الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 474
- بتاريخ: 03 - 08 - 1942
سجينة الزهرية
(كلمة تفصل ألواناً من أوهام العقول وأحلام القلوب. . .)
للدكتور زكي مبارك
الزهرية إناء صغير مختلف الأشكال، فيكون حيناً لحفظ الزهيرات أياماً بتغذية الماء، ويكون حيناً لحفظ الشجيرات أعواماً بتغذية الطين، وباختلاف ما يحفظ يختلف شكله بعض الاختلاف
وحديث اليوم عن شُجيْرَة حُفظَتْ في زَهرية، فظلت كيومها الأول في النمو والنضارة بضع سنين، مع أن أختها المنقولة إلى وعثاء الأرض في الريف بلغت مبلغ الدوحة الباسقة في أقصر زمن وبأيسر عناء
هل كان يغيب عني السبب في تفاوت الحظ والمصير عند هاتين الأختين؟ لا. . . وإنما أردت أن أعرف من أحوال (سجينة الزهرية) أكثر مما أعرف، فدار بيني وبينها الحوار الآتي ذات صباح:
- كيف حالك، أيتها الشجيرة الغالية؟
- حال من يعيش تحت حماية القوانين!
- أنت إذاً سعيدة؟
- سعيدة جداً، ألا ترى أن وجهي لم يتغير منذ التعارف الأول؟!
- وإلى أي عهد يرجع ذلك التعارف السعيد؟
- أنت تعرف التاريخ، فقد كنت أنا وأختي هديتين لك من حديقة الصديق (. . .)، ثم كانت السعادة من نصيب أختي، وكانت الشقاوة من نصيبي!
- ألم تقولي: إنك سعيدة؟
- حسُبتك فهمتَ مرادي حين أخبرتُك أن وجهي لم يتغير منذ التعارف الأول!
- وهل تكون السعادة في غير الثبات على نضارة الشباب؟
- أهذا هو فهمك للسعادة، أيها الآدمي الحصيف؟
- وما فهمُكِ أنتِ للسعادة، أيتها الشجيرة الحمقاء؟
- أخرجني من سجن القانون لأملك الرد عليك!
- أي قانون؟
- قانون الزهرية
- وما عيب قانون الزهرية؟
- إنه يحبسني في تربة قصيرة المجال
- ولكنه لا يحبسك عن السماء، وهي أرقُ من الأرض وأنفس!
- السماء للفروع، والأرض للجذور، ولا فرع لشجرة لم يثَبتْ أصلها في الأرض، فأمكِنْ جذوري من الأرض، لأطاول السماء بفروعي، كما صنعت مع أختي
- لستُ مسئولاً عن تدليل الأخوات!
- ولست مسئولة عن إمتاعك بدوحة تصدُ الهجير عن دارك.
- أفصحي، أيتها الشجيرة، عما تريدين
- أنت فرقتني بيني وبين أختي، ثم أنصفتها وظلمتني!
- قولي غير هذا القول، فقد حفظتُكِ بداري في مصر الجديدة، وأرسلتها إلى داري في سنتريس، وداري هنا تنال من رعايتي أكثر مما تنال داري هناك. فما شكواك، أيتها البلهاء؟!
- شكواي من القانون!
- أي قانون؟
- قانون الزهرية
- وما عيبُ قانون الزهرية؟
- إنك تتجاهل تجاهل العارف
- ولعلني أتعالم تعالم الجاهل!
- حوشيتَ من تعالم الجاهلين! وهداك الله إلى إخراجي من سجن القوانين!
- أوضحي يا بُنَيَتي
- اخلع نعليك أوضح لك!
- يا سفيهة؟
- لست بسفيهة، وإنما أحبُ أن تحدثني عن السبب في طول قدميك
- كان ذلك لأني كنت في طفولتي وحداثتي من الشياطين، والشياطين لا يلبسون النعال، فطالت قدماي!
- وهنا الشرح لقول العرب (فلان ثابت القدم) فالقدم لا تَثبُت إلا بعد اتصافها بالعَرض والطُّول
- تلك عبارة مجازية
- العبارة المجازية فرعٌ عن العبارة الحقيقية، فالقدم لا تطول إلا بفضل التحرر من القيد. والنعل قيد، وإن زعموا أنه يقي القدمين متاعب الحفاء، وهو يصنع بالأقدام بعض ما تصنع الزهريات بالشجيرات
- أوضحي، يا حمقاء!
- الزهرية حفظتْ عليَّ شكلي الأول، فأنا كما عهدتَ منذ سنين، والمخلوقُ الذي لا يتغَّير ميِّتٌ ميت، لأن الحياة تجدُّدٌ وتغيُّرٌ وتبديل، وذلك حظ أختي التي حُرِّرت من قانون الزهرية فأُلقيت في أحضان الأرض البَرَاحِ بسهول سنتريس
- أوضحي، ثم أوضحي!
- عند التحرر من سجن الزهرية يكون من حق الشجرة أن تساور ما في الأرض من زادٍ طيّب أو خبيث، فتكون لها طعوم مختلفات، ويكون لها في كل يوم لون أو ألوان، وكأنها الأديب الذي يقرأ في لغات مختلفة لحكماء مختلفي الأفكار والأذواق
- أوضحي، أوضحي!
- خلصني أول من سجن القانون
- أي قانون؟
- قانون الزهرية
- ولكن هذا القانون هو الذي حماك من التغير والتلون، وحفظ عليك هذا الشكل الجميل؟
- الجمال الذي لا يتغير ولا يتلون هو جمال التماثيل، وأنا شجرة لا تمثال
- أيجوز أن أساعدكِ على التغيُّر والتلوُّن والتقلُّب؟
- ليكون من حقك أن تقول إنك تتأدب بأدب الله، وهو عز شأنه قد أفتنّ أعظم الافتنان في إبداع الألوف والملايين والبلايين من الملامح المختلفات في اللغات والطباع والأحاسيس.
وإذا كان رقم الديشيليون صورة وهمية فهو في أفعال الله صورة تقريبية، لأنه قد يعرّض الفرد الواحد من عباده لآراء وأهواء تفوق الدشالين
- وتريدين أيتها الشجيرة أن تكون أن تكوني كذلك؟
- خلِّصني أولاً من سجن القانون
- أي قانون
- قانون الزهرية!
- يظهر أننا لن ننتهي من هذا الحوار السخيف!
- أمِن السخف أن أطالب بحقي في الحرية؟
- أية حرية؟
- حرية الجذور في اعتصار أمواه الأرض
- وفي تلك الأمواه ما هو خبيث
- الحياة لا تعرف الفروق التي يعرفها الآدميون في تقسيم الأشياء
- ماذا تقولين؟
- أقول إن الحياة مزاجٌ من الحُلو والمُر، والطيِّب والخبيث، وهي نفسها لا تلتفت إلى هذه التقاسيم، ولعلها تجهل الفرق بين الريح الصَّرصر والنسيم العليل
- وإذن؟
- وإذن لا يكون الخير كل الخير لشجيرةٍ مثلي أن تكتفي بشرب الماء المقَّطر، وأن تعيش في تربة ضيقة الحدود، وإن كانت غاية في النقاء، ولا ينفعني بشيء أن تتلطف فتحييني في غدوك ورواحك مرة بالعربية ومرة بالفرنسية، كأنني إحدى بنات الجيران!
- ألم يثمر فيك الجميل، يا شقية!
- أيَّ جميل؟ خلَّصني من سجن الزهرية لأمتصَّ ما في الأرض من عذوبة ومُلوحة، ولأصاول ما فيها من أسباب النعيم والشقاء، فما تضخم شجرة، ولا تستفحل فِكرة، ولا يستحصد عقل، إلا بمكابدة ما في الوجود من أطايب وصعاب
- وما جزائي على الصنيع المنشود؟
- هل تجهل أني سأصير دوحة تصدُّ الهجير عن دارك؟
- لا أجهل، ولكني أخاف عليك عواقب الطول والإبراق
- ما تلك العواقب؟
- أنتِ اليوم في أمان لأنك صغيرة محبوبة، فإذا ضخُمت وطُلت وعَظُمتِ فقد صار من حق كل سفيه أن يرجمك بالحصيات الغلاظ لتجودي عليه بشهي الثمار، أو لينتفع بأوراقك في تغذية الدوابّ
- الشجرة الكريمة تجود بالثمر والورق، قبل السؤال
- هذا كلام في كلام!
- خلَّصني من سجن الزهرية، ثم أختبر أخلاقي في البخل والجود
- أنا أعرفك أنكِ من سلالة بخيلة
- البخل عن إرادة بابٌ من أبواب العقل، ومهما بخلتُ فلن أبخل عليك، فلن يغيب عني أنك تملك إروائي وإظمائي، وإنك قد تصّيرني حَطباً حين تريد، فأنا مقهورةٌ مقهورة على مسايرة هواك
- ما أنت شجرةَ، إن أنتِ إلا روحٌ جريح
- نعم، فقد تقدَّم أترابي وتخلفتُ، بفضل الحياة تحت حماية القوانين
- قولي كلاماً غير هذا، فبفضل قانون الزهرية عشتِ في أمان، من الغربان
- لأني بقيْتُ صغيرة محبوبة أتلقّى التحيات الآدمية في الصباح والمساء؟
- هو ذلك!
