسب موافقة فلم يترك المزيج قاسياً يصعب على الفنان تدبيره وتناوله، ولم يتركه مرقاً فلا يقوى على حفظ شكله وقوامه

وبعض الأمم في ثورات متتابعة، ذلك لأنه قد حقن في طينتهم الأصيلة بعض السائل من مثاليات الأمم الأجنبية التي لم تتمثل بعض في طبيعتهم، لهذا لم تقو طينتهم الأصيلة على حفظ شكلها

لقد فكرت في معادلات يمكن بواسطتها أن نعبر عن التقدم الإنساني وعن التغيرات التاريخية وهذه هي:

الحقيقة - الأحلام=كائن حيواني

الحقيقة + الأحلام=صداع القلب (يسمى عادة: المثالية)

ص: 31

الحقيقة + روح النكتة=الواقعية

الأحلام - روح النكتة=التعصب

الأحلام + روح النكتة=الوهم

الحقيقة + الأحلام + روح النكتة=الحكمة

وعلى ذلك فالحكمة أو أرقى أنواع التفكير تتألف في ربط أحلامنا بروح الفكاهة والنكتة ودعمها بالحقيقة نفسها

ولعل المعادلات التالية تفصل ما وصلت إليه من دراسة عقليات الشعوب، والمجال واسع لمعارضتها ونقدها

إذا رمزنا للحقيقة أو الواقع بالحرف (ق) وللحلم بالحرف (ح) ولروح النكتة بالحرف (ن) وللعاطفة بالحرف (ع)، ثم استعملنا الأعداد 4، 3، 2، 1 لندلل على نسبة حظ الشعوب من هذه العناصر بنفس الطريقة التي تسلك فيها العناصر والمركبات الكيميائية في تفاعلها. وما دمنا لا نستطيع أن نخلق اصطلاحات كالمستعملة في علم الكيمياء مثلاً فلنا أن نعبر عن هذه المركبات بمقادير ذرية كأن نقول 3 ذرات في الحقيقة حق 3، وذرتين في الحلم ح 2 وهكذا

حق3 ح2 ن2 ع1=الإنجليزي

حق2 ح3 ع3=الفرنسي

حق3 ح3 ن2 ع2=الأمريكي

حق3 ح4 ن1 ع2=الألماني

حق2 ح4 ن1 ع1=الروسي

ح2 ح3 ن1 ع1=الياباني

ح4 ح1 ن3 ع3=الصيني

ولست أعلم عن الإيطاليين والأسبانيين والهنود ما يمكنني من وضع مثل هذه المعادلات لهم، وأنا واثق بأن هذا القليل الذي وضعته سيكفي لفتح سيل عرم على رأسي من النقد

ولابد من الملاحظة على هذه المعادلات، فمنها يظهر أن الفرنسيين أقرب الناس إلى الصينيين من حيث روح النكتة والعاطفية، كما يتضح ذلك في كيفية كتابة الفرنسيين لكتبهم

ص: 32

وأكلهم وطعامهم. ولكن طبيعة الفرنسيين المتبخرة ناتجة عن مثالية أوسع تأخذ شكل الحب للفكر المجرد

واليابانيون والألمان متشابهون جداً في فقدانهم لروح النكتة والفكاهة، وما دام من غير الممكن وضع صفر كدرجة لهم في هذا العنصر من مركبهم العقلي فأنا أضع (1) وأعتقد بأنني محق في ذلك. غير أنني أعتقد بأن اليابانيين والألمان قد قاسوا كثيراً في حياتهم السياسية ويقاسون الآن بسبب إخفاقهم في امتلاك روح نكتة وفكاهة ملائمة. وعندما وضعت ح3. لليابانيين عنيت بذلك ولاءهم التعصبي لإمبراطورهم ولدولتهم الذي ما كان ممكناً لو أن في عقليتهم بعض الشيء من روح النكتة

. . . إن هنالك تجاذباً طريفاً في أمريكا بين المثالية والواقعية وكلتاهما متمثلتان بقوة كبيرة، وهذا يفسر لنا النشاط والقوة التي يتصف بها الأمريكيون. إن الكثير من مثالية الأمريكيين نبيل بمعنى أن الأمريكيين يلبون بسهولة دعوة نبيلة محقة، ولكن البعض من مثاليتهم يتصف بروح الأساطير

