الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 47
- بتاريخ: 28 - 05 - 1934
الامتيازات والأدب!
الأدب عبير الروح، وشعاع النفس، ونضح العواطف. يتأثر حتما بما ينال أولئك من تطور الحياة، وتغير الناس، وتقلب الزمن؛ فهو يطيب أو يخبث، ويضطرم أو يخبو، ويمر أو يحلو، تبعاً لما يعرض للروح والنفس والعاطفة من أحوال الضعف أو القوة، والفساد أو الصلاح، والانحطاط أو السمو.
فالأدب العربي كان صادقاً حين فاض بالبطولة، وزخر بالحماسة، وجاش بالعزة، في عهوده الأولى أيام كان يمده العرب من قوتهم بالروح، ومن سلطانهم بالنبل، ومن حريتهم بالكرامة.
والأدب العربي كان صادقاً حين لج في الضراعة، وضج بالشكوى، وأن من الألم، وتحدث عن فسوق الخُلق المنحل، وإيمان القلب المستذَل، وضلال النفس المريضة في مذاهب القِحة، في عهوده الأخيرة أيام وهنت عزائم الملوك، ووهت دعائم الملك، وتخلت يد العرب عن زمام الدنيا، فوقعت الفوضى، وحدث الخلل، ولجأ الناس بعضهم إلى الله وراء شيوخ الطرق، وبعضهم إلى الشيطان وراء قطاع الطريق!
والأدب العربي الصادق اليوم في الإبانة عن هذا الشك المخامر في قدرتنا على التفكير الأصيل، واضطلاعنا بالأمر الجليل، واستقلالنا بتبعات الرأي وتكاليف الحياة. فان اعتقادنا الإيحائي المزمن بتفوق الأوربي وامتيازه سلب من نفوسنا الثقة، ومن قلوبنا الايمان، ومن عقولنا الاصالة، ومن شعورنا السمو، وتركنا كالعبد المملوك لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه، ينقل فيما يقول عن لسانه، ويصدر فيما يعتقد عن قلبه.
فأديبنا يجهل اللغة العربية كل الجهل، ويعلم اللغة الأوربية كل العلم، لأنه إذا تكلم بها أو كتب فيها شعر بذلك الامتياز الذي يلازم أهلها في بلاد الشرق. وأديبنا يقرأ الأدب الأجنبي ويغفل الأدب العربي، لأن هذا أدب قوم كانوا يلبسون العمائم، ويأكلون بالأيدي، ويجلسون على الوسائد، ويقولون له نحن أجدادك! وذلك أدب قوم يلبسون البرانيط، ويأكلون بالشوْك، ويجلسون على الكراسي، ويقولون له نحن أسيادك.
وأديبنا يعمى عن مناظر بلده، ومحاسن طبيعته، ومفاخر قومه، ومآثر شرقه، ثم يفتح عينيه بكلتا يديه ليستشف من خلال السطور السودّ قناطر (السين) وشعاف (الألب) وخمائل (التيرول) لأن هذه ذكرها جوته ولامرتين وبيرن، وتلك إنما ذكرها البحتري والرضي
وشوقي!
زارني ذات يوم شاعر من شعراء الشباب، وفي يده قصيدة يريد نشرها بالرسالة، وكان موضوع القصيدة كما يقول: تصوير منظر قروي في ريف مصر: مشرق الشمس في القرية أو مغربها لا أذكر. فلما نظرت إلى الصورة - وأنا قروي - أنكرت ما رَسم فيها من الخطوط، ووضع بها من الألوان، وحشد إليها من الطبيعة. فقلت له: يغلب على شعوري أنك ترجمت. فقال وهو يعقد من التيه عنقه: ثق أنها من وحي خاطري وفيض لساني. فقلت له: إذن ما هذه النواقيس التي ترن في الأبراج؟ أفي قريتكم كنيسة؟ فقال كلا، وإنما آثرت رنين الناقوس على أذان المؤذن، لأني أجد للأجراس والأبراج من الروعة والشاعرية ما لا أجده للمئذنة والمسجد. فألطفت للفتى في الاعتراض والاعتذار مخافة أن يرميني في سره بالجمود والتأخر!
كذلك قدم إِليّ كاتب من ناشئة الكتاب قصة مصرية، سمى أشخاصها: جان، وألبير، ولورا، وهيلين. لأنه يجد هذه الأسماء في الحوار والحديث أرق وأعذب من علي، وإسماعيل، وسعاد، وفاطمة!
فالأدب المصري الحديث، كالمجتمع المصري الحديث، يقوم على موت الشخصية، وفناء الذات، ونسيان التاريخ، ونكران الأصل، فهو يستلهم المطابع الأوربية، ويخضع قريحته للقرائح الأوربية، ويعقد لسانه بالألسن الموهوبة منها، فيحكى ما تقول في لعثمة نكراء من أثر العقدة، وهو لو وضع عن كاهله نير الامتياز، وفهم هذه الكلمة المخزية على المجاز، فأخذ عن طبعه، وترجم عن طبيعته، لفجأ الغرب بأدب قدسي الإلهام، سحري الأنغام، شرقي الروح، مصري الطابع، يحل أهله من أدب العالم ما أحل أدبُ الهند إقبالا وطاغور!
إن الطبيعة المصرية أولى أن تلهم الشاعر تأمل الصحراء، وأحلام النخيل، وابتسام الصحو، لا أن تلهمه ما تلهم الطبيعة الإنجليزية من أمثال (الملاح التائه)، و (الزورق الحالم)، و (وراء الغمام)! فان الفن لا يخضع خضوع العلم للعقل المشترك والوطن العام، وإنما يخضع قبل كل شيء لطبائع الاقليم، وخصائص البيئة، ومنازع الشخص، فإذا استنزل شعراؤنا الشبابُ على خواطرهم هذا الوحي الغريب، فذلك أثر ما نشكوه من هذه العبودية العقلية التي ضربت على الآذان، وغلبت على الأذهان، وجعلتنا للأجانب في كل
شيء تبعاً.
فمتى يعلم المصري أن له مجداً يجب أن يعود، ووطناً ينبغي أن يسود، وصوتاً يحق أن يسمع، وأدباً يصح أن يحتذى، وتاريخاً يليق أن ينشر، وحقاً على أرضه تؤيده الطبيعة ويقره القانون ولا ينكره عليه إلا جبنه وذله؟!
أحمد حسن الزيات
إنصاف المترجم
للدكتور محمد عوض محمد
أتى على المترجم حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. وقد طال هذا الحين وامتد، حتى كدنا نظن أن ليس لليله المدلهم من آخر. وإن من الناس لمن يظن أن المترجم ذو مكان تافه يسير، وأن سيبقى مكانه مدى الدهر تافهاً يسيراً.
ولقد طالما أصغى المترجم إلى هذه الإشارات والعبارات، التي تنزله من عالم الأدب والكتابة أصغر المنازل. فيلقاها حيناً بالامتعاض، وحيناً بالاستسلام؛ وقد بات في حيرة من أمر نفسه، فجعل يدعو نفسه أحياناً المترجم، وأحياناً المعرب، لعل في هذه ما يحسن من شأنه ومن حاله؛ ثم يتواضع أحياناً فيكتفي بأن يقول: نقله عن الفرنسية. . . فلان، ويوصى الطابعين بأن يكتبوا اسمه بحروف صغيرة ضئيلة. . . وليس هذا كله بمغن عنه شيئاً، فليس الزهو بنافعه، ولا التواضع بمانعه.
وبالرغم من أن حاله باعثة حقاً على الرثاء، مثيرة حقاً للدموع والبكاء،؛ فأنا قلما نجد له بين الورى منصفاً. كأنما أجمع الناس على ظلمه واضطهاده. وما كفاه السهر الطويل المضني، والانكباب على البحث والتنقيب عن الألفاظ والعبارات، وإجهاده الفكر في فهم ما لا يفهم. وإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه؛ حتى إذا ما أتيح له بعد لأي وعناء، وأن يخرج مترجمه إلى عالم الكتب، جعل يتقدم به إلى القراء، في حياء وتردد؛ كأنما ارتكب وزراً يريد أن يعتذر منه؛ ويسبق الناقدين إلى النقد فيقول لكل من يراه - بل ولكثير ممن لا يراه - إن الترجمة تشويه على كل حال!. . وهو يريد بهذا أن يستل سخيمة الناقدين، وأن ينتزع حمة العقرب أو على الأقل يهدئ من ثورتها. وشأنه في ذلك كشأن الطبيب الذي يطعمنا للجدري، فيعطينا المرض في شكل صغير لكي يدرأ عنا الخطر الكبير. .
لكن هذه الحيلة لا تجديه نفعاً؛ وهذا الاعتراف ليس بمنجيه من العذاب. فلا يلبث الناقدون أن يتناولوا المترجم بالتأنيب والتجريح، وترجمته بالتنكيل والتعذيب؛ ويمطرونه النقد المرير أينما ذهب، وحيثما نزل؛ في مجالس الأدب وفي غير مجالس الأدب؛ وفي الصحف السيارة وغير السيارة؛ ومن النقد ما يلقى إليه مشافهة، ومنه ما يلقى إليه كتابة.
هذا يتهمه بعدم الأمانة لأنه تصرف في اللفظ من أجل الحرص على المعنى: فالويل له
كيف يتصرف في اللفظ وهو أثمن شيء في الوجود! والآخر ينعته بالجمود وبالتمسك بالحرف وبالحرص على اللفظ، حتى جاءت ترجمته في حاجة إلى ترجمة: لا هي عربية فتفهم، ولا أعجمية فتتفهم. ويقول الثالث: أجل وإن المترجم لذو شخصية ضعيفة ضئيلة، حتى لقد غمرته شخصية المؤلف وطغت عليه ومحته محواً تاماً. فقارئ الترجمة لا يجد فيها سوى روح المؤلف، أما المترجم فلا روح له! ويقول رابعهم مداعباً: إن هذه الترجمة والأصل كالزنجية الشوهاء وخيالها في الزفت! ويقول الخامس: ما كان أغنى قراء العربية عن ترجمة مثل هذا الكتاب، فياله من مجهود ضائع! ويقول السادس وهو يتكلف الظرف: إن هذه الترجمة لكتاب (هملت) من الإبداع بحيث يجب أن تترجم مرة أخرى إلى الإنكليزية! ليرى شكسبير كيف يجب أن يكتب (هملت)!
ثم من بعد هذا كله فما هو في نظر الجميع سوى مترجم! رجل أعوزته المقدرة على الابتكار، فانصرف إلى النقل! فهل يكون لمثل هذا في عالم الأدب أو العلم مكان؟ وأين هو من زيد وعمرو وبكر الذين ألفوا وصنفوا مجلدات فتحت في العلم أبواباً وطرقاً وشوارع؟ حتى إن منهم لمن يبيع لتلاميذه الملزمة الواحدة بعدة دراهم!
ينصت المترجم المسكين لكل هذا وهو مطرق الرأس مغمض الطرف، وقد أخذ الندم يأكل قلبه وكبده ورئتيه. وهو على هذا يعلم أنه ليس شراً من أولئك المؤلفين، وأنه لو شاء أن يسلك السبيل التي سار فيها زيد أو بكر لما كان من الصعب عليه أن يجمع الفصول من بعض الأسفار؛ ثم يسئ وضعها وترتيبها، ويعرضها على أنها من مؤلفاته القيمة، ومن بنات أفكاره ودلائل إعجازه. ولكنه آثر أن يسلك سبيلاً غير ذي عوج، وأن يعمل في وضح النهار. في زمان ساد فيه الالتواء والظلماء.
لا شك أن المترجم المسكين مهيض الجناح، مهضوم الحق، وقد بلغ من هوان أمره على بعض الناشرين أنهم ربما نشروا الكتاب، ولم يعنوا حتى بذكر اسم المترجم!
ومع ذلك فلقد يلقى المترجم من حين إلى حين منصفاً يكون بمثابة جزيرة من الأمل وسط هذا البحر الفسيح من القنوط! ومن أحسن ما يذكر في إنصاف المترجم ما قاله الأستاذ طه حسين في مقدمة الترجمة العربية لكتاب هرمن ودروتيه. وقد جاء في كلامه العبارة الآتية:
(إن الذين يترجمون آيات الأدب والفن والفلسفة ينسون أنفسهم، ويمحون شخصياتهم،
ويقنعون بمكان المترجم، الذي ليس هو بالقارئ المستريح، ولا المنتج النابغة، لكنه صلة بين الرجلين: لا حظ له من راحة الأول، ولا حظ له من مجد الثاني، وإنما هو خادم مخلص أمين؛ يرفع القارئ إلى حيث يذوق جمال الفن وجلاله، وحين يشق لآثار النابهين من الأدباء والفلاسفة طرقاً جديدة. . . هذه منزلة المترجم يراها الناس يسيرة، وأراها عظيمة جليلة الخطر. وحسبك أنها هي التي تحقق الصلة القوية بين الأجيال والشعوب. فتزيل ما بينهم من الفروق وتدني بعضهم إلى بعض).
هكذا أنصف الأستاذ طه حسين المترجم؛ وردّ إليه شيئاً من حقه المضيع. ويحق للمترجمين أن يغتبطوا بأن قد صدر لصالحهم في هذا الأسبوعِ حكم آخر من ناحية لم يكونوا يتوقعون منها كل هذا العطف. وألذ النعماء ما جاءك من حيث لا تحتسب. ذلك أن القضاء المصري قد قضى في هذا الأسبوع - ولا راد لما قضى - بحكم لعله أكبر غنم يستطيع المترجم أن يظفر به. وهانحن أولاء نثبت هذا الحكم هاهنا بنصه وفصه:
(إن ما يلاقيه المترجم من صعوبة وعناء النقل من لغة إلى لغة، وإصلاح في عباراتها يستلزم كداً وعلماً معاً؛ حتى لقد يفضل المترجم أن يكون صاحب تأليف، أو أن يصرف وقته في التأليف بدل أن يصرفه في الترجمة والنقل، لأنه في التأليف مطلق، ما يريد من المعاني، ويضيف ما يريد من الألفاظ، ويقدم ويؤخر، ويحذف ويثبت على حسب ما يرى. أما في الترجمة فنجده مقيداً بما ينقل من نظام وترتيب، واثبات وتقييد. ولابد له من أن يدرك المعنى إدراكاً واضحاً، يلبسه زيه من الألفاظ والجمل في اللغة التي ينقل إليها، كما يكون أميناً في نقله، صادقاً في ترجمته. ولا يكون أهلاً لذلك إلا إذا ملك ناصية اللغتين، وعرف فيهما الشارد والوارد، وأدرك دقائق كل منهما: من معان خفية، وأسرار في التراكيب. وأن تكون نفسه قد مرنت على هذه الصناعة، ووقف على أسرارها، واتخذ له طريقة واضحة فيها. وإن كثيراً ما تزل أقلام المترجم الأمين، الذي يريد أن ينقل من قلب الشاعر كما يقولون، فناهيك بما يلاقي من تعب وكد في معرفة غرض الكاتب، فيلتجئ إلى معاجم اللغة؛ يقلب صفحاتها ويرجع إلى عبارات كبار الكتاب وأساليبهم، لعله يصل إلى معرفة مثل هذا التعبير، أو ما يقرب منه، أو يعثر على شرح له في كتب الأدب. ولقد يقطع المترجم أياماً في البحث عن كلمة واحدة!. . . وإنَّ هناك في الترجمة عقبات منشؤها
خفاء المعنى، أو غرابة اللفظ، تظهر في بلاغة الكاتب. وتمكنه من امتلاك نواصي الأساليب، بعبارة يسهل إدراك معناها، ولكن يصعب على المترجم نقلها ووضعها في قالب آخر. . .)
ذلك هو الحكم القاطع الذي صدر في إحدى القضايا منذ بضعة أيام، وإن صدوره هو الذي حملنا على كتابة هذا المقال! ولعل مثل هذا الحكم هو أعظم حادث في عالم الأدب - على الأقل في عامنا هذا - فليغتبط المترجمون، فإن لهم من هذا الحكم سيفاً بتاراً يقطعون به رأس الجحود والنكران. وليحذر الذين يضعون من مرتبة المترجم بعد اليوم - فليس حكم القضاء بالشيء الذي يجوز معه العبث أو المراوغة؛ فليبادروا بالتوبة وبالتكفير عن سيئاتهم الأولى، ويعترفوا صاغرين بما للمترجم من المنزلة العالية والمقام الرفيع.
وأنتم معشر المترجمين، هلموا اليوم فشمروا عن ساعد الترجمة وأقبلوا عليها إقبال من يعرف مالها من جليل الخطر، وما عليكم من رسالة تؤدونها في أمانة وإخلاص جديرين بذلكم الحكم الباهر. .
محمد عوض محمد
سبيل الخلاص من الامتيازات الأجنبية
للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري
أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق
تتمة البحث
الخطوة الثالثة
تتصل الحكومة المصرية في هذه الخطوة بالحكومة الإنجليزية لتتفاهم معها على الأسس الآتية:
(أولاً) تنفيذ إلغاء المحاكم المختلطة بعد انقضاء السنة من نشر المرسوم
(ثانياً) إعلان من جانب الحكومة المصرية وحدها بإلغاء الامتيازات
(ثالثاً) إحلال نظم جديدة محل النظم التي تغلى، وتصدر هذه النظم بتشريعات مصرية داخلية لا بمعاهدات دولية
(رابعاً) إعلان من جانب الحكومة الإنجليزية، باعتبارها دولة من الدول ذوات الامتيازات، وباعتبارها حليفة مصر إذا كانت المحالفة قد عقدت بين البلدين، بتأييد الحكومة المصرية فيما اتخذته من التدابير.
ولا شك في أن الدول ذوات الامتيازات، إذا حسبت حساباً لاحتمال تفاهم مصر مع إنجلترا على هذه الأسس، تكون أسلس قياداً في مفاوضاتها مع الحكومة المصرية أثناء الخطوة الثانية، وقد يؤدي ذلك إلى نجاح المفاوضات.
أما إذا لم تنجح، وكان لابد من اتخاذ الخطوة الثالثة، فان النظم الجديدة التي تحل محل النظم الحالية تكون بوجه عام هي النظم التي اقترحت مصر على الدول إدخالها بموجب معاهدة في الخطوة الثانية مع الفروق الآتية:
(أولاً) تقام هذه النظم الجديدة بمقتضى تشريعات مصرية داخلية، وبعد تبادل مذكرات مع الحكومة الإنجليزية في مسائل معينة.
(ثانياً) فيما يتعلق بالتشريع: تعلن مصر الدول أن كل تشريع مصري، مالي أو غير مالي، يسري على الأجانب سريانه على المصريين، وأن السلطات المصرية من هيئات قضائية
وإدارية، ستقوم كل في دائرة اختصاصها بتطبيق وتنفيذ التشريعات المصرية على الأجانب كما تطبقها وتنفذها على المصريين. وتعلن الحكومة المصرية في الوقت ذاته أنها لا تنوي سن تشريعات تتنافى مع المبادئ العامة التي يقرها العالم المتمدين في التشريع، وأنها تقبل رفع الأمر إلى محكمة لاهاي في كل تشريع تنفذه على أجنبي كان متمتعاً بالامتيازات إذا أنكرت دولته أن هذا التشريع لا يتنافى مع المبادئ المذكورة وطلبت رفع الأمر إلى هذه المحكمة.
(ثالثاً) فيما يتعلق بالقضاء: تستصدر الحكومة المصرية تشريعات داخلية لإقامة محاكم يكون اختصاصها هو نفس الاختصاص الذي جعلناه للمحاكم الجديدة فيما تقدم. أما تشكيلها فيراعى فيه أن يكون ثلثا القضاة من المصريين، والثلث الباقي من الإنجليز، وأن يكون رئيس كل محكمة مصرياً والوكيل إنجليزياً، وأن يكون رئيس كل دائرة مصرياً، ولغة التقاضي هي العربية، عدا الدائرة التي يجلس فيها الوكيل فإنه يرأسها وتكون لغتها هي الفرنسية، وتحال إليها القضايا التي يكون فيها الخصوم جميعهم من الأجانب. وتتبادل الحكومتان المصرية والإنجليزية مذكرات بهذا المعنى، لا يكون من شأنها أن تغل يد الحكومة المصرية عن تعديل أو إلغاء التشريعات الصادرة بإنشاء هذه المحاكم متى رأت ضرورة لذلك.
ونحن نؤثر هذا الحل على حل آخر يقضي بجعل المحاكم الأهلية هي المختصة بقضايا الأجانب، لأن ذلك يقتضي أن يدخل قضاة من الإنجليز في المحاكم الأهلية، ونحن لم نصل إلى تمصير هذه المحاكم تمصيراً تاماً، وجعلها مقصورة على القضاة المصريين إلا بعد جهد وعناء، فالأولى إذن إبقاء العنصر الأجنبي بعيداً عن المحاكم الأهلية حتى تسلم لها مصريتها الكاملة. ونقيم لقضايا الأجانب محاكم أخرى يدخل فيها العنصر الأجنبي. ولا يغيب عن البال أن هذه المحاكم الأخرى رهن بمشيئة مصر، فهي قد أنشئت بتشريع مصري يمكن تعديله أو إلغاؤه في الظرف المناسب.
(رابعاً) فيما يتعلق بالإدارة: تستصدر الحكومة المصرية تشريعاً داخلياً كذلك بما كانت تنوي الاتفاق عليه مع الدول بمعاهدة، ويكون العنصر الأجنبي في رجال الضبطية القضائية من الإنجليز والنائب العام إنجليزياً. وتتبادل الحكومة المصرية مع الحكومة
الإنجليزية مذكرات بهذا المعنى، مع احتفاظ الحكومة المصرية بحقها في تعديل هذا التشريع أو إلغائه إذا دعت الحال لذلك.
هذه هي الخطوة الثالثة. وبديهي أنه لا يقدر لها نجاح إلا إذا وصلت مصر إلى الاتفاق مع إنجلترا على الأسس المتقدمة. فإذا ما وصلت إلى هذا الاتفاق استطاعت أن تواجه الدول ذوات الامتيازات بالأمر الواقع، وإنجلترا من ورائها تؤيدها في ذلك ولا تستطيع هذه الدول أن تقوم بأكثر من احتجاج ليست له قيمة عملية، ولا تملك إلا أن تأسف على الفرصة التي ضاعت منها برفضها الاتفاق مع مصر عندما فاوضتها الحكومة المصرية.
