المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 470 - بتاريخ: 06 - 07 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٧٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 470

- بتاريخ: 06 - 07 - 1942

ص: -1

‌مثل المصرية الحديثة

- 2 -

قالت السيدة. و. . . تفصل ما أجملت من رأيها في معنى لفظ البيت الجدير بأن يكون بيت أسرة، وفي حقيقة معنى المرأة الجديرة بأن تكون ربة بيت:

قد تكون الزوجة أبصر النساء بفنون الطبخ وشؤون المطبخ وأصول المائدة، ولكنها تكون أجهلهن بما يجب لمهد الطفل وسرير الزوج ومدفأة الأسرة وبهو الضيوف، وإذن لا تعدو أن تكون طاهية

وقد تكون الزوجة أقوم على رعاية الطفل والزوج، واضبط لحساب الدخل والخرج، وأحزم في سياسة العمال والخدم، ولكنها تكون عامية الفكر خشنة الجانب مبتذلة الهندام فلا تعدو أن تكون قهرمانة

وقد تكون الزوجة بطبيعتها ولوداً فتتوزعها الآلام والأسقام والشواغل في الحمل والوضع والرضاع والفطام والترتيب والتهذيب والتمريض فلا يبقى من جهدها طاقة للبيت، ولا من وقتها ساعة للناس، ولا في قلبها مكانة للزوج، فلا تعدو أن تكون والدة

وقد تكون الزوجة أجذب أنوثة من كليوبطرة، وأعذب حديثاً من شهرزاد، وأفتن رشاقة من بنات هليوود، ولكنها تكون خرقاء لا تجيد العمل، حمقاء لا تحسن التدبير، فلا تعدو أن تكون خليلة

وقد يقتصر مدلول البيت في ذهن السيدة على غرفة الزينة وقاعة المطالعة وصالون الاستقبال، فهي ترقب الحديث من الثياب، وتقرأ الجديد من الكتب، وتناقش الطريف من الآراء، ولكنها تعيش على هامش الأسرة عيش الترف والظهور والحذلقة، فلا تعدو أن تكون أدبية

وليست المرأة الصالحة لملكوت البيت واحدة من أولئك، إنما هي هن جميعاً: هي مخلوقة من نوادر ركبها الله من مجموع ما تشتت من الفضائل في هؤلاء النسوة، كما ركَّب الإغريق (فينوس) من جملة ما تفوق من الجمال في مختلف الحسان

قال الطبيب الزوج: كأنك يا عزيزتي تنقلين عن نفسك صورة هذه المرأة. وأقسم لقد تعلمت في بعض بلاد أوربا تقلبت في بعضها الآخر فلم أر صاحبة بيت تفوقك فيما سردت من

ص: 1

مزايا الزوجة الصالحة

فقالت الزوجة: قد يكون في شهادة الزوج لزوجه بعض الهوى الذي يميل ميزان الحكم، أو بعض الرضا الذي يُزيغ بصر الناقد

قال المحامي: ربما كان الهوى والرضا من شوائب الحكم في غير الزوج! فإن الغالب أن يُتهم الزوجان بعد طول العشرة، ودوام الخبرة، وسأم الخلاط، بقسوة العدل أو برقة الظلم في حكم أحدهما على الآخر. على أن صديقنا الدكتور لم يعدُ ما في نفوسنا جميعاً؛ وإنما المسألة الصريحة التي تطلب الجواب الصريح هي أنني عرفت من النساء من هن أوسع ثقافة وأرفع بيئة وأضخم ثروة وأكرم أسرة، ولكني لم أجد فيهن ما وجدت فيك من خلال الزوجة المرجوة التي تجمع حنان الأم وإخلاص الزوجة وبراعة القهرمانة ومهارة الطاهية وأناقة الحبيبة وثقافة الأديبة. فإذا لم تكن الثقافة أو البيئة أو الثروة أو الأسرة هي التي تكوِّن الفتاة على هذه المزايا فمن ترينه يكون؟

فقالت السيدة: إن أغلب في هذا الضرب من النساء أن يكون وليد الفطرة وربيب الطبيعة. وهو يكثر حيث يشتد التماسك ويقوى التضامن في الأسرة؛ لذلك تراه في القرى أكثر منه في المدن، وبين العامية أظهر منه بين الخاصة، وما دامت القسمة الطبيعية قائمة بين الشريكين الدائمين على أن يكون للزوجة البيت وللزوج ما وراءه، فإن هذه الخصائص الفطرية تنشأ في المرأة بحكم الضرورة، وتقوى بفعل المران، وتحكم بسلطان العادة. وليس التعليم والتمدين إلا ثقافاً وصقالاً لهذه الخصائص يقومانها ويرفعانها إلى المستوى الذي بلغه المجتمع. فإذا وجدت امرأة تجردت من هذه الشمائل كلها أو بعضها، فلا تشك في أن طبيعة الأنوثة قد فسدت لسبب من الأسباب، فغدت من شواذ الخَلق كالجمل المستنوق أو الناقة المستجملة

قال الفلاح: لقد كنت أتمثل في ذهني المرأة القروية حينما كنت تصفين ربة البيت. ولكني لم أستطع إقحامها في الحديث لأنها في رأي الجمهور عنوان الجهالة حتى سمعتك تقررين أن الزوجة الصالحة تكثر في القرية. والحق الذي يؤيده العيان أن الفلاحة تقوم على شئون البيت، وتنهض بأمور الأسرة، على المنهج الأعلى الذي رسمتِه في قولك واتبعِته في فعلك. والفرق بين القروية والمدنية هو الفرق بين بيت وبيت، وبيئة وبيئة، وحياة وحياة.

ص: 2

وتجانس العقلية في المجتمع القروي يجعل مكان المرأة فيه أرفع، وسلطانها عليه أوسع، لتميزها عن الرجل في قوة النشاط ولطف الحيلة ويقظة الرأي

فقالت السيدة: ذلك يؤيد ما قلت من أن ربة البيت هي من صنع الضرورة والطبيعة، لا من صنع المدرسة والبيئة؛ والضرورة هي وجود البيت، والطبيعة هي توزيع العمل على حسب الاستعداد والقدرة. ولا أعني بالبيت المسكن، وإنما أعني به الأسرة. وللأسرة في النظام الاجتماعي مفهوم قلما يتضح في أكثر النفوس؛ فلا تظنوا أن قصور الخاصة بيوت تسكنها اُسر، إنما هي فنادق ينزلها أفراد. فللزوجين والأولاد غرف لا يدخلونها إلا وقت النوم، ومائدة لا يرونها إلا ساعة الأكل، وصالون لا يزورونه إلا يوم الاستقبال، ومرافق لا يعرفونها إلا عند الحاجة. أما القصر وما فيه ومن فيه ففي ذمة القهارمة والخدم. ومن المحال أن ينشأ في مثل هذه الجماعة المنتثرة سيدة تصلح لبيت، أو آنسة تصلح لزوج، وفي اعتقادي أن الكتّاب الذين يعادون المرأة المصرية بين رجلين: رجل أحبها ويريد بعدائها أن تتحدث عنه فهو خادع، ورجل كرهها لأنه عرفها في البيئات الممسوخة فهو مخدوع.

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

أزمة المجلات الأدبية - خطر العلانية على الأدب الصحيح -

أين الأمة العربية - خطاب جميل - الجيش المرابط في

الميادين الفكرية

أزمة المجلات الأدبية

إنشاء مجلة في مصر أو في غير مصر عمل لا يعرفه إلا من يعانيه، وتزيد متاعب هذا العمل إذا أريد أن تكون المجلة مقصورة على الأدب الصِّرف، بحيث لا تكون لها موارد غير عواطف القراء، والقارئ لا يدفع قرشاً في مجلة أدبية إلا إذا وثق بأنه من الغانمين، ولا تظفر المجلة بثقة القارئ إلا بعد جهود تفر من حملها الجبال

وقد كنت فيما سلف من الأيام أثني على حصافة الأستاذ الزيات، كنت أقول إن العقل هداه إلى أن الضمير المصري لا بدَّ له من مجلة لا تهتم بغير الأدب الصِّرف، ولا تقبل مواجهة الجمهور بغير الفِكر المُشرِق في الأسلوب الجميل

ثم جدَّت شواهد أقنعتني بأن روح التضحية هو الأصل في إنشاء المجلة الأدبية، وإن كان الله عزّ شأنه تفضّل فجعل (الرسالة) مصدر خير لصديقنا الزيات، فقد قيل - ولله الحمد - إنها صيرته من الأغنياء بدليل سيطرته على بعض الشواطئ من (بحر شبين) وهو النهر الذي يسقي سنتريس!

فيا ساكني أكناف دجلة كلكم

إلى القلب من أجل الحبيب حبيبُ

يكون أُجاجاً دونكم فإذا انتهى

إليكم تَلقَّى طيبكم فيطيبُ

ومع هذا فأنا أشعر بقيمة التضحية حين أكتفي بالكتابة في الشؤون الأدبية، ولتفصيل هذه اللمحة أذكر النكتة الآتية:

فلانٌ رجلٌ كريمٌ جدّاً، وهو حين يراني يطيب له أن يحييني فيقول:(لقد قرأت مقالك في مجلة الرسالة)

واكن هذا الرجل الكريم لا يُلقي هذه التحية إلا بلهجة المتصدِّق!

ص: 4

فهل يكون الحال كذلك لو كنت أكتب في الشؤون السياسية وأستبيح إيذاء الناس بغير حساب، كما يصنع بعض الكتاب السياسيين؟

الصحافة الأدبية مسيَّرة بالضمير الأدبي، وهو يأبى على أصحابه أن يتزيدوا على الناس طاعة للأهواء، أو طاعة للأحزاب، فما خوف الناس منا ونحن لا نملك غير الصدق، ولا نصاول حين نصاول إلا في حدود الأدب والذوق؟

المجلة السياسية تصل إلى أيدي الوزراء قبل أن تصل إلى أيدي الجمهور، لأن الوزراء يحبون أن يعرفوا ما يقال فيهم بحق أو بغير حق، فهل تَلقي منهم المجلة الأدبية بعض هذا الاهتمام الطريف؟ وكيف وهُم من ظُلم المجلات الأدبية في أمان؟

ثم أثب إلى الغرض من هذه الكلمة فأقول:

أين معالي وزير التموين؟

لقد قرأت خطبته في الرد على الاستجواب المعروف، فرأيته تحدث عن جميع ضروب التموين، إلا الورق، ورق المجلات الأدبية، أما ورق الجرائد اليومية والمجلات السياسية فالمفهوم بداهةً أن الحكومة ستعرف ما تصنع إذا بخل به صنائع الجشع من الوراقين!