- أنت إذن تجهل فرح الدوحة العظيمة بأن يكون عَرَقُها غذاءَ للسمَّال، وبأن يكون أعاليها ملاذاً لكل خائف، وبأن تكون ثمارها منية كل جائع، وبأن تكون عرضة في كل الأوقات لتطاول الأوباش والسفهاء
- وما الموجب لهذه المتاعب؟
- العظمة في جمع الخلائق من جماد ونبات وحيوان وإنسان لا يتصورها الوهم أو الحس أو العقل إلا محفوفة بالمكاره والصعاب. وليست السعادة بالميزان الذي نعرف به الأقدار الصحيحة لمختلف الخلائق، وإنما الميزان الحق هو الشقاء بالخلق وقد سمعت أنه أشرف ما ظفر به الأنبياء
- إن كان الشقاء هو ما تبتغين فقاسميني حظي، يا شجيرتي الغالية
- أنا أطلب الاستقلال
- حتى في الشقاء؟
- حتى في الشقاء، لأشعر بقوة الذاتية
- وهل تضعف الذاتية حين يتساقى المحبون كأس العذاب، شفةً إلى شفة، وقلباً إلى قلب؟
- أنت تحبني؟
- وأي حبّ؟ ألا تذكرين أنني سقيتك مرات كثيرة من دموعي؟
- متى كان ذلك؟
- إن ذلك يقع في كل يوم، وفي غفلة الجنّان، فأنت وليدة الحب والدمع، لا سليلة الماء والطين
- وكيف خصصتني بهذا البِرّ النفيس؟
- جمع بيننا اليتم القاسي، فأنت يتيمة في صحراء مصر الجديدة، وأنا يتيم في بيداء الوجود، ولن تظمأي ولن تجوعي وأنت في ضيافة قلبي وروحي، وما حبستك في سجن الزهرية إلا رغبة في أن يطول نعيمُك بالطفولة الغافية، أيتها اليتيمة العصماء. . . خذي حياتك أيتها الشجيرة من عطفي وحناني، فما لك بعدي أبٌ ولا أخٌ ولا صديق، أنا نصيبُك من دنياك كما كنت نصيبي من دنياي، وضلوعي هي زادك من القُوت إن عزّت الأقوات
- أكنتُ حقَّاً نصيبك من دنياك؟
- أنت الصديق الذي لم يتغّير في مدى سبع سنين، فأوراقُكِ أوراقك، ومَرآك مرآك، بفضل القانون
- أي قانون؟
- قانون الزهرية، يا بلهاء، فهو الذي حفظ عليك نعمة الشباب
- وتريد أن أظل يتيمة طول حياتي؟
- لا يوصَف باليتم غير الأطفال، فإن أبحتُك مُلوحة الأرض فلن تظفري بعد اليوم بملوحة دمعي، لأن الأرض ستصيرك بعد قليل مرأةً شمطاء
- سعادة القاصرين لا تقاس إلى شقاوة الراشدين
- أوضحي، يا حمقاء
- قد أوضحتُ، ثم أوضحت، فأتمم جميلك وامنحني الحرية والاستقلال
- منحتك الحرية والاستقلال
- كنت بالأمس راعياً وأنت اليومَ صديق، وما أبعد الفرق بين الراعي والصديق
زكي مبارك
4 - كتاب الإمتاع والمؤانسة
الجزء الثاني
للأب أنستاس ماري الكرملي
قيل في نص ص169: (وغرَّق نفسه في كِرْدَاب كلواذي) وجاء في الحاشية: (والجرداب كلمة فارسية معناها دوامة الماء، وهي وسط البحر ولجته التي يدوم عليها الموج؛ وهي بالجيم. ولعل العرب كانوا ينطقونها بالكاف) قلنا: الكلمة الفارسية هي كرداب بكسر الكاف الفارسية أو المعقودة. ويعرب العرب هذه الكاف مرة بالجيم، وتارة بالقاف، وأخرى بالكاف العربية. أما هنا فلم يعربوها إلا بالكاف العربية. أما قول الناشرين في الحاشية: الجرداب. . . معناها دوامة الماء وهي وسط البحر ولجته التي يدوم عليها الموج) فتعبير غريب لم نجد نظيراً له، لأن دوامة الماء قد لا تكون في وسط البحر، بل في أعمق مكان من النهر، كما هو متعارف في دجلة واللجة غير الدوامة، وغير وسط البحر. وأما قولهما:(يدوم عليها الموج) فمشهور التعبير هو (يدوم فيها الماء) لا الموج. راجع ما قالوه في تعريف (الدُرْدُوْر) وهو يقابل الجِرْدَاب الفارسية.
وفي ص170: (ولعمري من غُلّطَ غَلِط) وعندنا أن الصواب هو من غَلّط (بصيغة المعلوم) غُلّط. (بصيغة المجهول من باب التفعيل).
وجاء في ص173: (وتفتلت وتقتلت) والصواب وتقلبت
ورد في ص175 (إن صرَّحت له كَنَى وإن كَنيْتَ له صرَّح) وعندنا الأحسن أن يقال: إن صرَّحت له كَنَّى وإن كنيت له صرح ليكون الفعلان من باب التفعيل، فيحسن وقعهما في السمع، ويكون أيضاً من باب المزاوجة في الوزن. هذا فضلاً عن أن التكنية شائعة كالكناية.
وشرح الناشران في ح ص180 الفقاع بقولهما: شراب يتخذ من الشعير. فهذا كلام اللغويين، وكنا نود أن ينقلا المصطلحات العلمية ومعانيها عن أهل الفن، ولا يكتفيا بتعريف اللغويين، لأن خاصية هؤلاء الأفاضل شرح معنى الكلمة من باب الإجمال لا من باب التخصيص؛ وذلك أن اللغويين شرحوا بشراب يتخذ من الشعير كلاًّ من الألفاظ الآتية: الفقاع، والمِزر والجعة. ولا جرم أن السلف ميزوا كل لفظ عن أخيه حتى لا يهيم القارئ
في هيماء الضلال. فقد شرح التميمي الفقاع بقوله: يتخذ على ضروبٍ. وذلك أن منه ما يتخذ من دقيق الشعير المجفف المطحون المخمر بالنعنع والسذاب والطرخون وورق الأُترُجّ والفلفل. . . وأما المتخذ من الخبز السميد المحكم الصنعة، والكرفس ودقيق الحنطة المنبتة، أو من دقيق الشعير المنبت فإنه أقل ضرراً من الأول. . . وقد يتخذ منه ساذجاً بماء خبز السميد المحكم الصنعة مُروَّقاً، ونقيعة المسك والمصطكي فقط، مع قلب نعنع في كل كوز، وقلب طرخون فقط. . . وأما ما يتخذ من الحنطة والشعير والجاورس، المنبتة، من الشراب المسكر المسمى بِمْصر المِزْر، فإنها أنبذه تُسَكر إسكاراً شديداً غير أنها تبتعد عن قُوَّتهِ ومنافعهِ بُعداً شديداً)
ذكرنا بعض هذا الكلام مع طوله لنبين للقارئ أن الفقاع أضْرُبُ، وليعتمد على أهل الفن والصناعة في الأوضاع العلمية، ولا يكتفي بأقوال اللغويين
وجاء في ص196: وقال الوزير (أدام الله أيامه). . . قلنا: هذا دعاء بالخير لا يتحقق ألبته. والأحسن، أو الأقرب إلى الفعل، أن يدعو الإنسان بما يتحقق، فيقولا مثلاً: أطال الله أيامه!
وقال الناشران في ح ص 198: إذ المطرَّي هو المقلوب إلى مُطَّيرٍ فالمطَّير مقلوب إليه. ولعل الصواب: إذ المطري هو مقلوب مطّير فالمطير مقلوبة
وفي ح تلك ص: وعدة أبياتها أربعة وثلاثون بيتاً فيها. ولعل الأصوب أن يقال: وعدة أبياتها أربعة وثلاثون أو أبياتها أربعة وثلاثون، أو وعدة ما فيها أربعة وثلاثون بيتاً، أو نحو هذا التعبير
وفي ح ص199 في كلتا النسختين: يعين من لا يعين وهو تصحيف والتصويب عن شعر. . . والأحسن أن يقال: والتصحيح ليكون المعنى وتصحيح التصحيف، أما قولهما والتصويب، فيكون معناه وتصويب التصحيف. فيكون التصحيف صحيحاً لا خطأ، لأن اللغويين يقولون صوَّب فلاناً قال له أصبت وصوب رأيه، وقوله حكم له بالصواب. وقد جاءت التصويب مرتين في تلك الحاشية
وورد البيت ال 11 في ص 200 هكذا:
تكفيهُ حزَّة فِلذانٍ ألمَّ بها
…
من الشواء ويكفي شربهُ الغمرُ
وفي الحاشية الحزة القطعة من اللحم تقطع طولاً، والفلذان جمع فلذة وهي القطعة من الكبد واللحم. قلنا هنا خطأ غريب بل خطآن غريبان: الأول أنهما قالا الفلذان جمع فلذة وفِعلة بالكسر لا تجمع على فعلان بل فعل مكسور وبلا هاء في الآخر؛ والخطأ الثاني الغريب هو أنهما قرآها فلذان مع أن الصحيح هو فلذةِ كبد (بفتح الكاف أو كسرها) إن، كما قرأها أول مرة في ص198 س1. فيا للعجب لهذه القراءة ولهذا التأويل ولهذا الخطأ، إذ جعلا كلمة واحدة ما هو في كلمتين!
5 -
أوهام التعبير والإنشاء والفكر
جاء في ح ص 27: (أو لعله كتبها واكتفى بإرسالها إلى الوزير). والصواب: (واكتفى بالإرسال بها إلى الوزير. (راجع شرح الطرة عن الغرة طبع في دمشق سنة 1301 ص156)
وفي ص39 (وهاهو بين يديك) والصواب: وهاهو ذا بين يديك (راجع مجلة المجمع العلمي العربي 17: 234و235)
وفي 42 (وقال السيد المسيح: إن استطعت أن تجعل كنزك لا يأكله السوس ولا تدركه اللصوص - فافعل - المشهور هو هذا: (لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون، لكن اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يفسد سوس ولا آكلة ولا ينقب السارقون ولا يسرقون (متي 6: 19 و20)
وفي 123 (وقال عيسى بن مريم: ما ينفع الأعمى ضوء الشمس ولا يبصرها) نحن لم نجد هذا القول المنسوب إلى عيسى بن مريم، فهل يتمكن الناشران من أن يدلانا على محل وروده من الإنجيل.
وفي ص127 (وقال عيسى عليه السلام يا بن آدم اعتبر رزقك بطير السماء لا يزرعن ولا يحصدن وإله السماء يرزقهن. فإن قلت لها أجنحة فاعتبر بحمر الوحش وبقر الوحش ما أسمنها وما أبشمها وأبدنها!)