وقد يقال: ولكن مالنا لا نجعل هذه الخطوة الثالثة هي الثانية، فلا نحاول الاتفاق مع الدول، ونتفاهم مع إنجلترا رأساً على الأسس المتقدمة فنكسب بذلك أن تكون النظم الجديدة قد أقيمت على تشريع مصري داخلي بدلا من معاهدة دولية، ويكون القضاة المصريون أوفر عدداً وأقوى نفوذاً؟ قد يكون هذا صحيحاً من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فيظهر لنا أن موقف الحكومة المصرية في اتخاذ الخطوة الثالثة يكون أشد قوة أمام الرأي العام الدولي إذ لم تخط هذه الخطوة إلا بعد إخفاقها في الخطوة الثانية وفشلها في الوصول إلى اتفاق عادل مع الدول. ثم إن إنجلترا تكون أقوى حجة في تأييد مصر، بعد أن تكون هذه قد أعذرت إلى الدول وأقامت الدليل على تعنتها. هذا إلى أنه قد يكون خيراً لمصر أن تعقد معاهدة مع الدول لتعديل نظام الامتيازات من أن تلجأ إلى التفاهم مع إنجلترا ولها مركز خاص في مصر كما لا يخفى. على أنه إذا أظهرت إنجلترا استعداداً للتفاهم معنا على الأسس المتقدمة دون أن يسبق ذلك مفاوضات مع الدول، فلا بأس علينا من السير في هذا الطريق، بشرط ألا يكون هذا التفاهم من شأنه أن يثبت لإنجلترا حقاً في حماية المصالح الأجنبية في مصر والتدخل في شؤوننا الداخلية تحت هذا الستار.
أما إذا لم نوفق في هذه الخطوة إلى التفاهم مع إنجلترا على ما قدمناه من الأسس، ووقفت هذه الدولة إلى جانب الدول ذوات الامتيازات فلا يبقى إلا أن نخطو الخطوة الرابعة، وهي الخطوة الأخيرة.
الخطوة الرابعة
في هذه الخطوة يجب أن نعتمد على أنفسنا: على قوة الرأي العام وعلى الحيوية الكامنة في
الأمة. فإنه لا يوجد شعب يريد الحياة عزيزة ويذل. ونحن قد تلطفنا في المسلك وتدرجنا في السير ولم نخط خطوة إلا بعد أن ألجأتنا إليها الضرورة الملحة. فليس أمامنا بعد ذلك إلا إحدى سبيلين:
إما أن نعلن إلغاء الامتيازات الأجنبية بعد إلغاء المحاكم المختلطة، دون حاجة إلى التفاهم مع إنجلترا على ذلك. والقانون والعدالة في جانبنا، فأن هذه الامتيازات في أساسها التاريخي وفي تطبيقاتها الحالية جائرة لا تتفق مع أبسط مبادئ العدالة، وهي تصطدم مع مستلزمات السيادة الداخلية للدولة. وهي فوق ذلك يجب أن تسقط بانفصال مصر عن تركيا. وقد تخلصت منها بالفعل البلاد التي انفصلت عن الترك. ثم إنها مبنية على معاهدات بالية يجب أن تلغى طبقاً لمبدأ تغير الظروف، وهو مبدأ معروف في القانون الدولي أيدته المادة التاسعة عشرة من عهد عصبة الأمم.
هذا إلى أنه لا توجد دولة بليت بامتيازات كالتي بلينا بها إلا عمدت إلى إلغائها، رضيت الدول الممتازة أو لم ترض، وقد فعلت ذلك اليابان وتركيا وفارس والصين. فنحن الدولة الوحيدة المتمدينة التي ظلت فيها الامتيازات الأجنبية مترعرعة حتى الآن، ولسنا دون هذه الدول مرتبة في المدنية، ولا عذر لنا في الأحجام عن إلغائها إلا إذا كنا مقتنعين بأننا أضعف من هذه الدول عزيمة وأقل استحقاقاً للحياة. أما إذا صحت عزيمتنا على إلغاء الامتيازات أمكننا أن ندخل النظم التي أشرنا إليها بتشريعات داخلية دون اتفاق مع إنجلترا على ذلك، على أن يكون كل هذا موقتاً حتى يحين الوقت المناسب لإلغاء هذه التشريعات، وإرجاع الأمور إلى نصابها، وتوحيد المحاكم في البلاد.
وإذا ضعفنا عن هذا الموقف الحازم، فأمامنا سبيل أخرى: ننفذ إلغاء المحاكم المختلطة، وليس للدول علينا من سبيل في هذه الحالة إلا أن تطالب بإرجاع الامتيازات الأجنبية كما كانت قبل قيام هذه المحاكم أما في التشريع فنستمسك بحقنا في سريان التشريع المصري في المواد العقارية على الأجانب دون حاجة إلى موافقة الدول، بما في ذلك الضرائب العقارية. وأما في القضاء فتسترد المحاكم الأهلية لاختصاصها القضايا التي يكون المدعى عليه فيها مصرياً، وقضايا الأجانب غير المتمتعين بالامتيازات سواء أكانوا مدعين أم مدعى عليهم. ونحن، حتى إذا لم نضف إلى هذه القائمة جميع القضايا العقارية ولو كان
الخصوم فيها أجانب متمتعين بالامتيازات، لا نكون قد استرددنا أقل من ثلاثة أرباع القضايا التي هي الآن من اختصاص المحاكم المختلطة. أما الربع الباقي فلا يهمنا منه إلا عدد قليل من القضايا يكون المدعي فيها مصرياً، فعليه أن يتحمل عناء مقاضاة الأجنبي في قنصليته. على أن عناء المصري لا يزيد على عناء الأجنبي إذا دخل هذا في خصومة مع أجنبي من جنسية أخرى فإن المدعي في هذه الحالة يقاضي المدعى عليه في قنصليته، وهذا يستتبع كثيراً من الفوضى يكون الأجنبي ضحية لها قبل المصري
قد يعترض على هذا الحل وعلى الحل الذي قبله بأن الأجانب سيبقون في مركزهم متعنتين لا يقبلون أي اتفاق على تعديل النظم القائمة، وإذا اقتضى الأمر أن يسحبوا أموالهم من مصر فعلوا ذلك، فتصبح البلاد في فقر مدقع، وتقع في أزمة أشد خطراً من أزمة الامتيازات الأجنبية. نحن نعتقد أن في هذا القول مبالغة كبيرة، فليس من اليسير على الأجانب أن يسحبوا أموالهم من بلد يستغلونها فيه على خير وجوه الاستغلال وأكثرها كسباً. ثم هم إذا فعلوا فلا يكون ذلك إلا تدرجاً، لأن من الأموال الأجنبية في مصر ما لا تمكن تصفيته إلا بعد مدة طويلة. أفلا يكون من الخير لمصر في هذه الحالة أن تنتهز هذه الفرصة التي سنحت فيحل أبناؤها شيئاً فشيئاً محل الأجانب في الميادين المختلفة التي أخلاها هؤلاء، وتستبدل بالأموال الأجنبية أموالاً مصرية؟ على أن هذه المسألة يجب أن تنتقل من رجال القانون إلى رجال الاقتصاد، فيبحثوها بحثاً دقيقاً على أساس اقتصادي صحيح. أما نحن فنعتقد أن خطر سحب الأموال الأجنبية من مصر خطر موهوم ولا نقيم له وزنا.
ومن ذلك نرى أنه إذا عدمنا الوسائل وأعوزتنا الحيل، لجأنا إلى هذا الحل الأخير، فألغينا المحاكم المختلطة، ورجعنا إلى نظام الامتيازات القديم، وهذا خير من بقاء المحاكم المختلطة معقلاً للامتيازات الأجنبية، تنتقص من سيادة البلاد، وتمتهن من كرامتها، ونحن عاجزون عن دفع هذا البلاء عنا كما أثبتت ذلك الحوادث الأخيرة. ولقد كانت الامتيازات الأجنبية في عصر إسماعيل بيتاً متهدماً يتداعى للسقوط، فأراد إسماعيل ونوبار أن يهدما البيت بإنشاء (محاكم الإصلاح)، فإذا بهما يرممانه بجدر سميكة من هذه المحاكم، حتى بقى متماسكاً صلباً زهاء الستين عاما. وقد آن لأبناء هذا الجيل أن يدخلوا البيت حتى يثبتوا فيه
القدم المصرية، وإلا وجب عليهم أن يتركوه يتهدم.
عبد الرزاق السنهوري
مملكة في الصخر أو بلاجيوس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ ثلاثة أعوام، في منتصف أبريل سنة 1931، انهار صرح الملوكية الأسبانية، واختتم أقدم العروش الأوربية حياته الطويلة الحافلة، وطويت من التاريخ صفحة يشغل تاريخ العرب والإسلام منها حيزاً كبيرا. ذلك أن الملوكية الأسبانية التي شهدنا سقوطها بالأمس، هي نفس تلك الملوكية التي سحقها العرب يوم فتحوا الأندلس (92هـ - 711م)، والتي استأنفت بعد ذلك حياتها ضئيلة متواضعة في قاصية أسبانيا الشمالية وفيما وراء الصخر، ثم لبثت تنمو بطيئة ولكن ثابتة حتى رسخت دعائمها في هاتيك الهضاب؛ وبدأت بعد ذلك معركة الحياة والموت مع تلك المملكة الإسلامية التي قامت في أسبانيا على أنقاض مملكة القوط النصرانية، ولبثت مدى قرون طويلة تطاولها وتجاهدها، حتى آذنت دولة الإسلام في الأندلس بالاضمحلال؛ وما زالت المملكة النصرانية في نمو مستمر، والمملكة الإسلامية في ضعف مستمر، حتى غدا الإسلام محصوراً في مملكة غرناطة الصغيرة، ثم حلت المعركة النهائية؛ وظفرت الملوكية الأسبانية بتحقيق برنامجها القديم وغايتها الخالدة، فانتزعت غرناطة معقل الإسلام الأخير، وقضت على دولة الإسلام بالأندلس (897هـ - 1492م).
وقد نشأت الملوكية الأسبانية الذاهبة في ظروف كالأساطير، ونشأت في نفس الوقت الذي افتتح فيه العرب أسبانيا، وسحقوا دولة القوط القديمة. ففي موقعة شريش التي مزق فيها جيش القوط، وقتل آخر ملوكهم رودريك (لذريق)(92هـ)، فرت شراذم قليلة من الجيش المنهزم إلى الشمال، واختفت فيما وراء تلك الجبال الشمالية التي وقف عندها تيار الفتح الاسلامي، واجتمعت بالأخص في هضاب كانتابريا (نافار وبسكونية) في الشرق، وفي هضاب استوريس في الغرب؛ واجتمع فل النصارى في الهضاب الشرقية تحت لواء زعيم يدعى الدوق بتروس، واجتمع في الهضاب الغربية، في جليقية تحت لواء زعيم يدعى بلاجيوس أو بلايو. وكان بتروس ينتمي إلى أحد الأصول الملكية، وكان من قادة الجيش في عهد وتيزا ملك القوط، ثم في عهد خلفه ومغتصب ملكه رودريك. أما بلاجيوس أو بلايو فيحيط الغموض بأصله ونشأته، ولكن يبدو مما تنسبه إليه الرواية من ألوان الوطنية والبسالة والبطولة أنه كان رفيع المنبت والنشأة؛ وتقول بعض الروايات أنه ولد الزعيم
فافيلا الذي قتل الملك وتيزا في هضاب جليقية، وأنه كان لذلك من خاصة الملك رودريك وقادته. وتعرف الرواية الإسلامية بلاجيوس وتحدثنا عنه وتسمية (بلاي)، وتصفه أحياناً بأنه أمير أو ملك، وتنعته غالباً بأنه (علج من علوج النصارى)، وتتبع أخباره مع المسلمين ولكنها لا تلقي ضياء كثيراً على أصله، أو أحوال مملكته الصغيرة. ذلك لأن المسلمين لم ينفذوا قط إلى ما وراء الهضاب الوعرة التي امتنع بها هذا الزعيم وفله، والتي نشأت فيها جذور المملكة النصرانية الشمالية التي غدت غير بعيد خطراً على دولة الإسلام في أسبانيا. ومن الغريب أن راوية نصرانيا كبيراً معاصراً هو (ايزيدور الباجي) وهو حبر عاصر الفتح الإسلامي وكتب روايته في منتصف القرن السابع ووصل في كتابتها حتى سنة 754م، لم يذكر لنا في روايته شيئاً عن قيام تلك المملكة النصرانية الصغيرة في الشمال، ولا عن زعيمها أو ملكها بلاجيوس، ولا عن غزوات المسلمين لها، مع أن ايزيدور يتتبع أخبار الغزوات الإسلامية كلها منذ الفتح حتى منتصف القرن الثامن، سواء في أسبانيا أو في مملكة الفرنج، ويقدم إلينا عنها كثيراً من التفاصيل والملاحظات الهامة. وقد يرجع ذلك إلى أن ايزيدور، وهو يقيم في الجنوب في مدينة باجة، كان يجهل قصة هذه المملكة النصرانية الشمالية الناشئة، ولكن ما نراه من عنايته بتدوين أخبار الغزوات الإسلامية في فرنسا، وأخبار مملكة أكوتين، يحملنا على الاعتقاد بأنه لم يكن يجهل أخبار مملكة جليقية النصرانية، وهي أقرب إليه من فرنسا، وأن أسباباً أخرى لعلها ترجع إلى انتماء أميرها بلاجيوس إلى حزب رودريك الذي كان يبغضه المؤرخ هي التي حملته على إغفال أخبارها.
وعلى أية حال فان الرواية الإسلامية تذكر لنا كيف نشأت المملكة النصرانية الأسبانية في الهضاب الشمالية بعد أن سحقت في موقعة شريش، فقد لجأت شراذم قليلة من القوط عقب الفتح إلى الجبال الشمالية، وامتنعت في مفاوز جبال استوريس كما قدمنا؛ وقامت إمارتان نصرانيتان صغيرتان في كانتابريا وجليقية. وكانت إمارة كانتابريا التي أسسها الدوق بتروس، لوقوعها في الطرف الغربي من جبال البرنيه (البرت) في سهول نافار وبسكونية عرضة لاقتحام الفاتحين حين سيرهم إلى فرنسا وحين عودهم منها. ولكن إمارة جليقية كانت تقع في أعماق جبال استوريس الوعرة، بعيداً عن غزوات الفاتحين، وسميت جليقية
لأنها قامت على حدود الولاية الرومانية القديمة التي كانت تسمى بهذا الاسم. ففي هذه الهضاب النائية المنيعة اجتمع بلاجيوس وصحبه، وعددهم لا يتجاوز بضع مئات حسبما تقول الرواية، ولجئوا إلى مغار عظيم يقع في آكام كافادونيا، وتحيط به وديان سحيقة خطرة، ويعرف في الرواية الإسلامية باسم (الصخرة). ويقول لنا ابن خلدون في الفصل الذي يخصصه (لملوك الجلالقة) إن هذه الإمارة الصغيرة التي كانت مهد المملكة النصرانية لا تمت بصلة إلى القوط، وأن ملوك الجلالقة ليسوا من القوط، لأن أمة القوط كانت قد بادت ودثرت لعهد الفتح الإسلامي، بيد انه يصعب علينا أن نقبل هذا الرأي على إطلاقه، فمن المحقق أن فلول النصارى التي لجأت إلى الشمال كانت مزيجاً من القوط والأسبان المحليين، ولكن الظاهر مما انتهى إلينا من أقوال الروايتين المسلمة والنصرانية أن الزعماء، ولا سيما بلاجيوس كانوا من القوط، وأن ملوك الجلالقة يمتون إلى القوط بأكبر الصلات.
ولم يعن المسلمون بادئ بدء بهذه الشراذم الممزقة، وكان إغفال أمرها من أعظم أخطاء الفاتحين، بيد أنه لما كثرت ثورات النصارى في الشمال، وبالأخص في بسكونية، (أو بلاد البشكنس) اهتم ولاة الأندلس بقمعها وتأمين الولايات الشمالية؛ وسير الحر ابن عبد الرحمن الثقفي وآلي الأندلس سنة 718م (98هـ) جيشاً إلى الشمال لإخضاع النصارى. فاجتاح المسلمون بلاد البشكنس وهضاب استوريس، وأوفدوا حليفهم الأسقف اوباس، وهو أخو الملك وتيزا، إلى بلاجيوس ليقنعه بالتسليم وعبث المقاومة، فأبى بلاجيوس، ونفذ المسلمون إلى أعماق الجبال، وحاولوا عبثاً أن يستولوا على مراكز العدو، وحالت بينهم وبينه الوديان السحيقة والآكام الرفيعة؛ وحصر بلاجيوس وأصحابه مدى حين، وقطعت عنهم المؤن، وتساقطوا تباعاً من الجوع حتى لم يبق منهم على قول الرواية سوى ثلاثين رجلاً وعشر نساء. وتزعم بعض الروايات النصرانية أن بلاجيوس كر على المسلمين، وأنهم هزموا هزيمة شنيعة وفقدوا ألوفاً كثيرة، ووقع أوباس أسيراً في أيدي مواطنيه فعاقبوه على خيانته بالموت.
ولما رأى المسلمون وعورة الهضاب وقسوة الطبيعة ارتدوا عن جليقية محتقرين شأن هذه الشرذمة الممزقة الجائعة؛ فقويت لذلك نفس بلاجيوس وأصحابه، وانضم إليه كثير من
النصارى في كانتابريا وسهول جليقية، واختاروه ملكاً عليهم لما رأوا من بسالته وبراعته وقوة عزمه؛ وألفى بلاجيوس الفرصة سانحة لتوطيد سلطانه وتوسيع أملاكه، فأخذ يغير على الأراضي الإسلامية الشمالية، وبدا لحكومة الأندلس خطر هذه العصابات الجبلية التي أخذت تنظم إلى قوة يخشى بأسها؛ ولكن اضطراب الشئون الداخلية حال مدى حين دون مطاردتها وغزوها.
وفي سنة 112هـ (730م)، في عهد أمير الأندلس الهيثم ابن عبيد، بعث حاكم ولاية البرنيه، عثمان بن أبي نسعة الذي تعرفه الرواية النصرانية باسم منوزا أو منوز، جيشاً إلى جبال استوريس لغزو جليقية وسحق أميرها بلاجيوس؛ ولكن بلاجيوس استطاع أن يصمد للمسلمين كرة أخرى وأن يهزمهم هزيمة شنيعة. ولما رأى بلاجيوس منعة معقله وقوة عصبته، اخترق بسكونية، وهاجم قوات ابن أبي نسعة في الوقت الذي كان يتأهب فيه للسيراليه، ومزق بعض وحداتها، ثم ارتد إلى هضابه فاستعصم بها. ولما اضطربت شئون الأندلس بعد مقتل أميرها عبد الرحمن الغافقي وارتداد جيشه في بلاط الشهداء (114هـ - 732م)، وشغل الولاة برد جيوش الفرنج عن الأراضي الإسلامية في سبتمانيا، كثرت غارات العصابات الجليقية على الأراضي الإسلامية في شمال نهر دورو (دويره) وفي منطقة استرقة، وعانى المسلمون في تلك الأنحاء كثيراً من عيث النصارى؛ ولم تسعفهم حكومة قرطبة بالمدد والعون، لاضطرام الأندلس بالفتن ونشوب الحرب الأهلية بين مختلف الزعماء والقبائل. وكانت سلطة الحكومة المركزية ضعيفة في تلك الأنحاء النائية، وكان سكانها ومعظمهم من البربر يكثرون من الخروج والثورة سخطاً على العرب واستئثارهم بالحكم والسيادة. وكان النصارى من رعايا حكومة قرطبة يدسون الدسائس ويرتكبون شتى الخيانات، ويشجعون بذلك بلاجيوس وعصاباته على الإغارة والعيث في أراضي المسلمين؛ وكانت الإمارة النصرانية الناشئة تنمو خلال ذلك ويشتد ساعدها، ويهرع النصارى إلى لواء بلاجيوس من مختلف الأنحاء.
واستمر بلاجيوس في حكم إمارة جليقية زهاء تسعة عشر عاماً، وتوفى سنة 737م. ولكن بعض الروايات النصرانية تضع تاريخ وفاته بعد ذلك، فتقول إنه لبث حتى ولاية عبد الرحمن بن يوسف الفهري للأندلس (127 - 138هـ)(745 - 755م)، وإن الموقعة
التي نشبت بين عثمان بن أبي نسعة وبلاجيوس كانت بين سنتي 746 و751، وهي رواية ظاهرة الضعف. لأن عثمان ابن أبي نسعة قتل سنة 114هـ (732م)، والرواية الإسلامية واضحة دقيقة في ترتيب الوقائع والتواريخ في هذا الموطن. وخلف بلاجيوس ولده فافيلا، ولكنه توفى بعد حكم لم يطل أمده سوى عامين (سنة 739م). وكان الدوق بتروس أمير كانتابريا قد توفى في ذلك الحين أيضاً، وخلفه ولده الفونسو دوق كانتابريا، ونمت هذه الإمارة النصرانية الصغيرة أيضاً واشتد ساعدها، وقويت أواصر التحالف بينها وبين جليقية بتزوج أميرها الفونسو من ابنة بلاجيوس واسمها اورموزنده أو هرمزنده؛ فلما توفى فافيلا ولد بلاجيوس، اختار الجلالقة الفونسو دوق كانتابريا ملكاً عليهم، واتحدت الأمارتان، وقامت منهما مملكة نصرانية واحدة، هي مملكة ليون النصرانية أو مملكة جليقية في الرواية الإسلامية، تمتد من بلاد البشكنس شرقاً إلى شاطئ المحيط غرباً، ومن خليج بسكونية شمالا إلى نهر دويرة جنوبا، وتشمل مناطق شاسعة من القفر والهضاب الوعرة، وتحتجب وراء الجبال بعيدة عن سلطان المسلمين وغزواتهم.
ويعتبر الفونسو دوق كانتابريا، أو الفونسو الأول (الكاثوليكي) مؤسس المملكة النصرانية الشمالية، واصل ذلك الثبت الحافل من ملوك قشتالة الذين لبثوا قروناً يدفعون حدودهم إلى الجنوب في قلب المملكة الإسلامية، ثم انتهوا بافتتاحها والاستيلاء على غرناطة آخر معاقلها (1492م)؛ وحكم الفونسو في ظروف حسنة، فقد كانت الحرب الأهلية تمزق الأندلس، وكان أمر الولايات الشمالية فوضى، والضعف يسود المسلمين في تلك الأنحاء. وكان ثمة منطقة عظيمة من القفر والخراب تفصل بين جليقية وبين الأراضي الاسلامية، فاجتاحها الفونسو بجموعه وقتل من بها من المسلمين القلائل، ودفع النصارى إلى الشمال. ولما حصل القحط بالأندلس (سنة 133هـ - 750م)، واشتد عصفه بالولايات الشمالية الغربية، جلا كثير من المسلمين عن تلك الأنحاء، واشتد ساعد النصارى فيها، ورفعوا لواء الثورة، وفتكوا بالمسلمين، ونادوا بالفونسو ملكاً عليهم؛ وانتهز الفونسو هذه الفرصة فغزا استرقة واستولى عليها من يد المسلمين واستولى على كثير من البلاد والضياع المجاورة وضمها لأملاكه (136هـ - 753م). وهكذا نمت تلك المملكة النصرانية التي نشأت في ظروف كالأساطير، واتسعت حدودها، واشتد بأسها بسرعة مدهشة، ولم يأت منتصف
القرن الثامن حتى بدأت تناهض الإسلام في الأندلس وتغالبه؛ ولم يأت عهد الناصر لدين الله حتى كان وجودها خطراً على الدولة الإسلامية ذاتها؛ وحتى بدأت بين الإسلام والنصرانية في الأندلس معركة الحياة والموت. وسطع الإسلام في الأندلس واستعاد منعته وبهاءه مدى حين، أيام الناصر لدين الله، ثم في أيام الحاجب المنصور؛ واضطرمت فورة الإسلام أيام المرابطين، ثم الموحدين؛ ولكنها كانت جميعاً فورات مؤقتة، وكانت أسباب الانحلال التي سرت إلى الدولة الإسلامية تعمل عملها ببطء؛ ثم سطعت دولة الإسلام في مملكة غرناطة الصغيرة مدى حين، ولكن المعركة لم تكن متكافئة بعد، وكانت مملكة قشتالة النصرانية تسير ثابتة مطمئنة إلى تحقيق بغيتها الخالدة: استعادة الوطن القديم كله من يد الفاتحين.
