المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 473 - بتاريخ: 27 - 07 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٧٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 473

- بتاريخ: 27 - 07 - 1942

ص: -1

‌الحديث ذو شجون

الوفاء للوطن الغالي

للدكتور زكي مبارك

عند هذه الكلمة ترنَّم الهتَّاف بعد انتصاف الليل. . . فمن الهاتف؟

هو أديب من قراء (الرسالة) أراد أن يستفهم عن معنى القول بأن المسيحية تؤَّخ في كل أرض بميلاد المسيح، وتؤَّرخ في مصر بعذاب الشهداء

وما كدت أنتهي من شرح هذا المعنى، حتى هتف ذلك الأديب داعياً أن يجعل الله الوطنية من عقائد الشباب في هذا الجيل

فمن أنت أيها الفتى؟

وما قيمتُك في نفسك وفي نفس إخوانك؟

هل تعرف وهل يعرفون أن اهتمامك بكلمة في تمجيد وطنك هي الشاهد على أنك مصريٌّ أصيل؟

أنا أدعو لك بطول العمر مع العافية، أيها الفتى الوطني، حرسك الله وحماك!

اسمع يا صديقي ثم اسمع:

في كل أرض يكون للشجر والنبات موسم يقظة وموسم خمود، إلا مصر فاليقظة فيها دائمة في جميع الأحايين.

وفي كل أرض يوجد الماء في مكان وينعدم في مكانات، إلا مصر، فالماء موجود في كل مكان. وأين من يصدّق أن سكان جبل المقطم يستقون الماء من بئر هناك؟!

وفي كل بلد تجاهد الأرض في الزراعة موسماً، ثم تستريح موسمين أو مواسم، إلا مصر، فأرضها تصلح للإنبات مرتين في العام الواحد أو مرات

وطنك، يا صديقي، جميلٌ وثمينٌ ونفيس

كان وطنك محور التوازن الدولي قبل أن يعرف بنو آدم ماهية التوازن الدولي، وكان وطنك أول وطن تنبه إلى أن الله واحد بلا شريك، وفي سبيل هذا المعنى الدقيق جاهد إخناتون الشهيد. . .

وكان وطنك، يا بنيَّ، أول وطن حارب السماء عن علم أو عن جهل

ص: 1

وهل من القليل أن يكون الطغيان المصري أخطر طغيان حاربه القرآن؟

وطنك، يا صديقي، مذكورٌ بمحاسنه ومساويه في جميع البلاد، وستُنسى أمم وشعوب، ولا يُنسى وطنك، لأنه معتَرك الرشد والغي، والهدى والضلال، في جميع الأجيال

وطنك هو الوطن، وبلادك هي البلاد

وطنك هو الميزان في القضاء، قضاء الأمس وقضاء اليوم، والنصر لمن يظفر بقلبك، فلمن قلبك؟

قلبك لوطنك، وعقلك لوطنك، وهواك لوطنك. فلا تشرك به أحداً، ولا يخطر في بالك أن في الدنيا جمالاً أنضر من جماله، أو حمَى أعزَّ من حماه، وإن تناوشه الطامعون من كل جانب، فسيظل وطنك وحدك، ولن يكون لأعدائه غير العذاب في ميادين القتال، وبئس النصيب!

أدر المذياع إلى أية جهة من جهات الأرض، فستسمع اسم مصر. . . وسائلْ شركات البرق في أي بلد من البلاد، فستخبرك عن مبلغ اهتمامها بأخبار مصر. . . واستطلع المكنون من ضمائر الزعماء والملوك، فسترى أن مصر مُنْيَة الجميع، وبين المُنْية والمَنِيَّة صِلات

هل تعرف الحكمة التي تقول: رُبَّ أكلة مَتعت أكلات تلك الأكلة في مصر، فما طمع فيها طامع إلا قصمت ظهره. ولا دخلها غاضب إلا كانت وبالاً عليه، ولو استفتيت التاريخ لأفتاك ثم أفتاك

كنت أشارك المنفلوطي في السخرية من قول مصطفى كامل: (لو لم أكن مصريًّا لتمنيت أن أكون مصريًّا)

واليوم أعرف أن المنفلوطي كان من المخطئين الخاطئين، وأن كلمة مصطفى كامل أصدق من الصدق وأصوب من الصواب

ذلك بأن مصر غنية من جميع النواحي، وعظيمة من جميع الجوانب، وليس فيها شبرٌ إلا وهو مبعث حياة أو مصدر تاريخ

وما اقتتلت الأهواء، ولا اشتجرت الآراء، ولا اعتركت القلوب، ولا انتضلت العقول بأقوى وأعنف وأخطر مما يثور فوق الأديم الصحيح لهذه البلاد

يوم كان السلطان لأهل الشرق كانت مصر أول أمة تقاوم طغيان الشرق

ص: 2

وحين كان السلطان لأهل الغرب كانت مصر أول أمة تحارب طغيان الغرب

وهل ينسى التاريخ أن عزَّة مصر هي التي جعلت واليها عَمْراً أول والٍ يخالف عن أمرِ الخليفة العادل عمر بن الخطاب؟

وهل ينسى التاريخ أن السلطنة العثمانية في أيام عزها المأثور عجزت عن تتريك الأمة المصرية؟

وهل ينسى التاريخ أن الإنجليز الذين سيطروا على كثير من ممالك الأرض عجزوا عن مقاومة العزة المصرية؟

نحن برعاية الله وكرامة مصر أعزَّاء وأعزاء وأعزاء.

النور أسرع من الضجيج

على حين غفلة أضاءت آفاقُ مصر الجديدة، وأضاءت ثم أضاءت ثم أضاءت؛ فقلت لصاحبي: في هذه اللحظة أُطلقت ثلاثة مدافع؛ فقال: ومن أين عرفت؟ فقلت: من هذه الومضات؛ فقال: ولكني لم أسمع ضجيج المدافع؛ فقلت: ستسمع بعد لُحَيْظات، وستؤمن بأن النور يسبق الضجيج

فيا ناشدي الشهرة باسم الأدب والحياة بلا قلب وبلا روح وبلا نور، فلن يكون له من مجد الأدب وشرف الحياة نصيب ولا خَلَاق

النور أسرع من الضجيج، لأنه أرقّ وألطف، وأقوى وأغلب، فاستعينوا بحرارة أرواحكم، قبل أن تستعينوا بجهارة أصواتكم، واعلموا أن النور وليد النار، وأن جوهر القبَس المتألق فيه أصالة حيوية لا يدرك مَداها غير أرباب القلوب

ومن أجل هذا كان الاضطهاد أعجز من أن يخمد حيوية الأديب، لأن الأدب نور، ولأن الاضطهاد ضجيج، والنور أقوى وأسرع من الضجيج

ثم ماذا؟

إن وضعت أصابعك في أذنيك، فقد حَجَبْتَ عن سمعك ما تحبّ وما لا تحبّ من الأصوات، وإن أغمضتَ عينيك، ثم عصبتهما بمنديل سَميك، فستحسّ النورَ عيناك، برغم ذلك الحجاب، أو برغم ذينك الحجابين، لأن النور أقوى وأسرع من الضجيج

فيا أعداء الأدب، متى تعقلون؟!

ص: 3

ستضيء قُبوركم إن اعتصمتم منا بظلمات القبور، لأن من واجب النور أن يمزّق الظلمات. . . وسوف تعلمون!

أسرار وسرائر

في الحوار الذي دار بين الأستاذ محمود البشيشي وابنه النجيب حسين، مرّت إشارةٌ لطيفة إلى كاتب يجمجم ولا يفصح، وهو (كاتب من الكتَّاب) كان (حسين) - حرسه الله - كتب إليه يدعوه إلى ترك الإيماء والتلميح فيما يتناول من المعاني والأغراض

وأتولى الإجابة عن ذلك الكاتب فأقول:

لقد نشأ - يا بُنيَّ - في عصر من عصور الانقلاب، وفي مثل هذا العصر تكثرُ الأكاذيب والأراجيف، ويقلّ الفهم لدقائق المعاني، فهل يلام الكاتب إذا فرَّ من التصريح إلى التلميح؟

قد تقول: إن التلميح أخطر من التصريح، لأنه يفتح أمام المغرضين أبواب التفسير الخاطئ والتأويل المريب

وأقول: إني أحب أن يظلمني قومي عن شبهة لا عن يقين، فأنا أساور أهدافي بأسلوب يُعفي ظالميَّ من ربقة الظلم المبين؛ وإلا فمن يتوهم أن أغراضي تخفي على قرائي وهم من أُولى الألباب؟

بين مصر والعراق

في هذا الأسبوع أنِستُ بلقاء جمهور من الأساتذة المنتدبين للتدريس في العراق، وهم جميعاً ألسنةٌ تلهج بالثناء على الأريحية العراقية والذكاء العراقي. ومن كلام الدكتور راجح والدكتور غالي والأستاذ قنديل عرفت أن دار المعلمين العالية بلغتْ من التفوق مبلغاً يشرح صدور المؤمنين بعظمة العقلية العربية في العراق، وطن الأهل والأحباب.

ولكني تأذيت خين عرفت أن بعض المدرسين لا يريدون أن يعودوا لخدمة العلم في الوطن الشقيق، بحجة الخوف من تقلب الظروف، أو بحجة الشوق إلى الاستقرار في وطنهم الأول، وما درَوْا أن الاستقرار ضربٌ من ضروب الموت!

لو قلتُ الصدق كل الصدق لصرّحتُ بأن من يريدون قطع صلتهم العلمية بالعراق ليسوا إلا شباناً تعوزهم القدرة على فهم السرائر من الروحانية العراقية، فهم يعيشون هنالك عيش

ص: 4

الغرباء بالفكر والروح، في بلاد قام كيانها على الفكر والروح.

في هؤلاء من يعتذر بأن العراق مهدّد بالغلاء في هذه الأيام، فهل يكون فيهم من يدرك أن في تمرة أو تمرتين كفاية لمن يدعوه الواجب للقيام بخدمة علمية؟

وفي هؤلاء من يقول: إن مصر تنساه حين تطول إقامته بالعراق فلا ينال حظه من الترقيات

وأقول إن هذا لن يقع بعد تنظيم التعاون الثقافي بين مصر والعراق.

كيف يصبر من عرف العراق على فراق العراق؟

أنا أخشى أن يكون مفارقوه لم يعرفوه. وهل يغيب عني أن في العراقيين أنفسهم من يجهل المحاسن الأصلية لوطنه الجميل؟

لقد عجب قومٌ من وفائي للعراق، وظنُّوني أستهديه منحةً من المِنح الذواهب، ثم انقضى عجبهم حين عرفوا أن وفائي للعراق وفاء القلب لا وفاء الجيب، ولكن عجبهم سيُبعث من جديد حين يعرفون أن في عنقي ديوناً للعراق، هي أكرم الأطواق، فما تلك الديون؟

رأيت العراق يكرم مصر في جميع مذاهبها العلمية والأدبية والتشريعية، ورأيته يفرح حين نفرح، ويلتاع حين نلتاع، ورأيت أنه بحق وصدق أخٌ شقيق.

