الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 475
- بتاريخ: 10 - 08 - 1942
سفارة (الرسالة)
للأستاذ عباس محمود العقاد
أعجلني السفر - وابتغاء القرار بعد السفر - أن أكتب إلى الرسالة في موعد كتابتي إليها. وقد فاتني أن أكتب إليها، ولم يفتني أن أذكرها؛ فليس بيدي ذلك وكل من لقيت مذكري بها، حتى في وعثاء الطريق.
برح القطار القاهرة، فلم يمض غير قليل حتى أثار علينا من العثير ما يملأ الخياشيم ويوشك أن يملأ الصدور؛ ووجدتني مرة أخرى في حياتي أوازن بين منفذ مفتوح وغبار ثائر، وبين منافذ مغلقة وجو رائق. ولا صعوبة في الموازنة إذا كان الجو الذي يثور فيه الغبار جو تفكير وشعور وارتياء، فالغبار الثائر هنا أرحم وأدنى إلى الاختيار.
ولا صعوبة في الموازنة كذلك إذا كان الجو الذي يثور فيه الغبار جو خياشيم وصدور؛ فالجو الرائق هنا هو الأرحم والأدنى إلى الاختيار، وإن ضاقت الصدور بالحر والحرج؛ فضيق الصدور في الواقع أهون من ضيق الصدور في المجاز.
أغلقت النافذة واسترسلت في نسق من هذا التفكير أدرى كيف بدأ ولا أدري كيف أنتهى، لأنني ختمته في عالم الأحلام، ونمت والضجة من حولي وقد كان النوم عصياً ومن حولي السكينة والقرار.
ثم مضى القطار لا أسأله أين مضى ولا يسألني أين مضيت؛ حتى أشرقت الشمس على معالم الإقليم القنائي الذي يصح أن أعيد فيه ما قاله أبن الرومي:
فإذا تمثل في الضمير رأيته
…
وعليه أغصان الشباب تميد
لأنني قضيت فيه أوائل عهدي بالخدمة الحكومية، ولبثت فيه زمناً أنتظر التثبيت فيحول بيني وبينه عيب واحد يا له من عيب! وهو أنني دون الثامنة عشرة بسنتين.
وأطلت أنظر الثامنة عشرة التي انتظرتها هنالك فترة من تينك السنتين، وأطلت النظر في مكاني. وحسبني بعض الرفقاء في القطار: هل من خدمة؟ ثم أسرع قائلاً: لا تؤاخذني أن أتطفل عليك بالسؤال فإنني لست بمتطفل في الحقيقة! لأنني أعرفك منذ عهد بعيد: ألست فلاناً؟ إنني ليسرني يا سيدي أن أؤدي لك بعض الخدمة التي أستطيعها، فهي دَينٌ لك علينا أجمعين.
قلت: يخيل إلي أنني أنا أيضاً أعرفك. ألست من برقة؟
قلت ذلك لأنني علمت أن في القطار نخبة من سراة برقة وأدبائها، وعرفت بلده من لهجته التي يسهر تمييزها بين لهجات مغربية عديدة لطول ما تحدثت إلى أبنائها في الصحراء.
فقال: نعم!
وبدأ الحديث في الأدب
وعطف بعد هنيهات إلى الرسالة وموضوعاتها وكتابها، فإذا صاحبي ملم بأدب مصر في هذا العصر إلماماً يندر بين شبان من المصريين. ولحق به أصحاب من قومه يكبرونه سناً ويشبهونه كياسة وأدباً، فإذا هم ملمون بشئون مصر العامة أحسن إلمام يتاح لغريب عنها، وإن كان اهتمامهم بالقادة والرؤساء أوفر من اهتمامهم بالكتاب والشعراء.
وإذا في برقة وطرابلس أحزاب لأدباء مصر وأحزاب لقادتها السياسيين، ومساجلات وفكاهات لا نسمع بمثلها في مصر، وهي أحق شيء أن نستمع إليه.
ولم أشأ أن يكون الحديث كله عن مصر وأدبائها، فسألته عن برقة وأدبائها، وما فيها من شعائر الحركة الأدبية، ولا سيما بعد احتلالها.
فراعني أن أسمع شعراً حسناً ينضج بالشاعرية المطبوعة، ويجري في صيغة عربية سائغة، وما سمعت بأسماء قائليه قبل ذاك وإنهم لأولى بالذكر من كثيرين.
أنشدني قصائد شتى لشاعرهم رفيق المهدوي، فاستزدته وقلت له: إنكم لعلى حق أن تفخروا به وأن تذكروه باسم (شاعرنا) كلما ذكرتموه، فرب قصيدة من هذه القصائد التي سمعتها هي أنفع في التعريف بكم والإصغاء إلى قضيتكم من دعاية الساسة الذين يجهلون الدعوة ولا يوجهونها إلى أحسن الأسماع وأصدق القلوب.
ومما أنشدنيه له قصيدة على وزن جديد يقرب من الوزن الذي اختاره الزهاوي لقصيدته:
ويلا يا ويلا!
…
ما أقوى السيلا
ليلى سلَّيني
…
سليني ليلى!
فقال في وصف الشاعر:
كالنحلة في الروضة تعبث بالنوار
إن رفرف كالواقف أو حوَّم أو طار
لا يقنع بالورد ولا زهر النسرين
فيميل من السرو إلى شجر المرسلين
كالظامئ يتلهف واظَمَأ المسكين!
لم يرو صدى الغلة من نُطفِ الأزهار
ما لاح له زهر إلا وتمناه!
كم صادف ما يحذر من خادع مرآه
(يحذَره حيناً ويعود فيهواه)
قل واهاً للشاعر من واه محتار!
كالنحلة في الروضة تعبث بالنوار
وأنشدني أبياتاً له فيها مداعبة وشكاية، وقد نفي من وطنه وكتب إلى بعض أخواته:
بعد السلام وتقديم احتراماتي
…
أهديك يا سيدي موسى تحياتي
إلى أن يقول:
والله ما باختياري أن أفارقه
…
لو لم ينغصه حكم الظالم العاتي
فارقت موطن آبائي على مضض
…
مما تجرعت من هم وويلات
تأثرتني عيون القوم ترصدني
…
تحصي خطاي فتحصيها خطيئاتي
وما جنيت سوى إنكار منكرهم
…
بمذودي فتغالوا في معاداتي!
وظل ينشدني للمهدوي وزملائه وأستزيده، لأعرف ليبيا حقاً، وقد عرفتها حقاً، وقلت لأصحابي: إن ليبيا حية وفيها من يعبر عنها هذا التعبير. فاستوصوا بشعرائكم خيراً، فأنهم لأدل عليكم وعلى قضيتكم من جميع ما عرفناه عنكم
وعبر القطار بأسوان عاجلاً، فإن كنت قد أطلت النظر عند (قنا) لأرى الثامنة عشرة وما دونها، فقد أطلت النظر إلى أرباض (أسوان) لأرى السادسة والخامسة وما دونهما. . . فرأيت حتى استوفيت.
وتبيت الباخرة على النيل بين الشلال وحلفا ليلتين.
ففي تينك الليلتين كان السمر إلى هزيع من الليل عربياً في كل فن من فنونه، فما أحسب أن أمراً يهم العرب قاطبة قد تركناه في سمرنا فلم نعرج عليه ولم نطل الوقوف عنده.
ولم يرعنا مما ينغصنا إلا صوت طفل صغير من الليبيين يتكلم الإيطالية، لأنهم فرضوها على الصغار وأبعدوا ما بينهم وبين التمكن من العربية بمسافات وآفاق.
فعدنا إلى حياة اللغة العربية، وإلى مهمة أدباء العرب وصحافة العرب، ولا سيما الصحافة الأدبية.
ثم وصلنا إلى ما قبل حلفا وانتظرنا في الباخرة إنجاز مراسم الدخول والحيطة الصحية. فإني لأنظر من باب المقصورة إلى النيل إذ أقبل نفر من الفتيان الذين يلوح عليهم أنهم طلبة وموظفون. فسألوني: أأنت فلان؟ قلت: نعم. كيف عرفتم؟ فابتسموا وقالوا: لا تؤاخذنا إن قلنا من صور المجلات، ولا سيما الفكاهية!
قلت: يا أصحابي إن هذا لا يرضيني أو لا (يملقني) كما يقول الأوربيون. . . أو ترون الشبه قريباً بيني وبين تلك الصور إلى هذا الحد؟ قال قائل من الواقفين حولنا ليرضيني أو يملقني على حسب ذلك التعبير: بل هي مبالغة الرسامين في بعض معارف وجهك المميزة لك قد دلتهم عليك.
وما هو إلا أن فرغنا من شأن الباخرة وانتقلنا لقضاء الليل في مركبة القطار حتى كان أول حديث طرقه هؤلاء الفتيان ومن صحبهم بعد ذلك حديث الرسالة وآخر المساجلات الأدبية فيها. وبدأ لي في الخرطوم كذلك أن هذه المساجلات تعقد حولها حلقات مختلفات من المتشيعين لهذا الفريق أو لذاك، وبدا لي منذ أول الطريق أن أدباء ليبيا والأقطار العربية والسودان يأخذون علينا أنهم يعرفوننا ولا نعرفهم، ويتتبعون أخبارنا ولا نتتبع أخبارهم، وأن الأديب منهم يستطيع أن يحدثنا عن جميع كتابنا وشعرائنا ولا يستطيع أحد منا أن يحدثهم عن كتابهم وشعرائهم، وإن كانوا جدراء بالحديث.
وهذا كله صحيح ولكن السبب الذي يردونه إليه غير صحيح؛ فالمصريون لا يفوتهم ما يفوتهم من أدب ليبيا والأقطار العربية والسودان لأن اهتمامهم بالعرب أقل من اهتمام العرب بمصر، كلا وأقولها عن يقين، وإنما يفوتهم ما فاتهم لأن صحف مصر تصل إلى كل مكان في بلاد العربية، ولا يصل إلى مصر من صحف تلك البلاد إلا القليل.
ويخطر لي في هذا الصدد أن صديقنا الأستاذ الزيات قد فكر في تخصيص أعداد لكل أمة من أمم الضاد يحيط فيها بشئون تلك الأمة أدباً وثقافة ومرافق أخرى؛ فإذا مضى في تحقيق
تلك الفكرة فقد أتم سفارة الرسالة فأصبحت لها السفارة المزدوجة بين مصر وجاراتها وأخواتها، فتسفر للمصريين عندهم، وتسفر لهم عند المصريين، وتعمل في وحدة العرب ما لا يرجى أن تعمله السياسة، لأنها تفرق ولا تؤلف، وتلتوي ولا تستقيم.
هذا بعض حديث تلك (السفارة) في رحلة عاجلة بين القاهرة والخرطوم. ولو شئت لطال وطال، لأنه حديث موصول يتجدد كل أسبوع، بل كل يوم اجتمع فيه ندى من القراء والأدباء، وهم يجتمعون هنا عامة الأيام.
لكني أختمه الآن بما لا يخرج عنه من مساجلات الرسالة أيضاً؛ فقد سئلت هنا رأيي في مناقشات بعضهم لي حول رسالة الغفران وصداقات الأدباء.
فأما رسالة الغفران والشبه في محاوراتها بين ما كتبه أبو العلاء وكتبه لوسيان فلست أنوي أن أعود إليه وقد أغناني عن العودة إليه ما كتبه الأديب الجبلاوي حين سأل المعترض أن يذكر أحداً غير لوسيان تقدم المعري بذلك الحوار. أما رحلات الجنة والنار فنحن قبل عشرين سنة قد ذكرنا وأكدنا إنها ليست بالشيء الجديد.
وأما صداقات الأدباء فالمناقشات فيها أعجب وأطرب! نحن نأخذ على الأستاذ الحكيم أن يضرب لنا المثل بصداقات الأدباء في أوربا لأنها لا تخلو من العلات، فيجيئنا من يعترض فلا يكون اعتراضه إلا تكريراً لما قلناه، وهو أن صداقات الأدباء الأوربيين ليست على المثال الذي تصوره الأستاذ الحكيم!
وأعجب من هذا وأطرب أن نشير إلى صداقات الأدباء في إنجلترا ونذكر بيرون وشيلي فيكون الاعتراض أنهما لم يتقابلا في إنجلترا بل تقابلا في إيطاليا. . . فهما إذاً قد أصبحا من أدباء الأمة الإيطالية وخرجا من عداد الأدباء في الأمة الإنجليزية!