أنا لا أعرف وزير التموين معرفة شخصية حتى أحكم له أو عليه، ولكني أعرفه معرفة معنوية، وهذه المعرفة توجب أن أذكره بالواجب في رعاية أقوات العقول والإفهام والقلوب، فمن العقوق لمصر أن يقال إنها لم تُمتحن إلا بأزمة الرغيف، مع أن مصر أقدم أمة كان أكبر زادها العلم والأدب والبيان

أكتب هذا وأنا أخشى أن يقال بعد أسابيع: إن مجلة (الرسالة) عجزت عن الوصول إلى قُوتها من الورق. . . وأي قوت؟ ومن يعرف أن مجلة (الرسالة) لا تملك تزويد الأسواق الأدبية بما تحتاج إليه تلك الأسواق؟ من يعرف أن التضامن الصحفي أصبح في حكم العدم، وأن من العسير أن تقول أية مجلة: إن من حقها أن تعتمد على أريحية (نقيب الصحفيين)، وعنده فيما سمعت أكبر كمية من الورق المخزون؟

إن مجلة مثل (الرسالة) تقدم للجمهور شواغل نبيلة بالحديث عن العلوم والآداب والفنون، ولو التفتت الحكومة لأدركت أن انتشار مثل هذه المجلة يريحها كثيراً - أو قليلاً - من شيوع الأكاذيب والأراجيف، فهل من الإسراف أن نطالب الحكومة بإعانة أمثال هذه المجلة

ص: 5

على الظفر بحاجتها من الورق، لتنهض الحجة على أن متاعب هذه الأيام لا تُنسي الحكومة واجبها في رعاية الأذواق والعقول؟

سأنظر كيف يجيب وزير التموين، إن تفضل بالجواب؟

خطر العلانية على الأدب الصحيح

من الآفات التي تعوق الأدب في هذا العصر أن الكتاب والشعراء لا يصبرون على طيّ ما يكتبون وما ينظمون، وإنما يبادرون إلى النشر في الجرائد والمجلات، ثم تكون النتيجة أن يُضطروا إلى مراعاة الجماهير في أكثر الشؤون، فيخلو أدبهم من الصراحة، ويغلب عليهم ما يُشبه الرياء من أمراض الكتمان

أهمَ المصاعب التي يعانيها الأدب أنه صار من الوسائل الشريفة لكسب الرزق الحلال، ومن الخير للأدب أنْ صار كذلك، ليعرف من لم يكن يعرف أن القلم نعمة من النعم السوابغ، وأنه خليقٌ بأن يفتح لحامليه كرائم الآفاق

ولكن من الشر للأدب أنْ صار كذلك، فقد أصبح أهله أسارى للمجتمع من قُرب أو من بُعد، وأصبح من المحتوم أن يراعوا طوائف من الرقباء، بغض النظر عن الرقيب الذي تفرضه أيام الحرب، لأنهٌ رقيب لطيف، لا يثور إلا في أندر الأحايين؛ وأنا بهذا الكلام أترضَّاه ليتغافل عني تغافل الكرماء قصَّر الله عُمر الحرب لأشفي غليلي من ذلك الرقيب اللطيف!!

الرقباء الحقيقيون هم القرَّاء، ومداراة القارئ مرضٌ قديم في الصحافة المصرية، وتلك المداراة هي علة العلل في جسم الأدب الحديث، ونحن نحارب هذه العلة بلا هوادة، ولكن في حدود يغلب فيها الترفق، ومعنى ذلك أننا شجعان جبناء، والعياذ بالذوق!

تلك الدنانير التي يجود بها الأدب على أصحابه ستَحرم الأدب أعظم صفاته من الصراحة والصدق، وقد تورثه عقابيل يعز منها الشفاء

وهنالك علةٌ أخطر وأفظع، هي علة الأديب الموظف: فالعُرف في الشرق لا يعترف بتعدد الشخصيات للرجل الواحد، ولا يسوغ في ذهن هذا العُرف البليد أن يكون للرجل شخصية حين يباشر عمله الرسمي في الديوان، وشخصيات حين يخلو إلى القلم، إن كان من رجال البيان

وأعجب العجب أن يرائي هذا العُرف نفسه بلا تأثّم ولا تحرّج، فهو يشتهي أن تكون في

ص: 6

الدنيا أقلام تحدثه عن سرائره المطوية، وهو مع ذلك يكره أن يكون هذا الفضل من نصيب هذا الكاتب أو ذاك، وذلك عُرف الجمهور الذي نداريه كارهين، ولم يبق من البلايا إلا أن نتقي شر من نخدمهم بنزاهة وإخلاص. . . وعند الله، عند الله وحده الجزاء!

أقول هذا وقد مزَّقت خمسة أحاديث قبل هذا الحديث، فقد تحدثت فيها عن أشياء لا يجوز نشرها في هذا الوقت، وإن كانت في الصميم من دخائل النفس الإنسانية؛ فقد يقول عاقلٌ أو جاهل: إننا في أيام لا تتسع للحديث عن سرائر النفس كأن الضمير الأدبي يخضع لظرف الزمان وظرف المكان، وكأن العبقرية الروحية تعرف الرسوم والحدود، وكأن مخاطر الحرب ومتاعب البؤس ومصاعب التموين تصد الروح الظامئ عن هواه في ورود ينابيع الوجود

أبن الأمة العربية؟

عند الأمم الأوربية تقليد أدبية تستأهل التسجيل، فهنالك يؤمن الكاتب بأمته فيؤلف كتاباً في مئات أو ألوف من الصفحات ليُنشر بعد موته بأعوام طوال

فما معنى ذلك؟

معناه أن الكاتب يثق بأن الضمير الأدبي في بلاده سيعيش ويعيش إلى أن ينصفه من زمانه ولو بعد حين

ومعناه أن الكاتب يؤمن بالخلود

ومعناه أن الكاتب يشعر بنائرة الحقد بعد أن يموت

ومعناه أيضاً أن الكاتب يعرف كيف ينتقم وهو في غيابة الفناء، أو حصانة البقاء

فأين الأمة العربية لنودعها دفائن صدورنا منى أبناء هذا الزمان؟

وأين من يفتش في دفاترنا بعد الموت، ليرى ما سطرناه في أخلاق هذا الجيل؟

جهادنا في خدمة القلم أضيع من الضياع، ولولا الإيمان بأننا نؤدي خدمة قومية لقصفنا القلم بلا رحمة ولا إشفاق

وعند الله، عند الله وحده الجزاء

خطاب

ص: 7

هو خطاب جميل، ولكنه ليس في جمال الخطابات التي أتلقاها من الشاعر أحمد العجمي، وإنما يرجع جمالة إلى أنه يؤكد نظرية أخلاقية يَكثُر كلامي عنها في هذه الأحاديث، وأنا لا أَملّ من نقد مسالك في معاملة الأصدقاء

هو إذن خطاب من صديق لا يعرف أدب الصديق مع الصديق، فقد شاء هواه أن يتوهم أن الصداقة تبيحه أن يخاطبني بما لا أحب، كأن الصداقة تعفيه من رعاية الذوق، وكأن المودّة تمنحه التحرر من قيود الآداب

إن في الناس من يتهمني بمحاباة أصدقائي، وإن فيهم من يقول إني أختلق الفرص لأتحدث عن أصدقائي بما يحبون في مقالاتي ومؤلفاتي، وأقول إن تلك التهمة صحيحة وإن هذا القول حق: فأنا أتحيّز لأصدقائي في السر والعلانية، وأحب من يحبهم، وأعادي من يعاديهم. وأنا أنكر على أهل هذا العصر أن يعيبوا تغضي الصديق عن عيوب الصديق، بحجة الحرص على سلامة المجتمع من العيوب

ومن يتعصب لأصدقائنا إذا لم نتعصب لهم؟ وإلى من يطمئنون إذا عرفوا أننا نتّعقب ما يجترحون من هفوات؟

أكتب هذا وقد تلقيت من أحد أصدقائي في بغداد خطاباً يعيب علىّ فيه أن أثبت في كتابَ (ملامح المجتمع العراقي) كلمة في الثناء على السيد عبد القادر الكيلاني، فهل يعرف ذلك الصديق لأيّ غرض أثبتّ تلك الكلمة الطيبة لوجه الله، ولوجه الحق؟

أثبتُّها لأني علمت أن السيد عبد القادر الكيلاني سيحاكم أما المحكمة العسكرية في بغداد، بعد زمن قصير أو طويل، والعراق الذي عرفته وعرفه التاريخ لاُ يصدر حكما إلا بعد سماع أقوال الشهود العدول، وأنا شاهدُ عدل في قضية هذا الرجل، ومن واجبي أن أسارع إلى كلمة الحق فيه، قبل أن يقف في ساحة القضاء. وكتمان الشهادة حيادُ يأباه قضاةُ بغداد

وأقول بصراحة إني كنت أخشى أن يُمنع كتاب (ملامح المجتمع العراقي) من دخول العراق، لأني تحدثت فيه عن رجال تغيّر فيهم رأي العراقيين، ثم ظهر أن العراق لا يرضيه أن يصادر كتاباً أملاه الصدق والإخلاص، وتنزه مؤلفه عن المداجاة والرياء

فهل أَتهم الصديق اللائم الظالم بأن نسبه إلى العراق يحتاج إلى برهان؟

أعزّ الله العراق، وحماه من جميع الأسواء

ص: 8

الجيش المرابط في الميادين الفكرية

هو جيش الأدباء الصابرين على مكاره الحياة الأدبية، وهي حياةُ لا يصبر على مصاعبها الثقال، إلا من تقهره الفطرة على الأنس بالأدب في جميع الأحوال

وقد شهد التاريخ واعترف بأن الأمم لا يقام لها ميزان إلا يوم يثبت أن لها حظاً من الروحانية الفكرية والأدبية، لأن الفكر والأدب لا يكونان من أنصبة الشعوب، إلا بعد النضج المنشود في العقول والقلوب

فما بالُ قومٍ يزعمون أن اشتغال بعض المصريين بالشؤون الفكرية والأدبية في هذه الأيام دليلُ على أن مصر لا تشعر شعوراً صحيحاً بالمتاعب الدولية؟

هذا كلامُ قيل في بعض المجلات، وأضيفَ إليه أن فلاناً لا يعيش في زمانه، لأنه نسى أن الدنيا في حرب، فشغل نفسه بالحديث عن الفروق بين رجال الأدب ورجال القضاء

وأقول للمرة الأولى بعد الألف إن الأديب المفكر ليس أجيراً لزمانه، وليس أجيراً للوطن ولا للمجتمع، فمن توهَّم أن الأديب المفكر مسئول أمام قوة غير قوة الضمير فهو من أكابر الجاهلين!

نحن نخدم الوطن بأقلامنا خدمةً لا يعرفها المتحذلقون من عبيد الشواغل اليومية، تخدمه صادقين لا كاذبين، ولا ننتظر منه أي جزاء، لأن خدماتنا تجلّ عن الجزاء

وماذا يملك الوطن حتى يكافئ المجاهدين من أرباب الأقلام؟

أيمنحهم الألقاب؟ أيمنحهم الأموال؟

وأيّ لقبِ أفخم من لقب الأديب؟ وأي ثروةِ أعظم من روح الأديب؟

أستغفر الله، وأعتذر إلى الوطن الغالي

فجزاء الأديب من وطنه مضمونُ مضمون، لأن الوطن لا يتحدث بأفراحه وأتراحه إلا الأديب، ولا يجود بسرائره الروحية لغير الأديب، ولأن الوطن يأبى أن يكون أساته من طبقة غير طبقة الأوفياء من الأدباء

خدّام الوطن في غير ميدان الأدب يُجْزَون بالألقاب والأموال، لأن خدماتهم تحتاج إلى تشجيع من ألوان الجزاء، أما خّدام الوطن في ميدان الأدب فهم أعزّ وأشرف من أن تصدهم عن الواجب عوادي النكران والجحود

ص: 9

وهل نخدم الوطن أو نحبه طائعين، حتى نمنّ عليه بالخدمة والحب؟

هيهات ثم هيهات!