مصر مسطورة الملامح فوق كل مكان في العراق، فما جزاءُ من يحبونها هذا الحب؟ وما جزاء من يعرفون من أقدارنا الأدبية أكثر مما نعرف؟

تلك معانٍ يجهلها من يبحث عن وظيفة توزن قيمتها بالدراهم والدنانير، وهي معانٍ يعرفها من يؤمن بأن الفناء في سبيل العروبة بابٌ من أبواب الخلود.

زكي مبارك

ص: 5

‌أطوار الوحدة العربية

للأستاذ نسيب سعيد

(اغتبط قراء (الرسالة) - وما أكثرهم - للنبأ العظيم الذي

أذاعته عليهم في أعدادها الأخيرة من تخصيص بعض أعدادها

لخدمة الوحدة العربية، والقضية العربية، وقديماً عرفت

(الرسالة) بخدمتها لرسالة العروبة وفضلها الجزيل على الثقافة

العربية، مما جعل لها المقام الأول في قلوب أبناء العرب في

سائر الأقطار، وجعل صاحبها محبباً إلى القلوب جميعها،

كريماً على النفوس كلها. أدامه الله للعرب فخراً وللإسلام

ذخراً. . .)

القضية العربية

البحث عن (القضية العربية) طريف، والحديث عن العروبة ذو شجون وبخاصة في هذا العصر، عصر القوميات. ونحن نريد اليوم في حديثنا الأول نبحث للقراء في تاريخ الفكرة العربية الحديثة، ونستعرض لهم أدوار هذه الفكرة وأبطالها في التاريخ المعاصر، ثم ننتقل بهم بالحديث عن الخدمات الجلي التي قدمها العراق للوحدة العربية وعن أثره في القضية العربية الأخرى، وبخاصة عن المعاهدة العربية الأولى التي عقدها العراق عام 1936 مع المملكة العربية السعودية؛ وقد كانت هذه المعاهدة نواة الوحدة العربية، ثم كيف سافر جميل بك المدفعي رجل العراق من بغداد إلى صنعاء بطريق القاهرة في شهر أغسطس سنة 1937، وأشرك دولة اليمن السعيدة في معاهدة الوحدة، فأصبح الحلف العربي ثلاثياً بعد أن كان ثنائياً، وترك الباب مفتوحاً لسائر الدول العربية للدخول في هذه الوحدة، والانضمام إلى هذه المجموعة العربية، كما دخلها: العراق والحجاز واليمن.

ص: 6

حلم محمد علي الكبير

وإذا أردنا الحديث عن فكرة الوحدة العربية والبحث عن الدولة العربية الموحدة في العصر الحديث، فلا بد لنا من الانتقال إلى الوادي السعيد، إلى ضفاف النيل، فمصر العزيزة هي البلد الأول الذي فكر في الدولة العربية الكبرى؛ وللقطر العربي قصب السبق في بعث فكرة الوحدة العربية الأولى، وخلق الوعي القومي. ولغريزة محمد علي الكبير الفضل الأول في إيجاد الفكرة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!

كان ذلك في القرن الماضي يوم ظهر محمد على الكبير مؤسس البيت المالك المصري في وادي النيل، وسعى لتأسيس دولة عربية جديدة، وفكر في قلب المملكة المصرية إلى إمبراطورية عربية إسلامية كبرى تستطيع الظهور بين الدول الأوربية الحديثة. كذلك حارب الوهابيين في الجزيرة ليبسط نفوذه على سائر بلاد العرب، ويحقق حلمه الذهبي الجميل، ثم استولى على بلاد الشام وأعاد إلى سورية الإخاء والرخاء والخيرات، ومنع الجيش المصري الباسل قبائل البدو من الاعتداء على القرى والمزارع، ووضع حداً للصراع الذي كان لا ينقطع بين الدروز والمسيحيين في ديار الشام.

فالنتيجة التي نستطيع أن نقررها إذن، هي أن محمد علي الكبير عزيز مصر هو أول من فكر في الوحدة العربية، وأول من حلم بتأسيس دولة عربية جديدة مكان الرجل المريض أمين الدولة العثمانية، تعيد إلى دنيا العرب ذكريات الأمويين والعباسيين والفاطميين؛ ولكن الظروف السياسية القاهرة، والعوامل الدولية المختلفة، وقفت في وجهه، واضطرته إلى الانسحاب من سورية، فاقتصر حكمه بعد عام 1840 على مصر وحدها كما حدث التاريخ، وتبدد ذلك الحلم الذهبي الجميل في مصر.

كلمة إبراهيم باشا

وعلى كل حال فإننا لا نرى قبل القرن التاسع عشر ما يشير إلى قومية العرب، والتفات إلى دنيا العرب، أو إلى أي فكرة عربية؛ فقد كانت تلك القومية في سبات عميق، وفكرة العروبة كسراب خادع، وأول من حاول إيقاظها وتأسيس دولة عربية مركزها القاهرة محمد علي الكبير، وقل كذلك ابنه إبراهيم باشا. ولئن كان المشروع لم يتم فإن النواة قد وضعت

ص: 7

في الأرض، وترك للزمن إنباتها وإحياؤها، وكيفما كان الأمر فإننا لا نرى في الشرق العربي منذ أيام إبراهيم باشا المصري حتى أواخر القرن التاسع عشر حركة جديدة للانفصال عن السلطنة العثمانية والاستقلال بكيان عربي منظم سوى تلك الحركة المباركة التي انبعثت في وادي النيل السعيد؛ لأنه ما من شك في أنه لم يكن لقطر عربي من الأسباب المهددة لظهور فكرة قومية عربية ما كان لمصر في القرن التاسع عشر؛ فهي أسبق البلاد العربية إلى إنشاء وحدة إدارية ذاتية، وحكومة شرعية صحيحة؛ بل هي أول تربة بعثت فيها الروح العربية الاستقلالية القدسية، بل روح العزة والكرامة والمجد كما يستدل عليه من سياسة إبراهيم باشا التي كانت ترمي إلى فصل بعض الأقطار العربية عن جسم الدولة العثمانية واستقلاله بها، فقد صرح (للبارون بوال كونت) بقوله:(ما أنا بتركي، بل أنا ابن مصر. إن شمسها قد غيرت دمي فجعلتني عربياً قحاً. . .).

وقد سارت مصر بعد ذلك بخطى ثابتة في ذلك السبيل فتأسست فيها عدة جمعيات عربية، ومنظمات سياسية تعمل للعروبة وللوحدة الكبرى؛ منها (الجمعية القحطانية) التي تأسست عام 1909، (والجامعة العربية) التي أنشئت سنة 1910، و (حزب اللامركزية) الذي تأسس في سنة 1912. وكذلك يجب إلا ننسى (جمعية العهد) التي أنشأها في الأستانة عزيز علي المصري يوم 28 أكتوبر سنة 1913 فقد خدمت القضية العربية كثيراً، وسنتحدث مفصلاً عن فضل مصر على القضية العربية وعن أثرها في الوحدة العربية يوم تخصص (الرسالة) الكريمة الكلام عنها ولكل حادث حديث.

المنظمات العربية

وكما تأسست في القاهرة جمعيات عربية تعمل للعروبة كذلك أنشئ في كل عاصمة من عواصم العرب: في العراق، والشام، والحجاز، واليمن، وفي كل بلد من بلدانهم ناد يضم الصفوة المختارة من أبناء العروبة. وكذلك على أثر إعلان الدستور العثماني سنة 1909 يوم تغير الحال غير الحال في البلاد العثمانية فأطلقت الألسنة من عقالها والأقلام من سجنها.

والواقع أنه لم يكن اغتباط العرب بالعهد الدستوري الجديد يقل عن اغتباط الترك؛ فقد ملئوا الجو هتافاً وصياحاً في بغداد والشام وغيرها، ونظم شعراؤهم القصائد، وحبر كتابهم

ص: 8

المقالات، في التغني بمزايا العهد الجديد، وانضم رجالهم ومفكروهم من عراقيين وسوريين وحجازيين إلى الاتحاديين موالين ومؤيدين لاعتقادهم أن دولتهم ستجدد شبابها وتسترد مقامها، وأن الأمة العربية ستنصف، وكرامتها ستصان.

ولكن حينما بدرت بوادر الخلاف العنصري بين العرب والترك تحول الحال، إذ ظهر أن الاتحاديين يسيرون على سياسة قومية سداها ولحمتها تعزيز الجامعة الطورانية وتأييدها، وأن الفكرة العربية قد عفا أثرها؛ لذلك أقفرت أنديتهم وتفرق أنصارهم، وضعف نفوذهم، كما تخلى عنهم نواب البلاد العربية المؤمنون بالعروبة وأنشئوا كتلة مستقلة اتحدت مع النواب المعارضين للاتحاديين؛ وختم هذا الدور بإعلان الحب البلقانية في خريف عام 1912؛ وتألفت في خلال هذه الفترة جمعيات عربية عديدة كما قلنا، في مصر، وبغداد، ودمشق، وبيروت، والآستانة، لحمل مشعل الفكرة العربية، وتأدية رسالة العروبة، وتعزيز شأن العرب، وبعث الوعي القومي العربي، فأثرت هذه الجمعيات أثراً بليغاً في تكوين (الرأي العام العربي) وإليها يرجع معظم الفضل في إنشائه وإعداده بالتعاون مع الصحافة العربية في مصر والعراق والشام والآستانة؛ فقد ساعدت على تنمية الشعور القومي وإيقاظه وبعثه، كما ساعد الشعراء العرب بقصائدهم الحماسية والكتاب والخطباء بدررهم النثرية على خلق النهضة الوطنية العربية الجديدة.