مثل هذا المحال لا نرد عليه، ولا ننوي بعد اليوم أن نرد عليه. وحسبنا أننا لم نلق من قارئ هنا إلا وقد رد على ذلك الاعتراض بالإعراض.
الخرطوم
عباس محمود العقاد
شبان اليوم الجديد في مصر المحروسة
للدكتور زكي مبارك
من عادة المربين والمصلحين أن يكثروا من اللوم والتثريب على أبناء الجيل الجديد، ليصوروا عيوبهم تصويراً يخوفهم عواقب التهاون والتفريط في حقوق الأدب والأخلاق
وتلك وسيلة صحيحة من وسائل التهذيب ورثناها عن الأسلاف، ولا بأس بالاعتماد عليها من حين إلى حين، إذا سلكنا في الدعوة إلى الأدب والأخلاق مسلك الترهيب، وهو مسلك مطروق منذ أجيال طوال
ولكن التجارب علمتني أن الترغيب أنفع من الترهيب، ومن تلك التجارب عرفت أن التنبيه إلى القوى الغافية في صدور الشبان قد يدلهم على حقائق أنفسهم فينقلهم من حال إلى أحوال
والحق أن الشاب المصري خلق ليكون رجلاً عظيماً، ومهما أسرفنا في سوء الظن بشبان مصر، فمن المؤكد أنهم بالإضافة إلى أمثالهم في الشرق والغرب أفضل وأشرف، ومن النادر أن تجد شاباً مصرياً بلا آمال تضيفه إلى أكابر الرجال، ولذلك شواهد يعرفها من يتصل بشبان (مصر) عن طريق الصحافة أو التأليف أو التدريس
الشاب المصري يبحث في كل لحظة عمن يدله إلى طريق المجد، ولو نشرت الصحف إعلاناً عن كتابين يختص أحدهما بوصف حياة الهزل والمجانة، ويختص ثانيهما بوصف حياة الجد والرصانة، لكان الكتاب الثاني هو الكتاب المنشود، لأن شبان هذه البلاد مفطورون على احترام الأدب السليم من شوائب الأمراض
وآية ذلك أن الذاتية الأدبية تجد أنصاراً من الشبان في كل وقت، وهم يتحمسون لها تحمساً لا يخطر في البال، وقد يتسامعون بمقالة جيدة، فيجدون في البحث عنها جداً يشهد بأنهم من أكابر أهل الأذواق والعقول
أكتب هذا وقد فاضت عيناي بالدمع حين تلقيت خطابات كريمة تصور فرح الشبان بالحديث عن أمجاد مصر المحروسة في القديم والحديث، وهم شبان كان التاريخ المغرض حدثهم أن مجد مصر ليس إلا أسطورة من أساطير الأولين
وآه ثم آه من التزوير في التاريخ!!
يا بني الأعزاء، تذكروا - غير مأمورين - ثم تذكروا. . .
ومن حبات دمعي أنظم عقد الحديث فأقول:
في جميع الكنائس بالشرق والغرب تجدون صورة (العذراء) تحتضن (المسيح) وهو صبي في المهد، فهل تعرفون كيف عللت تلك الصورة الرمزية؟
عللتها منذ أعوام بأنها تصوير لحنان الأمومة الرقيقة، وجاز عندي القول بأن النصارى من اليونان هم المبدعون لذلك الرمز الدقيق. وهل ينكر أحد فضل البراعة اليونانية على الديانة المسيحية؟
لا جدال في أن من ابتكر صورة المسيح تحتضنه العذراء كان أعظم مبتكر في تاريخ الأخلاق. ولا جدال في أن تلك الصورة كان لها تأثير عظيم في عطف الآباء على الأبناء. ولا جدال في أن تلك الصورة لم تعرف قبل ميلاد المسيح، وقبل أن تتصل مأساته بتاريخ اليونان والرومان، كما كنت أقول، وكما كان يجب أن سأقول، لو طال جهلي إلى آخر الزمان!
ولكن الله لطيف بعباده، أراد أن يطب لجهلي برفق ولطف، لأني طالب علم، وطالب العلم لا يخطئه التوفيق!
فكيف اهتديت بعد ضلال؟
رأيت صورة في الجزء الثاني من (التاريخ المصري القديم) لأخي وصديقي، وصاحب الفضل الأعظم على أدبي وبياني، عبد القادر حمزة باشا، وهي صورة تغافل عنها عامداً متعمداً، لانتفع بمغزاها بعد أن يموت، وكان يعرف أني لن أرثه إلا بالفكر والروح، وذلك أشرف المواريث
عبد القادر الوفي أراد أن يمنحني فرصة من فرص التحليق في سماء الفكر والخيال، فأثبت في الجزء الثاني من كتابه صورة أعفاها من التفسير والتأويل، عن علم لا عن جهل، لأقول فيها ما أشاء.
فما تلك الصورة الرمزية؟
هي صورة (إيزيس) وهي ترضع أبنها (حوديس)
وإذا عرفنا أن عبادة إيزيس كانت عقيدة اليونان والألمان والطليان والأسبان والفرنسيس
والإنجليز أكثر من خمسة قرون أدركنا أن صورة (العذراء) وهي تحتضن (المسيح) ليست إلا صورة (إيزيس) وهي ترضع (حوريس)
وإذن؟
وإذن تكون مصر هي التي أبدعت فكرة الأمومة في الصور المسيحية. ثم؟
ثم تكون مصر صاحبة الفضل على ما أبدعت صور العذراء من فنون.
عبد القادر لم يلتفت إلى الصورة التي وضعها في الجزء الثاني من كتابه النفيس، لأن الموت صرفه عما يريد أن يقول، أو لأنه أراد أن يترك تفسير المراد من تلك الصورة لأحد أصدقائه الأعزاء
والنتيجة أنه لا توجد صورة للعذراء في شرق أو في غرب إلا وهي مستوحاة من صورة إيزيس وهي ترضع حوريس.
ألم أقل لكم إن مصر هي وطن المعاني؟
من كان يصدق أن مصر هي الوطن الأصيل للصورة التي يخضع لصولتها الفرنسيس والإنجليز والأسبان والطليان والألمان؟
لم يكفر أحد بأقبح مما كفر المصريون، ولم يؤمن أحد بأوثق مما آمن المصريون، لأن مصر هي غاية الغايات في التعصب للكفر والإيمان.
وهل كفرت مصر في أيامها الخوالي حتى نجعل الكفران طوراً من أطوارها في التاريخ؟
إن القول بتعدد الآلهة كان في إحدى مراحل الإنسانية صورة من صور الهداية، وهو لم يصدر عن عناد، وإنما صدر عن يقين، ولله حكمة عالية في تنشئة الإفهام على نظام تنشئة الأبدان. فهو يسمو بها رويداً رويداً بترفق وتلطف، إلى أن تقوى وتستحصد، ثم يتركها لتصارع وتجالد في ميادين الزيغ والارتياب.
وتاريخ مصر يشهد بأنها فطرت على إيثار الجد في تناول المعاني، فكانت في عصر الوثنية أعظم أمم الوثنية، وكانت في عهد النصرانية أول أمة أرخت بمصارع الشهداء، فلما هداها الله إلى الإسلام كانت الحافظة الواعية للأمجاد العربية والإسلامية، ولو قال قائل بأن مصر هي التي وقت العروبة والإسلام من تطاول الغرب وتخاذل الشرق لكان أصدق الصادقين.
اسألوا العلم قبل أن تسألوا التاريخ يحدثكم أن ضياء الشمس في مصر لا نظير له في أي أرض، حتى قيل أنه السبب الأول في كثرة أمراض العيون بهذه البلاد. واسألوا العلم أيضاً يحدثكم أن الخصب في أرض مصر يفعل بأهلها ما لا يفعل الجدب، لأن أبناءها يموتون بالبطنة، على حين يموت غيرهم بالجوع.
فما قولكم في أمة لا تعاني غير كثرة الزاد وقوة الضياء؟
أكتب هذه الفقرة من هذا المقال في منتصف الساعة الخامسة من صباح اليوم الثلاثين من يولية، بعد قضاء نحو ساعتين تحت أزيز الطيارات وضجيج المدافع، وكان القمر - القمر المصري - يغمر الليل بنور وهاج يسمح بنظم الخيط في الإبرة بلا عناء.
أنا لا أبالغ، فقد بدا لي أن أجرب ذلك في قمر هذه الليلة، ولم أفهم كيف تحرم وزارة الوقاية إضاءة المصابيح وقت الغارات في الليالي المقمرات، وهي تعلم أن اللئام المغيرين يهديهم القمر بأقوى مما تهديهم المصابيح؟
وهذا الطيران الذي يهدد مصر بوقاحة ونذالة وسفاهة هو نفسه والطيران المدين أثقل الدين لجو هذه البلاد.
هل نسيتم ما حدثتكم به على صفحات الرسالة قبل عامين؟ كنت حدثتكم أن الطائر المصري المسمى بالحدأة - وهو طير جارح لا ينجبه غير جو مصر، وإن وجد بقلة في بعض الديار الشامية - كنت حدثتكم أن الحدأة هي المعلم الأول لعلم الطيران، وبها استهدى (مويار) المسكين، الذي ظل على سرير الموت ثلاث أيام بإحدى الغرف السطحية في شارع الموسكي بالقاهرة، ولا أنيس لجسمه الميت غير أسراب من الحدأة تراوحه وتغاديه في حسرة والتياع، إلى أن تنبه لموته الجيران
في ليلتي هذه عانت (مصر الجديدة) من صراع الطيارات المغيرة والمدافعة ما عانت، مع أن مصر الجديدة هي الوطن لتمثال مويار، مويار الذي نقل عن (الحدأة المصرية) علم الطيران
فيا رب الأرباب، ما الذي بقى مما طويت عن أوربا من أعاصير الغدر والعقوق؟
إن الأمم الأوربية تحترم حياد الديار السويسرية، فهل تعرفون لأي سبب يحترم ذلك الحياد، في تلك البلاد؟
هل كانت سويسرا مهد موسى أو عيسى أو محمد؟ هل نشأ فيها بوذا أو كونفشيوس؟ هل كانت ملاذ آدم حين هبط الأرض؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما يحترم زعماء أوربا حياد سويسرا لتكون تلك الديار خزائن أمينة لما يدخرون من نفائس الأموال، فهم يتضامنون تضامن الجشع لا تضامن الوفاء
فما ضرهم لو أعفوا مصر من صيال الطيارات، لأنها الوطن الذي أنجب علم الطيران؟
ما ضرهم لو تذكروا دين مصر في أعناقهم، وهي أول أمة وضعت التقويم الشمسي، فعلمت أمم الأرض مواعيد الزرع والحصاد؟
ما ضرهم لو تذكروا أن الفلاحين الذين سخروا لحفر قناة السويس ملئوا جيوب الأوربيين بالملايين والبلايين من قطع الذهب الفتان؟
ما ضرهم لو تذكروا أننا ما بغينا عليهم، وأن الفضل يرجع إلينا في نقد علومهم وآدابهم إلى أقطار الشرق؟
ما ضرهم لو تذكروا أن اليونان الذين علموهم لم يكونوا إلا تلاميذ المصريين؟ وما ضرهم لو تذكروا أنهم لم يفكروا في تخليد عظيم من عظمائهم إلا بوحي من علم قدماء المصريين؟
سويسرا تتمتع بالحياد الدائم، لأنها مستودع ذخائرهم وكنوزهم، أما مصر فليس لها في أذهانهم غير الصور التاريخية، والويل كل الويل لمن يكتفي بمجد التاريخ!