إنما نحبّ مصر الغالية مأخوذين بسحرها الأّخاذ، ومفتونين بجمالها الفتّان وهل في الدنيا أكرم أو أجمل من مصر؟

إن مصر لم تبخل بالعيش على من يحارب الأدب والبيان، ولو شئت لقلت إن مصر تكرم أعداء الفكر والعقل تأسّياً بكرم الله، والكريم يُفِضل على الطفيليين بأغزر مما يفضل على المدعّوين

الدنيا في حرب، والقتال تدور رحاها حول الحدود المصرية، ومجلة الرسالة لا تجد قوتها من الورق إلا بشقّ النفس

وبالرغم من هذا وذاك فجذوة الفكر في اشتعال، وصوت مصر الأدبيّ في ارتفاع. والعاقبة للصابرين

الآن عرفتُك، يا وطني، عرفتُك

لا تستطيع الخطوب أن تُخرس بُلبلاً يغرّد في رياضك الّغناء، ولا يملك الدهر أن يُسكت صرير القلم في صحائفك البيضاء وطني

لو ظهرتْ أشراط الساعة، نذيراً بقيام القيامة، وخرست الألسنة وجفّت الأقلام، وشُغل المرء عن أخيه، وزوجته وبنيه، لرأيت من واجبي أن أرفع القلم لصوتك وقلمك، وأن أجعل آيتك في البيان خاتمة آيات الوجود

وطني

أنت أقدم وطن وأعظم وطن خطّ بالقلم، وسطّر مآسي الأرواح، ومصاير القلوب، فإليك اللأواء أهب سنان قلمي.

وطني

إن جهلت مَن أنا، فإني أعرف مَن أنت، والحياة صراعُ بين الجهل والعلم، واليأس والرجاء، وسأعرف كيف أجزيك على فنائي فيك

زكي مبارك

ص: 10

‌المستوى الجامعي في مصر بين الجامعة والأزهر

للدكتور محمد البهي

لجامعة فؤاد الأول بالقاهرة دعاة ينادون بلا ملل وفي تكرار يشبه الإلحاح بمنزلة (الجامعة) وبالقداسة الجامعية وباستقلال (الجامعة) وبمنحها سلطة مطلقة ليست في البحوث العلمية فحسب، بل أيضاً في التعليم المدرسي والتثقيف الشعبي

وللأزهر من رجاله وأبنائه من يكثر الحديث عن الأزهر وعن تقصيره وعن المسافة التي يبتعد بها الأزهر في سيره العلمي عن المثال الجامعي

وبقدر نموّ سيطرة الدعاة لجامعة فؤاد الأول على الرأي العام المصري، بقدر ما يفقد الأزهر بمن يكثرون الحديث عن بطئه أو جموده في السير الجامعي، من سلطان كان له على الرأي العام الإسلامي وكسبه لمنزلته من العقيدة ومن الثقافة الشعبية

وربما كان هناك غلو فيما ينادي به دعاة جامعة فؤاد الأول، وربما كان هناك غلو أيضاً فيما يصوره بعض الكاتبين الأزهريين يحول بين الإنسان الذي تؤثر فيه الدعاية، إيجابية أو سلبية؛ وتتحكم فيه العاطفة، وبين معرفة الواقع. والرأي العام هو ذلك الإنسان في صورة مكبرة

وربما كانت مبالغة دعاة الجامعة لأنهم من رجال العصر، وربما كانت مبالغة بعض الكتاب الأزهريين لأنهم من رجال العهود السابقة وهي عهود قريبة إلى الطبيعة الساذجة التي لم تلتو بعد

ولكن وراء الداعين من رجال جامعة فؤاد الأول، ووراء المتحدثين عن الأزهر من رجال الأزهر حقيقة تدرك وتتضح في الإدراك، وتصور وتتضح كذلك في التصوير، مدركها من غير هؤلاء وهؤلاء، وهو المؤرخ وبالأخص مؤرخ الحياة العقلية والعلمية لشعب من الشعوب. ومصورها من غيرهم أيضاً، وهو معالج الظواهر الخاصة بأمة من الأمم.

ما هو المثال الجامعي الذي إذا وجد كان للجامعيين دولة هي دولة العلم والفكر، وكان للجامعة قداسة هي قداسة الإرشاد الواضح في النواحي المختلفة لحياة الجماعة الخاصة ثم للإنسانية؟ المثال الجامعي يكون إذا تجردت البحوث عن العوامل الشخصية؛ عن الطائفية وعن الحزبية وعن الدعاية. يوجد المثال الجامعي إذا خلصت البحوث للعلم - بقدر ما

ص: 11

يمكن - وبعبارة أخرى إذا غلبت الحكمة على العاطفة والغريزة وسيطر العقل على النفس.

هل حققت جامعة فؤاد الأول هذا المثال الجامعي كما تعطيه دعاية الداعين؟ وهل يبتعد الأزهر كثيراً عن هذا المثال الجامعي كما يفرضه تصوير المتحدثين عن تقصير الأزهر من الأزهريين؟

جامعة فؤاد الأول حوَّلت المدارس العالية لوزارة المعارف في سنة 1925 إلى كليات. وجعلت داخل الكلية الواحدة أقساماً مختلفة حسب مواد الدراسة. وألحقت بكل قسم مكتبة خاصة به فوق المكتبة العامة. وعينت أساتذة مصريين وغير مصريين، ومساعدين للأساتذة، ومدرسين، ومعيدين. أي أنها أتمت النظام الجامعي.

والأزهر الذي أراد أن يكون جامعة منذ عشر سنوات تقريباً حولّ الدراسة العالية فيه إلى كليات وألحق بها أقساماً للدراسات العالية، وأوجد بكل كلية مكتبة خاصة بها غير مكتبته العامة. وانتدب أساتذة من رجال الجامعة، ورجال وزارة المعارف بجانب مدرسيه

والفرق في هذا فقط أن جامعة فؤاد الأول أغدق عليها من مال الدولة - وربما تحت تأثير الدعاية - فكانت لها أبنية فخمة؛ وأنشئ بها كراسي متنوعة للأساتذة ومساعديهم وجلبت لمكتبتها الكتب الحديثة والفنية. وأن الأزهر - ربما لإظهاره بمظهر المقصر في رسالته أو اضعف شيوخه - لم تقتنع الدولة بالزيادة السخية في ميزانيته، ولم يتضح لها من المبررات ما يزحزحها عما تعتقد من أنها متفضلة على الأزهر إذا هي تركت له ما اعتاد إنفاقه سنوياً. والزيادة في الإنفاق في العصر الحديث تكون لزيادة المقابل من منفعة عامة أو خاصة. والأزهر في أوقات كثيرة صور نفسه أو قبل أن يُصور بأنه يُمنح ولا يعطى

هذا الفرق لا يكسب جامعة فؤاد الأول قربها من المثال الجامعي، كما لا يصور الأزهر بعيداً عن هذا المثال، لأن هذا الفرق يتعلق بالشكل، ولأنه نتيجة لقوة سلطان وضعف سلطان آخر ليس سلطان العلم وليس سلطان البحث

رجال جامعة فؤاد الأول أخرجوا كتباً وألفوا. أخرجوا على الطريقة الجامعية كتباً مفهرسة حسنة التبويب والتنظيم، روعي في التعليق عليها إثبات الفروق بين الروايات المختلفة، والتعريف بما ورد فيها من مصادر متعددة. وألفوا كذلك كتباً؛ وألفوا في الفلسفة والتاريخ والأخلاق. ولكن الكثير من هذه الكتب المؤلفة يلازمه الغموض في التعبير عن الفكرة،

ص: 12

وتندر أو تنعدم فيها شخصية المؤلف. والغموض في التعبير يدل غالباً على عدم نضوج الفكرة أو عدم هضمها عند المعبر، وضعف الشخصية في التأليف أو انعدامها يدل على سيطرة الروح المدرسية وضعف الروح الجامعية. فإخراج جامعة فؤاد الأول إخراج يسير على النهج الجامعي في العرض، وتأليف رجالها لم يخرج بعد عن النطاق المدرسي؛ وإذا كان للإخراج قيمته في تكييف المستوى الجامعي، فالمقدِّم الأول لهذا المستوى هو التأليف العلمي الذي تبدو فيه شخصية المؤلف واضحة، وليس هو جمعاً لمنثور الفكر أو تنظيماً لمشتت الآراء

فجامعة فؤاد الأول تسير بلا شك في الطريق الجامعي، وقطعت فيه شوطاً لا بأس به، ولكن دونها والوصول إلى المستوى الجامعي خطوات أخرى يشق فيها السير ويكثر فيها التعثر، وهي خطوات الشخصيات العلمية الجامعية

الأزهر أخرج في نطاق ضيق، وألِّف في نطاق ضيق كذلك، لأنه ابتدأ منذ وقت قريب فقط يدرك أنه في حاجة إلى إخراج، وفي حاجة إلى تأليف، وفي حاجة كذلك إلى ترجمة بعد أن كان لا يستطيع أن يتصور أنه في حاجة إلى غير المتوارث من كتب والى غير المألوف من نمط في إخراجها لضغط التقاليد على العقلية فيه، وكما تندر الشخصية أو تنعدم في تأليف جامعة فؤاد الأول، تندر أو تنعدم كذلك في تأليف الأزهريين. ولعل سبب هذه الظاهرة هنا وهناك هو قرب عهد مصر بالنهضة العلمية وقرب عهد المؤلفين - على الخصوص - بالاستقلال الشخصي. ولعل الرغبة في كسب الرأي العام - وهو على ما به من شدة الولع والحرص على التقاليد - من أسباب عدم الاستقلال أو من أسباب عدم الجرأة في الاستقلال

لا أنكر إذا على جامعة فؤاد الأول أنها بدأت العمل الجامعي، كما لا أنكر على الأزهر ذلك الآن؛ ولا أنكر على جامعة فؤاد الأول أن خطواتها في السير الجامعي أسرع من الأزهر، وأنها ستحقق المستوى الجامعي قبل الأزهر، لا لضعف في العقلية الأزهرية، بل لأن للأزهر من مهمته الأولى وهي الدين والمحافظة عليه - ويتبع ذلك التقاليد، وما أشق الفصل بينها وبين الدين - ما يقلل من سرعته في السير، ويعلل بطاه في الوصول إلى المستوى الجامعي، ولكنه سيصل

ص: 13

هل لنا الآن - إنصافاً للواقع - أن نطالب الطرفين بالاعتدال في الدعوة لجامعة فؤاد الأول وبالاعتدال في التحدث عن تقصير الأزهر؟ أم لنا أن نطالب الكتاب من الأزهريين في الدعوة إلى أزهرهم بأن يحتذوا سنة رجال الجامعة، إذ ربما يكون هؤلاء أحسن خبرة بالنفسية المصرية وعقلية الرأي العام المصري؟ فالتهويل لم يزل بعد من أخص مظاهر الحياة الشرقية، ولم يزل كذلك سبباً قويًّا من أسباب النجاح في حياتنا المصرية!

محمد البهي

ص: 14

‌مساجلات

جورجياس المصري

للأستاذ محمد مندور

كتب الأستاذ العقاد في العدد 476 من (الرسالة) تحت عنوان (مساجلات) يقول: (نبهت إلي كلمة لأديب يكتب في (الثقافة) بتوقيع (محمد مندور) قال فيها عني بصدد الكلام عن أبي العلاء ورسالة الغفران: (والعقاد يبدأ فيؤكد - فيما يعلم - أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليه أحد غير (لوسيان) في محاوراته في الأولمب والهاوية؛ وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيراً ما تدهشنا لجرأتها، ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسان: عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء).