وأهم تلك المنظمات العربية التي تأسست يومئذ هي: جمعية الإخاء العربي، المنتدى الأدبي، الجمعية العربية، (الفتاة)، الجمعية القحطانية، العلم الأخضر، حزب اللامركزية، جمعية بيروت الإصلاحية، جمعية العهد، مؤتمر باريس العربي، الجامعة العربية، النادي الوطني في بغداد، وجمعية البصرة الإصلاحية. ونتحدث اليوم عن هاتين الأخيرين فقط لأنهما نشآ في العراق وعملا فيه

الجمعيات العراقية

أما المؤسسة العربية الأولى في العراق فهي النادي الوطني في بغداد فقد أنشئ في الزوراء عام 1913 على أثر تأسيس حزب اللامركزية في مصر ليكون فرعاً له، وكان رئيس هذا النادي مزاحم الباجة جي صاحب جريدة النهضة العراقية أول جريدة في العراق خدمت القضية العربية الكبرى. وانتسب إلى هذا النادي كثير من الشباب العراقي المثقف، فنشر

ص: 9

المبادئ القومية العربية وعززها. وكان يستظل بظل الزعيم العراقي حينئذ السيد طالب النقيب رئيس جمعية البصرة الإصلاحية الذي نشطه لإصدار جريدة النهضة فكان يصدرها مزاحم نفسه، فلما عطلها الاتحاديون الترك ولم يصدر منها سوى (12) عدداً وأمروا بالقبض على صاحبها فَرّ إلى البصرة ودخل في حمى السيد طالب النقيب

والمؤسسة العربية الثانية في العراق هي جمعية البصرة الإصلاحية التي أنشأها السيد طالب في مدينة البصرة، وقد كان يومئذ نائبها في مجلس النواب العثماني وأحد زعماء حزب الائتلاف، فانضم إليها عدد من كبير من رجالات البصرة وشبابها الناهض، كما انضم إليها أحرار العراق وزعماؤه المخلصون، فأصدرت جريدة النهضة في بغداد لتكون لسان حالها ولكنها لم تعش طويلاً كما قلنا. وحينما عقد مؤتمر باريس يوم الأربعاء في 18 يونيو عام 1913 في منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر أبرق إليه في تلك الساعة السيد طالب الزعيم العراقي مؤيداً ومشجعاً، فخاف الترك العاقبة، ولذلك انتدبوا أحد رجالهم وهو القائمقام فريد بك وعينوه قائداً للبصرة، وناطوا به مهمة اغتيال السيد طالب؛ فجاء البصرة ومعه حاشية كبيرة فأسرع هذا وأرسل إليه من اغتاله. فرأى الترك أن من أرسل مصلحتهم الجنوح إلى المسالمة، فاستمالوا السيد طالب وأرسل إليه طلعت بك وزير الداخلية التركية يومئذ برقية مفرغة في قالب المجاملة، فأذاع على الأثر البيان التالي:(أعلن بكمال الفخر إلى عموم أهالي العراق (الولاية والملحقات) بأننا قد اتفقنا في أمر تشريك المساعي وكأننا روح واحدة، وجسد واحد، لأجل رفع شأن وشوكة حكومتنا السنية التي قدرت صداقتنا رسمياً، ولم يبق خلاف بيننا بأي صورة كانت، وقد زال ما كان من سوء التفاهم زوالاً قطعياً، وصرنا كتلة واحدة نعمل على سعادة دولتنا العلمية، ونسعى في محافظة وحدتنا العثمانية بكل قوانا حتى لا يبقى من فرد واحد، وللبيان حررت الكيفية وأعلنت في 7 ربيع الأول سنة 1332).

إلى هنا اكتفي اليوم بالبحث عن تطور (الفكرة العربية) وعن الجمعيات العراقية، وسأحاول في حديثي المقبل تصوير رجالات العراق الذين خدموا قضية العروبة، وحملوا رسالة (الوحدة العربية) وخاصة أولئك الذين اشتركوا في الثورتين: ثورة العراق وثورة الحجاز؛ وعملوا في الدولتين: دولة بغداد ودولة الشام، مع أقوالهم والوثائق والمستندات التاريخية

ص: 10

التي تؤيد ذلك؛ فإلى اللقاء. . .

(دمشق)

نسيب سعيد

المحامي

ص: 11

‌جيل وجيل

الحيوية الفكرية

للأستاذ محمود البشيسشي

تعدد المواهب والحيوية - الحيوية تحدد الاتجاه - جناية الحيوية على أربابها - إسحاق الموصلي - الحيوية الفكر التي تسبق الزمن وتقرر المستقبل - الشاعر البدوي عبد المطلب والرواية الشعرية تبعث إلى التأمل في أحوال المجتمع - حيوية الفكرة الدينية - حيوية الفكرة في الفنون.

نصل حوارنا اليوم في حيوية الفكرة ليكمل البحث، ويتم الغرض، ويستقيم المعنى، ويدرك الهدف. فليس أقبح من أن يجعل المرء بالحكم قبل استيفاء الحجة، ويبرم القضاء قبل امتحان الشهادة. وإن الاقتضاب في معالجة الأمور مدرجة الضلالة، والإسراع في الكشف عن منبهم الأسرار طريق العماية. . . وخير الباحثين من نهج سبيل التأني والاستقراء ليعقل ويفهم ويدرك تفاصيل ما يعالجه، وتراكيب ما يعرض له. . .

. . . قال ولدنا حسين: عرفنا من أسرار الحيوية الفكرية شيئاً وبقيت أشياء. فقد تتعدد المواهب وتكثر الاتجاهات للشخصية الواحدة؛ كأن يكون المرء شاعراً ضرب في الشاعرية بسهم وافر، وناثراً طلع في القدرة على بيان أفكاره مطالع عالية، وخطيباً بلغ من عبقرية الفصاحة الغاية التي تتقطع دونها الأعناق. . . ويكون له في مذهب من هذه المذاهب المتعددة المتباينة جودة واستواء، وموافقة وكمال، ورونق وعذوبة، واستيعاب وفهم.

فما كان الحيوية هنا؟ وهل تكون في كل ناحية على قدر معلوم؟ وهل لصاحبها القدرة على توجيهها والسيطرة عليها أو يكون موقفه منها موقف الأرض من الغيث. . . لا تستطيع إلا أن تنتظر وروده!

قلت: أما تعدد المواهب يا بني فأمر قد يكون إلى الفطرة أقرب منه إلى الاعتياد والدربة. على أن المواهب مهما تعددت ألوانها، وتشعبت مذاهبها، لا يمكن أن تكون في كل ناحية ومذهب على نسق واحد من القدرة، وفي قوة واحدة من الحيوية. . . ولا بد يا بني من تدفق الحيوية قوية عاتية في ناحية دون أخرى، وحينئذ يكون لها وحدها تقدير المصير،

ص: 12

وتحديد الشخصية، وبيان موضع صاحبها وفنه الأصيل في معترك الحياة الصاخبة الدوّارة. فأنت يا بني تدهش من تعدد مواهبك، وتعجب من تباينها، وتحار في تعليل ميلك إليها، وتوفرك على أسبابها؛ ولكن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من التأمل في منابت هذه الاتجاهات وأصولها، فأنت تميل إلى الرسم وتمارسه، وتجيد الشعر وتطرب له، وتندفع وراء العمق في الفكرة جرياً وراء الفلسفة وطلباً لمنبهم الأسرار. . . وكل أولئك لو تأملت يا بني من مصدر ومبعث واحد يرجع إلى حساسية الشعور، وشفافية الوجدان، ويقظة التفكير. على أنك لو تأملت طويلاً لرأيت أن هناك حيوية خاصة غالبة على كل هذه الاتجاهات. . . تلك هي عمق الفكرة والجنوح إلى التأمل العميق. وإنك لتجد الصدق هذا القول صوراً من الشخصيات في مطاوي الزمن. فقد كان إسحاق الموصلي متعدد المواهب بعيد مدى الآمال، متباين الميول. وكان إذا ناظر أهل الكلام انتصف منهم، وإذا تكلم أو عالج الفقه أحسن وقاس واحتج وبلغ في قياسه واحتجاجه الغاية. وإذا أخذ بأسباب الشعر واللغة فاق وارتفع، ولكنه كان في الغناء أكثر حيوية، وكان الغناء أدنى ما يوصف به وإن كان الغالب عليه. على أنه كان أكره للاشتهار بالغناء والتسمي به!

قال: إن في نفور إسحاق يا والدي من الغناء وهو ما اشتهر به وذهب له صيت ذكر، لطرافة وموضعاً للتأمل.

فإن للحيوية جناية كبرى على أربابها. ولقد أصاب إسحاق من الحيوية ألم عظيم وضياع للفرص السوانح؛ فقد كان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس، وشُهر به من الغناء عندهم لوليته القضاء، فإنه أولى به، وأحق وأعف، وأصدق تديناً وأمانة من هؤلاء القضاة. . .! فما أشد ألم إسحاق لضياع ما كان يتطلع إليه! وما أخطر جناية الحيوية على أربابها! ولعل الهدف الأول لجناية الحيوية هو صاحب الفكر الحر من أنصار العقيدة، وأرباب المذاهب الفكرية. فكم رجل من حر العقيدة، صادق الإيمان، دفعت به حيوية الفكرة التي يعتنقها، ويتمسك بأسبابها، ويناضل في سبيلها إلى الخوض في مرابط الهلكة. . . لا تمنعه رهبة، ولا تقطعه هيبة، ولا يدركه نصب، ولا يتداخل جهاده تردد، فإذا رأيت في حياتك رجلاً قد طوقته الشرور، وترامت عليه النقم، وأقصى عن مواطن النعم، وحرم كل ما هو في متناول غيره، فلا تتردد في أن تنسبه إلى رجلين: رجل انسلخت حقيقته من

ص: 13

معاني الإنسانية، فهو شر على نفسه وشر على غيره؛ ورجل ارتفعت حقيقته بمعاني الإنسانية إلى مرتبة عالية سامية ترقب العالم بعين الضمير الحي الذي لا يقيم وزناً للمظاهر الكواذب، ولا يحفل بالقوة إذا لم تقم على قواعد من الحق، وأسس من العدل. فهو بما طبعت عليه نفسه من حيوية الفكرة والعقيدة والحق عدو الباطل والقوة، وطريد الرياء والقسوة

قلت: وإن الحيوية يا بني لتقرر المصير، وتحدد الغاية، وتشير إلى مستقبل صاحبها من قبل أن يتأهب لغايته من الحياة وينتظرها، ومن قبل أن تستقر به الأيام، وتطمئن به الأسباب، وتصبح له يد باسطة في الناحية الأصلية من مواهبه واتجاهات شخصيته. فإنك لتلمح في طفولة الفنان العبقري بوارق من حيوية الفن والفكرة فيما يعرض له في سلوكه وأحواله ورغباته وآماله. فهو أبداً يميل إلى كل فاتن من الصور ورائع من الألوان. ويجد في الخيال المجنح نشوة تخفف على قلبه، وتتصل بروحه الفنية، وتقربه من غايته التي لم تزل في أكمام الغيب تناديه من وراء حجاب؛ ويجد لها في قرارة نفسه حنيناً لا يملك القدرة على بيان خصائصه في جلاء ووضوح، وإشراق وصفاء. ولكنه على رغم هذا يحس بدافع يسوقه إلى السير وراء كل ما هو أدنى بالقبول، وأحظى بطلاوة الفن، وأعلق بقلب الفنان. . . على أن صاحب الحيوية قد يدرك الغاية التي يسعى لها، وتدفعه حيويته إليها، وهو حينئذ يقصد أنبل المقاصد ولا يرهب أخطر المهالك، ويجد في نفسه الإيحاء الذي يقول في قوة وحيوية: هذا أمل واجب أن يكمل، وحقيق أن يوفى حقه، وليس يتحقق أبداً إلا بأن يتطلع المرء إلى أجل الأغراض مكاناً. والرجل الحي من كان في قوله وفعله كأنما أطلع على إرادة قومه وإرادة حيويته، فرمى عن قوس عقيدتهم وعقيدته