والذي نعرفه شبيهاً بهذا القول من أقوال السيد المسيح ما يأتي (انظروا إلى طيور السماء، فإنها لا تزرع ولا تحصد، ولا تحزن في الأهراء، وأبوكم السمائي يقوتها، أفلستم أنتم أفضل منها (متي6: 28وما يليها)
وفي ص 55 (لو كلمني عدوي لعقدت شعر أنفه إلى شعر. . .) والمشهور (شعر أنفه بشعر)
6 -
أوهام الضبط والتقييد
وورد في ص2: (فلم يكن لهم فيها مَطْلع)، ونظن الصواب: مُطلّع، وزان محمد
وفي ص6: (المِجَسْطِي) وضبطت بكسر الميم، وفتح وإسكان السين، وكسر الطاء وفي الآخر ياء خفيفة. قلنا: هذا الضبط مخالف للاسم المعرَّب عنه وهو اللاتينية المولدة المركبة من (ال) العربية وهي أداة التعريف واليونانية: أي الأعظم. فيكون معناها العمل الأعظم. وفي ديوان الشارح في مادة (مجسط): المَجَسطي، بفتح الميم والجيم، اسم لعلم الهيئة (كذا) وبه سُمِّي الكتاب الذي وضعه بطليموس الحكيم، وُعرِّب في زمن المأمون. أهـ
وفي ص20: (أولوا) والصواب حذف الألف من الآخر. وفي تلك الصفحة: (دَهْرِيّين)، وضبطت الدال بالفتح، والمشهور ضبطها بالضم
وفي ص46: (علم مَقْبَرةُ) بضم الهاء والصواب بتثليث الباء وفتح الراء وكسر الهاء
وفي ص67: (أسكرُّجة) والمشهور أنها بلا ألف في الأول
وفي ص83 (وكذلك؟): الموسيقى، بكسر القاف والياء الخفيفة. والمشهور الموسيقى، بضم الميم، وكسر السين، وفتح القاف. قال نصر الهوريني في تعليقه على كلمة الربابي الواردة في القاموس في مادة (ر ب ب) في كلامه على ممدود ابن عبد الله الواسطي الربابي، الذي يضرب به المثل في معرفة الموسيقى بالرباب ما هذا نصه: (قوله الموسيقى. هكذا في النسخ بكسر القاف. وهو اشتباه سَبَّبه رسم الكلمة بالياء. وصوابه فتح القاف. كما هو في اللغة الرومية (أي والعامل بتلك الآلة يقال له موسيقار، بزيارة راء في الآخر، كأن هذه الزيادة عندهم كالنسب في جمال وحمار. اهـ
(البقية في العدد القادم)
الأب أنستاس ماري الكرملي
أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
أشهر الكتاب الاجتماعيين العراقيين في القرن الرابع
الهجري
القاضي التنوخي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
يسرني أن أبدأ لك - أيها القارئ العزيز - بسرد حياة هذا القاضي الحجة، الكبير الهمة، الشاعر الفحل، والمحقق العدل، والأديب الأريب، العالم ابن العالم ابن الحسب والنسب من آل تنوخ الكرام
أما الذين ترجموه من العصور المتأخرة، فقد رووا عنه أخباراً جميلة وعددوا مؤلفاته التي لم نحصل منها - ويا للأسف - إلا على ثلاثة: أولها كتاب (الفرج بعد الشدة)، ذلك السفر المشحون بأخبار الأولين وكلها أقاصيص وحكايات واقعية تنبئ عن المآثر التي خلدت في عز العرب والإسلام. ترجمه إلى التركية لطف الله بن حسن التوقاني المقتول سنة 900هـ. وقد طبع الكتاب طبعتين: الأولى طبعة الهلال للمرحوم المؤرخ جورجي زيدان سنة 1903م. والثانية طبعة المكتبة العلامية بجوار الأزهر بمصر لصاحبها عبد القادر علام سنة 1938م. وأما ثانيها، فهو كتاب (جامع التواريخ) المسمى (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة)، وهو أحد عشر مجلداً على ما رواه ياقوت في معجم الأدباء اشترط فيه أنه لا يضمنه شيئاً نقله من كتاب. كل مجلد له فاتحة بخطبة. وقال غرس النعمة محمد بن هلال الصابي العلامة المؤرخ المشهور: صنف أبو علي المحسن كتاب (نشوار المحاضرة) في عشرين سنة أولها سنة ستين وثلاثمائة. وقد ذيله غرس النعمة بكتاب سماه كتاب (الربيع) قال: ابتدأته سنة ثمان وستين وأربعمائة. هذا ولم يحصل عالم الطبع منه إلا على جزئين وبعض جزء ثالث. فالأول قام بطبعه المستشرق العلامة مرجليوث، وطبع الجزء الثامن منه بدمشق سنة 1348هـ (1930م) بإرشاد الأستاذ مرجليوث. قال بعد أن سرد ترجمة التنوخي نقلاً عن معجم الأدباء لياقوت الحموي: (وأول مجلد منه نشرناه في سنة 1921م عن نسخة في مكتبة باريس العمومية. وبذل البحاثة الشهير أحمد باشا تيمور جهده في تفسير ما ورد فيه من الغريب، فنثر ثمرات أفكاره في المجلدين الثاني والثالث من
مجلة مجمعنا العلمي العربي في دمشق، وقد أخبرنا أن عنده نسخة من الجزء الثاني). ونشر بعض الثالث في مجلة المجمع العلمي العربي بعد نشرها الثامن. هذا، وقد ذكره بعنوان (نشوان المحاضرة وأخبار المذاكرة) - ابن خلكان. ونقل عنه هذه اللفظة صاحب شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي في حوادث سنة 384هـ، وهي سنة وفاة التنوخي. ونقل عنهما الحاجي خليفة في كشف الظنون تلك اللفظة، إذ وضع اسم الكتاب في مادة النون. والكتاب الثالث هو كتاب المستجاد من فعلات الأجواد، لم يذكره سوى ابن خلكان، ونقل عنه صاحب شذرات الذهب. وقد طبع الكتاب حديثاً طبعة حجرية نشره ليوبولي في شتتجارت سنة 1939، طبقاً للمخطوطة الأصلية في 215 صفحة فيها الفهارس كاملة زيادة على ست وعشرين صفحة للمقدمة الألمانية. وقد علمت بأن نسخة خطية منه يملكها المنلا صابر بكركوك. وقد طالعت طائفة من أخباره فوجدته بديعاً لا يقل أسلوباً عن الكتب الأخرى المذكورة آنفاً والشائعة بين القراء والمتتبعين. إن أول من ترجم التنوخي على ما يستوجب سياق التاريخ هو هلال بن المحسن الصابي في تاريخ بغداد الذي وصل به تاريخ ثابت بن سنان، ثم الثعالبي صاحب يتيمة الدهر المتوفى سنة 429هـ حيث قال عنه بعد أن تكلم عن أبيه:(هلال ذلك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المثيل لأصله، والنائب عنه حياته، والقائم مقامه بعد وفاته. . . وله كتاب (الفرج بعد الشدة)، وناهيك بحسنه، وإمتاع فنه وما جرى من الفأل بيمينه، لا جرم أنه سير من الأمثال، وأسرى من الخيال. . . أخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان أنه رأى ديوان شعره ببغداد أكبر حجماً من ديوان شعر أبيه، وأن بعض العوائق حال بينه وبين تحصيله، حتى فاته واشتد الأسف عليه، ولو تقدر له استصحابه كسائر الدواوين البديعة، لكنت أتفسح في الانتخاب منه. ولكني الآن مقل من شعره، وسيقع لي ما أتكثر به، وألحق المختار منه بمكانه من هذا الباب بمشيئة الله تعالى وعونه، وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجاج:
إذا ذكر القضاة وهم شيوخ
…
تخيرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرض لم أصفعه إلا
…
بحضرة سيدي القاضي التنوخي
وذكره بعدهما الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ في كتابه تاريخ بغداد، عده محدثاً
ببغداد وعدد نسبه وحدد تاريخ مولده ووفاته إذ قال: (المحسن بن علي بن محمد بن أبي فهم أبو علي التنوخي القاضي بن القاضي، ولد بالبصرة وسمع بها من واهب ابن يحيى المازني وأبي العباس الأشرم ومحمد بن يحيى الصولي والحسن بن محمد بن عثمان النسوي وأبي بكر بن داسة واحمد بن عبد الصغار وطبقتهم ونزل بغداد وأقام بها وحدث بها إلى حين وفاته. وكان سماعه صحيحاً أديباً شاعراً أخبارياً. أخبرنا عنه أبنه أبو القاسم علي، أخبرنا التنوخي حدثنا أبي - من لفظه وحفظه ومن أصله - حدثنا واهب بن يحيى بن عبد الوهاب المازني البصري - بها من حفظه - قال التنوخي وحدثنا إدريس بن علي المؤدب؛ ورفع الإسناد إلى مسلمة بن مخلد قالْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. ومن فك عن مكروب فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) قال لي التنوخي قال قال لي أبي: مولدي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة. قال وكان مولده في ليلة الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الأول وأول سماعه في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وأول ما تقلد القضاء من قبل أبي السائب عتبة بن عبد الله بالقصر وبابل وصور (كذا) في سنة تسع وأربعين. ثم ولاه المطيع لله القضاء بعسكر مكرم وإيذج ورامهرمز. وتقلد بعد ذلك أعمالاً كثيرة في نواح مختلفة، وتوفي ببغداد في ليلة الاثنين لخمس بقين من المحرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة). أما من ذكره بعدهم فمنهم أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي صاحب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم المتوفى سنة 597هـ، فذكر نسبه ومولده وسماعه وتحديثه وأول سماعه الحديث وتقليده القضاء كما أسلفنا، ثم ذكر أيضاً وفاته كما ذكر سلفه الخطيب البغدادي. وقد ذكره ابن الأثير في كتابه الكامل في حوادث سنة 371هـ. ونقل أن عضد الدولة قبض عليه وألزمه منزله وعزله عن أعماله التي كان يتولاها، وذكره أيضاً في وفيات سنة 384هـ. وهي سنة وفاته سارداً تاريخ مولده أيضاً. قال وكان فاضلاً. وقد ذكر التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) أنه كان على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز سنة ست وأربعين وثلاثمائة. وذكر بعد ذلك بقليل أنه كان على القضاء في بجزيرة ابن عمر. وذكر ابن تغري بردي صاحب النجوم الزاهر المتوفى سنة 874هـ أنه تقلد القضاء بسر من رأى يشبه سوراً. قال: وكان أديباً شاعراً والذي عرفنا - أسباب توليته القضاء
