الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 472
- بتاريخ: 20 - 07 - 1942
غراب وطفل!
حادثان وقعا في نهار يوم وليلِه، لَها بهما من لَها، وتفكر فيهما من تفكر؛ وبات أثرهما الباقي يعمل في نفسي وفي رأسي ما يعمل الهم إذا جاش، والألم إذا برَّح، حتى أصبحت فإذا بي لا أجد في ذهني ما أكتبه إليك، غير أني أقص نبأ هذين الحادثين عليك.
نشب جناح أحد الغربان في مشتبك الغصون من أعالي (الكافورة)، وجهِد الطائر الأسير أن يخلص جناحه بالاضطراب والاجتذاب والخفق فما استطاع. وكان قد حط بالقرب منه غراب فهبّ ينعب نعيب المستغيث، ثم حاول أن يجتذب بمنقاره الجناح الناشب فأعياه ذلك، فارتد يثب من حوله صاعداً هابطاً وهو ينعب، حتى أقبل على صوت الاستغاثة غرابان، فحوّما هنيهة فوق أخيهما المصاب، ثم أطلقا في الفضاء نعيقهما المنذر. فلم تكن غير لحظات حتى تتابعت الغربان فكان منها على ذوائب الدوحة الفينانه عصابة، وعقدت هذه العصابة مناحة، وظلت هذه المناحة بقية النهار لا ينقطع لها صوت، ولا تفتُر بها حركة. وكأنما كانت الغربان تضرع إلى الناس أن يسعفوا أخاها المسكين بحيلهم البشرية؛ ولكن الناس كانوا قد تجمعوا على طِوارَىْ الشارع تجمع البَلَه، لينظروا إلى الحادث العجيب نظر الفضول! وقلما تجد بين البَلَه والفضول مكاناً للمروءة!
فلما دنا الليل واستيأست الغربان انصرف بعضها وبقي بعضها الآخر. ولم تقصِّر الأغربة الباقية في مواساته والترفيه عنه، حتى لقد زعم بعض أصحابنا أنه رأى غراباً يزقُه بالحب والماء. وانصرفنا نحن كذلك عن القهوة بعد موهن من الليل، وليس في نفسي غير هذا المظهر الأخوي الرائع في نوع من الطير لم يرسَل إليه رسول، ولم تُنشأ لتربيته جامعة؛ وما كنت رأيت ولا قرأت ولا سمعت من قبل ما يشبه ذلك في عالم الحيوان.
لم أكد أسكت المذياع بعد إعلانه الأنباء الأخيرة حتى سمعنا صراخ طفل حديث الولادة ينبعث في سكون الشارع على حال غير مألوفة. فأطَّلعت من النافذة فإذا الصراخ يتتابع من ركن مظلم أمام حانوت جارنا النجار. فظننت أول الأمر أن إحدى الوالدات جلست تسترفه من التعب، أو تستدني أكف المارة. وكانت امرأة من سواد الناس تمر في تلك اللحظة فعاجت بحكم غريزتها على الطفل الباكي، وجعلت تجسه بعينها ويدها، ثم صاحت تقول في ارتياع وحسرة:
الله يلعنها في كل كتاب! زِنّي وقتل؟!
ثم اندفعت المرأة في طريقها تهرول وتدمدم كأنما تريد أن تنجو بنفسها عن موطن الشبهة!
ووقف عليها على الوليد المنبوذ كل سائر. وكان كل واقف يشعل ثقاباً وينظر إلى محيا الطفل البريء ثم يحوقل وينصرف.
وكان الطفل على ما فهمت من وصف الواصفين (الواصفين من الواقفين أزهر اللون جميل الصورة قد وضعته أمه (الحنون) في قفة جديدة من الخوص ملفوفاً في خرقة بالية من قماش مهلهل النسج لا نقش عليه ولا خيط فيه! ولعلها خشيت، إذا هي ألبسته بعض الثياب أن يستدل الشُّرط بها عليها! والاحتياط لسلامة الخدر المصون من سوء السماع ومض الملام فوق كل اعتبار!!
كان المارة يتجمعون على جوانب المهد الخشن والطفل يضطرب فيه بيديه ورجليه، ثم يتفرقون ولا يجرؤ أحد منهم أن يسبل غطاءه عليه، أو يمد يده إليه، كأنما هو في ذاته لعنة مجسدة تغلق بمن يمسها وتلحق بمن يقربها! والواقع أن اللقطاء أو أبناء السكك والدهاليز كما يسميهم الشرفاء، أشقياء بالولادة. وقد تشتمل الرحم الفاجرة على الشقي والشقاء في وقت معاً. فاللقيط وهو جنين يكون خطراً لا ينفك مهدداً بالعار إذا استمسك، وبالموت إذا سقط. فإذا سلم على طعن البطن باليد، وتسميم الرحم بالعقاقير، وُلد في الخفاء، وغمر بالظلام، وأحيط بالسكون، وأصبح في حجر أمه جريمة مولودة تطفئ نور البصر، وتذوي شباب القلب، وتقطع خيط الرجاء، فتحاول أن تتنصل من هذه الجريمة الواحدة، باقتراف جرائم متعددة! فإذا على سوء الولادة وجفاء المهد وقسوة الهجر، عاش موسوماً بالخزي، موصوفاً بالمهانة، لا يرتفع به بيت، ولا يشرف به منصب
يا حسرتا على اللقيط من بني آدم! يمر الإنسان بالمتروك أو الضال من جِرَاء الكلبة، أو خنانيص الخنزيرة، أو حملان النعجة، أو فراريج الدجاجة، فيؤويه إليه حتى يجد صاحبه؛ ثم يمر بالمتروك من جنسه فيشيح بوجهه وينأى بجانبه؛ لأنه إذا ضمه إليه اتهمته زوجه، وإذا أظهر العطف عليه اتهمه الناس. ومن ينكره أهله لا يعرفه أحد! ومن ضاق ذرعه بابنه لا يتسع صدره لمتبنّاه، لذلك كان الناس يمرون بالقفة المتروكة، وفيها ثمرة الحب يتضور ويبكي، فلا يجودون عليه لا بنظرة حنان، أو كلمة رثاء، أو إشارة إعجاب، أو لعنة انتقام. وخفت أن يبيت الطفل على قارعة الطريق فدعوت من حمله إلى مركز البوليس.
وأصبح الصباح فقيض الله للغراب من عالج جناحه بعود طويل من الخشب حتى خلص، وانطلق الأسير في رفاقه الأوفياء يرفه عن الجناح العليل في العشّ الناعم والفضاء الحر والإخاء الوثيق. وذهب صديقنا علي يسأل رجال الشرطة عن مصير الطفل فقيل له: منحناه اسماً من الأسماء، ونحلناه أباً من الآباء، وسجلناه مجهول الأب والأم؛ ثم أرسلناه إلى الملجأ ليعيش عمره الطويل أو القصير من غير أسرة ولا كرامة ولا ثروة ولا رجاء!
أما بعد فذلك غراب وهذا طفل! أما الغراب فلم يتركه قومه حتى أنقذوه وأخذوه؛ وأما الطفل فقد تركه أبوه لأمه، وتركته أمه للناس، وتركه الناس للقدر! فمن ذا الذي يقول بعد ذلك إن ابن آدم خير من ابن آوى، وإن بنت حواء أفضل من بنت اللبون؟ إن جد هذا الغراب هو الذي علم قابيل جد هذا الطفل أن يوارى بالدفن سوءة أخيه المقتول! وهل تجد أبلغ في تسجيل العجز على الإنسان من قول قابيل حين رأى الطائر يبحث في التراب:(يا ويلتا! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟)
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
انتخاب بطرك الأقباط - أسئلة وأجوبة توضح المشكلة القبطية
- بين الصنعة والطبع - موقعة العلمين - اختيار لون الموت
يدل على حيوية الذوق
انتخاب بطرك الأقباط
البطريرك كلمة يونانية الأصل، أو لاتينية الأصل. ومن الطريف أن نذكر أن كازيميرسكي يجعل البطريق (بالقاف) من اللاتينية، ويجعل البطرك (بالكاف) من اليونانية، برغم تقارب مدلول الكلمتين. وأنا أترك تحقيق هذه المسألة لحضرة الباحث المفضال الأب أنستاس، فهو بها من الخبراء.
والذي يهمني هو أن أشرح لقراء الرسالة مشكلة تثور اليوم في البيئات القبطية، وشرحها لا يخلو من نفع، لأنها تنطوي على دقائق اجتماعية وأخلاقية، ولأن من الخير أن يعرف قراء المجلات الأسبوعية حقيقة ما يُنشر بلا شرح في الجرائد اليومية. فإن وقع في كلامي شيء من الخطأ فليتفضل بتصحيحه أحد المطّلعين من أفاضل الأقباط.
وأواجه الغرض فأقول: الأصل أن يُنتخَب البطرك من الرهبان، وقد سارت الأمور على هذا الأصل في جميع العصور الخوالي، ثم انحرفت عند انتخاب البطرك السابق، فقد انتُخب وهو مطران، وبانتخابه على ذلك الوصف ضاع أعظم حق من حقوق الرهبان.
والذين قرءوا ما نشره سعادة الأستاذ توفيق باشا دوس في جريدة لابورس يدركون أن المشكلة ستثار من جديد، مشكلة المفاضلة بين الراهب والمطران في انتخاب الرئيس الديني للأقباط. . . فما حجج الفريقين؟
حجة القائلين بأن يُنتخب البطرك من الرهبان تقوم على أساس متين، وهو سلامة الانتخاب من المؤثرات المالية، لأن الرهبان لا يملكون شيئاً على الإطلاق، فمن المستحيل أن يشتروا أصوات الناخبين، وإذن يكون مرجع المفاضلة بين راهب وراهب هو الشهرة بالتقوى والورع والقنوت.
وحجة القائلين بأن ينتخب البطرك من المطارنة تقوم أيضاً على أساس، فهم يرون أن المطارنة قد يعرفون من شؤون المجتمع ما لا يعرف الرهبان، بغض النظر عن تعرّض الانتخاب لمؤثرات مالية أو اجتماعية.
وهنا يسأل القارئ عن المصادر التي تجعل المطارنة أغنياء، بحيث يتناضلون بالقُوى المالية عند الانتخاب.
ونجيب بأن البلاد المصرية من الوجهة القبطية مقسَّمة إلى أبرشيات (والأبرشية كلمة يونانية معناها الإقليم) ولكل أبرشية مطران، فيقال: مطران المنوفية، ومطران البحيرة، ومطران جرجا، ومطران أسيوط، إلى آخر التقاسيم.
