المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 479 - بتاريخ: 07 - 09 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٧٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 479

- بتاريخ: 07 - 09 - 1942

ص: -1

‌كَررَي.

. .

للأستاذ عباس محمود العقاد

وما كَررَي؟

شئ من الشرق أو من الغرب، ويشار إليه بضمير المذكر أو ضمير المؤنث، وقديم هو أم حديث؟ كثير من الناس لا يعلمون! وكان ينبغي أن يعلموا ولو بعض العلم، لأنه شئ متصل بما نحن فيه، وبما العالم كله فيه، ولو بعض الاتصال

اسم كَررَي متصل بتاريخ مصر والسودان في العصر الحديث.

ومما لا شك فيه أنه على اتصال بالحرب العالمية الحاضرة في جملة أسبابها البعيدة التي توارت الآن وراء أسبابها القريبة. فإن كانت للحرب العالمية الحاضرة، وللحرب العالمية التي قبلها أسبابٌ لها سنوات، فاسم كَررَي لا ينفصل من أسبابها الأولى أقل انفصال؛ لأن علاقته بالأطوار الأوربية أواخر القرن الماضي كأوثق علاقة تكون.

كَررَي كان له شأن في تحول المآرب الاستعمارية عند كثير من الدول التي أثارت الحرب العالمية الماضية، وعادت فأثارت الحرب العالمية الحاضرة

كان له شأن في سياسة (بين القاهرة ورأس الرجاء)، أو (بين القاهرة والكاب)

وكان له شأن في اندفاع الألمان إلى القارة الأفريقية، وفي موقف فرنسا من مراكش وأفريقية الشمالية، وفي ظهور إيطاليا على شواطئ البحر الأبيض بعد شواطئ البحر الأحمر، ثم فيما تلا ذلك في تجدد الأحلام بالدولة الرومانية

ومتى اتصل شأن كَررَي بهذا، فقد اتصل بجميع ما يخوض فيه العالم اليوم، وكان له من قبل ذلك اتصال بمصر والسودان.

كرري هو الوادي الذي انهزمت عنده جيوش الخليفة عبد الله، ودخل وادي النيل من جرائه في تاريخ جديد، ولك أن تقول: بل هو العالم كله قد دخل من جرائه في طور جديد.

وقفتُ على ساحة (كرري) في مثل الوقت الذي جرت فيه وقعته الفاصلة

كانت زيارتي للوادي في أوائل أغسطس، وكانت الوقعة في أوائل سبتمبر، قبل أربع وأربعين سنة

فالمنظر الذي رأيته هو منظر الوادي يوم الوقعة بغير كبير اختلاف: هو النهار الضاحي،

ص: 1

وهي السحب التي تبشر وتنذر: تبشر بالمطر وتنذر بالصواعق، وكانت وما يبالي بها أحد صبيحة يومه المشهود، لأنهم كانوا يرجون ما هو أرجى من المطر، ويرهبون ما هو أرهب من الصواعق، ويستقبلون مشرقاً يعرفون ما يستقبلهم من مغربه إذا انتصروا، وما يستقبلهم منه إذا انهزموا: مجد أو موت، والفاصل بينهم وبين واحد منها بضع ساعات

وكم تصنع بضع ساعات في تواريخ الأمم؟

هناك التلال المتجهمات للشمس، أعلاها لا يعلو فوق مائة متر في الفضاء

وهناك الحجارة والحصباء، أحدث أخبارها التي تتحدث بها إليك غضبة بركان قديم!

وهناك الأخدود الذي كانوا يتوارون فيه من المستطلعين فيواريهم ويخفي آثارهم، لأن مطية الهواء لم تكن في ذلك العهد مما يكشف ذلك الخلاء، ولا أي خلاء

وهناك السكون ثم السكون ثم السكون. سكون اليوم، وسكون أمس، وسكون عام مضى، وسكون أعوام، ما عدا ذلك اليوم في ذلك العام

ولو أنك سألت (كرري) ماذا صنعت يا كرري؟ أو ماذا صُنع فيك؟ فيم تراه يجيب؟

أكبر الظن أنه يستعيدك السؤال مرات! ماذا صنعت؟ ماذا صنعت؟ لا أدري!

- لا بل صنعت كثيراً (يا كرري). . . أفلا تذكر؟ ألم يبق في ذكراك غير هذا السكون؟ ثم هذا السكون، ثم هذا السكون؟

- غضبة بركان قديم لم يغضب منذ آلاف السنين؟ أتسألني عن هذا وتلك آثاره تنبئك بغير سؤال؟

- لا. بل غضبة بركان أقرب من ذاك جداً إلى ذاكرة من يذكر، ولا أثر له فيك يغني عن سؤال! ألا تعرفه؟ ألا تعرف تلك الحمم؟ ألا تعرف تلك النيران؟

- تلك براكينكم يا صاح تسألون عنها أنفسكم وتصلون منها بحممكم ونيرانكم، وتحتفظون بآثارها وآثاركم، وتسمونها الأسماء، وإن هي إلا هواء يعبر بي كهذا الهواء

وكرري لا يقول غير هذا لسائله، إذا قال

لكن (كرري) جماد مسكين لا يعلم إلا ما يعلمه الجماد المسكين، ولم يدخل قط في علم الجماد المسكين أن براكينه صرخة في فضاء ما لم يتصل بهذا المخلوق الضئيل الذي هو نحن الآدميين! وأين غضبة ذلك البركان الذي تنبئنا به حجارة كرري من براكين هذه

ص: 2

الأيام؟ وأين هو من معقبات ذلك اليوم الذي تقدم قبل أربعة وأربعين عاماً في خلاء أم درمان؟

ذلك بركان غضب ولم يعرف كيف يغضب. ذلك بركان حليم جد حليم. ذلك بركان يعرف نار الأرض ويعرف نار الصاعقة ولا يعرف النار التي يجمعها الإنسان في أوعية صغار، كل وعاء منها كأنه جبل من نار!

أو هو قد عرفها فمرت به كما يمر كل شئ بالجماد، وبالإنسان الذي فيه قرابة من الجماد

وغمضة العين هنا هي أولى بالنظر من فتحها في سطعة هذا الضياء، فلن ترى إن فتحت عينك في الوادي إلا يومك الذي أنت فيه، وقد تغمضها فترى أعواماً وراء أعوام

وكأني رأيت الوادي يموج بالعمائم البيض والطرابيش الحمر والقبعات الصفر والوجوه التي فيها من اختلاف الألوان كل ما في العمائم والطرابيش والقبعات

وكأني رأيت النصر يدور بين المعسكرين، فلا يدنو حتى يبتعد ولا يبتعد حتى يدنو، ولا يزال بين إقبال وأدبار، وبين طلوع وأفول في سحابة نهار

لقد كان في الميدان جيشان من الماضي والحاضر، ولم يكن به جيشان من عصر واحد. فحكم الزمن بمصير المعركة قبل أن يلتقي الجيشان

كانت الحضارة والمدفع الرشاش والأسطول الصغير في أحد الجانبين

وكانت البداوة في الجانب الذي يناضله، وليس معها من سلاح غير الحراب أو راميات بالنار تشبه الحراب، وكل أولئك من عمل الحضارة نفسها في أوان فات

وقيل إن السيف الذي شهره المهدي كان سيفاً لبعض الفرسان التيوثون في الحروب الصليبية عليه طابع شارل الخامس ثم انتقل إلى سلاطين دارفور، وهو تاريخ فيه من الحق أكثر مما فيه من الأساطير

فهذا السيف كان رمز القوة التي أعتز بها الخليفة عبد الله، فلم يزد عليه من العصر الحديث ما هو أقوى منه بكثير، إلى جانب المدفع الرشاش

لقد حارب بعد زمانه بسبعمائة عام، فأحرى ألا يصيب في غده ما لم يصيب في أمسه، وهو إذ ذاك أمضى سلاح

وأما الشجاعة فلا شجاعة فوقها، يتمناها لجيشه كل قائد في كل قتال

ص: 3

وأما النظام فيخطئ من يحسبه لغواً في جيش الدراويش لأنهم كانوا على نظام في الحركة لا يخرج من زمام القيادة، وإن كانت القيادة نفسها مضللة الزمام

وأما الحيلة فهي ليست في ذلك الجيش بالقليلة، بل لعلها كانت وشيكة أن تفلح في يومها، لو لم يتأخر الموعد ببعض القادة عن الهجوم في حين الحاجة إليه

إنما كانت الغلبة لزمن على زمن، ولغد على أمس، وكل معركة فيها الغد والأمس قرنان متصاولان فالغد صاحب الغلبة فيها لا مراء

وكنت أقرأ عن حروب عمر بن الخطاب وأنا أطوف بين بيت الخليفة وكرري وأذكر هذا الصراع إلى جانب ذلك الصراع

أكان القدر هو الذي ساقني في تلك الفترة إلى كرري، أم هو الذهن يشتغل بالشيء في حين من الأحيان فيرد كل ما يراه وكل ما يسمع به إليه؟

ليكن هذا أو ذاك. فقد علمت شيئاً من (كرري) وأنا أنظر في حروب الفاروق مع دولتي الفرس والروم، ولم أكن لأجمع بين العبرتين لولا أن وقفت بكرري وعرضت فتوح عمر وأنا واقف هناك

إن العقيدة لتظفر بما تريد وهي مع الغد على وفاق، ولا تظفر بشيء ذي بال وهي مع الغد على عداء

ولم تكن العقيدة ناقصة في جيش الخليفة عبد الله، بل كان له حظ منها كأوفى الحظوظ، وكان الرجل من الدراويش يهجم على النار بغير سلاح ولا يبالي الموت، فقصارى جزائه من هذه الشجاعة كان أن يموت

وكانت العقيدة زاد المسلمين في جيوش عمر فشجعوا وظفروا وعاشت عقيدتهم بعد من ماتوا، لأنها كانت عقيدة يحارب معها الغد وتجري في طريق التقدم، فلا تتصارع العقيدة والغد إلا كان النصر للغد على العقيدة، ولا يتفقان ويغلبهما غالب كائناً ما كان حظه من الجند والسلاح.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌منهاج الذاتية الأدبية

للدكتور زكي مبارك

صديقي. . .

