الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 48
- بتاريخ: 04 - 06 - 1934
لذة الشراء وآفة الملكية
للأستاذ أحمد أمين
بالأمس ضحك مني بائع الكتب القديمة، إذ رآني أقلب في الكتب، وأذهب ذات اليمين وذات الشمال، وأقف على الكرسي وأنزل من عليه، والكتب بعضها بال عتيق قد غلف بالتراب وأكلته الأرضة، وكلها وضعت حيثما اتفق، لم يعن فيها بترتيب حسب الموضوع ولا حسب الحجم ولا حسب أي شيء، ولم يبذل أي جهد في تنظيفها وعرضها، فكتب في الأرض، وكتب في السماء، وكتب في الرف، وكتب على المقاعد، وكتب في الممشى، البائع رجل تقدمت به السن، زهد البيع وزهد الشراء، وإنما يبيع ويشتري لأنه اعتاد أن يبيع ويشتري، كل ما في أمره أنه فضل أن يجلس في الدكان على أن يجلس في البيت إذ يرى الرائحين والغادين، ويستقبل الزائرين، ومن حين إلى حين يبيع كتابا أو كتابين.
وسط هذه المكتبة المغمورة بالكتب، والمغمورة بالتراب، والمغمورة بالفوضى، انغمست ببذلتي البيضاء، القريبة العهد بالكواء، أبحث عن كتب نادرة أشتريها، وأتصفح كتبا أتعرف قيمتها، فضحك إذ رأى غراماً بالكتب يشبه الجنون، ورغبة في البحث والشراء تشبه الخبل.
لا تضحك - يا سيدي - فإنما هي لذة الشراء أصيب الناس بها جميعاً، وان اختلفوا في مقدار الإصابة، فقد تهور فيها قوم، واعتدل فيها آخرون، وهي ظاهرة في منتهى القوة والغرابة، تتجلى بأجلى مظاهرها في الهواة، فهذا هاوي سجاجيد يجن جنونه إذ يرى سجادة قديمة، صنعت في أصفهان القرن الخامس عشر أو السادس عشر، يحتقرها الرائي العادي، ولا يرضى أن يأخذها ولا بالمجان، ويشمئز أن يراها في بيته، فإذا الهاوي يجري ريقه ويتحلب فمه، كأنه جائع سغب أمام أكلة لذيذة، وقد لا يجد ثمنها فيستدينه، وقد ينقصه الضروري من وسائل العيش ومرافق الحياة فيعمى عنه، ولا يرى أمامه إلا السجادة وشراءها، ولتكن النتيجة بعد ما تكون، وسيتكفل الزمن بسداد الدين، وليحمل الزمن وحده عبء ما يحتاج إليه من ضرورات العيش، بل سواء حلها أم لم يحلها، فليس في الوجود ما يعدل هذه السجادة، فلأشترينها ثم لتنطبق السماء بعد على الأرض
وكذلك الشأن في هاوي طوابع البريد، وهاوي الكتب، وكل الهواة، نمت عندهم على مر
الزمان لذة الشراء لما يهوون، وغذاها كثرة الشراء وأحاديث الهواة الذين يحيطون به وإظهارهم الإعجاب الشديد بما اقتني، فإذا نظروا إلى سجادة عجبوا من لونها الباهت، وخيطانها التي هلهلها الزمن، وصورها غير المنسجمة، ونحو ذلك مما يدل على إمعانها في القدم، وكلما كان خيطها أبلى، ونسيجها أبسط، كانت أشد استخراجاً للعجب، وكانوا أكثر لها تقويماً، وأشد لها إعظاماً، وكانت لذة الشراء عند الهواة أشد طغيانا، وهم أمامها أشد ضغفاً.
هذه اللذة - لذة الشراء - يستغلها أرباب (المزاد) فهم يثيرونها إلى أقصى حدودها، ويبلغون مبلغاً جنونياً، فتحتدم الذات، ويخضع الشارون لتأثير الاستهواء، ويتغالبون في أثمان ما يعرض حتى قد تفوق أثمان الشيء الجديد، ولكن الشيء الجديد يشترى والعقل الواعي في سلطانه، وأما أشياء (المزاد) فتشترى والعقل الواعي قد أسدل عليه ستار من الاستغواء والاستهواء، ومن أغرب ما في هذا النوع أنك ترى الكثيرين يندمون إذا اشتروا، ويندمون إذا لم يشتروا.
ولذة الشراء هي السبب في أنك تشتري لزوجتك وبناتك الثوب الجميل، أو الحذاء الظريف، فتعرضه عليهن فلا يعجبهن، ثم يخرجن ويشترين ما هو أقل من جمالا وظرفا ثم يعدن راضيات، قد يكون السبب أن ما اشتريته ليس على ذوقهن، وأن هناك فرقاً كبيراً بين ذوق الرجال وذوق النساء، وأنك إذ تشتري لهن تحكم ذوقك في ذوقهن، ولكن يظهر لي أن ذلك في كثير من الأحيان ليس السبب الصحيح، وإنما السبب الصحيح أنك إذ تشتري لهن تحرمهن لذة الشراء، وهي في نفسها قد تفوق الشيء المشترى نفسه، ويفسر هذا أن السيدة قد تخرج وليس في نفسها شيء معين تشتريه، ولا تحس حاجة إلى شيء يشترى، وإنما هي - في أعماق نفسها - تريد أن تغذي لذة الشراء عندها، فما هي إلا أن تمر في دكان سمعان أو شملا أو شيكوريل حتى تشتري، وتشتري كثيرا، وتشتري ما لم يخطر لها على بال، ثم ترجع راضية لأنها أشبعت لذة الشراء عندها.
ولو أن الناس - وخاصة السيدات - اقتصروا على شراء ما هم في حاجة إليه لأغلقت دكاكين كثيرة، ولقل العرض وقل الطلب - ولكن لذة الشراء عندهم دفعتهم أن يشتروا ما لم يحتاجوا، وأوهمتهم في كثير من الأحيان بالحاجة إلى ما ليس لهم به حاجة - وإلا فما حاجتي إلى شراء كل هذه الكتب والمكتبات العامة مفتحة الأبواب؟ وما الحاجة إلى سراء
نسختين من كتاب واحد والتعلل في ذلك بأتفه الأسباب؟ وما الحاجة إلى ملء البيت بهذا الأثاث وأقل منه يكفي ويزيده حسنا؟ وما الحاجة إلى شراء المرأة هذه الثياب المختلفة الألوان والأنواع، وقد لا تحتاج إليها مرة في الحياة؟ - لا شيء إلا لذة الشراء.
ويحدث في هذا الباب غرائب. فما وقوفك على الدكاكين واستعرضك ما فيها إما فيها إلا نوع مما تدعو إليه هذه اللذة، فان اشتريت فيها، وإلا فهو نوع من ظل اللذة كالسكير يتلذذ قليلا في رؤية الشاربين ولو لم يشرب معهم، والمحب يسر بعض الشيء من رؤية المحبين يتواصلون ولو هجره هو حبيبه.
قد كان من المعقول والطبيعي أن الناس - وهم يتلذذون هذه اللذة الشديدة القوية بشراء - يتلذذون كذلك لذة شديدة قوية بالملكية ثم يستمرون على التنعم بها، والتمتع الدائم بملكها، ولكن جرى الأمر في هذا العالم على غير ما يتوقع، فهم راغبون أشد الرغبة في ملك الأشياء، والملكية تذهب بلذتها. فالناس مولعون أشد الولع بالملكية حتى لو استطاعوا أن يملكوا القمر في السماء لملكوه، ولو ملكوه لحرموا جماله، وهم مولعون أن يملكوا كل شيء إلى درجة الجنون، حتى لو استطاعوا أن يسلبوا السماء زرقتها، والمزارع بهجتها، والبحار جمالها ليجعلوها في حوزتهم لفعلوا - وقد أدرك مهرة الباعة هذا الجنون في الإنسان فتفننوا في عرض ما يبيعون بحسن الوضع وتزويق وإيهام الترخيص وكثرة الإعلان في شكل جذاب يوقع في الوهم أن الشراء فرصة لن تعود، وأن ملكية الشيء تملأ الحياة سعادة وغبطة - ولو أنك دخلت بيوت الأغنياء والطبقة الوسطى لرأيت كثيرا مما فيها لا حاجة للبيت إليه، بل قد حمل أكثر مما يطيق حتى ذهبت بساطته، وزاد تعقده، واحتاج إلى زيادة الخدم والاتباع للعناية بنظافته وترتيبه، وجعل الحياة أكثر تعقداً وأشد ارتباكاً، وما دعا إلى هذا كله إلا لذة الشراء وجنون الملكية، وما قصر الفقراء في هذا إلا أنهم لا يجدون ثمن ما يطلبون، ولو أتيح لهم ذلك لأفرطوا في الشراء إفراط الأغنياء، ولولا جنون الملكية لكانت الحياة أبسط، ووسائل العيش أيسر، والتنعم بها أتم.
وكأن الطبيعة العادلة أرادت أن تعاقب على هذا النوع من الجنون، فسلبت المالك أكثر ما يتصور من لذة، فالشيء جميل لذيذ ممتع، فيه كل ما يتمنى المرء من سعادة ما لم يملك، فإذا ملك لم يجد فيه المالك كل ما يتصور ويتخيل، وأصبح أقل قيمة مما يأمل، ولا تزال
قيمته في نقصان حتى يصبح عادياً تافها كأنه والحرمان سواء.
فالقصر الجميل هو أجمل ما يكون في عين من يمر به ويقل جماله شيئاً فشيئاً في عين من له به علاقة ما، حتى إذا بلغت المالك وجدت القصر لا قيمة له في نظره، ووجدت شعوره به كشعور الفلاح نحو كوخه، والفقير نحو عشه، وكلما طال الزمن بالغني تفه القصر في نظره، وحرم حرماناً تاماً من لذة الملكية، وصارت لذته خيالا لمن يمر به ويتصور نعيم سكانه أو مالكه.
وهذه قاعدة الحياة، فأجمل أيام الزوجية قبيل أيام يتخيل المرء أو المرأة ما ينتظر من نعيم مقيم، وأيام يسبح خياله أو خيالها في الآمال والأماني التي لا حد لها، ثم تصدمه أو تصدمها الملكية أو شبه الملكية، فإذا كل شيء عادي مألوف.
وأجن بالكتاب قبيل شرائه وعند شرائه، وأبيت ليلة وأنا أحلم به ولا أسمح لنفسي بالنوم ليلة الشراء قبل تصفحه ومعرفة ما فيه أو على الأقل عناوينه، ثم يوضع في المكتبة وينسى وكأنه لم يملك.
والأملاك الواسعة والغنى الوافر أمل الناس جميعاً، ولو درسوا في دقة - أربابها وحالهم وشعورهم لوجدوا الفرق الواسع بين ما يتخيلون وما يدرسون، ولو وجدوا أن أكثر الأغنياء يعانون من غناهم ما لو عقلوا وخف عنهم جنون الملكية لنزلوا للمجتمع عن شيء مما يملكون ويعانون، فسعدوا وأسعدوا.
أليس عجيباً في هذه الحياة أن ألذ شيء في الملكية خيالها؟
أحمد أمين
-
من ذكريات العراق
تأمل ساعة
بقلم أحمد حسن الزيات
في الشرفة الوسيعة في فندق (كارلتون) جلست أطالع في صفحة دجلة ما خطته يد القرون. وكانت شمس الأصيل تنفض تبرها على أمواج النهر وسطوح الكرخ وحواشي الأفق، والطبيعة الأنيفة تنعم بالصفاء والبهاء والدفء، بعد ما أجهدها رعد الأمس وبرقه، وأغصها وابل الغمام وودقه، فالسماء مصرية الأديم، والجو عبهري النسيم، والأفق الغربي مزدان بقزعات من السحاب الأبيض الرقيق، والماء قد استحال لجينه نضاراً من طول ما حمل إليه السيل من كنوز الجبل.
أخذت أصوب النظر وأصعده في النهر والجسر والشاطئ. فأرى أنماطاً من الناس، وأخلاطاً من الأجناس، وصوراً من الأشياء، تنكرها العين ويعرفها القلب، لأنها شرقية، ولأنها عربية، ولأنها مظلومة!. . . .
ذكرتني هذه المناظر مناظر غابت في سويداء القلب ولفائفه: ذكرني تقابل الرصافة والكرخ على دجلة، تقابل القاهرة والجيزة على النيل الأعلى، والمنصورة وطلخا على النيل الأسفل!.
وفي هذه الأماكن الحبيبة مدرج طفولتي وشبابي، وملتقى أحبتي وصحابي، فهاجت شجوني وسالت شؤوني. فوضعت جبهتي المضطرمة على سياج الشرفة البارد، وعدت بالذاكرة وشيكاً إلى بغداد، ثم انطويت على نفسي، وأخذت أتفكر وأتذكر وأعمه في غيابة الماضي، حتى انقطع ما بيني وبين الحاضر، وانمحى من حوالي العالم بأسره
وحينئذ انبعث من جانب الكرخ صوت شاد يرجع بالنغم العربي الشجي، فخيل إلي أنني أرى دجلة (الأمين). وجسر (ابن الجهم)، وكرخ المجان والخلعاء من أهل بغداد المترفة؛ ووقع في سمعي أن هذا الشادي يقول:
سقى الله الكرخ من مُتَنزَّهٍ
…
إلى قصر وضاح فِبرْكَةِ زلزل
مساحب أذيال القيان ومسرح ال
…
حسان ومثوى كل خرق معذل
وصور لي أنني أسمع غناء الملاحين في الزلازل، وأبصر (الدلفين) و (العقاب) يمخران
العباب بالأمين وحسانه وقيانه ونداماه!. . . وتراءت لي على الشاطئ الشرقي قصور البرامكة الحزينة، يقابلها على الشاطئ الغربي قصور الخلفاء والأمراء تعج بالجواري والغلمان، وتضج بالشعراء والندمان، وتموج بالسادة والقادة والجند، وتفيض بالنعيم والجلال والعظمة، وتمثلت في خاطري بغداد الأمس كباريس اليوم في عدد سكانها، وفخامة بنيانها، واتساع رقعتها، وازدهار مدنيتها، وانبعاث الحضارة من مجامعها ومنابرها، وانبثاق الهداية من جوامعها ومنائرها. إلا أن باريس تشع في أجواء مشرقة تسطع فيها شموس أخرى تضارعها وتصارعها، أما بغداد التي عنت لها وجوه القياصرة، وكان من جندها أبناء الدهاقين والأكاسرة، فكانت شمساً واحدة ترسل الضوء والحرارة والحياة في القارات الثلاث فتبدد ما غشيها من ظلام وخمود ونوم
لا أدري متى كنت أصحو من نشوة هذه الذكريات الحلوة المرة، لو لم يعدني إلى وجودي صوت منكر من أصوات الحضارة الحديثة، قد انطلق من جوف مركب بخاري عظيم، كان يشق بحيزومه صدر دجلة، فسرحت طرفي في الأفق فإذا شمس الشرق تجاهد ظلام الغرب، وإذا القزعات قد ارتد بياضها سواداً ضربت في حواشيه حمرة الشفق، فصارت كأجنحة الغربان الدامية، أو كقطع من الفحم علقت بأطرافها نار حامية. ثم نظرت شمالاً فإذا المكان الذي سجدت فيه رسل (شارلمان) أمام الرشيد يخفق فوقه علم غريب، لا هو أسود ولا أبيض ولا أخضر وإذا قطع من السحائب السود قد انعقدت فوقه ملبدة هنا مبددة هناك. . . فقلت في نفسي ليت شعري أهذه بقايا أعلام الرشيد والمأمون، أم هذه أثواب الحداد لبستها سماء العراق على السعدون؟!