وعزله - ياقوت الحموي في كتابه المعروف بإرشاد الأريب في معرفة الأديب - أعني - معجم الأدباء وذلك بإسهاب يصعب علينا استيعابه فنختصره ونقول: (قال بعد ذكر نسبه ومولده سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بخلاف ما ذكره الخطيب البغدادي وابن الجوزي صاحب المنتظم وهما أسبق من ياقوت وذكر وفاته أيضاً من دون خلاف، وذكر تآليفه كما ذكرناه آنفاً: ولي القضاء بواسط وكان بها متولياً سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وقال في موضع آخر من كتابه نشوار المحاضرة: حضرت أنا مجلس أبي العباس أبي الشوارب قاضي القضاة إذ ذاك وكنت حينئذ أكتب له على الحكم والوقوف بمدينة السلام مضافاً إلى ما كنت أخلفه عليه بتكريت ودقوقا وخانيجار وقصر ابن هبيرة والجامعين، وسوراء وبابل والإيغاريين وخطرنية وذكر قصة. وذكر في موضع آخر - جاء قبلاً منقولاً عن الخطيب البغدادي - أنه كان يتقلد القضاء بعسكر مكرم في أيام المطيع لله، وعز الدولة بن بويه. وقد ذكر أبو الفرج الشلجي أنه تقلد القضاء بالأهواز نيابة عن القاضي أبي بكر بن قريعة. قال أبو الفرج: وحدثني أبو علي التنوخي القاضي قال: لما قلدني القاضي أبو بكر بن قريعة قضاء الأهواز خلافة له كتب إلى المعروف بابن سركس الشاهد، وكان خليفته على القضاء قبلي كتاباً على يدي وعنوانه: إلى المخالف الشاق، السيئ الأخلاق؛ الظاهر النفاق، محمد بن إسحاق. وقال ياقوت أيضاً: قرأت في كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس فقصدته للسلام عليه وتجديد العهد بخدمته، فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز قلت نعم. قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده وأنت ولدي وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: ألا أن في الشهادة عنده مع الحداثة جمالاً - وكانت سني يومئذ عشرين سنة - قال وجب أن تجيء إلى الحضرة لأتقدم إلى أبي السائب قاضي القضاة بتقليدك عملاً تقبل أنت فيه شهوداً (قلت ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب. فضحك وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه كيف اغتنمها؟ ثم قال لي أخرج معي إلى بغداد. فقبلت يده ودعوت له. وسار من السوس إلى بغداد. ووردت إلى بغداد في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فتقدم إلى أبي السائب في بما دعاه أن قلدني عملاً بسقي الفرات. وكنت ألازم الوزير أبا محمد وأحضر طعامه ومجالساته. واتفق أن جلس يوماً
مجلساً عاماً وأنا بحضرته وقيل: أبو السائب في الدار، قال: يدخل. ثم أومأ إلي بأن أتقدم إليه، فتقدمت ومد يده ليسارّني فقبلتها، فمد يدي وقال ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب فيراك تسارّني في مثل هذا المجلس الحافل فلا يشك أنك معي في أمر من أمور الدولة فيرهبك ويحشمك ويتوفر عليك ويكرمك فإنه لا يجيء إلا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك. وأخذ يوصل معي في مثل هذا الفن من الحديث إلى أن دخل أبو السائب. فلما رآه في سرار وقف ولم يحب أن يجلس إلا بعد مشاهدة الوزير له تقرباً إليه وتلطفاً في استمالة قلبه، فإنه كان في ذلك الوقت فاسد الرأي فيه. فقال لأبي السائب يجلس قاضي القضاة، وسمعه الوزير فرفع رأسه وقال له أجلس يا سيدي، وعاد إلى سراري وقال لي: هذه أشد من تلك؛ فامض إليه في غد فسترى ما يعاملك به. وقطع السرار وقال لي ظاهراً: قم فامض بما أنفذتك فيه وعد إلي الساعة بما تعجله، فوهم أبا السائب بذاك أننا في مهم. فقمت ومضيت إلى بعض الحجر وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب فكاد يحملني على رأسه وأخذ يحادثني بضروب من المحادثة والمباسطة وكان ذلك دهراً طويلاً
(البقية في العدد القادم)
يوسف يعقوب مسكوني
ترتيب القرآن
للأستاذ أبو طالب زيان
(تتمة ما نشر في العدد 472)
اتفق العلماء على أن هذا الترتيب إنما يجب التزامه في كتابة المصاحف. أما في القراءة فليس بواجب يدل على ذلك حديث عائشة في البخاري حيث قالت للعراقي الذي سألها عن تأليف القرآن: (لا يضرك أية قرأت). وقد حمله جمهور المحدثين على أنه في القراءة بأية سورة أراد دون أن يلتزم الترتيب. قال ابن بطال: لا نعلم أحداً قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة والحج قبل الكهف. وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوساً، فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها. وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها، وتذليلاً للسان في سردها؛ فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه. اهـ
والآن أعود إلى سبق النزول فأقول: لست في حاجة إلى أن أكرر أن القرآن ابتدأ نزوله من ليلة اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده عليه الصلاة والسلام حيث أوحى إليه في غار حراء الذي كان يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وأن أول آيات القرآن نزلت على النبي الكريم وهو بالغار، وأن آخر آية نزلت يوم الجمعة، يوم عرفة، عام حجة الوداع. يدل على هذا ما رواه البخاري بسنده عن طارق بن شهاب عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود. قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال أي آية؟ قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة. ولقد روي البخاري هذا الحديث في عدة مواضع من صحيحه. ورواه أصحاب السنن إلا أبا داود. . . ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها شيء من الفرائض ولا تحليل شيء ولا تحريمه. ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة
عن ابن عباس ومجاهد أن سورة (اقرأ) أول ما نزل من القرآن إلى قوله تعالى: (علم
الإنسان ما لم يعلم) ثم نزل باقيها بعد. والجمهور على أن (الفاتحة) أول ما نزل ثم سورة (القلم) وسورة (الضحى) نزل منها أولاً إلى قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ثم نزل باقيها بعد، ولم ينزل من السور الطوال سورة بتمامها إلا سورة (الأنعام). فقد روي كثير من المحدثين نزولها جملة عن غير واحد من الصحابة والتابعين لأنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال المذاهب التي كذبت القرآن ولم يؤمن أصحابها بالبعث والنشور. وهي من المقاصد الأساسية للدين الحنيف التي لا يتوقف نزول آياتها على السؤال والحوادث أو الأسباب التي تقتضي الإنزال
ولقد رجح هذا المذهب الإمام الرازي في تفسيره الكبير والقرطبي وغيرهما من علماء التفسير، كالكشاف، والنسفي. ولم يضعفه إلا الأستاذ الألوسي في كتابه (روح المعاني) فقد أنكر نزول هذه السورة جملة وقال: كيف يمكن حينئذ أن يقال في كل واحدة من آياتها أن سبب نزولها كذا. . . ولكن إنكار الأستاذ. . . ضعيف لأن ما ذكره الجمهور في أسباب نزول آياتها بعضه لا يصح والبعض الآخر لا يدل على نزول تلك الآيات متفرقة لأن غاية ما قالوه أن تلك الآية نزلت في كذا وكذا أو في قول المشركين كيت وكيت. فإذا صح كان معناه أن تلك الآيات نزلت بعد الوقائع؛ وهذا لا يتنافى ونزولها دالة على ذلك في ضمن السورة. . .
ولقد نزل كتاب الله في تلك الفترة بين مبتدأ الوحي ومنتهاه مفرقاً إلى أجزاء كل جزء منها يسمى نجماً؛ وربما نزلت الآية المفردة وربما نزلت آيات عدة إلى عشر كما صح عند أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواة. فقد نزلت عشر آيات في قصة الإفك جملة، ونزلت عشر آيات من أول المؤمنين جملة، يدل على نزولها جملة ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عمر بن الخطاب قال: كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: (اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا) ثم قال: لقد أنزل الله علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة. ثم قرأ: (قد أفلح المؤمنون) حتى ختم العشر. . . وصح نزول (غير أولي الضرر) وحدها، يدل على ذلك ما رواه البخاري في كتاب الجهاد من حديث البراء بن عازب قال: لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين)
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، فجاء بكتف فكتبها. وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر).
وفي هذه الرواية إبهام وضحته الرواية التي رواها البخاري أيضاً بعدها عن سهل بن سعد الساعدي، وفيها التصريح بأن الذي نزل غير أولي الضرر وحدها.