محمد عبد الله عنان المحامي
الحياة بعد الموت
ما هو الموت؟
رأي السير اوليفر لودج
حديث الحياة بعد الموت ألذ الأحاديث، ولا سيما إذا أنبأك به خبير يبني ما يقول على أساس علمي. ومن هؤلاء الخبيرين السير أوليفر لودج العالم الطبيعي الإنجليزي. وليس المراد بالطبيعي هنا ما يفهم عادة من هذه اللفظة، أي العالم الدهري المادي الذي ينسب إلى الطبيعة الجامدة ما ليس لها ويحلها محلاً أرفع من العقل، والذي شعاره وشعار طغمته (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) بل المراد بالطبيعي في هذا المقال العالم الذي تفرغ لدرس نواميس الطبيعة وكشف النقاب عن أسرارها وحل ألغازها بانياً ذلك كله على البرهان العلمي
رأيت للسير أوليفر لودج مقالاً في مجلة إنجليزية عنوانه (ما هو الموت). وسأحاول تلخيصه بهذا المقال تاركاً للقراء الحكم فيه وما يستسيغون منه
مهد لموضوعه بمقدمة وجيزة عن كون الموت موضوعاً يدخل الغم على النفوس لأنه سفر مجهول وفرقة لا لقاء بعدها على هذه الأرض. ثم قال ما خلاصته.
إذا شئنا أن نفهم ماهية الموت وجب أولاً أن نعرف ما هي الحياة. وتعريف الحياة ليس بالأمر السهل. فإننا نعرف شيئاً عنها - نعرف أنها ليست صورة من صور الطاقة بل أنها مبدأ للهداية والإرشاد. وتستخدم لذلك الطاقة والمادة ولا يلوح أنها شيء طبيعي البتة
نحن نعيش في فرن من الطاقة المنبثقة من نور الشمس، ولنا قدرة على توجيهها وإدارتها. والدليل على أن الحياة ليست طاقة هو أن في وسع البذرة مثلاً أن تخرج أجيالاً لا يحصى عددها
والحياة تحدث أشياء لا يمكن أن تحدث بغيرها من الصدفة البحرية إلى الكنيسة الكاتدرائية. وذلك بتداخلها هي والمادة، وهذا التداخل أوجب تجهيزها بجسم مادي
وماذا نعني بالجسم؟ نعني به طريقة للظهور أو أداة. فقد يكون للموسيقار موسيقى في روحه، ولكنه يحتاج إلى آلة لإظهارها. فالجسم للنفس كالقيثارة للموسيقار
نحن بنينا الجسم طبقاً لأعمال طبيعية وبلا علم منا، وصففنا دقائق الطعام على شكل
خاص. ولا ريب أن للشكل معنى
والعنصر الطبيعي والعنصر العقلي متفاعلان. فهل يحتمل أن العنصر العقلي الذي يدبر ويريد ويرجو ويرسم الخطط ويحب، محصور في طريقة ظهوره وعمله وحركته، ومقصور على مركب كيميائي معين، وخصوصاً المركب المعروف باسم البيومن (المادة الزلالية التي توجد فيها نطفة الحياة أو البروتوبلازم). فكرة على غاية من السخافة
إننا نعرف العنصر العقلي على هذه الصورة المعينة، ولكن قد تكون له صور وأشكال لا عداد لها ونجهلها الآن
ونحن مجهزون بآلة نسميها الجسم، وهذا الجسم مصنوع الآن من المادة. ومن السهل تصور صنعة من أشياء أخرى
ولكن هذه العلاقة علاقة المادة بالعنصر العقلي أو النفسي الذي يتسلطن عليها ويستخدمها يمكن فصلها وإنهاؤها، وهذا الفصل والإنهاء هو الموت، فالموت إذاً هو افتراق النفس عن الجسد، ولكنه ليس فناء واضمحلالاً، بل فرقة وخروجاً عن (علمنا الحاضر)
ويقول البيولوجيون الذين درسوا هذه المسألة إن الموت ليس أمراً لازماً للجسم كله، بل إن الخلايا الأخيرة خلايا التناسل لا تموت. والحييوينات الدنيا ذات الخلية الواحدة خالدة. فقد تقتل ولكنها لا تموت بل تنقسم قسمين وأكثر، وتبقى تتقسم وتستمر حية.
أما الأحياء العليا مثلنا ففيها خلايا أخرى غير الخلايا الخالدة، وهذه الخلايا هي التي تموت. ولما كانت تزيد كثيراً على الخلايا الخالدة، فأنها تزول بالتفاعل الكيميائي الحادث في الجسم بعد انفصال الروح عنه، وبذلك يزول الجسم أي أنه يتحول على طول المدى. وقد عرف الشعراء ذلك فقال شكسبير:
(أضجعت هنا في الأرض، ولتنبت أزهار البنفسج الربيعية من لحمها الجميل غير الفاسد)
وقال تنيسن: وليصنع من رماده بنفسج بلاده)
لكن الميت ليس هنالك، بل هو ذلك الذي مر في الجسم ورحل. فلا نخش لفظة الموت. ولا فائدة من القول أن لا موت. بل الموت موجود والمسألة مسألة تفسير وتأويل، فإذا قلت أن لا موت عنيت أن لا فناء. إذ الموتى لم يموتوا، بل لا يزالون أحياء عند ربهم يرزقون كما قال تنيسن، وليست حياتهم الثانية كالحياة الأولى ولكنها حقيقية مثلها
يخبرنا الذين رحلوا عنا (يشير إلى ابنه رايموند الذي قتل في الحرب وقال انه ناجاه وكتب مجلداً كبيراً عنه وعن مناجاة الأرواح) بأن لهم أجساماً غير عادية، لكنها محسوسة وجامدة مثل الأجسام الأولى بل أحسن منها.
ويقولون إنهم مسرورون، وانهم لا يحبون العودة إلى الأرض مهما أعطيتهم. وانهم حولنا وأكثر دخولاً وخروجاً معنا مما يخيل إلينا. وكل ما هناك انهم لا يقعون تحت حواسنا
الحياة متصلة غير منقطعة، والموت لا يغير أحوال هذا الكون لانه شيء داخلي يتعلق بالفرد، وليس الموت سوى تغيير في نظره إلى الكون وفي إدراكه لما فيه. فقد كان يدرك نظاماً معيناً فإذا مات أدرك نظاماً آخر. ونحن نسمى ما وراء القبر العالم الثاني أو الحالة المستقبلة، وأما الكون فواحد ولكن هناك حاجزاً. ونحن نعرف الآن ونُعرف على جانب من هذا الحاجز، فإذا متنا عرفنا الجانب الآخر وعُرفنا فيه. وربما عُرفنا ما هناك وعرفنا بجلاء لا يقل عما نعرف ونُعرف هنا
إن في الكون عالماً آخر بل قد تكون هناك عوالم كثيرة غير التي قدرت لنا معرفتها، وليس عالم حواسنا سوى جزء صغير من ذلك الفلك المدار
وقد تسألني: وكيف عرفت أن أولئك الراحلين لا يزالون باقين. فأجيبك بأني لا أرتاب في ذلك لأني أتصل بهم كثيراً. وأنت لا تستطيع أن تشك في وجود الذين تخاطبهم بالتليفون أو اللاسلكي. وليست الحياة شيئاً يفنى ولكنها تظهر بمظاهر شتى، وهذه الحياة الدنيا هي أحد تلك المظاهر
وسنلبس في العالم الآخر أجساداً ونتخذ أشكالاً يمكننا التعارف بها. وإذا نظرنا إلى المسألة بعين العلم الباردة (أي الخالية من العواطف) وجدنا أن هناك حقائق كثيرة تؤيد البقاء بعد الموت، وأنا مقتنع بها بالبرهان التدريجي. ولست أنتظر أن يؤمن كل أحد على قولي هذا، ولكنني أؤكد تأكيداً علمياً أن الحياة شيء دائم، وأنها والمادة تتداخلان زمناً وتتفاعلان، ثم تطلق المادة إلى محيط آخر وبيئة أخرى
وتسألني هل الحياة القادمة أكثر سعادة من الحياة الحاضرة؟ فأجيبك بأن ذلك يتوقف على ما نصنع هنا، وعلى انتهازنا للفرص التي تعرض لنا في هذه الحياة.
ولقد تعودنا المظهر المادي هنا حتى بات يصعب علينا تصور مظهر آخر، بل أن بعضنا
لا يستطيعون أن يتصوروه. أما أنا فأستسهل هذا التصور، لأننا في علم الطبيعة نبحث في أشياء كثيرة لا تقع تحت الحس، ولكنها مع ذلك حقيقة كالتي نشعر بها بحواسنا، بل ربما كانت أقرب إلى الحقيقة منها. فإننا جعلنا نحلل المادة وندرس طبيعتها حتى ليصح القول أننا مع كثرة تحليلنا لها نكاد لا نعرف شيئاً عنها
ولو أمكننا أن نرى المادة المحيطة بنا، يعني العلم، لم تظهر لنا كما تظهر عادة - أي جامدة ومحسوسة بل تظهر مثل المجرة كثيرة الثقوب والمسافات الشاسعة بين أجزائها. ففي داخل الذرة أماكن خالية. والدقائق قليلة متباعدة كالسيارات في النظام الشمسي
إنما الحياة في هذه الدنيا تجربة كبيرة، ونحن موجودون هنا لنجرب ونمتحن. ومصائر الوجود في الأبد وفي عين الخالق مفتوحة أمامنا، وهي أبعد مما نستطيع تصوره. وليس الوجود الحاضر على هذا السيار، سوى قصة قصيرة، ومخاطرة وقتية، وسفر زائل، يتبعها ذلك السفر السامي الطويل
فلا تخف لأن الخوف قطعة من العذاب (والمحبة الكاملة تزيل خوفنا) وهذا الكون تحكمه المحبة الكاملة. وهذه هي رسالتي. فلنغن مع المرنم صاحب الزبور (سبحي الرب أيتها السموات واسجدي له)
(ق. س)
صورة من الثورة الفرنسية
مدام رولان 1754 - 1793
بقلم عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب
مدام رولان، أنقى شخصيات الثورة الفرنسية، لا تزال تدوي كلماتها الأخيرة وهي تصعد درجات المقصلة في كافة الأرجاء.
وهي مانون ابنة مثال باريسي يدعى فيلبون، وكانت غرفتها ملاصقة (لاستيديو) النحت، تقضي فيها وقتها منهمكة في قراءة تراجم أبطال التاريخ. أبكاها يوماً أنها لم تكن رومانية أو اسبرطية، وقد جهلت أنها سوف تواجه أزمة لم يواجه مثلها أحد ممن كانت تحلم أن تكون مثلهم من أبطال التاريخ.
وكان يسرها كثيراً فوق قراءة الكتب اصطحاب أمها لها إلى حديقة النبات أو اللكسمبورج في باريس، عشقت القرية، ويدل على ذلك قولها (إنني أحب هذا السكون الذي لا يعكر صفوه غير صياح الديكة، وأشعر بالراحة التي تشعر بها شجرة ينقلونها من صندوق ضيق محدود إلى حقل واسع فسيح) وأحبت الرسم الذي يأخذك منه سحره وقوته. غير أنها لم تواصل عمل أبيها في النحت طويلا، لأنها مالت إلى العلوم، فكانت تنمي بما تقرأه وتلحظه من تجارب الحياة عقلا ناضجاً خدمت به الصالح العام.
أدخلت وهي في الحادية عشرة من عمرها ديراً تعرفت فيه بصديقتين حميمتين توثقت بينهن عرى الصداقة وهما: هنريت وصوفي كانيت. وبعد أن خرجن من الدير ورجعن إلى دورهن بقى الاتصال بينهن وثيقا، وذلك ما حدا بجدة مانون إلى أن تقول لها (ستنسين صديقتيك حالما تتزوجين) وسنرى مقدار صحة هذه الملاحظة من جانب الجدة العجوز.
ورسائل مانون أحسن وسيلة نرى منها صورة واضحة لشباب هذه الفتاة، فقد تحول اهتماماً بالدين إلى تعشق الفلسفة، ساعدها على ذلك عقل جبار يغلي كالمرجل ولا يستريح. وقد انتقت من بين خطابها العديدين رجلاً توهمت أنها تميل إليه، وهو مؤلف فيلسوف يدعى لابلانشير، ولكن سرعان ما ألقت عن نفسها هذا الميل واطرحته جانباً، غير واجدة فيه مثلها الأعلى. وكانت جد كلفة بكتابات روسو، وقدر لها أن تراه، وقد وصفت درجات سلم داره (. . . كما لو كانت درجات سلم معبد).
من هذه الرسائل نرى في مانون فتاة متحمسة ذكية، حية نشطة، محبة للاطلاع، قوية الذاكرة، وقد أثرت وفاة أمها في حياتها فخبا نورها قليلاً بتأثير الصدمة والحاجة إلى المال بعد ذلك.
إلا أن القدر خط صفحة جديدة في حياتها، فأن شخصاً يكبرها بعشرين سنة تمكن من أن يكسب عطفها الدائم نحوه ومحبتها الثابتة له، وهذا الشخص هو السيد رولان المفتش العام للصناعات، وزفت إليه وهي في سن السادسة والعشرين، وانتقلت معه إلى ليون.
وكان لأسرة رولان نخبة طيبة من الأصدقاء المثقفين الوطنيين الذين غالبا ما كانت تراسلهم مدام رولان راغبة بذلك تحسس الطريق نحو المجتمع الباريسي الساطع، فأن أسعد أوقاتها هي تلك التي كانت تقضها في غرفة الموقد بين ابنتها الصغيرة تعلمها حياكة قطعة من قماش وبين زوجها يدرس أوراقه على مكتبه، على حين تطرق أذنها فرقعة النار في الموقد وصوت الصقيع يصدم النافذة. وصفت في رسائلها حبها الشديد لتغيير فصول السنة واختلاف مواسم الزراعة في الحقول، ولم يعل على حبها لفترة تقضيها وسط الطبيعة الهادئة أي حب آخر
غير أن هذا السلام لم يدم طويلا، فإن الحكومة في فرنسا كانت سيئة في هذا الحين، والأرستقراطية المترفة فوق القانون، والفوضى ضاربة بجرانها على ربوع المملكة، أما الشعب الجائع فالويل له إن نبس أحد أفراده ببنت شفة ضد النظام القائم، وكانت تكفى إشارة بسيطة أو تلميحة سريعة لطرح المحتج في أعماق السجون. ورمت أسرة رولان وأصدقاؤها بأنفسهم في أحضان الحركة التي قصد بها إسقاط النظام الإقطاعي ومساوئه، وأصبحت مدام رولان: هذه المرأة الجميلة الملتهبة، روح حزب الجيروند الذي عمل على تشييد عهد الحرية على أساس معتدل
وبدأت الثورة الفرنسية عام 1789 وعهد إلى رجال حزب الجيروند عام 1792 بالحكم، ولكن اعتدالهم وإظهار استيائهم من مذبحة سبتمبر ورفضهم التصويت ضد إعدام الملك أتاح الفرصة لنجاح المتطرفين فقضوا على المعتدلين - منشأ الثورة ومنبعها - وصعدوا على أنقاضهم إلى منصة الحكم. وفي عام 1793 أعدم الملك ومعظم الجيرونديين وبدأ عهد الإرهاب برعاية اليعاقبة أكثر متطرفي الثورة شدة وعنفا.
عندما كانت السلطة في يد الجيرونديين عهد إلى السيد رولان بوزارة الداخلية، فكانت زوجته هي التي تحضر أوراقه الرسمية، وأصبحت بعد أن كانت تحرر إلى أصدقائها أمثال صوفي وهنريت تراسل البابا والملك برسائل يستعين بها المؤرخ الذي يكتب عن هذا الفصل من تاريخ فرنسا، ولو كانت مدام رولان رجلا أو لو سمح للمرأة في ذلك الوقت بلعب دور صريح على مسرح الحياة العامة لاختلف تاريخ الثورة الفرنسية عما هو عليه الآن.
وقد انتقلت مدام رولان من مسكنها المتواضع إلى الدار الفخمة التي كان يقطنها الوزير الخطير نكر، ووافقتها حياتها الجديدة كل الموافقة، إلا أنها لم تؤثر في خلقها السامي وطبيعتها البسيطة. وكانت تمد السماط للوزراء جميعاً مرة كل يوم جمعة، فإذا انصرفوا خلعت عنها ملابسها الرسمية، وانكبت على مكتبها تعمل بجد ونشاط فائقين.
وتمتاز من الجميع بهدوئها الظاهر، يكفي من جانبها كلمة هادئة تلقيها لتقضي بها على الاختلاف الحاد في الآراء، وغالباً ما أرسلت شعاعاً منيراً يستضيء به القوم في نقاشهم فتحلُ العقد وتفك الطلاسم.
وكثيراً ما دعاها المجلس الوطني ليمطرها أعضاؤه وابلا من الأسئلة كانت تجيب عليها جميعاً في اعتدال ووضوح وصراحة غير هيابة ولا وجلة، ولم تخف قط على حياتها، إنما كان إشفاقها دائماً على وطنها، وقد رأت بنظرها الثاقب وعقلها الفطن الناضج أنه ليس بين الجيرونديين رجل واحد يمكن أن يعهد إليه بأمر البلاد، وأنه لا يوجد بين اليعاقبة المتطرفين اثنان يمكن أن يثق أحدهما بزميله.
وسرعان ما تحقق تشاؤمها عندما تمكن اليعاقبة بقيادة مارا ودانتون وروبسبير من إسقاط الجيرونديين، وأدانوا أسرة رولان فيمن أدين من المعتدلين، فهرب رولان وقبض على زوجه، ثم أخلى سبيلها ليقبض عليها مرة أخرى بعد ساعة من إخلاء سبيلها ألقيت في أعماق السجون متهمة بأشنع التهم وأسفلها، ولكنها في السجن كما هو الحال في أي مكان آخر استطاعت أن تغزو القلوب، وصار حراسها طوع إرادتها ورهن إشارتها. ويشير صديق لها اعتاد زيارتها في سجنها (بأنها كانت تحدثه في شجاعة الرجل العظيم بصوت عذب كالموسيقى) إلا أنها كانت تخلو بنفسها تستند إلى النافذة وتمضي الساعات الطوال.
وبعد أن كانت ترى في فرنسا مهداً للإخاء والحرية والمساواة، أصبحت تجد فيها كابوساً ثقيلا ومجزرة يذبح فيها أبناؤها بتهمة حانق أو شكوى حاسد، ولم تسد شهوة الدم وجشع السفاكين ما كان قائماً ليل نهار من قتل النفوس بالمقصلة والرصاص والإغراق.
وقد ذكرت في آخر رسائلها أنها (تحب ضوء الشمس ودارها وزوجها وابنتها المحبوبة وخادمتها الوفية) وتركت لابنتها صحفاً جمة من رسائل الحنان الأموي ملأى بالنصائح الغالية والكتاب الآتي أحد هذه الرسائل التي كتبتها في سجنها إليها:
(لست أدري يا عزيزتي إن كان يسمح لي بمقابلتك أو الكتابة إليك مرة أخرى أو لا. تذكري أمك دائماً. وهذا أحسن ما يمكن أن أقوله لك. ولقد عهدتني سعيدة لشعوري بتأدية الواجبات الملقاة على عاتقي، ولاستطاعتي خدمة الذين يعانون آلام الحياة ومساعدتهم؛ وهل الحياة إلا هذا؟ لقد وجدتني أذعن للقدر إذ يسوقني إلى الأسر، ولست مجرمة أستحق هذا، إلا أن الذكرى الطيبة والماضي الحسن والأعمال الجليلة هي كل عزائي، وبمثلها يستطيع المرء أن يحتمل مساوئ الحياة وتقلبات القدر. إن ما أتمناه هو ألا يقدر لك مثل ما قدر لي من المشاق والمتاعب وهناك ما لو استطعت اتباعه تفاديت به قسوة الحياة وحميت نفسك من مساوئها، ألا وهو العيش المنتظم الذي لا فراغ فيه؛ فهو حارس من كل خطر؛ وهو حاجة تبحث عنها النفس وحكمة يسعى إليها العقل، ليكون صاحبهما جاداً محترماً في حياته. فكوني عند حسن ظن أبويك بك، فقد تركاك مثلا جميلا، ولو استطعت أن تستغلي هذا المثل للوصول إلى ناحية الكمال أمكنك أن تحيي حياة نافعة).
زارتها في سجنها يوماً هنريت كانيت، وطلبت إليها أن تبدل لباسها وتسرع إلى الهرب، وتبقى هي في مكانها، إلا أن مانون رفضت طلب صديقتها في إباء وشمم، قائلة لها (ولكنهم يقتلونك إن فعلت ذلك) وبعد خمسة أشهر من سجنها استدعيت للمحاكمة، وكيلت لها التهم الشنعاء، فوقفت تدفعها عن نفسها باكية ساخطة. وفي اليوم التالي في 8 نوفمبر سنة 1793 سيقت إلى المقصلة، ولما رأت الشجاعة تخون جلادها حثته على أن يؤدي واجبه، وقد ظهرت وهي على شفا حفرة الموت نبيلةً في لباس أبيض ناصع يدل على طهرها. وشعرها الأسود الفاحم مرسل حتى وسطها، ينبعث من عينيها البراقتين شعاع الشجاعة والنبل.
وبينا هي على درجات المقصلة إذ عنت لها أفكار فطلبت قرطاساً وقلماً لإثباتها، إلا أن طلبها رفض. ولن نعرف بطبيعة الحال ماهية هذه الأفكار التي نادتها ساعة الموت فلم تتمكن من تلبيتها.
بعد أسبوع من إعدام مانون عثر رجل على جثة قائمة إلى بعض الأشجار وقد امسكها بالشجرة سيف قد نفذ إليها من قلبه وعند قدمه ورقة خط عليها ما يأتي: (أنا رولان، لم أترك فرصة تمر دون اقتناصها في سبيل إسعاد وطني. أقدمت على إزهاق روحي لا من خوف ولا وجل، ولكن احتجاجاً على إعدام زوجي. فرغبت عن الحياة التي دنستها الجريمة).
حقاً إن هذه الصورة تمثل نهاية قاسية لفصل مزعج من فصول التاريخ الإنساني.
عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب
فن التصوير عند العرب
للأستاذ محمود خيرت
ضرب العرب بسهم وافر في الأدب والاجتماع والفلسفة والسياسة والفلك والكيمياء والطب وتخطيط البلدان وغير ذلك، فكانت مدنيتهم رائعة لم ينكرها المنصفون من علماء الغرب الذي نقلها وبني عليها
والى جانب هذه الفنون فن الزخرفة والعربيات التي يقوم أساسها على نبات عرف العرب كيف يبرعون في تعديد أوضاعه الهندسية براعة أثارت إعجاب هؤلاء العلماء الذين شهدوا لهم أيضاً بعلو كعبهم في فن الإنشاء والعمارة كما تنطق به جوامع القاهرة وقصر الحمراء بالأندلس وغيرها مما يعد من أعاجيب الآثار.
نعم، إن الطراز العربي غير مبتكر ابتكاراً لأنهم حين هبطوا إلى مصر والأندلس ووقعت عيونهم على آثار الفن البيزنطي فيهما استخلصوا منه عنصراً لطرازهم، وحسبهم أنه مع تصويره للروح العربية جمع بين المقدرة والحسن والرشاقة.
وهكذا برهن العرب على مقدرتهم الفنية وعلى تسامحهم واحترامهم تلك الآثار فلم يعبثوا بها كما فعل (الانكوكلاست) أولئك النساك المتطرفون بآثار بيزنطة لما سيطروا على الحكم بها في القرن التاسع وصدر القرن العاشر، إذ قضوا على الفن المسيحي فهشموا تماثيله وشردوا فنانيه حتى قصد بعضهم إلى اكس لاشابيل للخدمة في بلاط الملك شرلمان.
تلك هي شهادة أولئك العلماء في العرب بالنسبة لفني الزخرفة والإنشاء والعمارة، ولكن الذي نعرض له اليوم هو، هل زاول العرب أيضاً فن التصوير، وهل برعوا فيه كما برعوا في غيره؟ وهل كان من بينهم أساتذة مهرة كالذين ظهروا في أوروبا من عصر النهضة إلى الآن؟
أكثر الباحثين يذهبون إلى أن التصوير كان محرماً على المسلمين، وأن هناك أحاديث نبوية بهذا المعنى منها حديث:(أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون).
وقبل أن نطرق هذا البحث نلفت النظر إلى مبلغ تبجح الغربيين بأنهم هم المنفردون بفن التصوير والأساتذة المبرزون فيه، لأن فن قدماء المصريين ما كان ليتجاوز مجرد التخطيط، على حين أنهم هم الذين اهتدوا إلى فكرة الظلال بأنواعها مما جعلهم يخرجون
الصور ناطقة بأصولها المأخوذة عنها. ولكنها دعوى تستوقف نظر الباحث هنيهة، لأن الفرس لم يفتهم أيضاً وضع هذه الظلال وكتبهم المصورة بمختلف دور الكتب شاهدة بذلك. بل إن مما لا يصح أن يفوتنا ما جاء بكتاب كليلة ودمنة بالصفحة 64 طبعة سنة 1924 الأميرية، وهو:(. . . كالمصور الماهر الذي يصور على الحيطان صوراً كأنها خارجة وليست بخارجة، وأخرى كأنها داخلة وليست بداخلة) مع أن هذا الكتاب ترجمة ابن المقفع عن نسخة فارسية ترجمت بدورها عن أصل هندي قديم كما يفهم مما جاء بصدر هذا الكتاب. وإذن فالفضل الأول لابتكار الظلال التي هي الوسيلة كلها إلى استنطاق الطبيعة، إنما يرجع إلى الشرق وحده، لأن الوصف الذي نقلناه عن كليلة ودمنة لا يخرج عنه أحدث تعريف للرسم عند الغربيين، وهو إيجاد أنجاد وأغوار على سطح أملس بحيث إذا مررت بيدك من فوقه لا ترى لذلك أثراً.
ولقد كان انفراد الشيعيين على ما يظهر دون السنيين بهذا الفن مما ساعد على الاعتقاد بتأثير تلك الأحاديث الشريفة وفهمها على غير حقيقتها.
وأغلب الظن أن هذه الأحاديث لم تقصد إلا التماثيل مما كان شائعاً في الجاهلية بشيوع الوثنية وقضى الإسلام عليها لتنافرها مع أصول التوحيد. ومما يجعل هذا الفهم أقرب إلى الحقيقة ما رواه المسيو ال. جاييت في كتابه عن الفن الفارسي في باب التصوير من أنه كان بدمشق والقاهرة وبغداد مدارس راقية خاصة بالتصوير كان يقصدها الطلاب من كل صقع، وأنه كان هناك أساتذة بارعون يلقنونهم بها أصول هذا الفن كانوا محل إعجاب الخلفاء والسلاطين والوزراء، وكثيراً ما زينوا لهم قصورهم بصور حائطية
ويؤيد هذا ما جاء بخطط المقريزي بالصحيفة 318 من الجزء الثاني طبعة بولاق فقد قال عن جامع القرافة (جامع الأولياء في عهده) إن: (موقعه كان يعرف في القديم عند فتح مصر بخطة المغافر، بنته السيدة المعزية سنة 366، وهي أم المعز بالله نزار ولد المعز لدين الله على نحو بناء الجامع الأزهر، وأن بابه الذي يدخل منه، ذا المصاطب الكبير الأوسط، تحت المنار العالي الذي عليه، مصفح بالحديد إلى خط المقصورة والمحراب من عدة أبواب عدتها أربعة عشر بابا مربعة مطوبة الأبواب قدام كل باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف، وهو مزوق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ،
وفيه مواضع مدهونة، والسقوف مزوقة ملونة كلها، والحنايا والعقود التي على العمد مزوقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبنى المعلم المزوقين شيوخ الكتامي والنازوك.)
ثم قال:
(وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوقة في منحني حافتيها شاذوران مدرج بدرج وآلات سود وبيض وحمر، وخضر وزرق وصفر، إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها شائلاً رأسه إليها ظن أن المدرج المزوق كأنه من خشب كالمقرنص. وإذا أتى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أول القوس منهما ورفع رأسه رأى ذلك الذي توهمه مسطحاً لا نتوء فيه وهذا من أفخر الصنائع عند المزوقين. وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم، وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها فما يقدرون. وقد جرى مثل ذلك للقصير وابن عزيز في أيام البازوري سيد الوزراء الحسن بن علي بن عبد الرحمن، وكان كثيراً ما يحرض بينهما ويغري بعضهما على بعض لأنه كان أحب ما إليه كتاب مصور، أو النظر إلى صورة أو تزويق. ولما استدعى ابن عزيز من العراق أفسده، وكان قد أتى به في محاربة القصير، لان القصير قد يشتط في أجرته ويلحقه عجب في صنعته وهو حقيق بذلك لأنه في عمل الصورة كابن مقلة في الخط. وابن عزيز كابن البواب وقد أمعن ذلك في الكتاب المؤلف فيه، وهو طبقات المصورين المنعوت بضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس
وكان البازوري قد أحضر بمجلسه القصير وابن عزيز، فقال عزيز أنا أصور صورة إذا رآها الناظر ظن أنها خارجة من الحائط، فقال القصير، ولكن أنا أصورها فإذا نظرها الناظر ظن أنها داخلة في الحائط، فقال هذا عجب، وأمرهما أن يصنعا ما وعدا به فصورا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين، هذه ترى كأنها داخلة في صورة الحنية، وتلك ترى كأنها خارجة من صورة الحنية. . . . فاستحسن البازوري ذلك، وخلع عليهما ووهبهما كثيراً من الذهب.
وكان بدار النعمان بالقرافة من عمل الكتامي صورة يسوف عليه السلام في الجب وهو عريان، والجب كله أسود إذا نظره الإنسان ظن أن جسمه باب قد دهن بلون الجب. وكان هذا الجامع من محاسن البناء. وكان بنو الجوهري يعظون بهذا الجامع على كرسي في
الثلاثة أشهر فتمر لهم مجالس بهجة تروق وتشوق)
وقد أشار أيضاً إلى اللوح الحائطية التي من تصوير أبي بكر المحتسب سنة 365 في أول عهد الدولة الفاطمية، وكذلك إلى صور احمد بن يوسف المشهور بالأوسطي (أي الفنان) وكذلك صور محمد بن محمود. وإنه كان في عهد السلطان بيبرس رجل اسمه ابن دايا كان يشتغل بالسياسة والتصوير، حتى أنه لما عين بأمر السلطان سفيراً لدى بركه الأمير المغولي حمل إليه ثلاث لوحات من عمله تمثل مواسم الحج بمكة
نخرج من رواية المقريزي هذه بأن فن التصوير لم يكن متداولاً عند الفرس وحدهم، بل عند العرب أيضاً، وأن أساتذته كانوا مهرة تدل آثارهم كالشازوران الذي بأحد طرفي القنطرة والراقصتين، على إلمامهم بفن المنظور والتأليف كما في صورة يوسف عليه السلام وهو في الجب. وأن هؤلاء المصورين وإن كانت أكثر آثارهم حائطية، إلا أنهم فكروا أيضاً في التصوير فوق لوحات مستقلة كما رأينا عند الكلام على ابن دايا، وأن هؤلاء الفنانين كانت لهم مكانة في نفوس السلاطين والوزراء، كما أن العناية بآثارهم بلغت حداً بعيداً، حتى أنها كانت تزين بها الجوامع مما يدل على أنهم كانوا لا يأخذون بحرفية الأحاديث، ولكن بالغرض منها
أما كتاب ضوء النبراس الذي بحث في سيرة أولئك المصورين فلا ندري إذا كان من وضع المقريزي أو وضع غيره، لأن ذلك غير واضح في عبارته، وعلى كل حال فإن فقدان هذا الكتاب مما يدعو إلى الأسف الشديد.
محمود خيرت بقسم قضايا المالية
الموسيقى الشرقية
بقلم منير الجم الطرابلسي
- 1 -
اطلعت بالأمس على مقالين ممتعين في (الرسالة) الغراء حول فن الموسيقى: أحدهما للأستاذ قدري حافظ طوقان، والآخر للأستاذ عبد العزيز البشري، فسرني منهما أن يطريا فن الموسيقى العربية، ويتغنيا بعبقرية من اشتغلوا بهذا الفن الجميل من قدامى ومحدثين؛ أقول وأؤكد القول: بأنني جد مغتبط بمقاليهما كعزاء للفن المغبون. . .
ولقد رغبت ان أشاركهما فيما أبدياه من العواطف السامية نحو موسيقانا، فكتبت في عجالتي هذه نبذة عامة عن تطور الموسيقى الشرقية في العهد الأخير، وما طرأ عليها من الإصلاح والتجديد، كموسيقى يغار على الفن، ويؤدي نحوه الواجب المحتوم
- 2 -
كانت الموسيقى في جميع العصور مقياساً لروحية الأمم، ورمزاً لأخلاقها ورقة طباعها، وإذا كان للشعر والأدب والنحت والتصوير وغيرها من الفنون منزلة سامية في النفوس، فللموسيقى رتبة أسمى وأعلى، وإذا كان لهذه الفنون أياد بيضاء على تهذيب الطباع الإنسانية، وصقل عواطفها، فأحر بالموسيقى أن تنال السبق في هذا المضمار، إذ تتعدى ذلك إلى شفاء بعض الأمراض، وطرد الهموم من النفوس، ومعالجة الحيوان والتلطيف من شراسته ووحشيته، فاسمها مقرون على الدوام بالروعة والاعتبار. . .
نشأت الموسيقى في دورها الأول مع الإنسان الساذج المقلد لمظاهر الطبيعة الفاتنة، فاندفع بميله الغريزي، وعواطفه الكامنة لإتقان هذا التقليد المستحب اللذيذ، حتى انقلب على مر العصور إلى فن جميل له مكانته بين الفنون.
عنيت الأمم الغابرة من مصريين ويونان ورومان، وصينيين وهنود ويابان وفرس وعرب بالموسيقى عناية قصوى جعلتها تتطور في أحضانها بخفة ولباقة، حتى وصلت إلينا بحلة قشيبة؛ وما أن افترق الشرق عن الغرب حتى كانت موسيقى الشرق غير موسيقى الغرب؛ طارت الأولى في سماء الروح والعواطف، ثم ما لبثت أن هبطت قليلا، فلا هي بالهابطة
ولا هي بالصاعدة، متقلقلة بين الصعود والهبوط؛ وأما الثانية فلا تزال جادة في طريق المجد، تقطع مراحل وأشواطاً من التقدم، وغدت لدى الذوق الغربي أسمى وأشهى ما يلذ للسمع ويستطاب.
- 3 -
بعد أن انتقلت الموسيقى إلى العرب برعوا فيها، وجددوا ما بلي منها، وبقيت في عهدهم زاهية ببغداد ومصر والأندلس وغيرها من البلاد العربية حتى دالت دولة العرب، فقبعت في زاوية الإهمال حقبة من الزمن، تترقب من ينتشلها من وهدتها، ويقيلها من عثارها بعد ذاك العز والمجد، حتى قيض لها منذ قرون تقريباً من يذود عن حقها المهضوم ويرفع من شأنها ولو قليلا أمثال الأساتذة المرحومين: عبده الحمولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، وعبد الحي حلمي، والشيخ سلامة حجازي الذي نبغ في الغناء المسرحي وانفرد به، وكذلك احمد الليثي، وأمين بنايه، وإبراهيم سهلون، وغيرهم من عظماء الفن، ومشاهير الملحنين والعازفين الذين نهضوا بالموسيقى العربية نهضة مباركة لا بأس بها، وخاصة في قسم الغناء والإنشاد؛ ثم كان منهم النابغة المرحوم الشيخ سيد درويش الذي يعد من المجددين، وإليه يرجع الفضل في تعديل فن الغناء العربي تعديلا لطيفا، وهو الذي عنى بنغمة (الحجاز كار كردي) التركية، واستعملها في كثير من أغانيه وأدواره الخالدة، فزاد الفن بذلك عذوبة ورقة، وكان بحق آية في العبقرية والنبوغ. . . وأخيراً جاء نابغتنا الشاب الأستاذ محمد عبد الوهاب وأمثاله، وهو مجدد بكل ما في الجدة من معنى، وقد أضاف إلى الفن ما أضاف من عبقرية فذة تتجدد، ونبوغ مضطرم يزكو، ولنا كبير أمل بجهوده الفنية التي ستسمو إن شاء الله بالموسيقى إلى أقصى مراتب النجاح.
مازال الأستاذ محمد عبد الوهاب يخدم الفن خدمة يشكر عليها ويثاب، فجدد منه أصولاً، وأصلح فيه أنواعاً، ثم أضاف إليه أقساماً طريفة من الأنغام الإفرنجية، إلى غير ذلك من التجديد الموافق للذوق الشرقي والعربي، وغدت اسطوانات أغانيه تسمع حتى في بلاد أوربا بكل إعجاب، يشاركه في هذا التجديد نخبة صالحة من غواة الفن، وجمعيات ونواد فنية أسست في مصر وسوريا وغيرهما، يجاهدون جميعاً في تعزيز الموسيقى الشرقية لتستعيد مكانتها الأولى، ويكون لها الصدر في الموسيقى العالمية
- 4 -
هذا في مصر وسوريا وبعض البلاد العربية الأخرى، وأما في البلاد التركية، فقد وجدت الموسيقى الشرقية منتجعاً خصباً، فتطورت في سنين قلائل، حتى لتضاهي كل موسيقى عالمية، والحق يقال: أن للأتراك فضلا كبيراً على هذا الفن، فقد اخترعوا أنغاماً لم تكن تعرف من قبل، وحسنوها وهذبوا كثيراً من الألحان، وجعلوا في موسيقاهم أنواعاً منوعة من القطع الفنية الخالدة، ونبغ لديهم عظماء أفذاذ، أمثال الأساتذة المرحومين: حافظ، ومونلا عثمان، وقره قاض القديم، ووسيلاكي المغني المشهور، وعثمان بك، وعاصم بك، والطنبوري جميل بك، و (الكمنجاتي) طاتيوس، وواسلاكي، وغيرهم ممن أكسبوا الفن كنوزاً ثمينة لا تقدر، وقد جاء من بعدهم مجددون معاصرون فأدخلوا تحسينات جمة عليه، ولقحوا بعض أقسامه وأجزائه بشيء من الأنغام الإفرنجية اللطيفة، كما أنهم أضافوا فن تأليف الأصوات على فرع من موسيقاهم، ولا سيما دار الفنون والموسيقى في الأستانة، التي تعد في طليعة المجاهدين في سبيل ترقية الموسيقى الشرقية وتعزيزها.
وأما في بلاد فارس والهند والصين وغيرها، فالموسيقى مازالت مهملة أو كالمهملة، إلا في بلاد اليابان وشرقي الصين فآخذة في التقدم السريع، غير أن الموسيقى الغربية طغت عليها، وتكاد تكون معها في صراع عنيف، حيث لكل منهما أحزاب ومشايعون، والغريب في الموسيقى الشرقية هناك أنها تكاد تضارع الأنغام العربية والتركية في اللهجة والأصول، فقد ذكر صديق لي أنه كان منذ بضع سنوات في بلدة شنغاي من أعمال الصين الشرقية، وبينما كان ماراً في حي صيني سمع أنغاماً عربية من مقام (الحجاز) فظن لأول وهلة أن العازف على الآلة ربما كان عربياً، وفرح لهذه المصادفة، ورغب أن يجتمع به، ولشد ما كانت دهشته حينما وجده صينياً عريقاً في الصينية، لا يدري من أمر العرب شيئاً، مما يدل على أن لإيحاء الشرق على سكانه في كل صقع أثره الشديد حتى بموسيقاه العذبة.
- 5 -
يعيب الغربيون موسيقانا بالجمود والتشابه والتكرار، ويتهموننا بقلة الأنواع الموسيقية، وعدم تأليف الأصوات، وإدماجها في القطعة الموسيقية جملة واحدة ولئن كان هذا النقص
معيباً في موسيقانا، فإن قليلاً من الجهد والعناية يذهب به، وأنني لأرى أن هذا النقص الذي نعنيه لم يحصل من التهاون والإهمال، بل هي طبيعة الشرق الهادئ توحي لموسيقاه ألطف الأنغام الفردية العذبة.
إنني لا أنكر على الغرب محسناته في موسيقاه، كلا، ولا أنكر عليه التجديد الفني الذي أضافه عليها، فجعلها في مراتب سامة تفوق حد الإبداع، كلا، ولا أنكر عليه أيضاً استفادة الموسيقى الشرقية والعربية من هذا الرقي والتجديد، ولكن ذلك لا يمنعني من الجهر بجمال الموسيقى الشرقية اللطيفة إذا ما بذلنا في سبيلها جهداً ومثابرة وإخلاصاً، ولا سيما وهي العذبة بأنغامها، الزاخرة بألحانها، الطافحة بأسمى العواطف والشعور. .!
- 6 -
إننا إذا دققنا في الأنواع الموسيقية لدينا وجدناها ضئيلة جداً بالنسبة إلى غزارتها في الموسيقى الغربية، يؤيد ما يعيبنا به الغربيون وهي على التقريب كما يلي: الموشحة، الليالي، الدور، القصيدة، الغناء المسرحي، الطقطوقة، المواليا.
فالموشحة: - قطعة غنائية من أرقى أنواع الغناء، إذا ما كانت متينة اللغة والمعنى، وليس كما يمسخها بعض المغنين بلغة ركيكة، وألفاظ سمجة، وتطويل جاف ممل. . .
الليالي: - (يا ليل يا عين) فهذه لا حدود لها، تابعة لشعور المغني أو العازف، وسمو إحساسه في الأنغام، وقدرته على الانتقال بينها بلباقة وأصول، حتى ينتهي إلى ما بدأ منه، وإذا كانت لموسيقانا مزية تنفرد بها، فتكون من هذه الناحية، إذ يعجز غيرها عن ترديد (الليالي) الإلهامية، وعزف (التقاسيم) الروحية ارتجالاً، ما لم تكن مسجلة ومخطوطة، أو محفوظة من سابق عهد.
الدور: - قطعة غنائية مركبة من جزأين: الأول يسمى (مذهب)، والثاني (دور) وفي الأخير تتعدد الأنغام اللذيذة المثيرة للطرب والسرور، وما زالت الأدوار لها مكانتها في الموسيقى العربية، وهي آخذة في التقدم والرقي، من متانة في اللفظ، وطرافة النغم، مما يجعلها في الصف الأول.
القصيدة: - قطعة شعرية تنشد بألحان معينة، وتكون عذبة مطربة إذا كانت محتوية على معان سامية وأنغام مؤتلفة، وقد أصبحت في الآونة الأخيرة من الأنواع الراقية نظماً ونغماً،
يعالجها الشعراء والموسيقيون بكل همة ونشاط.
الغناء المسرحي: - قطعة غنائية تمثيلية، لها أصول خاصة في الغناء، بحيث تتناسب الأنغام مع معاني كل جزء منها، وتوافق الغرض المقصود؛ فالعتاب - مثلاً - في بيت شعري له نغم يناسبه، وكذا الاستعطاف له لحن يوافقه، وتزيد بذلك وضوحاً وتأثيراً في النفوس؛ وقد عني الشعراء والموسيقيون بهذا الضرب من الغناء، فنظموا ولحنوا قطعاً تناسب المقام أمثال المرحوم أمير الشعراء شوقي بك، والأستاذ محمد عبد الوهاب، وغيرهما من غواة الفن، وهواته ومجدديه.
الطقطوقة: - قطعة غنائية حاوية على مذهب ودور بسيط، فالمذهب هو القطعة الأولى منها اللازمة للدور في نهاية كل جزء من أجزائه، ولغتها على الغالب عامية، وهذا هو موضع العيب الفاضح فيها.
المواليا: - وهو في نظري أشد جموداً من غيره، حيث الركاكة في الألفاظ، والترادف في المعنى الواحد للعشق والهيام المبتذل، ولا يخرج عن كونه أنيناً متواصلاً، ونواحاً مؤلماً، لا أثر للحياة فيه، وموجباً للحزن والأسف الشديد؛ ولدينا اليوم أيضاً نوع اسمه (المونولوج) أو (الغناء الوجداني) الذي اقتبس أخيراً من موسيقى الغرب، وقد برع فيه الأستاذ محمد عبد الوهاب وأبدع فيه أيما إبداع.
- 7 -
إن الأصوات تختلف في سيرها أثناء العزف أو الغناء، فتكون أنواعاً متنوعة يسمى كل منها نغماً، فالأنواع الموسيقية الآنفة الذكر يتركب مجموعها اليوم من أنغام كثيرة اختصر على أهمها:
(1)
نغمات السيكاه (2) نغمات العشيران (3) نغمات العجم عشيران: - أوج - عراق (4) نغمات الراست: راست، نهاوند، حجاز كار، حجاز كار كردي (5) نغمات الديكاه: البيات، حجاز، صبا، عشاق، بيات شورى (6) سيكاه (7) جهار كاه (8) حسيني، إلى غير ذلك من الأنغام الكثيرة المستعملة في الموسيقى العربية.