الزيات
حمار بوريدان
بقلم السيد محمد روحي فيصل
لعل أشد الأدواء فتكاً في النفوس، وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، وأعمقها أثراً وتغلغلا، هذا الضعف في الإرادة أو التردد في العمل. يقعد بالمرء عن تحقيق رغائبه وآماله، ويمسكه عن تنفيذ مشاريعه وخططه، ويحول بينه وبين الإنتاج المتصل الذي يفيد الأمة ويفيد الإنسانية ثم يدفعها نحو المثل العليا الثلاثة: الخير والجمال والحقيقة
ومن العجب أن التردد على شدة فتكه وكثرة ذيوعه وعمق تغلغله لا يحسب ولا يلتفت إليه كأنما هو عرض من هذه الأعراض الهينة اليسيرة التي لا قيمة ولا وزن، أو كأنما هو شذوذ خفيف ضئيل في اتجاه مجرى الإرادة الصحيحة القوية!! ولعمر الحق ما شيء أنكس للرقى والمدنية وأدعى إلى الجمود والموت مثل التردد والإحجام (يصيب المرء في حياته العملية فيغل يده، ويشل عقله، ويتركه فريسة للألم من ضعفه، والخجل من صحبه. تظهر أعراضه في صغار الأمور وكبارها، فيكون في انتقاء الثوب واختيار الحالة، وفي الإقدام على الزيارة القصيرة والرحلة الطويلة، ويدخل في لذاذات الرجل وأعماله، كما يدخل في إدباره وإقباله)
أجل! يكون التردد في زورة الصديق، وافتتاح الحانوت، وارتياد المقهى كما يكون في طلب العلم والقوت والمال. وسواء أدخل في حقير الأمور أم جليلها فإنما هو يقف النهضة، ويبطئ الحركة، ويعوق عن التجدد والإبداع
لقد كشف السيكولوجيون عن نفسية المتردد، وأوضحوا المظاهر المتباينة العنيفة التي تطغى عليه وتأخذه بالحيرة والقلق فقالوا إن كل فعل إرادي لابد أن يجتاز على التوالي أربعة أطوار:
1 -
تصور غاية الفعل، وإدراك المقصود من تحقيقه
2 -
طور الموازنة والمفاضلة. ذلك بأن كل فعل إرادي له بواعث قلبية وجدانية تخلقها الأهواء والميول، وتغذيها العواطف والنزعات، وتنميها المشاعر والأحاسيس. وعوامل عقلية ذهنية مصدرها المنطق والمحاكمة والمعرفة. فالمرء في هذا الطور يوازن بين البواعث القلبية والعوامل العقلية ويفاضل بينهما، ويقوم بعملية حسابية يزن بها قيمهما
3 -
طور التقرير، ذلك أن المفاضلة بين البواعث والعوامل لابد أن تسفر عن نتيجة هي حل الفعل وتقريره
- طور التنفيذ - والتنفيذ تاج يزين هام الفعل الإرادي، ويتم محاسنه
شاء بعضهم أن يحذف من هذا التقسيم طور التنفيذ لأن الفعل الإرادي في نظره مرتبط من الوجهة النفسية بالتنفيذ أو عدمه. على أنه ينبغي أن يكون ثمة بداية في تحقيق الفعل واتجاه نحو العمل. لذلك قلنا إن التنفيذ (تاج يتمم محاسن الفعل الإرادي ويزين هامته)
فالتردد إنما يكون في الطور الثاني، طور الموازنة والمفاضلة. والمتردد إنما تتجاذبه البواعث والعوامل، يوازن بينهما ويفاضل بين قيمهما ثم لا ينتهي من موازنته ومفاضلته، ولا يضع حدا لهذا الاضطراب والفوضى. تناجيه بواعث القلب فيتفيأ ظلاله ويطمئن إلى أفنانه، ثم لا تلبث عوامل العقل أن تخرجه من طمأنينته وتغزو نفسه كلها. فهو ساحة حرب ما تكاد البواعث القلبية تنتصر فيها حينا إلا لتنخذل وتتراجع أمام قوة العوامل العقلية. وشدة منعتها، وعظمة سلطانها.
هكذا كتب الله على المتردد أن يقف بين بين، لا يقرر ولا ينفذ وإنما يخضع لطائفة من الاعتبارات النفسية المتعاكسة. وهذه الاعتبارات قد تنشأ عن خصب في الخيال، وسعة في المعرفة، وقوة في التفكير. وقد تنشأ عن تيقظ في الحيوية الانفعالية، واشتداد في الميل والهوى، وتدفق في الرغبة والعاطفة.
ومها يكن منشأ هذه الاعتبارات القوية فان المتردد عضو أشل (يعيش على هامش المجتمع البشري) كما يقول الدكتور بلوندل
قد تسأل بعد هذا: إذا كان الأمر ما تقول فما شأن الحيوان هنا؟ ومن يكون بوريدان هذا؟ وما هي العلاقة التي تصل عالم النفس الإنسانية بعالم (الحمير)؟؟
الحق إنه سؤال وجيه ممن لا يعرف وجه الاتصال والتقارب. فأما بوريدان فهو فيلسوف من فلاسفة اللاهوت والدين المسيحي في العصور الوسطى، ولد في مدينة بيتون من أعمال فرنسا الشمالية وتوفي عام 1360 ميلادية. ينتسب إلى مدرسة (السكولاستيك) المشهورة بالجدل الديني والتفكير الغيبي، والتي من رجالها (روجر باكون) و (القديس بونا فانتير) و (دونز سكوت). وأما الحمار فقد شاء بوريدان أن يوضح (حرية الاختيار) في الحياة
والنفس بتشبيه طريف ومثل قريب فافترض وجود حمار جائع ظمآن على مسافة معينة واحدة من إناء فيه ماء عذب، ومعلف فيه تبن وشعير. . . وطفق الحمار يفكر على جوعه وظمئه بأي الأمرين يبدأ: أيملأ بطنه أولا أم يروي ظمأه؟ فما يكاد يتجه نحو الماء مثلا حتى ينكفئ راجعاً نحو التبن والشعير!! وقد كان في وسعه أن يختار الذي يريد ويلتهم ما يهوى، ولكن الحمار المسكين بقي يفكر على ذلك النحو من المنطق العقيم حتى سقط جثة هامدة، ومات جوعاً وظمأ!!
هذه القصة الموجزة الخيالية تصور، غير حرية الاختيار، طبيعة التردد وعاقبة المتردد. فأما طبيعة التردد فقد شرحناها من الناحية النفسية، وأما عاقبة المتردد فهي كما رأيت: الفناء والموت. ذلك بأن الحياة تتطلب السرعة والحركة والعمل لا الجمود والإحجام. وكل من لابس الحياة وخاض غمارها فإنما ينبغي له أن يعمل ويعمل، لا يأبه بالموانع والصعوبات التي قد يصادفها في طريقة وتتعثر بها رجلاه، وإلا فان مصيره المحتوم التخلف عن الحياة، والانحدار نحو التفكك والانحلال. يذهب غويو إلى أن العمل المستمر أو الفاعلية الشديدة إنما يجب أن تكون المثل الأعلى في الأخلاق، لأن الحياة ليست ترددا ومحاسبة وإنما هي عمل وإنتاج ، ` ، ` ،
ولسنا نحب هنا أن نقيد الفاعلية الشديدة بالخيرية والشرية، وإن شئت فقل إننا لن نتعرض للخيرية والشرية في صدد الحث على الفاعلية الشديدة والجهد الدائم.
وعلم الأخلاق الحديث المبني على التجربة والمشاهدة يأبى ذلك وينفر منه كل النفور. فما يدربنا أن الأمر الذي نحكم بخيريته وشرف غايته يصبح شراً كله إذا نحن طبقناه ومارسناه في الحياة العملية. فالخيرية التي نخلعها على طائفة من الأمور دون أخرى هي خيرية سابقة للتجربة ومتقدمة على المشاهدة ، فلنزاول إذن كل الأمور ولنتصل بكل شيء، ولتكن حياتنا ملآى مستفيضة الجوانب، متصلة الحركة، قوية الإرادة
والإرادة العاملة المحركة كنه الوجود وأس الكون كما يقرر شوبنهور إذ يعتقد أن الأحياء جميعاً محكومون بإرادة باطنية لا شعورية عمياء، دائبة الهمة والنشاط، متجددة الشهوة والرغبة، تسيطر على الفكر والعقل سيطرة عظمى.
إن صاحب الإرادة القوية سيد عواطفه وآرائه، فرغائبه تنقلب آناً إلى إرادة فاعلة، ليس
يعرف المستحيل ولا يقر بوجوده في قاموس الأعمال!!
وبعد. ما دواء التردد؟ وكيف السبيل إلى الشفاء من هذا الداء؟ ذكر أطباء النفس طائفة من العلاجات الناجعة، منها ما هو لمداواة الجسم ومنها ما هو لمداواة الروح: ينبغي قبل كل شيء ترويض الأعضاء وتقوية الحواس وامتلاك الصحة لأن للإرادة أساساً عضوياً، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن قوة العضلات هي الصورة الأولية الابتدائية لقوة الإرادة. فالمريض لا يستطيع تحقيق أمانيه لأن جسده فاتر العزم خائر القوى، وينبغي الطاعة وحب النظام، فالطفل إذا أطاع غيره فإنما يتعلم كيف تكون السيادة على الذات وقهر النفس، وهنا قد يكون للأسرة والمدرسة الأثر البليغ في ذلك
كذلك ينبغي تثقيف العقل وتهذيب الشعور. أما تثقيف العقل فيكون بالتفكير الصحيح، والانتباه الثابت، وتصور غاية الفعل بصورة محسوسة مسهبة، وإدراك مختلف المذاهب والنحل. وقد قال ديكارت (إن الإرادة القوية في العمل تقتضي وضوحاً شديدا في العقل). وأما تهذيب الشعور فيكون بالميل إلى المثل العليا الإنسانية، والاعتدال في الحب والهوى بحيث لا تطغى البواعث القلبية على العوامل العقلية فتجري الموازنة في جو هادئ ثم تسفر عن التقرير والتنفيذ ويسلم المرء مما وقع فيه حمار بوريدان.!
حمص
محمد روحي فيصل
الانقلابات السياسية المعاصرة وأثرها في تطور
التفكير والآداب
للأستاذ محمد عبد الله عنان
من المبادئ الخالدة أن الفكر تراث الإنسانية، وأن ثمار التفكير البشري ملك حق لجميع الأمم والناس. وأن العلوم والآداب والفنون لا وطن لها ولا تعرف فوارق الجنس والقومية. وقد كانت هذه المبادئ وما زالت هي الغالبة في توجيه الفكر الإنساني؛ وإذا كان التفكير يتأثر في أحيان كثيرة بالعوامل والاعتبارات القومية فالمفروض دائماً أن هذه المؤثرات لا تجني على المبادئ والحقائق الخالدة. فقد مجدت الحرية مثلاً في كل العصور، واعتبرت أعز أمنية للشعوب والأفراد وأجدرها بالتضحية، وقدست حرية الفكر واعتبرت دائماً عنوان الكرامة البشرية؛ واعتبر الإخاء والمساواة منذ الثورة الفرنسية من أقدس المثل الإنسانية. ولكنا نرى اليوم هذه الحقائق تهدر في أمم عظيمة، فالحريات بأنواعها تسحق وتذم، وتعتبر العبودية نظاما، والخضوع الأعمى وطنية، والقومية المتعصبة تطغى على كل المبادئ والمثل الإنسانية؛ ونرى التفكير والآداب في هذه الأمم تنزل على وحي السياسة وإرادتها، وتغدو ألسنة مصفدة لتتأيد المبادئ والدعوات الجديدة.
وهذه ظاهرة خطيرة في عصرنا تستحق الدرس العميق. فمنذ الثورة الفرنسية لم يشهد العالم المتمدن انقلاباً في النظم الاجتماعية والفكرية كالذي نشهده اليوم كأثر للانقلابات السياسة التي وقعت منذ نهاية الحرب في كثير من الأمم الأوربية. وقد كانت الحرب الكبرى ذاتها وما ترتب عليها من النتائج السياسية والعسكرية أكبر عامل في التمهيد لهذه الانقلابات، فقد هزت الحرب دعائم المجتمع كله، وقوضت كثيراً من نظمه وآرائه ومعتقداته القديمة، وعصفت ويلاتها وأزماتها المتوالية بالنفوس والعزائم، وبعثت اليأس والاستكانة إلى كثير من المجتمعات، وظهر أثر ذلك كله واضحاً في آداب ما بعد الحرب. ونلاحظ في هذه الفترة أن النزعات الحرة والثورية تغلب على معظم ألوان التفكير والأدب، وأنها تتجه غالباً إلى الثورة على المبادئ والآراء القديمة، سواء في النظم السياسية أو الاجتماعية، أو تقدير الفضائل والأخلاق. على أن هذه الآثار العامة ليست كل شيء في هذا الانقلاب الفكري العميق الذي نريد أن نتحدث عنه. وإنما يمتاز الانقلاب بآثاره المحلية
والخاصة، فهذه الآثار تذهب اليوم في بعض الأمم إلى إنكار الماضي كله والمثل الفكرية والأدبية والإنسانية كلها.
وهذه الثورات الفكرية والاجتماعية العميقة ترجع كما قدمنا إلى الحركات السياسية والقومية العنيفة التي جاش بها كثير من الأمم عقب الحرب، فقد كان لهذه الحركات أكبر أثر في توجيه التفكير والآداب والثقافة. والحقيقة أننا لا نستطيع أن نلاحظ مثل هذا الانقلاب العميق في مناحي التفكير والآداب إلا حيثما وقع انقلاب سياسي عميق يقوم على إنكار الماضي ومبادئه وآرائه القديمة. ففي روسيا السوفيتية حيث سحقت الثورة دولة القياصرة والمجتمع الروسي القديم بكل ما فيه من نظم ومبادئ وتقاليد، وقامت نظم سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة البلشفية، نرى التفكير الروسي يتميز بلون ثوري عميق، ونرى نظريات الثورة العالمية، وسيادة الطبقات العاملة، والإخاء الدولي، ونضال الطوائف، وسحق الرأسمالية وغيرها تغمر الأدب الروسي المعاصر، ونرى الثقافة الروسية كلها تتجه إلى غرس هذه النظريات واعتبارها قوام الحياة الروسية العامة، وغذاء التفكير والآداب والفنون. ولم يبق من الأدب الروسي القديم ما يستحق التقدير في نظر روسيا البلشفية سوى آثار المفكرين والكتاب الأحرار والثوريين، مثل ترجينيف ودوستويفسكي وتولستوي والبرنس كروباتكن، تلك الآثار التي تصف شقاء المجتمع الروسي في عصر القياصرة، والتي كانت غذاء للحركة الثورية. وفي تركيا الكمالية نرى نواحي التفكير والثقافة تصطبغ بصبغة غربية جديدة هي أثر مباشر لاتجاه ثورة التجديد التركي ودفعها لتركيا نحو الغرب، بعد أن لبثت قرونا شرقية أسيوية، ونرى زعماء تركيا الجديدة يحاولون أن يخلقوا للشعب التركي عقلية جديدة تقوم على نسيان الماضي وبغض دول السلاطين، وتحقير العصبية الشرقية أو الإسلامية، وتمجيد الإصلاحات الجديدة، والاندفاع وراء التيار الغربي. ويذهب زعماء تركيا الجديدة إلي غرس النزعة القومية والتفكير والآداب إلى حدود الإغراق، فنراهم يغيرون قواعد اللغة التركية وألفاظها ويستبعدون منها الألفاظ المشتقة من لغة أخرى، ويضمون لتركيا تاريخاً جديداً تغفل فبه الحقائق العلمية والتاريخية الراسخة، ويقال لنا فيه إن الحضارة التركية هي أساس الحضارة البشرية، وأن اللغة التركية القديمة هي مصدر اللغات البشرية، وغير ذلك من المزاعم المغرقة التي تنقضها أبسط الحقائق
التاريخية؛ وهذه المزاعم والنزعات كلها تمثل اليوم بقوة في الأدب التركي الجديد، ولا يسمح للمفكرين والكتاب الترك أن يعالجوا غيرها أو أن يعالجوها بما يخالف النظريات الرسمية؛ فالأدب التركي اليوم كالأدب الروسي، أدب حكومي تشرف عليه الحكومة وتوجهه إلى ما ترى فيه تحقيق برنامجها السياسي والاجتماعي.