ولكن مصر، لو عقلوا، صاحبة الفضل على أبنائهم في العصر الحديث؛ فقد أغنت منهم الألوف وألوف الألوف، والضيم المخوف على مصر لن يعفي أولئك الأبناء، ولن تصاب مصر بأعنف مما يصابون، فليجرب الأوربيون حظهم في اضطهاد هذه البلاد، ليروا أن مآلهم إلى الخسران
هل تذكرون قصة (هيس) أحد زعماء الألمان؟
كان أول من فكر في الصلح بطريقة جدية فامتطى طيارته من أرض الألمان إلى أرض البريطان، ليتفاهم مع صديق له هناك، ثم شاء الحزم الإنجليزي أن يحتاط فأوثقه بالقيود لئلا يكون في دعوته من المحتالين
فكيف نشأت فكرة الصلح عند (هيس)؟
تلك فكرة نقلها عن الروح المصري، وقد ولد في مصر، ونشأ في مصر، محوطاً بالرعاية
من جيرانه المسلمين، ولعله حفظ الآية التي تقول:(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) فكان من أخباره في الاصطدام بالأثرة الأوربية ما كان. وسنعرف جلية هذا الخبر بعد زمن قصير أو طويل؛ ولكن المؤكد أن نشأة هيس في مصر التي فرضت عليه الشوق إلى الصفاء
أما بعد فأين أنا مما أريد أن أقول؟
هذا مقال غيرت عنوانه مرتين، فقد كتبت شطره الأول في صدر الليل، وكتبت شطره الثاني حين كانت (نجمة الفجر) توهمني أنها مصباح أرسلته الطائرات المغيرة لاستكشاف ضمير العداء
وكان لي مع نجمة الفجر تاريخ سجله (الموال) المعروف:
يا نجمة الفجر طُلِّي وارجعي روحي
…
وسلِّمي لي على اللِّي عندهم روحي
كنت أراعي نجمة الفجر بسبب الحب، فصرت أراعيها بسبب الحرب، وإن شقائي ليتمرد كلما تذكرت أن موقفي موقف المشاهدين لا موقف المحاربين
ليس في نيتي أن أمحو حرفاً من هذا المقال، لأني لا أريد أن ارجع إليه بالتغيير والتبديل، فكيف كان البدء حتى ينسجم مع الختام؟
لعلني قلت إن صورة إيزيس وهي ترضع حوريس هي التي أوحت صورة العذراء وهي تحتضن المسيح. ولعلني قلت إن مصر وجهت العالم كله إلى فنون من معاني العظمة والخلود. ولعلني قلت إنها هدت بني آدم إلى فكرة الطيران في سماء الواقع بعد أن هدتهم إلى الطيران في سماء الخيال
وطني!
أنت كما أعرف، وفوق ما أعرف، ولو أن الله لم يبدع خلقاً سواك لكنت وحدك الآية الباقية على أنه الخلاق الوهاب
وطني!
في سبيل الظفر بآلائك ولألائك سهرت عيون وشقيت عقول، فكيف أمن عليك بليلة لم يكن فيها سهد عيني وجهد عقلي، إلا هتافاً بمجدك في حاضرك وماضيك، يا آية الله في هذا الوجود
وطني!
أنا أسبح لله الذي أنشأك على خير مثال، فكانت فيك الخصائص الأصيلة لجميع الأوطان، من أنهار وبحار وصحراوات ومن آلام وأمال
وطني!
قال العلماء إنك اختصصت بالسمك المدرع بالكهرباء، فهل يقولون أيضاً إنك اختصصت بالقلب المدرع بالوفاء
زكي مبارك
سيكولوجية إدلر
تلخيص وتبسيط
للأستاذ محمد أديب العامري
نظرة عامة
يرى الفرد إدلر أن اتصال الإنسان - ذكراً كان أو أنثى - بالحياة والناس يقوم على دعائم ثلاث: العمل والحب والعلاقة الاجتماعية. هذه عنده هي وظائف الفرد في الحياة؛ فإذا كان الفرد مطمئناً فيها جميعاً كان إنساناً سوياً هانئاً، وإلا فإنه لا ينجو حين تنقصه الحياة إحدى هذه الصفات الثلاث من أن يكون هدفاً لانحراف عصبي.
ولإدلر نظرية قائمة بذاتها في علم النفس مركزها فكرة (النقص). ويظهر من تجارب الناس في الحياة أن فلسفة إدلر النفسية تقوم على شيء من الصحة، إن لم تقم على الصحة كلها، بالرغم من النزاع العنيف بين أتباعه وأتباع فرويد.
ونظرية إدلر الأساسية في علم النفس بسيطة. وقد وضعها هو في عبارات وشروح سهلة تجعل كثيرين ينظرون إليها مرتابين أول الأمر، خشية أن تكون هذه الفكرة قولاً عادياً لا طائل وراءه. والذي قرب نظرية إدلر من الأذهان أمران: أولهما نزعته العنيفة إلى التبسيط، وثانيهما طواعية أمثلة كثيرة من الحياة لتكون شواهد عليها، وشعور كل إنسان بشيء منها في نفسه. والنظرية تؤول بعد إلى دعوة إصلاحية عامة ذات مساس شديد بمصالح الناس وهنائهم. ولا عجب في ذلك فإدلر يعتقد مع وليم جيمس (أن العلم الحقيقي ليس إلا العلم الذي يتصل بالحياة اتصالاً مباشراً).
وفلسفة إدلر في علم النفس تدعى (السيكولوجية الفردية). وهو يذكر أن هذه السيكولوجية إنما نتجت معه من دراسته لدوافع الحياة الخلاقة، أي الدوافع الخفية التي تحدو بالأحياء إلى الرقي والتطور، بالرغم من أي عائق يعوقها. ولذلك يرى أن الكائن البشري وحدة تستهدف غرضاً معيناً في اندفاعها نحو الرقي والتكامل. إن للنفس البشرية طابعاً خاصاً يتكون في الصغر. والنفس تحب أن تتكامل فتسد ما بها من نقص أو تندفع إلى الأمام نحو هدف ثابت للرقي.
وإدلر قد لاحظ أن الجسم البشري تتساند جميع أعضائه لتحفظ الجسم وتسعده. بل هو يلاحظ أن أجزاء الجسم تحاول أن تسد أي نقص يطرأ عليه. فالجسم يجرح مثلاً فتعمل سائر أعضائه على تغذية المكان المجروح ووقايته حتى يلتئم ويذهب الألم والتشويه الناتجان من ذلك: (الحياة تحاول دائماً أن تستمر، وقوى الحياة لا تخضع قط لأي عائق من الخارج يحول دون استمرارها من غير أن تجهد نفسها في التغلب عليه. وأن حركة النفس لشبيهة بحركة الحياة العضوية)
وهذا معناه أن النفس البشرية كذلك تتعاون أجزاؤها في سبيل إسعاد النفس كلها ودفعها إلى الأمام في طريق السمو. فالنفس البشرية لها هدف أو مثل أعلى، وهي تحاول أن تتخطى الحالة التي تكون عليها. فلو كانت منقوصة حاولت أجزاؤها الأخرى أن تسد النقص. أما هذا الهدف فإنه يتكون في أول عهد الطفولة الباكر في السنوات الأربع أو الخمس الأولى من حياة الطفل. ويتركز الهدف الذي تستهدفه النفس حول نقص تحس به من جراء عضو مفقود أو مشوه. فالطفل ينقصه هذا وهدفه الذي تستهدفه نفسه من جراء هذا النقص يكون وحدة كاملة يسميها إدلر (النموذج الأول). . - وهذا النموذج الأول للطفل يظل هو في أساسه لا يتغير مدى حياة الطفل، وإنما يمكن تعديله وتوجيهه وجهات حسنة، وهذه هي فائدة السيكولوجية الفردية. وخير وقت لهذا التعديل والتوجيه هو في فترة العمر الباكرة، التي يتكون أثناءها النموذج الأول
وليس من الضروري أن يتشكل الشعور بالنقص من جراء فقدان عضو أو تشوهه، ولكن حرمان الطفل من مميزات الحياة، وخاصة بالنسبة إلى غيره من الناس، يولد فيه الشعور بالنقص. فالتربية الناعمة المرهفة (المدللة) للطفل التي تحفه بعناية زائدة لا حاجة إليها، أو الكره الشديد الذي يحس معه الطفل حرج مركزه بالنسبة إلى غيره، هي من الأمور التي تزرع فيه الشعور بالنقص من ناحية أخرى. إن الطفل المدلل يتعود الاعتماد على أهله، فإذا نما لم يستطع مقابلة الحياة، وإنما يطلبها على الشكل الذي كان يطالب به أهله وهو صغير؛ وبالطبع لا يجد من الحياة التلبية التي كان يجدها من أهله، فتتغلب عليه الحياة وتهزمه، وينحرف بذلك إلى نواحي الحياة الضارة. فالحياء الشديد، والادعاء، والقعود عن العمل، والإجرام، والجنون والإدمان على الخمر. . . الخ: هي مظاهر مما تؤول إليه حالة
الطفل إذا نشأ غير سوي، واستولى عليه شعور بالنقص
وعندما يلخص إدلر نظريته يقول: (لا مندوحة من الاعتراف بأن طريقة السيكولوجية الفردية تبدأ وتنتهي بمشكلة النقص. . . فالنقص هو أساس الجهاد البشري والنجاح. غير أن الشعور بالنقص هو أساس جميع مشاكلنا النفسية. إن الفرد لم يجد هدفاً من الرفعة تعرض لشعوره بالنقص، وهذا الشعور يقوده إلى مخرج يخلصه من مواجهة الحياة، هذا المخرج هو الذي يدعى (مركب العظمة)؛ ولا يزيد هذا المركب عن كونه هدفاً عابثاً غير مفيد، يوهم بالرضا الذي يناله الإنسان من نجاح خيالي. . .)
وما دام الشعور بالنقص هذا هو أول ما تنحل إليه نظرية إدلر النفسية وآخره، فجدير بنا أن نبحث هذا الشعور بشيء من التفصيل:
الشعور بالنقص
فكما قد أسلفنا من قبل يبدأ الشعور بالنقص في الطفل من نقص أو ضعف في التركيب الجسماني، ومن الحرمان النفسي مهما كان نوعه. ويتوقف نوع الشعور على نوع الضعف أو على نوع الحرمان. ويشمل ذلك عوامل البيئة التي نشأ فيها الطفل، وخاصة طبائع الوالدين والناس المحيطين به وجميع الذين يؤثرون في تربيته أو الوضع الاقتصادي الذي ينشاً فيه
ومن البين المهم أن الطفل لا يقوى على العيش وحده حين يولد، ولذلك كان لا مناص له من أن يعتمد على غيره - عائلته - في مطلع حياته
واعتماده هو مبدأ إحساسه بالحاجة إلى غيره. وهذا الإحساس يستمر معه في الحياة؛ فمتى كبر وأضحى مستقلاً كان موضعه بالنسبة إلى المجتمع كما كان موضعه بالنسبة إلى عائلته وهو صغير؛ وبعبارة أخرى تنتقل حاجة الفرد إلى جماعة أكبر. ومن هنا يشعر الكبير بحاجة إلى الناس. وشعوره بالنقص يحمله على مواصلة العلاقة بالمجتمع. (فمبدأ الحياة الاجتماعية)، كما يقول إدلر (هو ضعف الفرد؛ واستمرار ضعفه بالنسبة للمجتمع يلزمه أن يكون اجتماعياً). وهذه الملاحظة مهمة من ناحيتين: أولاهما إشارتها إلى أن الإنسان اجتماعي بالطبع، والأخرى الإلماع إلى أن طمأنينة الفرد في المجتمع الذي يعيش فيه من أحق علاقات الشعور بالنقص كما سيجيء
(البقية في العدد القادم)
محمد أديب العامري
كتاب الإمتاع والمؤانسة
الجزء الثاني
للأب أنستاس ماري الكرملي
(تتمة)
وفي 85: وإن التذ بالدستنبان فلن يعد موسيقاراً؛ والصواب التذ بالدستان، والدستان أسم لكل لحن من الألحان المنسوبة إلى باربد. أما الدستنبان، فلم ترد في كلام العرب، ولا في كتب اللغة وجاء في ص 90: فإن الصانع لا يقدر على عمله الذي كان يعمله إلا أن يتخذ دكاناً آخر، وآلات جدداً أخر. وضبطت جدداً بضم ففتح. والصواب جُدُداً كعنق لأنها جميع جديد؛ لكن الذي غره هو سماعه الدائم للآية (ومن الجبال جدد بيض). فهنا جدد بضم ففتح لأنها جمع جُدّة كغرفة أي طريقة ظاهرة، وأما في نص التوحيدي فهي جمع جديد
وورد في ص 99 في الحاشية: الإسطام مسعار النار وهي الحديدة التي تسعر بها، والأحسن تحرك بها
وفي ح ص 105: هذا أوان الرطب بضم الراء؛ والصواب بضم الراء وفتح الطاء
وفي ص 110: ويجعلها (أي يجعل الأحجار) ملساء، وضبطت كحمراء؛ والصواب ملساً بضم الميم، وإسكان اللام، وفتح السين، لأن جمع أملس وملساء مذكراً ومؤنثاً ملس (راجع فساد قول القائل صخور ملساء في مجلة المجمع العلمي العربي 17: 233 و234)
وفي ص 87: الشُريان، وضبطت بضم الشين والصواب بفتحها وكسرها، لكن لا بضمها، لأن الضم غلط وفي تلك الصفحة نفسها (من الأربع)؛ والصواب الأربعة، لأن الاسطفس مذكر
وفي ص 110: فمثل النُوشاذر؛ والذي ورد في كتاب عجائب المخلوقات للقزويني المطبوع على حاشية حياة الحيوان من تأليف الدميري ص 327 النوشادر بالدال المهملة، والكلمة فارسية وهي في هذه اللغة بالدال المهملة؛ إلا أن هناك قاعدة عند المعربين أن كل دال مهملة فارسية قد تقلب ذالاً معجمة عند تعريبها، إذا سبقها حرف عليل ساكن؛ ومع ذلك فقد اشتهرت دال النوشادر بلا نقطة
وفي ص 111: القلعي (وضبطها بالتحريك) قريب من الفضة في لونه؛ وصواب الضبط بفتح القاف وإسكان اللام، كما في معجم ياقوت في مادة (القلعة)، وكما في القاموس أيضاً وتاج العروس وجميع كتب اللغة التي يعتمد عليها
وفي تلك الصفحة: والزرقة للزهرة والبياض للقمر؛ وضبطت هاء الزهرة بالسكون، إذ لا حركة عليها، وضبطت ميم القمر ورائه بالفتحة والصواب للزهرة بالضم ففتح ففتح وصوابه للقمر، بفتح القاف والميم وكسر الراء
وفي ص 158: (قال: نعم وكرامة) - والصواب: قال: نعم، حباً وكرامة. هذا هو المشهور عندنا في العراق، وعند الأدباء الحذاق. ففي القاموس في مادة (ح ب ب):
(الحب (بالضم): الجرة، أو الضخمة منها، أو الخشبات الأربع توضع عليها الجرة ذات العروتين، والكرامة: غطاء الجرة. ومنه: حُبّاً وكرامة) انتهى
وفي ص 162: (وأما البركة فهي السماء والزيادة والرفع) والصواب: والرفع بغين معجمة في الآخر، وهو السعة والخصب
وفي ص 187: (وهاأنا آخذ في نشر ما جرى) والمشهور عند الفصحاء: (وهاأنذا آخذ. . .)