وأما الأنواع الموسيقية لدى الأتراك فقريبة الشبه من العربية غير أن الأنغام لديهم أكثر وأغزر، زادت في مادة الموسيقى الشرقية زيادة تذكر، وخاصة عنايتهم الفائقة بتأليف
القطع الفنية التي تعزف على الآلات، فهي بحق قطع خالدة جديرة بالإكبار والإعظام؛ ولقد استفادت الموسيقى العربية من هذه القطع الفنية الطريفة والأنغام الإضافية العذبة، ما جعلها مدينة إلى الموسيقى التركية مادة ومعنى، والأنواع المعروفة لدينا من هذه المعزوفات الفنية هي: البشرف، والسماعي، والدولاب فالبشرف: قطعة فنية غزيرة بالأنغام المنسجمة، مركبة من جزأين أو ثلاثة أجزاء أو أربعة، والجزء الواحد يسمى (خانه)، تعزف على الآلات الشرقية بواسطة (النوته) الرموز الاصطلاحية ضمن قوانين وأوزان محكمة كأوزان الشعر لا يمكن للعازف أن يشذ أو يخرج عنها، ويكون عزفها عادة أبطأ من (السماعي)، وهي على أنواع من الوزن والقياس والعزف، لا مجال لذكرها الآن.
وأما (السماعي) فهو كالبشرف في أنغامه وتركيبه، غير أنه أصغر منه في مجموعه وأسرع في العزف، وله أوزان ومقاييس تختلف عنه، وأما (الدولاب) فهو قطعة فنية صغيرة بأوزان معلومة، تعزف عادة قبل الشروع في الغناء تمهيداً للنغم المنوي التغني به؛ وتوجد غير ذلك ضروب مختلفة، مقتبسة أصولها من الضرب: في الرقص والتمثيل والوصف. . . الخ كالفالس - مثلاً -، والبولكة، والمارش من القطع الفنية المصورة لنوازع النفس، ومظاهر الطبيعة الفاتنة، ووحي جمالها السامي تصويراً دقيقاً موافقاً بعد تعديلها للذوق الشرقي؛ ومن جملة ما اقتبس من الموسيقى الغربية: الرموز أو العلامات الموسيقية (نوته) التي تكتب بها المعزوفات الفنية، فخدمت الموسيقى الشرقية خدمة جلى، وكان لها الأثر الظاهر في تقدمها وحفظ كنوزها من الفناء. . .
- 8 -
وأما الآلات المستعملة لدينا في الموسيقى الشرقية عامة فهي: العود، والقانون، والطنبور، و (الكمان) والناي، والمزمار، والدف؛ والطبلة، ويوجد آلات شرقية وعربية غير هذه كثيرة ولكنها مهملة، أو غير صالحة لعزف القطع الفنية؛ ثم أضيفت آلات حديثة من الموسيقى الغربية خاصة لعزف قطع (الهارموني) زيادة في التحلية عند اللزوم، أو لعزف القطع الحماسية. . . . في المعسكرات الحربية كالبيانو والكمان الأكبر والساكسوفون والفيفرا إلى غير ذلك من الآلات الوترية، والنفخية والهوائية، التي ليس لها - ويا للأسف أسماء عربية حتى اليوم!!
وعلى هذا فالموسيقى الشرقية على العموم لا تزال بحاجة إلى جهود جبارة، وعزائم صادقة، وهي في دور نهضة مباركة تبشرنا بمستقبل قريب باهر.
حماه:
منير الجم الطرابلسي
6 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران
والكوميدية المقدسة
بقلم محمود احمد النشوي
الوطنية لدى الشاعرين
كأني بالمعري يختص رسالة غفرانه بخيال النعيم والجحيم. ومساجلة الشعراء والأدباء، والنحاة والرواة. ثم بالرد على ابن القارح والحديث عن بشار والمتنبي وصالح بن عبد القدوس والحلاج والصناديقي وغيرهم من المتأهلين والمتزندقين مما بدأه ابن القارح بالحديث عنهم في رسالته. فلم يكن في كل مواقف (رسالة الغفران) ما يثير في نفسه الحنين إلى الوطن، ولو أن موقفاً من مواقف رسالته ذكره بالوطنية أو تعمد هو أن يخلق المواقف في تضاعيف كلامه للحديث عن الوطن وآلامه كما كان يفعل دانتي لأرانا ضروباً من الحماس للوطن والتفاني في سبيله. . .
المعري رجل يريد أن يداعب وأن يسخر. يريد أن يذكر للناس غريب اللغة ونحوها وعروضها. ثم هو يخاطب صديقاً له فلم يكون ثمة مجال لذكر الوطن أو الحديث عن الوطنية. ولكن دانتي كان أهم أغراضه في رسالته بكاء الوطن. وإثارة الحمية في النفوس للأخذ بناصر الشعب الذي تمزقت أوصاله، ولعبت به الحروب الأهلية شنيع الألاعيب. فكنا نتلمس الوطنية في كل خطوة من خطوات دانتي. . ونفقد ذلك في رسالة الغفران. فهل ضعفت نزعة الوطنية عند المعري؟ ألم يطرب للمعرة والشام ولتلك الربا والبطاح؟ لقد كان أبو العلاء يطرب لدياره وبلاده. وكان مغرماً أشد الغرام بوطنه ومنبته. فنحن نراه يكره الخلود ويشيح عنه بوجهه إن كان مع الخلود انفراده عن أهله ووطنه. ثم هو يسخط على السحائب إن اختصته بغيثها ولم تهطل على كل بلاده تبل ثراها وتحيي مواتها فيقول:
ولو أني حبيت الخلد فردا
…
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا نزلت علي ولا بأرضي
…
سحائب ليس تنتظم البلادا
ثم يتمنى النعيم لوطنه وإن فاته نعيمه. وتنزع نفسه أن يعود لبلاده وإن كان في يوم الحشر، ويوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت فيقول:
فيا وطني إن فاتني بك سابق
…
من الدهر فلينعم لساكنك البال
فإن أستطع في الحشر آتك زائرا
…
وهيهات - لي يوم القيامة أشغال
ثم نراه يقيم في بغداد والكرخ، وبين الرصافة والجسر، تلك التي شفه الحنين إليها منذ نعومة أظفاره. وكان يتكلف بها في شرخ الشباب، فحققت له الكهولة أمنيته. قال:
كلفنا بالعراق ونحن شرخ
…
فلم نلمم به إلا كهولا
بيد أنه لم تكد تمر عليه بضع ليال حتى حن لوطنه وتمنى قطرة من ماء المعرة يطفئ بها ظمأه فقال:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما
…
رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعِرة قطرة
…
تغيث بها ظمآن ليس بسال؟
لقد كان أبو العلاء يذكر وطنه كلما لمع السراب إبان الظهيرة وكلما جن عليه الليل واحتوته الظلمات، ويستعذب ماء بلاده وإن كان آسناً. عن ماء الكرخ وإن كان كالصهباء. فيقول:
إذا جن ليلى جن لبى وزائد
…
خفوق فؤادي كلما خفق الآل
وماء بلادي كان أنجع مشربا
…
ولو أن ماء الكرخ صهباء جريال
ولم يكف المعري أن يصدح بذكر بلاده وحده، بل أشرك معه نياقه تلك التي تمنت قويقا والصراة حيالها. والتي كانت تطرب لضوء بارق الشام وأن تعالي عن مستوى نظرها حتى ليسرها أن تقطع رؤوسها وترفع فوق أسنة الرماح لتشيم بارق الوطن، والتي كانت تتلو زبوراً في الحنين إليه، مترنمة بقصائد أودعتها كل أشواقها لديارها فقال:
تلون زبوراً في الحنين منزلا
…
عليهن فيه الصبر غير حلال
وأنشدن من شعر المطايا قصيدة
…
وأودعنها في الشوق كل مقال
. . ولقد كان المعري يستطيب الحديث عن بغداد وعما يحف بها من المشاهد. فيقول:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا
…
وموقد النار لا تكرى بتكريتا
ويجعل حفظ عهود أهلها من صلواته فيقول:
أعد من صلواتي حفظ عهدكم
…
إن الصلاة كتاب كان موقوتا
ويتمنى أن تكون العراق تربته. وبها منيته. فيقول:
وكان اختياري أن أموت لديكم
…
حميداً فما ألفيت ذلك في الوسع
فليت حمامي حم لي في بلادكم
…
وحالت رمامي في رياحكم المسع
وجعل الإماء الوكع من بغداد أفصح من فصحاء البادية طبعوا على البيان واللسن. فقال:
وما الفصحاء الصيد والبدو دارها
…
بأفصح قولاً من إمائكم الوكع
وتمنى أن يأتي على ما في دجلة من ماء شرباً وجرعاً ليطفئ غلة حنينه نحو العراق فقال:
ألا زودوني شربة ولو أنني
…
قدرت إذا أفنيت دجلة بالجرع
ويرجو أن يعود إلى بغداد والكرخ، والرصافة والجسر، وألا يكون سيره عن ديارهم كرأي الملحد لا يرجو معادا ولا ينتظر إياباً للحياة، بل رأى المؤمن يثق بالرجعى فيقول:
فلا كان سيري عنكم رأي ملحد
…
يقول بيأس من معاد ومرجع
ثم يألم من الليالي التي تضن عليه بالرجوع إلى بغداد، فيقول:
أظن الليالي. وهي خود غوادر
…
بردي إلى بغداد ضيقة الذرع
ثم يدعو بالسلامة والنجاة لعارض تحدوه بوارقه يؤم الكرخ فيقول:
يا عارضا راح تحدوه بوارقه
…
للكرخ سلمت من غيث ونجيتا
ثم يستسقى لدجلة ويفي بعهده فيحرم على نفسه شرب مياه الأنهار من بعده كما حرم طالوت على قومه الشرب من النهر الذي ابتلاهم به ربهم فقال: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني. وذلك حين يقول أبو العلاء
سقيا لدجلة والدنيا مفرقة
…
حتى يعود اجتماع النجم تشتيتا
وبعدها لا أريد الشرب من نهر
…
كأنما أنا من أصحاب طالوتا
ذلك هو طرب المعري للعراق وتعلقه بدجلة، فهل أنساه حب المعرة نعيم بغداد؟. وهل أنساه حب الشام حب العراق؟ كلا! فقد كانت لدى المعري وطنية يراها في كل شيء من حوله حتى في النياق تتلو زبور الوطنية. وإنجيل الشوق إليها، وإن لم يذكر ذلك في رسالة غفرانه، ولم يتخيل عذاباً أليما لخائني أوطانهم كما تخيل دانتي الذي افتن في وصف هذا الصنف من الناس وتخير لهم أٍفل دركات الجحيم. وأشدها هولاً وإيلاما.
وموعدنا بالحديث عن وطنية دانيت العدد القادم
يتبع
محمود احمد النشوى
أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
مقدمة بقلم الأستاذ احمد أمين
أهبت في مقال سابق بالرسالة، إلى الشيوخ والشبان أن يجدوا في تقييد ما عرف من العصر السابق لعصرنا من ترجمة لرجاله، وتدوين لأحداثه، وأشرت إلى أن كثيرين من عظماء شيوخنا أمثال أستاذنا أحمد لطفي السيد بك، والأستاذ إبراهيم الهلباوي بك، والسيد محمد الببلاوي، وسعادة احمد زكي باشا، وفضيلة الشيخ محمد بخيت، والأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، والصحفي العجوز وأمثالهم، قد شاهدوا من عظماء الناس في مصر، ووقعت لهم من الحوادث، ومر أمامهم من المناظر ما لو دون لكان ثروة لا تقدر، ولكان حلقة اتصال بين ما دونه المؤرخون قبلنا كالجبرتي، وما يراه جيلنا. وقلت إن في نفوسهم كثيراً من المعلومات تضيء السبيل للجيل الناشئ، وإن من الخسارة العظمى أن نسكت عن تدوينها، وألا نسرع في تقييدها، فعلى هؤلاء السادة أن يدونوا في ذلك مذكراتهم، وعلى الشبان أن يلحوا في رجائهم، وأن يستملوهم ما في ذكرياتهم، ضنا بتاريخ أمتهم، وحرصاً على فائدة الجيل المقبل
وقد سرنا أن يقوم صاحب السعادة احمد شفيق باشا بنشر مذكراته، وفيها كثير من المعلومات القيمة التي تلقي نوراً على تاريخ الجيل الماضي؛ وحبذا لو نحا نوه بقية رجالاتنا، فيكملوا النواحي الأخرى الاجتماعية التي لم يتصل بها شفيق باشا، فكل عظيم من هؤلاء العظماء كانت له نواح اجتماعية خاصة هو بها أكثر علماً وأوسع معرفة.
ويظهر أن هذه الفكرة نفسها كانت عند المرحوم احمد تيمور باشا، فقد بدأ بترجمة رجال القرن الرابع عشر، ولكن مع الأسف الشديد لم يتمه، وقد طلبت من صديقي الأستاذ محمود تيمور أن يتفضل فيسمح لي بالاطلاع على ما دونه في ذلك المرحوم والده، فقبل رجائي وأعارني الجزء الخاص بذلك - فإذا هو مجلد قد دون فيه بخط المؤلف اثنتان وسبعون صفحة، وقد ترجم فيها لأربعة وعشرين رجلاً من أعيان القرن الرابع عشر الهجري باعتبار الوفاة، وإن كان أكثر حياتهم في القرن الثالث عشر
وأكثر من ترجم لهم المؤلف من الأدباء كعبد الله نديم والشيخ شهاب، والشيخ على الليثي،
أو من العلماء كالشيخ الأشموني والشيخ المهدي العباسي، والشيخ حسن الطويل، والشيخ أبي خطوة، والشيخ حسونة، لأن المؤلف رحمه الله كانت حياته حياة علم وأدب، فعني بمن تتصل بهم حياته، وقد ترجم أحياناً لرجال السياسة كسلطان باشا، والغازي احمد مختار باشا
وقد أفاض المؤلف في بعض التراجم فخرجت كاملة مستوفاة كترجمة عبد الله نديم وسلطان باشا، وبعضها قاصرة كترجمة الغازي مختار باشا، وكل التراجم - مع ذلك - ذخيرة أدبية وتاريخية هامة، وفيها من المعلومات مالا نجده في سواها، ومن من المؤلف أعلم برجال هذا العصر وشيوخه؟
من أجل هذا اقترحت على صديقي الأستاذ الزيات أن تنشر هذه التراجم تباعاً في الرسالة حتى ينتفع بها جمهور القراء - ولا يفوتني أن أنبه أن أربعا من هذه التراجم الأربع والعشرين قد نشرت في مجلة الهلال الغراء، ولكني لا أرى بأساً من إعادة نشرها حتى تكون المجموعة عند قراء الرسالة كاملة.
احمد أمين
عبد الله نديم أفندي
هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم، الأديب الألمعي، والخطيب المفوه، نادرة عصره، وأعجوبة دهره. ولد أبوه ببلدة الطيبة بمديرية الشرقية في شهر ذي الحجة سنة 1234هـ ثم انتقل إلى ثغر الإسكندرية، فكان في مبتدأ أمره نجاراً للسفن بدار الصناعة، ثم اتخذ له مخبزاً لصنع الخبز، ومات بالقاهرة في 4 رجب سنة 1310. وولد المترجم بالثغر المذكور في عاشر ذي الحجة سنة 1261 ونشأ في قلة من العيش، ومالت نفسه إلى الأدب، فاشتغل به واسترشد من أهله وطالع كتبه، وحضر دروس الشيوخ بمسجد الشيخ إبراهيم باشا، وكان قليل الاعتناء بالطلب، غير مواظب على الدرس، إلا أن الله وهبه ملكة عجيبة وذكاء مفرطاً، فبرع في الفنون الأدبية، وكتب وترسل، ونظم الشعر والزجل، وطارح الإخوان وناظر الأقران. ثم بدا له أن يتعلم صناعة للكسب، فتعلم فن الإشارات البرقية، واستخدم في مكتب البرق ببنها العسل، ثم نقل إلى مكتب القصر العالي، سكن والدة الخديو أيام ولاية ابنها إسماعيل باشا، وبقى به مدة عرف فيها كثيراً من أدباء القاهرة وشعرائها، مثل الأمير محمود سامي باشا البارودي، ومحمود أفندي صفوت الساعاتي، والشيخ احمد وهبي. ثم غضب عليه خليل أغا، أغا القصر، وكان في سطوة لم يبلغها كافور الأخشيدي، فأمر بضربه وفصله. فضاقت به الحيل ورقت حاله، حتى توصل إلى الشيخ أبي سعدة عمدة بداوي بمديرية الدقهلية، وأقام عند يقرئ أولاده، ثم تشاحنا وافترقا على بغضاء. واتصل بالسيد محمود الغرقاوي، أحد أعيان التجار بالمنصورة فأحسن منزله، وفتح له حانوتاً لبيع المناديل وما أشبهها. فكانت نهاية أمره أن بدد المكسب ورأس المال، وجعل يجوب البلاد وافداً على أكابرها، فيكرمون وفادته ويهشون لمقدمه، لما رزقه من طلاقة اللسان، وخفة الروح، وسرعة الخاطر في النظم والنثر، فيطوف ما يطوف ثم يأوي إلى دار الغرقاوي بالمنصورة، إلى أن ورد طندتا سنة 1293، واتصل بشاهين باشا كنج مفتش الوجه البحري إذ ذاك، ولاتصاله به سبب لا بأس من ذكره: وهو أن الباشا المذكور كان بينه وبين الشيخ محمد الجندي أحد العلماء بالمسجد الأحمدي صحبة وتزاور، وكان الشيخ يحب الغناء ويطرب له، ولذلك كان يستحضر فتى حلاقاً حسن الصوت ليغني له في داره، فأمر مرة أن يغني بحضرة الباشا، فغنى بقول المترجم:
سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه
…
وكفوا إذا سل المهند حاجبه
وعودوا إذا نامت أراقم شعره
…
وولوا إذا دبت إليكم عقاربه
ولا تذكروا الأشباح بالله عنده
…
فلو أتلف الأرواح من ذا يطالبه
أراه بعيني والدموع تكاتبه
…
ويحجب عني والفؤاد يراقبه
فهل حاجة تدني الحبيب لصبه
…
سوى زفرة تثنى الحشا وتجاذبه
فلا أنا ممن يتقيه حبيبه
…
ولا أنا ممن بالصدود يعاتبه
ولو أن طرفي أرسل الدمع مرة
…
سفيراً لقلبي ما توالت كتائبه
وكان كثيراً ما يتغنى بها، فطرب الباشا طرباً شديداً، واستظرف قائل الأبيات وتمنى رؤيته، فأرسلوا له بالحضور. فلما حضر إلى طندتا، وواجهه استقبح صورته، إلا أنه أعجبه ظرفه وأدبه ومال إليه، فاتخذه نديماً لا يمل، ورفيقاً حيث حل. فلما استقرت به النوى وملأ يده من الباشا، استعداه على أبي سعدة الذي كان يقرئ أطفاله، وادعى أنه أخر له ثلاثين ديناراً من أجرة التعليم، فأمر الباشا بأشخاصه إلى طندتا، وألزمه أن يدفع للمترجم مائة جنية، فدفعها عن يد وهو صاغر. وكان مجلس شاهين باشا محط رجال الأدباء ومنتجع الشعراء والندماء، لا يخلو من مطارحات أدبية ومساجلات شعرية، وللمترجم بينهم المقام الأعلى والقدح المعلى. وحسبك ما وقع له من طائفة (الأدباتية) وهم مشهورون بالقطر المصري يستجدون الناس في الطريق بإنشاد الأزجال والضرب على الطبل، وأغلب أزجالهم مرتجلة في مقتضى الحال. فكان للمترجم معهم يوم مشهود ذكره في مجلة الأستاذ
ثم اتصل المترجم بالبيك التتونجي فجعله وكيلا على ضياعه، وما زال حتى لحق بالإسكندرية مسقط رأسه ومنبت غرسه، وكان منه ما سنقصه عليك
تلك خلاصة ترجمته في أول أمره ومبتدأ خبره، وكان القطر المصري في تلك الأثناء في اضطراب وهرج ومرج من اختلال الأحوال وفساد الحكام واعتلاء الإفرنج على الأهلين، وقد سئم الناس حكم إسماعيل باشا وتمنوا زوال دولته، فلما وفد المترجم على الثغر رأى لفيفاً من الشبان ألفوا جمعية سموها (بمصر الفتاة) يتآمرون فيها سراً خوفاً من بطش الخديو، فعرف منهم البعض، واشتغل بالكتابة في صحب الأخبار، فأعجب الكتاب بمقالاته، واقتدوا به في تحسين الإنشاء، وكان سقيما منحطاً في ذلك العهد. ثم سعى مع جمع من
الأدباء فألفوا جمعية سموها (بالجمعية الخيرية الإسلامية) سنة 1296 آخر سني إسماعيل باشا في الحكم وجعلوه مدير مدرستها. ثم عزل الخديو وتولى ابنه توفيق باشا، ففرح الناس وظنوا انفراج الأزمة. وجد المترجم واجتهد في إنجاح مسعاه في الجمعية حتى حمل الخديو على زيارة مدرستها، فزارها يوم امتحان تلاميذها، وجعلها في حماية ولي عهده عباس بيك، وأنعم لهم بالمدرسة البحرية يدرسون بها، وأجروا عليها من الحكومة مائتين وخمسين ديناراً في السنة مساعدة. وطفق المترجم يؤلف القلوب ويحض الأهلين على الالتئام بالمقالات والخطب ينفثها قلمه ولسانه، وألف قصة تمثيلية سماها (الوطن وطالع التوفيق) وأخرى سماها (العرب) شرح فيهما ما كانت عليه حالة القطر وما طرأ عليه، ثم مثلهما هو وتلاميذه بأحد ملاعب لثغر بحضور الخديو، فكان لهما تأثير كبير في النفوس، واشتهر المترجم وعلا كعبه، ولهج الناس بذكره، ثم طرأ فساد على الجمعية سبوه إليه فانفصل منها، وكان شرع في إنشاء صحيفة سماها (التنكيت والتبكيت) مزج فيها الهزل بالجد، ظهر أول عدد منها في 8 رجب سنة 1298، وظهر في أثناء ذلك وميض الثورة العرابية من خلل الرماد، فوافقت هوى في نفس المترجم لميله إلى الشهرة وبعد الصيت، فضموه إليهم وشدوا أزرهم به، فملأ صحيفته بمحامدهم، ودعا إلى القيام بناصرهم، وخطب الخطب المهيجة ونظم القصائد الحماسية، وندب الوطن ورثاه، وحض على الاجتماع والتكاتف ونبذ أضاليل الإفرنج، فأثرت قالته في النفوس وأشربتها القلوب، وادعى الشرف وانتسب إلى الإمام الحسن السبط رضي الله عنه، والله أعلم بتلك النسبة، فقد رأيت كثيرين ممن عرفوه ينكرونها. ثم أوقف صحيفته بعد أن ظهر منها ثمانية عشر عدداً آخرها تاريخه 23 ذي القعدة سنة 1298 وكانت أسبوعية تظهر يوم الأحد. وانتقل إلى القاهرة وهي جذوة من نار، وغير اسم صحيفته بأمر عرابي باشا كبير الثوار فسماها (الطائف) تيمناً باسم بلدة بالحجاز مشهورة، وتفاؤلاً بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب احمد فارس. واسترسل المترجم مع رجال الثورة حتى صار جذيلها المحك، وعذيقها المرجب، ولقبوه بخطيب الحزب الوطني. وقام سراة القطر وأعيانه يعقدون المجتمعات ويولمون الولائم للعرابيين ويدعون المترجم للخاطبة، فكانت له بها المواقف المشهودة، والأيام المعدودة، حتى استفحل الأمر وقامت الحرب بالإسكندرية بين الإنكليز والمصريين يوم الثلاثاء 25
شعبان سنة 1299. فسافر المترجم إليها مع جماعة من رؤساء الجند وبات بها ليلة، ثم لحق بعرابي باشا وقد انهزم إلى كفر الدوار، ثم انتقل معه إلى التل الكبير وهو ينشئ صحيفة الطائف بالمعسكر فيضمنها أخبار الانتصار ويحشوها بالأكاذيب تهدئة للأفكار، حتى وقعت الهزيمة الكبرى على المصريين بالتل الكبير، ففر عرابي باشا وعلي باشا الروبي ومعهما المترجم إلى القاهرة يوم الأربعاء 29 شوال من السنة المذكورة، واتفقوا على إرساله إلى الإسكندرية بكتاب يطلبون به العفو من الخديو فسافر به يوم الخميس، ولما وصل إلى كفر الدوار بلغه القبض على زعماء الثورة ودخول الإنكليز القاهرة. فعاد إليها ليلا وبقى في داره بجهة العشماوي إلى الصباح، وخرج مع والده وخادمه فركبوا عجلة وقصدوا بولاق، ورآه شاهين أفندي فؤاد المفتش بالمصرف العقاري، وهو من مماليك عباس باشا وآلي مصر فظنه غير مطلوب، قال ولولا ذلك لقبضت عليه. فلما وصلوا إلى بولاق ودعه أبوه واختفى هو وخادمه ولم يظهر لهما أثر، فأقام مختفياً نحو تسعة أعوام لا يهتدي إلى مكانه، وقد أعيى الحكومة المصرية أمره حتى جعلوا ألف دينار لمن يرشد إليه، وبثوا عليه العيون فلم يظفروا منه بطائل، فلما أعيتهم الحيل حكموا عليه بالنفي مدة حياته من القطر المصري، ويئس أصحابه من وجوده، وأشيع القبض عليه وخنقه سراً، ومنهم من أشاع موته حتف أنفه، ومنهم من أشاع هربه إلى بلاد الإفرنج، فعد اختفاؤه من الأمور الغريبة، ولا غرو فأمره غريب من أوله.