وقد كانت الفاشستية بلا ريب أعظم حركة سياسية اجتماعية حدثت بعد الحرب؛ وكان لها في توجيه التفكير والآداب أعظم أثر. ونلاحظ أولاً أن الانقلاب الروسي في هذا التوجيه أبعد مدى من حيث كونه ينكر أسس المجتمع القديم كلها، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، ولكن الفاشستية لا تذهب في الهدم إلى هذا الحد؛ وبينما تذهب البلشفية إلى تقوية النزعات الثورية والحرة في حدود الطغيان البلشفي، إذا بالفاشستية تقمع كل نزعة ثورية أو حرة تتجه إلى محاسبتها. وقد كانت الفاشستية إلى ما قبل عامين حركة محلية إيطالية، ولكنها تغدو اليوم حركة أوربية عامة تحدث آثارها السياسية والاجتماعية والفكرية في ألمانيا وبولونيا والنمسا وغيرها. ولما كانت الفاشستية حركة طغيان شامل، فإنها تبسط سلطانها على الحركة الفكرية كما تبسطه على كل قوة معنوية أخرى، وتحاول أن تصفدها في حدود برنامجها، وأن تسيرها طبقا لوحيها وإرشادها. وهنا فرق جوهري بين موقف الديموقراطية وموقف الفاشستية من الحركة الفكرية؛ ذلك أن الثورة الديمقراطية تقع دائما في المحيط العقلي، ثم تحدث آثارها المادية بعد ذلك في الأنظمة السياسية والاجتماعية؛ ولكن الفاشستية تقوم بالعكس في المحيط المادي وبوسائل العنف المادية، ثم تحاول بعد ذلك أن تغزو الميدان العقلي وأن تجعل من الحركة الفكرية أداة لتوطيد سلطانها كما تجعل من الجيش والأسطول؛ ومن أهم الظواهر الفاشستية إنها تعمل على مطاردة القوى العقلية الممتازة التي لا تخضع لوحيها، ولا ترعى سوى الأذهان الضئيلة المتواضعة التي تهرع لخدمة كل سلطة جديدة وكل نظام جديد
ويبدو أثر الثورة الفاشستية في الحركة الفكرية الألمانية بشكل قوي واضح. ففي إيطاليا تسود المبادئ الفاشستية الرجعية في توجيه التفكير والآداب والفنون والحياة العقلية كلها كما تسود الحياة السياسية والاجتماعية، وتغمر الثقافة الإيطالية في جميع نواحيها، وتحاول أن تحدث أثرها في توجيه الثقافة العالمية. ولما كانت الفاشستية تنكر الحريات العامة، فهي لا
تعترف بحرية الفكر بل تبغضها وتسحقها بكل قواها، لأنها ترى في وجودها خطراً على كيانها؛ وحرية الفكر أسمى مزايا الإنتاج العقلي والفني، وإذاً ففي ظل هذا الطغيان الذي يسلب الفكر أقدس حقوقه، لا يمكن أن يزدهر التفكير الرفيع، ولا أن تصل الآداب والفنون إلى ذرى القوة والصقل؛ وتغدو الحياة العقلية مطبوعة بطابع التماثل الممل، لأنها تسير وتسخر طبقاً للوحي القاهر. هذا إلى أن التفكير والآداب في هذا الأفق المصطنع قد جردت من أقدس المثل التي استرشدت بها في كل العصور، فأصبحت تمجد العبودية لأنها أسيرة الطغيان، وتمجد الحرب لأنها جردت من المثل الإنسانية الخالصة. وهذه الظواهر هي وليدة الطغيان قبل كل شيء تتجلى اليوم بأوضح ألوانها في ألمانيا على حداثة عهدها بالفاشستية؛ فإن الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية ما كادت تظفر بقلب نظم الحكم في ألمانيا، وإقامة الطغيان على أنقاض الديموقراطية، حتى أخذت تفرض مبادئها ونظرياتها على التفكير والآداب والثقافة الألمانية؛ وهي اليوم تمثل في الحياة الألمانية بقوة، ونظرياتها القومية والجنسية المغرقة تطبع التفكير الألماني في جميع نواحيه العلمية والأدبية والفنية، بل هي تذهب في الجرأة إلى حد محاولة التأثير في العقيدة النصرانية وصبغها بصبغتها. والعلم والتفكير والآداب والفنون في ألمانيا تسخر كلها لخدمة الدعوة الوطنية والاشتراكية وتمجيد مبادئ هتلر، واثبات نظرياته المغرقة في تفوق الجنس الآري على الأجناس الأخرى، وتفوق السلالة الألمانية على سائر المخلوقات؛ واثبات صلاحية الحكم المطلق وفشل الحكم الديموقراطي؛ وتمجيد الخضوع المطلق للزعامة، والانتقاص من قيمة الحريات العامة، وغير ذلك مما تضمنه برنامج الوطنية الاشتراكية (وإنجيل) هتلر. وقد ذهب الوطنيون الاشتراكيون بعيداً في السيطرة على زمام الحركة العقلية في ألمانيا، فبسطوا إشرافهم على الجامعات، وأصدروا تشريعاً يصفد الصحافة ويجعلها مهنة شبه حكومية، ويجعل الكتاب دعاة للوطنية الاشتراكية وطغيانها. وكما أن الفاشستية الإيطالية بعثت إلى الأدب الإيطالي بصور رومة القديمة وذكريات الإمبراطورية الرومانية ومجد القياصرة، وبالطموح إلى إحياء هذه الذكريات والصور في حياة إيطاليا وآمالها، فكذلك بثت الوطنية الاشتراكية في الأدب الألماني مثل الإمبراطورية المقدسة الذاهبة، وصور ألمانيا العسكرية الظافرة الزاهرة تحمل زعامة الجنس الآري كله، وتملي على أوربا القديمة
إرادتها ومثلها.
وقد كان للانقلابات السياسية والقومية دائماً أثرها في توجيه التفكير والآداب في جميع الأمم والعصور؛ ولكن لعل التاريخ لم يشهد عصراً غمرت فيه القومية المتطرفة والنزعات الرجعية التفكير والآداب كعصرنا؛ ذلك أن التوجه القومي المعاصر يذهب إلى حد الإغراق ويتخذ صوراً من العنف لم يسمع بها، ويحاول أن يسيطر على جميع نواحي الحياة العامة، وأن يتدخل في صوغ العقلية العامة. ولا ريب أن الحركات القومية تكسب من وراء ذلك قوة، وربما كست الأمم في بعض نواحي الحياة المادية حيوية جديدة، ولكن الحركة العقلية تعرض بالعكس لأخطار كثيرة. ذلك لأن الثورات القومية العميقة تقوم على العوامل السياسية قبل كل شيء، وتستخدم في سبيل مآربها سلاح الدعوات المغرضة والنظريات الموضوعة التي لا تقرها المثل الإنسانية دائماً، ولا يقرها العلم الخالص والحقائق المنزهة. والثقافات التي تطبعها أهواء السياسية والنظريات المغرضة، والآداب التي ترغم على تصوير ألوان مصطنعة من الحياة العامة والحياة الفردية، وتحمل على تمجيد البطولة الزائفة، وتمجيد العبودية في عصر النور والحريات، وامتهان المبادئ والمثل المقدسة، وتزييف حقائق العلم والتاريخ الراسخة، هذه الثقافات والآداب ليست جديرة بأن تقود الأمم العظيمة، وليست جديرة بالأخص بأن تتخذ مكانها بين تراث الإنسانية الرفيع.
إن تطور التفكير والآداب على هذا النحو في أمم عظيمة كإيطاليا وألمانيا، هو بلا ريب ظفر جديد للمبادئ والاعتبارات المادية، ولكن ظفر المبادئ والاعتبارات المادية على حساب الحياة العقلية والروحية من ظواهر انحلال الحضارات والأمم؛ وإن حضارة تمجد فيها العبودية، وتطارد فيها العلوم والآداب لأجدر بالعصور الوسطى منها بعصرنا.
محمد عبد الله عنان
المحامي
من ذكرياتي في مصر:
ساعة عند أمير الشعراء
لا أزال اذكر تلك الساعة السعيدة التي هبطت فيها مصر لأول مرة في
حياتي عام 1929 فقد كانت مليئة بالخواطر، فياضة بالآمال، محفوفة
بالأحلام. وكانت الفصل بين ماض راحل، ومستقبل ماثل، لقد تذكرت
وأنا أجتاز ميدان (باب الحديد) وطرفي شاخص إلى تمثال (نهضة
مصر) القائم وسط ذلك الميدان الفسيح، أنني قد بلغت ما كنت أتشوف
له وأصبوا إليه، فها أنا في تلك المدينة الجميلة التي طالما تاقت إلى
مرآها نفسي، ونزع إليها هواي، وها أنا في ذلك البلد الأمين الذي كان
ملاك خاطري وقيد ناظري، ومعقد أملي، ومحط رغابي، كم كنت
أتمنى في تلك الساعة لو يتاح لي شهود مصر كلها فاجتلي ما فيها، لقد
تمثلت أمامي بحضارتها المزيجة من روح الشرق الخالدة، أو نفسية
الغرب الجديدة، فعملت فيها كل منهما عملها، فظهرت من الاثنتين ثالثة
كانت رباط الشرق بالغرب، وجماع شخصيتيهما المتباعدتين من أقدم
العصور حتى اليوم.
وتمثلت أمامي بأعلامها الميامين، وأبنائها المقاويل، وأساتيذها الأماثيل. وشعرائها المفلقين، أولئك الذين تسمع دوي اسمهم في أنحاء الشرق يملك عليك سمعك، ويأخذ بمجامع قلبك، فرفعوا اسم مصر وبنوا لها في الأدب والفن مجداً أصبحت به محط الرجال وقبلة الآمال. . .
رحم الله (شوقي وحافظ) فقد كنت إذا ذكرت مصر أو مرت على خاطريالحياة على جنبات النيل ذكرت قبل كل شيء (شوقي وحافظ) وأنهما يقيمان في هذه المدينة القائمة في هذا السهل الوسيع، يحرسها (أبو الهول) الرابض في كنفها هازئاً بالزمن ساخرا من الحياة
الخاطفة. . والحق أن (شوقي وحافظ) أقاما لهما من المجد ما أخرس كل لسان، فملكا على الناس أسماعهم، وإنك لتسمع لهما صوتاً يرن في الآذان، حيثما وليت وجهك في هذه البلاد العربية المترامية الأطراف، فكان مما أردته وأنا في مدينة شوقي وحافظ أن أراهما حق الرؤية، وأن أعرفهما حق المعرفة، وهكذا كان. .
لقد أشربت النفوس حب شوقي فخالط اللحم والدم، لأنها كانت تجد فيه فيضاً من العبقرية لا ينضب، وكنزاً من الإبريز يزيد قدره تعاقب الأيام والسنين، هذا إلى ما كان عليه من عظيم الخلق، ونبل القصد، وسجاحة النفس، وعفة اللسان، وحب الخير، وصلابة الإيمان، والملاحاة عن بيضة الدين والعربية بما حباه الله من صارم ذرب، ولسان عضب، وقول فصل، يدعمه غزارة العلم، وضلاعة في التأثير، وشت الخصوم.
رأيت (شوقي) لأول مرة في دمشق بـ (كازينو الخديوية) وكان بالقرب من الطاولة التي كنت عندها فعرفته من غير دليل، وعرفت أنه الشاعر العظيم بلا لبس ولا مراء، وإن لم يرشدني إليه أحد فما أعظم المثلة بين هذه الأسرة والقسمات وبين تلك التي كنت أتوسمها في صوره في الكتب والمجلات. . .
لقد كنت جد شيق إلى التعرف به في تلك الفترة من الزمن، ولكن كم كنت أراني فضولياً إذا قمت بذلك في غير الفرصة السانحة التي تقضي بهذا التعارف، فحملت نفسي على إرجاء ذلك إلى الظروف والمناسبات. .
وفي عام 1930 بعد تجوال أربعة أشهر في سورية وفلسطين، عدت إلى القاهرة للمرة الثانية غب عطلة الصيف. فوجدت الكثير من الشباب العرب في معاهد مصر يزمعون إنشاء جمعية باسم (جمعية الوحدة العربية) تلك التي طالما كنا نتغنى بذكرها، ونؤكد وجوب تأسيسها في السنة المنصرمة لضم شمل أبناء الضاد وعقد تعارف وثيق بينهم على ضفاف النيل السعيد، وسرعان ما نضجت تلك الفكرة، فأتت أكلها عن قريب، ولقد وجدت من (شوقي) رحمه الله خير نصير لها، حريص عليها، مبشر بها، فأوفدت الجمعية ممثلين لمختلف أقطار العرب كنت أحدهم لتقديم الشكر إليه باسمها، وتهنئته بابلاله من علته، فما كان أعظم ابتهاجه بنا، لقد كان يحثنا على مواصلة ما نحن فيه، ويضرب لنا الأمثال بصوته الضعيف المتقطع يخرجه بتكلف وعناء، مدعماً إياه بإشارات مختلفة من يديه
يستعين بها على إظهار ما يريد، لقد كان أساي في تلك الساعة عظيما كلما نظرت إلى الشاعر وما يقاسيه، التياعاً مما سيصيب دولة الشعر في المستقبل، وإشفاقاً على شوقي مما هو فيه من داء كامن بالغ، وإعياء شامل وشحوب باد. . .
لقد كان ذلك الاجتماع أول اجتماع عقد صلة المعرفة بيني وبينه، وكنت كلما زدت تعرفاً به، ازددت إعجاباً بعبقريته الفياضة، وزدت شوقاً إلى مجلسه الجامع لافانين الأدب، وروائع الحكمة، وطرائف الأخبار وأوابد الملح والمفاكهات، ولا غرور في ذلك فشوقي يمثل عصراً بكامله، عصراً كان فيه مالك سمعه، وشاغل لبه، ومثير مشاعره، وهو خير مرآة له، بل خير من سيصوره للأجيال الآتية حق التصوير.
وفي عام 1932 عدت إلى مصر بعد أن فارقتها ما يناهز سبعة أشهر، وكنت إذ ذاك في ضيق من دروس متراكمة، أتدارك ما فات، فشغلتني مشاغل المراجعة والحياة بين الكتب، والحرص على الوقت القصير من زيارة شوقي وتجديد عهد الاجتماع به. .
وأقبلت طلائع الصيف لهذا العام، وانتهت أعوام المدرسة اللذيذة، أو قل الحياة في مصر، ودنا أوان العودة إلى الوطن العزيز، والتزود من النيل بذكريات على جنباته لا تنسى، وصور باقية لا تمحى، فقد أوشكت أن تكون الحياة المغمورة بمختلف الخواطر، المحفوفة بشتى الألوان، ذكراً ماضياً، أو خيالاً سارياً ألم بنائم، وأطاف بحالم.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أي والله: لقد أوشكت أن تكون تلك العهود إذ ذاك، ذكريات دفينة يضفيها الزمن إلى خزانته، تتجدد في نفوسنا كلما جد عهد، وهاج بعد، وحالت حال، ولاح خيال، وهاهي اليوم قد أصبحت كذلك، مطمورة في الصدر، رهينة في الفكر، تبتعثها لواعج الهم، وتشب جذوتها كوامن الألم.
قلت لقد دنا الفراق، فبعد أيام معدودات امتطي القطار الزفوف، وبعده السيارة الربيدة، إلى حيث ملاعب الصبا، ومجامع الألفة والهوى، والتئام الشمل، ولقيا الأهل، فكان من الواجب بعد هذا وأنا أودع مصر عن قريب أن ألقى (شوقي)، وأن أودعه، وما كنت أحسب أن ذلك الوداع سيكون الأخير، وان ذلك الاجتماع ليس بعده اجتماع، فكنت قد عقدت النية على الذهاب إليه. والتزود بالحديث العذب، وبينما أنا كذلك إذ جاءني صديق عراقي يخبرني
بدعوة (شوقي) لي معه في داره (كرمة ابن هانئ) ضمن نخبة أمجاد من غطارفة مصر، وأهلة العصر، فما منهم إلا من استفاض ذكره، وعلا في الفضل كعبه، ونما في المجد حظه. .