7 -
أوهام الطبع والرسم
صفحةسطرخطأصوابه
تنبيهات4الجزآنالجزءان
2719يقرؤهايقرأها
294طيءطيّئ
353ملآىملأى
438مماثلةًمماثِلةً
4614العالالعالم
46: 7و 149: 12و184: 5 الرآسة: الرئاسة
483استطاعة الاستطاعة
495الشَهَويةالشَهْوية
571وضوئيوضوءي
60 قبل السطر الأخير رآى رأى
63 قبل السطر الأخير ثماني أوافي ثماني أواقيّ
7514رءوساًرؤوساً
8113ثمان سنين ثماني سنين
1165فِكَّرٌفِكَرٌ
118 و168 و194 الجزأينالجزءين
12013أسئلهأسأله
1273مسكنمسكن بكسر الكاف هو الأفصح
1272المَرّيّالمُرّيّ
130 آخر سطر وأولى بالبراعة؟؟ - لا نفهم سبب وضع علامتين للاستفهام فهذا مخالف لما وضعه أرباب الرسم الذين أوجدوه
13713الشسعرالشعر
13717و18؟! استعمل الناشران أربع مرات علامة الاستفهام والهتاف؛ والعلماء واضعو هاتين العلامتين لا يستعملونهما معاً في آخر العبارة الواحدة، بل يستعملون سمة الاستفهام مرة واحدة إذا كان ثم ما يشعر بالاستفهام؛ وسمة الهتاف إذا كان ما يشعر بالألم أو نحوه، أما استعمال العلامتين معاً في آخر العبارة الواحدة فما لم يجر على قلم كاتب أو أديب منهم
185في قلب الصفحة هذا القسط؟! لا معنى لهاتين العلامتين معاً
139في قلب الصفحة: الأخفِش: الأخفَش (بفتح الفاء)
1621وشُؤِموشُئِم
1622ومشئومومشؤوم
1663أقحَوانأقحُوان (بضم الأول والثالث)
16810باهتةمبهوتة
17621تتبيننتبين
1995أخطأ نوأها أحوى نوءها
1996من ليس في خيره شر من ليس في خيره من
1998اجلوّذ السفر اخرّوط السفر
2003لا يصعب الأمر لا يضعف الأمر
وفي ص 200 س21: (والصفر. زعموا أنها دويبة مثل الحية تكون في البطن تعتري من به شدة جوع)
كنا نود أن يقال: الصفر في زعم الأولين دويبة. . . وهو وهم منهم. والصواب أن مواد نسج الجسم الغذائية تضعف فيشعر مجموع الأعصاب بما ينتشر من ذلك الضعف في البدن كله، فتظهر الحاجة إلى ما يعوض عن ذلك الضعف
وفي ص 203 ص 9 يبدءوا والصواب يبدءوا
ومن الأغلاط الشائعة في مصر وتستحق أن يشار إليها إشارة
خصوصية، ما يأتي:
ص 23 س 18 أصواب هو أم خطأ. . . أم خطأ وزان سحاب لضد الصواب، على ما في كتب اللغة
ص 42 س 10 وبالجاذبة تجذب برفع الباء (يجزمون حيث لا موجب للجزم) والصواب تجذب برفع الباء
ص 81 س 14 بثمان سنين: بثماني سنين
ص 110 س 15 البَوْرق: البورق بضم الباء
ص 110 س 13 النوشاذر. لم ترد هذه الكلمة مضبوطة في كتب اللغة القديمة كاللسان والقاموس، ولا في تاج العروس مع حداثته، لكن الزمخشري ذكرها مضبوطة ضبطاً تاماً محكماً في كتاب مقدمة الأدب في ص 59 س 19 ووزن نوشاذر فوعالل الذي هو مد فعالل كجلاهق وعجاهن وسرادق. وليس في العربية فعالل بفتح ما قبل الآخر، ولهذا نستغرب ضبط نوشاذر بفتح الذال، إذ لا مثال له ولا لنشاذر، فضبط الأديبين الضبط الذي اعتمداه لا يدل على وقوفهما على أسرار العربية. زد على ذلك أنه ليس بالضبط الفارسي كما يتصوره القارئ.
8 -
مقابلة النص ومعارضته بما جاء منه في الكتب المنشورة
كنا نود أن نذكر في ختام هذه الكلمة معارضة نص هذا الكتاب المنشور حديثاً بما ورد مطبوعاً من الكتب التي صنفها الأقدمون، ممن كان في عصر المؤلف أو جاء بعده، فرأينا أن ما جاء مثبتاً في هذه النسخة من الزيادات، وبعض الأحيان من الحذف والنقص، ومعارضتها بعضها ببعض ينشئ في صدور القراء مللاً وضجراً، فعدلنا عن هذا القصد إلى الإشارة بمراجعة كتاب ابن القفطي في كلامه على مؤلفي كتاب إخوان الصفاء في ص 82 من طبعة الإفرنج؛ ثم مراجعة ديوان الأعشيين طبع أوربة في ص 198، ليتأكد القارئ أنه كان من اقدس الواجبات على الناشرين أن يراجعا هذين السفرين وغيرهما من المطبوعات، وإلا فعملهما هذا جاء خداجاً، ويحتاج إلى إعادة النظر في ما طبعاه، ومقابلته بما ذكرناه لهما
وعلى كل، فإننا نشكرهما كل الشكر على ما قاما به من إخراج هذه الدرة الثمينة من مكمنها، وعرضها على الناطقين بالضاد بهذه الحلي البديعة، والوشي الجاذب للأنظار، والمشوَّق لاقتنائه، ووضعه في مصف كنوز الأقدمين، ورفع منزلتهم بين علماء الأقوام المختلفة وكتابهم العظماء، ومصنفيهم البلغاء.
ونحن نتوقع أن يكون طبع المجلد الثالث بعناية أعظم وتحقيق بالغ أقصى المنى، ومنه تعالى التوفيق
(بغداد)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
شجون ودروس.
. .
للأستاذ إسماعيل حمدي
في مطلع العدد 471 من (الرسالة) العزيزة، وفي (شجون) قريعها الدَّارع الدكتور زكي مبارك، درس قيَّم تفضل به على من كتب في (اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث) وأحب الدكتور أن يكون في هذا الدرس على إيجازه بلاغ لمن يتورط في الكتابة والنشر وهو مفتقر إلى محض سلامة النظر، فضلاً عن قوتها وحدتها واستوائها جميعاً
والدكتور رغم كفاية الفطنة والخبرة لديه من طول (ما ابتلى بزمانه وأهل زمانه) لا يزال - بمعجزةٍ ما - يطمع في أن يعترف متورطٌ بتورطه، أو يتعلم مخطئ من خطئه، وخاصة في هذه الديار!
لا يا سيدي، عد إلى آلاف العقائد التي لا تستطيع أن تحصيها. . . آلاف العقائد التي كونتها ولا ريب عن الناس منذ احتككت بهم، وعالجت من حقهم وباطلهم، ورشدهم وسفههم، فأنت واجد فيها ما يردك إلى اليأس المطلق من هذا الطمع الذي طمعت، إلا إذا ضربت بلا رحمة، وانهالت ضرباتك على المقاتل فوجد صريعك مسَّ الأذى وفرط الألم، وبات بين فرار الهارب وصراخ التائب، وأيهما اختار فحسبْنا لتستأنف القافلة المسير، ويبلغ الكتاب أجَلَه
نعم. فما ينبغي أن نتسلَّى بالاقتراح على أحد أن ينحني على منطقة فيضع شيئاً مكان شيء، ويتخير مادة دون مادة؛ فحسب الطفل لكي يمتلئ رأسه الضئيل بالعناد أن نقترح عليه تغيير اللعبة التي في يده؛ فإن ذلك أحرى أن يزيده تشبثاً بها وتوهماً فيها، وشروداً في أخيلته حولها
ولا نودُّ المضي إلى بعيد في العتب على الدكتور، فقد يجد الناظر إلى درسه الموجز ما يشغله بشئون أخر:
ذلك أنه يرى التودُّد إلى الجماهير تهمة ظالمة يبرأ منها كرام الرجال الذين كتبوا في الإسلام ونبيه، ويستظهر لبراءتهم بما في الدراسات الفذة التي قدموها من روح يضطرم بالشعور والذوق والإيمان وسائر الذخائر التي لم يألف تجار (الزُّيوف) أن يتعاملوا بها مع (الجمهور)
إن في إحساس الدكتور بضرورة التبرئة لأولئك الأساتذة الكرام هفوة أخرى - ويبدو أنني رجعت إلى عتابه - إذ كان إحساسه هذا ينطوي بداهة على التسليم بأن التودد إلى الجماهير تهمة! وما يتفاقم الغرور عند الصغير بأكثر من أن يكتشف في منطق الكبير نحواً من الموافقة على بعض أوهامه، ولن يتواضع هذا الغرور بعد ذلك حين يفزع الدكتور إلى واجب التبرئة لزملائه وفاء لهم وللحق العظيم في دينه وتراث قومه
ولسنا ندري لم يكون التودد إلى الجماهير - إذا افترضنا وقوعه - تهمة تثير الأنفة، وتحرَّض على المقاومة، إلا أن يكون هذا خوفاً في موطن الأمن، وخجلاً في مقام الزهو، لا يجملان بالقلب الكبير والجبين الفخور!