وأنا أحمد الله إذ نبه الأستاذ إلى كلمة محمد مندور هذا، فالعقاد رجل لديه ما يشغله عن (الثقافة) وعن محمد مندور، وهو منهمك في قراءة أمُّهات كتب الأدب التي وجد فيها أن (فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته)؛ فأنى له بقراءة (الثقافة)، وما هي بشيء إلى جوار عيون الأدب؟ ومن هو محمد مندور، ليقرأ له وهو مأخوذ بسحر لوسيان؟

و (محمد مندور) يسره أن ينبه العقاد قبل أن يبدأ في مناقشته إلى تتمة جملته كما هي بالثقافة عدد 176 (والكل يعلم ما في أساطير اليونان من وصف لنزول أورفيوس إلى العالم الآخر ليسترد منه زوجه أوريديس؛ والكل يعلم وصف هوميروس لرحلة أوليس، ووصف فرجيلوس شاعر الإلياذة لرحلة أينوس بذلك العالم، كما نعلم جميعاً أشعار المتصوفة في أحلام يقظتهم ونومهم، ومن تلك الرحلات الرائع الجميل كوصف الحارث بن أسد المحاسبي في (التوهم) الذي نشره المستشرق آبري وصدر له الأستاذ أحمد بك أمين؛ وفي عصر مقارب لعصر أبي العلاء كتب أبن شهيد رسالة التوابع والزوابع المنشورة بكتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة)(ج1 ص210) وهي شديدة الشبه برسالة الغفران؛ ومع ذلك يؤكد العقاد أن فكرة رسالة الغفران لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان)

وهذا فيما أظن كلام لا يستطيع العقاد ولا غير العقاد أن يدفعه، فهو يؤكد أن أدبياً لم يسبق

ص: 15

أبا العلاء في وصف رحلة إلى العالم الآخر غير لوسيان، ونحن نقول له: بل سبقه هوميروس وفرجيليوس. . . و. . . فما الرأي إذن؟ وهل يقبل الأستاذ العقاد - وهو العالم بكل تراث الإنسانية الروحي المقدر لقيمته - أن نمحو من الوجود كل هؤلاء الفطاحل ليصح ما أكده؟ ألا ليتنا نستطيع ذلك لنرضي كبرياء العقاد وإن كان قد وضعه في غير موضعه.

وبعد فليس يضير العقاد أن يجهل وصف هوميروس أو فرجيليوس لرحلة كهذه، إذ لو علم العقاد بكل شيء لفقد أهم صفة يتميز بها جميع البشر بله الأدباء منهم وهي صفة الإنسانية، ونحن جميعاً نجهل أشياء كثيرة ولم أضفنا أعماراً إلى عمرنا ولو بذلنا جهد الرهبان في التحصيل، وإنما يضير العقاد ككاتب يجب أن يحترم كرامة العقل أن يصدر في محاجته للغير عن منهج معيب.

لم يرد العقاد على ما وجهته غليه بل نقل الحديث إلى وجود الجنة والنار قبل أبي العلاء وقبل لوسيان (على نحو ما يرى أن لندن كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها). وهذه سقطة ما كان يليق برجل كالعقاد أن يلجأ إليها في كبرياء المتعالي؛ فموضع الجدل ليس وجود النار والجنة، بل ولا علم الناس بهما، بل وصف الرحلة إليهما وفيهما وصفاً أدبيًّا فذِّيًّا على نحو ما فعل هوميروس وغيره ممن ذكرنا

ولقد كان العقاد يستطيع أن يغالط - كما كان يفعل جورجياس كبير السفسطائيين عند اليونان على نحو أرقى من هذا النحو. ألا ليته قال مثلاً إن اللغة كانت موجودة قبل وضع نحوها، وأن الطبيعة كانت قائمة قبل استنباط قوانينها، وأن العقل كان يعمل قبل صياغة المنطق، وأن المنطق أقدم وأصدق وأنبل من السفسطة. ولو أنه فعل لوجدنا في مغالطاته جلالاً، وأما أن (لندن وباريس وبلاد الأفيال) كانت موجودة قبل الرحلات إليها فهذه حقيقة مغالطة تافهة كنت أود أن يترفع عنها العقاد

أسرف العقاد إذن على نفسه وعلى القراء عندما أكد أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان، وهذه المسألة لا تقبل الدفع

فلنتركها إذن لما هو أهم وهو منهج العقاد في التفكير كما يطالعنا من رده وتلك مسألة يضطرنا العقاد إلى أن نثيرها لا بصدد حديثه عن أبي العلاء فحسب بل بوجه عام

ص: 16

سمعت العقاد يوماً يناظر في الأثر الذي يمكن أن تحدثه الثقافة الأجنبية فينا فيقول: (إن الكتاب الأمريكي لا يمكن أن يجعلنا أمريكيين وإلا لجعلتنا الثقافة الأمريكية أمريكيين) وهذا مثل لكل ما كتب العقاد، فسبيله دائماً هو (المغالطة) ثم (القياس الفاسد)

ألا تراه كيف ينقل الحديث من الرحلة الأدبية في العالم الآخر إلى وجود ذلك العالم وتصور الناس له، وهذه هي (المغالطة) ثم ينتقل إلى قياس وجود العالم الآخر في الواقع أو في خيال البشر وجوداً مستقلاً سابقاً على وصف ذلك العالم في الأدب، بوجود باريس ولندن وبلاد الأفيال وجودا مستقلاً سابقاً على رحلة المسافرين إلى تلك البلاد وهذا هو (القياس الفاسد)

ووجه الفساد في كلا القياسين هو انعقاد بين أشياء مادية وأخرى روحية؛ فالتفاحة ليست كتاباً وإلا لكانت عقولنا معدات؛ ولندن ليست الجنة ولا باريس النار والسفر إليهما ليس وصفاً أدبياً للعالم الآخر نزوره بخيالنا

وهذه ليست إلا مجرد أمثلة؛ ففي كل صفحة مما كتب العقاد، بل في كل سطر نفس المنهج. وفي الحق أني لا أعرف عيباً في التفكير أخطر من هذا.

أما المغالطة فخطرها بين؛ ومن نافلة القول أن نقف عندها.

بقى القياس فاسداً وغير فاسد؛ ومن الثابت أن المنطق الشكلي كله لا القياس فحسب لا يمكن أن يوصل إلى الكشف عن حقيقة جديدة، وإنما تعمل الأقيسة في الحقائق المعروفة؛ فإذا كان القياس صحيحاً انتهى إلى إقحام مناظرنا، ولا أقول إلى إقناعه، لأن الإقناع إحساس وتسليم قلبي، وأما الإفحام فانعقاد اللسان أو شلل العقل وهذا هو الجدل. وإذا كان القياس فاسداً فتلك هي السفسطة التي لا تقنع ولا تفحم ولا تليق بالإنسان على أي نحو.

وإنما تكتشف الحقائق بالخيال والقلب، وتلك ملكات لا أحس لها بوجود فيما يكتب العقاد.

أنظر إليه في رده كيف يقول: (إن الجمع بين المعري ولوسيان مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه) وتلك لعمري مقارنة عجيبة، وأنا لا أرى أصلاً أي شبه بين أبي العلاء ولوسيان، بل ولا بين أبي العلاء وأي كاتب آخر؛ وذلك لإيماني بأن النفوس لا يمكن أن تتشابه أصالتها؛ وقد بينت ذلك في الثقافة، ولن أعود إليه.

واتجاه العقاد الخاطئ واضح في كل مقارناته. والذي أفهمه من المقارنة هي أن تكون إما

ص: 17

(مقارنة تأثر) نبغي منها إيضاح أخذ كاتب عن آخر، والمنهج الصحيح في هذا هو أن نثبت قراءة هذا الكاتب لذاك وتأثره به تاريخياً، إذ لا يكفي مجرد التوافق على فكرة أو صورة؛ والجمع بين أبي العلاء ولوسيان لا يمكن أن يكون على هذا النحو. أو (مقارنة فهم) وذلك بأن نجمع بين كاتب وآخر لنفهم كليهما على ضوء ما اختلفا فيه تبعاً لاختلاف منحاهما النفسي رغم وحدة الموضوع الذي يتحادثان فيه أو المصدر الذي يأخذان عنه. وهذا ما لم يفعله العقاد؛ وإنما فعل وفعل دائماً أن حاول التماس أوجه شبه بين أناس وأشياء من السذاجة أن نجمع بينها، فهو طوراً يقول بأن أبا العلاء قد كان اشتراكياً، وطوراً أنه قد أخذ بمبدأ النشوء والارتقاء وبقاء الأصلح (الفصول). وهذه محاولات باطلة؛ فأبو العلاء لم يحلم بشيء من هذا؛ ومذاهب الاشتراكية والنشوء غير بيت من الشعر أو جملة منثورة. وإنه لتعسف باطل أن يرج العقاد بتلك الكلمات الضخمة في معرض الحديث عن شاعر مسكين كأبي العلاء

وشاء العقاد إلا أن يختم حديثه بتذكيرنا بقوله عن رسالة الغفران: (أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفاً موصوفاً؟ أي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهوداً للناس مألوفاً؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان. . .)

وهذا كلام لا علاقة له أصلاً بموضع المناقشة فهو لا يدل في شيء على (أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان (وإنما يدل على أن فكرة الجنة وأوصاف الجنة كانت معروفة عند الناس كما وردت في الديانات والكتب المقدسة. وأما أنها تستخدم الأدب قبل أبي العلاء إلا عند لوسيان فهذا ما لم يرد عليه العقاد

ثم إن هذه الجملة في ذاتها تأكيد آخر من تأكيدات العقاد الغير مقبولة، فأبو العلاء لم يعرف الجنة كما كان الناس يعرفونها أو يتصورونها؛ والجانب الهام من جنته هو دنيانا أو على الأصح دنيا العرب، إذ أنه قد نقل الدنيا إلى الآخرة وقد جمعت تلك الدنيا بتاريخها الطويل في صعيد واحد، فهناك ترى الهذلي يحلب ناقته، وابن القارح محمولاً زقفونة على السراط، وابن عدي يصيد، والأعشى في عينه حور، وكل أولئك أشياء لم يكن يعرفها أحد عن الجنة بل ولا يتصورها مجرد تصور، وما هي من الجنة كما وصفها القرآن في شيء

ويضيف العقاد تذكيرنا بقوله: (إنها رحلة قديمة ولكن أبا العلاء أعادها علينا كأنه قد خطا

ص: 18

خطواتها بقدميه وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة. . .) وموضع البحث هو كما قلت وأكرر أن نعرف مدى قدم تلك الرحلة ومن سبقه إليها، أهو لوسيان فقط أم لوسيان وغير لوسيان ممن ذكرنا

والآن لم يبق لدي إلا أن أترك للقاري الحكم على طريقة الأستاذ العقاد في توجيه الخطاب من (لا يا شيخ!) إلى أمثال ذلك مما أمسك قلمي عن الرد بمثله، فهذا أمر سهل ميسور لكل إنسان.

محمد مندور

ص: 19

‌مرسلات

ملق!

أعلنت الصحف ذات يوم أنَّ فلاناً سيتحدث ساعة كذا من المساء حديثاً علمياً، وفلان هذا رئيس مرجوّ مرهوب، يمتد سلطانه إلى الأقاليم، حيث ينبث له في أرجائها عمال ومرءوسون. . . فحدثني صديق من أصدقائي أنَّ كثيراً من هؤلاء المرءوسين قد فرغوا لهذا الحديث، واحتشدوا له حول (المذياع) ثُبات ثُبات: منهم من ينشد العلم، ومنهم من يتزود للملق والنفاق، وأزف الموعد. . . فلو ترى إذ خشعت الأصوات، وأرهفت الأسماع، والليل ساجٍ لا تسمع فيه إلا دقات (الاستراحة) تنبعث متقطعة من (المذياع)، كأنها دقات قلب مضطرب على موعد للقاء. . . ثم نطق المذيع:

(سيداتي، سادتي: لم يتمكن حضرة الأستاذ (. . .) من الحضور، وسنذيع عليكم بعض الأسطوانات!)