ولكن كيف يغتني المطران؟
يغتني من (العوائد) وهي جمع عادة، كما تُجمع حاجة على حوائج، ولك أن تجعل مفردها عائدة، إن تناسيت العُرف، وهو من أهم الأسندة اللغوية. فما تلك العوائد؟
حين يتلطف المطران بزيارة أحد البيوت يكون على أهل ذلك البيت أن يتلطفوا بتقديم (العادة) وهي مبلغ من المال يقلّ أو يكثر تبعاً لقدرة أهل البيت، فيكون جنيهاً أو جنيهين، وقد يصل إلى عشرين. ومن هذه العوائد تتكون ثروة المطران، وهي ثروة مستورة لا تتعرض لرقيب ولا حسيب، وإن كان المفهوم أنها تُجمع لإسعاف المرضى ومواساة المحتاجين، وهي بالفعل مصدر خير لأولئك وهؤلاء.
بعد هذا الشرح نفهم كيف يخاف الراهب صولة المطران عند الانتخاب، فالراهب يتقدم بالدين، والمطران يتقدم بالدين والمال. وقد سمعت أن للمال سلطاناً على أصوات الناخبين، وسمعت أيضاً أنه يزيد الأتقياء جلالاً إلى جلال. وهذا وذاك يؤكدان خوف الراهب من مناضلة المطران.
أسئلة وأجوبة
س - هل من الحتم أن ينتخَب بطرك الأقباط من هيئة دينية؟
ج - يجوز انتخابه من هيئة مدنية إذا قلَّت الصلاحية لهذا المنصب في الهيئات الدينية، لأن الغرض هو إقامة راعٍ موصوف بالصدق والعدل، ولو كان من المدنيين
س - هل فكَّر أقباط مصر قبل اليوم في انتخاب بطرك من الهيئة المدنية؟
ج - بعد موت البطرك الأسبق كان من بين المرشحين لهذا المنصب رجلٌ مدنيٌّ هو الأستاذ سابا حبشي؛ ويقال إنه نال كثيراً من الأصوات؛ وهذا يدل على استعداد الأقباط لتشجيع العقلية المدنية في الحياة الدينية
س - إذا توفرت الشروط في الرجل المدني، فما الواجب لإيثار الرجل الديني؟
ج - يرى الأقباط أن منصب البطرك هو مصدر الحياة للدير، فمن الخير أن تبقى لسكان الديارات آمال في السيطرة الروحية على الجمهور القبطي، وهي تُعرَّض للزعزعة إن ضاع منهم ذلك المنصب المرموق
س - وما الخطر من زعزعة مركز الدير؟
ج - الخطر عظيم، لأن الدير هو أكبر الخصائص في المسيحية؛ وضعضعة الدير تضعضع هيبة الرهبان
س - وما الموجب للإبقاء على الرهبانية؟
ج - الرهبانية مفروضة على البطرك، ولو انتُخب من بين المدنيين
س - ألا تظنَّ أن رهبنة المدنيّ أرقُّ وألطف؟
ج - أقباط مصر يقولون بغير ذلك، وهم يرون أن الرهبنة لا توصف بالرقة ولا باللطف، وإنما توصف بالتقشف والزهد والقنوت
س - هل ترى أن البطرك القادم من سجن الدير يصلح لمقابلة الوزراء والسفراء؟
ج - أقباط مصر لا يطلبون البطرك لمقابلة الوزراء والسفراء، وإنما يطلبونه لمواساة اليتامى وهداية الأشقياء، ولا يكون كذلك إلا حين تغلب عليه الهيبة الدينية
س - وإذا صَلَح الرجل المدني لتأدية هاتين الوظيفتين؟
ج - يكون أصلح الرجال على شرط أن ينتخَب من طريق لا تعترضه الشبهات
س - وما الشبهات التي تعترض ذلك الطريق؟
ج - هي الشبهات التي ألمعتُ إليها في مطلع هذا الحديث
أما بعد فهذه صورة لما يعتلج في صدور أقباط مصر بعد موت البطرك، وإني لأرجو أن يُكتب لهم التوفيق في اختيار البطرك الجديد، فهم مواطنون أعزاء، واطمئنانهم إلى رياستهم الدينية يقع من أنفسنا موقع الجذل والارتياح
وسبحان من لا يقع في مُلكه إلا ما يريد
بين الصنعة والطبع
إذا كتبت خطاباً في المساء فأتركه بلا تظريف، لتَسهُل مراجعته في الصباح، ولتبقى فرصة للحذف منه أو الإضافة إليه، فمن المؤكد أن للرأي موجات تختلف باختلاف الأوقات. وقد تُنكر في بياض الصبح، بعض ما كتبت في سواد الليل. وأنت عن تموُّجات رأيك مسئول.
كذلك أصنع في خطاباتي ومقالاتي لهذا العهد، ولم أكن أصنع ذلك من قبل. وإن زمناً يكفُّ من جموحي لهو ألأم الأزمان!
ما كنت أعرف الفرق بين التسويد والتبييض، ولا كنت أستبيح معاونة الصنعة على مبالغة الطبع، وكنت أعجب حين أسمع أن في الكتَّاب من ينسخ مقاله مرات قبل أن يطمئن إلى صلاحيته لمواجهة القراء.
كان رأيي أن جري القلم في القرطاس هو جري الجواد في الميدان. . . وللقلم أن يتلفت قبل إصابة الهدف، إن كان للجواد أن يتلفت قبل بلوغ الغرض. . . ومن المحال أن يتلفت الجواد حين ينطلق في ميدان السباق، أو ميدان القتال.
وهذا المذهب في رياضة القلم هو الذي عرَّضني لكثير من الجراح، لأني لا أملك صده حين ينطلق، وهل يملك الجواد مجانبة العثرات حين ينطلق؟
فما بال الأقدار تروضني بعد الجموح، وتفرض عليَّ أن أتلَّفت ذات اليمين وذات الشمال وأنا أجري في ميدان البيان؟
وما هذا الذي أعاني من زماني؟
أليس من المزعج أن أصبح من مخاطر القلم في أمان، لأن الظروف توجب أن يراعي قلمي أشياء لا يراعيها الجواد حين ينطلق في الميدان؟
وما قيمة الحياة الأدبية إذا خلت من المخاطر والمهالك والحتوف؟
أنا لا أعدّ الكاتب فارساً إلا إذا استطاع بكل سطر، أو بكل حرف، أن يعرّض قراءه إلى الاشتباك في حروب مع معاني والآراء والأهواء.
فأين أنا مما أريد؟
وأين الفرص التي تسمح بأن أجرّد من قلمي مِشرطاً يرفع الغشاوة عن أعين أبناء الزمان؟
أنا اليوم أضمن السلامة من جرائر قلمي، كارهاً غير طائع، لأن النظام في هذه الأيام يصدّ الأقلام عن عنت الجموح والطغيان
قلمي
كيف مرّت شهور بلا جراح يُدميها سنانُك؟
وكيف أمِنتُ شرَّك، ونجوت من طغيانك؟
كيف وكيف؟؟
بيني وبينك ميعاد وميثاق، والأحرار لا يخلفون المواعيد، ولا ينقضون المواثيق.
موقعة العلمين
العَلَمين اسم بقعة في الطريق بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وهي مثنّى عَلَم، وقد صارت بفضل حرب الصحراء الغربية أشهر من نار على عَلَم أو على عَلَمين!
والذي يراجع أخبار الصيال بين قوات الحلفاء وقوات المحور في الصحراء يعرف أن تلك القوات لم تقف وقفة أطول من وقفتها في العلمين، فهل كانت المقادير أرادت أن يكون لتلك التسمية هذا المصير فتكون تلك البقعة مكان الصراع بين العَلم المهاجم والعَلم المدافع؟
اللهم حوالَيْنا ولا علينا!!
ألوان الموت
لك أن تقول ألوان الموت، كما تقول ألوان الطعام وأصناف الشراب، ومن حقك أن تختار لون الموت، لأنه فنٌّ من الفنون، أو صنفٌ من الصنوف، أو (ضربٌ) من الضروب، ولعل من واجبك أن تفكر في اختيار لون الموت، لأن ذلك يشهد بأنك من الأحياء. وهل يفاضِل المرء بين لون ولون إلا وهو في حيوية ذوقية أو روحية تضيفه إلى أكابر الفنانين؟
ولتوضيح هذا المعنى أسوق الحادثة الآتية، وقد وقعت في مساء اليوم السادس من هذا الشهر الميمون:
قُبَيْل الغروب هبّت عاصفة عنيفة، عاصفةٌ كادت تنقل إلى داري جميع رمال الصحراء، جزاءَ بما صنعتُ من التغنّي بإشراف داري على الصحراء!
وفي ثورة تلك العاصفة يترنم الهتَّاف، فأسمع صوت المسيو دي كومنين يدعوني إلى سهرة
تدور فيها أكواب الحديث، وهو لا يقدِّم لأضيافه غير أكواب الحديث، لأنْ العقَل نهاه عن الشراب قبل أن ينهاه الطبيب.
وما كادت العاصفة تسكن حتى سلكت الطريق إلى ذلك الصديق، وهو لا يسلكه عابر في ليله ظلماء إلا إذا كان على مع حبيب
كان المسيو دي كومنين في توحد الليث، فقد قضت ظلمات الأيام الأخيرة بأن يقرّ الناس في بيوتهم، فلا يسمر صديق مع صديق. . . ولا تسأل كيف طابت نفسي حين عرفتُ أنني السمير الوحيد في ذلك المساء، مع رجلٍ صِيغَ روحه من لباب الضياء.
كانت غابة الليسيه في تلك الليلة تكابد الشوق إلى من يتنقل بين أشجارها من وقت إلى وقت، ليُشعرها بأن في الوجود أرواحاً لم تشغلها مزعجات الحوادث عن الاستماع للأغاريد المطوية في ضمير الحفيف. . . وهل تصمت أشجار مصر عن التناجي بالحفيف في أي زمان؟
تحدثنا بجانب كل شجرة، وسلَّمن على كل مكان، حتى المكان الذي أوصى المسيو دي كومنين بأن يدفن فيه، بعد العمر الطويل العريض.
وطال الحديث حتى استغرق أكثر من خمس ساعات، فأستاذنت في الانصراف، بعد أن شكرت للمسيو دي كومنين لطفه البالغ في إمتاع روحي وعقلي بذلك الحديث.
ويهتف هذا الصديق بالسائق ليوصلني بالسيارة إلى داري، فلا يجده، وينادي الحارس ليصل جناحي بضع خطوات، فيعرف أنه يرابط في ناحية نائية، فيعلن أسفه على أني أسير وحدي في ذلك الظلام المحفوف بالحتوف، ولكني أطمئنه فأقول: إني لا أعرف ولا أصدِّق أن في الدنيا رجلاً أقوى مني، فليجرب اللصوص حظهم في مصاولتي، إن كان في (مصر الجديدة) لصوص غير سُرَّاق القلوب، وأنا قد نجوت من المعاطب الوجدانية في مصر الجديدة، فما خوفي على جيبي وقد نجا قلبي؟!
كان الطريق موحشاً أعنف الإيحاش، وكان الليل كأنه الليل!
طاخ، طاخ، طاخ!!!