القبض عليه
وكان يتردد على بلدة الجميزة (مركز السنطة) رجل يقال له حسن الفرارجي كان منتظماً في العسكر، ثم استخدم جاسوساً سرياً، فأبصر رجلاً أنكر حاله لما رآه عليه من سيما الاختفاء، ورجح أنه عبد الله نديم، فكتب إلى الديوان الخديوي ينبئهم بوجود رجل من العرابيين مختف بالجميزة، وأسرع إلى ديوان الداخلية فأوضح لهم أمره فأعطوه ورقة بحليته، فلما تحقق منه أخبرهم به، فأمروا بالقبض عليه، وحضر من المديرية محمد أفندي فريد وكيل (الحكمدار) ومعه نفر من الشرطة ستروا ملابسهم بثياب أخرى، فأحاط بعضهم بالبلدة متفرقين، وصعد وكيل الحكمدار مع الآخرين على تل مشرف على أفنية الدور، وأحسن المترجم بتلك الحركة، فأوجس في نفسه خيفة، وأراد الانتقال إلى دار أخرى فأخذ
عيبته على، كتفه وصعد على سطح المكان فأبصره الذين على التل، فصاحوا وصوبوا بنادقهم عليه، وأمروه بالنزول فنزل، ثم أحاطوا بالدار، وطرقوا الباب طرقاً عنيفاً وأيقن المترجم انه مأخوذ لا محالة، ففتحه لهم، وواجههم متجلداً، فسأله محمد أفندي فريد عن اسمه فقال له: سبحان الله أتجهل اسمي وأنت مأمور بالقبض عليّ، أنا عبد الله نديم ذو الذنب العظيم، وعفو مولاي الخديو أعظم، سلمت أمري لله، فقبضوه هو وخادمه وأعماهم الله عن كتبه وأوراقه، ولولا ذلك لأصابه شر عظيم بسبب أهاجيه القبيحة في الخديو وأسرته، وكان القبض عليه في 29 صفر سنة 1309، ولم ينل الواشي به شيئاً من الجعل لفوات الأجل المضروب للمكافأة، ثم استاقوهما إلى المركز، وسألوه عمن اختفى عندهم، فلم يقر بأحد، وسألوا خادمه وضربوه، فأقر بالبعض ونقلوهما إلى المديرية بطندتا، فسجنا بعض أيام، ووكيل النيابة بالمحاكم يوالي سؤالهما، وانتهى الأمر بعفو الخديو عنه وعمن آواه ونفيه خارج القطر.
نفيه
فاختار يافا ثغر القدس الشريف ووصلها في غروب يوم الجمعة 12 ربيع الأول، ونزل عند السيد علي أفندي أبي المواهب مفتيها، ولما دخل دارهوعرفه بنفسه قام واعتنقه وضحك وبكى. فأقام عنده شهراً، ثم اتخذ له داراً وعرفه أعيانها وفضلاؤها، وأكرموه وواسوه جزاهم الله خيراً. ثم رحل رحلته إلى نابلس وسبطيه وقلقيلا وغيرها من البلاد الفلسطينية. واجتمع بطائفة السامرة واطلع على كتبهم ومعتقداتهم كما رأيته بخطه في كتابه أرسله لأحد أصدقائه في مستهل رمضان. ولم يزل مقيما بيافا حتى مات الخديو وتولى ولده عباس باشا في جمادى الثانية، فعفا عنه وأباح له العود إلى مصر. قال في آخر ذلك الكتاب (عزمنا على الحضور بعد العيد إن شاء الله تعالى، فإن موسم سيدنا موسى الكليم يعمل في نصف شوال، ولا أحضر حتى أزوره مرة ثانية فإنه صاحب الأمر بالعفو عني، وإن كان الظاهر خلافه، وذلك أني عند دخولي حضرته الشريفة أنشدته في الحال:
رجوتك يا كليم الله حاجا
…
أرجيها وقد حققت فضلك
فقل لي مثلما لك قبل أوحى
…
اله الخلق قد أوتيت سؤلك
فرأيته ليلا يقول لي (قم روح) ثلاثاً، وكانت ليلة 3 رجب وهو تاريخ صدور الأمر).
انتهى ما نقلته من خطه.
عودته إلى القاهرة
ولما عاد إلى مصر استوطن القاهرة، وأنشأ مجلة الأستاذ في شهر صفر سنة 1310، فبرزت موشحة ببديع مقالاته وغرر أزجاله وموشحاته. وبدت الوحشة في أثناء ذلك بين الخديو والإنكليز، وكان ما كان من عزله صنيعتهم مصطفى فهمي باشا كبير الوزراء ومعاكستهم فيما يريدون. فقام المترجم يستنهض الهمم ويحض على موازرة الخديو ونبذ طاعة سواه، وكتب في ذلك المقالات الطويلة بالأستاذ حتى أحفظ الإنكليز وخشوا من اتساع الخرق لمكانته السابقة من النفوس، وسعى حساده بما سعوا ولفقوا ما لفقوا، فأوقفوا مجلته في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة وأعادوه إلى يافا منفياً بعد أن أعطوه أربعمائة دينار، وأجروا عليه خمسة وعشرين كل شهر، واشترطوا أن لا يكتب بشأن مصر كلمة، ولم ينفعه الخديو لقصر يده.
نفيه إلى يافا
فلما استقر المترجم بيافا لم يسلم من السعاية به لدى السلطان، فأمر بإبعاده فعاد إلى الإسكندرية متحيراً، ولقد لفظته البلاد لفظ النواة، فسعى له الغازي احمد مختار باشا وساعده حتى قبله السلطان المعظم عبد الحميد بدار السلطنة، واستخدمه في ديوان المعارف ووظف له خمسة وأربعين ديناراً مجيدياً في الشهر، فأمضى بها بقية أيامه شريداً عن وطنه بعيداً عن أهله وخلانه حتى اشتدت عليه علة السل، فلقي حمامه في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 1314
وفاته
ودفن بمقبرة يحيى أفندي في بشكطاش، وضاعت مؤلفاته ودواوينه ولم يظهر منها إلا جزء من (كان ويكون) كان يطبعه ذيلاً للأستاذ، وكتاب آخر نسبوه إليه اسمه (المسامير) محشو بالهجو القبيح في الشيخ أبي الهدى الصيادي نزيل دار السلطنة، فمضى وكأنه لم يكن رحمه الله رحمة واسعة. ومن تألم بعين الاتعاظ في تقلب الأحوال بالمترجم، وما ذاقه من حلو الزمان ومره، وقاساه مدة الاختفاء ثم النفي حتى مات غريباً طريداً، حق له العجب
وعرف كيف يعبث الزمان بأهل الفضل من بنيه.
ونشأ المترجم فقيراً كما قدمنا، وعاش في قلة فإن أصاب شيئاً بدده بالإسراف، وكان في أول أمره يرتدي الثياب الإفرنجية المعلومة، فلما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقفطان واعتم بعمامة خضراء إشارة إلى الشرف، وكان شهي الحديث حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقاماته بمصر، فرأيت رجلاً في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ. أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا، وقد انتخب أخوه عبد الفتاح أفندي جملة صالحة من مقالاته جمعها في كتاب سماه (سلافة النديم) فارجع إليه إن شئت.
ونحن ذاكرون من شعره ما يحتمله المقام، فمن ذلك مرثيته في الخديو محمد توفيق باشا وقد أشار إليها في كتاب أرسل به من يافا في 16 جمادى الثانية سنة 1309 يقول فيه (غمني وكدرني موت الحضرة الخديوية لأمور:(أولاً) فلعفوه عني وإحسانه إليّ، (ثانياً) لسابقة معروفة معي وتوجهاته السابقة، (ثالثاً) لصغر سنة، (رابعاً) لصغر سن أنجاله، (خامساً) لصغر سنة حرمه وما تقاسيه من حزنها عليه لما كان بينهما من شدة الألفة والمحبة (سادساً) لأنه كان برزخاً بين مصر وبين نكبات إنكلترة وغيرها والله تعلى يجري الأمور على السداد، وسأبعث بمرثية رنانة لحضرة ولدي مصطفى بك ماهر رئيس ترجمة ديوان الحربية ليطبعها وينشرها على حدتها) انتهى ما نقلته من خطه، ولم أقف إلا على ثلاثة أبيات منها ذكرها المترجم بالأستاذ وهي:
ما للكواكب لا ترى في المرصد
…
والكون أصبح في لباس أسود
عم الكسوف الكل أم فقد الضيا
…
أم كلنا يرنو بمقلة أرمد
وتاريخها
فملائك الجنات قالت أرخوا
…
توفيق في عز النعيم السرمدي
1309
ومن مختار شعره قوله من قصيدة لم نعثر منها إلا على هذا القدر
سيوف الثنا تصدا ومقولي الغمد
…
ومن سار في نصري تكلفه الحمد
ومنها
ومن عجب الأيام شهم أخو حجا
…
يعارضه غر ويفحمه وغد
ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما
…
لتحفظ أعراض تكفلها المجد
ويقال أنه نظمها بحضرة شاهين باشا تبكيتاً لمن زعم قصور الشعراء عن معارضة أبي الطيب المتنبي في قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
…
عدواً له ما من صداقته بد
قلت: بين القولين فرق ظاهر للمتأمل، وأين الثريا من يد المتناول؟ ومن شعره قوله أيام اختفائه، وكتب بها إلى صديق له يسليه على نازلة نزلت به:
يا صاحبي دع عنك قول الهازل
…
واسمع نصيحة عارف بالحاصل
اجهل تجد صفو الزمان فإنه
…
من قسمة الفدم الغبي الجاهل
ودع التعقل بالتغفل يستقم
…
أرم المعاش فحظه للغافل
وارض البلادة تغتنم من بابها
…
مالاً وجاهاً بعد ذكر خامل
وإذا أبيت سوى العلوم فلا تضق
…
بحروب دهر لا يميل لفاضل
قلب تواريخ الأولى سبقوا تجد
…
دنياك ما قيدت بغير الباطل
تجد الأفاضل في الزوايا كلهم
…
حال الحياة وبعدها بمحافل
العلم ستر كالسحاب به ترى
…
شمس الحقيقة خلف ذاك الحائل
هل أبصرت عيناك ديواناً به
…
مدح البليغ جميل سعد حافل
إن قلت أي، فاذكر لنا من ناله
…
أولا، فعش كالناس في ذا الساحل
ضدان لا تلقاهما في واحد
…
مال الغبي وحكمة للكامل
ثم ذيلها بنثر أضربنا عن ذكره. ومنه قوله وضمنها كتاباً كتبه مدة اختفائه لأحد أصدقائه:
وبعد فهذا شرح حالة غائب
…
عليه من اللطف الخفي ستور
تدور به الأهوال حول مدارها
…
فيصبر والقلب الرضى صبور
عسى فرج يأتي به الله إنه
…
على فرجي دون الأنام قدير
كيف تهدى العروس إلى زوجها في حضرموت؟
مشهد من رواية شعرية تحت الطبع باسم (همام أو في عاصمة
الأحقاف)
للشاعر الحضرمي على أحمد باكثير
ساحة كبيرة أمام بيت العروس (حسن). فيما بعد منتصف الليل يرى هناك جمهور من النساء يصطففن لزفها إلى بيت (همام) تتوسطهن (حسن) عليها غطاء لا ترى منه. تحيط بهن الوصائف بأيديهن الشموع والمصابيح. تتقدمهن القينات بأيديهن الدفوف وهن يتغنين بينما الجمهور يتحرك ويتجه في سير بطيء إلى جهة بيت (همام):
القينات:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
والشمسُ في ضُحاها
فما أجلَّ عُرْسا
…
يغمره سناها!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
. . . . . .
. . . . . . . .
…
. . . . . . .
القينات:
نحن نزف الحيا
…
نحن نزف المُنى!
نحن نزُفُّ الضِّيا
…
نحن نزف السَّنا
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
. . . . . . .
. . . . . . . .
…
. . . . . . .
القينات:
يا عُصبة الغواني
…
هلمَّ للتطريبِ!
اشدُون بالأغاني
…
واهِتفن بالنسيبِ
واضمِدْن بالأماني
…
دواميَ القلوبِ!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
. . . . . . .
. . . . . . . .
…
. . . . . . .
القينات:
حيِّين بالسَّلام
…
هذا الشُّعاع المسكُوبْ
وافنأْنَ بالأنغام
…
كل حزين منكوبْ
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
. . . . . . .
. . . . . . . .
…
. . . . . . .
القينات:
روائحُ الجِنَانِ
…
تعبَقُ من هذي الدُّورْ
كأنما المغاني
…
أمسَتْ مراقِصَ الحُورْ!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
. . . . . . .
. . . . . . . .
…
. . . . . . .
القينات:
نحن نزفُّ الملَكْ
…
في صورة الإِنسانْ!
يجلو ظلام الحلَكْ
…
ويقَشع الأحزانْ
فهل لديكم فلَكْ
…
بنورِه يزْدَانْ؟!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
. . . . . . .
. . . . . . . .
…
. . . . . . .
القينات:
يا قمر السماء
…
غُضَّ الجفون أغْضِ!
بالذِّكر والأسماء
…
عوَّذْتُ بَدْرَ الأرض
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
. . . . . . .
. . . . . . . .
…
. . . . . . .
(على مقربة من بين (همام))
القينات:
سُقْنَ إلى هُمامِ
…
جمالَ هذا النّادي
واحدُونَ للضِّرْغامِ
…
لباةَ هذا الوادي!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا
…
. . . . . . .
. . . . . . . .
…
. . . . . . .
(في الطابق العلوي من دار الزوج (همام) حيث تستقبل نسوة الدار النسوة اللاتي زففن العروس. تنحاز نسوة الدار إلى جهة، ونسوة الزفاف إلى جهة، والقينات في الوسط يضربن بالدفوف.)
القينات:
ألْيُمْنُ والإِقبالُ
…
والسَّعد والسعادَةْ
للمُعْرِسَيْنِ فالُ
…
والفضل والزيادة
شاعرة نسوة الزفاف ثم سائرهن:
نحن نزف الحُسْنا
…
نحن نزف بٌلْقَيْس
نحن نزف لُبْنى
…
فهل لديكم من قَيْس
شاعرة نسوة الدار مجيبة، ثم سائرهن وهكذا في باقي الأبيات:
هُمامنا كالمأمو
…
ن إن زففتُم بُوران
وإن تكُن بُلقَيساً
…
فإنّه سُليمان!
نسوة الزفاف: النَّصر للعروسَهْ
نسوة الدار: بل هو للعروسِ
نسوة الزفاف: للدُّرَّة النفيسة
نسوة الدار: للجوهر النفيسِ
نسوة الزفاف:
للحُرَّة المَصُونهْ
…
وربّة الجمالِ
للدرة المكنونهْ
…
واسطةِ اللآلي!
نسوة الدار:
لِمَفْخَر المدينهْ
…
لسيِّد الرجالِ
الناسُ يعرفونهْ
…
بِكرَم الخِلال!
نسوة الزفاف:
النُّورُ والشُّعاعُ
…
ووَهَجُ الشُّموسِ
والجوهر اللَّمّاعُ
…
وحَبَبُ الكؤُوسِ
جميعُها أشياعُ
…
لهذه العَروسِ!
نسوة الدار:
المجدُ والكمالُ
…
وكرم الأخلاق
والقولُ والفعالُ
…
وحَسَبُ الأعراقِ
جميعهنَّ آلُ
…
عروسِنا الغَيْداق
القينات:
كِلا العَروسَيْن زَيْن
…
للمجد والعلاءِ
فلا تفاضِلْنَ بيْن
…
سراجَي السماءِ!
أين المجرّة؟ أين
…
كواكب الجوزاءِ؟
أصوغهنَّ لِذَيْن
…
تاجَيْنِ بالسَّواء
القينات ثم الجميع بصوت واحد:
يا رب بارِكْهُما
…
في ذا الزواج السَّعيدْ
واجعلْ زمانَهما
…
كأنّه يوم عِيد
وانفحمها بالوَلَدْ
…
مثل دراري النجومْ!
في ظل عيش رَغَدْ
…
وفي صفاء يدومْ
على أحمد باكثير
في الأدب الفرنسي
4 -
الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
ومن يوم أن غشى صالون المركيزة دي سابليه، شعر بميل شديد إلى كتابة الحكم والمواعظ، وبد في هذا النوع من الأدب ربة البيت وجاك إسبريه. وهذا أول نجاح صادفه في حياته وبعث السرور في دخيلته. وكان من القواعد المألوفة في هذه المجالس أن الإنسان إذا أراد أن يكتب للجمهور، وجب عليه أن يستنير برأي زملائه. وقد ذكر ذلك سجريه فقال:(كان من الواجب على الذين يكتبون للجمهور أن يطلعوا أصدقاءهم على ما يكتبون لإصلاحه وتهذيبه. وقد اتبع الدوق دي لاروشفوكو هذه القاعدة في مذكراته وفي مواعظه. فكان يرسل إلى ما يكتبه ويسألني أن أحتفظ بالكراسات خمسة أو ستة أسابيع حتى يتسنى له إنعام النظر فيها. ومن هذه المواعظ ما تغير أكثر من ثلاثين مرة)
وكثيراً ما كان يستشير المركيزة ويسألها أن تبدي رأيها فيما يكتب، ومما يثبت ذلك أنه كتب إليها في أحد الأيام يقول:(لا يصح أن تسمى هذه المواعظ بهذا الاسم إلا إذا وافقت عليها. إنك لا تستطيعين إنكارها، لأن الكثير منها يرجع إليك). وقد بلغ من اهتمام المركيزة بهذه المواعظ أنها نقلتها وأطلعت عليها كثيراً من أصدقائها في غيبة المؤلف وجمعت آراءهم في أسلوبها ومعانيها.
وقضى عام 1664 في مراجعة كل مواعظه وتهذيب أسلوبها وعاونه على ذلك جاك إسبريه والمركيزة دي سابليه. وفي عام 1665 ظهر الكتاب، أي في السنة التي ظهرت فيها قصص لافونتين المشهورة. وهذا الشاعر سيكون موضوع حديثنا في المقال الآتي
وعقب نشر هذه المواعظ، اتجهت المركيزة إلى العبادة وتوددت إلى الدوقة دي لونجفيل، فأعرض عنها لاروشفوكو بعد هذه الصلة الوثيقة التي استمرت خمسة أعوام. ثم شاء القدر أن يقضي أعوامه الأخيرة في هدوء وسعادة، فساق إليه الكونتس دي لافاييت تخلص له الود والوفاء وتهدهد نفسه الحزينة في شيخوخته
وفي عام 1667 خاض غمار الحرب لآخر مرة في حصار ليل على الرغم من مرضه. ثم اشتدت عليه وطأة الداء فكف عن زيارة البلاط وراض نفسه على أن يقضي بقية أيامه في
الراحة العذبة بجانب صديقته التي شهد لها بوالو بالتفوق في الأدب والنبوغ في الكتابة
وكان يجتمع في بيته الكتاب والشعراء. فكورني قرأ في صالونه قصة (بولشيري)، وراسين قصة (اسكندر)، وبوالو كتابه (الفن الشعري)، وموليير (النساء العالمات) هذه الكوميديا المشهورة التي قيل في ذلك الحين إنها سخرية من مدام دي سفنييه ومدام دي لافاييت.