ومن السور القصار ما كان ينزل جملة ومنها ما كان ينزل مفرقاً. ولقد كان هذا التنجيم مثاراً لعجب المشركين ومنشأ لاعتراضهم على القرآن، فقد سمعوا أن الكتب السماوية السابقة كانت تنزل على الرسل جملة واحدة كما نزلت التوراة على موسى في الألواح مرة واحدة فقالوا إذا كان القرآن قد نزل على محمد من عند الله كما يدعي فما باله لم ينزل عليه جملة واحدة كما نزلت التوراة على موسى وما باله تنزل منه الآية أو الآيات تلو الآية أو الآيات في أزمنة متطاولة؟ أليست سنة الله في إنزال الكتب واحدة؟
ألا يكون مجيئه هكذا مفرقاً دليلاً على أن محمداً صلى الله عليه وسلم يصطنعه، ثم يدعي أنه من عند الله؟
نعم!! ليست هذا الشبهة بأولى جهالاتهم؛ فقد قالوا في القرآن ما هو أبشع من هذا، وغالطوا حسهم وعقلهم وكابروا وجدانهم؛ فقالوا:(إن هذا إلا أساطير الأولين)؛ وقالوا: (أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملي عليه بكرة وأصيلا)؛ وقالوا: (إن هذا إلا أفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون)؛ وقالوا: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات، قال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين)؛ وقال الوليد بن المغيرة: إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا قول البشر:(وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا أفك قديم). وهكذا شأن كل جهول يحكم على الأشياء بجهله، وبما يوحيه إليه فساده واستبداده، وتصوره له سخافة فكرة
ولقد جهل المشركون أن نزول القرآن منجماً أمر اقتضته حكمة الله التي سمت عن عقولهم، وضلت عنها أفكارهم؛ وأنه لولاه لما أحدث القرآن الكريم في الأمة العربية ذلك الانقلاب الخطير الذي تسري أثره في الأمم؛ فكان حداً فاصلاً بين عهدين: عهد طفولة النوع البشري، وعهد بلوغ أشده، واستكماله خصائصه التي ميزه الله بها على كثير من خلقه؛ وقد حكى الله تعالى شبهتهم هذه في سورة الفرقان بقوله:(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)؛ وفندها ورد عليهم بقوله: (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا
يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا). فبين أن حكمة تنجمه هي تثبيت فؤاد النبي عليه السلام في مواطن اللجاج والخصومة بينه وبين المكابرين من أعدائه، واقتصر في بيان حكمة التنجيم على هذه الحكمة لمناسبة المقام؛ فإن المشركين كانوا يظنون أن هذه الشبهة الواهية التي شنعوا بها على القرآن كافية في هدم دعائم الدعوة المحمدية، فعكس الله عليهم ظنهم وبين أن تنجيمه من أقوى العوامل في تثبيت قلبه، وتقوية شوكته، وإحكام دعوته. واقتصار القرآن على هذه الحكمة لا ينافي أن لتنجيمه حكماً أخرى يجتلي البصير نورها إذا تأمل في المناسبات التي نزل القرآن لأجلها، والغرض المنشود من إنزاله كله، والظروف التي أحاطت بالرسول والمسلمين حين نزوله، وإلى الباحث البيان:
الأول: أن نزوله منجماً كان يحسب الوقائع والحوادث التي كانت تحصل في المجتمع الإسلامي على عهد نزول التشريع والأسئلة والمقترحات التي كانت توجه من المسلمين أو غيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشبه التي كانت تدور في قلوب المشركين ويظهر القول بها على ألسنتهم ومما تقتضيه حالة المسلمين في أوقات السلم من تقرير عقائد الدين وشرائعه وفضائله، وقوانينه العامة التي يراد بها تنظيم المجتمع الإسلامي وتكوين أمة فتية متمتعة بكل خصائص الأمة الحية، وحالتهم في أوقات الحرب من الحث على الجهاد والغرض الذي يجب أن يقصد به، وبيان الأحكام المتعلقة به. كتقسيم الغنائم والفرد وحكم الأسارى وغير ذلك.
الثاني: أنه نزل تدريجياً ليكون أبلغ في التحدي وأظهر لإعجاز القرآن
الثالث: أنه نزل كذلك للتدريج في تربية الأمة العربية تربية دينية وخلقية واجتماعية وإعدادها لمنزلة الخلافة في الأرض ولقيامها مقام المصلح لما فسد من عقائد الأمم وما تسفل من أخلاقها وعاداتها وتقاليدها وما اختتل من أحوالها العامة ونظمها الاجتماعية
الرابع: وليسهل حفظه وفهمه والعمل به على المسلمين وامتزاجه بدمائهم حتى يصير جزءاً من نسيجهم العقلي ليمكنهم أن يضطلعوا بأعباء الدعوة المحمدية بعد رسول الله على بصيرة وهدى وأن يسيروا في هداية الأمم على نهج واضح، ولا تبعد عنهم الغايات التي ندبوا لتحقيقها في العالم الإنساني
الخامس: وليثبت الله تعالى به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن الخصومة: (كذلك
لنثبت به فؤادك) رداً على قول المشركين (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) فالآية صريحة في نزوله منجماً كان المقصود منه تثبيت فؤاد النبي عليه السلام ليتفرغ لتبليغ الدعوة المحمدية بعزيمة قوية وهمة متقدة وقلب مطمئن لا تساوره الأحزان ولا تحتل ساحته الهموم والأكدار التي تكسر شوكة العزيمة وتضعف قوة إرادة وتطفئ جذوة النشاط الملتهب وتقيد الإنسان عن السير إلى المثل الأعلى الذي يتوخاه في عمله، خصوصاً في مثل المهمة الكبرى التي يراد بها صقل طبائع النفوس وتهذيب الفطر الإنسانية وإصلاح ما فسد من أحوال الأمم، وتوجيه العالم البشري في طريق الهدى والرشاد ليصل إلى سعادة الدنيا والآخرة
والخلاصة أنك ترى مما تقدم ذكره أن تنجيم القرآن الكريم مع كونه مقتضى الحكمة الإلهية كان ضرورة حتمية لا محيص عنها، وأنه لو أنزل جملة واحدة ما أتى بالنتيجة المطلوبة منه في تلك الأمة التي كانت عريقة في الجهالة والهمجية
أما بعد فلعلي بهذه العجالة ألقيت ضوءاً على هذا البحث الذي ألفيته من المباحث الشاقة في التنقيب، الوعرة في المسالك، فجاريته على سرعته. وصادقته على علاته فطرقت حكم التنجيم، لأنها منه كالتكملة والذيل والعلة للمعلول. ولعل من الباحثين من يبحثه بحثاً غير ما بحثت، ويحرره تحريراً غير ما حررت؛ ولنا في ثقافتهم آمال كبار.
أبو طالب زيان
38 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثاني عشر - السمر والتنجيم والكيمياء
يدرس الكثيرون في مصر الكيمياء أيضاً. وهنالك فئة تنعم بمواهب يستطيعون أن يبلغوا بها شهرة أفضل مما يدركونه من هذه المهنة. ويواصل هؤلاء جهدهم العقيم حتى يبلغوا الكبر بالرغم مما يلاقون من سخرية حصفاء الرأي وذم الذين يغررون بهم عن غير قصد. ومع ذلك فقد يحصلون على معلومات كيميائية وافرة بدراسة هذا العلم الكاذب. والاهتمام بالكيمياء في حالة الانحطاط العلمي الموجودة الآن بمصر يبرهن على العقلية المصرية الرفيعة
وهناك أو كان هناك مصري يدعى الشيخ إسماعيل أبو الروس من مدينة دسوق، ذاع صيته في السحر الروحاني. ويتحدث المصريون حتى أكثرهم علماً ورزانة عن مهارته السحرية أحاديث لا تصدق. فيتحدث بعضهم مؤكداً زواجه بجنية، وآخرون عن استخدامه جنياً يستشيره ويأمره في الباطن دون أنه يستعمل طلسماً ما مثل مصباح علاء الدين. ويقال إن الشيخ كان يستخدم دائماً قوته الخارقة في أغراض طيبة أو بريئة، وأن محمد علي - كما يقول البعض - كان يكرمه ويستشيره كثيراً. وقد أخبرني أحد أصدقائي المسلمين الأذكياء في القاهرة أنه زار أبا الروس في دسوق بصحبة الشيخ الأمير بن الشيخ الأمير الكبير شيخ المالكية، فسأل صاحب صديقي مضيفهما أن يبين لهما بعض ما يدل على براعته في السحر، فأجابه إلى طلبه. فقال الشيخ الأمير: قدم إلينا القهوة في فناجين أبي الموجود بالقاهرة. وانتظرا قليلاً ثم أحضرت القهوة فنظر الشيخ الأمير إلى الفناجين وظروفها وصرح أنها طقم أبيه بلا شك. وبعد ذلك قدم الشراب في قلل أبيه. ثم كتب رسالة
إلى أبيه وأعطاها لأبي الروس طالباً الحصول على الرد. فأخذها الساحر ووضعها وراء وساد الديوان، وبعد قليل رفع الوسادة وأراه أن رسالته اختفت وحلت محلها أخرى أخذها الشيخ الأمير وقرأها فوجد فها ردَّاً كاملاً على ما كتبه بخط صرحَّ بأنه خط أبيه، وأخباراً عن عائلته تبين له صحتها التامة بعيد عودته إلى القاهرة. وقد وقع أثناء زيارتي الأخيرة لمصر حادث سحري عجيب تدخلت فيه الحكومة وكان محل حديث الناس وتعجبهم في العاصمة كلها. وسأروي هذه الواقعة تماماً كما قصها عليَّ الكثيرون في القاهرة دون أن أحذف منها المبالغات التي دبجوا بها حديثهم، لا لأنني جاهل مبلغ صحتها فحسب، بل لأبين إلى أي حد عظيم يؤمن المصريون بالسحر
عُزل مصطفى الدجوي كبير الكتاب في مجلس القاضي من وظيفته، وحل مكانه آخر يسمى مصطفى كان صيرفياًّ. فأرسل الأول إلى الباشا التماساً لإعادته ثانية، إلا أنه مرض مرضاً شديداً قبل أن يصله رد. فاعتقد أن ذلك نتيجة سحر استخدمه مصطفى الصيرفي بكتابه شعوذة تسبب موته، ولذلك أرسل إلى الباشا مرة أخرى يتهم الصيرفي في بهذه الجريمة، فأحضر المتهم أمام الباشا فاعترف بفعله ودل على الساحر الذي استخدمه. ولما قبض على الساحر لم يستطيع إنكار التهمة، فسجن حتى ينجو الدجوي أو يموت، وأودع في حجرة صغيرة يتناوب حراستها حارسان - وهنا يبدأ القسم العجيب في القصة - عندما جن الليل، وبعد أن نام أحد الحارسين سمع الآخر صوت همهمة غريبة، فنظر من خصاص باب الحجرة، فرأى الساحر جالساً وسط الغرفة يدمدم ببعض كلمات لم يستطيع فهمها، وفي الحال انطفأت الشمعة التي كانت أمامه، وظهر في الوقت نفسه أربع شمعات أخرى في كل ركن من أركان الغرفة الغرفة، ثم وقف الساحر تجاه أحد الحوائط وضربة بجبهته ثلاثاً، وفي كل مرة كان الحائط ينفرج عن رجل يبدو أنه يخرج منها. ولم يلبث هؤلاء أن اختفوا بعد أن حدثهم الساحر قليلاً، وكذلك اختفت الشمعات الأربع، وعادت الشمعة الأولى وسط الغرفة مضيئة كما كانت قبلاً، ورجع الساحر إلى جلسته، وساد السكون. . . وهكذا أبطلت التعويذة التي كانت معدة لقتل الدجوي. ففي الصباح التالي شعر المريض بتحسن كبير بحيث توضأ وأقام صلاته. ومنذ ذلك الوقت تم شفاؤه سريعاً، وأعيد إلى وظيفته السابقة، ونفي الساحر من مصر. وقد نفى ساحر آخر بعد أيام قليلة لكتابته
حجاباً جعل بنتاً مسلمة تصاب بحب قبطي حباً جامحاً.