ورجَّع المذياع بعد ذلك رنيم (ليلى) وشدو (أم كلثوم) حنى انقضى وقت الحديث!

وزرت هذا الرئيس بعد يومين في مكتبه لشأن من الشئون، وكنت عرفت سر تخلفه عن موعده، فما راعني إلا كتاب يلقيه إليَّ ويطلب مني أن أقرأه، فإذا هو من شخصين مرءوسين له في بلد قريب من القاهرة؛ وإذا هما يقولان فيه:(أما والله لقد أجدت في حديثك ليلة كذا إجادة ما نحسب أن أحداً وفق إلى مثلها؛ ولقد كنا نستمع إليك في جمع من أصحابنا مزهوَّين بك، والقوم من حولنا في نشوة. . . فلما انتهى حديثك لم يبق أحد إلا حيَّاك على البعد ودعا لك، ثم انثنوا إلينا يُلقُّوننا عنك التهنئات. . . فهكذا فلتكن الأحاديث!)

قلت وقد أخذتني الدهشة: أيَّ حديث يريدان؟ قال: هذان شخصان مَلِقان تعوَّدا أن يلقياني في كل مناسبة بمثل ما ترى، وقد حسبا أنِّي ألقيت الحديث!

محمد محمد المدني

ص: 20

‌على هامش النقد

كتب وشخصيات

للأستاذ سيد قطب

(عبقرية محمد) للعقاد

(تتمة ما نشر العدد الماضي)

للعقاد منطقه القوي في كل ما يكتب، فقد كان مهيأ أن يكون رياضياً لو لم يكن أدبياً. وتلك علامة الطبع المستقيم. إلا أن منطقه في كتاباته الأولى كان منطقاً وئيداً متمهلاً فيه أيد وصرامة. فأما في (عبقرية محمد) فهو المنطق الجارف المتطلق المتحدر عن غير طريق من طرق الإقناع. مع وضاءة شفافة وإشعاع لطيف.

وفي الكتابة لمسات بارعة من المنطق العميق، أدق ما يصورها قول العوام (ضربة معلم!) وهي كثيرة متناثرة في الكتاب نكتفي منها ببعضها:

يقول قوم: إن الإسلام أستهوى من أسلموا باللذائذ الحسية وبالتخويف من السيف. فما إن يعرض لهذا القول حتى يجهز عليه بلمسة تهتدي إلى موضع الإقناع، أو (بضربة معلم) بارعة في الصميم وإذا هو يقول في موضع:(لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر) ويقول في موضع آخر: (وما يقسم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف ويضع الطغاة من قريش في جانب العصمة والشجاعة) فيدرك القارئ أنها الضربة المجهزة التي لا تدع مجالاً للتعقيب، ويعلم كيف ينتفع المؤلف بالواقع المعروف على هذا الوجه الفريد.

ويعيب قوم على الإسلام التجاءه إلى السيف ويسمونه بميسم الإكراه على الدين. فما إن يعرض العقاد لهذه الفرية حتى يجهز عليها في لمسات متتالية أبرزها وأجدّها: (أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف (فكرة) يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع. ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف (سلطة) تقف في طريقه وتحول بينه وبين أسماع للإصغاء إليه. لأن السلطة تزال بلا سلطة ولا غنى في إخضاعها عن القوة. ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، وإنما كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد

ص: 21

لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء. . . الخ) وعندئذ يبلغ العقاد بهذه اللمسة موضع الاقتناع من كل ذي طبع مستقيم

ويعيب بعض المتعصبين على النبي عليه السلام إقراره لقتل كعب بن الأشرف، ولم يكن وقت قتله محارباً بالسيف ويشبهون هذا بما عيب على نابليون من اختطاف الدوق دانجان. فما إن يعرض العقاد لهذا الاعتراض حتى يأخذه بضربة معلم فيقول:(الفارق عظيم بين الحالتين. لأن حروب الإسلام إنما هي حروب دعوة أو حروب عقيدة، وإنما هي في مصدرها وغايتها كفاح بين التوحيد والشرك أو بين الإلهية والوثنية، وليس وقوف الجيش أمام الجيش إلا سبيلاً من سبل الصراع في هذا الميدان. فليس في حالة سلم مع النبي إذن من يحاربه في صميم الدعوة الدينية، ويقصده بالطعن في لباب رسالته الإسلامية، وإن لم ينفر الناس لقتاله ولم يحرضهم على النكث بعهده. وإنما هو محارب في الميدان الأصيل ينتظر من أعدائه ما ينتظره المقاتل من المقاتلين. . . الخ) فتبلغ هذه اللمسة موضع الاقتناع ممن يقتنعون!

ويتحدث قوم عن قسوة محمد لأنه راح ينظر القتلى في ساحة الحرب بعد موقعة بدر، فيضرب العقاد ضربته على هذا الحديث بمثل هذه القوة في صفحات 97، 98، 99، 100 وخلاصتها (أن الرجل الذي يرى الدم في المدنية العصرية غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية على الإجمال. ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها إراقة الدم كل يوم، وحياة القبائل التي كانت تغزو وتغزي في كثير من الأيام). . . وأنه كذلك (كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدراً لينظروا بعين النبي إلى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الإسلام)

وتلوك ألسنة أن محمداً كانت تستهويه لذائذ الحس ويتحدثون في هذا عن تعدد الزوجات. فيعرض العقاد لهذا بضربة من ضربات المعلم حين يقول: (حب المرأة لا معابة فيه. هذا هو سواء الفطرة لا مراء. وإنما المعابة أن يطغي هذا الحب حتى يخرج عن سوائه، وحتى يشغل المرء عن غرضه، وحتى يكلفه شططاً في طلابه، فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته، ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير أو عن عمل صغير؟)

ص: 22

ثم يقول: (وأعجب شيء أن يقال عن النبي إنه استسلم للذات الحس وقد أوشك أن يطلق نسائه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها) ثم يقول: (ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه اللذات أن يجمع النبي إليه تسعاً من الفتيات الأبكار اللائى اشتهرن بفتنة الجمال. . . الخ) فينتهي الجدل عند المنصفين

وهكذا. . . من مثل هذا المنطق المتطلق الوضيء السريع

وللعقاد في (عبقرية محمد) لفتات نفسية وفكرية جديدة، هيأه لإدراكها انفساح في النفس وغنى في الشعور وحيوية في الطبع والضمير

من ذلك قياسه الجديد لعظمة محمد بمقدار ما استحقت من صداقات وبمقدار ما استجابت به لكل من هذه الصداقات: (تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم والحيلة والصراحة والألمعية والاجتهاد وحنكة السن وحمية الشباب)

وقياسه لهذه العظمة في موضع آخر بما انفسحت له من العطف على الصغير والتقدير العظيم، لأن إنصاف العظيم جميل كإنصاف الصغير

وقياسه لهذه العظمة في موضع ثالث بما انفسحت له من الجد والنهوض بعظائم الأمور مع تقبلها للفكاهة وعطفها على المتفكهين

وقياسه لهذه العظمة في موضع رابع بما انفسحت له من طبيعة العبادة وطبيعة التفكير وطبيعة التعبير الجميل وطبيعة العمل والحركة

ولولا الانفساح الكبير في طبيعة العقاد ما تهيأ لإدراك هذا الانفساح العظيم في مثله العليا في هذه النفس الرحيبة، ولما التفت إليه هذا الالتفات وصوره هذا التصوير

ومن هذه اللفتات التي لا محيص من ذكرها - وإن ضاق المقام - التفاته إلى تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أدواته وأسلحته بأسماء الأعلام وما فيها من (معنى الألفة التي تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين، كأن لها شخصية مقربة تميزها بين مثيلاتها كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح وبالكنى والألقاب)

لقد تحدث المتحدثون عن عطف النبي وحدبه فذكروا حوادث بره بالناس وبالحيوان. وممن

ص: 23

كتبوا في ذلك حديثاً الدكتور هيكل في كتاب (حياة محمد) ثم تحدث العقاد فعرض بأسلوبه وطريقته مظاهر هذا العطف على الناس وعلى الحيوان، ثم تجاوزه إلى هذه اللفتة المشرقة. والزيادة هنا ليست لقصد الزيادة، ولا لمجرد الاستقراء، ولكنها تزاد لنوع جديد من الدلالة لا يدرك ما فيه من طبيعة الألفة والمودة لأول وهلة، ولا تدركه إلا بصيرة نافذة ونفس عطوف وحس شفيف

ويبلغ العقاد قمة اللفتات النفسية البارعة عند تحليله لعقوبة (الهجر في المضاجع) ويتجاوز الظواهر إلى حقيقة البواعث ومكامن الطبائع، وتبدو الخبرة بطبيعة المرأة واليقظة لسيكلوجيتها الصميمة. ولن يتسع المجال هنا لعرض هذه اللفتة، فهي هناك في الصفحات ما بين 214، 218 يرجع إليها من يريد

وفي (عبقرية محمد) بعد هذا كله قصائد إنسانية رفيعة، وإشراقات نفسية وذهنية وضيئة

فأما القصائد فهي هناك في مواضع متفرقة، ولكنها تروع وترفرف في ص26 حين يتحدث عن (عبد الله) فيقول: لكأنما كان بضعة من عالم الغيب أرسلت إلى هذه الدنيا لتعقب فيها نبياً وهي لا تراه. ثم تعود. . . الخ)

وحين يتحدث عن (مولد إبراهيم وموته) في فصل (الأب) فيقول: (ولد الطفل الذي نظر إليه أبوه يوم مولده فأمتد به الأمل مئات السنين بل ألوف السنين، وتخير له الاسم الذي وراءه أعقاب كأعقاب جده الأعلى ليكون أباً ويكون له أحفاد ويكون لأحفاده من بعدهم أحفاد. . .

(ثم مات ذلك الطفل الصغير

(ومات ذلك الأمل الكبير)

ثم يمضي في هذه القصيدة وفي تلك فتحس خفق قلب إنساني عطوف على مصاب قلب إنساني كبير وتلمح رفرفة نفس شفيفة على نفس لطيفة من وراء الآباد والقرون

وأما الإشراقات النفسية والذهنية فهي هناك في مواضع متفرقة، ولكنها تروع وتعجب عند الكلام على محمد (العابد) وهناك صفحات في الإيمان والتفكير كانت خليقة أن يكتبها أحد (الواصلين)! فلعلها محسوبة للعقاد عند جمع درجات الحساب في الكتاب المكنون، ولعله واصل بهذه الدرجات إلى عليين!!

ص: 24

وفي عبقرية محمد تقويم صحيح لطبيعة العبقرية، ولطبائع كثير من المواهب والحقائق، عني فيها العقاد دائماً بتوكيد الباعث المكنون في الضمير وإيثاره على ظواهر الأمور (فالعبقرية قيمة في النفس قبل أن تبرزها الأعمال ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يغالي بها التقويم). . . (ولقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالماً مغلقاً تحيط به الظلمات. فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها، فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيد على سيد، أو بامتداد التخوم وراء التخوم. ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم ودنا به مرتبة من الله. . .)