كتبت إليّ تسأل عن المراد من (الذاتية الأدبية) وهي كلمة يكثر ورودها على سنان قلمي، ثم تدعوني إلى رسم المنهاج، إن كان لها منهاج

وأجيب بأن الذاتية الأدبية هي أن تكون أنت أنت فيما تكتب وفيما تقول، بحيث يشعر من يقرأ لك، أو يستمع إليك، أنك تنقل عن قلبك وضميرك، وأن لك خصائص ذاتية لا يزاحمك فيها سواك، وأنك لو نشرت مقالاً بدون إمضاء لتم عليك الروح قبل أن يتم عليك الأسلوب، فإن الأساليب قد تتشابه في كثير من الأحايين تشابهاً يسمح بإضافة آثار كاتب إلى كاتب، أو شاعر إلى شاعر، أو مؤلف إلى مؤلف، عند طيّ الأسماء

أما التشابه في الأرواح فهو نادر الوجود، ولعله لا يقع إلا عند ضعف الأرواح، كما تتشابه الغرائز أو تتماثل عند صغار الطير والحيوان

ولتوضيح هذه النظرية أذكرك بمعلقة امرئ القيس ومعلقة لبيد، فمعلقة امرئ القيس يمكن أن تضاف إلى غيره من الشعراء، ويمكن لأي شاعر أن ينظم مثلها بلا عناء، أما معلقة لبيد فهي شعر لبيد، ولن يحاكيه فيها شاعر، ولو قضى العمر في رياضة النفس على الاقتداء

وبفهم هذه النظرية تتضح مشكلةٌ عجز عن حلها من تحدثوا عن المتحول من الشعر الجاهلي، لأنهم يبنون أحكامهم على الأساليب لا على الأرواح؛ فرقّة الأسلوب هي عندهم خَصيصة حضرية، وجزالة الأسلوب خَصيصة بدوية، وعلى هذا يقاس، كما صنع سعادة الدكتور طه بك حسين

الروح هو الأصل في تقدير القيم الأدبية، وعن الروح يتفرع الأسلوب. ولو شئت لقلت إن لكل كاتب أساليب تختلف باختلاف مقامات الإنشاء، كما تختلف نظرات العيون باختلاف مقامات الحديث، وكما تختلف نبرات الأصوات لمثل تلك الأسباب، ثم يبقى الروح الذي يدل على صاحبه في جميع الحالات بلا استثناء

فانظر أين أنت من هذه الحدود: أينم عليك روحك؟ أينم عليك أسلوبك؟ أتنم عليك التبعية

ص: 5

الذليلة في الروح والأسلوب لأحد الكتاب أو أحد الشعراء

أنظر أين أنت، فأنا أحب أن أعرفك بالروح قبل أن أعرفك بالأسلوب، وافهم جيداً أنه لا قيمة لأديب بلا روح، روح أصيل تعرفه بسيماه، ولو أقبل عليك ملَّثماً مع ألوف من الأرواح

هل قرأت سورة يوسف؟

في تلك السورة الكريمة آيةٌ صريحة في أن يعقوب وجد ريح يوسف قبل أن يصل القميص، وأنه شُفِي من عماه عند وصول القميص

فهل تفهم المراد من هذا الرمز الطريف؟

هل تفهم كيف يدرك الأعمى أشياء بطريق لا سمع فيه ولا لمس؟

هذا هو الروح الذي أحب أن تلتفت إليه في حياتك الأدبية؛ الروح الذي يدل عليك من أول سطر، أو من أول حرف، قبل أن يرى القارئ اسمك في خاتمة مقالك، فإن وصلت إلى هذا فأنت من أصحاب الذاتية

ولكن كيف تصل؟

هنا يبدأ الحديث عن المنهاج:

يجب أولاً أن تحرر عقلك وقلبك وروحك من جميع الأوهام والأباطيل والأضاليل. ومعنى هذه الوصية أنه يجب أن تنظر في جميع الأشياء وجميع المعاني نظرة استقلالية منزهة عن الخضوع لنظرات من سبقوك ولو كانوا من أعاظم الرجال، لأن الغرض هو أن تصبح روحك جارحة من الجوارح، وهي لا تصير كذلك إلا إن عودتها الفهم والإدراك بلا وسيط. وهل تكون الروح أقل قيمة من الرِّجل، يا بني آدم، والرجل لا تمشي إلا إن عودناها المشي؟

وإذا كان علم السباحة لا يُعّرف بالوصف، وإنما يُعَرّف بالتدريب على مغالبة الماء في أيام أو أسابيع، فعلم الروح لا يدرك بالوصف، وإنما يدرك بتدريب الروح على التذوق والتفهم في أعوام أو أزمان

أراد سابح عبور النيل فغرق، وأراد سابح عبور المانش فنجح، مع أن السباحين توأمان. فكيف نجح هذا وغرق ذلك؟ يرجع الفرق إلى اختلاف التمرين والتدريب. وما يقال في

ص: 6

القوة الجسمية يقال في القوة الروحية. فعاود روحك بالتمرين والتدريب في كل وقت، واحفظها من الغفلة عن إدراك دقائق الفروق بين الأشياء والمعاني، وعودها التفكير في جميع ما ترى عيناك، وما تسمع أذناك، وما يهجس به الخاطر في اليقظة أو في المنام، فالنوم كلمة سوقية وليس له مع حياة الروح وجود

إن عملت بهذه الوصفة عاماً أو عامين ظفرت حتماً بالحاسة الذوقية، وهي مفتاح الظفر بالذاتية الأدبية، فتوكل على الله وابدأ من هذا اليوم

ويجب ثانياً أن توطن النفس على الغربة الأبدية ولو كنت في دارك وبين أهلك، فالمفكرون في جميع العصور غرباء

لن يكون لك ظهير غير قلمك، ولن يكون لك نصير غير روحك، فاعرف أين تضع قدمك قبل أن تخاطر بنفسك فتصحب رجال القلم البليغ

إن صحبتنا متعبة ومضنية ومؤذية، لأن طريقنا أشواك من تحتها أشواك، وقد رحبنا بالظمأ والجوع، وبما هو أفتك من الظمأ والجوع، في سبيل الذاتية الأدبية، فانظر كيف تصنع إذا ضَعُفتَ عن السير في بداية الطريق، أو في منتصف الطريق، طريق الموت أو الخلود

أنا أرحمك فأنهاك عن الاحتراق بنار الأدب، وليتني وجدت من ينهاني قبل أن أحترق!

إن صريع الأمواج يجد من يمدّ له يد الإنقاذ والإغاثة، أما صريع النيران فلا منقذ له ولا مغيث، ونحن صرعى النيران لا الأمواج

إن اللصوص يتعاطفون فلا يشهد بعضهم على بعض، ولا يكيد أحدهم لأخيه، ولسنا لصوصاً حتى نعِدك ونمنّيك، وإنما نحن أدباء يكتب أحدنا لزميله صحيفة الاتهام، بلا تورع ولا استحياء

ارجع قبل أن تحترق، أيها الخاطب لما يسمونه الأدب الرفيع

ولو أني أملك الرجوع لرجعت، فارجع أنت قبل أن يصعب عليك الرجوع، وقبل أن تصير الاستغاثة فوق ما تطيق

كان شيخنا العظيم (عبد الحميد بن يحيى الكاتب) زودنا بنصائح تحفظ كرامة رجال الأقلام، فهل سمعنا وأطعنا؟ هيهات ثم هيهات!

لا يخدعك السراب الخداع فتتوهم أن احتراف الأدب أنفع من الاتجار بالتراب، ولا تُطِع

ص: 7

المضللين من أدعياء الأدب إلا إن ارتضيت إطاعة الشياطين

لقد نصحتك ونصحتك ثم نصحتك، فإن رأيت أن هذا النصح لم يؤثر في نفسك، ولم يصّدك عن عزمك، فأقبل ثم أقبل على الاحتراق باللهب المقدس، لهب الأدب، فنحن وحدنا الأحياء، ونحن وحدنا الخالدون، ولأعدائنا الموت والفناء!

إن كَلمةً تُضَمُّ إلى كلمة في ذكاء ولوذعية أشرف وأعظم وأنفع من كنوز تضاف إلى كنوز؛ وإن جود الله بالفكر والروح على من يصطفيهم من عباده، لهو أطيب الهبات، وأكرم الأرزاق

أقسم الله بالقلم ولم يقسم بالمال، ونحن بالله مؤمنون!

هل رأيت الله تخلى عن أديب سليم القلب قوي الروح؟

لقد خرج المتنبي هارباً من مصر في ليلة عيد، فكم ألوفاً من الدنانير أنفقت في مصر في تعليم أبنائها حكمة المتنبي؟

وقد مات محمد عبده بعلة أورثه إياها عقوق معاصريه، فكم أُلوفاً من النفوس حاولت التشرف بأنها رأته قبل أن يموت؟

وعانى مصطفى كامل الكاتب والخطيب أشتات التهم الأواثم، ثم كان من خصومه وحاسديه ومبغضيه من اشترك في صنع التمثال

ومرت آلاف السنين، والناس جميعاً يستوحشون من الليل، فكان غناء المصريين: يا ليل. . . يا ليل!!

صديقي:

أتراني شرحت المراد من الذاتية الأدبية، ثم رسمت لك المنهاج؟

هذه ومضة من ومضات، وسأرجع إلى إرشادك بالتفصيل، حين أطمئن إلى أنك أحد الأوفياء بالعهود.

زكي مبارك

ص: 8

‌مهمة التعليم الجامعي

لمناسبة إنشاء جامعة فاروق الأول

للأستاذ عبد الله حسين

لعل من أمارات التوفيق أن يتاح لمصر إنشاء جامعة جديدة شاملة مختلف الكليات، وهي جامعة فاروق الأول في الإسكندرية التي ستفتتح في العام الدراسي الجامعي القريب. فقد حقق هذا أمنيةً طالما جاشت في الصدور؛ وسيكون من علائم التوفيق أيضاً أن يتاح لأبناء الصعيد جامعة في عاصمته (أسيوط)، وأن تتوالى بعدئذ الجامعات، فتصبح مصر موطناً صادقاً للثقافة في الشرق الأوسط، وتستعيد مصر حضارتها العلمية القديمة، حيث تخرج الأساتذة للعالم الشرقي العربي، وإن شئت للعالم كله

غير أن إنشاء الجامعات لا يحقق وحده هذه الأماني، متى كان الأمر مقصوراً على الصور والهياكل والأشكال. كما أن إنشاء البرلمانات وإقامة الدساتير ذات المواد الكثيرة، لا يحقق بذاته المعنى النيابي التمثيلي المنشود، مهما تتألف هذه البرلمانات من مجالس الشيوخ والنواب، بما تضمه من مكاتب ولجان؛ ومهما يكن للنواب من الحق في تقديم الأسئلة وتوجيه الاستجوابات وحق طرح الثقة، ما دام أن النواب لم يستطيعوا أو لا يستطيعون بالفعل، لا بعمل الدستور، أن يسقطوا الوزارات؛ بل إن من الوزارات ما يستطيع أن يسقط المجالس النيابية، ويلغي الدساتير، ويستبيح كل ما حرمته

ليس من شك في أن كل أمة تشغل بالعرض عن الجوهر، ويصرفها الشكل عن الموضوع - لن تظفر بما تبتغي من الأغراض، إذ أن هذه الأغراض ستظل أمنية وخيالاً بديعاً وحلماً جذاباً

من أجل هذا، نرجو أن يتاح لجامعة الإسكندرية ما لم تتحه الملابسات لجامعة القاهرة. فإن هذه الجامعة لا تزال جامعة شعبية أو في حقيقتها مجموعاً من المدارس العالية، غايتها عقد امتحانات وتوزيع شهادات، وانصراف حملتها بعدئذ إلى الوظيفة.