وقد أثار فضولي في موضوع السحر بعيد قدومي إلى مصر حادث قصة عليّ مستر صولت قنصلنا العام؛ فقد سرقت من منزله أمتعة أتهم بسرقتها أحد خدمه. فاستدعى ساحراً مغربياً شهيراً ليحمل المذنب، إذا كان أحدهم مذنباً، إلى الاعتراف بذنبه. وحضر الساحر وقال إنه سيبين صورة اللص بحيث تبدو كاملة لأي صبي لم يبلغ سن المراهقة؛ وطلب من رب الدار أن يحضر أي ولد يختاره، وكان هناك عدة أولاد يعملون في حديقة مجاورة للمنزل، فدعي أحدهم لهذا الغرض. فرسم الساحر بالقلم على راحة يد الولد اليمني شكلاً هندسياً صب في وسطه ليلاً من الحبر؛ وطلب من الولد أن ينظر في الحبر بعزم؛ ثم حرق بعض البخور وعدة قصاصات من الورق كتب عليها تعاويذ؛ واستدعى في الوقت نفسه أشياء مختلفة تظهر في الحبر. وأعلن الولد أنه رأى هذه الأشياء وصورة المتهم أخيراً. فوصفه بقامته وهيئته وملبسة، وقال إنه عرفه، ونزل مباشرة إلى الحديقة وقبض على أحد العمال الذي اعترف أمام السيد بجرمه
وقد شوّقني الحديث السابق إلى مشاهدة حادث كهذا. ولكن لجهلي أسم الساحر ومكانه كنت عاجزاً عن الوصول إليه. على أنني علمت بعيد عودتي إلى إنجلترا أن هذا الساحر أشتهر بين السياح المتأخرين في مصر، وأنه يقيم في القاهرة، وأنه يسمى الشيخ عبد القادر المغربي. وقد أحضره جاري عثمان مترجم القنصلية البريطانية، بعيد قدومي الثاني إلى مصر. فضربت له موعداً ليثبت مهارته التي اشتهر بها. وحضر الساحر في الموعد المعين، قبل الظهر بساعتين تقريباً، ولكن كان يلوح عليه القلق وتطلع إلى السماء مراراً، ثم لا حظ أن الجو غير موافق. وكان اليوم عابساً كثير الضباب عاصف الهواء. وكانت التجربة قد عملت مع ثلاثة صبيان على التوالي، ولكنها لم تنجح تماماً مع أولهم وفشلت مع الآخرين. فقال الساحر إنه لا يستطيع أن يقوم اليوم بأكثر من ذلك، وأنه سيحضر مساء يوم ثانٍ. وقد حافظ على وعده وقرر أن الوقت ملائم؛ وأخذنا ندخن الشبك ونحتسي القهوة وهو يحدثني أحاديث مختلفة منتظرين جاري عثمان ليشاهد التجربة. والساحر جميل الشكل طويل القامة قوي البنية، وجهه أقرب إلى البياض، ولحيته شديدة السواد، رث الثياب أخضر العمة كبيرها، لانتسابه إلى النبي (ص) لطيف الحديث بلا تكلف. وقد
أخبرني أنه يباشر أعماله العجيبة بواسطة الأرواح الطيبة، ولكنه قال لآخرين أن سحره شيطاني
وطلب الساحر أولاً قلماً وحبراً وقطعة ورق ومقصاً ليعد تجربة مرآة الحبر السحرية التي تسمى، مثل بعض الأعمال المشابهة الأخرى، ضرب المندل. ثم قطع قصاصة ضيقة كتب عليها بعض أدعية علاوة على تعويذة أخرى يعتقد أن التجربة تتم بها. ولم يحاول أن يخفي ذلك. ولما طلبت نسخة منها قبل بسهولة وكتبها في الحال موضحاً لي في الوقت نفسه أنه يبلغ غايته بفعل الكلمتين الأوليين (طرش) و (طريوشٌ) وهما أسماء تابعيه الجنيين. وقد قارنت النسخة بالأصل فوجدتها مطابقة تماماً. وهذا نصها:
طرْشٌ طريوشٌ انزلوا انزلوا، احضروا إلى مذهب الأمير وجنوده، إلى الأحمر الأمير وجنوده
احضروا يا خدام هذه الأسماء.
وهذا الكشف، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد صحيح صح.
وبعد أن كتب هذه الكلمات، فصل الأدعية عن التعويذة وقطع الأولى إلى ست جذاذات. ثم شرح لي أن القصد من التعويذة التي تتضمن جزءاً من الآية الحادية والعشرين من سورة الكف، هو فتح عين الصبي بطريقة غير عادية وجعل بصره حاداً يرى مالا نراه
وكنت قد أعددت بإرشاد الساحر قليلاً من اللبان، والكزبرة ومجمرة بها جمر. فوضعت كل هذا في الغرفة مع الصبي الذي أعد لإجراء التجربة، وكانوا قد دعوه من الشارع بناء على طلبي من بين بعض الصبيان حين عودتهم من أحد المصانع. وكان الصبي يبلغ من العمر ثماني سنوات أو تسعاً. وعندما سألت الساحر أن يبين لي من يستطيع النظر في مرآة الحبر السحرية أجابني: الصبي دون البلوغ، والبنت العذراء، والجارية السوداء، والمرأة الحامل. ووضع الساحر المجمرة أمامه، ثم أجلس الصبي على كرسي وأمر خادمي أن يضع في المجمرة بعض لبان وكزبرة. ثم أمسك يد الصبي اليمين ورسم على راحته مربعاً سحرياً نقلت نسخة منه هنا (شكل رقم 53) ويتضمن هذا الشكل أرقاماً عربية ثم صب في وسطه قليلاً من الحبر وطلب من الصبي أن ينظر فيه ويخبره إذا كان يمكنه رؤية وجهه معكوساً فيه. فأجاب الصبي إنه يرى وجهه جلياً. فقال الساحر وهو يمسك بيد الصبي طول
الوقت أن يظل محدَّق النظر وألا يرفع رأسه
ثم أخذ الساحر إحدى قصاصات الورقة المكتوبة عليها الأدعية وأسقطها في المجمرة على الجمر والبخور الذي كان قد ملأ الغرفة بدخانه. وبينما كان يفعل ذلك أخذ يدمدم دمدمة لم تنقطع طول العملية إلا حينما كان يوجه للصبي سؤالاً أو يعرفه ما يجب قوله. ووضع في مقدمة طاقية الطبي الورقة المكتوبة فيها الآية القرآنية. وسأله عند ذلك إذا كان يرى شيئاً في الحبر، فأجابه بالنفي؛ ولكنه لم يلبث أن قال وهو يرتعش ويبدو أكثر خوفاً:(أرى رجلاً يكنس الأرض) فقال الساحر أخبرني بعد أن ينتهي من الكنس. فقال الصبي في الحال (لقد فعل). فقطع الساحر إذ ذاك دمدمته مرة أخرى ليسأل الصبي إذ كان يعرف ما هو البيرق؛ فلما رد بالإيجاب أمره أن يقول: (هات بيرقاً). ففعل الصبي ذلك ولم يلبث أن قال: (لقد أحضروا بيرقاً). فسأله الساحر (على أي لون هو؟). فأجاب الصبي أحمر. فقال له أطلب بيرقاً آخر. فلم يلبث أن قال إنه رأى بيرقاً آخر، وأنه اسود اللون. وبالطريقة نفسها قال الساحر للصبي أن يطلب ثالثاً ورابعاً وخامساً وسادساً وسابعاً. فقال الصبي إنها أحضرت على التوالي وأنها أبيض وأخضر واسود وأحمر وأزرق. فسأله الساحر حينئذ (كم بيرقاً أمامك الآن؟) فأجابه (سبعة). ووضع الساحر أثناء ذلك ثاني القصاصات المكتوبة عليها الأدعية وثالثها في المجمرة. وإذ كان يضيف لباناً وكزبرة مراراً فقد أصبح الدخان يؤلم العين. وعندما أخبره الصبي أن البيارق السبعة ظهرت له أمره أن يقول:(أحضر خيمة السلطان وانصبها) ففعل ذلك وقال بعد لحظة: (لقد أحضر بعض الرجال الخيمة وهي خيمة كبيرة خضراء وهم ينصبونها) ثم أضاف تواً (لقد نصبوها) فقال الساحر: (الآن مر الجنود بالحضور وبنصب معسكرهم حول خيمة السلطان) ففعل الصبي كما أمره وقال على الفور: (أرى عدداً عظيماً من الجنود بخيمهم. لقد نصبوا خيمهم). فقال له حينئذ أن يأمر الجنود بالاصطفاف. ولم يكد يأمرهم حتى قال إنهم اصطفوا. ووضع الساحر رابع القصاصات في الجمر وسريعاً ما ألحق بها الخامسة. وقال تواً: (قل للبعض أن يحضروا ثوراً) فاصدر الصبي الأمر وقال: (أرى ثوراً أحمر يسحبه رجال أربعة ويضربه ثلاثة) فقال له أن يأمرهم بذبحه وتقطيعه ووضع لحمه في أوعية وطهيه. ففعل كما أمره ووصف هذه العمليات كما تمت حسب الظاهر أمام عينه. فقال الساحر: (قل للجنود يأكلون) ففعل الولد
وقال: (إنهم يأكلون. لقد أكلوا وهو يغسلون أيديهم) فقال له الساحر إذ ذاك أن يدعو السلطان ففعل الولد وقال: (أرى السلطان ممتطياً جواداً أشهب وعلى رأسه قلنسوة مرتفعة حمراء. لقد ترجل عند خيمته وجلس داخلها) فقال الساحر: (مرهم بتقديم القهوة للسلطان وبتأليف المجلس) فاصدر الصبي هذه الأوامر وقال إنها نفذت. وكان الساحر قد وضع آخر القصاصات الست في المجمرة. ولم أميز من همهمته شيئاً غير ألفاظ الدعاء المكتوب التي رددها مراراً ماعدا مرتين أو ثلاثة سمعته يقول: (إذا استعلموا أخبرهم. وكونوا أنتم صادقين) إلا أن أكثر ما ردده كان غير مسموع. ولما لم أسأله أن يعلمني عِلمه فلا أدعي الجزم بأني أعرف تماماً أدعيته
عدلي طاهر نور
مطالعات في الأدب الغربي
مقدمة في الفن
لأسكار وايلد
بقلم الأستاذ علي كمال
(أسكار وايلد أعظم من أن يعرف بغير ما كتب. وقصته
العظيمة التي اشتهر بها تعتبر سفراً فنياً عظيماً،
ومقدمتها القصيرة تلخص نظرات هذا الفنان في الفن، وهي
تضع قواعد جديدة في النقد الفني لا تسر المحافظتين من
أصحاب المدرسة الأخلاقية في النقد)
الفنان هو خالق الأشياء الجميلة
إظهار الفن وحجب الفنان هما غرض الفن
الناقد هو الذي يستطيع أن ينقل إلى صورة أخرى أو مادة أخرى تأثراته بالأشياء الجميلة
إن الذين يجدون معاني قبيحة في الأشياء الجميلة، إنما هم فاسدون مجردون عن الجمال
لطائفة مختارة تعني الأشياء الجميلة الجمال فقط
ليس هناك كتاب أخلاقي أو غير أخلاقي. الكتب إما أن تكتب كتابة جيدة أو رديئة، وهذا كل شيء
كره القرن التاسع للواقعية هو غيظ (كالبان) لرؤيته وجهه في الزجاج
وكره القرن التاسع عشر للرومانتيقية هو غيظ (كالبان) لعدم رؤيته وجهه في الزجاج
حياة الرجل الأخلاقية تكون جزءاً من مادة الفنان، غير أن أخلاق الفن تتألف من الاستعمال التام المادة ناقصة
ما من فنان يرغب في برهنة أي شيء. كل شيء تمكن البرهنة عليه حتى الأشياء الصادقة
ليس للفنان عواطف أخلاقية. والعاطفة الأخلاقية في فنان تأنق في الأسلوب لا يغفر له
لا يمرض الفنان أبداً. الفنان قادر على التعبير عن كل شيء
الفكر واللغة للفنان أداة للفن
الرذيلة والفضيلة عند الفنان مادة للفن
مثال جميع الفنون من ناحية الشكل هو فن الموسيقى، وحرفة الممثل من ناحية الشعور هي المثال
الفن كله سطحي ورمزي. فالذين يذهبون إلى ما دون السطح يخاطرون بذلك على حسابهم. . . والذين يقرأون الرمز يخاطرون بذلك على حسابهم
المشاهد لا الحياة هو في الحقيقة ما يعكسه الفن
اختلاف الرأي في عمل فني يظهر أن العمل جديد حي معقد
عندما يختلف الناقدون يكون الفنان على وفاق مع نفسه
يمكننا أن نسامح الرجل الذي يصنع الأشياء المفيدة ما دام لا يعجب بها. والعذر الوحيد لصانع شيء غير مفيد هو إعجابه به بشدة
الفن بأجمعه لا فائدة منه أبداً. . .