سوف لا نحاكم الدكتور إلى غير (شجونه) في نفس العدد من (الرسالة)، فليقرأ في آخرها هذه الكلمات من نشيده في حب وطنه:(ولو عانت كبار الشعوب ما عانيت لشالت كفتها في ميزان التاريخ، فكيف استطعت أنت برغم ما عانيت مصدر العقل في الشرق، وأن تهتدي ينورك في اللغة والدين مئات الملايين؟. . . لن تراني إلا حيث تحب، ولن يراني أعداؤك إلا حيث يكرهون، ولو زعموا أنهم في طهر ملائكة السماء). ما معنى هذا؟ معناه أنها وقفة شريفة لابن شريف بين يدي شعبه الذي لا يزال يقود شطراً ضخماً من العالم في اللغة والدين، والفكر، وطراز الحياة جملة؛ فهو يعلن العصبية في زمن العصبية الآكلة، ويجدد البيعة في زمن الإخاء في السلاح أن يكون لقومه قرة أعين، ولأعدائهم هولة حلم، ثم ماذا؟ ثم معناه أن الضلال القديم الذي طالما اغتال عقولاً في هذه البلاد فذهبت تفتري في الأدب مذاهب، وترتجل في الفكر طرائق، مهما نبا ذلك عن روح الشعب الحقيقية، ومهما تمزقت بذلك روابطنا بمن يحبوننا، ويصطفُّون من حولنا، من الأمة العربية الكبرى، والكتلة المسلمة العظمى؛ هذا الضلال ينبغي أن تنقشع بقاياه توَّا والى غير رجعه، ومن شاء أن يقول، ومن يشاء أن يفكر، ومن شاء أن يعمل فليأخذ مكانه الطبيعي تحت هذه الراية والسلام عليه ورحمة الله وبركاته؛ وإلا فهو خائن يطوَّق بعاره، ومجرم يشار إلى سيماه، وعدو لا نسلم عليه تسليماً، وإنما نثأر منه ثأراً وندسه في التراب، وننفض من غباره الأيدي
كأنَّ الدكتور يخطبنا هذه الخطبة تماماً حين هتف بذلك المقطع الذي نقلناه من نشيده، فكيف
إذن نقبل منه التسليم بأن في التودد إلى الشعب ما يزرى، وهو لا يرى إلا أن يكون رجل الفكر والأدب (رجل الشعب) أولاً: في رأسه من خواطره، وفي صدره من عقائده، وفي ضميره من أشواقه. . .
فإذا كانت أشواق هذا الشعب الروحية والثقافية والاجتماعية ظاهرة ظهوراً صارخاً، بحيث لا تخطئها إلا العين المغلقة، ولا يمر بها ظرف أو مناسبة مواتية، إلا أثبتت بظهورها ذاك أنها ليست موجودة ومعروفة فحسب، بل وأصلية ونامية معاً، لأنها تنفجر من تاريخ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، بملء ما في هذا التاريخ من أقدارٍ كبيرة، وأطوار عميقة، لم تكن قط خرافة يزيَّفها لفظ، ولا سامراً يفضَّه صوت، ولأنها تدور مع الدم في أجساد الملايين الذين تضرب ظلالهم شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، على قارتين، وثلاثة بحار، وعديد من الأنهار، وتقع جباههم منذ هذا العمر المبارك على تلك الربوع والبطاح العريضة، ساجدة لله في كل يوم خمس مرات. . . نعم، وإذا كانت هذه الأشواق هي التي تملي قواعدها الخاصة لنهضة هذا الشعب بنفسه وبالصفوف الرائعة المتراصة من حوله، وهي التي تعيّن الأفق الذي يترامي إليه نظر الشعب قويَّ التحديق، شديد الحماليق. . . إذا كان ذلك كله كما نحس، وكما لا نشك، فما بد من أن يصطلي كل أديب، وكل مفكر، وكل منتج، بقبس من تلك الأشواق الحارة الخالدة. فهذا القبس وحده هو الذي يمده بالصواب في تصوره لنوع النهضة المنتظرة والمحتومة معاً، ويمده بالقدرة على المشاركة الفذة في إقامة الصرح وتأثيله، وبدونه لا يكون إلا متعسفاً حائراً، لا يبرح في حيرة وتعسف، يدور حول نفسه، ويكذب أبداً على نفسه، حتى تكبّه عثرة، أو تلقفه هاوية، وبدونه لا يكون نسبة في أدباء الشعب ودعواه العمل باسم الشعب، وعيشه على مرافق الشعب، إلا تزويراً ونفاقاً وسرقة، وما لا تُعِدُّه اللغة للتشريف، ولكن للسباب
ثم ما هو الأدب؟ أليس هو: كالعلم، والفن، وكالاقتصاد نفسه، قوة من القوى المختلفة في الحياة العامة، ينبغي أن تهدف كلها صوب غايات الشعب العليا؛ وفي خلال سيرها تلقاء هذه الغايات، ينبغي أن تستفتي حاجاته الحقيقية، وتستعين بأحلامه الروحية على ضمان النجاح، وسرعته أيضاً؟
هذا الذي نقرره من بدائة كل إصلاح وكل نهضة، وليس من فنهما المعقد، ولا من كهانتهما
الغامضة، حتى يكون ثم موضع للجدل أو الحذلقة
فمن يحاول عزل (الأدب) عن كافة القوى الأخرى المتضامنة في الحياة العامة، ويشككه في واجب تضامنه مع تلك القوى، وارتكازه أبداً إلى ضمائر الشعب وأحلامه القدسية، ويزعم أن في عودة الأدباء بقلوبهم الشريدة إلى وطنها المأنوس بين قلوب قومهم بعد طول انتظار للوفاء والبرد والنبل ما يثير شهوة الفضول والعجب الأبله، لا يفهم الأدب إلا فهماً بوهيمياً، ولا ينتج فيه إلا ضرباً من الكلام ينهمك فيه الطابع، والمصحح والناشر، والناقد، ليعالج به أخيراً ملل تافه. . .!
إن هذا الذي كتب في اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث لا نتهمه بالمغالطة حين زعم ثانية أن تأريخ عصر النبوة رجعية، إذ كانت المغالطة مطوية على ذكاء وفهم في الواقع وإن لم يكن ذكاء شريفاً، وإنما نتهمه بالغلط الذي لا يرادف التجاهل ولكن يرادف لفظاً آخر. ما معنى الرجعية؟ أليست هي الانتكاس والتقهقر، وإيثار الأدنى على الأعلى؟ فأي سمو وقع دونه الرجال الذين يؤرخون عصر النبوة؟ وأية فكرة أو حقيقة تكشفها دراسة هذا العصر تنحط مرتبة عما تكشفه دراساتهم الأخرى في موضوعات أخرى؟ وأي شر تبتلي به حياتنا العقلية - ودع عنك حياتنا الوجدانية التي هي محور كل عمل أدبي - إذا أضيفت هذه الدراسة إلى سائر الدراسات التي استبدت بأقلام الكتاب منذ كانت لهم أقلام؟ ألا تجد عقولنا فيها من عافية الفكر وأريحيته ما يتلمسه الضمير الإنساني في كل ثقافة كائنة ما كانت ليصح به ويترعرع ويزكو؟!
هذه أسئلة لا تطلب جوابها من أحد، ولا تستجديه، فهو ملء كل نفس تفهم (الأدب) ولا نزري بقدره. لا، بل إنه إذا كان كل شيء في الحياة يتشكل ويتطور، لكي لا ينبو عن طبيعة جوه، ومقتضيات بيئته، فما بد من أن يتحدث الأدب في كل عهد بلغته، ويتوخى من هذه اللغة ما يشوق الأذن الماثلة، ويجاوب الحنين الساري، ويجعل البعث المرتقب، ونحن نعيش في حقبة من تاريخنا لا يصلح لها إلا هذا، فلو اشتغل الأدب بما يبعد كثيراً أو قليلاً عن هذا النهج لكان ملتوياً على روح الشعب، جامداً عن مجاوبته، وتلبية حاجته، ومثله في هذه الحالة - وفي المنطق البوهيمي - كمثل اللحن الناعم النائم تعزفه لجنديّ راحل إلى الجبهة!. . .
فأي غلط بعد غلط يتعفن به منطق فرح به صاحبه فرحاً مضحكاً وهو يناقش (العقاد) في بعض ما كتب! نعم لقد كان يبدو في سياق فرحه ذاك أن منطقه لا يثقبه الرصاص نفسه!
كم اشتغل المستشرقون بتأريخ عصر النبوة، وهذه حقيقة معروفة نود أن نوجه إلى منطق صاحبنا سؤالاً خاصاً بها، وهو سؤال أخير نضيفه إلى تلك الأسئلة المخيفة التي وجهها إليه الدكتور في خلال درسه القيم، والتي تتضمنها هذه الفقرة بالذات:(لم يقل أحد إن هيكل كان رجعياً حين ترجم لجان جاك روسّو، ولم يقل أحد إن العقاد كان رجعياً حين ترجم لابن الرومي، ولا قال قائل برجعية طه حسين حين ترجم لأبي العلاء، ولكن الرجعيات أصابت هؤلاء الأساتذة حين شغلوا أنفسهم بتاريخ عصر النبوة!! لأنه مصدر من المصادر الدينية الخ) أإذا اشتغل المستشرقون بهذا الموضوع ومثله؛ وكتب فيه كتاب أوروبيون - وكم حدث ويحدث - يكون ذلك أيضاً (رجعية) و (تودداً للجمهور المصري)؟! أم ينعت ذلك عند صاحبنا ومنطقه العتيد بالفحولة العقلية، والثقافة الإنسانية، وما إليهما من النعوت التي تكبر على الرجعية، أو الرياء أو اللغو الذي تكرمنا عن مناقشته والذي سماه إيمان المقترب من اليوم الآخر؟!
ندع الآن المنطق العتيد يحصى قائمة الخسائر التي نزلت به، ونحن - فينفس الوقت - على استعداد لكي نضيف إلى هذه القائمة أرقاماً أخرى، نقول له ذلك قبل أن يتعجل فينشر مقالاً أو بعبارة أخرى - بلاغاً يزعم فيه أن الخسائر طفيفة!!
وبعد، فلم يفرغ درس الدكتور من نواح أخرى ذات بال، فحسبنا ذلك اليوم، وإلى فرصة قريبة.
(الأقصر)
إسماعيل حمدي
ابنة الطحان
لللورد الفريد تينيسون
إنها ابنة الطحان، وقد نمت وتطورت
حتى غدت محبوبة فتانة. فيا ليتني جوهرة
في القرط الذي يرتجف معلقاً في أذنها،
لأنني إذ ذاك وأنا في حلقة من ذهب
أمُسّ رقبتها البيضاء الدافئة ليل نهار.
أو ليتني النطاق الذي يحيط بخصرها الدقيق
الرشيق فأحس بضربات قلبها في ساعات
الحزن وأويقات الراحة، وأعلم ما إذا
كانت الدقات متئدة منتظمة، وأحيط بها
من جميع أطرافها ضاغطاً عليها بحنان!
أو ليتني حلي معلقة في رقبتها فأرتفع وأهبط
بانتظام على صدرها البض، مع تصاعد ضحكاتها
وزفراتها، وأستقر في مكاني هادئاً جداًّ
بحيث لا تخلعني حتى عندما تذهب لتنام!