لم يتهيأ لجامعة القاهرة إلى اليوم أن ينصرف أساتذتها وطلبتها إلى البحث العلمي كغاية أولى للجامعة. ذلك أن نشأة الجامعة الأولى بجمع المدارس العالية التي كانت قائمة يومئذ تحت اسم الجامعة، والوقت السياسي، والتيار الحزبي الذي قامت فيه الجامعة، وفترة

ص: 9

التحول من السيطرة الأجنبية على التعليم إلى الحكم التعليمي الوطني، وتشبع الكثيرين من رجال الجامعة وطلبتها بالطموح السياسي، والحفاوة بالأعمال الإدارية التي تطغي على القائمين بها لوناً من الجاه الحكومي؛ كل هذا قد صرف الأذهان كثيراً عن التجرد للبحث العلمي دون سواه من الغايات المادية والسياسية

وحسبنا أن نشير إلى ذلك العدد الكبير من رجال الجامعة الذين غادروا مقاعد التدريس إلى مناصب الدولة الأخرى، وتطلع من خلفوهم إلى هذه المناصب ذاتها

فإذا استطاعت الجامعة الوليدة، جامعة الإسكندرية الجديدة، أن تحقق المعنى الجامعي، بأن يقف أساتذتها وطلبتها جهدهم على المساهمة في البحوث العلمية، وأن يشاركوا في المجهود الذي تقوم به الجامعات الأخرى، حققنا الغاية من إنشاء الجامعة، على أن ندع لجامعة القاهرة مهمتها الشعبية من حيث تخرج حملة شهادات للتوظف، تاركين للزمان أن يهيئ لها تحولاً صادقاً إلى المعنى الجامعي الحقيقي.

كان المعنى الجامعي متحققاً في الأزهر في أشد الأزمات التي نزلت به، ذلك أنه كان هناك شيوخ وطلبة تجردوا عن المادة والجاه، للعلم الأزهري، يدرسونه في الأزهر والمسجد والدار وعلى قارعة الطريق وفي الأفراح والمآتم: كان الشيخ يتحدث إلى الناس في كل مكان جاعلاً علمه شائعاً لا يبغي من وراء ذلك جزاءً أو شكراً. أما إذا كان شيوخ الأزهر لم يوفقوا يومئذ في المساهمة العامة للبحث العلمي الإنساني، فإن مرجع هذا إلى الأحوال السياسية وفساد الحكم والحكام وعدم التشجيع.

فالتجرد للعلم والانصراف عن المادة أو توجيهها لخدمة البحث العلمي - هو العنصر الأول للجامعة لكي لا تكون اسماً أو رمزاً لا يدل على حقيقة

نريد علماء لا نشغلهم بالتقليب ولا يشغلون أنفسهم بالدرجات والرتب والأوسمة واتخاذ التدريس وسيلة إلى الجاه الحكومي على صورة من الصور. علماء يحج الناس من مختلف البقاع للتشرف بالاستمتاع إليهم والمباهاة بلقائهم واتخاذ مؤلفاتهم مصابيح للاهتداء ومراجع للاقتداء

وعندي أن هذا سيكون ميسوراً لجامعة الإسكندرية أكثر من جامعة القاهرة؛ حيث تتجمع فيها أندية السياسة والصحافة والأحزاب والألقاب وألوان الجاه، لن تفتأ تجلب إلى جاهها

ص: 10

رجال الجامعة والتعليم. أما الإسكندرية فهي بمنجى عن هذا الجاه. في الإسكندرية الهدوء والصفاء وزرقة السماء والماء - الأمر الذي ينشده العلماء ولا يجدونه في القاهرة الصاخبة المتقلبة الضخمة

فعلى رجال الدولة - والأمر كما أوضحنا - أن يهيئوا الجامعة الإسكندرية ذلك الجو الجامعي، وتلك البيئة العلمية الحقة، لكي تستعيد مفاخر جامعة الإسكندرية القديمة

عبد الله حسين

ص: 11

‌مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية

نقلاً عن (برنارد لويس)

للأستاذ عبد الوهاب الأمين

2 -

بداية الاستشراق

لقد رأينا كيف ذهب العلماء الإنجليز في القرون الوسطى إلى أسبانيا وصقلية لتلقي العلوم من العرب، وكيف نشروا ما اكتسبوه من عودتهم إلى إنجلترا. وسنتطرق الآن إلى تطوير جديد في الدراسات العربية، وهو ظهور ما ينبغي أن يسمي أوائل المستشرقين بالمعنى الذي تؤديه كلمة الاستشراق في العصر الحاضر. فقد حدثت تغيرات كبيرة في خلال السنين التي مرت على الزمن الذي مر بين الدور الذي درسناه في حديثنا السابق، والدور الذي سنأتي إليه الآن. فتقدمت أوربا تقدماً ذا شأن في العلم والمعرفة، وفقد العرب تفوقهم القديم، ولم يعد من الضروري للدارسين من الأوربيين أن يتطلعوا إلى مدرسين من العرب، ليتلقوا منهم العلوم العامة، وأخذنا نشاهد نوعاً جديداً من الاستشراق، وهو ذلك النوع الذي يعتبر أساً للاستشراق الحديث؛ فقد أخذ الباحث الإنجليزي يدرس العربية لا لتحصيل ما يمكن أن يأخذه من العالم العربي من فلسفة وعلم، بل من أجل الثقافة العربية نفسها. وللمرة الأولى شرع الإنجليز في دراسة اللغة العربية والآداب العربية دراسة جدية. وكان عملهم - كعمل المستشرقين المحدثين - ذا نفع للعرب بقدر نفعه للفرنك، وهو ينطوي على جمع القواميس العربية والنحو والصرف ونشر المخطوطات العربية - قبل أن يتم طبعها في الشرق بزمن طويل - والبحث العلمي في تاريخ العرب وآدابهم، وغير ذلك من مظاهر النشاط التي تدخل في هذا المضمار. وقد بدأت هذه الحركة في القرن السابع عشر، وفي هذا القرن أنشئ منصب أستاذية اللغة العربية في جامعتي أكسفورد وكامبردج؛ وأخذ الأساتذة الإنجليز يدرسون اللغة العربية لعدد من المتشوقين لها من الطلاب، وطبعت أوائل الكتب العربية في إنجلترا. وعلينا أن نأتي بشيء من التفصيل لحياة بضعة أفراد من ذوي المشاركة في هذه الأعمال:

إن الرجل الذي يعرف بصورة عامة بأنه (أبو الدراسات العربية) في إنجلترا هو (وليم

ص: 12

بدويل) (1561 - 1632) وله مقالة طريفة يؤكد فيها أهمية اللغة العربية وضرورة تعلمها، وهو يصفها بكونها (لغة الدين الوحيدة، واللغة الرئيسية للدبلوماسية والأعمال من الجزر السعيدة إلى بحار الصين).

وتكلم عن نفعها في الآداب والعلوم. ولقد كان لبدويل بعض الشهرة في عصره، وعرف في جميع أوربا بأنه عالم بالعربية، وكان أهم أثاره معجماً عربياً في سبعة مجلدات لم يطبع لسوء الحظ.

وفي وسعنا أن نذكر في بعض كتبه بعض الأصول العربية التي طبعت في إنجلترا، وبعض الدراسات عن القرآن، ومعجما للألفاظ العربية المستعملة في اللغات الغربية من العهد البيزنطي إلى عهده هو

وهناك شخصية أخرى هي شخصية (أدموند كاستل)(1606 - 1658) وهو أحد أوائل أساتذة كامبردج في اللغة العربية، وقد كان الأثر الذي أفنى فيه حياته هو (قاموس اللغات السامية)، استنفد تصنيفه منه ثمانية عشر عاماً، وطبع لأول مرة في سنة 1669. ويتكلم مؤلفه في مقدمته عن (الإثني عشرة عاماً التي انقضت في العمل المستمر لما يزيد على 16 أو 18 ساعة في اليوم - ونادراً في ما قل عن هذا المقدار - من السهاد، وضنى الجسم، وضياع المال). وقد كان هذا القاموس - وهو الأول من نوعه - عظيم لأهميته وأعيد طبعه عدة مرات في إنجلترا وأوربا. ونذكر من جملة آثار كاستل الأخرى عجالة عن أهمية اللغة العربية، وتعليقاً على أبن سينا، ومجلد أشعار عربية مهدي إلى الملك شارلس الثاني ملك إنجلترا

ومنهم (جون كريس)(1602 - 1652)، وهو أحد الرياضيين المشهورين. وكان وقتاً ما أستاذ علم الهيئة في جامعة أكسفورد. وكان كثير الأسفار إلى الشرق الأدنى وعلى الأخص إلى مصر، ودرس اللغة العربية والفارسية دراسة جدية، واقتنى مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية والفارسية، والنقود والجواهر، وطبع أجرومية صغيرة للغة الفارسية. وكان اهتمامه الرئيسي في الناحية الرياضية من أدب المسلمين فنشر عدة نصوص ودراسات في هذا الموضوع، وكان أخوه (توماس كريفس) يعرف العربية أيضاً والفارسية ونشر بضع مقالات

ص: 13

ونذكر من جملة العلماء في العربية الآخرين في القرن السابع عشر (إبراهام ويلوك) وهو أول أستاذ للغة العربية في جامعة كامبردج؛ و (سامويل كلارك) صاحب عجالة في القريض العربي ومفردات بعض أسماء الأماكن العربية؛ و (بريان والتون) الذي طبع الإنجيل بعدة لغات شرقية؛ و (وددلي لوفتس) وهو أحد علماء وفقهاء القانون الإرلندي. وقد لعب (جون سلدان)(1584 - 1654)، السياسي القانوني دوراً مهماً في الحياة الإنجليزية في ذلك العهد، وكان يعرف عدة لغات شرقية منها اللغة العربية فضلاً عن معلوماته الأخرى. وقد نقح ونشر بعض النصوص التاريخية، وترك وراءه مجموعة من المخطوطات الشرقية

ولقد كان أعظم العلماء بالعربية في ذلك الحين بلا منازع هو (ادوارد بوكرك)(1604 - 1691) الذي كان أول من شغل منصب أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد، وأول المستشرقين الأوربيين الذين قاموا بأعمال من الدرجة الأولى حقاً؛ فقد بدأ بوكرك دراسته للغة العربية في أوائل عمره؛ وكان وليم بدويل يرعاه، كما قام (ماثياس باسور) - وهو أحد النازحين من ألمانيا بسبب الاضطهاد - بتعليمه مدة من الزمن في جامعة أكسفورد. وذهب في سنة (1630) إلى حلب حيث قضى هناك خمس سنوات أتقن في خلالها اللغة العربية كتابة ولفظاً، واقتنى مجموعة من نفيسة من المخطوطات العربية جاء بها معه عند عودته إلى أكسفورد، وبذلك أنقذها من التلف الذي كان من المحتمل أن يحل بها، وأنشأ لنفسه صداقات مع كثير من الحلبيين وعلى رأسهم (الشيخ فتح الله) أحد العلماء الذين درس عليهم، وقد بقى صديقاً له مدى حياته.

وفي سنة 1636 عندما عاد بوكرك إلى إنجلترا عين في المنصب الذي أنشئ حديثاً للغة العربية في أكسفورد، حيث حاضر في الأدب العربي وقواعد اللغة العربية، وبدأ فصوله تلك بمحاضرة عن أهمية اللغة العربية والأدب العربي. وشرع في سلسلة محاضرات يدرس فيها أقوال الإمام علي.