والإنجليز كما يظهر لي إجمالاً هم أحكم الشعوب، فإن (حق3 ح2) تنطق بالثبات والاتزان، وهي أقرب المعادلات للمعادلة المثالية في نظري، وهي (حق3 ح2 ن2 ع2) التي قصر الإنجليز عن بلوغها بدرجة واحدة في العاطفة

من دراسة عقليات الشعوب نخرج بهذه النتيجة: في الصين يعيش الرجل حياة أقرب إلى الطبيعة وأقرب إلى الطفولة، حياة تمارس فيها الغرائز والعواطف بحرية تامة، وتؤكد هذه الحياة بقوة ضد الفكر. وعلى هذا ففلسفتهم في الحياة توصف بما يلي:

أولاً: رؤية الحياة تامة في الفن، ثانياً: رجوع واعٍ للبساطة في الفلسفة، وثالثاً:(مثال) من التعقل في الحياة. وخلاصة هذه الفلسفة جميعها هي عبادة الشاعر والفلاح والمتشرد)

علي كمال

ص: 33

‌يا سواقي.

. .

(إلى التي ترعرع على غدرانها شبابي)

فَرَّقَ الدهرُ بيننا (يا سواقي)

ومضى بي لغُربتي واشتياقي

أين للقلب لحظةٌ من ليالي

ك وصفُو الحياةِ في إشراق

كان لي في رحابك الخْضْر دنيا

من نعيم ومن أغانٍ رقاقِ

والمنى عذبةٌ كإشراقةِ الوص

لِ بروح المعذَّبِ المشتاقِ

والصبا جنَّةٌ على ضفةِ الخل

د ونورٌ يضيء في آفاقي

ولقد كنتِ للشباب سُلَافاَ

ونديماً جلوَ الحديثِ وساقي

كنتِ لي كوثراً يطهّر نفسي

فَنَمَتْ منه عَفَّةً أخلاقي

يا (سواقي الفيوم) طال غيابي

وفؤادي يذوب في الأشواق

كنتِ دنيا من فتنةٍ وخيالٍ

وجمالٍ من الطبيعةِ راقِ

كنتِ سلوى لمهجةٍ قد تلظت

في جحيم من جَفْوَةٍ وَشِقاق

كنتُ أبكي فتحبسين دموعي

بعزاءٍ كم فيه من تِرياق

كم حَلالِي في نَبْعَتَيْكِ اصْطِباحِي

وَصَفَا لِي من رَاحَتَيْكِ اغْتِبَاقِي

كنتِ نِعْمَ الَصديقُ إن عَبَسَ الده

رُ وَنِعْمَ الْمُجِيرُ ممَّا أَلاقِي

ذقتُ طعمَ الوفاءِ من كُوبك الحل

وبريئاً من خدعةٍ أو نفاق

عاش فكري مع الحياةِ أسيراً

كَبَلّتْهُ بِشَرّهَا الدَّفَّاق

ورأى عندكِ البشاشةَ والصف

وَفَغَنَّى فِي فَرْحَةِ وَانطِلَاق

حال بيني وبينك اليوم عيشٌ

لم يَنْلِني منه سوى الإرهاق

أين موجٌ من (بحرِ يوسفَ) يسري

والأغاني تسيلُ من أبواقي؟

ورياضُ (الفيوم) رَنَّحَهَا الحس

نُ فَلَاحَتْ كَجنةِ الْعُشَّاقِ؟

وغرامي الذي نما عند شَطَّي

كِ وباركتِهِ بماءٍ مُرَاق؟

وحبيبي الذي تلَهَّى به العي

شُ وما فيه من كؤوس دِهاق؟

خَدَعَتْ روحهُ الزحارفُ في الأر

ضِ فأَعْشَى من سحرها البرَّاق

كم بعثتُ الرجاَء شعراً فعادت

همساتي بالعَجْزِ والإخْفاقِ!

ص: 34

نسىَ الْحُبَّ والسَّواقي وصبَّا

لم يزل سائراً على العهد باق

(يا سواقي) ذكراكِ تَغْشَى كياني

فاحفظيني في روحِك الْخَفَّاقِ

وخذيني من قبضة الفكر يوماً

إِنَّ عودي بنارِه في احتراقَ

صنتُ في مهجتي هواك فَصُوني

عهدَ طِفْلٍ رَبَّيْتِهِ (يا سواقي)!