وألتفت فإذا المدافع تنطلق من كل صوب، ولم يسبقها نذيرٌ من صفارة أو بوق، وأنظر فأرى لهيبها ودخانها يثوران فوق رأسي، فأسرع بالدخول في بيت بلا أبواب، بيت لا يزال
في مهد البناء، والمصريون لا يكفّون عن البناء ولو ارتفعت تكاليفه إلى عشرات الأضعاف.
طق، طق، طق!!!
وألتفت مرة ثانية فأرى الأخشاب التي تحمل السقف مهددة بالسقوط، فأقفز إلى الفضاء، وقد اخترت لون الموت، وللموت ألوان: رأيت الموت بشظية مِدفع أفضل من الموت بسقوط تخشيبة، كما أن الموت بالبِطنة أفضل من الموت بالجوع!
ثم نظرت فرأيت الضرب ابتعد، فهو ضرب طيارة إنجليزية تطارد طيارة ألمانية، وقد أفلح الضرب فسقطت الطيارة المطارَدة عند الكيلو رقم 3 بطريق السويس، وكفى الله رأسي شر الهلاك، وضاعت الفرصة على أعدائي، فلم يحبّروا المقالات الطوال في:(مصرع الملاكم الأدبي): والمستميت لا يموت، كما قال الحكماء!!
أفي هذه الأيام نقرأ ونكتُب، ونحاسب هذا الشاعر، ونصاول ذلك الكاتب؟!
نعم، ثم نعم. . . فليحاول الدهر بأحداثه وخطوبه زعزعة الفكر الثاقب والقلم البليغ!
محمد زكي مبارك
شعر علي ابن أبي طالب
للأستاذ السيد يعقوب بكر
(تتمة)
هل علي حقاً صاحب الديوان المنسوب إليه؟
لعلّنا ملزمون، بعد أن انتهينا إلى أنه كان من الشعراء، بأن نصل إلى رأي في هذه المسألة: وهي هل علي حقاً صاحب الديوان المنسوب إليه؟ ولقد وصلنا فعلاً إلى رأي في هذه المسألة، ولكننا نحب قبل أن نذكره أن نذكر آراء بعض العلماء فيها:
فهناك رأي للأستاذ بروكلمان ذكره في كتابه سالف الذكر حيث يقول (ح1 ص 43): (ليس من شك في أن عليّا كان ذا ملكة شعرية، ولكن المشكوك فيه كثيراً وجود قصائد صحيحة له في ديوانه؛ وإلى جانب ذلك فإن هذه القصائد تحمل طابعاً من انتحال شيعي بلغ من البدوّ للعيان حدّا جعل النقاد من أهل السنة فيما مضى يدركون زيْفها)
وهناك رأي آخر للأستاذ هداية حسين ذكر الأستاذ بروكلمان في ملحق كتابه السابق؛ فقد قال (ح1 ص 73) إنه - أي هداية حسين - وصل إلى أن ناظم الديوان هو قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي (توفي 573 - 1177).
وهناك رأي أخير للأستاذ مستقيم زاده ذكره (هيار) في كتابه حيث يقول (ص 252): (وأكد الشارح مستقيم زاده أيضاً أنه (الحديث عن الشريف المرتضي) الناظم الحقيقي للديوان المنسوب إلى علي الذي لم يكن يستحيل عليه شيء).
فهذه آراء ثلاثة ذكرناها لنصوّر ذلك الاختلاف الشديد حول الديوان ونسبته، ولنخرج من هذا الاختلاف الشديد إلى رأي لنا في هذه المسألة نحن نستريح إليه ونرجو أن يستريح إليه القارئ أيضاً:
لا يمكن القول أن جميع ما في الديوان ليس لعلي؛ فهذه دعوى ينقصها من أساسها أنه قد ورد في هذا الديوان الشعر الذي وجدناه في تلك المراجع العربية المعتمدة سالفة الذكر والذي كان وجد إننا له فيها مما حملنا على التسليم بصدق نسبته إلى علي. فالبيتان المذكوران في عيون الأخبار تجدهما في الديوان ص 58 مع تغيير بسيط، والأبيات
المذكورة في معجم الأدباء تجدها ف ص32 وص 63 مع بعض الزيادة والتغيير، والرجز المذكور في مقاتل الطالبيين تجده في ص33 مع زيادة وتغيير كثيرين، والأبيات المذكورة في العمدة مذكورة في ص 64 وص 65 مع زيادة وتغيير كثيرين، والأبيات المذكورة في حماسة البحتري تجدها في ص 30 وص 12 مع بعض الزيادة والتغيير، والرجز المذكور في الكامل تجده في ص 18 مع بعض الزيادة، والأبيات المذكورة في العقد الفريد تجدها في ص 65 مع زيادة وتغيير غير قليلين.
وإذن فالصواب هو أن بعض ما في الديوان لعلي، وبعضه الآخر ليس له. وهذا البعض الآخر إنما نستدل على أنه ليس لعلي بعدّة أشياء:
1 -
أن بعض المتقدمين نبّه على أن بعضه ليس لعلي:
(ا) يقول ابن هشام في سيرته (ج2 ص 635 - 636 ط جوتنجن): (قال ابن اسحق وقال علي ابن أبي طالب رضوان الله عليه قال ابن هشام قالها رجل من المسلمين في يوم أحد فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر ولم أر أحداً منهم يعرفها لعلي رحمه الله:
لا هُمَّ إن الحارث بن الصَّمَّهْ
…
كان وفيّا وبنا ذا ذمّه
أقبل في مهامةٍ مُهِمَّهْ
…
كليلة ظلماء مذلهمّهْ
بين سيوف ورماحٍ جَمّهْ
…
يبغي رسول الله فيما ثمّه
وهذه الأبيات مذكورة في الديوان ص 66 مع تغيير كثير.
(ب) ويقول ابن هشام أيضاً (ص 656 - 657): (قال ابن إسحاق وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يذكر إجلاء بني النضير وقتل كعب بن الأشرف قال ابن هشام قال رجل من المسلمين غير علي ابن أبي طالب فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر ولم أر أحداً منهم يعرفها لعلي رضي الله عنه:
عرفت ومن يعتدل يعرفِ
…
وأيقنت حقاً ولم أصدفِ
الخ).
وهذه القصيدة مذكورة في الديوان ص 42 مع تغيير بسيط
(جـ) ويقول الطبري (الجزء الثالث من القسم الأول، ص 1426 ط ليدن): (وزعموا أن عل ابن طالب حين أعطى فاطمة عليهما السلام سيفه قال:
أفاطم هاك السيف غير ذميم
…
فلست برعديد ولا بُمليم
لعمري لقد قاتلت في حبّ أحمد
…
وطاعة رب بالعباد رحيم
وسيفي بكفي كالشهاب أهزّه
…
أجُذّ به من عاتق وصميم
فما زلت حتى فضَّ ربي جموعهم
…
وحتى شفينا نفس كل حليم
والأبيات مذكورة في الديوان (ص 65) مع زيادة فيها وتغيير كثير.
2 -
أن بعضه يحمل طابعاً شيعياً:
فمن هذا البعض القصيدة التي في (ص 3) من الديوان، والتي مطلعها:
وما طلب المعيشة بالتمنِّي
…
ولكن أَلق دلوك في الدِّلاء
فإنها تنتهي بهذا البيت:
وهذا العلم لم يعلمه إلا
…
نبيّ أو وصيّ الأنبياء
وغير خاف ما في (وصي الأنبياء) من دلالة.
ومنه القصيدة التي في (ص 48) وهي:
بُنيَّ إذا ما جاشت الترك فانتظر
…
ولاية (مهديّ) يقوم فيعدل
وذلَّ ملوكُ الظلم من آل هاشم
…
وبويع منهم من يلدَّ ويهزل
صبيَّ من الصبيان لا رأي عنده
…
ولا عنده جِدْ ولا هو يعقل
فثمَّ يقوم القائم الحقُ منكم
…
وبالحق يأتيكم وبالحق يعمل
سمَّي رسول الله نفسي فداؤه=فلا تخذلوه - يا بَنيَّ - وعجلوا
فغير خاف ما في القصيدة من حديث عن المهدي المنتظر.
3 -
إن معاني بعضه أو أسلوبه مما لا يمكن صدوره عن علي أو في عصر علي:
فالقصيدة الواردة في (ص 4) من الديوان والتي مطلعها:
لبيك لبيك أنت مولاه
…
فارحمُ عُبيْدا إليك ملجأه
مما لا يمكن صدوره عن علي؛ ففيها تصوير لحديث بين علي والله ولا شك أن عليَّا يتحرَّج من مثل هذا، وأغلب الظن أن مثل هذه القصيدة من وضع أحد متصوفي الشيعة.
والبيتان الواردان في (ص 4) أيضاً وهما:
دع ذكرهن فما لهن وفاء
…
ريح الصبا وعهود دهن سواء
يكسرن قلبك ثم لا يجبرنه
…
وقلوبهن من الدواء خلاء
مما لا يصدر عن علي، إذ هما في الغزل، والغزل مما يتحرَّج منه عليَّ
وكذلك الأبيات الواردة في ص 18 وهي:
جنبي تجافى عن الوساد
…
خوفاً من الموت والمعاد
من خاف من سكرة المنايا
…
لم يدر ما لذة الرّقاد
قد بلغ الزرع منتهاه
…
لا بد للزرع من حصاد
لا تصدر عن علي؛ إذ أن مثله لا يخاف الموت أو المعاد.
وهناك قصائد تظهر فيها ركة الأسلوب بحيث لا يمكن القول بأنها صدرت في عصر علي. ونضرب مثلاً لذلك القصيدة الواردة في ص 3 - 4 من الديوان ومطلعها:
وكم ساعٍ ليثري لم ينله
…
وآخر ما سعي لحق الثراء
والبيتين الثلاثة الواردين الثلاثة في ص 7 وهما:
الدهر يخنق أحياناً قلادته
…
عليك لا تضطرب فيه ولا تثب
حتى يفرجها في حال مدَّتها
…
فقد يزيد اختناقاً كل مضطرب
والأبيات الواردة في ص 15 وأولها:
قد رأيت القرون كيف تفانت
…
درست ثم قيل فكانت
والبيتين الواردين في ص 24 وهما:
أغض عينا على القذى
…
وتصبَّر على الأذى
إنما الدهر ساعة
…
يقطع الدهر كلَّ ذا
والأبيات الواردة في ص 25 وأولها:
عسى منهل يصفو فيروي ظمية
…
أطال صداها المنهل المتكدِّر
ثم هناك قصيدة على نمط ألفية ابن مالك في آخر الديوان، لا شك في وضعها، لأن ذلك النمط من القصائد لم يكن موجوداً في عصر علي وإنما جاء في عهود متأخرة.