وفي سنة 1637 زار مصر للمرة الثانية بغية الحصول على معلومات جديدة ومخطوطات جديدة، وقد عاد إلى أكسفورد في سنة 1641 وخصص أيام حياته الأخيرة للعمل المنتج في إنجلترا، وكان (جون كريفس) الرياضي قد صاحبه في رحلته الثانية.

ص: 14

وفي خلال إقامته الطويلة في أكسفورد - حيث كان يجلس في ظل شجرة التين التي جاء بها معه من سوريا، والتي لا تزال موجودة إلى الآن، وهي أقدم شجرة من نوعها في إنجلترا - أخرج بوكرك عدداً كبيراً من الكتب المهمة نذكر منها ما يلي:

1 -

(نموذج من تاريخ العرب): وهو نصوص من تاريخ أبي الفرج، مردفة بسلسلة من الدراسات المستفيضة عن النواحي المختلفة لتاريخ العرب، وعلومهم، وآدابهم، ودينهم. وهذا الكتاب من أهم آثار المستشرقين، وظل يحيل هذه المنزلة لدى العالم مدة طويلة. طبع في أكسفورد سنة 1649 وأعيد طبعه في سنة 1806

2 -

لامية العجم: وهي طبعة انتقادية لقصيدة الطغرائي الخالدة، وقد أوقفت بترجمة وشروح وملاحظات، وطبعت في أكسفورد سنة 1661

3 -

المختصر في تاريخ الدول: وهو النصر الكامل لتاريخ أبي الفرج مع ترجمته.

لقد وسم (بورك) بحياته وأثاره دوراً من أدوار الدراسات الأوربية الشرقية بميسمه، وكان ذا شهرة مستفيضة في زمنه، ويدين له جميع أنحاء العالم الذين خلفوه بدين كبير. وكان العلماء في جميع أنحاء أوربا والشرق يكتبون إليه طالبين المعونة والإرشاد، ويفد إليه العدد الكبير من الطلاب من البلاد القصية - كرومانيا مثلاً - إلى أكسفرد، لدراسة اللغة العربية على يد أعظم أساتذتها الأحياء في أوربا. ولقد وصفه قرينه في معرفة اللغة العربية المستشرق الهولندي كوليوس أستاذ اللغة العربية في جامعة ليدن نفسه بأنه (لا يدانيه أحد في عالم الاستشراق). وقد ترك زيادة على الكتب التي مر ذكرها عدداً من الدراسات الأخرى ومجموعة من (420) مخطوطة اقتنتها بعد موته مكتبة أكسفورد ولا تزال هناك حتى الآن، وهي تكون جناحاً ذا قيمة من القسم العربي من تلك المكتبة.

ولقد خلف ستة أبناء كان أكبرهم - واسمه إدوارد بوكرك أيضاً - (1684 - 1727) قد تابع خطة أبيه واعتنق الدراسات المشرقية، وقام بطبع عدة كتب من ضمنها الطبعة التي لم تكمل لتاريخ مصر لعبد اللطيف، وترجمة لإحدى خوالد ابن طفيل الفلسفية

وعلى ذلك كان القرن السابغ عشر دور تطور عظيم في تاريخ الدراسات العربية في إنجلترا. ويمكن إرجاع سبب الاهتمام الجديد بالدراسات المشرقية إلى عدة عوامل يأتي العامل اللاهوتي في أولها ولا شك، فقد كان من المفهوم في ذلك الحين أن اللغتين العربية

ص: 15

والعبرية متقاربتان كل التقارب. ومن المؤمل أن تؤدي دراسة اللغة العربية إلى إلقاء ضوء جديد على (العهد القديم). وأوغل من ذلك في الأهمية هو الإدراك الجديد لمنزلة اللغة العربية والتاريخ العربي من الوجهة الثقافية. ولقد شهد العصر المتقدم عهد إحياء جديدة للدراسة على أوسع معانيها؛ فشملت الاهتمام الجديد باللغات والدراسات الكلاسيكية، وكان من الطبيعي أن يدرك طلاب التاريخ البشري والمدنية أهمية اللغة العربية العظمى بين تواريخ الإنسان، وأن يعملوا على طلب المزيد من معرفتها. وقد كتب كل من بدويل وكاستل وبوكوك جميعاً مقالات عن أهمية اللغة العربية بصورة عامة، والحاجة إلى أن يدرسها رجال أكفاء

وينبغي أن نذكر أخيراً العلاقات المستجدة في التجارة والسياسة بين إنجلترا والشرق الأدنى، وما أطلقته من مصالح ومناسبات، فبفضل تلك المناسبات أتيح لبوكوك أن يقوم برحلتيه المثمرتين إلى الشرق، وكانت تلك المصالح متسعة الأرجاء ولم تقتصر على رئيس الأساقفة (لور) ولم يكن هو الوحيد الذي اهتم بنشر الدراسات العربية في إنجلترا، والمتبرع بالكرسي الأدبي للغة العربية في اكسفرد

وبالرغم من الاضطرابات التي أحدثتها الحرب الأهلية في نهاية القرن السابع عشر، فإن هذا العصر كان جديراً بالاعتبار، فقد تألفت فيه مراكز للدراسات العربية في اكسفورد وكامبردج، وطبع عدد كبير من الكتب، وأنشئ عالم جديد أنتج فيما تلا ذلك من العصور عدداً متتابعاً من الباحثين المشهورين الذين زادت آثارهم في ثروة الميراث الثقافي لكل من العرب وأوربا، وسنتكلم عنهم فيما يلي من هذه الفصول.

عبد الوهاب الأمين

ص: 16

‌ضرورة الإفصاح عن الرغائب

للأستاذ حسين الظريفي

كان مما تناولناه في مقال لنا سابق عن الرغائب، تلك القوة الديناميكية التي تتمتع بها الرغبة، وتندفع إلى الظهور؛ وما تلك القوة إلا وليدة ذلك الرباط الذي تربط به بالغريزة. والغريزة لا ريب تراث ذلك الماضي الطويل الذي يظل يتقهقر ويتقهقر حتى يتصل بأول الخليقة؛ فليس مما يقع في الإمكان أو يتصور في الأذهان، أن تبطل هذه الغرائز، أو ينعدم ما تتمخض عنه من الرغائب، ونحن لم نزل في ظروف وبين وقائع إن لم تكن مثل تلك التي احتضنت الإنسان الأول فإنها لها مقاربة. وما كان لبشر أن يحيا مجرداً عن الرغائب، وهي التي تشعره بوجوده وتدفع في طريق الأمل والعمل

والحقيقة التي يدور عليها مركز ثقل الموضوع في هذا المقال، هي أن الرغبة لا تخلو إما أن تكون تطوراً لغريزة، أو عوضاً عنها. فنحن كنا نعيش بالغريزة العمياء، حتى إذا أبعدت الحياة في مراحل التقدم، أخذت بعض الغرائز تستحيل إلى رغائب بحيث لا يبقى لها من اثر فيما استحالت إليه، إلا ذلك المعنى الذي يدفع أو يمنع. ونحن إنما نطوّر الغريزة إلى رغبة، أو نستبدل هذه بتلك، بذلك العامل الفكري الذي تمتع به الإنسان منذ عهده الأول فحدا به إلى التقليد تارة وإلى التجربة مرة أخرى، حتى انتهى به المطاف في مراحله الكثيرة إلى أن اصبح مجموعة رغائب بقدر ما كان مجموعة غرائز

وأخذت الرغبة من أمها الغريزة ما لها من قوة وفتوة، وأصبحت في نفس الإنسان مظهر قلق من هذا، وعامل إقدام أو إحجام من ذاك، ولكنها على كل حال تأبى إلا أن تدُرك مالا يُترك، وإلا بقيت في النفس شغلاً شاغلاً أو علة دفينة. فنحن لا يمكن أن نشعر بالسعادة ولو كانت محدودة في النوع وفي الزمن، ما دامت إحدى رغائبنا القوية لا تصل إلى ما تريد الوصول إليه. تلك هي العلة في شكوى أكثرنا مما يقع لهم في الحياة، حتى تكاد تضيق بهم على الرغم ما لها من سعة وما فيها من متعة. فتيار هذا الشعور إنما يرجع إلى مصدره في أعماق النفس ولا شأن له مع الخارج

غير أن قضاء هذه الرغبة وحده لا يكفي في إيجاد الشعور بالسعادة، وإنما يجب أن يرى هذا القضاء على شكله النافع لمن قامت هي عنده ولغيره من الناس. فالرغبة في ذاتها لا

ص: 17

تمثل خيراً ولا شراً، وإنما تضر أو تنفع بالقياس إلى طريق إشباعها من جوع وإروائها من ظمأ؛ لذلك أمكن أن نتخذ من الرغبة مهما كان نوعها أو لونها، عامل نصر في معركة الحياة

إن في طيات النفس ضروباً من الغرائز إحداهن غريزة المقاتلة، غير أن هذه الغريزة لم تَعُد تفصح عن نفسها في أوساط الحضارة وفي أغلب الأحيان، كما كان يفصح عنها الإنسان الأول في بيئته المتأخرة وإدراكه المحدود؛ فبعد أن كان الأوائل من أهل القرون الموغلة في القدم لا يكتفون في إشباع هذه الغريزة بغير القتل والتمثيل، أصبح لنا من وازع الضمير ومن قوة القانون ما يحول دون الإفصاح عن الغريزة بلغتها الأولى، فقد تثور في داخلنا الرغبة في القضاء على الخصم، إلا أن مانعاً يقيمه الضمير، أو رهبة تبعثها العقوبة، أو هذه وذاك مجتمعين، يحولان دون تلبية الرغبة الأولية بذلك اللسان القديم، فنختار طريقاً آخر في أمين حاجة النفس إلى إيذاء العدو، فنتعقب عيوبه ونعلنها للملأ أو نريه أنَّا له مهملون

إن من طبيعة الغريزة أنها لا تظهر إلا بما هي فيه وعليه من غير تلوين أو مراوغة. ذلك لأنها خلوة من التبصر والتدبر، فلا تعرف معنى لاختيار الأصلح في الهدف وطريقة الوصول إليه. ثم هي لا تقيم وزناً لقوة الظروف وماهية الوقائع، وإنما تتجه إلى الغاية في ذات الطريقة. لا تتلف ولا تتكلف. ولكن بظهور حياة التمدن وتقُّيد هذه الحياة بآداب الوسط الجديد وبأحكامه الآمرة أو الزاجرة، وجد المرء نفسه بحاجة إلى تعديل ما في بعض غرائزه الفطرية وإلى الاستعاضة عن بعضها الآخر بما دعوناه بالرغائب. وكانت هذه التطورات والتغيرات المتلاحقة على الغريزة أثراً لتلك المراحل الطويلة التي قطعها الإنسان في سبيل التقدم، وصدى لذلك الصوت العميق المنبعث من أعماق الضمير

يتضح من كل ما تقرر أن الخلق ليس إلا مظهراً لرغبة تقيم في العقل، ما أعلن منه وما أبطن، فإذا نحن أردنا استبدال خلق بآخر أو إجراء تعديل فيه، فلا مندوحة لنا عن التعرف بتلك الرغبة التي صدر عنها ذلك الخلق، ومن ثم إشباعها بصورة حميدة تقضي على شذوذ في السلوك. أما إذا نُظر إلى الخُلق وحده، وأهملت الرغبة التي تكمن وراءه، فإن كل مسعى في إصلاحه يذهب سدى