(سلاح خدمة الجيش الملكي)

أحمد إسماعيل المليجي

ص: 35

‌البريد الأدبي

الصفاء بين الأدباء

صديقي (الحكيم)

لو لم يكن النسيان عرَضاً ملازماً لك يا صاحب (أهل الكهف) لذكرت

أن أسمي (الزيات) لا زكي مبارك؛ وأنك لسانٌ لحرية الفكر، لا عينٌ

في رقابة النشر؛ وأنك رسول الله إلى الأدباء، لا سفيرُ الشيطان بين

الأصدقاء. ولو أنك ذكرتَ واحدة من أولئك لما كان منك ذلك الكتاب،

ولا كان مني هذا الجواب

تستطيع أن تقول إنك حين كتبت ذكرتني وأردتني، لأن الناشر شريك الكاتب؛ وتستطيع كذلك أن تقول إنك تقدس حرية الفكر لو كان ما نُشر عنك في الرسالة قد انتفع به الفكر؛ ولكنك لا تستطيع أن تنكر أنك كفرت بنفسك وكذبت برسالتك؛ لأن الرسول الصادق لا ينذر بالكدر وهو يبشر بالصفو، ولا يبادر إلى القطيعة وهو يدعو إلى الصلة، ولا ينفض يده من الدعوة لأنه سمع بعض الإنكار ولقي بعض العَنت!

لم يكفر برسالتك إلى الأدباء غير (العقاد)، ولا شك في إخلاصك للأدب غير (المبارك)، فما بالك يا توفيق تئن قبل التعذيب، وتًلقى بيديك ورجليك إلى الصليب، وتفضح بهذا الجزع نبوة الأديب، وتقطع آياتك وبركاتك عن المؤمنين والكافرين على السواء؟!

تقول (إنني حِدت قليلاً عن رسالتي في (الرسالة)؛ (وقليلاً) هنا معناها زكي مبارك. وزكي مبارك يا توفيق لون من ألوان الأدب المعاصر لابد منه ولا حيلة فيه. هو الملاكم الأدبي في ثقافتنا الحديثة. والرياضة كما تعلم ضرورة من ضرورات الحياة لسلامة الجسم والعقل. أما عنفه وشِماسه فهما الصبغ المميز للونه. فلو شئت أن تجرد هذا الملاكم المبارك من عنف الهجوم وخشونة المِراس لما بقي منه غير توفيق الحكيم وأسلوب الحكيم و (حمار الحكيم)

على أنه هو نفسه أول الشاهدين على أن صفارتي قد بُحَّت من طول ما أهابت به وهو في قفازه السنتريسي يهدر في المجال بين الحبال مغضياً بعض الإغضاء عن قواعد الملاكمة

ص: 36

وزكي مبارك بعد ذلك سليم الصدر، صريح القلب، رياضي الروح، لا يتحرج أن يطلب إلى (صديقه) في مقال هذا العدد أن ينصره ظالماً أو مظلوماً في حدود تفسيره الخاص!

ثم تقول: (إن الأدباء في مصر - مع الأسف - لا يحسبون حساباً لغير الكاتب الذي يبرز مخالبه، ويكشر عن أنيابه، ويتهيأ دائماً للوثوب)؛ فهل مصداق ذلك يا توفيق أنك أدرتَ ظهرك لخصمك وحملت عليّ؟ ولكنني يا صديقي أهشَ لإقبالك عليَّ ولو بالهجوم. إن كَشْرتك في نظري بسمة؛ وإن زأرتك في سمعي نغمة؛ وإن عقدتك معي أيسر حلاًّ من الأنشوطة!

أما قطعك الأسباب بينك وبين الرسالة والأدباء، فأمره يهون ما دمت تخرج كتبك إلى قرائك الأوفياء

وإذا جاز لي أن أوجهك مرة أخرى فإني أنصح لك يا توفيق أن تؤمن برسالتك كما آمن ذوو الفضل من الكتَاب، وأن تصبر على أذاها كما صبر أولو العزم من الرسل.

والسلام عليك من صديقك المخلص.