ذهبت أنا ورفيقي في الموعد المنتظر إلى (كرمة ابن هانئ) ظهراً، وكنت قد زرتها قبل هذه المرة، جنة أنيقة زاهية، نسقت فيها مغارس الزهر، وخمائل النبت وأصص الورد تنسيقاً يبعث البهجة في النفس، يقوم وسطها قصر جميل يطل على النيل، ويقابل القطم مدلاً عليه بما أوتيه من جمال وجلال، وروعة أخاذة بالألباب، مستفزة للمشاعر، وذلك لأنه مقام الشاعر ومبيت جسمه، ومهبط وحيه وخياله، ومرتع شاعريته وتأمله، ومجتمع أمانيه وآماله، فله ذلك ما دام كذلك. .
دخلنا القصر فاستقبلنا سكرتير الشاعر، فجلسنا في الشرفة الأمامية منه ننتظر قدوم شوقي، ونتأمل محاسن الطبيعة أمامنا، هذه مدينة القاهرة تجاه أبصارنا، كم من خواطر تاريخية تمر على البال في تلك الساعة، إن الإنسان بهذا ليستعرض تاريخ مصر وما يتوالى عليها من حوادث وفتن وانقلاب وأحوال، تتزاحم كلها في ذاكرة الناظر إذا ما أمعن في نظره، ورجع إلى الماضي البعيد، أجل! تستثير كل تلك الذكريات مبان عالية مختلفة، ومنائر ضاربة في الفضاء، وقبب منتثرة هنا وهناك مختلفة في الأعمار، تنطق بالعبر، وتشهد على أن الزمان دول. وكان على جانبي السلم الرخامي تمثالان قائمان يحمل كل منهما شبه مصباح في يديه. فسألني صاحبي عن تعليل لطيف لذلك، فقلت إن هذا أصدق تخيل يطابق (ديوجيني) وقد حمل سراجا يدور به في شوارع (أثينا) ليفتش عن الرجل في الليل والنهار، وفي الأخير وبعد تجوال طويل عثر على امرأة خبرها فوجد فيها المثل الأعلى للإنسان الذي يبتغيه فقال (لقد بحثت عن الرجل بكل مكان فلم أجده، ولكني وجدت المرأة) وما أشبه هذا التمثال الصامت الناطق القائم في مدخل الدار حاملا بيده مصباح الحكمة والهداية بديوجيني، وكأنه هنا وقف للغادين والرائحين يقول (ها قد وجدت ضالتي المنشودة بعد عصور طويلة، لقد وجدت الرجل، لقد عرفت الرجل، هيا أدخل ترى الرجل).
وأقبل إلينا شوقي بعد فترة عاجلة من الزمن متهللاً، فتقدمنا إليه مسلمين، فرحب بمقدمنا غاية الترحيب. وانتبذنا جانب شرفة القصر ريثما يتم اجتماع الآخرين، وكان الشاعر في
هذه المرة التي لقيتها فيها خيراً منه في النشاط ودلائل القوة في كل مرة رأيته قبلها، فقد هادنته العلل في ذلك الحين، وناهض المرض وصاوله حتى تغلب عليه إذ ذاك، ولكن من كان يدري أن (شوقي) سخر صريعاً في الميدان بعد أشهر قليلة من هذا الانتصار. وان تلك العلل إنما كمنت لتتجمع للوثوب، واختفت متراجعة لتظهر على حين غفلة، وهادنت خداعاً، والحرب خدعة، من كان يدري ذلك ومن المصدق بهذا المنقلب العاجل؟. . لقد كان شوقي في تلك الساعة قرير النفس، رخي البال، طافح البشر، وكان صورة من الطبيعة الباسمة في ذلك اليوم، وهكذا يكون الشاعر هو والطبيعة صنوان لا يفترقان. . تنظر إليه فتقرأ في جبينه المتغضن خطرات السنين المتعاقبة، وأصداء الزمن الماضي بما فيه من حوادث وشئون، كان لسانها الناطق وحافظها للأجيال المقبلة من الاندثار، فإذا أمعنت في سطور ذلك المحيا داخلت نفسك هزة وانتفاضة هي هزة الإجلال والمهابة، حيث ترى ذلك العقل الجبار وذلك الذهن المتقد يشع نوراً وحكمة، وذلك الخيال المطلق أعني به الشاعر أو روح الطبيعة الثاني، ذلك الذين يهم في كل واد، ويسبح في كل لجة، فيحلق مع الطيور في سمائها ليساجلها أنغامها، ويعانق الطبيعة في خمائلها ويتغنى بجمالها، وقد تراه فتبصر فيه خفة السرور وتقرأ عليه نضرة النعيم، وقد تراه فتجده بائساً لبؤس غيره، أنيس المحزون، وعزاء الضعيف، يشفق على المنكوبين وتذهب نفسه حسرات عليهم
وتقرأ في عينيه الذابلتين اللتين أتعب أجفانهما السهد وتعاقب الزمن، صفاء السريرة، وعفة القلب، وحدة الذكاء، وهي خير مترجم عن قلب الشاعر، ذلك القلب العامر بالفضيلة والخير. وإذا استمعت إلى حديثه العذب أسرتك طلاوته، واجتذبتك حلاوته، يبلغ إلى فؤادك قبل سمعك فلا تمل منه لغة، ولا تسأم فيه لهجة، وشوقي إذا حدث تخير ما راق لسامعه، ورقت حواشيه، وأتى بكل طريف قشيب، تستهله طرافة في التعبير، وتختتمه دعابة أو عبرة في الحديث تقتضيها الحال ويستدعها المقال، وكان الحديث جامعاً وكان إقبالنا عليه بالغاً، تناولنا شئوناً مختلفة في أحوال (العراق) والأدب العربي في هذا العصر وبعض مشهوري الشعراء والكتاب، وقضينا في هذا حينا حتى قدم علينا الأستاذ محمد عبد الوهاب، وكان حديث القدوم من العراق ثم اكتمل العقد، وانتظم الجمع فنهضنا إلى داخل الدار حيث مائدة الطعام.
ولا تسل عما كان يدور حينذاك من مفاكهات عفة. وملح آبدة، ونوادر طريفة، ساقها فرسان مشهورون في مصر في هذا المضمار، مصلون به، والفكاهة والظرف والتندر من الغرائز التي طبع عليها المصري، وهي من خصائص دمه لا تفارقه، والذي يزيد فيها قوة وحسن وقع في النفس أنها تمرق من اللسان عفوا وتنطلق من غير تكلف وتعمل. . تزجيها الطبيعة، ويقذف بها الظرف الملائم، ولسرعة البديهة وحدة الخاطر أثر لا ينكر في سوقها. .
انتهى محفل الغذاء فجلسنا بعد برهة قصيرة حتى اقترب موعد سفرنا من مصر في ذلك اليوم، فتنازعنا عاملان: عامل البقاء والاستمتاع بهذه الأحاديث الطلية، وعامل الجلاء إلى حيث ينتظرنا القطار الذاهب إلى فلسطين، وفراق مصر على مضض، فتغلب العامل الثاني وإذا نحن في قطار المساء يزفر زفرة الوداع، وإذا بنا نودع من عز علينا وداعهم. وإذا بنا نستعرض صفحات وذكريات ماضية وإذا بنا نفارق أرض مصر وندخل في أرض الميعاد. . .
بغداد
كمال إبراهيم
اختلاف المزاج وأثره في الأفراد والأمم
وفي السياسة العامة
إذا رجعت معظم أسباب حوادث الطلاق التي تنشرها الصحف الإنكليزية، وجدت أن في مقدمتها اختلاف المزاج، وهو ما يعبرون عنه بقولهم ولا نفهم تماماً كيف يؤدي اختلاف مزاج الزوجين إلى تنغيص عيشتهما حتى يطلبا الخلاص منه بالافتراق.
نريد أن نقول: هل إذا كان الزوجان من أهل المزاج العصبي يكونان أقرب إلى الاختصام مما لو كان الواحد عصبياً حامياً والآخر بلغميا بارداً؟
قد يخيل إليك لأول وهلة أن الأمر كذلك، أي أن العصبي سريع الانفعال إذا لقي مثله تطاحنا وتقاتلا حتى يغلب أحدهما الآخر. ويبقى ذلك ديدنهما حتى يفرق بينهما تفريقاً لا اجتماع بعده.
ولكن العكس صحيح أيضاً. أي أن العصبي - وحدته ونزقه معروفان - لا يطيق أن يرى أمامه بلغمياً بارد الطبع، لأن الأول شعاره السرعة والثاني البطء، فيؤدي اختلافهما هذا إلى تخاصمهما بشدة لا تقل عن شدة تخاصم الأولين.
وصحيح كذلك أن العصبي حاد المزاج يطلب تنفيذ إرادته بلا تهاون، فإذا لقي أمامه صفراوياً أو بلغمياً بطيء الانفعال والتأثر فالغالب أنهما لا يعارضانه فيتم له ما يريد بلا خلاف ولا احتكاك ولا قتال
ويظهر أن هذا الحكم الأخير هو الرائج في السياسة، فقد تبدلت محالفات الأمم المختلف المزاج وتغيرت، وبقيت محالفات الأمم المتشابهة الأمزجة. فمن القبيل الأول محالفات أوربا في القرن الماضي كالمحالفة الثلاثية بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا، والمحالفة الثنائية بين فرنسا وروسيا. فقد زالت هاتان المحالفتان ولم يبق لها أثر.
ومن القبيل الثاني تحالف بلدان ألمانيا وتحالف ولايات أميركا. وهما تحالفان يبقيان على الدهر لأن (الدم أكثف من الماء) كما يقول المثل الإنكليزي. وعلى هذه النظرية يقدرون تحالف الأمتين الإنجلوسكسونيتين في مستقبل الزمان - أريد بهما أميركا وبريطانيا.
وقد وجد الإنكليز والفرنسيون بالاختبار الطويل أن كل سعي في التقريب بين الأمتين نجح حتى حين، ثم لم يلبث أن فشل لأن المزاج الأولين الصفراوي مضاد لمزاج الأخيرين
العصبي. ومن ذلك كانت سلسلة حروبهما الطويلة التي بلغت أقصاها في عهد نابليون، ثم انتهت حروب نابليون ولم ينته عداؤهما. وقد تمكن الملك إدوارد السابع بكياسته وحسن سياسته من عقد الاتفاق الودادي بينهما، وظهر أن هذا الوداد ازداد توثقاً بتحالف الأمتين في الحرب العالمية وانضمام أميركا إليها بعد ما تلكأت نحو ثلاث سنوات عنها. ثم لما انتهت الحرب إذا هما كانتا في تاريخهما الطويل - أمتان دائمتا النفار إذا اصطلحتا اليوم فلتختصما غداً.
وهذا شأن الفرنسويين مع أميركا، ولكن بعد الشقة بينهما وقلة تصادم المصالح حالا دون بروز وجوه الخلاف. وحالت (مديونية) فرنسا لأمريكا دون إبداء مزاجها العصبي، وكانت خير شكيمة لتمادي جماحها على رجاء أن حسن سلوكها وكظم مزاجها العصبي وإحلال المحاسنة محل المخاشنة - تؤدي كلها إلى تجاوز أميركا عن مالها من الدين على فرنسا.
ولكن الأميركيين متصلبون في عزمهم على ما يظهر تصلب شيلوك في اقتضاء رطل اللحم من غريمه مما حمل فرنسا على التظاهر بشيء من الخلق العصبي الذي طالما أخفته المحاسنة والملاينة والمجاملة. فلما احتفلوا بعيد لافاييت في الأسبوع الماضي أوعزوا إلى وزير حربيتهم المارشال بتاين العسكري العبقري أن يخطب فخطب عاتباً، والعتاب أول درجات الخناق.
ذكر في خطبته مقاتلة الجنود الفرنسوية تحت لواء وشنطن دفاعاً عن استقلال أميركا وما كان من الود القديم بينهما ثم نعاه فقال أن الأمتين ليستا من الود الآن على ما كنتا في قديم الزمان
ولكن هذا الغضب المقنع بقناع العتاب اللطيف والغمز الظريف، لابد أن يكون صاحبه قد ندم عليه بعد ما وردت أنباء أميركا بأن الأميركيين لم ينسوا جميل لافاييت، بل قاموا قومة رجل واحد يعقدون الاحتفالات في جميع أرجاء فرنسا، ويدعوا مجلس أمتهم سفير فرنسا إلى احتفال عظيم في وشنطن يكون السفير ضيف الحكومة فيه، ورئيس الجمهورية خطيب الحفلة فيها خطبة مؤثرة، ويذكر مآثر فرنسا في شخص لافاييت.
ولكن ذلك لا ينقع غلة ولا يشفى علة، ما دامت أميركا تطالب برطل اللحم منقوص، هذا كله يجيء مصدقاً للقول أن اختلاف الأمزجة هو بيت الداء بين الأمتين كما هو بيت الداء
بين الزوجين.
ق. س
في المحكمة الصلحية
بكفيا - لبنان
للأستاذ حسن عبد الجواد
بكفيا بلد من بلاد لبنان يعلو 950 متراً عن سطح البحر ويبعد 21 كيلو مترا عن بيروت. وعلى مقربة من هذا البلد تقع ضهور الشوير التي احتفلت بلديتها في الصيف الماضي بافتتاح شارع الأمير فاروق فيها بحضور كبار المصطافين المصريين.
وفي بكفيا محكمة صلحية (جزئية) يرأسها قاض على جانب كبير من الثقافة اسمه الأستاذ ناصر رعد.
والمحكمة الصلحية هي هي الجزئية. وهناك محاكم ابتدائية واستئنافية. ولديهم محكمة التمييز (النقض والإبرام).
وسراي محكمة بكفيا الصلحية بها غرفة للقاضي وقاعة للجلسة وغرفة لكتاب المحكمة (قلم كتاب) وغرفة المأمور الأجراء (المحضر القائم بالتنفيذ). - ومأمور الأجراء في تلك البلاد يتقاضى فوق مرتبه نسبة معينة على المبالغ التي يحصلها لأصحاب القضايا.
وكاتب التصديقات هناك يعمل لحسابه الخاص ويسمى (كاتب عدل) وله محل خاص أسفل سراي المحكمة يدفع هو أجرته الشهرية.
انعقدت الجلسة في الساعة التاسعة صباحاً ورأسها القاضي مرتديا الروب؛ وجلس على اليمين كاتب الجلسة مرتدياً الروب؛ وجلس المحامون بمقعدهم الأمامي يرتدي كل منهم الروب.
ووضعت القضايا على المنصة، أمام القاضي، وكل قضية في مظروف مختوم.
نادى حضرة القاضي (فتحت الجلسة علناً) وفتح مظروف القضية الأولى بين سكون شامل - فإذا ما نظر القضية فتح مظروف الثانية وقال نفس العبارة (فتحت الجلسة علناً) وهكذا في كل قضية.
ولقد أعجبنا كثيراً كثرة التجاء المحكمة إلى تعيين محكمين، بعد اتفاق الخصوم والتوقيع على محضر الجلسة بقبول التحكيم. وكثيراً ما انتهت القضايا صلحاً أمام المحكمة، وقد رأيناها تعرض الصلح على طرفي النزاع في كل قضية. وهذا طبيعي لأن المحكمة
صلحية. وأول ما يجب على القاضي الجزئي عرض الصلح على المتخاصمين.
وقد لاحظنا أن القاضي قد درس القضايا جيداً قبل افتتاح الجلسة إذ أخذ يناقش الخصوم في كل صغيرة وكبيرة - وقد تأكدنا أن القائم بتبليغ القضايا (بالإعلان) قد استجوب المدعي عليه كتابة على عريضة الدعوى. وفي ذلك تسهيل كبير لمهمة القاضي، وحصر للمرافعة في نقطة الخلاف فقط. وفي ذلك توفير كبير للوقت.