ص: 18

وأفضل ما يضرب به المثال في هذا المجال، ذلك الباعث الأول والدافع الأصيل في النفس وأعنى به (الغريزة الجنسية) فإن إشباعها وإرواءها مما لا مفر منه ولا محيص عنه. فإذا اصطدمت هذه الغريزة بما حال دون الإفصاح عنها، واضطرها إلى التواري من مجرى الشعور إلى ما وراءه - أبت وهي في قاع النفس إلا أن تضطرب وتلتهب وترسل في وسطها المظلم تيارات خفية من الأوامر والنواهي، تظهر على المصاب عند تلبيتها بمظاهر الشذوذ

فنحن نبدو عاجزين عن معالجة العليل إذا فصلنا الشذوذ عن الرغبة الغريزية التي تحيط به وتغذَّيه؛ فالإصلاح يجب ألا يتناول الخلق ذاته، وإنما يجب أن يتجاوزه إلى ما وراءه من بواعث خفية هي ولية الأمر في كل شذوذ عن المجموع، وفي كل ظاهرة تمر، وأخرى قد تصل إلى مرتبة الجنون، أو تؤدي إلى ارتكاب الجريمة

وقد ظهر أن هذه الغريزة قد تستفيد طاقتها وتستفرغ وسعها في صور شتى هي خلاف اجتماع الذكر بالأنثى، كالانصراف إلى الرياضة، والاشتغال بالفنون الجميلة؛ فإذا نحن عرفنا مصدر الشذوذ في الخلق وأرجعناه إلى ظمأ هذه الغريزة، كان في مكنتنا تسوية هذا الشذوذ بإزالة ذلك الظمأ. . . تلك هي الطريقة الصحيحة في تقويم ما أعوج وبناء ما انهدم من جوانب أخلاقنا واتجاهاتنا وأهدافنا في الحياة. والأمر أهون مما يُظن متى كشف عن دخيلة النفس، واستجيبت دعوة تلك الرغبة بما يرفع عنها الضغط ويعلو بها القاع

حسين الظريفي

ص: 19

‌التصوير عن العرب

كتاب المرحوم أحمد تيمور باشا

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كان أحمد باشا تيمور، أمة في النبل والعلم والأخلاق؛ وركناً من أركان العربية في الشرق؛ وكان نقابة بحّاثة متتبعاً. ما طرق موضوعاً إلا محص وحقق وجلَّى، وما ألف إلا جمع وأطرف واستقصى. ثم مضى، يرحمه الله، وخلَّف ما يدل على سعة اطلاع، وغزارة علم وَفِرَة مطالعة. وما خزانته النادرة إلا دليل فضله وآية فُرارته وعلمه

كان، رحمه الله، إذا ألف أتى بما يعجز الكثيرون من المتتبعين والمحققين والجماعين عن إدراكه وجمعه. ولقد ترك لنا كثيراً من التواليف النوادر الحسان، منها كتاب (التصوير عند العرب) هذا. ولقد عنيت في الأيام الخوالي بهذا الموضوع، فلم أعرف أحداً بلغ فيه، من دقة الاستقصاء، وجودة الانتقاء، وندرة المنتخب، وحسن التبويب والترتيب، ما بلغة العلامة المؤلف. فقد جعله على خمسة عشر باباً؛ فساق ما جمعه عن التصوير على الثياب والستور، والأقداح والأواني، والمصابيح والسلاح، والنقود، والشارات والبنود، والكتب والصحف والألواح. ثم بحث في التماثيل، منذ أيام الجاهلية إلى عصور المتأخرين الثابتة منها والمتحركة، الصامتة والمصوَّته، وتماثيل الصبيان، وتماثيل الزهر، والحلوى؛ وختم الكتاب بفصل نادر ذي شأن عن المصورين العرب

وقد خص الدكتور زكي محمد حسن هذا الكتاب الثمين بعنايته، فرد نصوص الكتاب الثمين بعنايته، فرد نصوص الكتاب إلى أصولها وصفحاتها، وألحق به تعليقات وشروحاً وتفصيلات بلغ في بعضها الذروة من حيث التحقيق والتمحيص وجمال البحث، ككلامه على التصوير عند المسلمين

وقد بدت لي، أثناء مطالعتي هذا الكتاب، ملاحظات من مآخذ وإضافات أردت نشرها تباعاً في هذه المجلة الغراء

1 -

ساق المؤلف خبر بساط أم المستعين الذي صُوّرت عليه صورة كل حيوان ص 29؛ فقال الأستاذ زكي محمد في التعليقة ذات الرقم (136): لم نقف على المرجع الذي أخذ هذا الخبر منه. وقد وجدنا نحن هذا الخبر في كتب شتى؛ كعيون التواريخ (مخطوطة المكتبة

ص: 20

الظاهرية بدمشق) وكالمستطرف في كل فن مستطرف. فقد جاء في المستطرف، وهو لا يختلف عما ذكره ابن شاكر في عيون التواريخ ما يلي:(قال أحمد بن حمدون النديم: عملت أم المستعين بساطاً على صورة كل حيوان من جميع الأجناس، وصورة كل طائر من ذهب، وأعينها يواقيتُ وجواهر)

ويستدل من تتمة الخبر أن بعض هذه الصور كان تماثيل، وربما كانت كلها تماثيل. . . فقد جاء بعد ذلك (. . . وأنفقت عليه مائة ألف ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وسألته أن يقف عليه، وينظر إليه، فكسل ذلك اليوم عن رؤيته. قال ابن حمدون: فقال (يعني المستعين) لي ولأترجة الهاشمي اذهبا فانظر إليه. وكان معنا الحاجب، فمضينا ورأينا؛ فوالله ما رأينا في الدنيا شيئاً أحسن منه، ولا شيئاً حسناً إلا وقد عمل. فمددت يدي إلى غزال من ذهب عيناه ياقوتتان، فوضعته في كمي. ثم جئناه فوصفنا له حسن ما رأينا. فقال أترجة الهاشمي يا أمير المؤمنين إنه قد سَرقَ منه شيئاً، وغمز على كمي. فأريته الغزال. فقال بحياتي عليكما أرجعا فخذا ما أحببتما. فمضينا، فملأنا أكمامنا وأقبيتنا) واقبلنا نمشي كالحبالى فلما رآنا ضحك ضحكاً وسَر سروراً عظيماً. . .)

2 -

نقل المؤلف عن النويري وصف قصر المتوكل (البرج) فقال:

(وكان فيه صور عظيمة من الذهب والفضة، وبركة عظيمة غشى ظاهرها وباطنها بصفائح الفضة وجعل عليها شجرة من ذهب فيها طيور تصفر سّماها طوبى. . .)

قلت: وفي كتاب الديارات للشابشتي الذي فرغت من تحقيقه تتمة للوصف لها علاقة بالبحث. قال الشابشتي: (وعُمل له سرير من الذهب كبير؛ عليه صورتا سبعين عظيمين، ودرج عليها صور السباع والنسور وغير ذلك مما يوصف به سرير سليمان ابن داود عليه السلام. وجعل حيطان القصر من داخل وخارج ملبسة بالفسيفساء والرخام المذهب)

3 -

أضف إلى ما ذكره المؤلف في باب التصوير على الجدران ما يلي:

(وقد وجُد على جدران قصر الحير الغربي (وهو القصر الذي كان لهشام بن عبد الملك، واكتشف أخيراً في بادية الشام بين تدمر والقريتين؛ ونقل إلى دمشق، وأعيد تركيب أجزائه) أقول: وجدوا على جدرانه وأرضه كثيراً من الصور والزخارف الملونة؛ من أعظمها ما عُثر عليه داخل غرفتين فيه، رُصَّفتْ أرضها بالجصَّ المصور. تمثل الأولى

ص: 21

سماوة امرأة تحمل بين ذراعيها سلَّة فيها ثمار، وقد التف حول عنقها ثعبان، وفوقها صورة (قنطورسين) بهيئة رَجُلين نصفهما الأسفل ثعبان له مخالب سبع. ورسم في أرض الغرفة الثانية مرزبان على جواده يطارد غزلاناً يرميها بالسهام. وصورة قينتين، الأولى تنفخ بمزمار، والثانية تضرب بمرهب الخشب على عود ذي خمسة أوتار. وحجم هذه الصورة يعادل حجم الإنسان ويزيد عنه في بعضها، وهي متقنة الصنع، زاهية الألوان، ساذجة الخطوط طبيعية الحركات)

4 -

أضف إلى ما ورد في باب التماثيل ما يلي:

(ومما وحُد على قصر الحير المنوه به في الفقرة السابقة، تمثال امرأتين كانتا في مدخل القصر إحداهما جالسة، والثانية مستلقية على ظهرها تشبه صنعتهما التماثيل التدمرية المعروفة. وكأنهما نقلتا عن صورة الجاريتين اللتين مر بهما أوس بن ثعلبة فاستحسنهما وأنشد فيهما:

فتاتئ أهلُ تدمر خبِّراني=ألمَّا تسأما طول المقام

قيامكما على غير الحشايا=على جبل أصمَّ من الرُّخام

5 -

أضف إلى الباب نفسه (التماثيل) ما ذكره البيروني في الجماهر (طبع كرنكو حيدر آباد الدكني)(أن زبيدة اشترت لعبد الله بن المخلوع قضيباً من زمرد قدر ذراع بأربعة وثمانين ألف دينار، ليلعب به يوم أعذاره. وكان على رأسه طائر من ياقوت أحمر وعيناه من الجوهر)

6 -

ذكر المؤلف نقلاً عن طبقات الشافعية للسبكي ص 86 أن أبا علي الروذباري اشترى أحمالاً من السكر، فصُنع له منه جدار عليه شرفات)

قلت: وفي ربيع الأبرار للزمخشري خلاف هذا، قال:(أشترى رجل أحمالاً من السكر، وأمر باتخاذ مسجد من السكر ذي شَرفَ ومحاريب وأعمدة منقوشة. ثم دعا الفقراء فهدموه ونهبوه)

7 -

وثمة خبر آخر عثرت عليه في هذا الباب. قال صاحب ذيل زهر الآداب عند كلامه على وليمة العباس بن الحسين ابن. . . لأحمد بن بويه (واصطنع في البستان الأعظم على البركة التي يجتمع بفنائها دجلة والفرات، قصراً مبنياً من السكر على أربع طبقات، بأبواب

ص: 22

تدور به، وأبواب تغلق عليها، من فوقها طبقة فطبقة، تطلع تلك الأبواب صور من السكر على هيئة الجواري والغلمان، بصنوف الملاهي، في أحسن الملابس والحلل؛ وجعل على شرفاتها وطبقاتها وحناياها صور أنواع الطير والحيوان والوحش. وجعل من ورائها رجالاً تنفخ بالبوقات والمزامير، كل صنف يخرج منه صوت يليق بصورته، وكل ذلك من السكر المموه بصنوف الصباغ والنقوش والذهب)

8 -

أضف إلى باب التماثيل، ما ذكره التنوخي في نشوار المحاضرة، وهو يدل على أنهم كانوا يصنعون تماثيل على هيئة الفاكهة. قال من قصة طويلة يصعب تلخيصها (. . . وأدخلنا إلى فازة لطيفة من ديباج (وهي مظلًّة كبيرة تمد بعمود على قول الجوهري، أو بعمودين على قول الفيروزابادي)؛ وفيها صندل محلاة بفضة؛ فيها دُسُت ديباج وُحُصر طبرية. ونحو ثلاثين طاولة مسبكة بالذهب كلها، عليها تماثيل العنبر على هيئة الأترج والبطيخ والدستبو. . .)