ثم إننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذه الأشعار الموضوعة لم يضعها شخص بعينه؛ وبذلك لأنها متفاوتة الأسلوب، ففيها القويُّ الرائع وفيها الضعيف الركيك. وإنما الذي نراه أن هذه الأشعار قد وضعها أناس مختلفون معظمهم من الشيعة، ونسبوها إلى علي حبا فيه ورغبة
منهم في إسناد فضلهم في نظم هذه الأشعار إليه. ثم جاء جامع الديوان، فجمع كل ما عثر عليه من الشعر المنسوب إلى علي دون أن يميز بين صحيح النسبة وباطلها، ودون أن يفرِّق بين المصادر التي ذكرت فيها هذه الأشعار فينتقل عن الوثيق منها ويضرب صفحاً عن المتهم. فهذا إجمال رأينا في الديوان.
دراسة شعره الصحيح
هذا القسم الثالث من البحث لا بد منه لكي يتمَّ هذا البحث ويستكمل فروعه. غير أننا لسنا في حاجة الآن إلى تناوله؛ فقد سبق أن قلنا في الخطوة الثالثة من البرهان على أن علياً كان من الشعراء، ما يصلح أن يوضع هنا.
(تم البحث)
السيد يعقوب بكر
من أدب الحرب
عندما يعود السلام!
عندما يعود السلام
سوف أضيء كل مصابيح منزلي
وسأفتح كل نافذة فيه على مصراعيها
وستنعكس الأنوار على صفحة البحر فيبدو منظرها الرائع فاتناً فوق الأثباج، ويتراقص ضوءها اللامع فوق الأمواج
سوف أعود ثانية فأضيء الأنوار في جميع جنبات الدار
عندما يعود السلام
عندما يعود السلام
سوف أسير في القمراء فوق الغبراء، وقد أشرقت بالضياء،
وسأنظر إلى القبة الزرقاء، وهي في سكون وصفاء
وسأعود إلى عشق الليالي المقمرة من جديد، وأنا جد سعيد،
عندما يعود السلام
عندما يعود السلام
سوف أتملى محاسن الكون وجمال الوجود
وسأمتع ناظري برؤية الغابات والتلال وقد كساها الجليد.
وسوف أسيح في الأرض حتى أبلغ التخوم والحدود!
وسأزور الدول الحرة مرة أخرى
عندما يعود السلام
عندما يعود السلام
سوف ألقى الناس جميعاً بعد طول الفراق، وأطفئ بلقائهم نار الأشواق
سوف ألتقي باخوتي وأصدقائي وأحبتي
سأقابل من ظل باقياً على قيد الحياة
وسأبكي على من قضى بكاء الحزين بالدمع السخين!
عندما يعود السلام.
(عن الإنجليزية)
أحمد عبد اللطيف الحضراوي
2 - كتاب الإمتاع والمؤانسة
الجزء الثاني
للأب أنستاس ماري الكرملي
3 -
أوهام علم الحيوان
جاء في حاشية ص 31: (الأفلاء جمع فِلو بكسر الفاء. وهو المهر الذي لم يبلغ الفِطَام). والمشهور في لغة العراقيين، وهو كذلك في اللغة الفصحى: أن الفلو: المهر إذا فطم، أو بلغ السنة.
وورد في نص تلك الصفحة وفي نحو آخر سطر منها: كما أن الأفعى تأخذ السمَّ من (الأصِلَّة (وضبطت الأصِلَّة بهمزة القطع، وكسر الصاد، وشد اللام، وفي الآخر هاء. وهو لفظ لا وجود له في لغتنا الفصحى، ولعلَّ الناشرَيْن توهما أن الأصلة جمع الصِلَّ بكسر فشد اللام. قلنا: هذا لا يمكن أن يكون عقلاً، ولا نقلاً؛ أما أنه لا يكون عقلاً، فلأن الأفعى لا تأخذ سمها من عدة أصلالٍ، بل من صِل واحد. وأما أنهُ لا يكون نقلاً، فلأن صِلاَّ لا تجمع على أصِلَّة - كأهِلَّة - إنما تجمع على أصلال. وأما الأصلة هنا فزنتها قصبة؛ وهي حية صغيرة، أو عظيمة، قيل: تهلك بنفخها. وهي في نظرنا تعريب (باصلة) اليونانية ومعناها ملكة الحيات؛ وحذفت الباء من أولها ظناً أن الباء زائدة للجرِّ. ولهذا قال التوحيدي: كما أن الأفعى - وهي كل حية سامة - تأخذ السم من الأصلة. كأنه يقول: تأخذ سمها من الأفعى الملكة، كما أن الوالي، أو العامل، يأخذ سطوته وقوته من الملك أو السلطان، وحذفت الباء كما حذفت من فاندلس فقالوا: أندلس.
وفسر الكودن، الوارد في ص 59 بقول الناشرين في الحاشية: الكودن (البغل) قلنا: هذا من باب التوسع لا من باب التحقق، وإلا فالكودن - على ما في ديوان الشارح - الفرس الهجين، والبغل، والبرذون الرومي، إلا أن المسعودي استعملها لهذا الحيوان الهجيْن المتولد من الحصان والأتان، وهذا ما يجب أن نعرفه وندقق النظر في تحقيقه، لأننا أصبحنا في عصر نحتاج إلى هذا التمييز.
وقيل في ص 104: (إن العلماء بطابع الحيوان ذكروا أن الفيلة لا تتولد إلا في جزائر
البحار الجنوبية) اهـ وكان يحسن بالناشرين أن يقولا: وقد ثبت اليوم أن الفيلة تكون في بلاد الهند، من غير أن يَحْصرا القول بقولهما: في جزائر البحار الجنوبية لأنها تكون في أفريقية.
وقال المؤلف في ص 14 أيضاً: والزرافة لا تكون إلا في بلاد الحبشة. قلنا: والذي أجمع علياء العلماء بطابع الحيوان أنها تكون في فلوات أفريقية وصحاريها.
وقال المذكور في تلك الصحيفة عينها: (والسمور وغزال المسك لا يكونان إلا في الصحارى الشرقية الشمالية).
قلنا وكان يحسن أن يعلق في الحاشية ما يصحح هذه القالة. فالسمور يُرى في شماليَّ أوربة، وآسية، ويعيش في كمنشكة وألاسكة. وغزال المسك يعيش في جبال آسية الشرقية، ويوجد منه في الصين، والتُبَّت، وبنغال، وديار التَتَر، والتَنْكينَ، كما ذكره علماء الحيوان.
وقال أيضاً في تلك الصفحة: (والعقاب والنعام لا تفرخ إلا في البراري والقفار والفلوات). وجاء في الحاشية: (في ب التي نقلت عنها هذه الزيادة وحدها: (والعطاف)، ولعل صوابه ما أثبتنا (أي العقاب) إذ لم نجد العطاف فيما راجعناه من كتب الحيوان. وفي كتاب (حياة الحيوان): إن من أنواع العقاب ما يأوي إلى الصحارى) أهـ.
قلنا: (لا يمكن) أن يكون الصواب ما أثبته الناشران، فلو فرضنا أن بعض أنواع العقاب يأوي إلى الصحارى، فمن المحال أن يفرخ فيها، لأن العقاب لا تفرخ إلا في أعالي الجبال وشواهق الهضاب. والتوحيدي يوجه النظر إلى أن هذا الطائر الذي يذكر اسمه يتخذ أفحوصَه في البراري والقفار والفلوات، ولا يكون إلا لنوع من القطا وهو الغَطَاط، بالغين المعجمة والواحدة غطاطة. وفي نسخة من حياة الحيوان: يرى العَطَاط بعين مهملة وفتحها كالغطاط بالمعجمة.
وقال المؤلف في تلك الصفحة أيضاً: (والوطواط والطيطوى وامثالهما في الطير لا تفرخ إلا على سواحل البحار وشطوط الأنهار والبطائح والآجام) اهـ
قلنا من معاني الوطواط: الخفاش لضرب من خطاطيف الجبال. وكل منهما لا يفرخ على سواحل البحار ولا على شطوط الأنهار ولا على شواطئ البطائح والآجام. فيجب أن نأتي باسم طائر يشبه لفظ الوطواط ويعشش في المواطن المذكورة وهذا الطائر يسمى اليوم في
أنحاء البطائح في العراق البيبط أي
وتلفظ البيبط بكسر الباءين ومن الغريب أن هذا اللفظ معروف بهذا الضبط في فلسطين على ما صرَّح به القانوني تدسترام في ص 402 من كتابه. وذكره أيضاً دنبي وكذلك دوماس وذكره شربونو بصورة بيبيط بياء زائدة قبل الآخر. وسماه الدكتور حنا أبقاريوس بوطيط وغناج في ص 588 من معجمه الطبعة الثالثة. وسماه الكبتن هـ. ف. س امرى في معجمه الإنكليزي العربي في ص 204 هدهد (كذا). وسماه الأب بلو اليسوعي في معجمه الكبير الفرنسي العربي: طائر طويل الرجلين (كذا). وفي معجم الدكتور سعادة الإنكليزي العربي: نباح وطاتويت وفي معجم ج. ج. مارسيل الفرنسي العربي: بيبط بكسر الباء الأول وفتح الثالث.
قلنا والأصل هو بيبط مشتق من البط لأنه مغرم بالطين والتردد إليه، وسكناه الآجام والمستنقعات وهو يبطبط فيها: أي يدخل منقاره فيها وفي أوحالها وأطيانها، ويبحث فيها عن طعامه من دود وحشرات مسمعاً صوتاً يحكي: بط بط بط، ومنه اسم البط أيضاً واسم هذا البيبط. وأما أبو طيط وبوطيط في لغة عوام بعض الشاميين فهو من تصحيف البيبط. ونحن لا نشك أن الطيبط هو اللفظ الذي كان معروفاً في أنحاء البطائح منذ عهد العباسيين، وهو أيضاً اللفظ الذي عرفه التوحيدي.
وجاء ذكر الذر في حاشية ص 105 عند قول الناشرين: الذر النمل الأحمر الصغير. قلنا ونحن العراقيين نعرف الذر إلى يومنا هذا ونريد به صغار النمل بغض النظر عن لونه؛ وهو بهذا المعنى ورد في كلام اللغويين والبلغاء والكتاب الحذاق والأدباء البصراء.
وقيل في ص 108: (وكذلك اللُك فإنه (طل) يقع على نبات مخصوص ينعقد عليه) قلنا: والمشهور أن اللك ليس طلاً بل هو صمغ، أو راتينج، أو كما يقول علماء العرب: لثيً يسيل من بعض الأشجار في الهند كالتَّيْن الهندي، والتيْن الدَّيِّن، والعوسج العُنابي، ونظائرها، ويخرج بعد أن تجرحه أنثى حشرة نصفية الجناح أسمها الحبة اللكية فإذا ثحن هذا اللثي، تبيض فيه الهامة وتفرخ.