وقد رأينا القاضي يملي الكاتب أقوال طرفي النزاع بلغة عربية فصحى، ثم يطلب إليه قراءة ما كتب للتأكد من صحته
وكان يسأل القاضي الشاهد عن اسمه وصناعته وعمره، وعما إذا كان متزوجاً أو أعزب - وإن كان متزوجاً سأله عما إذا كان له أولاد. وقد سألنا عن السر في هذه الأسئلة الخاصة بزواجه وبأولاده فقيل (لمراعاة ذلك عند تقدير العقوبة على شاهد الزور)
وقد كان القاضي ظريفاً حقاً، وعلى جانب كبير من الأدب، فوق دقته وذكائه. وسمعناه يقول للشاهد عند الانصراف:(مع السلامة).
وقد حكمت المحكمة في القضايا الكيدية بمبلغ من النقود (نظير العطل والضرر) كذا، وفي ذلك القضاء حقا على القضايا الكيدية.
وفي القضايا التي تعين المحكمة فيها خبيراً، تستدعيه وتحدد له مهمته، والساعة واليوم الواجب تقديم التقرير فيهما
والتوكيلات يطلع عليها القاضي ويملي رقمها للكاتب ويردها لأصحابها.
ونظام الإكراه البدني متبع في تلك البلاد لتحصيل الديون المدنية المحكوم بها بعد الاستشهاد بشاهدين على أن المدين قادر على الدفع. ويشترط ألا يكون للمدين عقار حتى يكره على الدفع بالطريقة المذكورة؛ لأنه في حالة تملكه عقاراً يمكن اتخاذ إجراءات نزع الملكية بدلا من الإكراه البدني. والمحكمة تقضي بحبس المدين 91 يوماً مع استمرار حق الدائن في التنفيذ مدنياً. ومن أجل هذا قلت دعاوى الاسترداد، وقلت الدعاوى الكيدية المقصود منها عرقلة التنفيذ، وتأجيل إيصال الحقوق إلى أربابها.
والمحكمة تنعقد مراراً في الأسبوع لنظر قضايا الحقوق المدنية أو لنظر الجنح والمخالفات (محكمة جزاء).
والمحكمة تشدد العقوبة على سائقي السيارات المقدمين بتهمة الإسراع فتقضي بالحبس لغاية 6 شهور - والإسراع بمصر مخالفة لا يزيد الحبس فيها على أسبوع حبسا بسيطا - ولعل السبب في ذلك سوء العاقبة عند الإسراع نظراً لارتفاع الجبال وعمق الوديان.
وعند انعقاد الجلسة - جلسة الجزاء - يقف بعض رجال البوليس (الجندرمة) للمحافظة على النظام. وعسكري البوليس هناك مثقف، ويتقاضى مرتباً حسناً، (حوالي تسعة جنيهات مصرية). وقد شاهدنا رجال الجندرمة يعاينون أدوات السيارة للتأكد من سلامتها قبل صعود الجبل، فإذا ما وجدوا تلفاً في أي جزء من أجزاء السيارة قدموا السائقين للمحاكمة. وكل هذا محافظة على أرواح الناس الذين تقلهم السيارات في طول البلاد وعرضها.
ولقد صادفنا عسكري بزحلة يحمل شهادة التجارة المتوسطة المصرية؛ وفي هذا الدليل على ما عليه رجال البوليس هناك في ثقافة ومعرفة.
تلك نظرة سطحية في نظام التقاضي بتلك البلاد الشقيقة؛ وهو في مجموعه في نظام طيب. وفقنا الله جميعا لخدمة العدالة ونصرة الحق، والأخذ بيد المظلوم.
حسن عبد الجواد
المحامي
بين المعري ودانتي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
بقلم محمود أحمد النشوي
الوطنية لدى الشاعرين
ذكرنا في العدد الماضي حديث الوطنية لدى أبي العلاء، ورأينا حنينه للمعرة وللشام، وحبه لوطنه الذي ألقى رداءه على كل ما حوله حتى على نياقه التي تمنت قويقاً والصراة حيالها؛ والتي تلت زبور الوطنية المنزل عليها في أن الصبر عن الوطن غير حلال، ونريد الآن أن نتعرف الوطنية لدى شاعر الطليان، تلك التي نكاد نلمسها في كل ناحية من نواحي كوميديته. وكأني به يخلق المناسبات، ويتعمد الاستطراد ليتحدث عن إيطاليا وآلامها وأوصابها في عهده، وليتحدث عن خائني أوطانهم وبلادهم كذلك.
ولعلك على ذكر مما حدثتك به إبان استعراض طبقات الجحيم لديه عن الدرك التاسع الذي جعله مقراً لخائني أوطانهم، يشاركهم في تلك الطبقة إبليس ويهوذا الأسخريوطي. . أوليس في تسويته (وهو غرس الكنيسة) بين خائني الوطن وخائن المسيح وإبليس اللعين ما يجعلنا نكبر فيه وطنيته، ونعلم أي حد بلغه في حب بلاده؟
وسأستعرض شيئاً من نواحي الوطنية في كوميديته، تلك التي نتلمس الوطنية الملتهبة في كل ناحية من نواحيها، حتى لنظن أن الوطنية كانت أكبر الأسباب التي دعته أن يذبج رسالته. فكم تلمس دانتي الأسباب والمناسبات ليبكي مجد إيطاليا وحروبها الأهلية التي كانت تمزق أوصالها، وتفرق بين أبنائها. . فها نحن أولاء نراه يسير في الطبقة الثالثة من السعير، فلا تكاد تقع عينه على أحد مواطنيه (تشاكو) حتى يميل نحوه ويحدثه عن الوطن وعما أحاط به من ويلات ومصائب. وتشاكو بدوره ينسى الجحيم والعذاب، وينساق مع دانتي في حديثه، فيذكر له النزاع والفشل بين أحزاب فلورنسا.
وبينا هو يجوس خلال الطبقة السادسة من السعير، وبعد أن خلص من مدينة (ديتي) وشياطينها إذا هو أمام مواطن آخر اسمه (فاريناتا فيكرر على سمعه الحديث عن فلورنسا وأحزابها وحروبها حديثاً يخفق له قلبه، ويضطرب له جنانه.
وفي (المطهر) بين النار والجنة يذكر أوجو كابيتو ونعيه على كارلو دي فالو الذي دخل فلورنسا وشرد أبناءها وأهلها. . ثم يرى في فراديس الجنان إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية (جوستنيان فيوازن الإمبراطور بين قديم روما وحاضرها، وبين وفاقها في عهدها الأول وانحلال عراها، وتنازع أهلها وفشلهم في عصرها الحديث، ناعياً على معاصري دانتي تفكيرهم في مصالح أشخاصهم، وتركهم الوطن تعصف به رياح القلاقل والاضطرابات. وكذلك يرى جده كاتشاجويدا ينعم في الطبقة الخامسة من طبقات الفردوس، فيحدثه هو الآخر عن الأحزاب والخصومات، والحروب والويلات، موازناً أيضا بين عهده المليء بالمحبة والسلام، وعصر دانتي المترع بالنزاع والخصام. .
ذلك شيء من حواره الوطني الذي كان يهتبل الفرص فيذكره في ثنايا رسالته، وفي تضاعيف خياله.
فأما العذاب الذي تخيله ينصب من فوق رءوس هؤلاء الخائنين، فحسبك أن تعيره سمعك إذ يحدثك عنهم وهم في الدرك التاسع من السعير زرق الوجوه، مائلي الرءوس، غارقين في بركة من الثلج فسيحة الأرجاء، سار على صفحاتها فارتطمت قدمه بأحد الوجوه المشوهة، فتبين صاحبه فإذا هو (بوكا خائن الوطن، وقاتل من كان يحمل العلم الفلورنسي غيلة، فتفرق جندها، وحقت على جيشها الهزيمة، كما حقت على خائني الوطن كلمة العذاب.
وحسبك أن ترهف أذنيك الحديثة عن الكونت أوجولينو الذي ألقت إليه مدينة بيزا مقاليدها، وخضعت لسلطانه، فأسلمها وأسلم قلاعها وحصونها لأعداد البلاد. بيد أن قومه ظفروا به فاستفتوا في أمره المطران روجيرو فاشتط المطران في فتواه، وأسرف في حكمه، وما كان جوابه إلا أن قال: ألقوه مع أطفاله وأبناء أخيه الصغار في غيابة برج من الأبراج حتى يموتوا صبراً جوعاً وعطشاً. فحبسوه وذريته الأبرياء الضعفاء في برج ألقوا بمفتاحه في النهر حتى ماتوا جميعاً؛ فكان عاقبتهما: الكونت والمطران، أنهما في النار خالدين، ينهش كل منهما رأس صاحبه
ثم اختتم دانتي جحيمه بالحديث عن بروتس وعن كاسيوس قاتلي يوليوس قيصر خيانة وغدراً، ولم يرعيا عطفه عليهما، ولا إحسانه العظيم لبلاده. وهنا أطلق لخياله العنان وافتن
في وصف العذاب لهذا الثالوث غير المقدس بروتس وكاسيوس ويهوذا، فتخيل وحشاً ذا ثلاثة وجوه متعددة الألوان، تبرز تحت تلك الوجوه أجنحة تفرغ أشرعة السفائن طولاً وعرضاً، وهي تهتز فترسل ريحاً باردة على الجحيم وعلى من فيها. ريحاً هي السبب فيما يلقونه من الزمهرير. لذلك الوحش ست عيون وثلاثة أفواه، يسحق أحدها بروتس، والآخر كاسيوس، وثالثها يهوذا، وهي دائبة على تمزيق أجسامهم؛ وكلما تقطعت أشلاؤهم عادت سيرتها الأولى، وعاد لها تمزيق أوصالها وسحقها. . .
وكم كان طريفاً حقاً إذ تكلم في المطهر عن امرأة تدعى سابيا وهي تتطهر من ذنوبها وآثامها؛ وما ذنبها إلا أنها فرحت واستبشرت إذ رأت قومها منهزمين، ولولا أن القدر أسعفها فأدركها المتاب قبل أن توارى في التراب، لكانت حصب جهنم وطعاماً للسعير.
يتبع
محمود أحمد النشوي
أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
سلطان باشا
هو محمد باشا بن سلطان بن أحمد، من قرية بالصعيد تسمى زاوية الأموات، بالجانب الشرقي من النيل، تجاه منية ابن الخصيب. ولد بها في سنة 1240 أو إحدى وأربعين. ورباه أبوه فسلمه لمعلم للقرآن بالقرية علمه القراءة والكتابة، وحفظه ما تيسر من القرآن الشريف. ولما بلغ أشده تركه أبوه ينظر في أمور القرية المذكورة، إلى أن نقل حسن باشا الشريعي من نظارة قسم قلوصنا، في ولاية محمد سعيد باشا على مصر، فسأله الوالي عمن يقيمه بدله على القسم المذكور فذكر له المترجم، وأثنى عليه، وضمن كفايته، فأقيم ناظراً لهذا القسم مدة ثلاث سنوات. ثم جعله سعيد باشا وكيلاً لمديرية بني سويف، وبعد سنتين جعله مديراً لها، فبقي فيها إلى أن توفي سعيد باشا، وتولى ابن أخيه إسماعيل باشا، فنقل المترجم مديراً للغربية فمكث بها نحو سنة، ثم أمر بنقله مديراً لأسيوط فأقام بها نحو سنتين، ثم جعله وكيلا لإدارة تفتيش الوجه القبلي ثم أحال عليه النظر في ضياعه التي بالصعيد المسماة بالجفالك، ثم جعله مفتشاً على مديريات الوجه القبلي، وانحرف عنه في أثناء ذلك عكوش باشا، وشاهين باشا، وعظمت الوحشة بينه وبينهما فوجد حاسدوه فرصة للإيقاع به، نظراً لمكانة الرجلين عند الخديو فسعوا به عنده، ووشوا له بأمور عنه كان يكرهها.
صداقته لتوفيق باشا
فغضب عليه وأمر بسفره إلى السودان رئيساً لمجلس الخرطوم وهو في الحقيقة نفي على جاري عادة ولاة مصر، إذا غضبوا على أحد نفوه إلى السودان في صورة تنصيبه بأحد المناصب. فصدع المترجم بالأمر وسافر، ولكنه لما وصل بني سويف وصله أمر الخديو بالرجوع بسبب تداخل ولي العهد محمد توفيق باشا وسعيه بالشفاعة له لدى والده لأنه كان يحبه. فرجع من الطريق وقصد قريته زاوية الأموات فمكث بها عدة شهور، ثم أذن له بالإقامة في القاهرة فأقام بها في داره المعروفة بجهة الإسماعيلية مدة إلى أن جعله الخديو
إسماعيل باشا مديراً للفيوم، ولكنه عاد فألغى هذا الأمر قبل سفره. وبعد نحو سنة رجع بأمر الخديو المذكور إلى بعض المناصب التي كان بها بالوجه القبلي. وخلع الخديو وتولى بعده محمد توفيق باشا، وقامت الثورة العرابية وطالب العرابيون الخديو بإعادة مجلس النواب، وكان أهمل شأنه بعد توليته فأجابهم لذلك وألف مجلس النواب، فجعل المترجم رئيساً له لما يعلمه من إخلاصه ومحبته له؛ ثم وقعت بينه وبين العرابيين وأمراء الجند منازعات وخلاف في بعض الأمور ظهر لهم منها ميله للخديو فأبغضوه ونووا له السوء.
عرابي يهدده بالقتل
وقام عليه مرة عرابي وبعض الضباط في داره، فهددوه بالقتل، وجردوا سيوفهم في وجهه، وكاد يقع في أيديهم، لولا أنهم تراجعوا عنه من تلقاء أنسهم، واشتد قلقه بعد هذه الحادثة ورأى حياته معهم على خطر، فاحتاط لنفسه، وصار إذا جلس بداره وضع بجانبه مسدساً محشواً ليدافع به عن نفسه إذا فوجئ، ولم يغن تهديهم له شيئاً، ولم يجد في تحويله عن الخديو، بل استمر علة إخلاصه، والقيام بمساعدته، والأخذ بناصره. ثم اشتدت الفتنة، وسافر الخديو إلى الإسكندرية، فصحبه المترجم ملازماً خدمته، واستدعاه هناك درويش باشا مندوب السلطان في شعبان سنة 1299، وأنبأه بإنعام السلطان عليه برتبة رومللي بيكلريكي، وأعطاه تقليدها بيده.
مع الإنجليز
ثم قامت الحرب على ساق، بين الإنكليز والعرابيين، فندبه الخديو لمساعدة الإنكليز، وإرشادهم إلى الطرق، فبذل ما في وسعه وكاتب بعض مشايخ العرب والعمد، ومن لهم شأن، يمنيهم بالخلع والرتب والأوسمة، على أن يبذلوا الطاعة للخديو والإنكليز وينبذوا طاعة العرابيين، فنجح في مسعاه ووافقه الكثيرون، فانضموا للخديو وشيعته سراً، ووقع الفشل في زمرة العرابيين، وانهزمت جموعهم، واستولى الإنكليز على مصر ودخلوا القاهرة يوم الخميس مستهل ذي القعدة سنة 1299، فأرسله الخديو إليها نائباً عنه، وأطلق يده في التصرف في الأعمال، فوصلها في 2 ذي القعدة ليلاً من الطريق بور سعيد، واستبد بالأمور أربعة أيام حتى حضر النظار إليها، وباشروا أعمالهم. وقد تاه المترجم وتجبر في
هذه الأيام الأربعة، وأمر بالقبض على كثيرين ممن كان له بغية في القبض عليهم وإذلالهم، ومنهم حسين باشا الشريعي، فإنه أوغر صدر الخديو عليه، وأشار بسجنه، ونسي له سابق فضله عليه، وذلك لخلف وقع بينهما إبان قيام الفتنة.