فقال: إذن فالحيوية الفكرية يا ولدي تسبق الزمن، فتحقق في التخيل والتصور ما يتمخض عنه الزمن بعد أجيال متعاقبة. فكم من مخترعات تفتَّق عنها زماننا وكانت في ألفاف الخيال سجينة من أزمان طويلة. فقد جالت فكرة الطيران بخلد الإنسان منذ تنف فجر الفكرة الحية في الإنسانية. وكم من أفكار كانت فطرية ساذجة ثم أصبحت مع الزمن فنوناً مع النظريات والعمليات الخالدة. . . أجل هذا حق لا يتداخله شك، ولا يشوبه إفراط. ومن طرائف هذه الحيوية التي تسبق الزمن ما عرض لي أثناء مطالعاتي يا والدي. . . فقد رأيت أن الشاعر

ص: 14

البدوي الجليل (عبد المطلب) كان قد عالج الرواية الشعرية علاجاً استكمل شرائط الفن، واستوفي أوصاف الحيوية التي طالعتنا من فنون أمير الشعراء. . . فقد ألف عبد المطلب عدة روايات شعرية تمثيلية. وكان هذا منذ (29 عاماً) فعبد المطلب بذلك يتفرَّد وحده بفضل السبق في هذه الناحية الخطيرة من الفن الأدبي. فقد افترع هذا اللون من الشعر الروائي افتراعاً قبل أن تتفتح عنه عبقرية أمير الشعراء. ولا نسوق هذا القول من غير دليل ينهض شاهداً على صدقه؛ فإن الشاعر (البدوي) عدة روايات تمثيلية يوجد بدار الكتب منها روايتا (امرئ القيس) و (المهلهل): وقد قام رحمه الله بتأليف رواية اسمها (ليلى العفيفة) نشرت مجلة (المعرفة) جزءاً منها دليلاً على سبقه في هذا الفن. والمتأمل في هذه الرواية يرى كيف استطاع الشاعر أن يقنعنا بأنه كان مطبوعاً، حسن التصرف قد أغناه عفو قريحته عن التكلف، وبعد به عن التصنع. . . هذه بعض آثار الحيوية الفكرية يا والدي، وإنها لتدفع الناس إلى التأمل في حالهم، وربط ماضيهم بحاضرهم، والتطلع إلى مستقبلهم؛ وهذا التأمل والربط والتطلع، يجيء من بعده الرغبة في التقدم، والمطالبة بالحرية، والسعي وراء المجد. ويظهر هذا الأثر الأخير في حيوية الفكرة الدينية، وخاصة في حيوية الفكرة في الدين الإسلامي المجيد، فقد كانت الحقيقة المؤمنة تتطلق عزمة، وتتوهج رغبة. . . تنظر إلى أحابيل الشيطان نظرة القدرة القادرة، وتتأمل أضاليل الباطل بثقة الحكمة النافذة، فكان لها النصر المبين. بعثت حيوية الرسول في قلوب المؤمنين القوة التي قهرت الباطل، وبددت سحب الشيطان، وأقامت على أطلال الشرور والرياء والنفاق والفرقة والضلال مجداً عظيماً: قويّاً بالإيمان، ثابتاً بالعقيدة، صادقاً بكلمة السماء، خالداً بخلود الفضيلة والحق. وحيوية الفكرة في الفنون - يا والدي - هي دلالتها على زمنها، وعقلية أصحابها، وما يموج بأحاسيسهم، ويضطرب في ميولهم، ويختلج في صدورهم، ويساير نهضة علومهم وعقليتهم، ويلابس حقيقة مجتمعهم، ويرمي إلى مثلهم العليا في مفاتن الجمال، وروائع الحسن، وبدائع الفن، ومحامد الأخلاق. . . وحيوية الفن إذا اتسعت آفاقها، وعظم خطرها، بسطت حيويتها على فكرة وأمل وغاية، وخلعت على صاحبها أو الأمة التي نضجت فيها، لوناً خاصاً يحدد مكانها من عالم الفن. . . بل إنها لتجعل صاحبها يبعث روحه في كل ما يكتسبه من العالم الخارجي ويطبعه بطابعه الخاص. . . وهذه هي

ص: 15

رسالة الحيوية الحق في الفن!

قلت: ما أحوجنا - يا بني - إلى هذه الحيوية، حتى لا نضرب في ظلمات التقليد الأعمى لكل ما هو غربي، من غير أن نعمل التأمل في أسبابه وغاياته وملابسته لأحوالنا، ومسايرته لميولنا وأحاسيسنا وتقاليدنا!

محمود البشبيشي

ص: 16

‌قصة اجتماعية في رسالة

زوجة الأب

مترجمة عن الإنجليزية

بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة

عزيزتي هيلين. . .

لا ريب أنك ترتقبين البريد في لهفة كل يوم، على أمل أن يحمل إليك من أبيك خطاباً؛ بل إني لأكاد أتخيلك وأنت تشيعين الساعيَ بنظرة ملؤها الدهشة والألم معاً، في كل مرة يمضي فيها دون أن يترك لك هذا الخطاب المنشود. ولعل دهشتك ستكون أبلغ حينما تتلقِّين هذه الرسالة من (زوجة أبيك). وإني لا أستطيع أن أسمعك وأنت تقولين لصديقتك إيدنا:

- أبلغ من تأثير هذه المرأة عليه ألا يخاطبني إلا عن طريقها؟! على أني ألتمس إليك أن تبادري بتدارك هذا الوهم الذي تقعين فيه؛ فلم يسألني أبوك أن أكتب إليك، بل إنه ليجهل أني بعثت إليك بهذا الخطاب؛ ولعله لو عرف لغضب. وهو في الحقيقة لا يكاد يذكر اسمك أمامي، من يوم أن عدنا إلى المنزل فألفيناك قد هجرته غضبى. فكل ما أفعله إنما هو بإرادتي ومن محض تفكيري. . . وما أشك في غريزة حب الاستطلاع ستدفعك إلى قراءة كتابي حتى آخر كلمة فيه؛ فإن من غير المستساغ أن ترسل زوجة أب بخطاب مطول صريح اللهجة إلى ابنة زوجها الوحيدة، ولما تمض على نهاية رحلة الزواج أيام. . .!

ولكن. . . ماذا أنا قائلة لك؟ وكيف أوضح موقفي بحيث أستطيع - وحسبي هذا - ألا أزيد الأمور بيني وبينك تعقيداً؟

اعلمي أولاً أني لن أتوجه إليك بأدنى لائمة؛ بل إني لأقدر - بعطف بالغ - هذه الاحساسات التي دفعت بك إلى الرحيل، وأدرك أنك تنظرين إلى العلاقة بين زوجة أب وفتاة متحررة في التاسعة عشرة من عمرها، كأمر يصعب الاحتفاظ به؛ ولو كنت في موضعك لما وسعني إلا أن أتمرد مثلك، ولكن ليس بهذا الأسلوب الذي اصطنعت. . .!

واسمحي لي أن أذكرك - وملئ نفسي الأسى البالغ والأسف المرير - بأنك قد تصرفت تصرفاً انطوى على أبلغ القسوة وأشد الإهانة لي ولأبيك. وصدقيني حين أقول لك إني لا

ص: 17

أشكو مما أصابني شخصياً؛ فقد كان عملك لطمةً موجهة إليَّ، ولكنها كانت أشد ما يكون وقعاً على والدك المسكين. . . لقد أمضه الألم وأمرضه الحزن حتى لاذ بالصمت؛ وبالتالي وجدتني متألمة لألمه. . .

واعترف لي بأني لم أكن أتوقع منك تصرفاً فجائياً مؤلماً كهذا. ففي مرحلة تعارفنا الأولى كانت تربطنا مودة صادقة؛ ولما بدا احتمال اتصالنا برباط أوثق عن طريق أبيك، استحال إخلاصك وثقتك السابقان إلى نفور مزاجه التأدب والتحفظ؛ وكان ذلك أمراً طبيعياً. . .

ولقد بدا لي أني أستطيع متى أظلنا سقف بيت واحد، أن أجعلك تفهمين مقصدي وحقيقة شعوري.

كنت ولا أزال أحبك كثيراً؛ أحبك لشخصك ثم لأنك ابنة (أبيك)! ولقد شجعني تصرفك قبل الخطبة وبعدها على الأمل في أن لأحل وإياك المشكلة التي طالما سببت المتاعب للأسر جميعاً: مشكلة العلاقة بين الأبناء وزوجات الأب. وعلى هذا الأمل قضيت (شهر العسل) في وافر من الغبطة والسعادة.

ولكن. . . أي استقبال هذا الذي أعددته لنا!

ليتك تعلمين يا هيلين كم كان أبوك يشتاق إلى لقائك طوال مدة رحلتنا!

لم نرك في انتظارنا على المحطة كما كنا نتوقع. قلنا: حسناً، إنك في المنزل بلا ريب تترقبين عودتنا؛ وقد أعددت لنا عشاء شهياً ينسينا مشقة سفرنا الطويل. ولما اقتربنا نفوس أبوك في نوافذ المنزل علَّهُ يراك؛ ولكنا لم نلمح غير السجوف المرخاة في عناية، وأطراف هذه الستائر الفرنسية التي شذبتها يداك منذ عام. واخترق والدك الممر وثباً. ثم فتح الباب بمفتاحه الخاص وهو يهتف في قلق:

هيلين، هيلين. . . أين أنت؟!. . .

وانفتح أحد الأبواب، وأطلت منه الخادم وعلى وجهها سمات الذعر؛ فبادرها بالسؤال: أين مس هيلين؟. . .

وكانت الحقيقة أروع من أن تعترف بها الفتاة، فاضطربت وهي تغمغم بأنها لا تَدري. . . ثم انزوت عن وجهه سريعاً.

أسرع أبوك إلى غرفتك (الاستديو) وفتح بابها؛ فدله المنظر الذي أماه على ما حدث بأتم

ص: 18

وضوح. كان كل ما يخصك أو يهمك في الحجرة قد اختفى، فلم يكن ينقصه - ليعرف ما صنعت - أن يقرأ هذه الرقعة التي تركتها على رف الموقد بعد أن خططت عليها كلمتك القصيرة:

(لقد انتقلت عن هذا البيت لأقيم مع صديقتي إيدنا كوري) ومع ذلك فقد أطال أبوك التحديق في هذه الوريقة وهو يوليني ظهره، ثم استدار إليَّ بعد حين فالتقت أعيننا وأعتقد أننا تبادلنا في هذه اللحظة كل ما نستطيع التعبير عنه بالكلام.