9 -

أضف إلى ما ذكره المؤلف الفاضل عن تماثيل الأندلس ص 70 ما قاله ابن حمديس أيضاً في تماثيل أسود علي أبواب دار بناها المنصور بن أعلى الناس:

وإذا الولائد فتَّحت أبوابه

جعلت ترحِّب بالعفاة صريرا

عضَّت على حلقاتهن ضراغم

فغرب بها أفواهها تكبيرا

فهو يصف حلقات الأبواب، وكانت مصنوعة بحيث تعض عليها تماثيل اسود فاتحة أفواهها كأنها تكبر الله

10 -

أضف إلى باب التصوير على الجدران. . . ما يروونه من أعمدة جامع قرطبة. قال المقري صاحب النفخ عند كلامه على جامع قرطبة نقلاً عن صاحب نشق الأزهار: (وفيه ثلاثة أعمدة من رخام أحمر، مكتوب على الواحد اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى، وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح عليه السلام وإن كان المقري يشك في ذلك

هذا ما رأيت إضافته إلى ما ساقه العلامة المرحوم تيمور باشا أما ما أخذته على الدكتور محمد حسن في تعليقاته فسيأتي

(دمشق)

ص: 23

صلاح الدين المنجد

ص: 24

‌من الأدب التركي

الدرويش العازف

للأستاذ محمد يوسف المحجوب

في غُروبِ الشَّمْسِ، في اْلأفْقِ الْبَعِيدْ

رَبْوَةٌ لَاحَتْ لِعَيْنِ النَّاظِرِ

مَنْ تُرَى يَمْشِي لَهاَ الْمَشْيَ الْوَئِيدْ؟

ياَ لَهُ تَحْتَ الدُّجَى مِنْ عَابرِ

صاَعِداً. . . في كَفِّهِ قِيثاَرُهُ

يَمْلأُ اْلآفاَقَ بِالَّلحْنِ اَلْحنُونَ

مُفْرَداً. . . قَدْ عَافَهُ سُمَّارُهُ

وَرَمَاهُ النَّاسُ طُراًّ بِاُلْجنُونْ

ياَ لَشَيْخٍ هَدَّلَتْ مِنْ شَعْرِهِ

فَوْقَ فَوْدَيْهِ أَفاَعِيلُ السَّنينْ

اللَّيِالَي قَوَّسَتْ مِنْ ظَهْرِهِ

وَالْعَوَادِي غَضَّنَتْ مِنْهُ اَلْجبِينْ

يَتَرَاَءى كُلَّ يَوْمٍ فيْ اْلأَصِيلْ

في الْمُرُوجِ اُلْخضْرِ. . . في الْوَادِي اَلْخصِيبْ

يَصْعَدُ الرَّبْوَةَ لِلْكوخِ الضَّئيِلْ

حَيْثُ يَأْوِى عِنْدَ مَا يَأْتِي الْغُرُوبْ

ساَرَ يَشْدُو لحْنَةُ اُلْحلْوَ الْبَدِيعْ

وتبعثُ اَلْخطْوَ كالظِّلِّ النَّحِيليْ

وَالْمُرُوجُ اَلْخْضْرُ تُصْغِى وَالْقَطِيعْ

وَالدُّجَى نَشْوَانُ بِالْعَزْفِ اَلْجمِيلْ. . .

وَبَدَا الْكُوخُ. . . فَوَلَّى فَجْأَةً

وَاخْتَفَى فِيهِ، وَغَطَّاهُ الظَّلَامْ

وَسَمِعْتُ الَّلحْنَ يَسْرِي خَافِتاً

كأَنِينٍ مِنْ فُؤَادٍ مُسْتَهاَمْ

كاَنَ صَوْتاً هاَدئاً يُبْكِي الْقُلُوبْ

صِيغَ مِنْ بُؤْسِ الّلياَلِي وَالدُّمُوعْ

رُحْتُ أُصْغِي، وَهْوَ يَشْدُو في لُغُوبْ

يَسْكُبُ اْلأَلْحَانَ مِنْ ذَوْبِ الضُّلُوعْ:

(ياَ حُطَامَ الْمُنَى

في الظَّلَامِ الرَّهِيبْ)

(جِئْتُ أَشْدُو هُناَ

فاَسْتَمِعْ لِلْغَرِيبْ)

(في يَدِي قِيثَارَةٌ مِنْ ذَهَبِ

حَطَّمَتْهاَ كَفُّ دُنْياَيَ اَلْخئُونْ)

(لَمْ أَجِدْ الدَّهْرِ مَنْ يَحْفِلُ بِي

قَدْ رَمَوْنِي - لَهْفَ نَفْسِي - بِاُلْجنُونْ)

(في يَمِينيِ عَازِفٌ يُمْتِعُنِي

رَغْمَ مَا يَلْقَاُه مِنْ فِعْلِ الَّلياَلْ)

(لَا أَرَى في النَّاسِ مَنْ يَسْمُعنِي

حِينَ أَشْدُو، فاَسْمَعِي لِي ياَ جِباَلْ):

(يا طُيُورَ الرُّباَ

ياَ عُيُونَ الزَّهَرْ)

(ياَ نَسِيمَ الصَّباَ

ياَ غُصُونَ الشَّجَرْ)

ص: 25

(اسْمَعِي عَنَّي أَغاَرِيدَ اَلْحياَهْ

اسْمَعِيهاَ قَبْلمَاَ أَلْقَى الْمَنُونْ)

(اسْمَعِيهاَ فَهْيَ لِلْوَادِي شَذَاهْ

وَارْسمِي عَنْهاَ نُفاَثاَتِ الشُّجُونْ)

(فَوْقَ هذِى اْلأرْضِ أَلْفاَ شاَعِرٍ

لَفْظُهُمْ زَيْفٌ وَنَجْوَاُهْم هَوَاءْ)

(هَلْ لَهُمْ لَحْنٌ كلَحْنِي السَّاحِرِ

وَأَناَ الْمَجْنُونُ مَنْبُوذُ اُلْعَرَاءْ؟):

(مَعْشَرٌ تاَجُهُمْ

فَوْقَهُمْ زَائِفُ)

(بَيْنَماَ بَرْقُهُمْ

خُلَّبٌ خَاطِفُ)

(مَعْشَرٌ: إِنْ يَكْتُبُواِ بالْقَلَمِ

فَأَناَ الشَّادِي بأَوْتاَرِ الْفُؤَادْ)

(هَلْ لَهُمْ أَنْ يَخلُقُوا لِلنَّغَمِ

مِنْ هَوَاءِ الْكُونِ، أو دُنْياَ اَلْجماَدْ؟)

(هَلْ لَهُمْ أَنْ يُخْضِعُوا مِثْليِ الْقَطِيعْ

عِنْدَ مَا يَمْشِي بِلَا رَاعٍ يَصُونْ؟)

(أَيْنَ صَوْتُ اَلحْلْقِ مِنْ صَوْتِ الضُّلُوعْ؟

أَيْنَ رَجْعُ الْقَوْلِ مِنْ شَدْوٍ الْغُصُونْ؟)

(ياَ بَقاَياَ الْمُنَى

حَوْلَ كُوخِي الصَّغِيرْ)

(أَنْصِتِي. . . إِنَّناَ

قَدْ حُرِمْناَ السَّمِيرْ)

(أنصِتِي لِي، وَاسْمَعِينِي ياَ جِباَلْ

وَاحْفَظِي اْلأَلْحَانَ عَنَّي ياَ نُجُومْ)

(إِنَّ قِيثاَرِي فَرِيدٌ في اللياَلْ

وَهْوَ في يُمْنَايَ سُلْوانُ الَهُمُوُمْ)

(كُلُّ مَا فيِ اْلأَرضِ مِلْكِي: مِنْ هَوَاءْ

أَوْ جَمَادٍ، أو دُمُوعٍ، أو زُهُورْ)

(سَوْفَ أَشْدُو، فإذا حَلَّ الْقَضَاءْ

لَمْ أُفَكَّرْ أَيْنَ تَطْويِنِي الْقُبُورْ. . .؟)

. . . وَانْتَهَى الْعاَزِفُ مِنْ أَلَحْانِهِ

وَتَلَاشَىَ الصَّوْتُ في جُوفَ الْقَضَاءْ

وَانْطَوَتْ رُوحِي عَلَي أَحْزَانِهِ

وَبَكَتْ عَيْني لَهُ دَمْعَ الْوفَاءْ!

ياَ لَشَادٍ لَفَّهُ هذَا الظَّلَامْ

لَيْتَ شِعْرِي: كَيْفَ يَحْظَى بالرُّقاَدْ؟!

أَتُرَاهُ ذائِقاً طِيبَ الْمَناَمْ؟

أَمْ سَيَقْضَي الَّليْلَ مَوْصُولَ السُّهاَدْ؟

أَيُّهاَ الْعازِفُ في الْكُوخِ الضَّئِيلْ:

أَنْتَ أَسْمَى مُلْهَمٍ في ذَا الْوُجُودْ

كَيْفَ تَأْسى - أيُّهاَ الشَّادِي اَلْجمِيلْ -

وَنصِيبُ الْفَذَّ في النَّاسِ اُلْجحُودْ؟

عِشْ عَلَى الدُّنْياَ كَمَا شاََء الصَّفاَءْ

وَاصْطَبِرْ إِنْ رُحْتَ تَرُمْيِ باُلْجنُونْ

مَنْ يَسَعْ في قَلْبِهِ هذَا الْفَضَاء

لَمْ يُنَغِّصْ عَيْشَهُ الدَّهْر اَلْخئُونْ

ص: 26

‌البريد الأدبي

مسابقة كتب الدين للمدارس الابتدائية

إلى الأستاذ (قاف)