وبعد فإن الجديد في (عبقرية محمد) هو ضخامة الطاقة النفسية التي تستطيع أن تلم بنفس (محمد) هذا الإلمام. هذه الطاقة هي التي لم تتهيأ من قبل لأيٍِّ ممن كتبوا عن (محمد). وهي التي تشيع في جو الكتاب كله، ويتعذر لمسها في نقط خاصة منه

(إن (نفس) محمد العظيمة هي التي يصورها هذا الكتاب أبرع تصوير ويجلوها أحسن جلاء. وتلك هي (عبقرية العقاد) في (عبقرية محمد) على وجه الإجمال

سيد قطب

ص: 25

‌36 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)

هناك أشياء مختلفة يعدها المسلمون كالاحجبة، مثل تراب القبر النبوي وماء زمزم المقدس وستار الكعبة الأسود. ويقدر المسلمون ماء زمزم كثيراً لأنه يُرش على الأكفان. وسمعني أعرابي كنت أعطيته في الصعيد أثناء زيارتي الأولى لمصر دواء (أفاده) أسأل عن قليل من ماء زمزم إذ أن الكثير من المراكب الغاصة بالحجاج العائدين من مكة كانت نازلة في مجرى النيل. وربما ظن الرجل لسؤالي هذا أنني مسلم تقي، ومن ثم منحني ما كنت أحاول الحصول عليه ليعبر عن امتنانه. فذهب إلى منزل صديق له وعاد إلى مركبي حاملاً ربطة صغيرة فتحها أمامي قائلاً:(هاهي ذي أشياء أعرف أنك ستقدرها تقديراً عظيماً. هاهما علبتان من القصدير ملآنتان بماء زمزم، إحداهما لك تحتفظ بها لترشها على كفنك. وهذا سواك غُمس في ماء زمزم فتقبله مني ونظف به أسنانك فلن تؤلمك ولن تتلف أبداً). وأضاف قائلاً، وهو يظهر لي ثلاث كعكات من التراب الأشهب صغيرة مستطيلة مسطحة طول كل منها قيراط تقريباً وقد طبع عليها: باسم الله، تراب من أرضنا، مزج بريق بعضنا. وهذه صنعت من تراب فوق قبر الرسول صلعم، وقد اشتريتها بنفسي عند عودتي من الحج، وإني أعطيك إحداها وستجد فيها شفاء من كل داء. وسأحتفظ بالثانية لي. أما الثالثة فنأكلها معاً. وعلى ذلك كسر إحدى الكعكات نصفين وأكل منا نصيبه. وقد وافقته على أنها لذيذة وقبلت هداياه مسروراً. وقد أمكنني فيما بعد أن أزيد ما عندي من تحف عن مكة ومن ذلك قطعة من ستار الكعبة أحضرها الشيخ إبراهيم (بركهارت) من مكة وأعطاني إياها وريثه عثمان. وتوضع الكعكة أحياناً في غلاف من الجلد وتحمل كتعويذة، وتصنع

ص: 26

أحياناً أقراصاً على شكل الكمثري الصغيرة وبحجمها وتعلق على الستر المحيط بمقام الأولياء أو على المقام ذاته أو على نوافذ المقام أو بابه.

والأحجبة التي يستعملها المصريون لجلب السعادة أو منع الشقاء كثيرة؛ والعادات الخرافية التي يمارسونها لهذه الأغراض مختلفة بحيث لا يكفي لوصفها مفصلة مجلد كبير. وتسمى هذه الأساليب التي لا يكون أساسها الدين أو السحر أو التنجيم (علم الرُّكَّة) إشارة إلى سخافتها، ولأن النساء يعتمدن عليها غالباً. ويعتبر البعض هذه الكلمة تحريفاً علمياً لعبارة (علم الرُّقْية) أي علم السحر. ويرى البعض الآخر أنها حلت محل العبارة الأخيرة بطريق التورية. وقد ذكرت عرضاً بعض العادات مما وصفته، وسأذكر بعض أمثلة أخرى.

من الشائع كثيراً أن يعلق القاهريون عود الند فوق أبواب المنازل الجديدة خاصة. ويعتبر هذا حجاباً يكفل للسكان عمراً مديداً وحياة سعيدة وللمنزل بقاء طويلاً. ويعتقد النساء أيضاً أن الرسول يزور المنزل الذي يعلق فيه هذا النبات. ويبقى العود معلقاً هكذا بدون طين أو ماء سنوات عديدة. ويزهر أيضاً. وقد سمى لذلك (صبراً) وعلى الأصح (صبّارة) إذ أن كلمة (صبر) تطلق عامة على العصير.

وجرت العادة عندما يُخشى إنسان أن يكسر خلف ظهره وعاء من الفخار. ويُفعل هذا أيضاً لقطع كل علاقة أخرى مع مثل هذا الشخص.

ويعمد الجهلاء في مصر حيث ينتشر الرمد إلى الكثير من العادات الخرافية المضحكة لمعالجة هذا المرض فيأخذ البعض قطعة طين من جسر النيل عند بولاق أو بالقرب منها ثم يعبرون النيل ويضعون القطعة على الجسر الآخر عند (امبابه) وحسبهم هذا لضمان الشفاء. ويعلق آخرون للغرض ذاته في غطاء الرأس فوق الجبهة أو العين المريضة قطعة ذهبية (بندقي) ذات وصف خاص متقابلة النقشين غير أنه يعتقد أن دخول المرء، حاملاً في جيبه بندقيا أو ريالاً على المريض بالرمد أو بحمى مما يزيد المرض. والاعتقاد العام أيضاً أنه دخل لمرء غير طاهر على مصاب بالرمد يشتد المرض عليه وتظهر نقطة في إحدى عينيه أو في كلتيهما. وأعرف رجلاً أصيب بالرمد فحبس نفسه في غرفته ثلاثة شهور مدة المرض خوفاً من ذلك، فلم يسمح لأحد بالدخول عليه، وكان خادمه يضع الطعام خارج الغرفة عند الباب؛ وأصيب مع ذلك بنقطة على إحدى عينيه

ص: 27

وكثيراً ما يقوم النساء بعادة أخرى شديدة الغرابة تتقزز منها النفس منعاً للعقم

تعد ساحة الرميلة الكبرى غربي القلعة مسرحاً لإعدام المجرمين. وكان فيما مضى يكاد يضرب عنق المحكوم عليهم بالإعدام في العاصمة دائماً في هذا المكان من المدينة. وجنوبي هذا المكان بناء يسمى (مغسل السلطان) حيث توضع جثة المضروب عنقه على مائدة حجرية لغسلها قبل الدفن. وتتجمع المياه في حوض لا يفرّغ أبداً فيظل ملوثاً بالدماء كريه الرائحة. فيذهب الكثير من النساء إلى ذلك المكان للبرء من الرمد أو للحصول على النسل أو لتعجيل الولادة في حالة الحمل المتأخر. فتمر المرأة صامتة، والصمت لازم إطلاقاً، تحت المائدة الحجرية متقدمة بالقدم اليسرى، ثم تمر فوق المائدة سبع مرات وتغسل بعد ذلك وجهها بالماء الدنس. وتعطي كهلاً وزوجه يلازمان هذا المكان خمس فضة أو عشرة ثم تنصرف وما زالت صامتة. وكثيراً ما يفعل ذلك المصابون بالرمد من الرجال. ويقال إن هذا المغسل بناه بيبرس الشهير قبل أن يصبح سلطاناً عندما لاحظ جثث المحكوم عليهم ترفس وتدفن دون أن تغسل. ويخطو بعض النساء جثة المعدم سبع مرات صامتات ليصحبن حبالى. ويغمس البعض الآخر، مدفوعاً بالرغبة نفسها، قطعة من القطن الزهر في الدم ويستعملها فيما بعد بطريقة يجب ألا أذكرها

وهناك عادة مضحكة يمارسها المصريون لعلاج بثرة تظهر على حافة الجفن ويسمونها (شحَّاتة) ومعنى هذه الكلمة الحرفي سائلة. فيذهب المصاب إلى سبع نساء تسمى كل منهن فاطمة في سبعة بيوت مختلفة؛ ويسأل كلاًّ منهن قطعة خبز. ويتكون الدواء من هذه القطع السبع. وأحياناً يخرج المصاب في حالة متشابهة وللغرض نفسه قبل طلوع الشمس إلى المقابر يدور حولها صامتاً من اليمين إلى اليسار بعكس الطريقة المعتادة. وهناك طريقة وهمية أخرى للعلاج وهي أن يثبت المصاب قطعة قطن على طرف عصا ثم يغمسها في أحد الأحواض التي يشرب منها الكلاب في شوارع القاهرة ويمسح العين بها. ويهتم المريض هكذا بوقاية يده من الماء المدنس عندما يوشك أن يضع منه على موضع آخر من جسمه

ويعلق بعض المصريات المسلمات في رقابهن إصبعاً مجففة فصلت عن جثة مسيحي أو يهودي متوهمات أن ذلك يعالج الحمى المتقطعة (الملاريا). وتدل هذه العادات دلالة تستحق

ص: 28

الاعتبار على مفعول الخرافة المنحط وتأثيرها القوي على العقل، إذ أن المسلمين على العموم يدققون في مراعاة الفروض الدينية التي تأمرهم بالامتناع عن كل دنس أو قذر

جرت العادة عندما يعجز الطفل عن المشي بعد أن يدرك السن المناسبة أن توثق أمه قدميه بسعف تعقدها عقدات ثلاث وتضعه على باب مسجد أثناء صلاة الجمعة، وتسأل بعد الصلاة أول الخارجين وثانيهم وثالثهم أن يحل كل عقدة من السعف، ثم تحمل الطفل إلى المنزل مؤمنة أن هذا العمل سوف ينتج الأثر المراد عاجلاً

من العقاقير من يزعمون أنه ترياق أو شاف لبعض الأمراض. وقد يكون لهذه الأدوية بعض التأثير ولكن الخرافة تنسب إليها فضائل لا تُصدَّق. ويرى المصريون حتى غالبية المتعلمين والمهذَّبين في الخاصيات المفيدة أو المضرة لمختلف المواد النباتية والحيوانية أسخف الآراء. إذ يؤيدها في بعض الأحوال أحاديث تروى عن النبي ويدعمها اعتبار حكمائهم المشهورين. ويستعمل البادزهر ترياقاً بحكه مع قليل من الماء في طاس تملأ بعد ذلك ويشربها المصاب. ويستعمل لذلك أيضاً وبالطريقة نفسها قدح من قرن الخرتيت يدعك بقطعة من المادة نفسها. ويعالج الكثير من أهل القاهرة مرض اليرقان بالشرب من ماء (بئر اليرقان) وهو بئر تمتلكها عجوز وتجني منها فائدة كبيرة؛ فللبئر فوهتان أسفل إحداهما وعاء جاف للأشياء التي تقذف بها. فتطلب العجوز ممن يرغب استعمال الماء الطبي أن يسقط خلال هذه الفوهة ما تحتاج إليه من سكر وبن الخ

يلجأ المسلمون إلى عادات خرافية شتى يستشيرونها عند التردد في عمل ينتوون فعله أو تركه. فيستخدم البعض جدولاً يسمى (زائرجة). وهناك جدول من هذا النوع ينسب إلى إدريس أو أخنوخ. ويقسم الجدول إلى مائة خانة صغيرة يكتب في كل منها حرف. ويتلو من يستشير الجدول الفاتحة والآية التاسعة والخمسين من سورة الأنعام (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ثلاث مرات. ويضع بعد ذلك إصبعه على الجدول دون أن ينظر إليه ثم يعاين الحرف الذي يشير إليه إصبعه ويدونه، ثم يدون الحرف الخامس اللاحق للأول، فالخامس التابع للثاني، وهكذا حتى يعود إلى الحرف الأول. ويكون من مجموع هذه الحروف الجواب