علي كمال
هنا القاهرة.
. .
للأستاذ عبد اللطيف النشار
- 1 -
سَبَقَ المذيعُ إلى الهتاف بها
…
أَوَعى المذيعُ جلالَ ما هتفا؟
أأقولها وأحس عن كثب
…
دنيا فتنت بحسنها شغفاً
ما زرتها إلا على عجل
…
إن قلت أقبل موعدي أزفا!
كالطير روحته وغدوته
…
صنوان ما افترقا ولا اختلفا
طيف ألمٌ بها ولم يرها
…
ورأته طيفاً دقً بل لطفاً
يا من (بمصر) وعندهم أملي
…
أَيُحاَل دون لقائكم جنفا؟
تأبى إطاعةَ هاجس ثقتي
…
بالله، فهو وكيلنا وكفى!
- 2 -
متى يا تُرى أدعو دعاَءكَ صادقاً
…
بأنَّيَ قد أصبحت في (مصر) ثاويا؟
دعا الشاعر (العقاد) قبلَيِ دعوةً
…
أجيبت، فهل رد الإلهُ دعائيا؟!
(أيا مرجع الأيام من حيثما ابتدت
…
أعِدْ لي أيامي (بمصر) كما هيا)!
أجيبَ دعائيَ ومْضَةَ البرق، لا أرى
…
سحاباً، ولكن أسمع الرعد داويا
ألا يا غدي، ماذا تخِّتبئ يا غدي؟
…
أأسكت، أم أفضي إليك شكاتيا؟!
سكت، فقد عاهدت ربيَ قبلها
…
بالا يراني آخر الدهر شاكياً!
- 3 -
نفسي المقولة في خطابكمو
…
لا شيء في لفظي سوى نفَسي
شعراء (مصرٍ) في حناجركم
…
وتَرٌ يضخم اضعفَ الجرْس
يا ليت في أسماعكم وتراً
…
أقوى فيسمع بينكم همس!
- 4 -
علمان في (العلمين) يقتتلان
…
يا (مصر) ما (العلمين) ما العلمان؟
لا ابتغي غيظ النحاة ولم أمل
…
(للأَين) إذ يرضى النحاةَ (الآنِ)
يا نصف نحوي يجادل كله
…
ليت العوالم كلها كلساني!
قل مخطئا واسمع مقالة مخطئ
…
لا يحسن التصويبُ كل أوان
الجد ليس يريح من يمُنى به
…
فتنقلوا - يا قوم - بالهذيان!
عبد اللطيف النشار
فلسفة الحب
للشاعر بيرسي شيلي
إن الجداول تمتزج بالأنهار، والأنهار
بالبحار، والبحار بالمحيطات، ونسائم
الفردوس يمتزج إلى الأبد بعضها
ببعض بعاطفة عذبة. ليس في الكون
شيء منفرد بذاته؛ فكل شيء يمتزج
حسب قانون مقدس بشيء ثان.
فلماذا لا تمتزجين بي وأمتزج بك؟
انظري الجبال تقبل السماء العالية،
والأمواج تحتضن الأمواج، وليس
هناك من زهرة يمكن أن تعذر إذا بقيت
بمفردها محتقرة أختها الوردة، ونور
الشمس يحتضن الأرض، وأشعة القمر
تقبل وجه البحر؛ فما قيمة كل هذه
القبلات إذا لم تقبل شفتاك شفتي؟
(بغداد)
صفاء خلوصي
البريد الأدبي
توثيق العلاقات الثقافية بين مصر والعراق
أقر مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة مشروع وزارة المعارف بتأليف مكتب لتوثيق العلاقات الثقافية بين مصر والعراق. وفيما يلي مذكرة معالي الأستاذ الوزير ننشرها لقيمتها التاريخية
(بتاريخ 30 أكتوبر سنة 1941 عرض وزير المعارف السابق على مجلس الوزراء فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر تعليمي للبلاد العربية؛ وقرر مجلس الوزراء تأجيل البت في هذا الأمر إلى أن تقدم إليه وزارة المعارف الموضوعات التي سيتناولها المؤتمر ومبلغ ما يحتاج إليه عقده من اعتمادات
وقدمت وزارة المعارف بتاريخ 11 ديسمبر سنة 1941 بياناً إلى مجلس الوزراء بما طلب من الموضوعات التي سيتناولها المؤتمر ومبلغ الاعتماد الذي سيحتاج إليه، فوافق مجلس الوزراء على عقد هذا المؤتمر في الخريف المقبل
ولما تألفت الوزارة القائمة، أعيد درس هذا الموضوع، وتبين أن وزارة المعارف لم تستشر لجنة المؤتمرات ولا وزارة الخارجية في عقد هذا المؤتمر؛ وقد انتهزت وزارة المعارف فرصة وجود مندوبين من وزارة المعارف العراقية في القاهرة في الشتاء الماضي لحضور مؤتمر تدريس العلوم، وهما الدكتور فاضل جمالي مدير التعليم العام بالعراق، والدكتور متي عقراوي مدير دار المعلمين العليا ببغداد، فتحدثت إليهما في موضوع عقد المؤتمر، وفي موضوع أهم منه، وهو تنظيم التعاون الثقافي بين مصر والعراق.
وانتهت هذه المحادثات الأولية إلى ضرورة إنشاء مكتب مشترك بين وزارة المعارف المصرية ووزارة المعارف العراقية، لتنظيم شئون التعاون الثقافي بين البلدين والإشراف عليها
واقترح أن يؤلف هذا المكتب من ممثلين لوزارتي المعارف في مصر وفي العراق، وأن يكون للبلاد العربية الحق في أن تشترك فيه إن أرادت، وأن يعقد المكتب اجتماعات دورية منظمة في كل عام لتبادل الرأي في الأغراض الثقافية والتعليمية التي تحدد؛ على أن يكون من بين المسائل التي يدرسها ويرفع من شأنها اقتراحاته إلى الحكومتين المصرية والعراقية
الموضوعات الآتيان:
(أ) وضع الأسس لمعاهدة ثقافية بين مصر والعراق، على أن يكون لغيرهما من البلاد العربية الانضمام إليها
(ب) الدعوة إلى مؤتمرات ثقافية تمثل فيها البلاد العربية.
وفي الواقع أن بين مصر والعراق تعاوناً مستمراً. فالحكومة العراقية تطلب إلينا الأستاذة والمعلمين في كل عام، كما تطلب إلينا معونات أخرى تتصل بالكتب والأدوات الدراسية
ونحن نفعل ما نستطيع لإجابة الحكومة العراقية إلى ما تريد في حدود ظروفنا الخاصة. ولكن هذه الأمور تجري على غير نظام ثابت واضح، وتعمل فيها المصادفات أكثر من أي شيء آخر؛ والوسيلة العملية لتنظيم الصلات الثقافية القائمة بين البلدين وتوثيقها هي إنشاء هذا المكتب الدائم الذي يتولى هذه الشئون.
مشاكل التموين في الزمن القديم
تستفحل مشاكل التموين في أوقات الأزمات والحروب، حتى ليستعصي حلها على كثير من الدول ما لم تصطنع لها من وسائل الدقة وحسن التنظيم وكفاية التوزيع ما يستغرق أكبر مجهود ويقتضي أوفر عناية.