كتبت في عدد الثقافة الأخير كلمة عن المسابقة التي أذاعتها وزارة المعارف بشأن كتاب في الدين للمدارس الابتدائية. وقد قرأت كلمتك هذه بعجب وإعجاب. أما العجب فمن أنك تنعى على الوزارة اليوم ما كنت تتمناه عليها بالأمس؛ فلعلك تذكر - وما أظنك إلا ذاكراً - مجلسنا في أحد النوادي العلمية منذ قريب، وما كنا نتناوله فيه من أحاديث شتى أسلمتنا إلى تقرير الكتب وكيف تقرر لا لجودتها ولا لرسوخ قدم مؤلفها في مادتها بل لجاهه ونفوذه حتى احتكرها أصحاب الجاه والنفوذ وصارت وقفاً أهلياً عليهم - على حد تعبيرك - لا يغل إلا لكبار موظفي الديوان العام ومن إليهم من المراقبين والمفتشين الأوائل: ولعلك لم تنس كذلك ما قلته أنت في تلك في تلك الليلة - بل ما كتبته في الثقافة منذ شهر أو يزيد قليلاً من أن أولئك المؤلفين الكبار أو كبار المؤلفين لم يكن لهم في الحق والواقع من التأليف إلا تشريف الكتاب باسمهم ومداليد لتناول نصيبهم والوقوف في الميدان لمطاردة من تحدثه نفسه باقتحامه واتخاذ كل وسيلة شريفة وغير شريفة لإقصائه. لقد كنا سبعة نتعاور الكلام في هذا الموضوع وكنت - أنت - أصرحنا كلاماً وأبسطنا لساناً وأغزرنا استشهاداً حتى لقد ضربت بنفسك المثل وذكرت أنه قد طلب إليك أن تكون جندياً مجهولاً يصرع في الميدان ليرتفع القائد على أشلائه، فتأبيت على المريد. كل هذا عجيب، وأعجب منه أن تقترح على الوزارة في كلمتك الأخيرة ترك المدارس أحرارا في التأليف وفي اختيار ما يشاءون من الكتب لتلاميذهم. يا لله! أي حرية أو في من أن تدعو الوزارة رجالها جميعاً للتباري وتكافئ السباقين فيهم ولا تجعل الأمر احتكاراً أو وقفاً أهلياً على جماعة منهم؟ وأي حرية أسمى من أن تسوى في هذا الميدان بين المتسابقين جميعاً ولا تنظر إليهم من حيث الجاه والمنصب، وإنما تنظر إليهم من حيث البراعة والمقدرة والكفاية، وبهذا ترد إلى رجال التعليم اعتبارهم العلمي وتشجعهم على الإنتاج وتثبت فيهم روح الإقدام على التأليف الذي يهابونه لذاته أو للمحتكرين له! على أن للمسابقة فضلاً آخر أرشدت إليه المسابقات الماضية هي أنها تكشف عن بعض الأفذاذ المجلين الذين يعملون في وزارات أخرى غير

ص: 27

وزارة المعارف، فليست الكفاية والبراعة والمقدرة وقفاً على هذه الوزارة

الحق أنه ليس لمنصف نزيه حصيف الرأي أن ينقد هذه الطريقة المثلى العادلة التي تقضي على القالة والقيل وتسد الطريق أمام الريب والشكوك. على أن الوزارة لم تلجأ إليها إلا بعد دراسة وبحوث وعقد لجان واستشارة مجربين فانتهى الأمر بهم جميعاً إليها

وأما ما يقوله الأستاذ (قاف) من ترك المدارس والمدرسين أحراراً في اختيار ما يشاءون من الكتب لتلاميذهم فحسبي في الرد عليه أن أردد له ما كان يقوله تلك الليلة من أنه جريمة رسمية تفسد الخلق والعلم، وأن المدارس - بالرغم من تحريمه ومحاربة الوزارة إياه محاربة لا هوادة فيها ولا لين - كانوا يتخذونه وسيلة دنيئة تقرب إلى ذوي الجاه من المؤلفين الرسميين وهؤلاء يستغلونه استغلال وضيعاً تأباه كرائم النفوس، فقضت على هذه المفاسد كلها طريقة المسابقات. ذلك عجبي. أما إعجابي فبقدرة الإنسان - وهو الذي حارت البرية فيه - على الدفاع عن رأيين متناقضين يدلي بأحدهما وهو يعمل في المدارس، وبالآخر وهو يعمل في الديوان حيث اختيار الأعضاء للجان التأليف.

(سمير)

استدراكان لغويان

في تصحيحات العلامة المحقق الأب الكرملي للجزء الثاني من كتاب الإمتاع والمؤانسة مواضع تحتاج إلى بيان، أعرض على الأب الفاضل منها موضعين في العدد (475) من الرسالة الغراء:

1 -

قال: وفي ص 110 ويجعلها (أي الأحجار) ملساء، وضبطت كحمراء؛ والصواب مُلساً بضم الميم. . . (راجع فساد قول القائل صخور ملساء في مجلة المجمع العلمي العربي 233: 17 و 234) اهـ

وقد رجعنا إلى الموضع المذكور فلم نجد للأب مستنداً في إنكاره، لأن نص سيبويه قاصر على بيان أن جمع التكسير لأفعل فعلاء هو فعل بضم العين، وما أظن أن كيفية تكسير هذه الصيغة كانت محل خلاف، وليس فيها شاهد على خطأ قولهم صخور ملساء.

وإنما كان الأب بحاجة إلى نص صريح يستثنى فيه هذه الصيغة من القاعدة العامة التي

ص: 28

جرى عليها كلام العرب وذكرها النحاة وهي: أن نعت جمع التكسير يكون بالفرد المؤنث وبالجمع على السواء، فلك أن تقول: أشهر محرمة وأشهر محرمات، و (أياماً معدودة) و (أياماً معدودات) كما في القرآن الكريم وغيره، فما الذي يفرد صيغة واحدة بين جمع صيغ النعت بحكم خاص؟ هذا ما يحوج الأب الإبراه عليه. أما استقراؤه الشخصي وطلبه من مخالفة الإتيان بشاهد فلا يردان حجة، لأن المقيس لا يلزم له شاهد.

2 -

وقال: ومن الأغلاط الشائعة في مصر وتستحق أن يشار إليها خصوصية ما يأتي: ص 23 س 18 أصواب هو أم خطأ. . . أم خطاء وزان سحاب لضد الصواب، على ما في كتب اللغة. اهـ

وقد كتب الجمة الأولى بخط عريض مذيل بخط أفقي زيادة في لفت الأنظار. ولم يبين أي كتب اللغة هذه التي حرمت أن يقال خطأ لضد الصواب؛ وقد تصفحت بعض كتب اللغة فإذا هي تتفق جميعاً على أن الأب المفضال مخطئ كل المخطئ في ذلك وإليك الشواهد:

في لسان العرب: الخطأ والخطاء ضد الصواب

تاج العروس: الخطء والخطأ ضد الصواب

المصباح المنير: والخطأ مهموز بفتحتين ضد الصواب، ويقصر ويمد

الصحاح: الخطأ نقيض الصواب وقد يمد. . . الخ

فأنت ترى أن الخطأ قدمت على الخطاء في جميع هذه النقول، وأن أعلى هذه المصادر وهو الصحاح ضعف الحرف الذي ذكر الأب أنه هو الصواب دون غيره.

هذا ما أحببت عرضه على العلامة المحقق المفضال، وله إعجابي وتحيتي.

(دمشق)

سعيد الأفغاني

في الشعر التمثيلي

تعقيباً على ما نشر بالرسالة في عدديها 473 و 477 للأستاذين الأديبين البشبيشي وعبد الرحمن عيسى - لا جدال في أن واضع الحجر الأول في بناء الرواية الشعرية في الأدب العربي الحديث هو المرحوم الشيخ خليل اليازجي في روايته (المروءة والوفاء) وقد طبعت

ص: 29

أكثر من مرة بمطبعة المعارف بالفجالة. ومن حق الأدب والتاريخ أن يعرف المتتبعون لهذه الناحية الجميلة من الفن الأدبي أن المرحوم الشيخ نجيب الحداد أول من ترسم خطى خاله المرحوم الشيخ خليل في معالجته الشعر التمثيلي قبل المرحومين شوقي وعبد المطلب في روايته (صدق الوداد) وقد طبعت من زهاء ثلاثين عاماً في مطبعة غرزوزي بالإسكندرية وقل أن يظفر أحد بنسخة منها الآن لكثيرة ما كان من الإقبال عليها ونفادها بمجرد ظهورها. والروايتان لا تقلان عن روايات المرحوم أمير الشعراء بلاغة وروعة وحسن سبك، وشعرهما يتدفق سلاسة وطبعاً وعذوبة

ولعلي أوفَّق في فرصةٍ أخرى إلى نشر شواهد من شعر الروايتين إذا اتسعت له صفحات (الرسالة) الغراء وآنست من قرائها الأدباء ترقباً وارتياحاً

يوسف كركور

تعقيب

جاء في بريد (الرسالة) الأدبي من العدد الـ (476) للأب الفاضل أنستاس الكرملي في بحث السوبية ما نصه: قال ابن دريد في الجمهرة: (وبالصاد (أي الخِص) أحسبها لغة لبني تميم، وهي لغة ابن الغبر خاصة) كذا في تاج العروس. وهو خطأ أيضاً والصواب:(وهي لغة بني العنبر، إذ لا وجود لابن الغبر) اهـ

وقد يقال: عدم الجزم بهذه التخطئة أولى، فبنو الغُبَّر لهم وجود. جاء في القاموس المحيط في (فصل الطاء وباب اللام): وككتاب (أي طحال) كلب وع لبني الغبر. راجع القاموس المحيط ففيه شاهد يليق ذكره

(اللد - فلسطين)

داود حمدان

حوائج

رداً على الكاتبة الفاضلة (بثينة) أقول إن هذه الكلمة (حوائج) وردت في الحديث الصحيح والشعر الفصيح. فقد روى عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (إن الله عباداً

ص: 30

خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون يوم القيامة) وقال الشماخ:

تقطع بيننا الحاجات إلا

حوائج يعتسفن مع الجري

وقال الفرزدق:

ولي ببلاد السند عند أميرها

حوائج جمات وعندي ثوابها

إبراهيم السعيد عجلان

على هامش السيرة

لفت نظري وأنا أقرأ الجزء الثاني من كتاب (على هامش السيرة) للمرة الثالثة عبارة وردت في الحديث عن (راعي الغنم) ص 185 هذا نصها: (والغريب أن الخواطر التي كانت تملأ نفسها - يعني أبا طالب وخديجة - همَّاً وحزناً وتفعم قلبهما خوفاً وقلقلاً، هي بعينها تلك الخواطر التي كانت تملأ نفس عبد المطلب بن هاشم وآمنة بنت وهب، وتشغل قلبيهما منذ ستة عشر عاماً حين سافر عبد الله مع العير إلى الشام في التجارة لأول مرة ولآخر مرة أيضاً)

وهذا القول يناقض الحقيقة ويتعارض مع عبارة أخرى وردت في ص 161 وفيها يقول الدكتور: (ولكنه - يعني أبا طالب - كان يستحي أن تقول قريش: ضعف أبو طالب وجزع على فتى قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره)

والمعلوم أن رحلة عبد الله كانت بعد زواجه بأيام وكان محمد عليه السلام لا يزال جنيناً في بطن أمه، في حين أن الرسول صلوات الله عليه كان قد أوفى على الخامسة والعشرين أو كاد يوم أن رغبت إليه خديجة في أن يصحب تجارتها إلى الشام. وإذن تكون الفترة بين رحلة عبد الله ورحلة محمد عليه السلام حوالي خمسة وعشرين عاماً لا ستة عشر كما ذكر الدكتور، ولعله يكون أقرب إلى الصواب لو أنه قال ستة وعشرين عاماً

وذلك ما تكاد تجمع عليه كتب السيرة

عوض الدحة

استدراك

ص: 31

في الحلقة السابقة من ترجمة كتاب (المصريون المحدثون)، وقع تحريف في الآية الكريمة:(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم). فوجب نشرها صحيحة

عدلي طاهر نور

ص: 32

‌القصص

الشيخ الأعزب

للأديب لبيب السعيد

في صدر أيامه لم يطاوعه طموحه على الزواج من ابنة عمه؛ بداله يومئذ أنه خليق بالفرار من بيئته إلى بيئة أعلى وأقدر.