وفي تلك الصفحة عينها: (وكذلك الدُرُّ فإن طل يرسخ في أصداف نوع من الحيوان البحري، ثم يغلط ويجمد وينعقد فيه) - والمشهور اليوم عند المحققين أن الدرة إفراز يحدث
أثر خدش تخدشهُ دُوَيْدَة، أو هي حبة رمل تقع في صَدَفَة حيوان هلاميَّ فتنحبس فيها، فتتحول درة، وليست بطلٍّ، ولا بندًي كما كان يظنه الأقدمون. فيجب أن تصحح آراء الأقدمين بعد تحقيق العلماء العصريين لها ولا تبقى على حالتها الأولى.
وفسر الناشران قول التوحيدي في حاشية ص 164 (ينكز) بقولهما: من النكز: وهو لسع الحية بأنفها، ومعلوم اليوم أن الأفعى لا تنكز بأنفها كما هو رأي الأقدمين، وإنما تنكز بناب في أعلى مقدم فمها؛ أما إذا أريد بالأنف هذه الناب، فالتعبير صحيح، وإلا فيجب أن يعدل عنه إلى ما يوافق تقدم العلم وتحقيقات المتخصصين فيه.
ومما يتعلق بعلم الحيوان، وبتعبير أصح، بعلم المواليد ما جاء بخصوص الماس. فقد ورد في ص 109:(ويقال: لا يوجد الماس إلا في معدن الذهب في بلد من ناحية المشرق) - قلنا: إنه يوجد في رمال الذهب في الهند، والبرازيل والأورال، فكان يجب أن تزاد هذه الكلمات.
(بغداد)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
ترتيب القرآن
للأستاذ أبو طالب زيان
في العدد 470 من (الرسالة) سؤال الأستاذ عبد الله رشيد الكاتب عن القاعدة التي رتبت السور القرآنية بموجبها. أو روعي في ترتيبها كبر السورة أو سبق النزول. والأديب يوّجه الأدباء والمفكرين لبحث هذا الموضوع الخطير أسوة بالمواضيع الفذّة التي تتناولها الرسالة الغراء. ونحن مع تقديرنا لصاحب الرسالة نرجو أن يتسع المجال لمناقشة هذا الموضوع، والاهتداء إلى نتائجه القويمة عليها الباحث الفطن، وتأخذ الناشئة إلى البحث النبيل والطريق المستقيم.
ولا بد لنا من لمحة يسيرة حول ترتيب الآيات قبل الخوض في ترتيب السور ليستبين للقارئ الغرض الذي يرمي إليه الباحث. فقد أجمعت الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على النهج الذي نراه اليوم في المصاحف كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى. ولا مجال للرأي والاجتهاد في هذا، فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بآيات القرآن منجمة فيوحيها إلى النبي عليه السلام ويدله على موضع كل آية من سورتها، فكان عليه السلام يبلغها للصحابة، ويأمر كتاب الوحي بكتابتها ويقول: (ضعوا هذه الآية في المكان الذي يذكر فيه كذا وكذا. وكان جبريل يعارضه بالقرآن في رمضان من كل عام مرة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤه في مدارسته له مرتب الآيات على النحو الذي نراه اليوم في المصاحف، حتى إذا تم نزول القرآن كانت كل آية مرتبة في سورها، وقد حفظها عنه الصحابة بترتيبها. فلما كان زمن أبي بكر وأراد جمع القرآن لم يكن عمله متناولاً لترتيب الآيات، وإنما كان مقصوراً على جمع القرآن بين دفتي مصحف واحد خشية عليه من التفرق والضياع إذا استمر القتل في حفاظه، ثم نسخ المصحف من عهد عثمان إلى عهدنا هذا مرتب الآيات كما تلقاها الصحابة عن الرسول صلوات الله عليه. وقد نقل الإجماع عن هذا كثير من العلماء منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر ابن الزبير في مناسباته. وروى ابن وهب عن مالك قال: إنما ألف قرآن على ما كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا الإجماع ما ورد من النصوص الدالة على أن ترتيب آياته توقيفي، تفصيلاً وإجمالاً.
فمن هذه النصوص ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عثمان ابن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) إلى آخرها. فهذا الحديث صريح في أن جبريل علمه موضع هذه الآية من سورتها وكذلك كان دأبه في كل آية.
ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان ابن عفان (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً) نسختها الآية الأخرى فلن تكتبها أو تدعها. قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً من مكانه. فهذا الحديث صريح في أن إثباتها في مكانها من سورتها توقيفي، وأن عثمان وجدها مكتوبة في المصحف المنقول مما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغيرها من مكانها لأن هذا أمر لا مجال فيه للرأي. ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال: بإصبعه في صدري وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء. فهذا الحديث يدل على أن آيات السور كانت مرتبة معلومة الترتيب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان معلوماً ما هو مقدم منها وما هو مؤخر؛ ولذلك قال النبي لعمر: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء فعين موضعها من السورة. وتلك الآية هي قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. . . الخ) ويدل على أن ترتيب الآيات توقيفي أيضاً ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءته عليه السلام لسور عديدة كسورة البقرة وآل عمران والنساء، وما ورد في البخاري من قراءته سورة الأعراف في صلاة المغرب. وروى النسائي أنه قرأ سورة قد أفلح المؤمنون في صلاة الصبح. وقد كان عليه السلام يقرأ هذه الصور مرتبة الآيات بمشهد من الصحابة فتلقوا عنه ترتيب الآيات. وما كان الصحابة ليرتبوا القرآن ترتيباً مخالفاً لترتيب الرسول وهم أحرص الناس على أتباعه. فثبت بهذه النصوص أن ترتيب الآيات توقيفي لا مجال فيه للرأي وعلى ذلك انعقد الإجماع، فليس لأحد أن يغير في ترتيب الآيات فيقدم بعضها على بعض فإن ذلك بدعة ضالة لا يجوز الإقدام عليها.
أما ترتيب السور وتقديم الطوال منها، تم تعقيبها بالمئين، ثم بالمثاني، ثم بالمفصل، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء؛ وأشهر مذاهبهم في ذلك ثلاثة:
الأول: أن ترتيبها كان باجتهاد من الصحابة. وقد مال إلى هذا الرأي الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، والقاضي أبو بكر في أحد قوليه.
الثاني: أن ترتيبها كان توقيفاً من رسول الله صلى الله علية وسلم ما عدا الأنفال وبراءة، فإن وضعهما في موضعهما كان باجتهاد عثمان رضي الله عنه ووافقه عليه الصحابة. ومن ذهب إلى ذلك البيهقي المحدث المشهور في كتاب المدخل، والسيوطي في كتاب الإتقان.
الثالث: أن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كان بتعليم النبي عليه السلام. وقد ذهب إلى ذلك جمع كبير من العلماء منهم أبو بكر بن الأنباري، والكرماني، والطيبي، وأبو جعفر النحاس وآخرون غيرهم. . .
استدل القائلون بأن ترتيبها كان باجتهاد الصحابة بأن مصاحف السلف من الصحابة كانت مختلفة في ترتيبها؛ فمنها ما رتبت فيه السور على حسب نزولها فجعل أوله سورة اقرأ، ثم المدثر، ثم نون، ثم المزمل. وهكذا إلى آخر السور المكية، ثم السور المدنية على حسب نزولها كالمصحف الذي نسبوه إلى علي رضي الله عنه. ومنها ما رُتِّب على خلاف ذلك كمصحف ابن مسعود الذي جعل أوله البقرة ثم النساء ثم آل عمران، وكمصحف أبي بن كعب. ولو كان ترتيب السور توقيفاً لما كان بينها اختلاف في ذلك.
وهذا الاستدلال ضعيف من وجهين: الأول. أنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن ترتيب بعض السور كان معلوماً في حياة النبي. الثاني: أن زيد بن ثابت الذي أسند إليه عثمان رياسة الجمع الذين رتبوا مصاحفه ونسخوها قد شهد العرضة الأخيرة للقرآن، وعلم ترتيب السور من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس من المعقول أن يحدث من عنده ترتيباً للسور غير ما علمه من رسول الله لأن ذلك لم يكن من عادتهم، فلا بد أن يكون ترتيبه للسور هو عين ما سمعه من رسول الله، ولذلك لم يرتض المحققون هذا الرأي.
واستدل أصحاب المذهب الثاني على أن ترتيب السور ما عدا الأنفال وبراءة كان توقيفاً بما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع
الطوال؟ فقال عثمان كان رسول الله تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول:(ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من أواخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يُبَيّن أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال. فهذا الحديث صريح في أنه وضع الأنفال وبراءة في موضعهما من المصحف كان باجتهاد عثمان، لأنه نسب وضعهما إلى نفسه ولم يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما ما عداهما من بقية السور فلا بد أن يكون عثمان قد أتبع فيه ما علم من الرسول صلوات الله عليه.
وقد نازعهم أصحاب المذهب الثالث في الاستدلال بهذا الحديث. أما من جهة سنده فقد قالوا إن الترمذي - وهو أحد رواته قال فيه إنه أحسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس: 1هـ: والجزء الحادي عشر من تهذيب التهذيب لابن حجر يقول: إن المحدثين اختلفوا في يزيد هذا هل هو يزيد بن هرمز المشهور بأنه ثقة أو هو غيره؟ ثم قال والصحيح أنه غيره. وقد قال علي بن المديني: ذكرت ليحيى بن سعيد قول ابن مهدي إن يزيد الفارسي هو ابن هرمز فلم يعرفه. وكفى بذلك دليلاً على جهالة حاله. وقال أبو حاتم فيه لا بأس به أقول؛ ومثل هذا الرجل الذي لم يعرف حاله لا يصح الاعتماد على حديثه الذي انفرد به في ترتيب القرآن.
وأما من جهة متنه، فإن التمسك به يثير غبار إشكالات نحن في غنى عنها، لأنه يدل على أن آخر الأنفال لم يكن معلوماً بيقين؛ وكذلك أول براءة، بدليل أن عثمان ظن أن براءة من الأنفال، ولذلك لم يضع بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا يفتح باباً واسعة لشبهة فرقة جوزت الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك باطل باتفاق السلف والخلف. ويبعد جدًّاً إلا يبين الرسول آخر الأنفال وأول براءة. ويضعف التمسك به زيادة عما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عارض جبريل بالقرآن في آخر سنة من حياته مرتين، فأين كان يضع هاتين السورتين في قراءته؟ فالتحقيق إذاً أن وضعهما في موضعهما توقيفي وإن فات ذلك عثمان أو نسيه؛ وإن بسم الله الرحمن الرحيم لم تكتب في أول براءة، لأنها لم تنزل
معها كما نزلت مع غيرها من بقية السور.
واستدل جمهور العلماء على أن اتساق السور كاتساق الآيات كلاهما توقيفي بأنه ورد في أحاديث كثيرة أن ترتيب بعض السور في عهد رسول الله هو عين ترتيبها في المصاحف التي نسخها زيد بأمر عثمان. . . منها ما رواه البخاري عن ابن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: أنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي؛ فذكرها نسقاً كما أسفر ترتيبها في المصحف.