وشغل أعوامه الأخيرة في تنقيح كتابه الصغير (مواعظ). فالطبعة الأولى في عام 1665 وبها 307 مواعظ، والطبعة الثانية في 1666 وبها 302 موعظة، والثالثة في عام 1671 وبها 341 موعظة، والرابعة 1675 وبها 413 موعظة، والخامسة في عام 1678 وبها 504 مواعظ، وفي هذه السنة الأخيرة نشرت حكم المركيزة دي سابليه وكتاب جاك إسبريه (شوائب الفضائل الإنسانية)
وماتت زوجه في عام 1670 فعاشت معه مدام دي لافاييت لا تفارقه إلا لماما، وبفضلها خفت لهجة المواعظ القاسية في طبعتي عام 1671 وعام 1678. ويصح أن نطبق عليها جملة الشاعر الألماني الأكبر (جوت) التي قالها عن (مدام دي ستيل) إنها تحيل المرارة إلى عذوبة). ساعدته على تنقيح مواعظه، وساعدها على كتابة قصصها وعلى الأخص قصتها المشهورة التي خلدت ذكرها وهي (الأميرة دي كليف). وقد اعترفت بذلك وقالت (استفدت من عقله، ولكني أصلحت قلبه). أصلحت قلبه لأنها أخلصت له الحب وهيأت له أسباب السعادة
وفي شهر يونيو عام 1672 جرح ابنه الأكبر في موقعة الرين جرحاً بليغاً وقتل فيها ولده الرابع والكونت دي سان بول ابنه غير الشرعي من الدوقة دي لونجفيل، فانتابه حزن أليم. وذكرت مدام دي سفنييه هذه الحادثة لابنتها في إحدى رسائلها (كنا عند مدام دي لافاييت لما بلغه ما أصاب أولاده، فسالت دموعه من أعماق قلبه على خديه. . . رأيت قلبه عاريا في هذا الظرف القاسي فعرفت فيه قلب رجل شجاع ثابت الجنان راجح العقل وافر الحنان)
ولما ماتت أمه في عام 1678، وكان يحبها حباً شديداً، كتبت مدام دي سفنييه إلى ابنتها تقول:(رأيته يبكي في حنان جعلني أعبده)
وبكاؤه أولاده وأمه شيء عادي لا يستحق الذكر. وإنما ذكرته مدام دي سفنييه لأن الناس
اعتقدوا أن هذا الرجل الذي أنكر العواطف الإنسانية في كتابه، غليظ القلب عار من العواطف، فأرادت أن تمحو ما وقر في أذهانهم وتبرهن لهم على خطأ اعتقادهم
وذات مرة فاجأته مدام دي سفنييه (متلبساً بالحنان) إذ سمع قصة تدل على الشجاعة ونبل العاطفة في أشد المواقف هولاً فبكى. وفي هذا تقول: (إنه يبكي نفسه بإعجابه بنبل هذه العاطفة) وأوحت إليه هذه القصة إحدى مواعظه: (يشعر الإنسان بأن له نصيباً في الأعمال الجميلة إذا مدحها بقلب خالص)
وقبل موته بقليل عرض عليه (هويه) أحد معلمي ولي العهد الدخول في مجمع العلماء، فاعتذر من القبول بالمرض. ولكن (هويه) يقول في مذكراته إن سبب رفضه يرجع إلى خجله الشديد في حضرة الجمهور
وفي أوائل شهر مارس عام 1680 استبد به الداء، فعاده جميع الأطباء النابهين، ثم دعي (تالبوت) الطبيب الإنجليزي المشهور لعلاجه، ولكن الطب عجز عن قهر المرض. وفي 15 مارس كتبت مدام دي سفنييه إلى ابنتها تنبئها بحالة الدوق وتظهر لها إعجابها بهدوء نفسه واطمئنانه إلى لقاء الموت
وفي يوم 16 مارس استوفى أنفاسه ليلا بين ذراعي بوسويه، وهو في السابعة والستين من عمره، أي بعد موت الدوقة دي لونجفيل بعام، وبعد نشر قصة مدام دي لافاييت (أميرة دي كليف) بعامين وقد خلف لأولاده ديناً كبيراً على الرغم من ثروته الهائلة. ولكن ابنه الأكبر فرنسوا السابع نال بحكمته عطف الملك وحبه، وأصلح بمعونته ما أفسده أبوه
صفاته
ذكرنا في تاريخ حياته أنه وصف نفسه كتابة في صالون الآنسة دي مونبانسييه، ونشر هذا المقال عام 1659، فكان أول عهد الجمهور بآثار هذا الكاتب الأدبية. وقد استهله بوصف دقيق لقامته وشعره ورأسه وأسنانه، ثم قال: (يحمل وجهي سمة الحزن وطابع العزة، وهذا ما يجعل الناس يعتقدون خطأ أن من طبعي ازدراءهم. ومزاجي تستقر فيه الكآبة وتألفه، ولم يرني أحد من الناس أضحك أثناء ثلاثة أعوام أو أربعة إلا ثلاث مرات أو أربع، ويخيل إلي أني كنت أحتمل اكتئاب مزاجي وأجد فيه بعض الراحة والهدوء لو لم يستطب صحبتي اكتئاب آخر يملأ مخيلتي ويستبد بفكري، ويجعلني أقضي جل وقتي إما صامتاً
حالما وإما متكلما دون أن ألقى بالي إلى ما أقول)
وليس من العسير أن نجد سبب هذا الاكتئاب الآخر، فإن ذكريات الحرب الأهلية تركت في نفسه أثراً أليما، وولدت في دخيلته الاكتئاب الباطني الذي غمر (مواعظه) فبدت للناس قاتمة حزينة.
يتبع
حسن صادق
العُلوم
النظريات الحديثة في تعيين الجنس ذكر أم أنثى
بقلم منير غندور ليسانسييه في العلوم
عندما يولد الطفل يكون قد حدد مصيره، ذكراً كان أم أنثى، من تسعة أشهر، منذ تألفت أول خلية من خلايا الجنين بالتحام خلية كبيرة تقدمها الأم وتسمى بويضة، مع خلية أخرى من الخلايا الكثيرة العدد التي يقدمها الأب، وتسمى خلية منوية (سبارماتوزيد ثم تتضاعف الخلايا وتنمو سائرة في أحد اتجاهين.
ولكن تحت أي تأثير تأخذ الخلية الأولى الاتجاه الأول أو الثاني؟ ترون هنا أهمية معرفة ما يدخل من عوامل لتعيين جنس الجنين من الناحية العلمية البحتة ومن الناحية التطبيقية أيضاً، إذ لا يخفى أنه لو توصلنا إلى معرفة العوامل التي تجعل الذكر ذكراً والأنثى أنثى وطرق استعمالها حسب مشيئتنا (فنوصي) على ذكر أو على أنثى حسب الحاجة لقلبنا النظام البشري الحالي.
إن علم (البيولوجيا) توصل اليوم إلى معرفة هذه العوامل وأزاح كل غطاء عنها، ولكن رجاله لا يزالون يكررون التجارب ليتمكنوا من استخدام هذه العوامل حسب مشيئتهم. وهذه التجارب التي أجريت أخيراً في هذا الصدد، وقد خصها مسيو جان روستان بكلمة أجملها فيها، هي التي بعثتني على الكتابة في هذا الموضوع لأبين العوامل التي تدخل في تعيين الجنين والاتجاه الذي يأخذه علماء البيولوجبيا الحديثين في تجاربهم هذه.
لنأخذ الخلية الأولى المكونة للجنين: لقد أصبح أكيدا اليوم أن هذه ستكون ذكراً أو أنثى تحت تأثير (الكروموزومات) وهذه عبارة عن ذرات متناهية الصغر توجد في نواة كل خلية. وفي الجنس البشري يوجد ثمان وأربعون (كروموزوم) عند المرأة، 46 متشابهة ثم اثنان متشابهان، ولنسمهما وعند الرجل 46 متشابهة ثم اثنان يختلف كل واحد منهما عن الآخر، ولندعهما
أما البويضة و (السبارماتوزيد) فهما لا يحتويان إلا على نصف عدد الكروموزومات الذي تحتويه الخلايا العادية فكل بويضة تحتوي على + 23 أما السبارماتوزيد فـ 50 % من مجموع عدده تحتوي على + 23 و 50 % على + 23.
إذاً بين السبارماتوزيدات التي يقدمها الأب نوعان مختلفان، نوع يحتوي على + 23 ونوع يحتوي على + 23. وعلى حسب ما تلتقي البويضة بالنوع الأول أو الثاني يكون الكائن الناتج أنثى (بويضة مع سبارماتوزيد) + 23 أو ذكراً (بويضة مع + 23) وفي مجموع الكروموزومات التي يقدمها الأب 50 % من + 23 و 50 % من + 23 فللكروموزوم الأول إذا نفس الإمكانية التي للثاني للالتحام مع البويضة وهما يخضعان في التحامهما مع البويضة، تارة هذا وتارة ذاك للمصادفة في الأعداد القليلة. في الإعداد الكبيرة لقانون - الاحتمال - ونحن نرى أن نسبة عدد الذكور للإناث في العالم يخضع تقريباً لنسبة 12 (أعني في المواليد). أما وجود المذكار (المرآة التي عادتها ولادة الذكور) والمثناث (المرأة التي عادتها ولادة الإناث) فهذا لا يعني أكثر مما يعنيه الحصول في لعبة (الروليت) مثلاً على نفس اللون مرات عديدة متتابعة. إذ نسبة مجيء اللون الأول واللون الثاني تبقى خاضعة في الأعداد الكبيرة، 500 ألف مرة مثلا، إلى نسبة12.
إذاً لقد قال العلم كلمته في هذا الموضوع.
القسم الثاني من هذا البحث هو أن نستطيع إدخال النوع الذي بالتحامه مع البويضة يعطي ذكوراً وحده، والنوع الذي يعطي إناثاً وحده.
أما إدخال الخلايا المنوية الاصطناعي فهذا ما يستطيع أن يقوم به المتمرنون عند الحيوان كما عند الإنسان مع قليل من الاحتياط. ولكن فصل النوعين عن بعضهما لم يتم إلى الآن برغم كل ما أجرى من محاولات.
وأول ما يتبادر إلى الذهن إمكان وجود فرق في الحجم بينهما فنستطيع حينها أن نفصل الأول عن الثاني بسهولة. ولكن شيئاً من هذا لم يلاحظ. وهناك فكرة بثها وقال بتحقيقها عالمان روسيان هما: وهي افتراض أن الكروموزومات تحمل كهربائية على سطحها، كأكثر الذرات الحية المعلقة في وسطها الطبيعي، وأن هذه الحمولة الكهربائية هي سلبية عند نوع وإيجابية عن النوع الثاني. وفي هذه الحالة يكون من السهل فصل هذين النوعين عن بعضهما بمجرد تأثير مجرى كهربائي.
طبق هذا الافتراض على كروموزومات الأرنب، وكانت النتيجة أن الكروموزومات التي وجدت على القطب الإيجابي أي المكهربة سلبياً أدخلت لعشر أرنبات والعشرة أعطت
ذكوراً، والكروموزومات التي وجدت على القطب السلبي أي المكهربة إيجابياً لعشر أخريات أعطت ثمانية منها إناثاً واثنان ذكوراً. والكروموزومات التي وجدت بين السلبي والإيجابي أعطت ذكرين وأنثيين:
وقد ذكر (جان روستان) الأبحاث الأخيرة التي قام بها طبيب ألماني يدعى في هذا المعنى. ونتيجة هذه الأبحاث هو أن الوسط القلوي يناسب النوع من الكروموزوم الذي يسبب ذكوراً، والوسط القليل الحمض يناسب مسببي الإناث. وهكذا يكفي لكي تحمل الأم ذكراً أن تحقن موضعياً بكربونات الصودا مثلا قبل الجماع. ويؤكد (انتار بارجار) نجاح هذه الطريقة عند الست والأربعين من النساء اللاتي تقدمن إليه خلال سنة 1932.
ولكن العلم لا يستطيع الجزم بعد في هذا الموضوع. ولا يمكننا أن نقبل نظرية لها من الأهمية ما لهذه معتمدين على بضع نتائج لم يقم بها إلا فئة قليلة من علماء البيولوجيا. غير أنه لا يبعد أن يصل العلم بعد قليل إلى حقيقة نهائية في هذا الموضوع.
ولنفرض أن العلم وصل إلى هذه الحقيقة فهل ينتج عن إمكان إعطاء ذكر لأي كان؟ لا. فنحن لا نستطيع أن نعطي ذكوراً أو إناثاً إلا لمن نقصتهم الذكور أو الإناث لتصرف الصدفة الوحيد ولكن هناك خلايا منوية، من منتجات الذكور مثلا، تكون ضعيفة التركيب ينقصها شيء أساسي كامن فلا يمكنها الوصول إلى البويضة أو إذا أمكنها ذلك والتحمت معها يقف عند حد ما نحو الجنين، أو يتم ولكنه يولد ذا علة جسمية أو عقلية. والدليل على هذا ما نراه عند المرأة المئناث. فالمرأة التي عادتها ولادة الإناث نراها (في كثير من الأحيان) بغتة، بعد أن تكون وضعت أربع بنات أو خمسا تلد ذكراً ميتاً أو يعيش قليلا ثم لا يلبث أن يموت دون أن تظهر علة ما خارجية. ثم تسقط ذكراً لم يتم نموه ثم ذكراً ميتاً أو ابله.
وهنا أستطيع أن أقول، دون أن أبحث المسألة من وجهتها الفلسفية إن قانون المصادفات الذي تكلمت عنه في البدء والذي يجري على حسبه تلقيح البويضة إما بخلية منوية + 23 أو بخلية منوية + 23 يكون فوقه في تأثيرات وصفات بيولوجية عميقة لا يحيط بها بعد علمنا.
وعلى كل حال فأنتم ترون ما قد يثيره تحقيق هذه الفكرة من مشاكل فلسفية واجتماعية.
ورأيي أنها لن تتعدى النظريات، وفي هذا، أي تحقيقها النظري عظيم رضى العالم وغايته الوحيدة، وإذا تعدتها للحيوان فهي لن تطبق على الإنسان لأنها لن تزيد في أكثر الأحيان إلا في إشقائه وإكثار المسؤولية التي تقع على كاهله.
منير غندور
اللانهاية هي شيء كله مساو جزءه
للأستاذ قدري حافظ طوقان
مقدمة
يوجد في بعض فروع المعرفة اصطلاحات وتعبيرات من الصعب جداً تعريفها أو تفسيرها تفسيراً موجزاً في بضع كلمات، وقد لا يستطيع الباحث أو العالم المتضلع أن يعطي إيضاحاً بكلمات قليلة تبين المعنى المقصود بصورة دقيقة جلية واضحة، ولهذا يضطر للتقرب من تعريفها أو لإعطاء فكرة عنها إلى ذكر وشرح بعض خواصها. وقد تبدو التعاريف لبعض الاصطلاحات العلمية لأول وهلة غريبة أو غير معقولة. وإذا جاز للقارئ أن يدهش من الوضع الموجود به تعريف اللانهاية، وإذا جاز له أن يضحك عند قراءته، أقول إذا جاز له كل ذلك يجوز لنا أن نطلب منه التمهل وقراءة المقال بتمعن عسانا - نحن وهو - نلتقي، وعساه بذلك يوافق العلم ويقره، ويعذره حين يضطر إلى وضع تعاريف لبعض الاصطلاحات بصورة قد تبدو غريبة يمجها المنطق في البدء، وقد لا يستسيغها عقل غير المطلعين على الموضوعات التي تحتوي أمثال هذه الاصطلاحات.
إن تعريف اللانهاية يختلف بحسب الميدان الذي تكون فيه، فهي في ميدان الفلسفة والمعنى المقصود منها فيه غيرها في ميدان الرياضيات، غيرها في الدين، غيرها في ميادين الفروع المختلفة المتنوعة
معكوس الصفر
خذ أية كمية محدودة كالواحد مثلاً، ولنقسمه على 21 فخارج
القسمة 2، وإذا قُسم على 41 فخارج القسمة 4، وإذا قسم على
1001 فالخارج 100، وإذا قسم على 10001 فالخارج
1000، وهكذا كلما صَغُر المقسوم عليه زاد خارج القسمة
وكبر، حتى إذا ما كان أصغر من أية كمية موجبة (صفر)
كان الجواب أكبر من أية كمية موجبة (كمية لا نهائية)، أي
أن الواحد إذا قسّم على الصفر فالجواب كمية لا نهائية، أي
01=كمية لا نهاية ويُرمز لها بهذه العلامة ?، ويمكن وضع
المعنى السابق بهذه الكيفية: وكذلك إذا قسمنا الكمية المحدودة
على كمية لا نهائية فالجواب أصغر من أية كمية موجبة أي
الصفر. من هنا يتبين أن العلاقة متينة بين الصفر واللانهاية،
فالصفر هو في الحقيقة معكوس اللانهاية ومعكوس اللانهاية
هو الصفر.
هذا إيضاح يفسر خاصة من خواص اللانهاية، ويمكن وضع هذه الخاصة بالتعبير الآتي:
إذا قُسّمت أية كمية محدودة على الصفر فالخارج يساوي كمية لا نهائية.
تعريف غريب
لندع هذه الخاصية ولنأخذ غيرها علنا منها نستطيع أن نضع تعريفاً لـ (اللانهاية) وعلنا بذلك نوفر على الراغب في البحث عنها، وفي الوقوف على معناها قراءة صفحات عديدة من كتب الرياضيات وفلسفتها.
خذ المتوالية العددية الآتية: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9. . . . . إلى عدد لا نهائي من الحدود فمجموعها كما هو ظاهر كمية لا نهائية.
خذ أيضاً المتوالية الهندسية الآتية وهي غير المجموعة الأولى: 2، 4، 8، 16. . . إلى عدد لا نهائي من الحدود، فمجموعها أيضاً يساوي كمية لا نهائية، ومن مراجعة المتواليتين يظهر أن كل حد من المتوالية الثانية موجود في المتوالية الأولى، أي أن المتوالية الثانية هي جزء من الأولى، ومع ذلك فمجموع كل من المتواليتين يساوي كمية لا نهائية، ومن هنا ظهر تعريف اللانهاية بالشكل الآتي:(هي شيء كله مساو جزءه) ومن هنا يظهر أيضاً
للقارئ السبب الذي اضطر بعض العلماء إلى وضع مثل هذا التعريف الذي قد يبدو غريباً ومثيراً للدهشة وغير معقول
اللانهائي في المحدود
ومن غرائب خاصيات (اللانهاية) التي نجدها في البحوث الرياضية انه قد يتفق (في بعض الأحوال) أن يكون مجموع كميات عددها غير محدود لا نهائي يساوي كمية محدودة. أليس في هذا غرابة؟ أليس في هذا عجب؟ قد لا يصدق القارئ ما نقول ولذا سنوضح معنى ما مر:
خذ العدد الكسري 31 وهو كمية محدودة، ولنحوله إلى كسر
عشري فينتج لدينا كسر دائري 0. 3 أي 0.
33333000000 وهذه تساوي 103 + 1003 + 10003 +
100003 +. . . وهذه الأخيرة تساوي 103 (1 + 101 +
1001 + 10001 +. . . إلى حدود عددها لا نهائي) ومن
هنا يتبين أن مجموع كميات عددها لا نهائي يساوي كمية
محدودة
اللانهاية والعلم
والآن قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن يسأل ما علاقة العالم باللانهاية؟ وهل اللانهاية حقيقة موجودة؟ وهل يستطيع العقل البشري تصور شيء لا نهائي؟ وجواباً على هذه الأسئلة نقول: إن العلم يقرر (أو يجب أن يقرر) وجود شيء لا نهائي، فالخط يتكون من نقط عددها غير محدود ولا نهائي، والوقت يتكون من عدد غير محدود من اللحظات، ويمكنك أن تقسم المستقيم إلى أقسام لا عديد لها، وأن تستمر في ذلك إلى ما شاء الله.
وقد ظهر للقارئ بجلاء كيف أن مجموع كميات عددها لا نهائي يساوي كمية محدودة، وقد
لا يكون غريباً إذا قلت أن كثيراً من البحوث الرياضية العالية لا يمكن أن يحاط بها، ولا أن تكون كاملة إلا بـ (اللانهاية)، وكم من الأعمال والمسائل الرياضية تحتاج إلى استعمال اللانهاية إذ لا يمكن حلها إلا بها.
على كل أرجو أن أكون قد وفقت إلى إعطاء فكرة عن اللانهاية، فان كان ذلك فهذا ما قصدت.
نابلس
قدري حافظ طوقان
القصص
صاحب الملايين الأنموذج
للأديب الإنجليزي أوسكار وايلد
ترجمة الأستاذ بشير الشريقي
لا ينتفع المرء بجمال الشاب إلا مع الغنى؛ البطالة عمل الغني وليست شغل الفقير؛ على الفقراء أن يكدوا في طلب الرزق؛ دخل ثابت خير لك من شبابك الفاتن؛ تلك هي الحقيقة الواحدة في هذا الجيل الحديث، الحقيقة التي لم يدركها (هيوارسكين).
مسكين هيو! إنه ليس بالفتى صاحب الشأن أو الذي يضر وينفع؛ ولكنه كان يبدو مثال الملاحة بشعره الأسمر المجعد. وعينيه الرماديتين؛ ووجهه الجميل، وكان مشهوراً بالحسن بين الرجال والنساء على السواء، وبأنه يجمع كل الفضائل إلا فضيلة كسب المال؛ خلف له والده وكان فارساً مقداماً حسامه وتاريخ حرب الجزيرة في خمسة عشر مجلداً، فعلق (هيو) الحسام على مرآته، ووضع كتاب التاريخ على الرف. لقد طرق كل أبواب الرزق، فاحترف الصرافة ستة أشهر، ولكن ما الذي تفعله الفراشة بين الثيران والدببة؟ واشتغل بتجارة الشاي لمدة أطول بقليل، ولكن سرعان ما تعب: حينئذ جرب بيع الخمر الأسباني فلم ينجح؛ وأخيراً أصبح لا شيء، اللهم إلا شاباً طروباً قد أعطى البطالة مقوده.
وعلى نية العمل المثمر أحب؛ وكانت الفتاة التي أحبها تدعى (لورا ميرتون) وهي ابنة كولونيل متقاعد أضاع مزاجه ونظامه في بلاد الهند. لقد عبدته (لورا) وكان هو على استعداد لأن يقبل شريط حذائها؛ كانا أظرف عاشقين في لندن ولا يملكان فلساً واحداً.
أحب الكولونيل (هيو) كثيراً، ولكنه لم يكن يرغب أن يسمعه يتحدث عن أية خطبة، وكان يقول له من حين إلى حين:(تعال إليّ يا ولدي؛ حين تصبح مالكاً لعشرة آلاف جنيه عندها نفكر في أمر خطوبتكما) فيتألم (هيو) ويذهب إلى (لورا) ليجد بقربها العزاء.
في صباح أحد الأيام خطر له - وهو في طريقه إلى متنزه (هولاندة) - أن يرى أحد أصدقائه العظام (ألن تريفور) وكان (ألن تريفور) رجلاً غريباً فظاً؛ نمش الوجه أحمر الخدين خشن اللحية؛ ولكنه كان رساماً ماهراً، وفناناً إذا تناول قلم الرسم فهو الأستاذ
الحقيقي والرسام العبقري.
وكان هذا الفنان عظيم الميل (لهيو) في الزمان الذي مضى، عظيم التقدير لجماله، وكثيراً ما كان يقول (على الفنان أن لا يصاحب إلا الظرفاء اللطفاء؛ والذين يشجيك مسمعهم ومنظرهم).
حين دخل (هيو) المحترف (الستديو) وجد (تريفور) يضع الأجزاء الأخيرة لصورة شحاذ كبيرة، ورأى الشحاذ نفسه واقفاً على منصة مرتفعة في زاوية المحترف، لقد كان شيخاً متهدماً ذا وجه كالجلد المجعد، قد ألقى على كتفه عباءة خشنة كلها رقع وخرق، ولبس حذاء رثاً بالياً، واتكأ بإحدى يديه على عصا غليظة، ومد بالأخرى قبعته الممزقة يلتمس المعروف!.
همس (هيو) وهو يصافح صديقه - ياله من أنموذج غريب! فصاح (تريفور) بأعلى صوته - أنموذج غريب. . أظنه كذلك. . إنك لا تلتقي بأمثال هذا الشحاذ كل يوم. . إنه لقية يا عزيزي.