وأخيراً مس ذراعي بيده مترفقاً وهو يقول: تستطيعين أن تهيئي طعامنا الآن. . . كان يتكلف الهدوء ويتظاهر بعدم المبالاة؛ فعجلت بالانصراف من أمامه قبل أن يتبين في وجهي أني أدرك حقيقة شعوره. وعندما التقينا بعد ذلك على مائدة الطعام كان يتصرف كما لو أن شيئاً هاماً لم يحدث! ولقد جاريته في رغبته؛ ولم يكن يتسنى إلا لمثلي ومثلك ممن يعرف خبايا نفسه أن يلحظ هذا الألم الذي يعصف في صدره. وإني لواثقة من أن أباك لن يلتمس إليك العودة بحال؛ وأنت الذي ورثت كبرياءه تدركين لم لا يفعل ذلك. أما من جهتي، فلن أطلب إليك شيئاً كهذا لعلمي أن أيسر ملتمس مني جوابه الرفض. وإنما سأخاطبك في وضوح. وسأحاول أن أبين لك أن زوجة الأب على رغم سمعتها السيئة تستطيع أن تكون أحياناً صادقة الرغبة في تفهم وجهة نظر ابنة زوجها، بل هي قد تقبل التضحية البالغة من جانبها في سبيل أن تخيم السعادة على الجميع. وما خطابي هذا إلا دليل ملموس على ذلك. قد لا تفهم فتاة مثلك لماذا يرغب أبوها في الزواج مرة أخرى؛ ويبدو لها طلب أبيها لزوجة جديدة أمراً شاذاً غريباً كما لو راحت هي تلتمس لنفسها أُماً أخرى! وهي ترى أن كائناً من كان لا يستطيع أن يملأ الفراغ الذي خلفته أمها؛ وبالتالي لا تكاد تصدق بوجود المرأة التي تملأ من أبيها فراغ الزوجة. ومن المشاهد أن تطفُّل امرأة أخرى - بعد ذهاب الأولى - من الأمور غير المرغوب فيها؛ حتى ولو كانت الأولى قد قصرت في أداء مهمتها كزوجة أو أم. فكيف يكون الحال مع امرأة فضلى كأمك جديرة بكل حب من زوجتها وطفلتها؟

لا ريب أن موضعها سيبقى شاغراً إلى الأبد!. . . لست أطالبك بأن تنظري إلى المسألة كما أنظر إليها، أو تضعي في ذهنك أن أباك هو أول من أحببت، وأنه عندما سألني

ص: 19

الاقتران به أحسست بسعادة لم أكن أحلم بها. فستقولين - وأنت محقة - إن هذه أمور لا تعنيك في شيء؛ وعليه فلنجعل الأساس المشترك بيننا سعادة والدك، فعند هذه النقطة قد يلتقي سهمانا. . .

ولو أنك فكرت في الأمر قليلاً لوجدت أن مزايا والدتك وفضائلها، هي التي لجأت أباك إلى التزوج مرة أخرى. وقد يبدو لك هذا الكلام متناقضاً أو قائماً على الوهم؛ ولكنه في الواقع ينطوي على نتيجة طبيعية يفضي إليها منطق مستقيم. فإن الزواج إذا انفصمت عروته بالموت يترك من الفراغ والوحشة بقدر ما حقق من سعادة ونعيم. . .

وأنت - نفسك - لن تستطيعي الادعاء بأن حبك لوالدك بعد وفاة أمك، قد شغل أكثر من ركن صغير، وصغير جداً، من هذا الفراغ الذي خلفته وفاتها! وكذلك الحال مع الأب، فما حبه لطفله إلا تتمة حبه لزوجه. والعلاقة بين الأب وابنته تختلف - كما وكيفاً - عن علاقة الزوج بزوجه. وأنا لست أدعي في لحظة ما أني قد ملأت هذا الفراغ تماماً؛ ولكني أردد صادقة أني اكتسبت محبة أبيك وثقته، وأني أسعدته بحبي له سعادة لم يكن لينالها - على الأقل - بغير حب المرأة. . .

وما أخالك تنكرين أنه قد اختارني بمحض إرادته؛ وليس لمجرد دافع يسير، بل لحاجة ماسة إلى تجديد هذه العلاقة الوثيقة التي افتقدتها بموت والدتك. فإذا أنت أدنتِني فقد أدنتِ أباك، وبحكمك هذا يبدو مبلغ قصورك في إدراك حقيقة الطبائع البشرية

وقد تبدو نظريتك معقولة من فتاة غير متزوجة تفيض نفسها بالوفاء الخالص والطيبة الساذجة، ولكن لن يقاسمك هذه النظرة أي رجل ممن خبر الحياة وعرفها على حقيقتها.

والآن. . . دعيني أتقدمْ بك خطوة أخرى:

لا بد لك أن تسلمي - إن عاجلاً أو آجلاً - بأن أباك هو صاحب الحق المطلق في تقدير قيمة هذا الزواج الأخير الذي ارتبط به؛ ولكنك قد تحتجين بأن هذا التسليم لن يغير شيئاً من شعورك نحوي. ولعلي لا أكون مخطئة إذا قلت إنك قد قلبت هذه المسألة من جميع وجوهها مع صديقتك (إيدنا) فرثت لحالك وأقرتك على موقفك. وإني لأستطيع - متى شئت - أن أسرد عليك كل ما دار بينكما من حديث؛ أو بالأحرى كل ما أقمته من (حجة) وعقبتْ عليه من (تأييد). وأنا واثقة من أنك قد قلت الشيء الكثير مما كنت أقوله لو كنت في مثل

ص: 20

هذا الموقف. كنت أقول إني أطلب حياة مستقلة لا تعترض سبيلي فيها امرأة أخرى كائنة من كانت؛ وكنت أذكر مبلغ حنيني إلى هذه المعيشة الحرة التي أنفقت فيها عاميَّ الأخيرين، أغدو وأروح في حرية تامة، وأختار أصدقائي وفق ما أشتهي، وأدبر شئون بيتي بأسلوبي الخاص؛ مستمتعةً بهوايتي، أرسم حيث أريد ومتى أشاء؛ أقضي أوقات فراغي في خمول إن أحببت، أو أدعو أصدقائي إلى تناول الشاي والرقص والحفلات التمثيلية الخاصة، آخذة من كل متعة بنصيب دون أن أجد من يعترض سبيلي أو يقول كلا. . . لست أرى لك ذلك يا عزيزتي.

كنت أرفض رفضاً باتاً كل تدخل - أو تهديد بالتدخل - بيني وبين هذه الحرية النفسية؛ وكنت أرى بالبداهة أن دخول زوجة الأب المنزل إنما هو قضاء عاجل محتوم على كل هذه المناعم والملاذ. . .

ألم أصور لك نفسك في جلاء؟. . . ألم تقولي كل هذا لصديقتك إيدنا فدعتك إلى هجر بيت أبيك والإقامة معها: ترسمين بـ (الباستيل) كما تشتهين، وتكتب هي القصص القصيرة على طريقة (موبسان)؛ فتقضيان حياة بويهمية رائعة؟. . . لست متيقنة من قدرتي على إقناعك بالخطأ الذي بنيت عليه هذا القرار المفاجئ بالرحيل عنّا، وهذا مما يزيدني شفقة عليك وعطفاً. قلت لك إنك أخطأت في الحكم علي، وسأوضح لك ذلك الآن فإن مما يؤلمني كثيراً أنك لم تقدري صعوبة تلك المهمة التي تكلفت بها، ولم تعامليني معاملة تدل على تقديرك لمشاعر المرأة التي تخيرها أبوك زوجة له. كنت قد وطنت نفسي - متى أظلني وإياك سقف بيت واحد - على أن أترك الأمور تسير في مجراها ما وسعني ذلك؛ فلا أتعرض لك في شيء ولا أحول بينك وبين تحقيق رغبة. . . كنت قد وطدت عزيمتي على أن أعاملك كما أعامل أختاً لي صغيرة، على أن أتخلى - مع ذلك - عن حق الأخت الكبرى في التوجيه وإسداء النصح، ما لم تطلبي إليَّ شيئاً من هذا. بل كان يرضيني أن تقومي على شئون المنزل دوني إذا سرك هذا وأرضي أباك؛ وأنت تعلمين مبلغ تضحيتي في ذلك، لأنك تدركين كما أدرك أباك كبرياء المرأة وشدة اعتزازها بالسيطرة على مرافق بيتها. لم أكن أريد أن أنتزع شيئاً من اختصاصاتك إلا ما أوجبه لي حق الزوجية، من ألا تحتفظي بأبيك خالصاً لك من دوني!

ص: 21

ولقد ساغ لي هذا التفكير لأني أقرب في نشأتي من أبناء جيلك مني إلى أهل الجيل الماضي؛ فأنا متوسطة بين الجيلين، ولست متقدمة في السن كما قد تتصورين يا عزيزتي هيلين. ولقد ربِّيت منذ طفولتي على هذه الحرية التي تذوَّقتِ أنت حلاوتها، ولكني تخليت عن كل ذلك لأبيك وأنا راضية مختارة لأن ثمة في الحياة ما هو أثمن من الحرية؛ وإني لأرجو لك أن تتخليْ مثلي عن حريتك، في اليوم الذي يلقاك من يستأهل منك هذه التضحية. . .

شكوى أولاً وأخيراً أنك حكمت عليّ قبل التجربة، وجعلتني هدفاً لهذا التحامل الذي مُنيتْ به (زوجات الآباء) منذ بدأت الحياة!

وأنا لا أود أن تطول بنا هذه الحال، وأعترف لك بأن حجرة رسمك المهجورة ومخدعك الخالي قد أوحشا بعدك وحشة لا يسعني التعبير عنها. أما تأثير ذلك على أبيك فإني أترك لك تقديره

وإذا كان يهمك أن تتأكدي من مبلغ صدقي وصراحتي في كل ما ذكرته لك، فما أشك في أنك تمنحيني الفرصة التي أدلل لك فيها على ذلك؛ وكل ما أتمناه أن تنزعي ثوب (التحامل) وتعودي - ولو إلى فترة محدودة - حتى يتبين لك كل شيء. ومن المحتمل أنك لن تتأثري كثيراً بما أعرضه عليك من صداقتي، أو لعلك تعدين من الحماقة أن تأمل زوجة الأب - اللفظة القاسية - احتلال ركن من قلب ابنة زوجها؛ وقد يكون كل ما عرضته عليك أموراً سلبية: لن أصنع كذا. . . لن أقول كذا. . . على أن أدلتي الإيجابية كلها تلتقي عند أبيك؛ فكلتانا - لو علمت - تعيش له أكثر مما تعيش لنفسها. وأنا أعترف لك بأني لا أستطيع أن أملأ فراغ غرفتيك، مهما يكن ما بذلته أو سأبذله

وثمة أمر آخر يزعجني؛ فمنذ عودتنا لم تمس يد حجرتيك بتهوية أو تنظيف، إذ لم أُردْ أن يلمس أشياءَك أحد سواك. وتركُ الحجرتين بهذه الحال إلى مدًى طويل مما لا يرضي ربَّة بيت. . . ولكنك تريْن من هذا مبلغ جهادي في سبيل الاحتفاظ بأشيائك على حالها

وقد يكون من غرائب المصادفة، إن لم يكن من الفأل السيئ، أن أخط اسمي الجديد لأول مرة (تعني لقب الزوجية) في ذيل مثل هذا الخطاب الذي تُلْجِئني إلى كتابته ظروف كتلك التي نحن فيها. . . وتقبلي تحيات صديقتك المخلصة:

ص: 22

(مرجريت كنيدي)