وروى البخاري أن عليه السلام كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ (قل هو الله أحد) والمعوذتين، فذكرها مرتبة كما هي في المصحف. وروى مسلم أن صلى الله عليه وسلم قال اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران. فهذه الأحاديث وما شاكلها تدل على أن السور المذكورة فيها كان ترتيبها مسنداً إلى الرسول، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه عليه السلام قرأ القرآن كله بمشهد من زيد بن ثابت، وأن زيداً اختاره أبو بكر لجمع القرآن لقوة الثقة به، وكذلك اختاره عثمان رئيساً لمن نسخوه في المصاحف، تبينا أن هذا الترتيب الذي عمله زيد هو ما علمه رسول الله. . . وهذا ما يطمئن إليه القلب، وهو ما جنح إليه جمهور العلماء. . .
(للكلام بقية)
أبو طالب زيان
37 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)
هناك طريق استخارة أخرى، وهي أن يمسك المستخير حبتين من حبات السبحة بعد أن يتلو الفاتحة ثلاث مرات، ثم يعد ما بينهما من الحبات قائلاً عند الأولى: سبحان الله؛ وعند الثانية: الحمد لله؛ والثالثة: لا إله إلا الله؛ ويردد هذه العبارات على التوالي حتى الحبة الأخيرة. فإذا وقعت العبارة الأولى على الحبة الأخيرة، كان الجواب إيجابياً ومناسباً. أما العبارة الثانية، فلا تدل على شيء والأخيرة نافية. ويمارس الكثيرون هذه الطريقة
وكذلك يلتمس البعض عندما يرقدون ليلاً أن يوجههم الله في المنام فيجعلهم يرون شيئاً أبيض أو أخضر أو ماء، إذا كان العمل المنتوي يستصوب، أو إذا كانوا يتوقعون توفيقاً قريباً، وإلا جعلهم يرون شيئاً أسود أو أحمر أو ناراً، فيقرءون لذلك الفاتحة عشر مرات ولا ينقطعون عن ترديد هذه العبارة (اللهم صل على سيدنا محمد) حتى يغلبهم النعاس
يؤمن المصريون بالأحلام إيماناً عظيماً. وكثيراً ما ترشدهم الأحلام في بعض أمور حياتهم المهمة. ولديهم في تفسير الأحلام مؤلفان كبيران لابن شاهين وابن سيرين. والأخير تلميذ السابق. ويستشير المصريون حتى المتعلمون منهم هذين الكتابين بثقة كاملة. وعندما يقول شخص لآخر: لقد رأيت رؤيا، يجيبه الآخر: خير، أو خير إن شاء الله. وقد جرت العادة عندما يرى أحدهم رؤيا سيئة أن يقول: اللهم صل على سيدنا محمد؛ ويبصق من فوق كتفه اليسرى ثلاث مرات لمنع كل شر.
ويوجد في مصر، كما يوجد في أكثر البلدان الأخرى، خرافات تتعلق بأيام الأسبوع فيعتبر بعضها سعيداً والآخر نحساً. ويعتبر المصريون يوم الأحد مشؤوماً بسبب الليلة التي تليه.
إذ يعتبر المسلمون ليلة الاثنين منحوسة لأنها ليلة وفاة الرسول (صلعم): غير أن البعض يراها سعيدة للدخول بالعروس خاصة، وإن لم تعتبر موافقة لهذا الأمر بقدر ليلة الجمعة. ويعتبر البعض أيضاً اليوم التالي يوماً سعيداً والبعض الآخر يراه مشؤوماً. أما الثلاثاء فيعتقدون أنه منحوس ويسمى (يوم الدم). إذ يقال إن عدة شهداء أفاضل قتلوا في هذا اليوم، ولذلك يعتبرونه يوماً مناسباً للفصد. والأربعاء لا يدل على شيء. ويسمى الخميس (المبارك) ويستمد بركته خاصة من الليلة واليوم التاليين. ويعتبرون مساء الجمعة سعيداً جداً وخاصة للدخول بالزوجة. والجمعة أبرك الأيام إذ هو يوم الراحة عند المسلمين ويسمى (الفضيلة)، أما السبت فهو أنحس الأيام. ويرون من الخطأ العظيم أن يسافر المرء في ذلك اليوم. ويمتنع أكثرهم عن حلق الذقن أو تقليم الأظافر فيه. وكان أحد أصدقائي متردداً في رفع قضية على خصمين في مثل ذلك اليوم المنحوس. وقرر أخيراً أن ذلك اليوم هو خير أيام الأسبوع لرفع القضية، لأن النحس لا بد واقع على أحد طرفي الخصومة فقط. ولا شك أنه سيقع على خصميه لأنهما اثنان وهو واحد. وهناك أيام من السنة تعتبر ذات حظ كبير من اليمن مثل أيام العيدين الفطر والأضحى. والبعض الآخر يعتبر يوم الأربعاء من الأسبوع الأخير من شهر صفر نحساً، فيعمد الكثيرون إلى البقاء في منازلهم لاعتقادهم أن المصائب تقع على الإنسان في ذلك اليوم. ويستدل بعض الناس على الخير والشر من الأشياء التي يرونها عند خروجهم من المنزل صباحاً؛ فعلى حسبها يكون اليوم سعيداً أو نحساً. ويعتبرون الأعور علامة سوء وخاصة من فقد عينه اليسرى.
الفصل الثاني عشر
السحر والتنجيم والكيمياء
لو صدقنا ما يقصونه في مصر عادة لظهر لنا أن بهذا البلد في هذه الأيام سحرة لا يقلون مهارة عن حكماء فرعون وسحرته الذين تتحدث عنهم التوراة.
ويخلط عقلاء المصريين بين نوعين من السحر: (الروحاني) و (السيميا). والضرب الأول سحر روحي يعتقدون أنه يحدث عجائبه بفعل الملائكة والجن وأسرار بعض أسماء الله ووسائل أخرى خارقة للعادة. والضرب الآخر سحر احتيالي غير موحى به، ويعتقد أقل
المسلمين تصديقاً أن أهم عامل في ذلك هو تأثير بعض العطور والعقاقير في البصر والمخيلة تأثير الأفيون تقريباً. ويظن البعض أن الأفيون يستخدم في أعمال هذا السحر الأخير.
وينقسم السحر الروحاني الذي يعتبره المصريون عموماً سحراً صادقاً، إلى (علوي) و (سفلي) أو (رحماني) نسبة إلى الرحمن إحدى صفات الله، و (شيطاني). ويقال إن السحر العلوي والرحماني علم يستند على عون الله وملائكته والجن الصالحين وعلى أسرار شرعية أخرى، وأنه يستخدم دائماً لأغراض طبية وأنه لا يدركه ويمارسه غير الصادقين الذين يتعلمون من الحديث أو القراءة أسماء هؤلاء العاملين الذين يفوقون الطبيعة البشرية، وأدعية تكفل إجابة رغباتهم. وتتصل كتابة الاحجبة لغرض صالح بهذا الفرع من السحر والتنجيم وعلى أسرار الأعداد. وأقصى ما يدرك في السحر العلوي هو معرفة (الاسم الأعظم) وهذا هو أعظم أسماء الله الذي يعتقد المتعلمون أنه لا يعرفه إلا الأنبياء والرسل. ويقال إن من يعرف هذا الاسم يستطيع بمجرد النطق به أن يحيي الميت ويميت الحي وينتقل على الفور حينما يشاء ويأتي بأي معجزة أخرى. ويظن البعض أن أفاضل الأولياء يعرفون هذا الاسم. ويعتقدون أن السحر السفلي يقوم على عمل الشيطان وأشرار الجن، وأن أشرار الرجال يستعملونه لأغراض خبيثة. وإلى هذا الفرع ينسب علم السحر الذي يطلقه العرب على الرقية الشريرة فقط.
ويعمد هؤلاء الذين يمارسون (ضرب المندل)، وسأسرد أمثلة له، إلى تنفيذه بواسطة الجن أي باستخدام علم الروحاني؛ إلا أن هناك رأياً آخر في هذا الموضوع سأذكره تواً. وقد بينت إحدى الوسائل التي يعتقد بعضهم أن الجن يساعدون بها السحرة في الفقرة الثانية من الفصل العاشر.
ويرى المتعلمون أن (السيميا) علم كاذب وفن احتيالي ينتج آثاره المدهشة بتلك الوسائل التي ذكرت سابقاً ويعتبرون أن (ضرب المندل) تابع للسميا بسبب استعمال البخور في إجرائه.
ويدرس الكثيرون في مصر علم النجوم والتنجيم. ويستخدمونه على الأخص لحساب المواليد وتعيين أوقات السعد الخ ولمعرفة أي البروج يخضع له الشخص، ويتم ذلك
بحساب القيم العددية لحروف اسم الشخص واسم أمه. وكثيراً ما يكون ذلك في حالة إقدام اثنين على الزواج للتحقق من توافقهما. وقد أخبرت أن (علم الرمل) يسند غالباً على التنجيم. ويزعم القائمون به أنه يكشف الماضي والحاضر والمستقبل بواسطة علامات يرسمونها عرضاً على الورق أو الرمل ومن هنا سمي هذا العلم.
(يتبع)
عدلي طاهر نور
الإرادة والطريق
قطعة رمزية لوليم بليك
سألت لصَّا أن يسرق لي ثمرة شهية،
فنظهر هنا وهناك بين البساتين. وسألت
فتاة جميلة أن ترقد وتهبني أعذب أماني
الحب بلطف وقدسية، فبكت. وحينما
ذهبت هبط ملاك، فنظر إلى اللص
بغضب، والتفت إلى الفتاة بابتسام،
ودون أن ينطق بكلمة سرق لها
ثمرة حلوة وناولها إياها. وبين الجد
والدعابة استمتع بها ومضى. . .
(بغداد)
صفاء خلوصي
رسالة العلم
قلوب النجوم
للأستاذ خليل السالم
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ارتأى كين - طبيعي أمريكي - منذ سنة 1870 أن النجوم كتل جبارة من غازات مشتعلة، ولكن رأيه بدا سخيفاً لأول وهلة لأن الفلكيين لم يجدوا نجوماً كثافتها غازية، ولكن هذه العقبة زالت عندما عثروا في النجوم على كثافات تقل جداً عن كثافة الغازات. وهذه الكتل المستعرة من الغاز تحافظ على شكلها في أكثر الأحيان. وتشذ عن هذا القانون النجوم الجديدة التي تلمع في صفحة السماء دون أن يكون لها وجود من قبل. وتعني محافظة النجم على شكله الخاص به أن القوى المؤثرة عليه في توازن مستمر وهذه القوى هي:
1 -
قوة الجاذبية بين مختلف أجزاء النجم كقوة التجاذب على الأرض، وهذه القوة تتجه نحو المركز دائماً ولذا فهي تسعى لتجمع أجزاء النجم وتدمج بعضها في بعض، ومن ثم تحشك أجزاءه حشكاً قوياً وتزيد قوة التجاذب على سطح النجوم بحيث يكون وزن الرجل العادي هناك نحو (250) ألف طن، ويبلغ من شدة هذا الجذب على الرجل أن يسقط على السطح وينبسط وتتحطم أعضاؤه كما لو سقطت عليه إحدى ناطحات السحاب.