بعد الثورة العرابية
ولما حضر الخديو من الإسكندرية عقب إطفاء الثورة وذهب الناس لتهنئته بقصر الجزيرة يوم الثلاثاء 13 ذي القعدة المذكور أثنى أمامهم على المترجم ثناء كثيراً وقال هذا هو الرجل الذي أخلص لنا في السر والعلانية، وأنعم عليه بالوسام المجيدي الأول، وأمر بإحضاره فوضعه على صدره بيده أمامهم، ثم سعى له عند النظار للإنعام عليه بعشرة آلاف دينار مصري مكافأة على خدمته ومسعاه، فأعطيت له من ديوان المالية. وكافأه الإنجليز بوسام (سان جورج، وسان ميشيل) من الدرجة الأولى لمساعدته لجندهم إبان الحرب، وذهب به السير مالت قنصلهم الكبير إلى داره وسلمه له يوم الثلاثاء 17 محرم سنة 1300هـ، وقال له إن من شروط هذا الوسام أن تضعه مولاتنا الملكة بيدها على صدر من تنعم عليه به، وقد أتيت إليكم نائباً عنها في وضعه على صدركم جزاء إخلاصكم وولائكم لجلالتها ولحضرة الخديو. ثم في جمادى الأولى من هذه السنة أنعموا عليه أيضاً بالميدالية الإنجليزية المضروبة بخصوص الحرب العرابية.
وبقي المترجم بعد ذلك في داره بالقاهرة بلا عمل، ملقباً بلقب رئيس مجلس النواب، ثم انتدب للإشراف على شواطئ النيل وجروفه بالوجه القبلي لما زاد في الفيضان، فصدع بالأمر على كره منه، ورأى ذلك حطاً من مقامه، واستقل العشرة الآلاف والوسامين على ما قام به للخديو والإنكليز، وانعكست آماله التي كانت ترمي إلى تنصيبه في منصب كبير، وفترت نفسه، وكثرت همومه، وانحرف عن الإنكليز، وطفق يذمهم بعد أن كان لهجاً بمدحهم والثناء عليهم في كل مجلس يجلسه، واعتزل الناس فجعل إقامته بالصعيد، ولما ذهب اللورد دوفرين إلى تلك الجهة زاره المترجم فلم يلق منه ما كان يؤمله من حسن المقابلة، وسأله في عرض حديثه عن حضور أخوي الخديو حسين باشا وحسن باشا من أوربة، فقال له نعم حضرا، فقال ولم حضرا، فأعرض عنه اللورد ولم يجبه، ونقل حديثه مع غيره، فقام المترجم من المجلس كاظماً غيظه، وزاد في ذمه في الإنكليز، وأثرت هذه
الأحوال فيه فاعتلت صحته.
رئاسة مجلس الشورى
ثم صدر الأمر العالي يوم الأربعاء 21 محرم سنة 1301 بجعله رئيساً لمجلس شورى القوانين الذي ألف حينذاك، بدلاً من مجلس النواب، حسب إشارة اللورد دوفرين في تقريره عن مصر، فتولى هذا المنصب وهو عليل، ثم ازدادت علته، فأشار عليه الأطباء بالسفر إلى أوربة للمعالجة، حيث لم تفده معالجة أطباء مصر، فسافر إلى بلاد النمسة، ونزل بنزل في مدينة غراتس، فوافاه أجله هناك يوم الاثنين 26 شوال سنة 1301.
وفاته
ونعي إلى الخديو في ذلك اليوم بالبرق، نعاه له قليني باشا فهمي فأسف عليه أسفاً شديداً وجزع، وأمر بنقل جثته إلى القطر المصري لتدفن فيه، وأقام له مأتماً من الخاصة الخديوية، وناط بمحافظة القاهرة القيام به بالنيابة عنه. ووصلت جثة المترجم إلى الإسكندرية يوم الأربعاء 6 ذي القعدة من السنة المذكورة فأمر الخديو بتشيعها تشييعاً كبيراً بالإسكندرية، فسارت في طليعة الجنازة كتيبة من فرسان الشرطة، ثم كتيبة من الجند الرجالة منكسي الأسلحة، يتلوهم قراء الأحزاب والبردة، ثم جميع كبار الموظفين بالإسكندرية، فتلاميذ المدارس، فجم غفير من الأعيان حتى أوصلوا النعش إلى السكة الحديد، فجعلوه في قطار مخصوص سافر به من هناك إلى منية ابن الخصيب، ونقل منها إلى الشاطئ الشرقي حيث دفن بمقبرة بلده. وخلف المترجم ثروة واسعة، وولداً واحداً عمره نحو سنتين، وثلاث بنات. وقد رثاه الشيخ علي الليثي بقصيدة.
أدبه
وكان للمترجم إلمام بالأدب وقرض الشعر، اشتهر عنه نظم النوع المسمى بالصعيد بالواو، وأخبرني من أثق بقوله أنه اطلع على قصيدة له في مدح حسن باشا الشريعي رحمهما الله.
وحدثني صديقنا على رفاعة باشا، ابن رفاعة بك الشهير قال: كانت بيني وبين المترجم وحشة ازدادت لما جعلت وكيلاً للمعارف إبان الثورة العرابية، ثم عزلت من هذا المنصب بعيد الثورة، وقصدت السفر إلى بلدتي طهطا، فلقيته بالقطار، فلما وقعت عينه على عيني
نظر إلي نظرت الشامت ثم قال: إيه يا علي بك، لقد أجاد الشاعر في قوله:
برغم شبيب فارق السيف كفه
…
وكانا على العلات يصطحبان
فقلت نعم أجاد، وأجود منه قول الآخر:
أني لأرفع حين أرفعها
…
على كثير ولكن لا أرى أحدا
يقظة الشرق
للآنسة فلك طرزي
. . . في ليلة من الليالي الشديدة القمر، الغائبة النجم، القاتمة السواد، الشديدة الحلوكة، قام طيف يخترق وحشة الليل، يسير بخطوات هادئة يتحسس طريقه على الأرض الحزون، يضرب فيها أخماساً لأسداس، ممسكاً بيده قيثارة قد أوتارها من نياط قلبه، وأنامله تلاعب هذه الأوتار بعزف يكشف رويداً غشاوة ما كان راكداً في أعماق النفس، وراسباً في قرارة القلب، من ذكرى الماضي الحافل التي طواها الزمن، وكان يشدو معها بالغناء بصوت رقيق حنون، تسبح موجاته مع تموجات الأثير تهدهدها طياته، وينقلها الهواء من شاطئ إلى شاطئ، ومن ضفة إلى ضفة، حتى ملأ أجواء الشرق بنغماته، وعبقت منه رائحة الأبدية وعبير الأزل.
أخذ الصوت يقول: تعالي إي قيثارتي نرتل لحناً نعيد به المجد البالي! تعالي نغرد أناشيد الصباح لعل الفجر يبدد الدجى! تعالي نتغنى بألحان السحر فتتحول الأرض القاحلة إلى حقول معشبة، والسهل الأجرد إلى سهول مخصبة! تعالي يا قيثارتي نوقظ النهار من غفلته والنفوس من نومها العميق! تعالي نرسل أنغامنا في سمج الدجى فتتحول السماء السوداء إلى قبة تسطع فيها النجوم وتتلألأ فيها الكواكب.
ظل هذا الصوت يشدو، وهذه القيثارة تجيب، حتى تمزقت حواشي الليل، وآذنت ساعاته بالفناء، وإذا بالفجر يبدو مشرقا وضاحاً، وإذا بواكير الصباح تكشف عن نهار مشرق وضاح جميل، وما لبثت السماء حتى تقشعت عنها الغيوم وتبدد عنها السحاب، فبدت بلونها اللاوزردي الجميل، وتربعت الشمس على عرشها، وأشرقت من أفقها ساطعة بنورها الوهاج على الجبال والأودية، وهي مشتعلة متأججة، وأخذت أشعتها تتفرق في السهول وعادت إلى الأرض حياتها، وإلى الزهر رونقه وبهاؤه، وإلى الزرع اخضراره وجماله.
فقالت الأزهار يخاطب بعضها بعضا: انظري يا أختاه إلى هذا النور المنبثق من السماء! انظري! ما هذا الضياء المشع؟ أليس هو نور (اليقظة) يسطع من سماء شرقنا المحبوب؟ وقالت الأشجار لبعضها: ألا تعلمين يا صديقتي أن أغصاننا كادت تتحول إلى أعواد يابسة يعصف بها الشتاء، لولا تلك النغمة المقدسة التي أرسلتها اليقظة من سماء مصر فأعادت لنا
أنفاسنا وحياتنا! وقال الفجر يخاطب الليل: أنت أيها الحسود كدت أن تمحي خطوطي الزاهية إلى الأبد، لولا (هذه الفتاة الحسناء) التي عادت فرسمتها برغم أنفك! فيالك من عدو ماكر وحسود خداع!
وقالت الأطيار بعد أن عادت تغرد في الدوح: تعالوا نحلق في الفضاء ونرفرف بأجنحتنا فالجو صاف، والنسيم عليل، والعبير يعبق في جو الأفلاك! وقالت الأنهار: تعالوا نرو الأرض من مائنا السلسبيل ونطفئ ظمأها من ينابيعنا العذبة، تعالوا! تعالوا! أن غديرنا يبعث من خريره أناشيد ملؤها الغبطة والسرور!
عندئذ نظرت النفوس إلى (يقظة الكون) وتأملت طلوع شمسها البهية، واشرق محيا الصباح الجميل فتنفست الصعداء وارتسمت على الوجوه ابتسامة سرور وانشراح وقالت: لك الحمد يا رب! أنت الذي نظرت إلينا بعين الرحمة، فما أطلت علينا ليلك، وما طالت علينا حلوكة الظلام الدامس! فها نحن أولاء نستيقظ من سباتنا العميق، ودم الحياة يتدفق منا قوياً حاراً، وثغورنا تبتسم لابتسام ثغر الأدب من بين شفتي هذه النهضة المباركة التي أنشأتها أقلام الأدباء، ونظمت لحنها عقول الشعراء، وخلدت مجدها عبقرية الفانيين، فقامت عصبة الشباب تطالب بالحرية والمساواة، ورفع راية الشرق، تستنكر الذل والخضوع، وتأبى الضيم وعار الاستلام.
هاهما حافظ وشوقي قد طواهما الخلود بعد أن غرد أناشيد الحياة المتنوعة، وخلفا ذكراهما تتناقلها الأجيال زكية الأرج، ضواعة العبير، وسجلاً صحيفتيهما في عالم الخلود!
هاهي ذي (مصر) كما تخيلها مختار تقف بجانب أبي الهول توقظه من نومه الأبدي وغفلته العميقة، لينقذها من هذه الأهوال التي جعلتها تئن تحت نيرها! هاهي ذي (الرسالة) الغراء لما تبلغ سن الفطام شبت وترعرعت، وغدت لسان النهضة الأدبية في العالم العربي قاطبة يقوم بها أسطع الكتاب اسماً، وأوسعهم شهرة، وأجلهم قدراً.
فاللهم اجعل هذه النهضة مباركة ميمونة الطالع على الشرق فيتحد أبناؤه، وتتوحد كلمتهم، وتأتلف قلوبهم، وتخفق بأمنية واحدة هي (الحرية)! وقرب لنا الساعة التي تتهلل وجوهنا فيها بالسعادة والغبطة، وترسل أعيننا دموع الفرح والسرور، فيمتلئ الجو من ندائنا، ويرتفع علمنا المحبوب يشق أجواز الفضاء، ونصيح من أعماق قلوبنا بصوت واحد
(ليحيى الشرق)
دمشق
فلك طرزي
حقائق
لميشيل أنجلو
ترجمة عامر عبد الوهاب عامر
1 -
يقول بنسن في كتابه (كلمات عن كورسيكا) لقد غرس حب الحرب في قلب نابليون منذ طفولته إذا أهدى إليه أحد أصدقائه الأحداث مدفعاً صغيراً من النحاس
2 -
بينما كانت جوزفين ذاهبة ذات يوم مع نابليون إلى الأوبرا استوقفها الجنرال (راب) لحظة ليضع لها الشال على طريقة السيدات المصريات. وبهذه الحادثة التافهة نجا نابليون بحياته إذ انفجر اللغم الذي أرصد لاغتياله في تلك اللحظة وهكذا توقف مصير أوربا على تعديل وضع الشال.
3 -
إن المؤامرة التي دبرت في عهد الملك شارل الثاني والمعروفة باسم - فشلت بسبب صغير. وذلك أن المنزل الذي أقام به الملك اشتعلت فيه النار فاضطر أن يرحل عن (نيو ماركت) قبل الميعاد المعين بعدة ساعات وكان ذلك سبيلاً إلى إفساد التدبيرات التي أعدها المتآمرون على جلالته
4 -
إن الحريق الكبير الذي شب في لندن عام 1799 أحدثه خادم كان قد ألقى سهوا شرارة على تخشيبة كوخ. كذلك الحريق المروع الذي اندلع لهيبه في المدينة في عهد شارل الثاني يرجع إلى حادثة من هذا القبيل في مخبز قريب من جسر لندن
5 -
إن طموح القائد الروماني ماريس وكل ما استتبعه من الشرور والآثام يرجع إلى تلك النبوءة الخرقاء بأنه (سيصير قنصلاً سبع مرات)
6 -
هاجم الغاليون بزعامة برنوس روما عام 390 ق. م ولكن برنوس امتنع عن اقتحام القلعة الرومانية على أثر سماعه نقنقة بعض الإوز المقدس الذي أهاجه سير المحاصرين الغاليين
7 -
إن اختراع الزجاج ينسب على العموم إلى بعض التجار الفينيقيين الذين أوقدوا ناراً على ساحل البحر. ثم لاحظوا بعد انطفائها تحول الرمل إلى زجاج
8 -
إن اختراع الطباعة - ذلك الاختراع الخطير - أستلهمه جون جينسفليش في ساعة نشوة وطرب حيث نقش الحروف الأولى من اسمه على شجرة، ثم ساقه الخيال الحالم إلى
أن يضع عليها ورقة فانطبعت عليها هذه الحروف
9 -
إن جاك لافاييت أحد رجالات المال والسياسة الفرنسيين، والذي لعب دوراً خطيراً في ثورة عام 1830 كان في الأصل بائساً معدوماً. وقد نسب العمل الذي فتح أمامه طريق اليسار والفخار إلى التقاطه دبوساً ضائعاً في شوارع باريس
10 -
خطرت نظرية الجاذبية لسير اسحق نيوتن عندما رأى تفاحة تسقط مصادفة من شجرة كان يرقد تحتها في لحظة تفكير وتأمل.
11 -
قال قيصر (للمصادفة أثر كبير في الحرب) ولكن أثرها أكبر في الاكتشافات العلمية والأحداث السياسية (جريدة التيمس)
12 -
قد تؤدي حادثة صغيرة جداً إلى نتائج عظيمة الشأن. وأحياناً تسبب أروع النكبات (تشيمبرز)
تاريخ الأدب
بقلم الأستاذ محمود محمود محمد
سلكت دراسة التاريخ في العصر الحديث مسالك شتى، وتشعبت في فروع كثيرة؛ فأصبحنا نرى إلى جانب تاريخ السياسة تاريخاً للفلسفة، وتاًريخا للعلوم، وتاريخاً للاقتصاد، وتاًريخا للأدب. وسنحاول في هذه الكلمة أن نبين مدى ما يمسه تاريخ الأدب من مباحث.
1 -
شخصية الكاتب
يعنى تاريخ الآداب بدراسة الآثار الأدبية من نثر ونظم. ولما كنا لا نستطيع أن نفهم الكتاب فهما صادقاً دون أن نعرف مؤلفه، أو نحلل القصيدة تحليلاً دقيقاً من غير أن نعرف ناظمها، فقد أصبح لزاماً علينا أن نجعل الكتاب والشعراء أنفسهم موضوعاً للدرس عند دراسة تاريخ الأدب، ذلك لأنه يستحيل علينا أن نفصل الأثر عن المؤثر أو نفهم النتيجة دون السبب. وإننا حين نقرأ كتاباً من الكتب تبرز لنا شخصية المؤلف الذي صب أفكاره ومشاعره في هذا الكتاب قوية واضحة، بحيث لا نستطيع إنكارها.