هيو - مسكين هذا الشيخ إنه يبدو مثال البؤس والشقاء وإني لأظن أن ثروته بالنسبة إليكم أيها الفنانون إنما هي في وجهه
أجاب تريفور - طبعاً. . أنت لا تريد أن يبدو الشحاذ مسروراً
هيو - كم يأخذ الأنموذج عن كل جلسة.
- شلناً في الساعة.
- وكم تأخذ أنت على صورتك يا (ألن)
- أوه. . آخذ على هذه ألفي جنيه.
هيو ضاحكاً - حسن، ولكني أرى أن يأخذ الأنموذج نسبة من الأرباح، إنهم يتعبون بقدر ما تتعبون.
- كلام هراء. . يجب ألا تضيع وقتي بمثل هذا السخف، إنني مشغول جداً، دخن سيجارة واجلس صامتاً.
وبعد حين دخل الخادم وأخبر (تريفور) أن صانع الأطر يريد أن يكلمه.
(تريفور) وهو خارج - لا تذهب يا (هيو) سأعود حالاً.
اغتنم الشحاذ الشيخ فرصة غياب (تريفور) فجلس يستريح على مقعد خشبي كان موضوعاً خلفه، حقيراً بائساً؛ حتى أن (هيو) لم يملك نفسه من الحزن عليه، فمد يده إلى جيبه ليرى مقدار ما معه من الدراهم، فكان كل الذي وجده ديناراً وبضعة دوانق، فقال لنفسه (مسكين الشيخ إنه أحوج مني إلى هذه الدراهم) وسار وسط (الستديو) ورمى الدينار في يد الشحاذ.
فزع الشيخ وارتسمت على شفتيه الذابلتين ابتسامة ضئيلة وقال: أشكرك يا سيدي. . أشكرك. .
ثم حضر (تريفور) فاستأذنه (هيو) بالانصراف إلى (لورا) حيث أمضى النهار وتمتع بتعنيف لذيذ على إسرافه.
وفي تلك الليلة؛ حوالي الساعة الثانية عشرة، ذهب إلى نادي (باليت) فوجد (تريفور) جالساً وحيداً في غرفة التدخين يعاقر بنت الحان؛ فقال له وهو يشعل سيجارته.
- خيراً (ألن). . هل أنهيت الصورة!
فأجاب تريفور - لقد انتهت يا ولدي، وأحيطت بالإطار؛ وعلى ذكر الصورة أخبرك أنك حزت ظفراً عظيماً نهار الأمس، إن ذلك الأنموذج الشيخ الذي رأيته معجب بك كل الإعجاب ولقد أخبرته عن كل ما يتعلق بك. . من أنت؟ وأين تعيش؟ وكم دخلك! وما هي مطالبك من الدنيا؟. . .
صاح (هيو) - يا عزيزي ألن، أخاف أن أجده في انتظاري كلما ذهبت إلى البيت؛ ولكنك تهزل. . مسكين هذا الشيخ الفقير.
آه! لو أقدر على نفعه. . إنه لشديد أن يعيش إنسان في مثل بؤسه؛ عندي في البيت تلال من الثياب القديمة، فهل تظن أنه يهتم بثوب منها؟ ولم لا؟ إن خرقه أخذ منها البلى مأخذه. .
تريفور - ولكنه يبدو في أطماره زاهياً، إن ما تسميه أنت اطماراً أسميه أنا حللاً، وما يظهر لك أنه الشقاء هو مثال البهاء عندي. . وعلى كل حال فسأخبره عن هديتك.
هيو جاداً - إنكم بلا قلب أيها الرسامون.
أجاب تريفور - قلب الفنان رأسه، ليس الإصلاح صنعتنا وإنما تصوير العالم كما نراه ولكل صنعته. . والآن حدثني عن (لورا) كيف هي؟ لقد أغرم بها الأنموذج كثيراً.
هيو - أنت لا تريد أن تقول إنك حدثته عنها.
- أؤكد لك أنني حدثته، لقد عرف كل شيء عن الكولونيل الذي لا يرق له قلب، وعن (لورا) المحبوبة؛ وعن العشرة آلاف جنيه.
فصاح هيو وقد بدا عظيم الغضب كثير الاحمرار - إذن لقد أطلعت ذلك الشيخ الشحاذ على كل شؤوني الخاصة.
تريفور مبتسماً - يا ولدي العزيز إن الذي تدعوه بالشيخ الشحاذ هو من أغنى الرجال في أوربا، إنه يقدر أن يبتاع لندن كلها غداً من غير أن يؤثر ذلك في ثروته؛ إن له قصراً في كل عاصمة؛ ويأكل في أطباق من الذهب والفضة؛ وهو قادر - حين يشاء - أن يمنع روسيا من الحرب.
هيو متعجباً - من هذا الذي تعنيه؟!. .
تريفور - أقول إن الرجل الشيخ الذي رأيته في (الستديو) هو (البارون هوسبيرج) إنه من أعظم أصدقائي، ويبتاع كل صوري، وقد كلفني منذ شهر أن أرسمه كشحاذ فما قولك بهوي هذا المليونير.
صاح هيو - البارون هوسبيرج يا إله السموات. لقد تصدقت عليه بجنيه. . . وارتمى على المقعد مذعوراً. .
تريفور صائحاً - تصدقت عليه بجنيه!! وانفجر عن هدير من الضحك!
هيو بحزن - كان يجب أن تخبرني يا ألن. . .
ألن - لا بأس يا هيو. . إنه لم يخطر لي على بال أنك يمكن أن تذهب هذا المذهب في توزيع الصدقات؛ إنني افهم تقبيلك لأنموذج جميل، أما أن تعطي ديناراً لقبيح فلست أفهمه!
هيو - وأي غبي ظنني؟!.
- أبداً لقد كان في غاية السرور بعد أن غادرتنا، وظل يضحك في سره ويصفق بيديه المتغضنين مدة؛ لم أستطع إدراك سر سروره حينذاك؛ ورغبته في معرفة كل شيء عنك؛ أما الآن فقد فهمت كل شيء؛ سوف يشغل لك دينارك يا هيو ويدفع لك الفائدة كل ستة أشهر.
زمجر هيو - يا لي من شقي. الأحسن لي أن أذهب إلى الفراش، أرجوك يا عزيزي ألن
ألا تخبر أحداً؛ إنني لم أعد أجرؤ على لقاء الناس
كلام هراء. إن عملك يا هيو يدل على ما في نفسك من الخير العظيم، لا تذهب، خذ سيجارة أخرى؛ وتكلم عن لورا بقدر ما تشاء. .
لكن (هيو) لم يقف بل سار إلى البيت حزيناً، تاركاً (ألن تريفور) غارقاً في الضحك.
في صباح اليوم الثاني وقد جلس (هيو) يتناول فطوره، أحضر له الخادم بطاقة كتب عليها (السيد كوستاف نودن، رسول البارون هاسبورج).
فقال هيو لنفسه - يغلب على ظني أنه آت يطلب إلى أن أعتذر، ثم أمر الخادم أن يصعده ردهة الاستقبال. .
دخل الغرفة شيخ جليل ذو منظار ذهبي وشعر أشيب وقال بلهجة فرنسية: هل لي شرف الكلام مع السيد (أورسكين).
- فانحنى له هيو.
الشيخ مستمراً - لقد أتيت من عند البارون هاسبيرج، ان البارون. . . .
هيو مقاطعاً - أرجوك يا سيدي أن تبلغه أصدق اعتذاري.
فابتسم الشيخ الجليل وقال - لقد أرسلني البارون أسلمك هذا الكتاب. ومد يده بمغلف مغلق قد كتب عليه (هدية عرس إلى هيو أورسكين ولورا ميرتون من شحاذ عجوز) وفي داخله حوالة بعشرة آلاف جنيه
وحين اقترنا صار لهما ألن تريفور عجاهنا، وألقى البارون خطاباً على مائدة العرس؛
وأبدى (ألن) هذه الملحوظة (إن نماذج صاحب الملايين نادرة، ولكن أنموذج أصحاب الملايين أندر)
شرق الأردن
بشير الشريقي المحامي
النقد
حول ديوان الينبوع
للدكتور احمد زكي أبي شادي
إنني آسف أشد الأسف إذا كان ردي السابق على الأديب المرتيني يصح أن يوصف بالحدة كما وصفه حضرته، وما كنت أحسبه إلا مثالا للهدوء المقترن بالصراحة. وقد كرر ناقدي الأديب قوله عن الأدباء المصريين:(وإذاً أنا أعود فأردد مرة أخرى، ما عرفت الدكتور وإضرابه من إخواننا المصريين إلا أباة على النقد. يثيرون من أجله المعارك ويتسارعون بسبه إلى الخصام والنزاع). وقد أغناني الشاعر الناقد طلبة محمد عبده برده في عدد مايو من مجلة (أبولو) عن الرد المسهب على الأديب المرتيني، وحسبي هنا أن ألاحظ في إيجاز نقطتين: الأولى أن كل حجة صاحبنا في مؤاخذتي تقدمي إلى الرد عليه في أدب واعتدال، كأنما الواجب علي وعلى أمثالي الخضوع لديكتاتوريته النقدية، فإذا ما ناقشناها في هدوء مناقشة أدبية وصمنا بما وصمنا به، والثانية شهادة مجلة (الضياء) الهندية، وقد وافتني يوم صدور عدد (الرسالة) المنشورة به مقالة ناقدي، فقد ذكرت (الضياء) - وهي من أرقى المجلات الأدبية في العالم العربي - في كلامها على (الينبوع) وصاحبه وتشجيعه للنقد الأدبي أن تشجيعي هذا هو (جرأة نادرة) في هذا الزمن.
إذن ليس هناك يا صاحبي أي حدة ولا تأب على النقد، فأعداد (الرسالة) بين أيدي القراء، كما أن (الينبوع) وغيره من دواويني ومؤلفاتي بين أيديهم، ويمكنهم أن يدرسوا ويقارنوا لأنفسهم بين كتابتي وكتابتك. وفي الحق لم يعرف عني إلا العداء للديكتاتورية الأدبية، سواء أجاءت من ناحية المؤلفين أم من ناحية النقاد، وقد شجعت وسأشجع دائماً النقاش الأدبي البريء لأنه خادم وأي خادم للأدب، ومتى تحقق الاحترام المتبادل بين المؤلفين والنقاد، فلن يؤدي النقاش الأدبي بينهم إلا إلى الخير الأدبي المحض. ولولا هذا الإيمان في نفسي بالنقد وفوائده لصدقت عن التعليق على ما يكتب عني، فجل شعري لنفسي أولا لا للجمهور الذي تتحدث أنت عنه وتود أن تراعيه، وأنا لا أتطلع إلى مدح أو تصفيق لقاء جهودي، وقد أصبحت لا أتطلع حتى إلى محض الإنصاف من معظم معاصري
ومن كان لا يعنيه مدح ولا قلى
…
يعف عن المدح العريض ويستغنى
وقد تأملت الملاحظات الفنية الجديدة التي جاء بها نقدي الفاضل في مقاله الثاني فأسفت لأنه لم يذكرها في مقاله الأول. ولو كان قد فعل ذلك لما كنت رددت عليه: فقد كان في مقاله الأول يلقي الأحكام كأنه القاضي الأعلى الذي لا مرد لحكمه. وأما في مقاله الثاني فهو ينزع إلى التفسير النفساني ويتحدث عن الذوق الفني وما إلى ذلك. . وهو في موقفه الجديد منع من أن يساءل أو يناقش، اللهم إلا في تذكيري إياه بأن قولي:
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي
…
تجد المعيب لدي غير معيب
لا يعني شيئاً مما ذكره، وإنما يعني أن الناقد الذي لا يستطيع أن يتمثل نفسية الشاعر وظروفه والعوامل المؤثرة عليه وقت نظمه هو أبعد الناس عن الإنصاف، لأنه سيعيب ما لا يعاب لو أنه تمثل شخصية الشاعر في المناسبة التي نظم فيها ذلك الشعر المنقود. وليس من الحكمة ولا من الإنصاف في شيء أن يتقدم الناقد لي أثر شعري وهو نافر من صاحبه كيفما كانت أسباب ذلك النفور.
إن التحدث عن اللغة الفنية لا أول له ولا نهاية. وقد نقد لغتي من نقدها ممن عرفوا بالتضلع في اللغة والتمكن من الشعر. وفي مقدمتهم السيد مصطفى جواد، ولهؤلاء السادة ما لهم من الذوق الشعري الناضج. أليس هؤلاء إذن أولى من الأديب المرتيني بالحكم في هذا المجال؟ وما معنى انتقاص معارفهم ومناحيهم؟ أليسوا أجدر منه ومني بتحديد ما يسميه باللغة الصحفية؟ ليس لي يا صاحبي أن أزكي نفسي، وإن كان لي أن أدافع عن مذهبي أحياناً، وقد كتب في تقدير روحي الفنية وتعابيري الشعرية غير واحد من الأدباء المشهورين، ومنهم من ناقشك، فلك أن تناقشهم إذا شئت، وأما أنا فلا أجد فيما كتبت من جديد سوى إبهام جديد، إلا في موضع أو موضعين، وليس لي من رد على مثل هذا الانتقاص المبهم غير إنتاجي الجديد. . .
لقد أعجبك قول امرئ القيس
مكر، مفر، مقبلٌ، مدبرٌ، معاً
…
كجلمودِ صخرٍ حطه السيلُ مِنْ علِ!
نظراً لما فيه من موسيقى وحركة وخيال، ولا أعرف أن كل شعر امرئ القيس من هذا القبيل، أو أن شعري تجرد من مثل ذلك، كما أني لا أعرف أن مثل هذه الصفات التي شاقتك مرغوب فيها في جميع ضروب الشعر، ومنه ما قد تؤثر فيه موسيقى المعاني
والهدوء والتأمل العميق قبل رنين الألفاظ والحركة والخيال الوثاب.
ولك أن تنتزع بيتاً أو بيتين من قصيدة، وأن تقف حائراً مستنكراً، ولكني (وأنا المؤمن بوحدة القصيد والحريص على ذلك) لا أطلب شططاً إذا سألت قرائي أن يقرءوا تلك القصائد كاملةً ليتبينوا مواقع الأبيات بعضها من بعض وما تحمله من المعاني الظاهرة والضمنية إذا ما انتظمتها وحدة القصيد، وله لها حينئذ قيمة مادية وروحية أم ليست لها تلك القيمة.
وقد تفضل الأديب المرتيني ببيان طويل عن نظراته الأدبية العامة وأسلوبه في النظم ونحو ذلك، أشكره عليه لما حواه من الطرافة ودواعي التسلية التي يتحدث عنها. ولا أود أن أشغل فراغ (الرسالة) بالتعليق عليه فذلك أمر يعنيه، وأود بهذه السطور أن أختم تعليقاتي على كتابته شاكراً (للرسالة) منبرها الحر وغيرتها، وشاكراً لناقدي الفاضل تحمسه للفن وللغة العربية السامية.
احمد زكي أبو شادي
الكتب
مذكراتي في نصف قرن
بقلم الأستاذ أحمد شفيق باشا
(في 527 صفحة كبيرة - طبع مطبعة مصر)
لم يجتمع لكثير من رجال الدولة المصرية مثلما اجتمع لصاحب السعادة الأستاذ أحمد شفيق باشا من ظروف المشاهدة وفرص الدرس والاطلاع والتحقيق؛ فقد عاصر هذا الشيخ النابه النشط عدة عصور ومراحل من تاريخ مصر الحديث؛ وشهد الحياة المصرية منذ أواخر عصر إسماعيل، واتصل بالقصر وشئون الدولة العليا منذ حداثته؛ وشهد حوادث الثورة العرابية وتتبعها بدقة، وكان مرجع النفوذ والحول طوال أيام عباس. ولم يكن شفيق باشا يطوي هذه المراحل والعصور مشاهداً فقط، ولكنه كان يقرن المشاهدة بالدرس والتدوين؛ فكان يدون مذكراته تباعاً عن الحوادث والشئون الخطيرة التي كان تتري في هذه الحقبة من تاريخ مصر، ويدون إلى جانبها كثيراً من الملحوظات عن تطور الحياة المصرية الاجتماعية، ثم عن حياته الخاصة التي كانت صدى ومثالاً صادقاً لهذه الحياة.
وقد أخرج لنا الأستاذ شفيق باشا الجزء الأول من هذه المذكرات في مجلد ضخم؛ يتناول وصف الحوادث والحياة المصرية منذ أواخر عهد إسماعيل حتى عزله، ثم عهد توفيق والثورة العرابية وأسبابها ونتائجها حتى استقرار الاحتلال الإنكليزي. وهذا هو القسم التاريخي العام. ويتناول القسم الثاني منه حياة المؤلف الخاصة أثناء دراسته في باريس، ومشاهداته العامة في فرنسا ومختلف البلاد الأوربية التي زارها.
ولعله لم يصدر عن الحياة المصرية في أواخر القرن وصف أصدق ولا أمتع من ذلك الذي يتحفنا به شفيق باشا في مذكراته. فقد تقلب شفيق باشا منذ حداثته في مختلف البيئات والمجتمعات المصرية لهذا العهد، واتصل بالطبقات الاجتماعية الرفيعة اتصالاً وثيقاً؛ وشهد بعينه من صورها وألوانها الشيء الكثير؛ ووصف لنا جدها وهزلها ولهوها وسمرها وصفاً صادقاً شائقاً؛ ويجد مؤرخ الحضارة المصرية في هذا العصر في مذكرات شفيق باشا مادة نفيسة تؤيدها المشاهدة الصادقة. وهذه ناحية من الكتاب لها أهميتها وسحرها.
بيد أن لهذه المذكرات من الوجهة التاريخية ناحية أهم. ذلك أن المؤلف يقص علينا سيرة الحوادث السياسية الخطيرة التي وقعت في عهد توفيق، أعني الثورة العرابية وما انتهت إليه من النتائج المشئومة. وقد كتب تاريخ الثورة العرابية وما إليها في العصر الأخير غير مرة، وصدرت عنها مذكرات كثيرة مصرية وأجنبية، ولكن شفيق باشا ينفرد بمعالجة ناحية لم تعالج من قبل بمثل ما عالجها به من الإفاضة والدقة، ولم يكن ليستطيع معالجتها غير شفيق باشا نفسه. ذلك هو موقف القصر ووجهة نظره وحقيقة تصرفاته إزاء تلك الحوادث العصيبة. وقد كان شفيق باشا يومئذ من موظفي القصر، ومن الرجال الذي يضع فيهم الخديو ثقته؛ وكان بذلك في مركز يستطيع أن ينفذ منه إلى بواطن الأمور وحقائقها وأن يعرف حق المعرفة ما يقع في القصر وما يدبر فيه وما يقال نحو الحوادث وتطوراتها، وأن يقف على وثائق لا يقف عليها غير رجال القصر الأخصاء؛ وهذه الناحية تبدو واضحة قوية في رواية شفيق باشا عن الثورة العرابية، وتلقي الضياء على مسائل وشئون كثيرة في تاريخ الثورة لم نقف عليها من قبل بمثل ذلك الوضوح. وهذه الميزة وحدها تجعل لمذكرات شفيق باشا قيمة كبيرة؛ هذا إلى ما يتخلل ذلك كله من النبذ الاجتماعية والأدبية التي تمثل روح العصر وأحواله أصدق تمثيل.
فنهنئ الباشا بمجهوده القيم، ونرجو اله أن يمتعه بالصحة والعافية حتى يخرج لنا ما تبقى في جعبته من ذلك التراث القومي النفيس.
(ع)
حياة وحياة
بقلم الدكتور محمد كامل الصبي دكتوراه في العلوم الطبيعية
كتاب يقع في نيف ومائتي صفحة، أخرجته جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية على خير ما تخرج الكتب، دقة طبع، وحسن نظام، ومتانة ورق، وسلامة ذوق.
ولقد شاء الدكتور الفاضل ألا تقف جهوده عند العلم فرأيناه في هذا الكتاب أديباً، بل قصاصاً عذب الروح، واسع المعارف، متين الثقافة
تلمس في هذا الكتاب النهوض، وتعجبك فيه رغبة فنية لنفس متوثبة، تحتقر تقاليد الماضي البالية، وتتألم لما يرزح تحته المجتمع المصري من أعباء وما يتعثر فيه من قيود، وتتمنى أن ترى ذلك اليوم الذي تنفض فيه مصر عن نفسها غبار القرون وتحكم أغلال الجمود، ومن منا لا يشارك الدكتور عواطفه وآماله؟
ولقد وفق المؤلف إلى وسيلة جيدة لعرض آرائه فصور لنا أولاً الحياة المصرية في القرية، حياة الملاك القادرين والعمال المستضعفين من صغار المزارعين، حياة العتو والاستبداد، والمسكنة والذلة والجهل، ثم أرانا طرفاً من حياتنا المدرسية وما يكتنفها من آلام ومعايب مما شاهده وخبره بنفسه، فالقصة تدور حوله هو وحول حياته في مصر ثم انجلترا، وهنالك في إنجلترا، وصف لنا الكاتب حياة ذلك المجتمع الزاخر في صدق لهجة ودقة ملاحظة، دون أن تميل به عاطفة الوطنية إلى التحيز، بل إن هذه العاطفة كانت تحدوه إلى المقارنة بين حال وطنه وحال ذلك المجتمع في حماسة وصراحة وإخلاص وغيرة
ولقد قام برحلة في عطلته الجامعية إلى هولنده وألمانيا، ولم يفته هناك أيضاً أن يتعرض لمعايبنا الاجتماعية على ضوء ما صادف هناك من رقي عام قوامه الثقافة الفياضة والتضحية الخالصة، وفناء الفرد في المجموع، مما نتحرق ظمأ إليه في مجتمعنا
ولم يقف في كتابه عند النقد فحسب، بل لقد تعرض لكثير من ضروب الإصلاح، وأورد بعض اقتراحات جالت في ذهنه تشهد برجاحة علقه وصدق نظره
بيد أني أعيب عليه أنه يرى كل ما عندنا شراً، ولعل طموحه وتوثبه وشوقه الزائد إلى تغيير الحال وشدة إخلاصه هو الذي يملي عليه هذه الصرامة حين يشكو أو ينتقد، والحقيقة أني قد شاركته رأيه في جملة مسائل
أحب الكاتب فتاة في الجامعة، وتعرف إلى فتاتين غيرها، فرأى إحداهما تضحي بشهرتها في سبيل الواجب فتقلع عن القيام برحلة جوية إلى استراليا لتسهر إلى جانب سرير أمها المريضة. ورأى الثانية ترفض خطبة حبيب لها لتعول أهلها، فأكبر هذه الأخلاق، ثم لم يشأ أن يكون أقل منهما نبلا، فضحى بحبه في سبيل عاطفته الوطنية، ولم يشأ أن يتزوج من فتاة تخالفه في طبيعته وآماله، وعاد إلى وطنه مسرعا. وكانت تلك هي خاتمة القصة، وكم نود لو نظفر بمثل هذا الخلق وبمثل هذا الروح، وبمثل هذا النشاط الأدبي ممن يعودون إلى أوطانهم من شباننا الناهض.
محمود الخفيف