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 23

‌3 - كتاب الإمتاع والمؤانسة

الجزء الثاني

للأب أنستاس ماري الكرملي

4 -

أوهام التأويل والتفسير

جاء في حاشية ص6 تفسير قول المؤلف: (دونه حدد أي دفع ومنع). والصواب ما قاله الأمير شكيب أرسلان في حاشية الصفحة 573 من مجلة المقتبس، المجلّد الثامن: أي الممتنع الباطل

وورد في ص13: (ولا تحضّ على الدينونة بها. وضبطت بفتح الدال وضم النون؛ ثم وردت الدينونة في ص178 بفتح الدال والنونين، في هذه العبارة وهي: (والدينونة لمذهبك المستقيم). والذي نعرفه ان الدينونة من مصطلحات النصارى، وهي غير فصيحة، والصواب:(الدِّين) بكسر الدال؛ لأن الفعلولة في الأجوف خاصة باللازم في أكثر الأحيان، وعلى ذلك يقال: الذيعوعة، والشيعوعة، والصيرورة، والقيلولة، والبينونة، والديمومة، مصادر الأفعال اللازمة: ذاع، وشاع، وصار، وسار، وقال، وبان، ودام إلى نظائرهن

وفي ص59: (الجاثليق من رؤساء النصارى، معروف) قلنا: ولا نظن أن أحداً يعرف الجاثليق حتى أغلب النصارى، وما قاله الشارحان مُثَبت في كتب اللغة. ومثل هذا الشرح لا يرضى به أهل هذا العصر، وكان يجدر بهما أن يشرحاه شرحاً يخرجه من هذا القول الذي لا يستفاد منه فائدة صريحة، والأحسن أن يقال: الجاثليق رئيس الأساقفة عند النصارى الشرقيين، واليوم ليس له وجود، ويسمى بالفرنسية فكيف يقول الشارحان: معروف؟ وممَّن معروف؟ وعند من معروف؟

وفي ص60: (ويا قَصراً بلا مِسْنَاه) وضبطت الكلمة الثانية بكسر الميم، وإسكان السين، وفتح النون، وفي الآخر هاء. وفي الحاشية: المسناة المرقاة، من السنآء بالمدَّ وهو العلو والرفعة) - قلنا: لا وجود لهذه الكلمة بهذا الضبط، وهذا المعنى في لغة الضاد، فمن أتيا بها، وعمن نقلا هذا الشرح، أو هذا التخريج، أو هذا التأويل والتفسير. والمشهور عند العراقيين: أن للقصر مُسَنَّاة، وهي بضم الميم، وفتح السين، وتشديد النون، يليها ألف فهاء

ص: 24

منقوطة، وهى العَرِم أي ما يبني بين يدي القصر الواقع على النهر ليرد الماء عنه.

وفي الصفحة المذكورة، فسرت البواري بتشديد الياء: ضرب من الحصر تعمل من البرديِّ معروفة بمصر إلى اليوم. اهـ.

والبواري عندنا في العراق تطلق على الحُصُر التي تتخذ من القصب. وفي الحديث: إنه كان لا يرى بأساً بالصلاة على البواري. قالوا: هي المعمولة بالقصب. راجع النهاية لابن الأثير والشارع في بور.

وفي ح ص65: (مبرسم: أي به برسام، وهو علة يهذي فيها) - قلنا: وهذا الشرح عام يصدق على كثير من الأمراض الذي يهذي فيها المريض. والصواب أن البِرْسام، على ما في بحر الجواهر - وهو معجم طبي قديم - وَرَمُ في الحجاب الحاجز نفسه، وهو الحجاب المعترض الذي بين القلب والمعدة، وأما الحجاب الحائل الذي بين المعدة والكبد، فمما لم يقل به أحد من الفضلاء غير الطبري) اهـ.

وفي ص51 و66 جاء ذكر السِكْباج. وفي ح51 قيل: (السكباجة: مرق يعمل من اللحم والخل. وهو فارسي معرَّب، وفي ح66 مثل هذا الكلام. وفي ح51: (الهُلام: مرق السكباج يبرَّد ويصفى من الدهن) - قلنا: وكل من السكباج والهلام طعام. فالهلام في كلام الشاعر طعام من لحم عجل بجلده، وله معنى آخر فرعي هو مرق. . . إلى آخر ما هناك. والسكباج:(لحم يقطع أوساطاً، ويجعل في القدر، ويغمر ماء، ويرمى فيه كسْفُرَة خضراء وعود دارصيني قدر الحاجة، وإذا إلى تخرج رغوته وزَبدُهُ بالمغرفة وترمى. . .)، (راجع كتاب الطبيخ لمحمد بن الحسن بن محمد بن الكريم الكاتب البغدادي - ص9 من طبعة الموصل بعناية الدكتور داود الجلبي).

وفي ص76: ولكن لما ضعف الدين وتحلحل ركنه. . . وفي الحاشية تحلحل ركنه أي تزعزع وزال عن موضعه. ونحن نظن أن الكلمة هي تجلجل بجيمين. قال اللغويون وفي رأسهم المجد الفيروزابادي: تجلجل الشيء تحرك وتضعضع. يقال: تجلجلت قواعد البيت أي تضعضعت.

ومن أغرب ما قرأته من التأويلات ما جاء في ح ص110 إذ قيل: القِلْيُ ويقال فيه قِلًى كالي: هو شب العصفر ويتخذ من حريق الحمض. فما الذي أراده الناشران بشب العصفر،

ص: 25

وهو للعصفر شب؟ إنما الوارد في بعض كتب اللغة: وهو حب يشبب به العصفر بمعنى يزين ويحسن لونه، وهو من التشبيب؛ فأين الشب من التشبيب - يا سيديَّ الأكرمين - وهل الشب والتشبيب شيء واحد؟

وقال الناشران في ح ص136: الطنطنة: حكايات صوت الطنبور وشبهه؛ وصحيح التفسير هو: حكاية النقرات، فالهزج مثلاً هو الذي تتوالى فيه نقراته نقرة نقرة وهذا رسمه: طَنْ، طَنْ، طَنْ، طَنْ، طَنْ، طَنْ، طَنْ. ومنهم من يقول: مَنْ بالتاء المثناة الفوقية في مكان الطاء المثالة وهو الأشهر في كتب القوم (راجع كتاب (مفاتيح العلوم) من 245 من طبعة أوربة).

وورد في ص146: وهكذا مصاريع أبيات الشعر، فإنها تختلط بالنثر متقطعة وموزونة ومنتثرة ومنضودة؛ والصواب عندنا وموضونة من وضن الشيء أي نضده.

وفي ص148 ورد هذا المثل: البطنة تذهب الفطنة. وذكره التاج بصورتين. فقد في مستدرك أف ن: البطنة تأفن الفطنة. وهي الرواية المشهورة التي سمعناها ونحن أطفال. وذكرها في مادة ب ط ن: البطنة تذهب الفطنة. وهذه الرواية دون تلك شهرة.

وفي نص ص167: (ويُرْقي بهَيَا شَراهِيا. وعُلّق عليها في الحاشية: (هياشراهيا كلمة عبرانية مناها يا حي يا قيوم كما في المصباح. وفي القاموس مادة شره: أشَرْءِهْيا، بفتح الهمزة والشين: كلمة يونانية معناها، الأزلي الذي لم يزل. والناس يغلطون ويقولون: أهياشراهيا، وهو خطأ على ما يزعمه أحبار اليهود) اهـ.

قلنا: لو رجع الأستاذ أحمد أمين بك إلى أحد معلمي العبرية في الجامعة المصرية في لفظ هذه العبارة، وفي أي لغة هي، وما معناها، لقال له: وردت هذه الفقرة في سفر الخروج في 14: 3 بهذه الحروف: أهْيا أشر أهيا أي أنا هو الذي أنا أو: أنا هو الكائن. ويقابلها باللاتينية وباليونانية أو الإغريقية فهذه هي الفروق بين هذه اللغات الأربع، إذن الصواب أنها العبرية ويجب أن تكتب كما كتبناها، وما سواها فخطأ في خطأ والمعنى كما أعطيناهُ وهو يرجع إلى أن المراد من ذلك: أنا الموجود الذي لن أزال موجوداً.

وورد في ص168 هاتانِ الكلمتان: (وكُمَّيهِ المفَدَّرين) ونحن نرى أن الصواب هو (المفزَّرين. بمعنى المشقوقين، وشق الأكمام شقاً واسعاً أمر معروف إلى اليوم في العراق،

ص: 26

وهو أمر يكاد يزول في العراق، لاتخاذ الناس الثياب الإفرنجية، لكنا رأينا هذا الأمر شائعاً في وادي الرافدين قبل نحو خمسين سنة.

على أن رأينا الأخير هو أن صواب العبارة: (وكُمَّيْهِ المُفَرْوَزَيْن، وزان المُدَحْرَجَيْنِ) والمُفرْوَز من الثياب ما كان محلى بالفرواز وهو هدْب منقش تزين به الأكمام والثياب ويسمى بالفرنسية والكلمة في الفارسية (بَرْوَاز) بالياء المثلثة المعقودة بهذا المعنى واشتق السلف منها فعلاً فقالوا: فَرْوَزَ الثوب أو الكم أي زيَّنه بالفرواز. وكان يتخذه أكابر الناس والعلماء في العهد العباسي. واستعماله باقٍ إلى اليوم عند أكابر شيوخ العرب وهو على شفا الزوال. ويزينون به أكمامهم إذا كانت طويلة واسعة مدخل اليد.

(يتبع)

الأب أنستاس ماري الكرملي

أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية.

ص: 27

‌سر المهنة في التزوير الخطي

للأمير عبد القادر الشهابي

التزوير عمل إجرامي يقصد به جر مغنم أو دفع ضرر، وهذا يصح في عرف العلماء على وجوه ثلاثة هي:

الأول - خلق شيء لا وجود له كوضع توقيع.

الثاني - زيادة شيء من تاريخ أو رقم أو ما يماثل ذلك.

الثالث - حذف شيء، وهذا يتأنى الحك أو الطب الدقيق أو الإذابة أو الحل أو إزالة اللون بعرض الأشعة أو الأحماض أو بأي وسيلة أخرى. وخير وصف يطبق على هذا العمل الجنائي هو أن يقال:(إنه الإتيان بعمل لم يكن موجوداً). وله أركان لا بد من توفيرها:

1 -

جلب النفع أو دفع الضرر.

2 -

ألا يكون للشخص المجني عليه علم به.

3 -

هناك عنصر دقيق نص عليه كثير من الفقهاء الفرنسيين والبلجيكيين والإيطاليين وفطنت له محكمة النقض والإبرام التركية في أحكام لها ما بين سنتي 1912 - 1916 وهو أن يشترط في التزوير تحقق ركن المحاكاة والمتشابهة، فإذا أريد تزوير ختم فلا يمكن أن يكون الشيء الذي يدعى تزويره ختماً مستطيلاً، بل ينبغي أن يكون مستديراً. وإذا كان الختم ذا زوايا فيجب أن يكون الختم مراد وصمه بالتزوير ذا زوايا. وهكذا يجب أن يتحقق عنصر المحاكاة والمتشابهة. فإذا فقد هذا الركن زال عنصر التزوير من أساسه.