وتشمل دراسة الأشخاص نشأتهم وتجاربهم وأخلاقهم الموروثة والمكتسبة، ونزاعاتهم وتاريخ حياتهم، وغير ذلك من مكونات الشخصية. ولكن هناك ناحية أخرى يجب أن تنال من عنايتنا أكبر نصيب عند دراسة الأديب، تلك هي السمة الظاهرة، والطابع الخاص الذي يميز البعض عن البعض، ويرفع كاتباً فوق الآخر. ذلك لأن العبقرية معنى واسع تشمل أطرافاً متباعدة، ولكنها في صميمها عبارة عن قوة الشخصية، أو قوة الابتكار والابتداع. ويقول أحد الكتاب الإنجليز:(إن كل كاتب كبير يأتي إلى هذا العالم بشيء جديد كل الجدة: ذلك هو نفسه). والكاتب المخلص لفنه يسكب نفسه ويبث روحه في كل ما يكتب، ومن ثم اختلفت آثار الكتاب وانطبعت بصور شتى من شخصياتهم. وواجبنا عند دراسة الأديب أن نبرز طابعه الشخصي للعيان، ونفصله كل التفصيل؛ فهو أهم ما يجب أن نعرف عنه، وللأديب من الأهمية والعظمة بقدر ما لهذا الطابع من قيمة وجاذبية.
2 -
المذاهب والمدارس في الأدب
ليست شخصية الكاتب إلا ناحية واحدة من نواح كثيرة، يختص بدراستها تاريخ الأدب. فلو
أنا دونا مصنفاً يجمع بين دفتيه تاريخ حياة الأدباء وذكر آثارهم ومخلفاتهم متنافرة لا تؤلف بين ابعاضها فكرة، ولا تربط أجزاءها صلة، كان تأريخنا لأدب اللغة ناقصاً قليل الفائدة، لأن الأدب برمته يرتقي وينحط من عصر إلى عصر. وعلى مؤرخ الآداب أن يدرس أسباب الرقي والانحطاط، وتأثر الأدباء بها أو تأثيرهم فيها، وأن يدرس صلاتهم بأسلافهم وأخلاقهم، فان من الكتاب من يرتفع إلى درجة السمو والكمال، فيطبع عصره بطابع خاص، ويظهر من بعده أتباع له يتأثرون آراءه وأساليبه، معترفين بفضله حيناً ومنكرين أحياناً. والكتاب الذي يلقي رواجاً عند جمهور الناس لا يلبث أن يظهر له أشباه، وأن يتكرر ما فيه مرات ومرات: هكذا تنشأ المدارس في الأدب، وتظهر الحركات التجديدة التي تحيا حيناً من الدهر، ثم تموت لتخلي السبيل إلى ظهور مدرسة أخرى أو حركة جديدة حينما تتغير الأذواق وتتبدل المذاهب. فإذا قلنا - مثلا - مدرسة (بوب) في الأدب الإنجليزي، انصب قولنا على جميع الشعراء الذين تبعوه في الأسلوب الذي أذاعه بين الناس ورفعه إلى مرتبة الكمال. وإذا ذكرت (الحركة الكلاسيكية) في الشعر، حملت إلى أذهاننا عصر بوب الذي تميز بالرجوع إلى تراث الأقدمين وورود مناهجهم الأدبية. وإذا قلنا الحركة الرومانتيكية في النثر الخيالي، قصدنا ذلك المنوال الذي أنشأه (سكت) في كتابه القصص التاريخية، ونسج عليه أتباعه ومقلدوه. وقد ظهرت المدارس والمذاهب كذلك في الأدب العربي، فكان في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي، لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلد القدماء. وقد أدخل المتنبي والمعري الفلسفة في الشعر، فأصبحت مذهباً من المذاهب له أشياعه وأنصاره.
هذه المدارس والحركات تلعب دوراً هاماً في تطور الأدب، ولها من الأهمية في دراسة تاريخ الآداب ما لا يقل شأناً عن دراسة شخصيات الكتاب أنفسهم. فان الأديب مهما كان مجدداً مبتكراً فهو ما يزال إلى حد بعيد وليداً لبعض الكتاب السابقين، يستلهمهم الرأي ويستوحيهم الأسلوب. وقد ذكرنا مثلا أن (بوب) مجدد في الشعر الإنجليزي، له أسلوب خاص ومدرس خاصة، ولكنا إذا أمعنا في البحث عرفنا أن هذا الأسلوب لم يكن من خلقه وإنشائه، وإنما بلغ الذروة والكمال على يديه بعد ما سار شوطاً بعيدا في التقدم والترقي، ووصل إلى درجة تكاد تدانيه دقة وروعة في كتابات الشاعر دريدن. وقد تعلم سكت في
مدرسة رومانتيكية قبل أن يصبح زعيماً لهذه الحركة، وظهرت الفلسفة في الشعر العربي قبل المتنبي والمعري. وكثيراً ما ينعت شكسبير بأنه يتفرد في عصره بالسمو والكمال الأدبي، وأنه ابتكر الدرام لم يتبع في ذلك أحداً ولم يتأثر أحداً، ولكنه في الواقع لم يكن إلا متماً لمجهودات السابقين من الكتاب أمثال نكولاس يودال، وتوماس فورتن، وغيرهما ممن لا يرد ذكرهما في تاريخ الأدب إلا لماماً.
وتاريخ الأدب يوضح لنا هذه الصلات ويربط كاتباً بآخر، وجماعة بجماعة، ومدرسة بمدرسة، كماً يدرس أسباب التطورات المختلفة في عصور الأدب، وتأثير فحول الكتاب في الجمود بالأدب والسير به في مناهجه القديمة والنهوض به وتوجيهه وجهات جديدة. وقد عرفنا أن روح الأدب تتغير من عصر إلى عصر، وكثيراً ما يتحكم الذوق العام عند جمهور الشعب في هذا التغير، فيخرج الأدب على غراره ويتطبع بطابعه. وكما أن لكل جيل أسلوبه في الشعور، فكذلك لكل جيل ذوقه الخاص. هذا الذوق سريع التقلب والتغير، فان عصر فكتوريا في الأدب الإنجليزي (1832 - 1877) على قرب عهده وشدة صلته بالعصر الحديث يختلف في أدبه عن الأدب الحديث، كما يختلف في زيه عن الأزياء الحديثة. والفرق واضح بين لغة الأدباء في مصر الآن، وبين لغتهم منذ عشرين عاماً فقط، ذلك لأن القراء قد تبدلت أذواقهم وتغيرت طرائق معيشتهم.
وتاريخ الأدب يبحث قبل كل شيء عن أسباب هذا التطور في الأساليب والأذواق، وقد عرفنا أن شخصية الكاتب عامل عظيم الأثر في هذه الانقلابات، لأن الكاتب الفذ يخلق ذوقاً جديداً وينشئ عصراً جديداً ومرحلة جديدة في الأدب، ولكنا يجب ألا نغالي في تقدير شخصية الكاتب حتى نجعلها تبتلع العوامل الأخرى وتستغرقها جميعاً، فقد ذكرنا أن النابغة يصاغ في قالب من الثقافة والمثل العليا والاتجاهات العقلية والخلقية التي يولد فيها، مما يكون له أكبر الأثر فيما يكتب ويخرج لهذا العالم. وكما يؤثر الأديب الفحل في عصره فهو كذلك يتأثر به، ويتوقف نجاحه إلى حد كبير على خضوعه لأذواق الجماهير ومجاراته لأهوائهم، وعلى ذلك فالكاتب ابن عصره، ولابد لنا عند دراسته من معرفة العوامل التي كيفت آراءه وحددت ذوقه الأدبي، وجعلت له طابعاً خاصاً في أدبه - وقد تكون هذه العوامل أدبية ترجع إلى الكتب والمدارس كما يتميز عصر اليزابيث - مثلا - في الأدب
الإنجليزي باندفاعه وراء الآداب اللاتينية والإغريقية التي بعثتها النهضة الأوربية، فتأثر الكتاب في ذلك العصر بسحر الأدب الإيطالي، وكما انبعثت آداب العصور الوسطى وفنونها منذ سنة 1750، وتمثلت في كولروج وسكت. فالواقع الذي لا مراء فيه أن المؤثرات الأدبية تأتي بأذواق جديدة تجرف أمامها أشد الكتاب استقلالاً في الرأي.
ولكن الأدب يتأثر بعدة عوامل أخرى غير العامل الأدبي، عوامل لا تمت إلى الكتب والمدارس بصلة، ولكنها تتصل بالحياة العامة والسياسة والاجتماع بسبب، فكل ما يبعث اتجاهاً جديداً في الرأي أو في منحى الحياة أو في مجرى السياسة والشعور العام يؤثر في تكوين الآداب إلى حد كبير. ويجب علينا دراسة أي أثر من الآثار الأدبية ألا ننسى ظروف الزمان والمكان التي أحاطت بالكاتب عند تحرير كتابه.
3 -
صلة التاريخ بالأدب
لكل جنس من الأجناس البشرية ولكل عصر من عصور التاريخ مميزات خاصة، ومهما تكن شخصية الأديب بالغة من القوة، فأن روح جنسه وعصره لابد ظاهرة فيه وعلى ذلك فتاريخ الأدب يتأثر بمؤثرات وطنية كما يتأثر بمؤثرات شخصية. ويكفي أن نذكر الإصلاح الديني والثورة الفرنسية وظهور الإسلام وتقدم العلوم في القرن التاسع عشر، وغير ذلك من الحوادث العظمى في التاريخ لنتبين العلاقة المتينة بين تاريخ الأدب والتاريخ العام.
ولا يقتصر تاريخ الأدب على دراسة المخلفات الأدبية لمختلف الكتاب، كل كاتب على حدة، وإنما هو يشمل كذلك دراسة أدب الأمة جملة واحدة، وإظهار مميزاته العامة باعتباره إنتاجاً لعقلية هذه الأمة ككتلة واحدة لها تفكير خاص وشعور خاص، فللأدب العربي - مثلا - مميزاته العامة، وللأدب الإنجليزي مميزاته العامة كذلك، وتختلف هذه عن تلك بمقدار ما يختلف الشعبان في الجنس والسلالة.
كل ما له أثر في تكوين الأمة له أثر في نسج أدبها، فأن أدب الأمة هو تاريخها الذي دونته بقلمها يصور لنا أخبار رقيها العقلي والخلقي. وإذا تتبعنا تاريخ الأدب في كل ما طرأ عليه من تقلبات، فنحن على اتصال مباشر بالأسباب الحقيقية، والحركات الدافعة لحياة الأمة في العصور المختلفة، ونحن مستطيعون أن نفهم نظر أهل تلك العصور إلى الحياة وألوان
مسراتها وأنواع ملاهيها وفلسفتهم في الوجود ومختلف العواطف والأحاسيس التي كانت تجول بنفوسهم، ومثلهم العليا في الأخلاق والذوق، وأي صفات البطولة كان لها سلطان قوي على النفوس، وكان لها نصيب كبير من الإعجاب، فالأدب كما يقولون مرآة تنعكس عليها روح الشعب وحياته
4 -
عصور الأدب
وقد اعتاد مؤرخو الآداب أن يقسموا الأدب إلى عصور مختلفة، ولم يلجئوا إلى ذلك لسهولة الدرس فحسب، ومن قبيل تقسيم الموضوع المتشعب إلى أبواب وفصول، ولكن هناك ما يبرر هذا التقسيم، فالعصر التاريخي عبارة عن فترة زمنية يسود فيها نوع من الذوق العام، وعلى ذلك فأن أدب ذلك العصر يتسم بصفات خاصة من حيث المادة والفكرة والأسلوب. وقد تختلف آثار الكتاب البارزين بقدر ما تختلف شخصياتهم، ولكن تلك الصفات العامة تظهر فيهم أجمعين، ولا ينتهي عصر ويخلفه آخر، إلا بعد تغير حاسم في الذوق العام.
ولكننا يجب أن لا نضع الحواجز المتينة بين عصر وعصر، فليس تاريخ الإنسان أبواباً وفصولاً، ولكنه تيار واحد متدفق يتعرج حينا ذات اليمين وحيناً ذات اليسار، وليس له بداية معينة ولا نهاية محدودة، والعصور التاريخية في الواقع آخذ بعضها بتلابيب بعض، وقد يبدأ الرحل عمله في عصر من العصور ولا ينتهي منه إلا في عصر آخر، كالمخضرمين بين الجاهلية والإسلام، وكبشار وابن المقفع بين العصر الأموي والعصر العباسي. وقد عاش دريدن وملتون في زمن واحد، ولم يعمر أولهما بعد الآخر إلا سنوات قلائل، ومع ذلك فقد أعتاد مؤرخو الأدب الإنجليزي أن يضعوهما على رأس عصرين متتابعين يعرفان بعصر (دريدن) وعصر (ملتون). ومع ذلك فإن لتقسيم الأدب إلى عصور أهميته الدراسية لأنه يوجه أنظارنا إلى المراحل التي اجتازها الأدب وتميز في كل مرحلة منها بميزة خاصة، وهو أهم ما يعنى به مؤرخ الآداب.
وللمؤرخ أن يطلق على هذه العصور أسماء يشتقها من التاريخ ورجاله كعصر اليزابيث، وعصر فكتوريا، وعصر المأمون. ولكن الأجدر بنا أن نسمي تلك العصور بأسماء مشتقة من الأدب نفسه ونطلق عليها أسماء مشاهير الكتاب الذين يمثلونها فنقول عصر شكسبير وعصر ملتون وعصر المتنبي. وعصر الجاحظ. . الخ ليسهل على الطالب أن يدرك
بنظرة سريعة الصفات التي يتميز جيل عن جيل.
محمود محمود محمد
-
من طرائف الشعر
الوادي
لصوت الطبيعة الصارخ ألفونس دي لامارتين
للشاعر الدمشقي أنور العطار
(إلى التي علمتني الحب وعلمتني الألم، وجعلت من حياتي مشابه لحياة هذا الشاعر، في خيبة الحب، وحرقة القلب، ومشجعي النغم، ومذيب الألم!)