(بغداد)
صفاء خلوصي
القاضي التنوخي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
(تتمة نشر في العدد الماضي)
وأما أسباب عزله فتلخص بما يأتي: قال الرئيس أبو الحسن هلال: وفي شهر ربيع الأول سخط عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي والزم منزله وصُرف عما كان يتقلده. وكان السبب في ذلك ما حدثني به أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال حدثني أبو علي والدي قال: كنت بهمذان مع الملك عضد الدولة فاتفق أن مضيت يوماً إلى أبي بكر بن شاهويه رسول القرامطة والمتوسط بين عضد الدولة وبينهم، وكان له صديقاً ومعي أبو علي الهائم وجلسنا نتحدث، وقعد أبو علي على باب خركاه كنا فيه وقدم إليه ما يأكله، فقال لي: اجعل أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد. فقلت لِمَ؟ فقال إن الملك مدبّر القبض على الصاحب أبي القاسم بن عبّاد، وكان قد ورد إلي حضرته بهمذان؛ وإذا كان كذلك تشاغل بما تتطاول معه الأيام. وانصرفت من عنده؛ فقال أبو علي الهائم قد سمعت ما كنتما فيه وهذا أمر ينبغي أن تطويه ولا تخرج به إلى أحد ولا سيما إلى أبي الفضل بن الشيرازي. فقلت أفعل، ونزلت إلى خيمتي، وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي ومواصلتي ومواكلتي ومشاربتي وفيهم أبو الفضل بن أحمد الشيرازي، فقال لي: أيها القاضي أنت مشغول القلب فما الذي حدث؟ فاسترسلت على انس كان بيننا وقلت أما علمت أن الملك مقيم وقد عمل على كذا في أمر الصاحب وهذا دليل على تطاول السنة. فلم يتمالك أن أنصرف واستدعي ركابياً من ركابتي وقال له: أين كنتم اليوم؟ فقال عند أبي بكر بن شاهويه. قال: وما صنعتم؟ قال: لا أدري إلا أن القاضي أطال عنده الجلوس وانصرف إلى خيمته عنه ولم يمض إلى غيره. فكتب إلى عضد الدولة رقعة يقول فيها: كنت عند القاضي أبي علي التنوخي فقال كذا وكذا وذكر أنه قد عرفه من حيث لا يشك فيه وعرفت أنه كان عند أبي بكر ابن شاهويه وربما كان لهذا الحديث أصل؛ وإذا شاع الخير به وأظهر السر فيه فسد ما دُبّرَ في معناه. فلما وقف عضد الدولة على الرقعة وجم وجوماً شديداً وقام من سماط كان قد عمله في ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم مغيظاً، واستدعاني وقال لي: بلغني أنك قلت كذا وكذا حاكياً عن أبي بكر بن شاهوية فما
الذي جرى بينكما في ذلك؟ فقلت لم أقل من ذلك شيئاً، فجمع بيني وبين أبي الفضل بن أبي أحمد وواقفني وأنكرته، وراجعني وكذبته؛ وأحضر أبو بكر بن شاهويه وسئل عن الحكاية، فقال: ما اعرفها، ولا جرى بيني وبين القاضي قول في معناها. وثقل على أبي بكر هذه المواقفة وقال: ما نعامل الأضياف بهذه المعاملة. وسئل أبو علي الهائم عما سمعه فقال: كنت خارج الحركة، وكنت مشغولاً بالأكل وما وقفت على ما كانا فيه. فمد وضرب مائتي مقرعة؛ وأقيم فنفض ثيابه. وخرج أبو عبد الله سعدان - وكان لي محباًّ - فقال لي: الملك يقول لك: ألم تكن صغيراً فكبرناك، ومتأخراً فقدمناك، وخاملاً فنبهنا عليك، ومقتراً فأحسنا إليك؟ فما بالك جحدت نعمتنا وسعيت في الفساد على دولتنا؟ قلت: أما اصطناع الملك لي فأنا معترف به، وأما الفساد على دولته فما عملت أنني فعلته! وجلست مكاني طويلاً، وعندي أنني مقبوض علَّي، تم حملت نفسي على أن أقوم واسبر الأمر، وقمت وخرجت من الخيمة، فدعا البوابون دابتي على العادة، ورجعت إلى خيمتي منكسر النفس منكسف البال؛ فصار الوقت الذي أدعي فيه للخدمة، فجاءني رسول ابن الحلاج على الرسم، وحضرت المجلس فلم يرفع الملك إلي طرفاً، ولا لوي إلي وجهاً؛ ولم يزل الحال على ذلك خمسة وأربعين يوماً، ثم استدعاني وهو في خركاه وبين يديه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وعلى رأسه أبو الثناء شكرٌ الخادم فقال: ويلك! أصدقني عما حكاه أبو الفضل بن أحمد؛ فقلت كذبٌ منه؛ ولو ذكرت لمولانا ما يقوله لما أقاله العثرة؛ فقال: أو مِنْ حقوقي عليكم أن تسيئوا غيبتي وتتشاغلوا بذكري؟ فقلت: أما حقوق النعمة فظاهرة، وأما حديثك فنحن نتفاوضه دائماً. . . ثم قال عضد الدولة: عرَّفنا ما قاله أبو الفضل. قلت: هو ما لا ينطق لساني به؛ فقال: هاته. . . وكان يحب أن تعاد الأحاديث والأقاويل على وجهها من غير كناية عنها ولا احتشام فيها. فقلت: نعم؛ قال: (وذكر له بعض النقائص فقربها). . . ثم قال: وقد ذكر هذا الأستاذ وأومأت إلى أبي القاسم وأبي الريّان وجماعة الحواشي فقال: ما قال في أبي القاسم؟ قلت: قال: إنه ابتاع من ورثة ابن بقية ناحية الزاوية من رازان بأربعة آلاف درهم بعد أن أستأذنك استئذانا سلك فيه سبيل السخرية والمغالطة، واستغلها في سنة واحدة نيفاً على ثلاثين ألف درهم، وأنه أعطى فلاناً وفلاناً ثمانية آلاف درهم على ظاهر البضاعة والتجارة، فأعطاه نيفاً وستين ألف درهم. فمات أبو القاسم عند سماعه ذلك،
وأوردت ما أوردته مقابلته - أي معارضته - على ما ذكرني به. وحضرت آخر النهار المجلس في ذلك اليوم على رسمي، فعاود التقريب لي والإقبال علىَّ. ثم رحلنا عائدين إلى بغداد، فرآني الملك في الطريق وعليَ ثياب حسنة وتحتي بغلة بمركب وجناغ جواد؛ فقال لي: من أين لك هذه البغلة؟ قلت: حمَّلني عليها الصاحب أبو القاسم بمركبها وجناغها، وأعطاني عشرين قطعة ثياباً، وسبعة آلاف درهم؛ فقال: هذا قليل لك مما تستحقه عليه. فعلمت أنه أتهمني به وبأني خرجت بذلك الحديث إليه، وما كنت حدثته به
وذكر غرس النعمة بن هلال قال: حدثني بعض السادة الأصدقاء، وأنسيته وأظنه أبا طاهر محمد بن محمد الكرخي قال: كانت بنت عضد الدولة لما زفت إلى الطائع بقيت بحالها لا يقربها خوفاً أن تحمل منه فتستولي الديلم على الخلافة، وكان الطائع يحبها حباً شديداً زائداً موفياً. . . . . وتقدم عضد الدولة إلى أبي على التنوخي في أواخر أيامه بأن يمضي إلى الطائع ويطارحه يناظره. . . في المعنى. . . بأسباب يتوصل إليها وأقوال يصفها، ويومئ إلى الغرض فيها. . . رتبها عضد الدولة ولقنه إياها وفهمه
قال التنوخي بعد قدومه إلى بغداد مع عضد الدولة فحكى لي أن الطائع لله متجاف عن ابنته المنقولة إليه. . . فثقل ذلك عليه وقال لي: تمضي إلى الخليفة. . . ويعود الأمر إلى ما يستقيم به الحال ويزول معه الانقباض فقد كنت وسيط هذه المصاهرة، فقلت: السمع والطاعة. وعدت إلى داري لألبس ثياب دار الخلافة، فاتفق أن زَلِقَتْ وَوَثِئَتْ رجلي، فأنفذت إلى الملك أعرفه عذري في تأخري عن أمره فلم يقبله وأنفذ إلى منْ يستعلم خبري، فرأى الرسول لي غلماناً رَوَقَةً وفرشاً جميلاً، فعاد إليه وقال: هو متعال وليس بعليل. وشاهدته على صورة كذا وكذا والناس يغشونه ويعودونه. فاغتاظ غيظاً مجدداً حرك ما في نفسه مني أولاً، فراسلني بأن الزم بيتك ولا تخرج عنه، ولا تأذن لأحد في الدخول عليك، فيه إلا نفرا من أصدقائي استأذنت فيهم فاستثني بهم. ومضت الأيام وأنفذ إلى أبو الريان فطالبني بعشرة آلاف درهم وكنت استلفتها من إقطاعي فأديتها إليه، واستمر علىّ السخط والصرف عن الأعمال إلى حين وفاة عضد الدولة. ثم قال غرس النعمة: فقال التنوخي السمع والطاعة، ومضى إلى بيته ولمُ يقدم على الطائع، وخاف عضد الدولة إن خالف ما رسمه له، فأظهر مرضاً أصدقاؤه وعاده منه واعتذر به إلى عضد الدولة، فوقع لعضد
الدولة باطن الأمر وأمر بعض الخدم الخواص بالمضي إلى التنوخي لعيادته وتعرف خبره، وأن يخرج من عنده ويركب إلى أن يخرج من الدرب، ثم يعود فيدخل عليه هاجماً فإن كان على حاله في فراشة لم يتغيرَّ له أمر، أعطاه مائتي دينار أصحبه إياها لنفسه وأطهر أنه عاد لأجلها لأنه أنسيها معه؛ وإن وجده قاعداً أو قائماً عن الفراش قال له: الملك يقول لك لا تخرج عن دارك إلينا ولا إلى غيرنا وانصرف. قال الخادم: فدخلت إليه وهو في فراشه وعليه دثاره وخاطبته عن الملك وأعاد جواباً ضعيفاً لم أكد أفهمه، وخرجت ثم عدت على ما رسم الملك فهجمت عليه فوجدته قائماً يمشي حول البستان، فلما رآني اضطرب وتحيرَّ فقلت له: الملك يقول لا تبرَح دارك إلينا ولا إلى غيرنا، وخرجت فبقى على ذلك إلى أن مات عضد الدولة)
نقول وذكره من بعد هؤلاء ابن خلكان؛ ولم يزد على ما ذكره المؤرخون ممن ذكرنا هنا سوى كتاب (المستجاد من فعلات الأجداد) وقد نوهنا به وأشرنا إلى أمره آنفاً في غير هذا. وقد نقل ابن خلكان عن الثعالبي والخطيب البغدادي
أما شعره فإننا نذكر منه هنا ما ذكره المؤرخون استطراداً في ترجمته وما اختاروه من شعره لما كان ديوان شعره من الدواوين المفقودة، لعل فيه شيئاً من الفائدة. ومن السابقين إلى رواية شعره الثعالبي قال: ومما علق بحفظ أبي نصر سهل بن المرزبان وأنشدنيه للقاضي أبي علي قوله وهو معنى طريف ما أراه سبق إليه:
خرجنا لنستسقي بيمن دعائه
…
وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرضا
فلما أبتدأ يدعو تقشعت السما
…
فما تم إلا والغمام قد انفضّا
وأنشدني غيره له وأنا مرتاب به لفرط جودته وارتفاعه عن طبقته:
أقول لها والحي قد فطنوا بنا
…
وما لي على أيدي المنون براح
لما ساءني أن وحشتني سيوفهم
…
وإنك لي دون الوشاح وشاح
قال الثعالبي ومما أنشده لنفسه في كتاب الفرج بعد الشدة:
لئن أشمت الأعداء صرفي ورحلتي
…
فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد
مقام وترحال وقبض وبسطه
…
كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد
وسنذكر بقية الأبيات من مقدمة ناشر كتاب (الفرج بعد الشدة). ولقد وجدت قطع لمؤلف
الكتاب عينه مدرجة في الفصل الأخير من بحوثه تلائم مقاصد المؤلف لكتاب الفرج بعد الشدة. ومن أولى هذه القطع ما يأتي:
أصبر فليس الزمان مصطبراً
…
وكل أحداثه فمنقشعه
كم من فقير غناه في شبعٍ
…
قد نال خفضاً في عيشه ودعه
ومن جليل جلت مصائبه
…
ثم تلافاه بعد ما وضعه
فعاد بالعز آمناً جذلاً
…
وعاد أعداؤه له خضعه
والقطعة الثانية:
متى تصفو لك الدنيا بخير
…
إذا لم ترض منها بالمزاج
ألم تر جوهر الدنيا المصَفّى
…
ومخرجه من البحر الأجاج
ورب مخيفة فجأت بهولٍ
…
جرت بمسرة لك وابتهاج
ورب سلامة بعد امتناع
…
ورب مثقف بعد اعوجاج
والقطعة الثالثة، قال مؤلف الكتاب وفي محنة لحقتني فكشفها الله تعال فقلت:
هوّن على قلبك الهموم فكم
…
قاسيت هماً أدنى إلى الفرح
ما الشر من حيث تتقيه ولا
…
كل مخوف يفضي إلى الترح
والقطعة الرابعة:
لئن عداني عنك الدهر يا أملي
…
وسل جسمي بالأسقام والعلل
وشت شمل تصافينا وألفتنا
…
والدهر ذو غير والدهر ذو دول
الحمد لله حمد الشاكرين على
…
ما شاء من حادث يوهي قوي الأمل
قد اشتكت بصروف الدهر والتحقت
…
على فيك غواشي الحزن والوجل
واعتضت منك بسقم شأنه خلل
…
ومن وصالك بالهجران والملل
وبعد أمني من عذر ومثنية
…
عذراً يسرح بالألفاظ والرسل
ومن لقائك لقي الطب أرحمهم
…
قسط وأرفقهم يدنى إلى الأجل
فلست آيس من رجع الوصال ولا
…
عود العوافي ولا أمن من السبل
والقطعة الخامسة من قصيدة في محنة لحقته:
أما للدهر من حكم رضى
…
يدال به الشريف من الدني
ويستعلي الرؤوس من الذنابي
…
وينتصف الذكي من الغبي
ومن عاصاه دمع في بلاء
…
فليس بكاء عيني بالعصي
وما أبكي لوفر لم يفده
…
زمان خان عهد فتى وفي
ولا آيس على زمن تولى
…
بعيش ناضر غض نديّ
وما تلقي الحوادث إن ألمت
…
سوى قلب عن الدنيا سخي
وصبر ليس تنزحه الليالي
…
كنزح الدلو ضافية الركي
وليس بآيس من كان يخشى
…
ويرجو الله من صنع قوي
أما القطعة السادسة فقد قال ناشر الكتاب: وله عند صرفه من تقلده القضاء بالأهواز وقبض ضيعة من ضياعه وحضوره إلى بغداد وقد نقلنا منها آنفاً بيتين مطلعهما: لئن أشمت الأعداد الخ
وما زلت جلداً في المهمات قبلها
…
ولا غر وفي الأحيان أن يغلب الجلد
فكم ليث غاب شردته ثعالب
…
وكم من حسامَ فلَّه غيلة غمد
وكم جيفة تعلو وترسب درة
…
ومنحسة تقوي إذا ضعف السعد
ألم تر أن الغيث يجري على الربا
…
فيحظى به إن جاد صيّبه الوهد
وكم فرج والخطب يعتاد نيله
…
يجيء على يأس إذا ساعد الجد
لقد أقرض الدهر السرور فإن يكن
…
أساء اقتضاء فالقروض لها رد
فكم فرحة تأتي على أثر ترحة
…
وكم راحة تطوى إذا اتصل الكد
وكم منحة من محنة تستفيدها
…
ومكروه أمر فيه للمرتجي وفد
على أنني أرجو لكشف الذي غدا
…
مَليكاً لَهُ في كل نائبه وفد
فيمنع منا الخطب والخطب صاغر
…
وتمس عيون الدهر عناهي الرمد
ونعتاض باللقيا من البين اعصرا
…
مضاعفة تبقى ويستهلك البعد
والقطعة السابعة هي:
قل لمن أودى به الترح
…
كل هم بعده فرح
غالط الأحداث مجتهداً
…
كل ما قد حلّ منتزج
لا تضق ذرعاً بنازلة
…
وارمها بالصّبر تنفسح
وأزح بالراح طارقها
…
فجلاء القربة القدح
ألق بالمزاج المريح أذى
…
حدها إن شئت تنشرح
هذا ما تمكنت من العثور عليه عند مطالعتي لهذا الكتاب الجميل، ولعل له مقطوعات من شعره لم نعثر عليها بعد؛ وقد تحقق الأيام من ذلك شيئاً فنعود إلى ذكر ما تركه هذا الشاعر الفحل والكاتب البليغ والمؤرخ الثقة
قال الثعالبي ومما ينسب إليه قوله لبعض الرؤساء في التهنئة بشهر رمضان:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه
…
ووقاك الإله ما تتقيه
أنت في الناس مثل شهرك في الأ
…
شهر بل ليلة القدر فيه
هذا وقد أورد ياقوت في معجم الأدباء أخباراً في ترجمته في نقد الشعر الذي يغني به عضد الدولة البويهي بحضرته ومجالس أنسه وصحة قائليه وناظميه وذلك ما يدل على قوته في نظم الشعر وحفظه أيضاً لمنظومات الشعراء الذين سبقوه، فكان خير حكم للتميز بين الغث والسمين منه؛ هذا علاوة على قوته في النثر، فقد أتبع أسلوب يكاد يكون خاصاً به لم يصل إلى مجاراته فيه أهل عصره
هذا ما تيسر لي جمعه من الأخبار عن نابغة القرن الرابع الهجري العباسي في القضاء والتأليف والشعر والأدب والاجتماع عسى أن أكون قد قمت بقسط مما يستحقه هذا العلم الفرد، وسنواصل بحول الله تعالى البحث عن غيره ممن كانت لهم المنزلة العظمى في دولتي العلم والأدب لذلك العهد العباسي الزاهر.