2 -
ضغط الغازات الذي ينتج من حركة الغازات المستمرة واصطداماتها القوية، ويربو ضغط الغازات في النجوم على أربعين ألف مليون ضغط جوي على الأرض؛ والضغط يزيد بازدياد درجة الحرارة، وهذه القوة الناتجة عن الضغط تدفع الغازات المتحركة عن المركز، أي أنها تعاكس فعل الجاذبية وتباعد أجزاء النجم وتمدده.
3 -
والقوة الثالثة هي قوة الضغط الإشعاعي، فقد ثبت أن للنور ضغطاً وقوة لم يكونا معروفين قبل السنوات الأخيرة، فقد كان الأستاذ ليبديو في موسكو أول من قاس ضغط الضوء في سنة 1901. وقد تنبأ بوجود هذا الضغط الرياضي الإنجليزي المشهور كلارك مكسويل كما تنبأ بوجود الأمواج الكهرطيسية التي تنقل لنا أعذب أنغام الراديو. وهذا الضغط قوي في القلب إذ من هناك مصدر النور والطاقة. ماذا نعني؟ نعني أن النجوم
ليست غازات مشتعلة كما يخيل للبعض بمعنى أن النور والحرارة القادمين منها يحدثان نتيجة ذلك الاحتراق العادي. كلا. إنما ينتج النور والحرارة من تحطم الذرة في قلب النجم، وهذا التحطم وإن لم يدخل ضمن تحقيق المختبر إلا أن بعض الظواهر المكتشفة حديثاً عززت هذا الرأي وإن لم تقطع بصحته. وهذا التحول عفوي ذاتي، كما أن إشعاع الراديوم عفوي ذاتي لا ينتظر مؤثراً خارجياً ليتم بفصله. وهذا الفناه يحدث بعد تصادم الكهيرب المتحرك بسرعة عظيمة مع النواة فيمسك كل منهما الآخر بعد الاصطدام، ويتعادلان كهربائياً وينطلق الفوتون أو وحدة الضوء كمظهر جديد لطاقة الكهيرب والنواة السابقة. هذا الفوتون ينطلق من المركز وتكون موجته قصيرة فيجاهد ويجاهد لينفذ إلى السطح، ولا يتسنى له المخرج إلا بعد جهد لطول موجته بعدهما. ولكثرة الفوتونات في القلب وشدة محاولتها الانطلاق والانبعاث يكون ضغط الضوء الإشعاعي أضعافاً مضاعفة للضغط على السطح، ويبلغ هذا الأخير في بعض النجوم (170000) طن على البوصة المربعة، ويزيد الضغط بازدياد درجة الحرارة أيضاً، واتجاه محصلة قوته عكس اتجاه قوة الجاذبية إي إنه يدفع المادة عن المركز ويفرقها كما يفعل ضغط الغازات الآنف الذكر
بقى أن نشير إلى حرارة النجوم في بواطنها. ولا يسعني بادئ ذي بدء إلا أن أحمد الله على أن اختار لنا هذه الشمس لنستمد منها نورنا وحياتنا، فلو قدر أن يكون نجم كالشعري اليمانية مثلاً مكان شمسنا، لزال في لحظة واحدة كل أثر للحياة على الأرض، ولجفت الأنهار وتبخرت المياه وذهبت الأرض والتهبت ذراتها شذر مذر. فالحرارة على هذا النجم عجيبة لا يتسع لها أوسع الخيال. ومثله كثير من النجوم لا تقل درجة حرارتها عن 40 مليون درجة مئوية، وفي بعض النجوم الحمر تنقص عن هذا المستوى العالي. وقد اكتشف الدكتور هتزلر الراصد الأمريكي مؤخراً نوعاً من النجوم لا تزيد درجة حرارته عن ألف درجة مئوية؛ وهذه النجوم مظلمة لا تشرق، إلا أنه تمكن من تصويرها بأشعة الحرارة لا بأشعة الضوء، فبعض الألواح الفوتوغرافية تحس بحرارتها. ويخيل لكثيرين أن قبة الفضاء مملوءة بمثل هذا الصنف من النجوم
تصل حرارة النجوم في قلوب الأقزام البيض إلى ألف مليون درجة مئوية، ولكي تدرك معنى هذه الأرقام أورد مثلاً ضربه العلامة جينز في أحد كتبه قال: لو أخذت شلناً أو قطعة
من الحديد بحجم الشلن وسخنتها إلى درجة تقرب من 40 مليون درجة مئوية، فإن الحرارة المنبعثة من هذه القطعة المعدنية الصغيرة تكفي لأن تصعق جميع الحيوانات الحية الموجودة على الأرض. وهذه الحرارة العالية في النجوم لا تترك للمادة أن تتمتع بحالاتها الثلاث: الصلبة والسائلة والغازية، بل تحول الجرم كله إلى غاز ملتهب. ولا تكتفي بهذا، فتعمد إلى ذرات الغازات وتهيج الكهيربات المطوَّفة حول النواة وتفك الأربطة التي تشدها إلى المركز وتقذف بها من أفلاكها الخارجية، فتترك الذرة مؤنية مكهربة. وكثيراً ما تطرد كل الكهيربات بحيث لا تبقى إلا النوى المجتمعة. وهذا ما حدث فعلاً في النجوم الثقيلة، إذ انعدم الفراغ بين النوى وبين مشتت المادة، بحيث أصبح وزن البوصة المكعبة 620 طنًّا، أي أن الرجل العادي يستطيع أن يحمل من هذه المادة حجماً لا يزيد على رأس الدبوس المفرطح. ولو وضعت في يدك قطعة بحجم الجوزة وسقطت على الأرض لأحدثت انفجاراً مروعاً كما تفعل القنابل الثقيلة، وتغور في الأرض كما تغيب قطعة من الرصاص سقطت من عل في لجة الماء
والخلاصة أن قلوب النجوم نابضة بالحياة مفعمة بالحركة ترف كقلوب العذارى. وأجمل تصوير لها وقفت عليه كان بريشة الفنان العظيم أدنفتون في كتابه النجوم والذرات & قال: إن باطن النجوم حشد (مهوَّش) غير منتظم من الذرات والكهيربات والأمواج الأثيرية، وهذه الدقائق تتحرك بسرعة 100 ميل في الثانية، فتفقد ذلك النظام الجميل من الكهيربات. أما هذه الكهيربات المضاعة فإنها لا تجد مكاناً تخلد فيه للحركة والسكون، فتبقى تدور بسرعة (100000) ميل في الثانية؛ وفي كل فترة قصيرة من الزمان تصطدم بإحدى الذرات فتدور عقيب الاصطدام في منعطف أكثر انحناء؛ وبعد كل اصطدام يزداد الانحناء حتى إذا بلغ عدد الاصطدامات حوالي ألف تحدث كلها في جزء من ألف مليون جزء من الثانية يعمل هذا السلوك المحموم غايته فتمسك إحدى الذرات بذلك الكهيرب. . . ولكن شعاعاً سينياً يعكر عليه أمنه وصفوه الجديدين فلا يكاد الكهيرب يستقر به المقام حتى يخرجه ذلك الشعاع عن طوره ويقذف به بعيداً عن النواه، فيطوف من جديد مبتدئاً رحلة جديدة ومخاطرة جديدة. . .
(شرق الأردن)
خليل السالم
(ب. ع) من الدرجة الأولى في الرياضيات
البريد الأدبي
باي تونس الجديد
قست الحوادث على الصحف المصرية فشغلتها عن وصف ما وقع في تونس الخضراء بموت الباي السابق وقيام الباي الجديد، فرأيت أن أكتب كلمة وجيزة أشرح بها لقراء (الرسالة) جانباً من حياة اليوم في ذلك القُطر الشقيق، نقلاً عما وعته أُذناي من إذاعة تونس العربية، وهو يصور بعض خواطر الناس هناك
الباي الجديد اسمه (محمد المنصف) ولقبه (المنصور بالله) وكان أبوه يلقَّب بالناصر، (ومن كان أبوه الناصر فهو المنصور) كما قال أحد خطبائهم في الاحتفال الذي أقيم بقاعة العرش
وسياق الخطب والقصائد يجعل الباي (صاحب الجلالة الملك) وهذا اتجاهٌ جديد فيما أفترض، وإن كان لقب (الباي) قد احتفظ بقدسيته في الأغاني والأناشيد
ويظهر بوضوح وجلاء أن نظام (البيعة) روعيت أصوله من الوجهة الشكلية، فالباي ورث أباه على العرش، ومع ذلك رأى التونسيون أن يقيموا البيعة بعد توليته بأيام، رعاية للتقاليد الإسلامية، وإن كان الأصل أن تكون البيعة أسبق من الولاية، لأنها بمثابة الترشيح الذي يسبق الانتخاب، وإلا فهي ضربٌ من المُلك العَضُوض
والطريف في هذه القضية أن المبايعين يفِدون من أسبوع إلى أسبوع بنظام وترتيب، فيكون لكل إقليم يوم، ويكون المبايعون من أعيان البلاد في الإقليم، البلاد التي لها شأن في القديم والحديث، وهذا المعنى يشار إليه في الخطب والقصائد بإجمال، ولكنه يذاع على الجمهور بالتفصيل. ولو كانت لنا سياسة عربية صريحة لرأت الإذاعة المصرية أن تسجل ما روته الإذاعة التونسية في هذا الموضوع، ففيه تفاصيل عن الأقاليم التونسية تستحق التسجيل. ولكن أين من يسمع؟!
ومما يجب النص عليه أن الخطب والقصائد التي ألقيت في المبايعة تمتاز بميزتين: الأولى سلامة اللغة من اللحن والتحريف، وذلك يشهد بأصالة العروبة هنالك
الميزة الثانية هي الحرص على القومية الإسلامية. فأكثر الخطب تُختم بعبارة دينية لطيفة، كأن يقول هذا الخطيب:(جعل الله غرر أيامك لائحة، بِسرّ الفاتحة)، وكأن يقول ذلك الخطيب:(حفظك الله في الذهاب والإياب، بجاه النبيّ الأوّاب، وبسرّ فاتحة الكتاب)، وقد
التفتّ إلى كلمة (سرّ الفاتحة) فوجدتها وردت في جميع خُطب المبايعين.