ص: 29

ويعمد البعض إلى القرآن لحل مشكلاتهم، ويسمون هذا (استخارة)، فيرددون الفاتحة وسورة الإخلاص والآية السابقة ثلاثاً، ثم يتركون المصحف يسقط مفتوحاً أو يفتحونه عرضاً، ويستخرجون الجواب من السطر السابع في الصفحة اليمنى، وكثيراً ما لا يحمل الكلام جواباً صريحاً، إلا أنه يعتبر إيجابياً أو سلبياً حسبما يدل معناه على الخير أو الشر، كأن يشير إلى وعد أو وعيد. ويعد البعض بدلاً من قراءة السطر السابع عدد الحرفين الخاء والشين في الصفحة كلها، فإذا غلبت الخاءات كانت النتيجة مناسبة: فالخاء تمثل الخير والشين الشر

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 30

‌حماسيةٌ لا سياسية

لمعالي الأستاذ رضا الشبيبي

أَلا في سَبيلِ اللهِ وَالْوَطَنِ الْعَانِي

سُهَادِي إذا جَنَّ الظَّلَامُ وَأَشْجَانِي

وَفي ذِمَّةِ الشَّعْبِ المُضَيَّع حَمْلَةٌ

مِنَ الدَّهْر أَلْقَاهَا - وَحِيداً - وَتَلْقَانِي

وَسَوْمِيَ نَفْسِي في الْكِفَاحِ رَخِيصَةً

وكنتُ فتىً إِنْ سَامَنيِ الدّهْرُ أَغْلَانِي

وَنَفْثِيَ مِنْ صَدْرِي شُواظاً تَضَرَّمَتْ

بهِ وَسَرَتْ في فَحْمةِ اللَّيْلِ نيراني

وَرَدّيَ كَيْدَ الكَائدِينَ عَلَيْهُمُ

وكان قميناً أن يضعضِعَ أركاني

إذا كادَ أَنْأَى النَّاسِ عَنَّيَ كِدْتُهُ

وَإِنْ كادَ أَدْنى النَّاسِ مِنِّيَ أَعْيَاني

رِجَالٌ لَهُمْ في الْعرْبِ دَعْوَى كما ادّعَى

(بِآلَ زِيَادٍ) قَبْلَهُمْ (آلُ سُفْيَانِ)

لهم ما استقامتْ قَطُّ عندي طريقةٌ

وناهيك فيهم من وجوهٍ وألوانِ!

تَعَسَّفَ قَوْمٌ بالعراقِ وَسَاوَمُوا

عَلَى وَطَنٍ مَا سِيمَ - يَوْماً - بَأَثْمَانِ

هُمُ احْتَقَبُوا الأَوْزَارَ يقترِفونها

وقالوا: جَنَى عَمْداً وما هو بالجاني!

هُمُ استعجلوا اللذاتِ يَنْتَهِبُونَهَا

وَهُمْ بَدلَوا بالجَوْهَرِ الْعَرَضَ الفاني

وقد تُنْكِرُ الحُرَّ العِرَاقَّيِ أَرْضُهُ

فَيَنْأَي ليدنو منه من ليس بالداني!

(بغداد)

رضا الشبيبي

ص: 31

‌معركة (بلنهايم)

للشاعر الإنجليزي روبرت سوثي

بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة

(بلنهايم قرية في بافاريا الغربية على ضفاف الدانوب الأعلى،

انتصر عندها الإنجليز وحلفاؤهم من الأوربيين بقيادة

مارلبورو (وهو جون تشرشل جد ونستن تشرشل الحالي،

يعاونه الأمير أوجين صاحب سافوي. . . على جيوش

الفرنسيين والبافاريين بقيادة المارشال تالارد؛ وكان ذلك في

13 أغسطس 1704 م

وقد أنشأ روبرت سوثي - وهو أحد شعراء البحيرة الثلاثة قصيدته هذه عام 1798)

كانت أُمسيَّة من أمسيَّات الصيف الرائعة؛ وقد أنهى (كَسْبَار) العجوز عمله في مزرعته، ثم احتبى أمام باب كوخه يرقب الشعاع الغارب في سكون. . . بينما انطلقت حفيدته (ولْهِلْمِينا) تلهو بجانبه على المرج الأخضر

وبعد هنيهة أقبل أخوها (بيتركين) يقلب في يده كرة بيضاء مستديرة، عثر بها وهو ينبش الأرض إلى جانب الجدول القريب. . .

وراح الصغير يتساءل في لهفة عن هذه الكرة المستديرة الملساء؛ فتناولها منه الجد وأقبل يفحصها بيده وبصره؛ بينا وقف أمامه الصغيران ينتظران جوابه في لهفة واشتياق

هزَّ الشيخ رأسه في أسف؛ وتنهد تنهيدة حرَّى ثم قال: (هذه جمجمة أحد أولئك المساكين الذين سقطوا صرعى يومَ الانتصار الكبير. . . لقد طالما عثرت بمثلها وأنا أنبش الأرض: في الحديقة. . . وفي المزرعة. . . وفي كل مكان. وكم من مرة ارتطمت سكة محراثي بجمجمة كهذه، حتى لأصبحت وما أكاد أحفِل بها أنّي أجدها. نعم؛ إن آلافاً وآلافاً من الرجال البواسل طحنتهم رحى القتال فلم تبق منهم إلا أشلاء مختلطة؛ في يوم هذا النصر

ص: 32

الذي ارتفع ذكره ودوى صداه!

فهتف (بيتركين) في دهشة: ولكن. . . قل لي يا جدي علام اصطرع هؤلاء الرجال. وفيم استباحوا لأنفسهم أن يَحْضَأُوا نار هذه الفتنة المبيرة، ويتساقوا بأيمانهم كؤوس المنية دهاقاً؟. . .

وأصغتْ ولهلمينا إلى الجواب في لهفة، وقد حدقت في وجه جدها بعينين مستطلعتين

قال الشيخ الهرم: هذا سؤال لا يحضرني جوابه؛ ولكني سمعت الجميع يقولون: إنه كان انتصاراً رائعاً تردَّد صداه في كل مكان. . .

كان أبي يقيم يوم ذاك في (بِلِنْهايم) خلف هذا المجرى القريب؛ ولقد أضرم المتحاربون النار في بيته حتى تداعت أركانه وانهار بنيانه؛ فلاذ بأذيال النجاة، وشرد هائماً في السهل العريض، مع زوجة مكروبة، وطفل مزءود، يطاردهم الموت أنى ذهبوا، وتسد عليهم كوارث الحرب كل مسلك. . . فما يملكون لها دفعاً، ولا يجدون لهم من دونها موئلا. . .

لقد فعل الحديد والنار فعلهما في هذه الأنحاء، وانبثت نذر الهلاك والدمار فيها طولاً وعرضاً؛ حتى لذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ووضعت كل ذات حمل حملها. ولكم من شيخ مات إعياء وضعف؛ وطفل اخترم جزعاً وخوفاً. . . ولكن أشياء كهذه تحدث دائماً - كم تعلمان - عند كل انتصار كبير!

إنهم ليتحدثون في ارتياع وذهول، عن بشاعة المنظر الذي كانت تقع عليه العين يوم انجلى غبار المعركة عن أكداس فوق أكداس من أشلاء ممزقة، وهامات مفلقة؛ قد صهرتها حرارة الشمس، ودب فيها دبيب البلي. ولكن هكذا الشأن في كل نصرة: مسرة تحفها الآلام، ونعمة يعاتقها الشقاء، وتسد سبيلها الكوارث والمفجعات. . .

لقد طوقت هذه الحرب (دوقَ مارلْبوردُ) بهالة من المجد والفخار، وأكسبه صدق بلائه فيها محبة وثيقة من كل قلب، وثناء رطيباً على كل لسان. وكذلك حظي أميرنا المحبوب (أُوجين) بقسط من الحمد عظيم، ونصيب من الثناء وافر. . . فاعترضت ولهلمينا تقول: عجباً! وفيم كل هذا؟ لقد ارتكبا والله شناعة، وأتيا أمراً إدَّا.

قال الشيخ في حدة: كلا، كلا يا فتاتي العزيزة؛ إنه لانتصار رائع وفوز مبين؛ وإن الجميعَ ليثنون على الدوق الشجاع الذي بلغ بمقدرته تلك الغاية، وسجل هذا النصر الأغر. . .

ص: 33

وهنا عنَّ لبيتركين أن يسأل بدوره فقال:

ولكن حدثني يا جدي عما أفاده الناس من هذه المعركة الطاحنة، ذات الحوادث الرهيبة!

فأحس الشيخ بالحرَج. . . وكأنما قد فرغ رأسه بعد أن نفض عنه كل ما يعلم، فقال في لهجة من يختتم الحوار:

لا أستطيع يا بني أن أقول في هذه المعركة شيئاً، سوى أنها كانت نصراً حاسماً تردَّد صداه في كل مكان!!

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 34

‌البريدُ الأدبي

محاولة قديمة جريئة في الفقه الإسلامي

كنت أعتقد إلى إطلاعي على هذه المحاولة أن عصرنا هو الذي يمتاز بهذه المحاولات الجريئة في الفقه الإسلامي، لأنه يمتاز على ما سبقه من العصور بما جد فيه من ظروف وأحوال انتهت بإبطال العمل بهذا الفقه في قسم المعاملات، فكان هذا سبباً في تلك المحاولات الجريئة التي يقصد منها تطويع هذا الفقه لمجاراة الظروف والأحوال، وإيثار العمل بروح الشريعة السمحة على الوقوف عندما تقضي به النصوص والألفاظ

ومن تلك المحاولات ما ذهب إليه بعضهم من أن الإسلام كغيره من الديانات لا يراد منه إلا تهذيب الروح، فلا يكون من صميمه إلا قسم العبادات؛ أما قسم المعاملات، فهو قسم دنيوي يقبل التغيير والتبديل، ولا يثبت على حال واحد كقسم (العبادات)

ومنها ما ذهب إليه بعضهم في مجلة (الرسالة) الغراء من تقسيم الإسلامي إلى دائم ومؤقت، وجعل قسم المعاملات من التشريع الثاني، لأنه صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بشخصية الإمام المجتهد، لا بشخصية الرسول المبلغ عن الوحي، وهذه المحاولة هي المحاولة الأولى بعينها في ثوب جديد وتمتاز عليها بقوة الأساس الذي بنيت عليه، وأنه كان بحيث لم يسع بعض المنكرين لتلك المحاولات، إلا قبوله بدون قيد ولا شرط.

أما تلك المحاولة القديمة، فقد ذكرها أبو جعفر النحاس في كتابه - الناسخ والمنسوخ - وجعلها مذهباً لبعض المتأخرين في النسخ، وهو يعني بالمتأخرين من جاء بعد الصحابة والتابعين؛ فقد ذكر لهم مذاهب في النسخ منها ما ذهب إليه بعضهم من أن يكون في الأخبار والأمر والنهي؛ وقد قال في رده: وهذا القول عظيم جدًّا يؤول إلى الكفر، لأن قائلاً لو قال: قام ثم قال: لم يقم؛ ثم قال: نسخته لكان كاذباً

ومنها هذا القول الذي يتضمن تلك المحاولة، وهو أن الناسخ والمنسوخ إلى الإمام ينسخ ما شاء، ولا شك أن المحاولتين السابقتين إنما تقصدان إلى هذه الغاية، وترميان إلى إعطاء الإمام هذه الحق؛ وقد قال أبو جعفر في رد ذلك القول: وهذا القول أعظم، لأنه النسخ لم يكن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله؛ إما بقرآن مثله على رأي قوم، وإما بوحي من غير القرآن؛ فلما ارتفع هذان بموت النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع النسخ.