أحمد حسن الزيات

أحزان توفيق الحكيم

لم يبق ريب في أن صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم حزين، وإلا فكيف جاز له أن يقول إنه لن يكتب في (الرسالة) بعد اليوم، مع أنّ الرسالة صديق لجميع أرباب الأقلام، ولا يرضيها أن ينقطع ما بينها وبين أصدقاءها القدماء من صلات؟

الرسالة لا تترك أصدقاءها أبداً، ولن يتركوها، لأن الصلة بين الرسالة وأصدقائها صلة روحية لا تقطعها ثورة لحظة أو لحظين بعد قراءة كلمة نابية أو قاسية. والأدب كالحياة فيه كدر وصفاء. وسيشتاق الأستاذ الحكيم إلى (الرسالة) كما يشتاق الأليف إلى الأليف

ولكن ما الذي أغضبَ هذا الصديق حتى استباح ذلك الوعيد؟

كنت أنتظر أن يتلطف فيشكرني، بعد قراءة الكلمة التي وجهتها إليه، لأني أردت بها إعزاز الذاتية الأدبية، فما يرضيني ولا يرضيه أن تكون في الدنيا منزلة أشرف من منزلة رجال البيان، وإن قضت المقادير بأن يظل القلم مضطهداً في جميع العهود

ص: 37

والأستاذ توفيق الحكيم هو الذي أعلن الندم على الانتظام في سِلك الحياة الأدبية، وكان في مقدوره أن ينخرط في سِلك الحياة القضائية، فهل يغضبه أن نعترض عليه فنقول: إن رجال الأدب يؤدون لأوطانهم خدمات تفوق ما يؤديه رجال القضاء، وإن القاضي لا يستطيع القول بأنه أعظم من الأديب؟

إن الأدب جعل من توفيق الحكيم شخصية يتكلم عنها الزيات والمازني والعقاد، فهل كان يظفر بمثل هذا الحظ لو أصبح من رجال القضاء؟

وقد عِبتُ عليه أن يبديء ويعيد في الكلام عن نفوذ طه حسين، وكانت حجتي أن الأديب يقتل نفسه بيديه حين يفرح بالمناصب الرسمية، لأن المنصب الحق للأديب هو الفناء في خدمة المعاني الروحية والعقلية. فماذا يملك الدكتور طه لنفسه حتى نرجوه أو نخشاه، إلا أن نكون في إيمان الرجل الذي وضع في سيرة الرسول (رواية تمثيلية)، وهو رجل يعرفه هذا الصديق الغضبان؟!

وعِبتُ على الأستاذ توفيق الحكيم أن يعلن أن العائلات صدفتْ عن عرض بناتها عليه بعد أن صار من الأدباء، فهل سمع الناس في الشرق أو في الغرب أن الأديب الفحل يُعجزه أن يقترن بمن يشاء من كرائم الملاح؟

على رِسْلك، أيها الأديب الحزين، فنحن أول طبقة تثق بها الأمة المصرية، وسنظل برعاية الله وسلطان الأدب في أعظم مكان.

زكي مبارك

لوبيا والبلاد العربية

فكرة صائبة ورأي سديد هذا الذي انتهى بتفكير الأستاذ الزيات بإصدار أعداد خاصة من مجلة الرسالة الغراء بالأقطار العربية تنويهاً بفضلها وتعريفاً بأهلها. وليست هذه الفكرة بجديدة على أستاذنا الكبير فقد سبق أن تنبهت إليها الرسالة في سنتها السابعة ولكن شاءت الظروف أن يمهل تنفيذها إلى أن بعثت من جديد؛ وقد وجدت ترحيباً من قراء العربية. وإنا ندعو الله أن يوفق الرسالة في خدمة البلاد العربية وبإصدارها لهذه الأعداد.

على أن الذي لفت نظرنا نحن معشر اللوبيين بهذه البلاد المناسبة هو ما كتبه الأستاذ

ص: 38

الدكتور زكي مبارك سواء في ذلك عدد الرسالة 315 أو 463 فقد قال في العدد الأول مخاطباً الأستاذ الزيات: (ما رأيك إذا اقترحت عليك أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن الحواضر المشهودة في البلاد العربية مثل تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز. . .)، وقال في العدد الآخر مشجعاً الأستاذ الزيات على تنفيذ فكرته هذه (الخطب أسهل مما نتوهم ولكن. . . ولكن على شرط أن يهاجر الزيات من المنصورة إلى القاهرة ليستوحي من فيها من العارفين بخصائص الحياة الأدبية والاجتماعية في تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز وسورية وفلسطين. . .)