على أن المشابهة والشكل لا يؤثران في الكتابة والإمضاءات بل في مواقع أخرى تختلف عن غيرها، إذ أحياناً لا يلزم استكتاب المتهم بحال وجود أوراق رسمية سابقة معترف بها تكون مداراً للتطبيق. ومن المهم حينئذ إلمام الخبير بروح الكتابة أي بمعنى (سر المهنة) وما زاد عليه من المشابهة والتناسب وتباعد النقط والأحرف فهذا شيء ثانوي بالنسبة للخبرة التامة بروح الكتابة، وهي بالأحرى سر المهنة لما ذكر؛ ويكفي الاستدلال بالسابق دون ما عداه مما يحدث أثناء التحقيق مثلاً، لأن السابق على التحقيق يعطي الخبير الملم صورة صادقة لنفسية الكاتب الطبيعية وحالته النفسية بأجلى مظاهرها دون أن يسيطر عليه الجزع أو الفزع أو تؤثر فيه عوامل التحوير والتصنع، فلا يكون إعطاء التقرير في حالة

ص: 28

كهذه وفي جانب العدالة أقوى مما لو كان في حالة الهدوء الطبيعية السابقة.

كذلك لو وجدنا إمضاء مطابقة للأخرى في حجمها وشكلها وأبعادها حينئذ تعتبر إحداهما مزورة بلا نزاع.

ولا يمكن إعطاء تقارير عن صورة فوتوغرافية، ولا بد أن نلفت حماة العدالة إلى هذا، إذ كثيراً ما ينطوي تحته أمور أقل ما فيها وضع لثام كثيف على عيوب وجنايات تهضم بها الحقوق، فيجب ألا تعتبر الصور الفوتوغرافية، بل يلزم أن يجري التطبيق على نفس الأوراق الأصلية المطعون فيها مهما كانت الأسباب.

أما التزوير، فخير ما يقدم في موضعه الرجوع إلى ما ذكره غير واحد من أولئكم الفقهاء وهو قولهم أن كل فرد يستوحي غريزته حين العمل مهما كانت حاذفاً في مزاولته جريمته، ولا بد من أن تطل غريزته من إحدى جزيئات أعماله، فالكاتب الذي يبتدئ السطر أو الكلمة أو الحرف أو المقطع أو زاوية الحرف، أو اعتاد أن يرسمها، أو يحدث بها تعريجاً، أو يظهر منه اضطراب، لا بد وأن ينكشف أمره وتتغلب عليه عادته، ولهذا لجأ القضاة والخبراء إلى أن استكتاب المتهم المجني عليه في أغلب الأحيان، حتى قال بعض الباحثين الأمريكيين أن الخبير إذا كان حاذقاً ما استطاع أن يعرف الجاني فحسب، بل استطاع أن يغرف نفسيته والظروف التي كانت تسيطر عليه حين الكتابة؛ ولذلكم كان على الخبراء أول ما يبادرون إليه بعد استكتاب المتهم الجمل والكلمات والأحرف أن يدققوا في روح الكتابة. ومعنى هذا معرفة سر المهنة، وأن ينظروا في تلكم الزوايا ويدققوا فيه وفي مبادئ الكتابة وانتهائها، فإنها المظاهر التي يمكن أن تفضح الجاني. ولقد ارتقى فن كشف التزوير الخطي بارتقاء فن التزوير تبعاً لناموس الارتقاء العام. وأصبحت هنالكم الأشعة والأحماض والتلوينات ووسائل التحليل وما شابه ذلكم من فحص حياة المكروبات الموجودة في المادة التي كتب الخط بها لمعرفة عمر تلكم المواد والمقايسة بين هذا وبين تاريخ المستند أو الخط. وهكذا أصبح لدى العلم وسيلة كيميائية لا تكذب؛ فمثلاً إذا ادعى تزوير سند مؤرخ من ثلاثة أعوام، وأمكن فحص المداد الذي كتب به ذلكم المستند، وظهر أن عمر هذا المداد لا يتجاوز السنة، هنالكم يكون الإقناع التام بحدوث التزوير. وهكذا في كل شيء يمكن أن يستفاد بالعلم لكشف الجريمة. وقد قال بعض الباحثين يكفي أن يكون الخبير خبيراً بالخط

ص: 29

بصيراً بفنونه وبالتصرف فيه فقط، بل ينبغي أن يكون عالماً، ولو على جانب لا بأس به من علم النفس والإحاطة بمقتضيات المجتمع الذي انتدب لفحص الخط المدعي تزويره فيه.

وهنالكم اعتبارات كثيرة ينبغي ألا تكون طبيعة فاحص الخط كطبيعة الإقليم الذي حدثت فيه عملية التزوير. فمثلاً البلاد المصرية وهي بلاد حارة قد يكون مرور بعض من الزمن فيهاً مؤثراً أضعاف مرور جزء من الزمن في بلاد أخرى. كذلكم تعاقب فصول متكررة من صيف بعد صيف على وقوع تزوير لا يمكن أن يمر دون أن يترك أثراً في تطور الخط فيما يمكن أن يعرض له من التطورات. على أنه في غضون خبرتنا وممارستنا للخطوط لاحظنا أن المداد العربي الأسود القديم الذي كتبت به المصاحف القديمة وغيرها كان أثبت على الزمن من غيره؛ وإن كان آخرون يرون أن العين المجردة قد لا تستطيع ما تستطيعه الآلات العلمية الحديثة من اكتشاف التطورات مهما كانت بسيطة ومحدودة. على أن هنالكم أنواعاً كثيرة من المواد المحدثة ضعيفة الثبوت تتنافى مع مستلزمات الأحوال؛ بل يكفي مرور يسير من الزمن لحدوث تغير فيها، بل إن تعرضها للنور والهواء أو لمؤثرات أخرى قد يكون سبباً في كشف حقيقتها. بقي الشيء الوحيد الذي يمكن إخفاؤه والذي لا يهتدي إليه إلا بالاستكتاب ألا وهو الكتابة بالآلات الكاتبة؛ فهذا الضرب من الكتابة قد يكون من الصعب اكتشافه لأن المصنع الواحد يخرج الآلات الكثيرة وكلها على غرار واحد، فمن العسير، بل من المعتذر معرفة الحقيقة، إذ يمكن أن تتشابه تلكم الآلات ولا يكون هنالكم مجال إلا لفحص المداد الذي كان في الآلة الكاتبة أو الشريط الذي يكتب به أو ما شاكل هذا. وما دام العلم قائماً وما دامت الغرائز البشرية واقعة تحت تأثير عبادة المال فسيظل الصراع عنيفاً بين العلم والإجرام حتى يعين الله العالم والعلم على وضع حد من نزوات الغرائز البشرية الجامحة هدانا الله إلى الحق وأذاقنا حلاوة اليقين.

(القدس)

الأمير عبد القادر الشهابي

ص: 30

‌أضعنا العمر.

. .

(إلى نشوة قمرية راحلة. . .)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

تعَاَلَىْ نَسْمَعِ اللَّيْلَ

عَلَى الشَّطِّ يُنَادِينَا

وَفي كَفَّيْهِ خَمْرُ الْحُبِّ

تَسْقِيهِ وَتَسْقِينَا

فَكَمْ دَارَتْ بِنَا الأَيَّا

مُ لَمْ تَسْكَرْ لَيَالِينَا

وَكَمْ طاَفَتْ بِنَا الأَحْلَا

مُ لَمْ تَرْقُصْ أَغَانِينَا

تَعَالَى. . . فَالْهَوَى حَيرَا

نُ يَبْكي في مَغَانِينَا

أَضَعْنَا الْعُمْرَ عُشَّاقاً

وَضِعْنَا في أَمَانِينَا

فَهَيَّا يَا غَرَامَ الرُّوحِ

نَنْسَى كُلَّ مَاضِينَا

وَهَيَّا نَسْكُبُ الأَشْوَا

قَ نَاراً فَوْقَ وَادِينَا

هُنَا الدُّنْيَا تُنَادِينَا

هُنَا الْحُبُّ يُغَنِّينَا

تَعَالَىْ. . . فَدُمُوعُ اللَّيْلِ

ذّابَتْ في مَآقينَا

وَخَلَّى الْغَيْبَ مَهْمَا

يَأْتِ بالأَسْرَارِ يَأتِينَا

إِذَا أّسْعَدَنَا الْحُبُّ

فَمَا في الْكَوْنِ يُشْقِينَا؟

تَعَالَىْ. . . قَبْلَمَا نَغْدُو

وَرِيحُ الْمَوْتِ تَطْوِينِا

فَلَا سِحْرٌ، وَلَا خَمْرٌ

وَلَا كَأْسٌ بِأَيْدِينَا. . .

ص: 31

‌هنا القاهرة.

. .

للأستاذ عبد اللطيف النشار

يقول (هُنا) كلٌ ويعني كأنه

فهل (لنا) في اللفظ معنى مشاركُ؟

كقول (أنا) أو (أنت) أو كل لفظةٍ

ألَا (أَّنَّ) كلاً في المجاهل سالكُ

وأخدع نفسي إذا أحدث سامعي:

متى اختلفت أغراضنا والمدارك؟

وقد بان وجه الخُلْفِ لو أَّنَّ بيناً

من الكون شيء وهو أسود حالك

ولكن أمراً فاته الخلف وحده

وذلك أن الكون أجمع هالك!

ص: 32

‌سجين الأغصان

للأديب حسين محمود البشبيشي

(كان لي حظ مشاهدة الغراب - السجين بين أغصان الكافورة

الشجراء، وكانت لي فرصة التأمل في مقال أستاذنا الكبير

الزيات: (غراب وطفل). . . فصغت هذه القصيدة نفحة من

سحر مقال صاحب (الرسالة)

(حسين)

غمرته أوهام الحياة وفرحة الوكر الجميلْ

فمضى يصفق طائراً للعش والدوح الضليل

في قلبه أمل الحياة شدا بأنغام البقاء

وبثغره نغم الطبيعة رنَّ في أفق السماء

وبروحه من بهجة الدنيا نشيدٌ ونغم

وجناحه الجبار يسخر بالرياح وبالألم

وبعينه يتدفق الإيمان بالأمل القريب

يبدو وراء الأفق بساماً ومن خلف الغيوب!

فغدا يصفق في الفضاء يهيم بين ظنونهِ

يا ليته قد كان يعلم ما وراء حنينه!

غمرته آمال اللقاء وفرحة الدوح الحبيب

فمضى يجاهد طائراً. . . يا لهفة الطير الغريب!