وقد يخيل إلى بعضنا أن توزيع المؤن والأقوات على مقتضى البطاقات وشبهها، من الأنظمة التي توصل إليها الغربيون قبلنا فنقلناها عنهم. ولكن الواقع يثبت غير ذلك؛ إذ قد عرفت حكومة الشرق الإسلامية هذه الوسائل منذ عهد بعيد؛ وقد التُجئ إليها حين أشتد القحط وشحت الأقوات في بلاد الهند، وقت زيارة الرحالة ابن بطوطة لهذه الأصقاع في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، على عهد السلطان أبي المجاهد محمد شاه صاحب دلهي وابن السلطان غياث الدين تُغْلُق شاه. . .
وقد ذكر ابن بطوطة أن ثمن المنَّ من القمح بلغ حينئذ ستة دنانير - والمن وزن يبلغ رطلين - فأمر السلطان بإعطاء جميع أهل دلهي نفقة ستة أشهر من المخازن؛ قال: (فكانت القضاء والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات، ويكتبون الناس ويعطون كل أحد نفقة ستة أشهر، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. . .) وقد كان الرطل المغربي يعادل رطلاً وربعاً من الوزن المصري
ثم لما اشتدت الضائقة وبلغت المجاعة من الناس، وزع السلطان مساكين بلده على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم. قال ابن بطوطة - وكان يتولى قضاء دلهي:(فكان عندي منهم خمسمائة نفس. فعمَّرت لهم سقائف في داري وأسكنتهم بها، وكنت أعطيهم نفقة خمسة أيام فخمسة أيام)
ولعل أشبه شيء بالمطاعم الشعبية عندنا اليوم، وأقومه بمثل خدمتها، ما أشار إليه الرحالة ابن بطوطة بقوله:(وكنت في تلك المدة أطعم الناس الطعام الذي أصنعه بمقبرة السلطان قطب الدين على ما يُذكر، فكان الناس ينتعشون بذلك والله تعالى ينفع بالقصد فيه. . .)
وقد كان السلطان أوقف ثلاثين قرية على الإطعام فوق هذه المقبرة، وجعل تدبيرها بيد ابن بطوطة على أن يكون له العُشر من فائدتها كما هو المتبع عندهم
(جرجا)
محمود عزت عرفة
عادة وعوائد
قرأت الجملة الآتية من مقال الدكتور زكي مبارك بالعدد 472 من (الرسالة):
(يغتني (أي المطران) من العوائد وهي جمع عادة كما تجمع حاجة على حوائج، ولك أن تجعل مفردها عائدة إن تناسيت العرف وهو من أهم الأسندة اللغوية. . .) اهـ
هذه عبارتك الصرفية يا سيدي الدكتور ليس فيها ما يدنيها من مقال (الحديث ذو شجون) من قريب أو بعيد إلا أن أردت أن تجمع إلى ما تقدمه لإخواننا الأقباط الأكرمين من ضوء رأيك في انتخاب المطران ما يغير نوع الحديث تنبيهاً للفكر كما تقدم بعض أصناف الطعام تنبيهاً للمعدة، أو أن نجمع إلى ما تسوقه للأمة من تحقيق مسألة تاريخية طرفة صرفية يأبى إعظامك للغة وتكريمك أهلها إلا أن تتحفهم بها. غير أنه استبهم عليك الجمع وما قسته به وما حكمت على العرف لأنه من أهم الأسندة اللغوية. واستبهم عليَّ كل ذلك لأني أقرب منك عهداً بتعلم لغة العرب ولأقل تنقيباً في كتبها؛ فما وصل إليه معلومي أن كلمة (عادة) لا تجمع على عوائد، وأن صيغة فواعل ينحصر اطرادها في ثمانية أنواع أو سبعة على الخلاف ليس منها ما أوردته وقد اختلف في نوع من أنواعها (فاعِل) بكسر العين وصفاً
للمذكر غير العاقل، فقيل بشذوذه وقيل بغلطه وقيل بصحته، وما عدا ذلك شاذ إجماعاً؛ وقد حصروا الشاذ فلم يكن منه عوائد جمعاً لعادة، فهو منكور قياساً، ولم يسمع شذوذاً حتى جنبت ذكره المعاجم. وقد استساغ ابن منظور أن يورد في بحره الزاخر (لسان العرب) بعد ما ذكر ما ورد من جموعها كلمة عيد جمعاً لعادة، ونسبها إلى صاحبها تأكيداً لاستضعافها وعدم رضايته عنها؛ ولم يذكر عوائد جمعاً لعادة، وإن أورد الشرتوني في معجمه (اقرب الموارد) بعد أن أورد ما سمع من جموعها: العوائد جمعاً لعادة. غير أنه أردفه بقوله وكأنه جمع عائدة. ثم التبس عليَّ قياسك عوائد على حوائج، لأنه قياس ينبو عما قرأنا في كتب أصول النحو، ولم اسمع من أمثال سيدي الدكتور - حفظه الله - من جعل الشاذ مقيساً عليه لمخالفته الإجماع؛ لأن القياس - ومن شروطه ألا يقاس على الشاذ - هو حمل غير المنقول على المنقول، وليست كلمة الحوائج المقيس عليها منقول لنبوها عن القاعدة ولكنها مسموعة، على أنه مطعون في صحتها جمعاً لحاجة قال الدماميني:
(سمع في هذا المفرد حائجة فيجوز أن يكون حوائج جمعاً لها واستغنى عن جمع حاجة) اهـ
وقد أنكر (حقي) في فروقه وابن خالوبه في كتابه (ليس في كلام العرب) جمع الحوائج على حاجة؛ وكذا الحريري في (درة الغواص)، واستشهد بخير ما يستشهد به لصدق دعواه، وإن أظهر الشهاب الخفاجي في شرحه على الدرة جنوحاً عن رأي الحريري، ولكنه سار في غير مسار
(بثينة)
الفدائية أيضاً
طلبت من الدكتور الفاضل محمد حسني ولاية بعد أن ذكر (الفدائية) في مقاله (الشخصية الهستيرية) أن يتفضل فيبين لنا المبادئ التي كانت تعمل من أجلها جماعة الفدائيين، وهل كانت هذه المبادئ من السمو - كما ذكر الدكتور الفاضل - بحيث يضحي الفدائي نفسه في سبيل كل غاية تفيد الإنسانية، أم أن الدكتور الفاضل أراد بذكرهم في مثاله مجرد التشبيه فقط، باسترخاصهم النفس في سيبل غاياتهم
فلم أصل برد الدكتور الفاضل لغرضي الذي عنيته، فقد خرج الدكتور الفاضل عن اتجاه السؤال، وأخذ في تفنيد نظريات علمية مسلم بها، كالعقد النفسية والتضحية للغاية الخ. . .
فإلى الدكتور الفاضل، وإلى جمهرة الباحثين من الكتاب والأدباء أرجو أن يتفضل أحدهم بالكتابة عن جماعة الفدائيين ومبادئهم، خصوصاً وقد كثر في هذه الأيام ذكرهم فكثيراً ما أسمع من يقول - هذا شخص فدائي - وكأن يقال في الصحف - وسيقوم جيش الفدائيون بكيت وزيت - فهل هذا مجرد التشبيه فقط، أم لتماثل مبادئ هؤلاء وهؤلاء
مصطفى عبد المجيد جابر
جلال الدين بن مكرم وأبياته في الإسكندرية
سأل الأستاذ مصطفى الشهابي بعدد الرسالة رقم 473 عن النص العربي لأبيات ترجمها (فورستر) إلى الإنجليزية في كتابه عن الإسكندرية. والأبيات مذكورة في الخطط المقريزية (ج1 ص262) وهذا نصها:
نزيلُ سَكندرية ليس يُقويَ
…
بغير الماء أو نعت السواري
ويُتحف حين يُكرم بالهواء ال
…
ملاتن والإشارة للمنار
وذكر البحر والأمواج فيه
…
ووصف مراكب الروم الكبار
فلا يطمْع نزيلهمُ بخُبزٍ
…
فما فيها لذاك الحرف قاري
وقد نسب المقريزي هذه الأبيات إلى جلال الدين مكرم ابن أبي الحسن بن أحمد الخزرجي ملك الحفاظ. وهذا الاسم يتفق تماماً مع أسم ابن منظور صاحب لسان العرب، إلا أن كنيته (جمال الدين) لا (جلال الدين)، وأغلب الظن أن ذلك عن سهو من المقريزي أو من ناسخ الكتاب. وقد أخطأ المترجم في كتابه (مكرم) والحقيقة أنها بتشديد الراء المفتوحة، وهي بغير شكل في كتاب المقريزي
عبد القادر حسن القط
هما لأبي تمام
تساءل الأستاذ موسى حقي عن صاحب البيتين الذين نسبهما صاحب عيون الأخبار إلى
دعبل مع أنهما منسوبات إلى أبي تمام في ديوانه وهما:
إن أولي البرايا أن تواسيه
…
عند السرور لمن آساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
…
من كان يألفهم في المنزل الخشن
ثم تساءل عن صحة البيت الأول
أما البيتان فهما لأبي تمام ونسبتهما إلى غيره وهم، وهما من قصيدة طويلة في مدح أبي الحسن على بن اسحق لما تولى دمشق؛ وقد ذكرها كلها الشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل المتوفى سنة 1073هـ ـ في كتابه (هبة الأيام فيما يتعلق بابي تمام) وقال عن هذين البيتين ما نصه:(والبيتان الأخيران من هذه القصيدة نسبهما بعض المؤرخين لإبراهيم بن العباس الصولي وهو وهم، ويدل على أنهما لأبي تمام ما قاله أبو بكر الخوارزمي من رسالة كتبها كاتب خوارزم شاه، ثم ذكر نص كتاب أبي بكر الخوارزمي وفيه البيتان منسوبان إلى أبي تمام (هبة الأيام ص 125 - 126)
وذكرهما ابن عبد ربه في العقد ونسبهما إلى أبي تمام أيضاً (ج2 ص40) ط العريان
وأما صحة البيت الأول منهما فهو كما جاء في هبة الأيام والديوان مطبوع حديثاً:
أولى البرية حقاً أن تواسيه
…
عند السرور الذي آساك في الحزن
وفي الديوان (تراعيه) بدل (تواسيه)
ورواية العقد في البيت الأول هي:
وإن أولي الموالي أن تواسيه
…
عند السرور لمن واساك في الحزن
برهان الدين الداغستاني