فالأستاذ الدكتور قد ذكر بلاد أفريقية الشمالية قطراً قطراً وتناسي جيرانه الليبيين وبلادهم فأخرجهم بذلك من زمرة البلاد العربية، واستكثر عليهم أن تعنى مجلة الرسالة ببعض أخبارهم وسواء قصد هذا الأستاذ الدكتور أم لم يقصد فإنا لا نستطيع تفسير إغفاله لبلادنا في هاتين العبارتين اللتين كتبتا في وقتين متباعدين إلا بهذا المعنى.

ومما يؤسف له أن كثيراً من قادة الرأي والفكر في البلاد العربية عامة، وفي مصر خاصة، قد شاركوا الأستاذ الدكتور في فكرته هذه فكثيراً ما كتبوا عن الحلف العربي والوحدة العربية، وتجاهلوا لوبيا قصداً أو عفواً مما كان له أثره السيئ في نفوسنا

هذه كلمة صغيرة أردت بها دفع مظلمة عن وطني العزيز، طالما جرحت نفوسنا، خصوصاً وأنها قد بدرت من رجال لهم في قلوبنا كل احترام وتبجيل، وموعدنا إن شاء الله العدد الخاص فسيكون خير حكم على عربية لوبيا وأهلها.

مصطفى بعيو الطرابلسي

كلية الآداب - القاهرة

ألف مصطلح طبي يقررها المجمع اللغوي

أعلن المجمع اللغوي انفضاض دورته هذا العام، وقد بلغت جلساته التي عقدت خلال هذه الدورة ست عشرة جلسة، أما اللجان الفرعية التي تمهد عمل المجلس فقد بلغت عدتها خمسين جلسة أو أكثر. والمصطلحات التي عنى المجلس بدرسها في هذا العام هي مصطلحات الطب في علم الرمد والباثولوجية وغيرهما.

ص: 39

ويبلغ عدد المصطلحات التي أقرها نحو ألف مصطلح، وستوضع لها تعريفات علمية لغوية تشرح معناها وتبين الصلة بين وضعها اللغوي ومدلولها العلمي

والمنتظر أن يتخذ المجمع ما يرى من الوسائل لنشر هذه المصطلحات في أنحاء البلاد العربية لاستخدامها في محيط الطب العربي.

1 -

السناد في الشعر

أخطأ الأستاذ محمود حسن إسماعيل في صوغ قوافي قصيدته (نشيد الأغلال) المنشورة بالعدد 466 من (الرسالة)؛ فهو قد أردف في بعضها بحرف الياء قوله: سريرتي، البعيدة، الخميلة، جديدة. الخ، وأسس في بعضها الآخر، بجلْبه ألف التأسيس في مثل قوله: حشاشتي، الثمالة، تهادت، الرسالة الخ. . . في حين اكتفى بحرف الرويّ (وهو التاء) في سائر أبياتها مثل: وجهة، رجعة، وسجدتي، فملَّت. . .

ومثل هذا الخلط بين أحرف القافية يسمى (سناداً)؛ وهو من أبرز عيوب الشعر، فما كنا نحب للأستاذ أن يقع فيه. . .

2 -

أبيات لولي الدين

كنت رددت على أديب فاضل أورد في الرسالة شعراً لولي الدين يكن وقال إنه لم يسبق نشره؛ فبينت أن هذا الشعر مطبوع بديوان الشاعر الذي صدر عام 1924م. ولكني عثرت - من جهتي - على ثلاثة أبيات لم ترد في هذا الديوان حقاً؛ فأحببت إثباتها لتلافي ذلك إن أمكن في الطبعات التالية. والأبيات واردة في العدد الصادر بتاريخ 15 يناير سنة 1909م من (مجلة سركيس) الأدبية، التي كان يصدرها المرحوم سليم سركيس. وها هي بنصها مع عنوانها:

لولي الدين بك يكن تحية للأحرار مرتجلاً:

سلامٌ على أبطال قومٍ تجمَّعوا

ورائدهم حقٌّ وناطقهمْ فَخْرُ

أقاموا على ضَيْمٍ ثلاثين حِجَّةً

ولكن سيحييهم - برغم العدا - النصر

يقولون: هذا الدَّهرُ رَبُّ تقلُّبٍ

نعم صدقوا، قد قُلِّب التاج والصرُ!

(جرجا)

ص: 40

محمود عزت عرفة

ص: 41