وغنَّى المغني في تهنئة الباي قصيدةً حفظتُ منها هذين البيتين:
أضاءت بك (الخَضْرا) فأشرق نورُها
…
فأنت عماد الدين ليس يزول
مددتَ علي الإسلام أكناف نِعمةٍ
…
بأعطافها ظلٌ عليه ظليلُ
والخضراء لقب تونس، وبه توصف في الأشعار الشعبية المنظومة على لسان الزناتي خليفة وأبي زيد الهلالي. وهما شخصان حقيقيّان، لا خرافيان كما يتوهم جماعة من الخلائق
وإنما نصصت على الناحية الإسلامية، لأن الإسلام في تونس كان أكبر عقبة في طريق الاحتلال الفرنسي. ومع ذلك أن حكومة باريس كانت رأت تشجيع التونسيين على التجنس بالجنسية الفرنسية ليصيروا إلى ما صار إليه الجزائريون، فقرر أهل تونس أن من تجنس بالجنسية الفرنسية فلا يجوز دفنه في مقابر المسلمين، وبهذا صار الخروج على الجنسية التونسية بمثابة الخروج على الدين الحنيف.
وبالرغم من الدعايات الأجنبية في تونس فقد ظل التونسيون غاية في الوفاء بالعهد للعروبة والإسلام، وتلك مزية يشاطرهم فيها اللوبيون والجزائريون والمراكشيون، مع اختلاف قليل في لون العصبية قضت به ظروف لا تخفى على اللبيب.
وإذا تذكرنا أن فتح الأندلس يرجع في الأغلب إلى شهامة العرب في أفريقيا الشمالية أدركنا قيمة تلك البقاع في الحيوية العربية والإسلامية، ولن يمر زمن طويل قبل أن يكون لأولئك الأقوام تاريخ جديد.
وإذا تذكرنا أن (البحر الشامي) كما يسميه التاريخ العربي وهو الذي يسمَّى خطأً (بحر الروم) والذي أسميه (بحر العرب) إذا تذكرنا أن هذا البحر خدم العروبة والإسلام بفضل أبنائه من المصريين والفلسطينيين واللبنانيين عرفنا أنه لن يستغني عن خدمات أبنائه من اللوبيين والجزائريين والتونسيين والمراكشيين، وما أحسبه سيسكت عن ضياع لبنان الثاني وهو الأندلس، وستعرفون صدق هذه النبوءة بعد أزمان قصار لا طوال.
(وقُل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
زكي مبارك
الفدائية
ردًّاً على حضرة الأديب مصطفى عبد المجيد جابر أقول:
حين يضحي الإنسان بنفسه إنما يقصد التضحية بموضوع كان خارجاً عن نطاق الذات ثم انطوى عليها فإذا رمى الموضوع أصابه سهمه
(الفدائية) ابنة عم الانتحار، وكلا الفدائية والانتحار يمتان إلى الماسوشية بأوثق الصلات.
إن الباعث على النزوع إلى الفدائية عقد نفسية زودت بطاقات وجدانية كبيرة تحت تأثير ظروف خاصة.
والواقع أن الإنسان أناني على وجه العموم سواء ضحى بنفسه أو بسواه، وليس هناك من هو أوفر أنانية من الهستيري.
إن السمو - الذي يعنيه العرب - غريب عن (الفدائية)، بل ربما كان غريباً عن (البشرية)!
محمد حسني ولاية
مساجلات
أطلعت في مجلة (الرسالة) الغراء على مقال تحت هذا العنوان بتوقيع الأستاذ محمد مندور، وقد أخذتني الدهشة لما وقع نظري عليه من اجتراء الكاتب وإنكاره الحقائق الواضحة فيما كتب الأستاذ العقاد بصدد رسالة الغفران.
إن الأستاذ العقاد لم ينكر فيما يكتب أن أناساً قبل لوسيان سبقوا المعري إلى فكرة الجنة والنار، حتى يعود الأستاذ محمد مندور فيؤكد ذلك.
وإنه لما يخجلني حقَّا أن أعيد هنا ما كتبه الأستاذ العقاد أو أن أشير على الكاتب بأن يعيد قراءته ليتبين أنه كانت لديه مندوحة عن هذا الرد الجاف.
ولكنه أراد أن يرد على الأستاذ العقاد، فكان له ما أراد، وإن كان لم يأت في كلامه بجديد غير ما أكده الأستاذ العقاد في أكثر من مقال، ثم عاد فأكده للأستاذ المندور على صفحات (الرسالة).
وإذا كان ما كتبه الأستاذ العقاد لم يكن مفهوماً لحضرة الكاتب - بعد كل هذا - فليس الذنب في ذلك بواقع على العقاد
إن الرحلة إلى العالم الآخر معروفة قبل المعري وقبل لوسيان كما قال الأستاذ العقاد في كلام واضح لا لبس فيه؛ وليس موضوعها بحاجة إلى من ذكرهم الأستاذ مندور لتوكيده
وإن كان هذا لا يمنعنا أن نقول إن لوسيان كان أول من كتب رحلة إلى العالم الآخر، يصح أن يجمع بينها وبين رحلة أبي العلاء من حيث الطريقة والحوار، لا من حيث إنها رحلة إلى الجنة والنار كما ظن الأستاذ مندور
فإذا كان لدى الكاتب شيء غير هذا فليرشدنا إليه
أما حكمه على أدب العقاد فلنترك الحكم عليه للقراء، ما دام صاحبه لم يستطع ولن يستطع أن يدعمه بالحجة والبرهان.
(دمياط)
الجبلاوي
مؤلف في التاريخ العام تنقله وزارة المعارف إلى العربية
روت وكالة الأنباء العربية أن وزارة المعارف تعتزم القيام بأكبر عمل أدبي لم يسبق لها القيام بمثله. وذلك بنقل المؤلف القيم العظيم الذي وضع بالإنجليزية، ليكون مرجعاً لرواد التاريخ بعنوان التاريخ العام - إلى العربية. ويشتمل هذا السفر الفذ على مليونين ونصف مليون كلمة
وقد تحدث السير جون هامرتون ناشر الكتاب إلى وكالة الأنباء العربية في هذا الشأن؛ فقال إن السير والتر مونكتن كان له كبير الفضل في تيسير هذا العمل وتذليل مهمته
والمعروف أن السير جون هامرتون ومعاونيه قضوا أكثر من عامين في وضع هذا المجلد الضخم الذي ساهم في كتابة فصوله مائة وخمسون كاتباً من الكتاب المبرزين
وقد قال خلال حديثه السالف الذكر: لم يكن يسعني عند وضع هذا الكتاب وجمع فصوله، إلا الشعور من جديد بالإعجاب والاغتباط بذلك النصيب الكبير الذي ساهم به العقل العربي في تأسيس ثقافة العالم الإنساني وتكوين حضارته. وإني لفخور بأن جمهور قراء العربية في مصر والشرق الأوسط سوف يجدون في هذا المؤلف الضخم خير شاهد على جهود الإسلام في بناء الحضارة الإنسانية والتقدم العلمي. وإن إصرار وزارة المعارف على نقل
الكتاب برمته دون الاكتفاء بترجمة مختصرة له لدليل رائع على أن الغذاء الروحي لم يستغن عنه في هذا العهد الذي يسوده الهدم والتخريب
طيلسان ابن حرب
جاء في ديوان إسماعيل صبري باشا ص 96 ما نصه: (طيلسان ابن حرب يضرب به المثل في القدم والبلى؛ وسبب ذلك أن ابن الرومي الشاعر المعروف كان قد مدح ابن حرب فخلع عليه طيلساناً بالياً، فقال في ذلك الطيلسان شعراً كثيراً حتى صيره مثلاً لكل ما بلى ورث. فمن ذلك قوله:
يا ابن حرب كسوتني طيلساناً - رقّ من صحبة الزمان وصدا
طال ترداده إلى الرفو حتى
…
لو بعثناه وحده لتهدى)
وليس من شك في أن هذا القول لا نصيب له من الصحة؛ فالذي نعرفه أن محمداً بن حرب أهدى إلى الحمدوني طيلساناً خلقاً، وكان الحمدوني يحفظ قول أبي حمران السلمي في طيلسانه الذي يقول فيه:
إذا ارتداه لعيد أو لجمعته
…
تنكب الناس لا يبلى من النظر
فجارى الحمدوني أبا حمران حتى بلغ ما قاله في طيلسانه حوالي مائتي مقطوعة منها:
يا ابن حرب كسوتني طيلساناً
…
مل من صحبة الزمان وصدا
طال ترداده إلى الرفو حتى
…
لو بعثناه وحده لتهدى
ومن ذلك نتبين أن البيتين للحمدوني وليسا لابن الرومي كما زعم الأستاذ شارح الديوان. ولعل اختلاط الأمر على الأستاذ جاء من أن ابن الرومي كان ممن قالوا شعراً في هذا الطيلسان نفسه
(المياسرة)
عوض الدحة
أين أخبار حافظ
شُغلت منذ حين بدراسة الناحية الفكاهية في حياة شاعر النيل المرحوم حافظ بك إبراهيم، إذ كان أعجوبة في مرحه ولهوه ودعابته، واقتضى ذلك البحث أن أجمع ما يمكن من الملح
والطرف التي نسبت إلى هذا الشاعر الضحوك، فماذا كان من شأني؟. . .
تعددت مني الأسباب وتنوعت الأساليب، وراجعت شتى المصادر ومختلف الكتب والصحف، فجمعت من طرف حافظ، بعد اللتيا والتي، عشرات وعشرات؛ ولكن بعض أصدقائه يؤكد لي أن طرفه تزيد على مئات ومئات، فأين أجد هذا الزاد الأدبي النفيس؟. . .
لقد حسبت أن أصدقاء حافظ القدامى يعرفون من أخباره وأسراره ما لا يعرف أبناء هذا الزمان، فسألت شاعر القطرين مطران بك عما يعرفه فأجاب؛ إني نسيت! وسألت الدكتور مبارك فأجاب إني مشغول! وسألت الأستاذ البشري فما أجاب! وسألت الأستاذ عبد الله عفيفي بك، فأحالني على مجموعة قصاصات المرحوم محمد مسعود بك، ففزغتُ إليها لدى ولده الدكتور يحيى مسعود فاعتذر بأنها لم ترتب بعد، وأن الاطلاع عليها لن يتيسر قبل شهور! وسألت الدكتور منصور فهمي بك، فأحالني على فريق من أدباء دار الكتب الذين عاشروا حافظاً، فوجدت عندهم طرفة من هنا وطرفة من هناك، ثم. . . ثم اعتذار ببعد الشقة وداء النسيان! ثم سألت كثيرين غير هؤلاء فما تحقق لي رجاء! فأين أجد أخبار (حافظ) - أيها الناس - وقد مات في عام 1932، فهو لم يمض عليه أكثر من عشر سنوات؟ أين أجد أخبار حافظ، وقد كان بالأمس القريب ملء الأسماع والأبصار والقلوب؟. . . وماذا يكون حديث الأجيال القادمة عن حافظ وإخوانه من الأدباء والذين عاشروهم لا يعرفون عنهم ما يخف في الميزان أو يثقل؟. . . وماذا عندكم أيها الأدباء؟
(البجلات)
أحمد الشرباصي