ص: 35

(أزهري)

غطاء الرأس والأزياء

أجابت لجنة الفتاوي الأزهرية على سؤال وجه إليها من جمعية المشروعات الخيرية الإسلامية ببيروت في صدد غطاء الرأس والأزياء، بأن (الدين الإسلامي لم يفرض على الناس زياً خاصاً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس الملابس العربية التي كانت في وقته، والملابس غير العربية التي وصلت إليه، غير أن الإسلام استثنى من ذلك ما كان خاصاً بالطقوس الدينية أو كان مميزاً لطائفة من الطوائف غير الإسلامية، وإذ أن الطربوش والمعطف والسترة والبنطلون والبيجامة، ليست ملابس خاصة بطقوس دينية فإن لبسها للرجال جائز. أما البرنيطة فلم تعد زياً خاصاً لفريق من الناس، فيجوز لبسها في الأقطار التي تعد البرنيطة من الملابس الشائعة دون الأقطار التي تعدها من الملابس الخاصة بغير المسلمين)

أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً

يقول الدكتور زكي مبارك في إحدى كلماته: (قال الرسول عليه السلام: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. وقد أول قوم هذا الحديث فقالوا: إن نصر الأخ الظالم هو نهيه عن الظلم. وأقول إن الحديث الشريف يرمي إلى غاية لم يفطن لها أولئك المؤولون، وهو عندي دعوة إلى العصبية الأخوية، وهي الغاية في شرف الإخاء، وتلك العصبية توجب أن تكون في صفوف الإخوان ولو كانوا ظالمين، لأن الوداد الصحيح هو الاشتراك الوثيق في المحاسن والعيوب)

وهذا القول من شطحات الأديب الكبير، فإن النبي (ص) لما قال هذا الحديث سأله صحابته: قد علمنا أننا ننصر أخانا مظلوماً فكيف إذا كان ظالماً؟ فأجاب الرسول ما معناه: نصرته إذا كان ظالماً تردوه عن ظلمه. وهذا ما ذكر المحدِّثون عند رواية هذا الحديث؛ ولكن الدكتور عفا الله عنه أتى على صدر الكلام وتناسى عجزه.

وقال بعضهم إن هذه الكلمة قد أثرت عن العرب في الجاهلية ولكنهم قالوها على مذهب شاعرهم القائل:

ص: 36

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا!

والقرآن والسنة يا دكتور لا يقال فيهما: (وهو عندي. . .) خصوصاً إذا سدت الرواية والأسانيد السبيل أمام الظنون والآراء، ورضى الله عن أبي بكر الصديق إذ يقول:(أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي!)

(البجلات)

أحمد الشرباصي

ذكرى الشاعر عبد الحليم المصري

حفل مسرح الأزبكية في الأسبوع الماضي بجمهرة من الأدباء والشعراء ورجال القلم احتفلت بذكرى الشاعر الكبير المرحوم عبد الحليم المصري برياسة صاحب المعالي نجيب الهلالي باشا وزير المعارف. وقد تفضل حضرة الجلالة الملك فأوفد صاحب العزة محمود يونس بك التشريفاتي لحضور هذا الاحتفال. وقد تعاقب الخطباء على منصة الخطابة فألقوا كلمات وقصائد عددوا فيها ما كان لهذا الشاعر من آثار على دولة الشعر والأدب في مصر. ثم اختتمت الحفلة بكلمة ألقاها اليوزباشي عصام حلمي المصري عن أسرة الفقيد شكر فيها للمحتفلين شعورهم

وقد عاش المرحوم عبد الحليم المصري فيما بين سنة 1887 وسنة 1922 ومات في منتصف العقد الرابع من عمره، وقرض الشعر في سن الثالثة عشرة. وأخذ نجمه في الشعر والأدب يصعد وهو في سن السابعة عشرة. وقد أفرد لمنشئ مصر الحديثة المغفور له محمد علي الكبير ديواناً خاصاً. وقربه المليك الراحل وعينه أميناً للمكتبة الملكية، ومات في اليوم الثاني من شهر يوليو سنة 1922، وكان يجري في الشعر على مذهب حافظ

الفدائية

ذكر الدكتور محمد حسني ولاية في مقاله (الشخصية الهستيرية في الرسالة: ومن الطرق التي يلجأ إليها الهستيري في كفاحه لنيل تقدير الجماهير إنكار الذات (ظاهراً) والفدائية، واستعذاب العذاب في سبيل تحقيق المبادئ السامية

فهل للدكتور الفاضل أن يتفضل فيبين لنا المبادئ التي كانت تعمل من أجلها جماعة

ص: 37

الفدائيين، وهل كانت هذه المبادئ من السمو بحيث يضحي الفدائي نفسه في سبيل كل غاية تفيد الإنسانية، أم أن الدكتور الفاضل أراد بذكرهم في مثاله مجرد التشبيه فقط، باسترخاصهم النفس في سبيل غاياتهم.

وأنى لرد الدكتور الفاضل لمنتظر، فقد تعددت الآراء، وتضاربت الروايات بشأن هذه الجماعات. وللدكتور الفاضل خالص الشكر ووافر الامتنان

مصطفى عبد المجيد جابر

حول ترتيب القرآن

لا شك في أن ترتيب السور في القرآن الكريم الذي بأيدينا قد بُني على قاعدة معقولة مما أرضت جميع المسلمين على اختلاف طبقاتهم. . . فما هي هذه القاعدة التي رُتبتْ السور القرآنية بموجبها؛ أروعي في ترتيبها كبر السورة أم سبق النزول، وكلا الأمرين - كما هو ظاهر لم يراع في ترتيبها

فيا حبذا لو التُفتَ لهذا الموضوع الجليل وأُعطي ما يستحقه من العناية على صفحات (الرسالة) أسوة بالمواضيع الخطيرة التي تتناولها

قضاء الهندية - العراق

عيدان رشيد الكاتب

المهرجان الأدبي الرابع

يعتزم نادي الخريجين بالخرطوم إقامة المهرجان الأدبي الرابع في عيد الفطر المبارك المقبل وقد شكلت لهذا الغرض لجنة خاصة وهي الآن في حركة دائمة ونشاط متواصل وبدأت عملها بتوجيه الدعوة بالصحف السيارة لحملة الأقلام وقادة الفكر ليتأهبوا لهذا الحدث الأدبي الهام، وشفعت نداءها ببرنامج شامل للموضوعات التي ينبغي أن تلقى في تلك السوق الأدبية الحافلة

واللجنة وطيدة الأمل أن يساهم الأدباء المصريون الأعلام وغيرهم من أدباء الأقطار العربية الشقيقة في هذا العيد الأدبي بإرسال ما تجود به قرائحهم الوقادة برسم (سكرتير

ص: 38

المهرجان الأدبي الخريجين بالخرطوم)

وفق الله الجميع لإعلاء كلمة الأدب والنهوض بلغة الضاد

حيدر موسى

من هيئة السكرتارية

كتاب (ديكارت) للأستاذ عثمان أمين

هذا الكتاب كسب للمكتبة العربية، ومذهب جديد في دقة البحث وحسن العرض. وما ظنك ببحث يعرض لك نوع الحياة التي عبرها لتقف على بواعث فكره الأصلية، ويبين لك كيف تفتحت هذه البواعث عن أفكار كملت واستقامت؛ ويريك كيف اقترع ديكارت منهجه الجديد ومذهبه الفلسفي، كل أولئك مع حيوية دافقة في بيان مواضع الخلاف بين ديكارت ومن سبقه من الفلاسفة، وإبداع في مناقشته تأويلات الفلاسفة لمذاهب ديكارت وأخلاقه. . . في أسلوب جلي واضح يقرب أغراضه من الفهم ولا ينبو عن الغرض. إن كتاباً يكون هذا منهجه ويكون موضوعه فلسفة ديكارت لهو كتاب حقيق أن يوفى حقه وواجب أن يحسن استقباله

وبعد فما نخالف المؤلف الفاضل إلا في ناحية واحدة لا تذهب بجلال البحث وهي قوله بأن تخلف ديكارت عن نصرة (غاليلي) لم يكن عن خوف وإنما كان عن رغبة في الهدوء!

ونحن نقول إنه كان عن خوف عارم، فقد كان الرجل شديد الحرص على أفكاره قوي الدفاع عنها. وإن مناقشاته الكثيرة مع ناقديه لتنهض دليلاً على ذلك، فهو كان يخشى أن تعارضه الكنيسة، فلا يستطيع أن يصاولها فتسكت! والسكوت عند من يتوهج غيرة على أفكاره أمر شديد وجيع. . . وإذن فقد آثر ديكارت السكوت عن نصرة (غاليلي) خوفاً على فلسفته ورهبة من الكنيسة

ولو كان ديكارت كشف عن رأيه في موقف الكنيسة من غاليلي لضاعت تلك الفلسفة التي وضعت للنفس روحية ثابتة، وقررت بفيزيقيتها (اليقين العلمي) و (الوجود الكوني)

حسين محمود البشبيشي

لحم اصطناعي

ص: 39

حلت بنا أزمة اللحوم ومحنة حظر اللحوم فماذا أوحت إلينا؟ لقد أشعرتنا بالحاجة إلى بديل للحوم يشبهها من جميع الوجوه ويغني عنها: أي لحم اصطناعي. وسيزداد شعور العالم في المستقبل بهذه الحاجة لا بسبب الحروب بل بسبب تطور المدنية. نعم سوف ترهف مشاعر الإنسان فيشعر باحتجاج صامت من الحيوان الأعجم على سفك دمائه، وستنمو غريزة الشفقة وتطغى على البشر فلا يعودون يرون أن ذبح الحيوان يختلف عن ذبح الإنسان. ستسود المحبة والتآخي بين الإنسان والحيوان وتنسى الطيور غريزة الخوف من الإنسان فتراها لا تطير مدبرة إذا أقبل عليها بل تستقبله هاشة باشة مغردة بالتحية. وستتضح للناس أضرار صحية وخلقية لأكل لحم الحيوان، وغن من أكل لحم الحيوان قد تسربت إلى الإنسان ميول حيوانية وتفكير حيواني. وسينتصر العلم في إنقاذ الموقف باختراع لحم اصطناعي أشهى وأفضل من لحم الحيوان. وليس في هذا القول بدعة، فقد سار العالم فيه شوطاً ليس بالقصير، وانتشرت المطاعم النباتية في عواصم أوربا وتأسست فيها جمعيات لمكافحة أكل الحيوان، وصارت المصانع تخرج كل يوم أنواعاً جديدة من مستحضرات غير حيوانية تستعمل بدل اللحوم في شكل خلاصات لها طعم اللحوم أو دجاج أو السمك. حتى محار البحر أمكن تقليده. وعمد البعض إلى تقليد ألياف اللحوم لتقطع بالسكين على المائدة كأن عملية القطع بالسكين في حد ذاتها لذة

وأُسجل مع الأسف أن مطاعم القاهرة لم تظهر تفنناً كافياً في مقابلة نظام حظر اللحوم، ولم تبتكر أي طعام جديد خلاف الأطعمة العتيقة المشهورة. وذلك على رغم توفر الخضر والفواكه واللبن والبيض في بلادنا. حقاً لقد تجلت حاجتنا إلى إنشاء معهد للأغذية

دكتور علي عبد السلام

ص: 40