(بغداد)
يوسف يعقوب مسكوني
غراب وطفل
(مهدأة إلى أستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات)
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
نَشِبَ اَلْجناَحُ وَضَلَّ في الأَغْصاَنِ
…
فإِذَا الْغُرَابُ يَخِرُّ لِلأَذْقَانِ
حَيْرَانَ يَلْتَمِسُ النَّجاَةَ فَلَا يرَىَ
…
قَلْباً يَرقُّ بِذلِكَ اَلْحيْرَانِ
جَهِدَ الأَسِيرُ لِكْي يَفُكَّ جَنَاحَهُ
…
بِاَلْخفْقِ آوِنَةً وَبالدَّوَرَانِ
لم يُغْنِ عَنْهُ كِفاَحُهُ فَأَثاَرَهاَ
…
شَعْوَاَء تُسْمِعُ جَلْمَدَ الآْذَانِ
وَرَأى غُرَابٌ صِنْوَهُ في أَسْرِهِ
…
فَمَضَى وأَسْرَعَ لِلأَسِير الْعاَنِي
وَهَوَى يحُاَولُ جَذْبَهُ. . . وَإَذَا بِهِ
…
هُو والأْسِيرُ لِدَى الرَّدَى صِنْوَانِ
أعْياَهُ إِنْقاَذُ الزّمِيلُ، فَطاَرَ في
…
فَزَعٍ يُناَدِي شِيَعَةَ الْغِرباَنِ
وَإذَا غُرَابٌ، ثُمَّ ثَانٍ، خَلْفَهُ
…
مِنْ قَوْمِهِ زُمَرٌ. . . أَتَتْ لِثَوَانِ
وَتَجمَّعَ الْغِرْباَنُ في الدَّوْحِ الذي
…
ضَمَّ الأَسِيرَ تَجَمُّعَ الْفرْساَنِ
عَقَدَتْ عَصاَئِبُهاَ عَلَيْهِ مَناَحَةً
…
وَبَكَتْ لَدَيْهِ بِدَمْعِهاَ الْهَتَّانِ
وَكأَنَّماَ كاَنَتْ تَضَرَّعُ لِلْوَرَى
…
أَنْ يُسْعِفُوا ذَاكَ الْمَهِيضَ الْفاَنِي
وَأَتَى بَنُوا الإنسان فاحْتَشَدُوا عَلَى
…
بَلَهٍ. . . زَرَافَاتٍ بِلَا وِجْدَانِ
وَتَجَمَعَّوُا شِيَعاً لِكيْ يُهْدُوا لَهُ
…
نَظَرَ الْفُضُولِ، وَلَمْحَةَ الْمُجَّانِ
وَإذَا الْبَلَاهَةُ وَالْفُضُولُ تَجَمَّعاَ
…
لَمْ تَلْقَ لِلأَخْلَاقِ أَيَّ مَكاَنِ. . .
وَأَتَى الظَّلَامُ. . . وَلَفَّ في أَحْشَائهِ
…
هذَا الْوُجُودَ. . . فَمَا تَرَى عَيْناَن
وَاسْتَيْأَسَ الْغِربْاَنُ فَانْصَرَفُوا عَلَى
…
مَضَضٍ، وَلَمْ ينْسُوا فَتَى الأَغْصاَنَ
تَرَكُوا لَهُ بَعْضَ الرَّفاق تَزُقُّهُ
…
باَلْحبَّ تَحْتَ رَعَايَةِ الرَّحمنَ
حَتَّى يَجِئَ الصُّبْحُ في أَعْطَافِهِ
…
فَرَجُ الْكُرُوبِ وَجَلْوَةُ الأَحْزَانِ
ياَ لَلْوَفاَءِ وَلْلإخَاءِ نَرَاهُماَ
…
بَلَغَاَ الذُّرَا في عَالَمِ اَلْحيَوَانِ. . .
لَمْ تَفْرُغِ الْغِرْباَنُ مِنْ أَشْجاَنِهاَ
…
وَاللَّيْلَ مَهْدُ غَرَائِبِ الأَشْجاَنِ
وَإذَا صُراخٌ مِنْ وَليدٍ قَدْ بَدَا
…
في اَلْجوَّ يَبْعَثُ كاَمِنَ التَّحْناَنِ
ياَ لَلشقاَءِ وَلِلتَّعاَسَةِ. . . جُمَّعاَ:
…
هُوَ ذَا (لَقِيِطٌ) لُفَّ في أَكْفاَنِ!
قَذَفَتْ بِهِ (الأَمُّ اَلْحنُونُ) جَريَمَةً
…
وَرَمَتْهُ في رُكْنٍ مِنَ اْلأَرْكاَنِ!
وَتَسَلَّلَتْ طَيَّ الظَّلَامِ، وَلَمْ تَخَفْ
…
عِنْدَ اَلْجريِمَةِ نِقَمةَ (الدَّيَّانِ)!
وَتَحدَّث الرَّاءُونَ فِيماَ أَبْصَرُوا:
…
أَنَّ اللَّقِيطَ كَزَهْرَةِ الْبُسْتاَنِ!
مَرَّتْ بِهِ أَنْثى، فَصاَحَتْ - بَعْدَمَا
…
جَسَّتْهُ - صَيْحَةَ رَحْمَةٍ وَحَناَنِ:
ياَ لَعْنَةَ اَلْجبَّار: لُفَّي أُمَّهُ. . .
…
أَزِنًي وَقَتْلٌ ياَ بَنِي الإنسان؟!
وَمَضَتْ تُهَرْوِلُ في الظَّلَامِ كأَنَّماَ
…
تَبْغي النَّجاَةَ، وَمَا لَهاَ كَفَّانِ. . .
وَتَجَمَّعَ السَّارُون حَوْلَ مِهاَدِهِ
…
وَالطَّفْلُ مُضَّطَرِبٌ: يَداً لِلساَنِ
كُلُّ يُحَوْقِلُ، ثُمَّ يَرْكُضُ هَاَرباً
…
فَكأَنَّهُ مِنْ لَعْنِةَ الشَّيْطاَنِ!
تَرَكُوُهُ خَوْفَ الْعاَرِ يَذْوِي عُودُهُ
…
وَيَعيشُ في جَوِّ مِنَ اَلْحرِمْاَنِ!
وَأَتى الصَّباَحُ فَقَيَّضَ الرَّحمنُ مَنْ
…
نَجَّى الْغُرابَ، وَفَازَ بالطَّيَرَانِ
وَمَضَى الأَسِيرُ مَعَ الرَّفَاقَ مُمَتَّعاً
…
بالْعَيْشِ في صَفوٍ وَفي خِلاَّنِ. . .
وَمَضَى اللَّقِيطُ لِمَلْجَأٍ يَلْقىِ بِهِ
…
عَيْشَ الْهَوَانٍ عَلَى مَدَى اْلأَزْمَانِ
لَا أم رَاعِيَةً، وَلَا أَبَ عَاطِفاً
…
فَلْيَحْي بَيْنَ مَذَلَّةٍ وَهَوَانِ
تتَنَكَّرُ الدُّنْيَاَ لَهُ، وَتُذِيقُهُ
…
هُوناً بِلَا عَطْفٍ وَلَا تَحَنْاَنِ. . .
ياَ لَابْنِ (آدَمَ): عَاشَ فَي أَقْوامِهِ
…
فَظاًّ بِرَغْمِ الْعِلْمِ وَالْعِرفْاَنِ!
ياَ لَلُّطيُورِ: تُرِيكَ مِنْ أَخْلَاقِهاَ
…
مُثُلاً بِهاَ تَسْموُ عَلَى الإنسان!
لَمْ تَحْظَ بالتَّعْلِيمِ، أو يُبْعَثْ لَهاَ
…
رُسُلٌ، وَلَمْ تَسْتَهْدِ باْلأَدْياَنِ
مَنْ عَلَّمَ اْلإنسان دَفْنَ سَمِيَّهِ؟
…
شَتَّانِ بَيْنَ اْلإنْسِ وَالْغِرْباَنِ!
ياَ لَيْتَ لِي خُلُقُ الطُّيُورِ، وَجَوَّهاَ
…
وَصَفاََءهاَ. . . فأَعِيشَ في اطْمِئْناَنِ
مَنْ صَوَّرَ الْمأْساَةَ أَبْرعَ صُورَةٍ؟
…
مَنْ صاَغَهاَ لِلنَّاسِ سِحْرَ بَياَنِ؟
الْكاَتِبُ الْفَذُّ اْلأدِيِبُ هُوَ الَّذِي
…
أَضْفَى عَلَيْهاَ باَهِرَ اْلأَلْوَانِ
وَتَمَثَّلَتْهاَ رُوحُهُ، فَبَدَتْ لَناَ
…
سِفْراً يُرَدَّدُ آيَةُ الْمَلَوَانِ
أَذْكَتْ لَهيِبَ الْقَوْلِ بَيْنَ جَنُودِهِ
…
وَمَضَتْ تُحَرَّكُ رَاقِدَ اْلأَذْهَاَنِ
كَمْ مِنْ فُؤَادٍ كَانَ شاَهِدَ أَمْرِهاَ
…
مَا اهْتَزَّ أو نَطَقَتْ لَهُ شَفَتَانِ!