ولما قيل له: بنت فلان أشهر تاجر في الحي مهذبة وجميلة، رأى أن آماله أسمى أيضاً من هذه البنت وأبيها، ورأى قدْرته أجدرَ أن تُنيله نسباً أجلً. . .

وأحس أن آمال كثيرات من صبايا الحيّ وذويهنّ تترامى إليه، لأنه موظف في الحكومة بخمسة عشر جنيهاً، والموظفون الماثلون من أبناء الحيّ آحاد، فزهاه ذلك وسره، ولكنه ظل على طموحه وعلى اعتقاده في إمكان إحراز زوجة غنية جداً من أسرة بارزة جدّاً، يتسامى بها في الوظيفة، ويواري في غناها فقره، ويجبر بجاه أبيها وذويها صدعة. . .

كان يأمل في زواج الغنية ذات الجاه دنيا سعيدة: دنيا خالها يرف عليها الروح والريحان، وتنتشر على مدارجها الزهور الضواحك

ومضت من عمره أربعون سنة. . .

وعرف عندئذ الهدف الذي ينبغي له - فيما يعتقد - الرمي إليه. . . عرف (حنيفة) بنت (أمجد باشا)، فعرف فتنةً ضلْ في تيهها فكرة. . . لقد رأى زواجه منها معراجاً إلى كل الغنى والشرف، وحلم سريعاً في قهر أعدائه من الأقارب وزملاء الديوان، ومواجهتهم بأنسباء يشرّفون، وأستحضر في خاطره ما سيلقي من سعادة حين يذكر اسمه إلى جانب اسم (أمجد باشا) وود من كل قلبه لم تمت الخِطبة حالاً، ونُشر اسمه واسم الباشا معاً ولو في إعلان وفاة!

وترقرق في صدره الأمل، فأذاع بالأمر لبعض خاصّته، وشاع لوضوعه ذكر.

ولكن (أمجد باشا) استمهل معتذراً، ثم ماطله غير مكترث، ثم ترامى عنه أنه يأبى هذا الزواج، لأن (أميناً) ليس من طبقته، ولأنه لم يستوف طَلِبَةَ فتاته من الغنى والمنزلة والوسامة.

وصدم هذا الفرض (أميناً)، ولكنه رأى أن لا بد من عدم التخاذل، وعزم ليستأسرن من أيَّ

ص: 33

معقل مَن تعادل (حنيفة) نشباً ونسباً. ولكن - واخيبتاه - إن سنة الصاعدة، وراتبه المتواضع خيَّبا مطمحه وأعجزاه عن منيته

واليوم - وما أسرع كرّ الغداة ومرَّ العشى! - ذرَّف أمين على الخامسة والخمسين، فهو يطامن كثيراً من جماح آماله، ويتطلع راضياً إلى الأسر التي على شاكلته، ولكن مرضه الظاهر يصرف عنه النظر، وهو يعْدُ غادٍ قريباً على أمر شديد كريه: المعاش!

كل شيء يشعر أميناً أن الأيام تقف به على ثنية الوداع، ولكنه مع ذلك متشبث بالأمل. . . إنه ينشد زوجة تخلص له الحبَّ، وتأسو الجراحات، وإنَّ طيف هذه الزوجة المجهولة ليراوحه ويغاديه! لقد نهل في سني عمره الذاهب من كل شيء ولكنه يشكو الأوامٍ. . . فهو يريد لقلبه الكسير قلباً يروَى من رحمته؛ يريد مثابة ينفض لديها شكاياته ونجواه؛ يريد لنفسه المعنَّاة تسليةً وتأسيةً وولاءً. . . إن به حنيناً مبرَّحاً إلى جناح يكنفه في شيخوخته، ولكنَّ الحقيقة الممضة: حقيقةَ صحته التي تحيفَّ منها السنُّ والمرض، حقيقة معاشه المحدود الذي لا يكفل العيش الرافع لعروس تساق إلى شيخ، وطفل سيغشاه اليتم في مطالع حياته. هذه الحقيقة كانت تدفع ذلك الطيف في عنف، وتؤكد لأمين أن أمانيه فوق ما يجوز له تمنيه، وأنه يحاول العَدْوَ وراء فائتٍ ليس يُلْحق

ويرى (أمين) رجلاً وزوجته يسيران في طريق، أو يجلسان في طنف، فيغبط الرجلَ على نعمة الشريكة، ويبديء يُعيد فيما تريق الأليفة لأليفها من العطف، وتبذله من العون، وتطعمه من الحنان. . . ويسبح في خيالات ما لها قَرَار. . .

ويدعي (أمين) إلى حفلات الزواج، فتهفو مناظرها بروحه إلى الزوجة، وتصيب كلمات المأذون في فضل الزواج الوتر الأرنَّ من قلبه، وتطلق عاطفة الأبوة الحبيسة، وتزيده شعوراً بالوحشة

ويسائل (أمين) نفسه: أَلَمْ يأن لي أن أقعد هذا المقعد الحبيب: مقعد (عريس) من والد عروس، وأن أقوَل وأسمع هذه الصيغة العذبة: صيغة القرآن؟ أمات الأمل في أن يتجه إلى يوماً جمع من هذه الجموع بتلك العبارة العذبة: (مبروك، مبروك، يا عريس)؟

وينثني أمين وطرفه غارق في الدمع

ويزور أمين صديقاً مريضاً فيغبطه - مع ما يشاهد من كربات المرض - أشد الغبطة، لأنه

ص: 34

يرى زوجته تحدب عليه، وتحتمل مشقة تمريضه، ولأنه رأى صبياً يافعاً يقود الطبيب إلى المنزل، ويجري إلى الصيدلية محزوناً، ويرى طفلاً مبغوم الكلام يخطر لا هياً أمام سرير أبيه المريض، فتأنس به نفس الأب وتُشْرق

هذه البسمات التي يراها في ثغور الأطفال لا بد أنها تنير لآبائهم سبل الحياة وتكشف عنهم غواشي اليأس! ليت له مثلها في دنياه التي لا شية فيها من النور!

ويرى أمين الآباء أشقياء مُملقين من كثرة الإنفاق على بنيهم، فيتمنى من كل قلبه لو شقي شقاءهم وأملق إملاقهم. إنه يؤمن بأن الآباء هم كل السعادة وهم كل الغنى، وأن في كلمة (بابا) وحدها كنوزاً يهون في سبيلها كل عزيز!

ويسائل نفسه أيضاً: هذا الكدَّ الذي أبذل، ما جناه؟ فينثني مسلوب اللَّبَّ حين تجيبه: لا شيء! وغداً تموت، ولكن لا كميتة الناس، فهم يَحْيَوْن في بنيهم، وأنت ستموت كأقسى وأوفى ما تعني اللّغة بلفظة الموت

بمن يتأسّى في أشجانه؟ الظاهر والبؤس فيما حوله هم كتبة الدرجة الثامنة والخارجون عن الهيئة وخدم المطعم ونُدُل القهوة، ولكنه أشقى من هؤلاء جميعاً. إنهم سَيحْيَوْن بعد مماتهم. . . وإن الفرد منهم ليجد آخر اليوم قسيمة لحياته، يطرح لديها أثقاله. فأما هو - فباويح له - محرومٌ يبثَّ شكاته جدراناً لا تسمع، وينشد الحنان والألفة هنا وهناك فلا يجد غير قسوة الحياة وظمأ الروح وشقوة الضمير

ما أشد عوزه إلى يد رقيقة يمسها وتمسه!! في صدر (أمين) فيوض من الحنان تريد الانسياب فليت له من يتلقاها! ألا قلوب تنبض مع قلبه نبضات واحدة بشعور واحد!؟

ويعالج (أمين) مع ذلك كله البسمات، ويتكلف جاهداً المظهر الشاب، ويحاول أن يدفع عنه الوهن، ولكن البسمات أماتها الزمان، والمظهر الشاب غطى عليه الجهد الثقيل والعمر اليأَس؛ والوهنَ. . . أحتلَّ بَدَنَ أمين في غير اكتراث!

حدثني عن (أمين) معارفه القدماء، فجلوا لي كثيراً من ماضيه. وكنت وإياه أخيراً منتدبين في الإسكندرية، وكنا في فندق واحد، فخلا إلى ذات مساء، وأفضي إلى بكل قصته. كان يتحدث بلهجة مذنب يريد أن يثأر لضميره من نفسه. . . وكان كطفل بيّن السذاجة لا يعمى على سامعه شيئاً من وصف مشاعره وسرائره؛ وكان يسرق الدمع حياءً؛ وكانت له زفرات

ص: 35

وجيعة.

وأخرج فجأة من جيبه صورتين، فأطلعني عليهما. كانت إحداهما لفتاة رائعة الجمال، وكانت الأخرى لطفلين كلهما عذوبة. وسألته مستغرباً وأنا أرى من نظراته أنه جدَّ حفيٍ بأصحاب هاتين الصورتين: ما شأن هؤلاء؟ فأجاب، والبراءة في وجهه:(اخترت صورهم من محل بيع الصور. . . أعجبوني. . . أنظر. . . ما أحسن هذه زوجة تجمل بها الحياة! وما أحسن هذين ولدين ينضران العيش!)

أوجع أمين قلبي تلك الليلة!

وانقطع عن التردد علىَّ وعلى زملائنا أمسيتين على غير عادة، وسألناه في الصباح عن السبب، فأجاب في اختصار: أمر خاص

واستحينا أن نستجليه هذا الأمر فسكتنا

وأتى صبي إلى الفندق في الأمسية التالية يسأل عن الأستاذ (أمين) المقيم بالحجرة رقم 8، وكنا نحن زملاء أمين في بهرة الفندق جالسين نسمر، فسألنا: لم؟ فقال: لأعطيه صورة عائلته، فهو يتعجلها. وعجبنا، فأمين حقيقة ينزل في الحجرة رقم 8، ولكنه لا عائلة له. وسأل أحدنا الغلام: أية عائلة؟ ربما كنت تقصد أميناً آخر. فقال الغلام وهو يناوله الصورة: أريد الأستاذ أمين المرسوم هنا. وضحك صاحبنا ضحكات تمتزج فيها السخرية بالدهشة، وقام يطلعنا جميعاً على الصورة، والجمع يضج بالضحك. ونظرت فيها فوجدت أميناً بعينه، وقد جمع الرسام بينه وبين الصور التي سبق أن أبدى لي إعجابه بها: صورة الفتاة الرائعة الجمال التي يستحسنها زوجة، والطفلين العذبين اللذين يستحسنها ولدين. لقد أتخذ من هذه الصور المختارة أسرة طيبة يبدو هو فيها كأنه أب آمن السرب، له من أهله قرب وأنس، وله فيهم رجاء!

وأقبل أمين والصورة في أيدينا، فحاول الابتسام أولاً، ثم انطفأ وجهه مرة واحدة، ثم ارتمى في أقرب مقعد يبكى وينشج.

(المنصورة)

لبيب السعيد

ص: 36