أشجته أصداء العهود ترنّ في أفق الفضاء

أصداء أنغام الربيع تعيد أيام الصفاء

أصداء تغريد البلابل في تلافيف الغصون

كثرت عليه الذكريات فجن من فرط الحنين

ص: 33

قد حنّ للوكر الجميل وللأزاهر والطيور

للفجر أقبل حالماً ليذوب في ثغر الزهور

للنجم. . . للنجم الشريد تبددت ألوانه

للنيل فاض على الضفاف وصفقت شطئانهُ

للزورق الفنان يرقص على ترانيم الوداع

هزّته أوتار الرياح سرتْ يداعبها الشراع!

كثرت عليه الذكريات فجن من فرط الحنين. . .

. . . فإذا به بين الغصون تكاد تقتله الغصون!!

عجباً. . . أتأسرك الغصون وكنت سر جمالها؟

غرَّدت في جنباتها ورتعت بين ظلالها

علمتها لحن القلوب جرى بثغرك وانسجم

وسكبت في أزهارها خمر الهناءة والنغم

لهفي عليك. . . بأي عين تبصر الدوح الخئون

وبأي قلب في القلوب تُحس آلام السجين

ماذا جنيت؟. . . وما جنيتَ سوى المحبة والوفاء!

للوكر والدوح الظليل وللأزاهر والإخاء. . .!

ص: 34

‌البريد الأدبي

مثالان

على ذكر مقال فضيلة الأستاذ محمد محمد المدني وفتوى صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير عبد المجيد سليم قرأت في مخطوطة بعنوان (مثير الغرام بفضائل القدس والشام) تأليف الإمام أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال بن تميم بن سرور المقدسي. قال: (وروينا في سنن ابن ماجة قال: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا (أبو) معاوية عن خالد بن أياس عن يحيى بن عبد الرحمن ابن خاطب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أول من أسرج المساجد تميم الداري.

وروى أبو القاسم مكي بن عبد السلام الحافظ بسنده إلى أبي الحسن البراد قال: قدم تميم الداري من الشام إلى المدينة وحمل معه قناديل وحبالاً وزيتاً وسبحة حتى قدمنا المدينة وكانوا إذا حضرت العتمة أوقدوا سعف النخيل؛ فلما أمسينا أمرني تميم فعلقت الحبال بالسواري وعلقت فيها القناديل وصببت فيها الماء والزيت ووضعت الفتل، فلما أمسينا أمرني أن أوقدها فأوقدتها؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نورت يا تميم نور الله عليك! أما إنه لو كانت لي ابنة لأنكحتها. قال نوفل بن الحارث بن عبد المطلب إن لي ابنة فأفعل فيها يا رسول الله ما رأيت؛ فأنكحه إياها.

قال أحمد بن الحسن: ودعي تميم جدي أبا الحسن البراد فأعقبه على المكان وأقمنا فلما كان يوم الجمعة خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قائماً؛ فلما انصرف قال له تميم: يا رسول الله إني قد رأيت بالشام شيئاً يضعونه في كنائسهم لأساقفتهم يسمى المرقاة؛ أفلا أعمل لك مرقاة تقوم عليها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعملها يا تميم. فخرج تميم إلى السوق فاشترى خشبة ونشرها وعمل منها ثلاث درجات المنبر ففضل من الخشب فضله فعملها تابوتاً فهي عندنا إلى اليوم نضع فيه نفاقاتنا وتتبرك به.

(بيت المقدس)

أحمد سامح الخالدي

إلى قراء الرسالة

ص: 35

(1)

طالعت في كتاب تأليف طبع سنة 1938 ما يأتي بالمقدمة:

،

'

،

،

فمن هو جلال الدين بن مكرم هذا؟ وما هو الأصل الشعري لما ترجمه كاتبنا فورستور؟

مصطفى الشهالي

مدرس الآداب بالناصرية

(2)

جاء في كتاب عيون الأخبار (طبعة دار الكتب المصرية سنة 1930) بالجزء الثالث في الصحيفة ذات الرقم 20 ما نصه:

(وقال أكثم بن صيفي: أحق من يشركك في النعم شركاؤك في المكاره. أخذه دعبل فقال:

إن أولى البريا أن تواسيه

عند السرور لمن آساك في الحزن

إن الكرام إذا ما سهلوا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن

وجاء في ديوان أبي تمام (طبعة محمد صبيح سنة 1941) وفي الصحيفة ذات الرقم 255 ما نصه:

أولى البرايا حقاً أن تراعيه

عند السرور الذي آسأك في الحزن

إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن

فلأي من الشاعرين البيتان؟ وما صحة رواية البيت الأول؟

موسى حقي

الجنس الرشيق

ص: 36

أهدي إلى الأستاذ محمود يوسف كتابه (الجنس الرشيق) فتوقعت أن أرى فيه دفاعاً بحق وبغير حق عن المرأة في كل حالاتها، من كاتب ضالع في الحركة النسوية اختار لأول مؤلف له هذا الاسم. إلا أني وقد قرأته رأيت أني كنت مسرفاً في سوء الظن.

لقد عرض المؤلف لكثير من المسائل المتصلة بالمرأة في حذق ومهارة وبصراحة وجرأة جعلته شديداً بحق على من أساء من الفتيات وأولياء أمورهن فهم المرأة ورسالتها، وما يجب أن تكون عليه من الآداب الرفيعة الحازمة، ولم ينسى أن يلقي التبعة في كثير من الحالات على الرجال وأشباه الرجال من الذين يغررون بالمرأة ويزجون بها في حفلات هي مزالق للرذالة زاعمين أنهم يجمعون للبر. . .

لنسمع له يقول في حفلة الطفولة المشردة الآثمة: (أفهم أن في مصر طفولة مشردة، وأفهم أنه يجب أن يعمل على إنقاذ هذه الطفولة البريئة، وأفهم أيضاً أن للمرأة نصيباً كبيراً في هذا الإنقاذ؛ ولكني لا أستطيع أن أفهم مطلقاً أن وسيلة هذا الإنقاذ تكون مساهمة للمرأة مع الرجل في التهتك العلني والدعارة الممقوتة والتبذل الخليع من سهر الليل حتى الفجر. . . كل ذلك تلقاء قروش لا تسمن الطفولة المشردة ولا تقيها من جوع. لعمري إن مثل هذه الحفلة الراقصة. . . هي ويا للأسف معمل لتفريخ طفولة مشردة. . . موعدنا منها بعد تسعة شهور من تلك الحفلة الخيرية!).

هذا الكلام الحر الجريء نجد له أمثالاً كثراً في مناسبات عديدة بالكتاب الذي يجب أن يقرأه الشبان والشابات والأزواج والآباء، على ما فيه من آراء لا أتفق مع الأستاذ الكاتب فيها. من ذلك رأيه في أن المرأة نظير الرجل في الدين والدنيا. أفي كل الشئون؟ وإن من السهل أن توفق المرأة بين عمل وتكوين أسرة، ومطالبة بحق النيابة لها.

وللأستاذ الفاضل المؤلف خالص تحياتي.

محمد يوسف موسى

المدرس بالأزهر

تأبط شرّا

كتب الأستاذ أحمد أمين في مقاله (فارس كنانة) في العدد 184 من الثقافة ما نصه: (ثم

ص: 37

يذكرون له من اشتهر بالفتك في الجاهلية، كثابت بن جابر، والبراض، وتأبَّط شرّا) ومدلول هذا الكلام يقضي:

1 -

بأن تأبَّط شرّا من شعراء الجاهلية.

2 -

أن تأبَّط شرّا فاتك آخر غير ثابت بن جابر وفي كلتا القضيتين نظر، كما يقول الأزهريون.

أما الأولى: فقد حكى شراح الحماسة أنه كان ربيب أبي كبير الهذلي، ونص التبريزي على أن أبا كبير أدرك الإسلام.

وإن كان صاحب بلوغ الأرب يقول: إنه من فحول الجاهلية وفرسانها، فلعله حكم عليه حكمه هذا باعتبار أنه أدرك طرفاً من الجاهلية فَنَسَبَهُ جاهلياً كما يجري على ذلك بعض المؤلفين.

وأما الثانية: فقد نصت كتب التراجم وكتب اللغة واتفقت على أن تأبَّط شرّا هو أبو زهير هو أبو زهير ثابت بن جابر من بني فهم ولم يحك أحد منهم في ذلك خلافاً - اللهم إلا ما حكاه صاحب بلوغ الأرب ج 2 ص143 قال:

(وزعم بعضهم أن اسم الشنفري ثابت بن جابر وهو غلط) اهـ.

ولعلَّ لدى الأستاذ الجليل سنداً لكلتا القضيتين.

كامل السيد شاهين

1 -

تصويبات

جاء في العدد (469) من (الرسالة) الغراء في مقال الأستاذ السيد يعقوب بكر (شعر علي ابن طالب).

محمد النبي أخي وصهري

وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي يضحي ويمسي

يطير مع الملائكة ابن عمي

والصواب (ابن أمي) كما في معجم ياقوت جـ14 ص48 ط دار المأمون، والسيرة النبوية ج1 ص177 ط المطبعة الأزهرية وديوان أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ص58 المطبعة العلمية.

ص: 38

وقد جاء في معجم ياقوت بعد قوله: (سبقتكم إلى الإسلام طرا. . . الخ)

وأوصاني النبي على اختيار

ببيعة غداة غد برحم

فويل ثم ويل ثم ويل

لمن يلقي الإله غداً بظلم

وفي الديوان:

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غد برحم

أنا البطل الذي لم تنكروه

ليوم كريهة وليوم سلم

وقد ذكر الأستاذ صاحب المقال بيتاً آخر للإمام علي هكذا:

من أي يوميّ من الموت أفرْ

أيوم لم يقدر أم يوم قُدِرْ

والبيت على هذا الوضع لا يتفق مع ما جاء بعده لأنه من بحر الرجز وقد جاء في ديوان الإمام علي هكذا:

أي يوميَّ من الموت أفر

يوم ما قدَّر أو يوم قدر

يوم ما قدر لم أخش الردى

وإذا قدِّر لم يفن الحذر

وهما من الرمل، على أنه إذا صح أن ديوان الحماسة لم يذكر غيره فإنه يكون مكسوراً، لأن (لم) تقتضي الجزم وهو لا يتمشى مع الوزن.

2 -

حول السناد في الشعر

وجاء في نفس العدد (البريد الأدبي) كلمة الأستاذ محمود عزت عرفة بعنوان (السناد في الشعر) خطَّأ فيها الأستاذ محمود حسن إسماعيل، حيث قال:

أخطأ الأستاذ محمود حسن إسماعيل في صوغ قوافي قصيدته (نشيد الأغلال) المنشورة بالعدد466 من الرسالة فهو قد أردف في بعضها بحرف الياء كقوله: سريرتي، البعيدة، الخميلة، جديدة. . . الخ).

وهنا لا يوجد ردف إذ أن الردف هو حرف مد قبل الروى كقول الشاعر:

طما بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب

كم جاء في متن الكافي، وفرق بين مشيب وسريرتي وما دام قد التقى الردف فقد انتقى السناد. . . (وإذا كان ثم سناد فمن أي أنواع الخمس؟)

أحمد يوسف محمد

ص: 39