رَبَّ الرَّسَاَلَةِ: أَسْمِعْ الدُّنْياَ كَماَ
…
شاََء النُّبُوغُ رَوَاِئِعَ التَّبْيَان
هَذَّبْ شُعُورَ النَّاسِ وَاسْمُ بِرُحِهِمْ
…
فَالنَّاسِ قَدْ جَازُو مَدَى الطَّغْياَنِ
مِنْ كُلَّ عَابرةٍ أَنِلْهُمُ عِبْرَةً
…
فَلأَنْتَ فَارِسُ ذَلِكَ الْميدَانِ
صغْ مِنْ دُمُوِعِكَ آي وَحْيِكَ إِنَّهاَ
…
ذَوْبٌ لأِكْرَمِ مُهْجَةٍ وَجَناَنِ. . .
حَسْبُ الْكُرَامِ الْكَاتِبينَ مَثُوبَةً
…
مِنْ دَهَرِهِمْ شُكْرٌ بكُلَّ لِساَنِ. . .
البريد الأدبي
الأستاذ العقاد في السودان
لا يزال الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد منذ نزل الخرطوم موضع
التكريم والتجلة من أهله. وللسودان الكريم أريحية للأدب ورجاله هي
نصيب المصرية منه وسر العروبة فيه. وقد تعشت الروح الأدبية في
القطر الشقيق بزيارة الأستاذ له؛ فحفلت الأندية، ونشطت الصحافة،
وكثرت المآدب، وافتنت الأحاديث، وتلاقت الآراء، وتجاوبت المشاعر،
وبان من كل أولئك فضل الأدب على السياسة والاقتصاد في إبلاغ
الرسالة وإحسان السفارة؛ لأن رجال الأدب هم أهل الرأي والتوجيه،
فليس بعد اتفاقهم خلاف، ولا بعد اهتدائهم حيرة. وقد نشرنا في هذا
العدد أولى رسائل الأستاذ من الخرطوم؛ وستكون هذه الرسائل ولا
شك طُرفاً من الأدب الرفيع كان يتمناها قراء الرسالة وأصدقاء
السودان وعشاق الأدب. ومن طرائف هذه الرحلة المباركة أن العقاد
أرسل إلى جريدة النيل هذه الأبيات تحت هذا عنوان:
من جزيرة القاهرة إلى مقرن الخرطوم
تفسير حلمي بالجزير
…
ة وقفتي في المقرن
حلمان حظهما خيا
…
لاً دون حظ الأعين
ما دمت بينهما فما
…
أنا سائل عن مسكني
وإذا التذكر عاد بي
…
عطف الجديدُ فردني
يا جيرة (النيل) المبا
…
رك، كل نيل موطني
وله سمىُّ في الصحا
…
فة معرب لم يلحن
حييت فيه سميه
…
وحمدت فيه مأمني
(الخرطوم)
عباس محمود العقاد
فأجابه الأستاذ المبارك إبراهيم أحد محرري النيل بهذه الأبيات:
يا من نزلت أعالي الوا
…
دي حميد المأمن
أهلاً، فمنزلك القلو
…
ب وفي سواد الأعين
ولأنت يا بن النيل با
…
قعة البيان الأرصن
فتغن في الخرطوم ما
…
شاء التغني وافتن
فالنيل في أرض الكنا
…
نة مثله بالمقرن
(وله سمىٌّ في الصحا
…
فة معرب لم يلحن)
لهج يرمز العبقر
…
ية أو بديع الأزمن
(دارة جريدة النيل بالخرطوم)
المبارك إبراهيم
أعداد الرسالة الخاصة
كبنا وما زلنا حريصين على أن يكون أكثر ما يُكتب في أعدادنا الخاصة بأقطار العروبة، لأقطاب البيان المسئولين في كل قطر يصدر عنه العدد. وكان هذا الحرص سبباً في هذا البطئ الملحوظ في إعداد هذه الأعداد، لأننا لم نتلق من العراق حتى اليوم ما طلبناه من المقالات والصور. وقد يكون للأحوال الحاضرة أثر في هذا البطء، ولكنه الأثر الذي لا يستطيع أن يتغلب على إرادة أمة تريد أن تتعارف أن وتتآلف وتسير في جهادها المشترك على هدى وعلم.
وإنا مع تكرار الرجاء لإخواننا الأدباء أن يستجيبوا لما طلبت الرسالة، نعلن إليهم أننا لم نكلف أحداً بجمع المقالات والوثائق غير الأستاذ فخري شهاب السعيدي في بغداد؛ أما في الأقطار الأخرى فلم يقع اختيارنا على أحد بعد.
وفاة السير وليم فليندرس بتري
توفي مساء اليوم الثامن والعشرين من شهر يوليو بمستشفى الحكومة بالقدس السير وليم فليندرس بتري، عالم الآثار المصرية عن ستة وثمانين عاماً
وكان الفقيد من العلماء الثقات في تاريخ مصر القديم وتاريخ الغابرين في القسم الشرقي من حوض البحر المتوسط. وهو الذي وضع قواعد علم الآثار في مصر، واستخدام الآثار المدفونة في الكشف عن أسرار الحضارات القديمة
ومما كان يقوله، إن الخزف والجواهر من أهم موارد العلم له، وأن الأبنية كانت ترشيده إلى كل ما يريد الوقوف عليه، وإن لم يكن هناك شيء مكتوب عليها
وقد ولد السير فليندرس في 3 يونيو 1853 ببلدة (شابلتون) بجوار جرينوتش، وكان والده مهندساً، وجده لأمه ضابطاً بحرياً
ولما بلغ الثامنة من عمره كان يتكلم أربع لغات. وفي سن الخامسة عشرة كان طالباً مجداً في القسم المصري بالمتحف البريطاني
وفي السابعة والعشرين من عمره، قدم مصر حيث بدأ حياته العملية
وكان إلى جانب إلمامه التام باللغات القديمة، رياضياً من الطراز الأول، ومهندساً ومصوراً بارعاً
وأمضى السير وليم فلندرس العامين الأولين، من أعوام إقامته في مصر، وهو يقيس الأهرام والمعابد، ثم درب على ذلك جماعة من العمال المصريين، وبدأ أعمال التنقيب عن الآثار. وظل يقوم بهذه الأعمال وكتابة المذكرات عن استكشافه حتى سنة 1914
وقد ألف أكثر من مائة كتاب استغرق في كتابة أحدها وهو (تاريخ مصر) 19 عاماً، إذ بدأه في سنة 1894 وانتهى منه سنة 1923
وكذلك أنشأ مدرسة إنجليزية لتدريس الآثار في مصر ولبث يقوم بالتدريس فيها حتى سنة 1934، إذ غادرها إلى القدس، حيث بدأ أعمال الحفر في صحراء سينا وسورية
من أي يومي من الموت أفر
جاء في العدد 473 من (الرسالة) تحت عنوان (تصويبات) في مقال للأستاذ أحمد يونس محمد تعليقاً على البيت الآتي الذي ذكره الأستاذ السيد يعقوب بكر للأمام على:
من أي يوميّ من الموت أفر
…
أيوم لم يقدرَ أم يوم قُدر؟
أن البيت على هذا الوضع لا يتفق مع ما جاء بعده لأنه من بحر الرجز، وقد جاء في ديوان الإمام علي هكذا:
أيّ يوميّ من الموت أفر
…
يوم ما قدر أو يوم قدر
يوم ما قدر لم أخش الردى
…
وإذا قدر لم يفن الحذر
وهما من الرمل، ثم قال: على أنه إذا صح أن ديوان الحماسة لم يذكر غيره، فإنه يكون مكسوراً، لأن (لم) تقتضي الجزم، وهو لا يتمشى مع الوزن. انتهى كلامه
فالشق الأول لا اعتراض لي عليه. أما قوله بكسر البيت، فهذا خطأ، لأن الرواية بفتح راء يقدر، كما بسطت في كتب القواعد كالأشموني والمغني منسوبة للحارث بن منذر الجرمي؛ فقد زعم اللحياني أن بعض العرب ينصب بلم كقراءة بعضهم (ألم نشرح لك صدرك)؛ وقول الشاعر:
في أي يوميّ من الموت أفر
…
أيوم لم يقدرَ أم يوم قدر؟
وخُرجا على أن الأصل نشرحن ويقدرن، ثم حذفت نون التوكيد الخفيفة، وبقيت الفتحة دليلاً عليها. وقال أبو الفتح: الأصل يقدر بالسكون، ثم لما تجاورت الهمزة المفتوحة والراء الساكنة، أبدلوا الهمزة المحركة ألفاً، كما تبدل الهمزة الساكنة بعد الفتحة (إعطاء للجار حكم مجاوره)؛ ثم أبدلت الألف همزة متحركة لالتقائها ساكنة مع الميم
وأقرب للقياس أن يقال: نقلت حركة همزة أم إلى وراء يقدر، ثم أبدلت الهمزة الساكنة ألفاً، ثم الألف همزة متحركة لالتقاء الساكنين، وكانت الحركة فتحة إتباعاً لفتحة الراء، كما في (ولا الضالين) فيمن همزه
قال الدماميني: ويمكن أن تكون الحركة حركة إتباع، وإن كان في كلمة
فعلى هذا يكون البيت موزوناً، حيث لا ضميمة إليه من أبيات أخر
علي حسين محمد
المدرس بمعلمات أسيوط
سير النبلاء للذهبي
تذييلاً لما نشر الأستاذ الفاضل كوركيس عواد في العدد 471 من الرسالة، نشير هنا إلى أن الأستاذ سعيد الأفغاني نشر جزءاً في 40 صفحة من سير النبلاء للحافظ الذهبي بدمشق سنة 1941 وطبع بمطبعة الترقي. وهذا الجزء خاص بترجمة الإمام ابن حزم الظاهري مع مقدمة ضافية في حياة الذهبي بقلم الناشر، نسخ له من خزانة إمام اليمن صاحب الجلالة يحيى حميد الدين. وسير النبلاء كتاب ضخم للذهبي في عشرين مجلداً، وفي الخزانة المذكورة منه بضعة مجلدات.
وقد كتب وجيه الحجاز الشيخ محمد نصيف إلى الأستاذ الأفغاني يبشره أن جلالة الإمام يحيى أمر أن يبحث عن بقية المجلدات في أطراف المملكة اليمنية كما أمر بالشروع في نسخ المجلدات الموجودة لترسل النسخة إلى دمشق وتهيأ للطبع. وفي ذلك بشرى لأهل العلم والتاريخ في إحياء سفر نفيس يتفرد بمزايا ليست في مرجع آخر مطبوع ولا مخطوط كما يظهر ذلك من مقدمة هذا الجزء المطبوع.
(مطلع)
كم ذا
قرأت في العدد (462) من مجلتكم الغراء كلمة بعنوان (كم ذا) يستوضح فيها الكاتب عن مدى صحة قول حافظ رحمه الله:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي=في حب مصر كثيرة العشاق
واطلعت على بعض الردود التي لم تنه الموضوع، لذلك أحببت الإدلاء بهذه الكلمة إكمالاً لما سلف أن نشر
إن (كم) في البيت استفهاميه ومميزها محذوف تقديره (كثيراً) أو ما هو معناه:
إلى كم ذا التملق والتواني
…
وكم هذا التمادي في التمادي
و (ذا) في بيت حافظ في محل نصب مفعول مقدم لـ (يكابد) وهو مما أضعف التعبير إلى حد كبير وكان مثار استيضاحٍ الكاتب. وسبك الشطر منثوراً يكون هكذا: (كم كثيراً يكابد عاشق مصر هذا الألم)، و (يلاقي) زائدة جئ بها للوزن وللقافية. على أن في البيت غلطة نحوية باستعمال لفظة (كثيرة) فهي إن نصبت على الحالية لم يستقم المعنى، لان كثرة
عشاق مصر لا يكون حالاً من المكابدة. وإن جرت على الصفة احتاجت إلى التحلية بال المعرفة. وبذلك ينكسر الوزن. وعليه يكون من الضرورة استبدال لفظة (الجمة) بلفظة (كثيرة) ليستقيم الوزن والمعنى معاً. وفي هذا الكفاية.
حسين الظريفي