إيهِ وَادي الصَّباءِ والأَحلَامِ
…
ِإيهِ مَهْوَى الإِيحاءِ والإِلهامِ
هَبْ لِضَعْفي مَلَاذَ يوْمٍ قصير
…
أَتَرَقَّبْ فيهِ دُنُوَّ حِمامي
لم يَعُدْ قَلْبيَ السَّئُوم المُعنَّى
…
يرْتجي مِنْ عَمايةِ الأَيَّامِ
أَنْ تُعِيدَ المُنى إِليهِ عِذاباً
…
مُغْرِيَاتٍ بِثغرِهاَ البَسَّامِ
هُوَ ذا المسلَكْ الذي ضاقَ ذرْعاً
…
في ثنَايَا الوَادِي المُضبَّ النَّوَاحي
تَتَدلَّى الغَابَات حَوْلَ حِفَافيْ
…
هِ وَتَبْدُو مُلْتفَّةَ الأدْوَاحِ
بَاعِثَاتٍ إلَى جَبِينيَ فَيْئاً
…
مِنْ غُصُونٍ تميدُ بالأَفرَاحِ
غَاَمِرَاتٍ سَاحَ الفؤادِ سَلَاماً
…
مُقْصِيَاتٍ عَنَّي شَجَا الأَتْرَاحِ
هَاهُماَ جَدْوَلَانِ في قَاتمِ البُعْ
…
دِ اسْتَسَرَّ في مَسْرَبِ الأَعْشاَبِ
رَسما في المَسيِر مُنْعَطفَ الهضْ
…
بِ وَمَسرَى الرُّبا ومَنْحى الشَّعابِ
مَزَجَا في هُنَيهْةٍ نَاغِمَ المَا
…
ءِ بَموْجٍ كَالهَادِرِ الصَّخَّابِ
ثُمَّ غَابَا عَنِ العُيُونِ وَضَاعا
…
في قَصِيَّ المدَى وَخَافي الرَّحابِ
وَلَكاَلجْدْوَلَيْنِ في التَّهدارِ
…
فَاضَ نَبْعي وَلّجَّ في التَّسيْاَرِ
ثُمَّ ولَّى وَلَيسَ صَوتُ ولا اسْمٌ
…
أوْ مَعَادٌ إِلى حِمى التَّذكاَرِ
فيهما المَاء قد ترَامى نَقيَِّا
…
مُشرِقَ السكْبِ مثلَ شمْسِ النَّهَاَرِ
غيْرَ أنَّي، وَالهْفَ نفْسي، كئِيبٌ
…
وَمِيَاهي مُرْبدَّةُ الأنْوَارِ
في ضِفَافٍ مِنَ الجدَاوِلِ غَرْقَى
…
في دُمُوع النَّدَى وَسَجْوِ الظَّلالِ
كُنْتُ أَقْضيِ سَحَابةَ اليَوْمِ مَغْلُو
…
لاً بِقيدٍ ممِنَ الطَّبِيعةِ غَالِ
وَعَلى هَادِرِ الميَاهِ تَغُطُّ النَّ
…
فْسُ في حُلْمِهاَ البَعيدِ المجَالِ
مِثْلَ طِفْلٍ أَغْفى على نَغَمٍ حُلْ
…
وٍ غَميسٍ في زاهِرِ الآمَالِ
آهِ! هَلْ لي إِلى هُنَاكَ مَعَادٌ
…
حَيْثُ أَفْنى في زاخِرِ الأَمْوَاجِ
إنَّ عَيْني تَهفُو الى ذلك الأُفْ
…
قِ وَتَهْوى تَزَاحُمَ الأحرَاجِ
ليتَني في حِمى الطبيعةِ أَبْقى
…
سَادِراً في بِقَاعِهَا والفِجَاحِ
ثُمَّ أَرنُو إِلَى السماوات مِفرَا
…
حاً أُصَلَّي في ذَهَلتي وَأُناجي
كم تَعشقَّتُ في حياتي وَكم زوَّ
…
دتُ عيني مَرْأَى، وَقَلبي شُعُورَا
غيْرَ أَنَّي رجعتُ أَدراجَ ذاك الْ
…
عَيشِ أَبغي إلى الهُدُوءِ مَصيَرا
يَا مطافَ الجمَالِ باللهِ كُنْ لي
…
شاطئِاً للسُّلُوَّ يوْماً قَصيرَا
لَيْسَ غيْرُ النَّسْيانِ يَمْلأُ نفْسي
…
أَملاً وَاسعِاً وَصبْراً غَزيرَا
إِنَّ نَفسي في هدْأَةٍ وَفُؤادِي
…
في ارتيَاحٍ يَفُوقُ كُلَّ ارْتيَاحِ
لمْ يعكَّر صَفاَءهُ الأَلمُ المرُّ
…
(م) وَمَا في حِمَاهُ مِنْ أَترَاحِ
والضَّجِيج القَصيُّ للسكوْنِ يَفنى
…
كَفَناءِ الأَشْباحِ في الأَشبَاحِ
مِثلماَ يُضعِفُ المدَى الصَّوت في الأُذْ
…
نِ تمشَّتْ بهِ مُتُونُ الرَّياَحِ
قَدْ رَأيْتُ الحياةَ بَيْنَ الغُيُومِ
…
تَتَوارى في الغَابرِ المَوْهُومِ
وَيضيعُ البَرِيقُ منها وَيَخفى
…
خلْفَ سِتْرٍ مِنَ الزَّمانِ القْديِمِ
غير باقٍ منها سِوى الحُبَّ يَبدْو
…
في إطارٍ منَ الخيالِ عظيمِ
وحْدَهُ ثابِتٌ لدُنْ قَدْ أفاقَ ال
…
قلَبُ مِنْ حُلْمهِ العميقِ الهُمُومِ
إيهِ نفسي قِفي على الملْجَأِ البا
…
قي وَلُوذِي بهِ لِكيْ تسترِيحي
مثلما يجلِسُ المسافِرُ والقَل
…
بُ مَلئٌ مِنَ المرامِ المُرِيحِ
هادئَ البالِ تَهَنَّأ لمَّا
…
بَلَغَ القَصْدَ بَعَدَ سَيرٍ طَليحِ
راح يَستنْشِقُ الهواَء نقيّاً
…
في مَساءٍ بالنَّافِحَاتِ طفُوحِ
مِثْلُهُ فلُثِرْ غُبَارَ خُطانا
…
مالنا رجعَةٌ إلى ذي الطَّريقِ
مِثْلُهُ فَلْنَشمَّ في غايةِ العُم
…
رِ أريجاً مِنَ الصَّفاءِ العمِيقِِ
حُلُمٌ عَيْشُنا يَمُرُّ وَيمضي
…
غيرَ حُلوِ الُّرؤى وغيرَ أنيقِ
ما بِهِ جِدَّةٌ يرِفُّ سناهَا
…
وهو غَمْرٌ بِكُلَّ رثٍّ عتيقِ
إنَّ أيَّامَكِ القِصَار العَبُوسَا
…
تِ كمِثلِ الخريفِ في الإجهَامِ
تَنطوِي مثلما يُغَيَّبُ ظِلٌ
…
في ثنايا الهضابِ والآكامِ
ثُمَّ تزوي عنكِ الصداقةُ والعط
…
فُ يُولَّي موَشَّحاً بظلامِ
في طريقِ القُبُور تَهوين حَسْرى
…
وتضيعين في سجونِ القَتَامِ
بيدَ أن الطبيعة الرحبةَ القَل
…
بِ تُناديكِ في حنانٍ عظيمِ
فَاغمسي روحكِ اللهيفَةَ فيها
…
فهيَ أحْنى مِنْ كلَّ قلبٍ رؤومِ
فإِذا ما ضجرتِ منْ عالمِ البُغْ
…
ضِ وما في مطافِهِ منْ همُومِ
فارجعي القَهْقري ترَىْ عا
…
لَمَ حُبٍ ضَمَّ كلَّ مرومِ
فهيَ توليكِ ظِلَّها وسناها
…
وتُصَفَّي مِنَ الأثامِ هواكِ
أنصتي للصَّدى العميقِ (فبيتا
…
غور) قد تامهُ صدَى الأملاكِ
فاعبُديهِ وقدَّسيه طويلاً
…
إن فيهِ ما تَشتهيهِ مُناكِ
أَرهفي أُذْنكِ اللَّطِيفةَ تَسْمَعْ
…
في سَمَاها نشَائدَ الأفلَاكِ
اْتبَعي النُّورَ في السَّمَاءِ ومَاشي ال
…
ظِلَّ في الأَرضِ وامْرَحي في الوِهادِ
واصعَدِي في رُبا النَّسيم مع الرَّي
…
ح التي لا تَعي مِنَ الإِنشادِ
وَاملئي الغَابَ فَرَحةً وَالسَّواقي
…
وَاسرَحي طلْقةً مِنَ الأَصفَادِ
خاصِرِي ذلك الشُّعَاغَ السماويّ (م)
…
وَهيَّا ارقُصي بِظلَّ الوَادي
نَفَحَ اللهُ بالذَّكاءِ بَني الأَرْ
…
ضِ لكي يهتْدوا إلى مُوحِيهِ
وَيُناجُوهُ ضارِعِين إِليهِ
…
لم يِخبْ قَطُّ في الدُّنا راجيهِ
إنَّ صوتْاً يُخاطِبُ الرُّوحَ حُلْواً
…
وَهيَ غَرْقى في صَمتِهاَ والتَّيهِ
آهِ مَنْ لم يسْمَعْ نِداءً خفياًّ
…
هُوَ في قَلْبهِ صّدَى مُلْقِيهِ
دمشق
أنور العطار
من المجمع الأدبي
حنين إلى النخلة
يا نخلةً في أعالي النهر باسقةً
…
قلبي إليك يذوب اليوم تحنانا
هلا تزالين مثل الأمس وارفة
…
ولم يزل سعفك المخضر ريانا؟
تشدو القمارى فيه بكرةً وضحىً
…
ويسجع البلبل الغريد سكرانا
والنهر تحتك يجري باسماً مطلقاً
…
والموج يغدو يجر الذيل خجلانا
والفلك دونك تسري وهي حاملة
…
من أهل جنتنا حوراً وولدانا
يا نخلةً أهلها يرجون غَلَّتها
…
ونرتجي ظلها الزاهي ليرعانا
قولي بربك هل ما زلت قائمةً
…
ولم يزل ظلك الفينان فينانا
يا نخلةً قد سقيناها بأنفسنا
…
إذ نستقي في حماها اللهو ألوانا
هل صنتِ سري وعهدي بعد أن فضحت
…
سري الليالي وخان العهد من خانا
من مسَّ جذعكِ بعدي جُذَّ ساعده
…
أو نال سعفك يوماً نال أحزانا
لا طاب تمرك بعد اليوم من ثمر
…
ولا أفأتِ بظل منك إنسانا
حتى ترد لنا الأيام غربتنا
…
وترجع العيش صفواً مثل ما كانا!
بغداد
فتى شط العرب
خولة بنت الأزور الكندي
بقلم. م. أسعد طلس
في السنة الثالثة عشرة للهجرة يزعم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتح الشام فيجمع الصحابة ويخطبهم قائلاً (. . . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه، ألا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم وما لهم؛ فماذا ترون؟) فلا يرى من المسلمين إلا ارتياحاً، فيعمد إلى بقية الأمصار الإسلامية من أطراف الجزيرة فيكتب إليهم بالأمر، ويستنفرهم خفافاَ وثقالاً ليجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وما هي إلا أسابيع حتى تقدم عليه الوفود في العدد العديد، والذراري والأموال، فيخرج إليهم المسلمون مستقبلين بوجوه باسمة، وقلوب جذلانة، ويعم المدينة روح مبارك، وكيف لا والمسلمون يجتمعون كلهم في صعيد واحد لنصرة دين الله، ورفعة شأو التوحيد.
وهاهي ذي حمير بدروعها الدوادية، وسيوفها الهندية، وتزحف بآلافها المؤلفة وعلى رأسها زعيمهاذو الكلاع الحميري، يكبر ويهلل والقوم من ورائه يكبرون ويهللون. وها هي ذي كتائب مذحج وطيء والأزد وكنانة بخيولها العتيقة، ورماحها الدقيقة، تؤم عاصمة الإسلام، فما أن يراهم أبو بكر حتى يخر لله شاكراً أن ألف من هذه القبائل المتنافرة أمة واحدة، نزع الله ما في قلوبهم من غل، وجعلهم بنعمته أخواناً ينصرون دينه وينشرون رسالة نبيه. في أطراف المعمورة.
اجتمعت هذه الآلاف العديدة فعسكرت خارج المدينة تنتظر إشارة خليفة رسول الله، وما أن تكاملت الوفود حتى خرج إليهم رضوان الله عليه في جمهرة من كبار الصحابة، فلما أشرف عليهم من عل ورآهم قد ملئوا السهول والجبال حتى حمد الله وقال (اللهم أنزل عليهم النصر وأيدهم، ولا تسلمهم إلى عدوك إنك على كل شيء قدير)
ثم أمر الأمراء وعقد الألوية، وأوصاهم وصيته الخالدة وفيها يقول (. . . شاورهم في الأمر، واستعمل العدل، فإنه لا أفلح قوم ظلموا، وإذا لقيتم العدو فلا تولوهم الأدبار، وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولداً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا تغدروا إذا عاهدتم. وستمرون على قوم في الصوامع رهباناً يزعمون إنهم ترهبوا في الله فلا تهدموا صوامعهم
ودعوهم. . .) فأمن القوم وهللوا فدوت بأصواتهم الجبال، ثم ساروا على يمين الله، وسار الخليفة وكبار الصحابة يودعونهم حتى ثنية الوداع.
سار القوم وكلهم أيمان وصبر، وعزيمة وحزم، وطاعة لأمرائهم، وجلد على السير، وتواد وتعاطف.
كان في هذا القوم شاب كندي ما جاوز العقد الثالث، جميل المحيا، عالم بفنون الحرب، فاتك في النزال، قوي الإيمان بنصرة الله عباده المخلصين، لا يعرف إلا الإقدام، يتقدم الجيوش والمنية مشهرة سهامها. ذلك هو الأمير (ضرار بن الأزور الكندي) الشاب الحدث الذي ما أغنى غناءه بطل في فتوح الشام إلا سيد القواد سيف الله خالداً.
وكان في الغازيات اللائي كن يتبعن هذا الجيش، كاعب عروب، ذات جمال باهر، وطرف فاتر، خرجت فيمن خرجن من عقائل حمير تأسوا الجرحى، وتعين على نصرة الحق. ولقد أبلت بلاء مغاوير الأبطال، فكان هذا الغزال الغرير ينقلب إلى أسد كاسر يصلي العدا ناراً حامية، يروع القلوب، وتجف من هوله الأفئدة، ولم لا وهي ابنة (الأزور) ذلك البطل الذي قضى بين يدي المصطفى دفاعاً عنه، وأخت ضرار صاحب فتوح الشام؟. . .
المسلمون يحاصرون دمشق وأهلها في أشد الضيق، وبينا المسلمون يكادون يظفرون بالقوم، إذا هم برسول من قائد جند أجنادين، يخبر خالداً أن الروم تجمعوا عليهم في أجنادين في عدد عديد، فيشاور خالد أبا عبيدة في ترك دمشق، فلا يرى ذلك أبو عبيدة فيقول خالد (فأرى أن ترسل إليهم كتيبة عليها قائد درب، وأرى أن ترسل إليهم يا أمين الأمة رجلاً لا يخاف الموت أبداً، خبيراً بلقاء الرجال، قد مات أبوه في القتال، فقال أبو عبيدة ومن ذلك يا أبا سليمان؟ قال هو ضرار بن الأزور بن طارق، فقال أبو عبيدة لقد صدقت ووصفت رجلاً باذلاً معروفاً).
استدعى خالدا ضراراً فقال له (يا أبن الأزور أريد أن أقدمك على خمسة آلاف، قد باعوا أنفسهم من الله عز وجل واختاروا دار البقاء والآخرة على الأولى، فقال ضرار (وا فرحتاه يا ابن الوليد، ما دخل قلبي مسرة أعظم من هذه. ثم يسير ضرار على يمن الرحمن، فلما بلغ أجنادين رأى جيش الروم ينحدر كأنه الجراد المنتشر، وهم غائصون في الدروع وقد أشرقت الشمس عليهم، فلمعت دروعهم، وخوذهم، فقال أصحاب رسول الله لضرار ما لنا
والله بهم حول، فان هؤلاء جيش عرمرم، وخير لنا أن نقفل) فيكره ضرار ذلك القول ويقول (والله لا يراني الله منهزماً، ولن أزال أضرب بسيفي في سبيله وأتبع سبيل من أناب إليه، ولا أوليهم الدبر، والله يقول (ولا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله). . .) ثم تكلم رافع بن عميرة فقال (يا قوم أما نصركم الله في مواطن كثيرة وأنتم قليلو العدد؟ ألا إن النصر مقرون مع الصبر. ولم تزل طائفتنا تلقى الجموع الكثيرة، فاتبعوا سبيل المؤمنين، وتضرعوا إلى رب العالمين، وقولوا كما قال قوم طالوت (ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). .) فيسترد القوم قواهم ويهللون ويكبرون (الله أكبر، الله أكبر، سيهزم الجمع ويولون الدبر).
التقى الجمعان وضرار يتقدم القوم وهو يرجز:
الموت حق أين لي منه المفر
…
وجنة الفردوس خير المستقر
هذا قتالي فاشهدوا يا من حضر
…
وكل هذا في رضا رب البشر
ثم اخترق القوم وحمل عليهم حملة نكراء فأحدقوا به، فأخذ يستصرخ قومه ويقول:(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) فيهجم المسلمون ويصيب ضراراً سهم في عضده فيطمع الروم فيه ويحملون عليه فيأسروه. ويجيء خالداً الصريخ فيولي على جند دمشق ميسرة بن مسروق سيد بني عبس، ويتوجه بطليعة إلى أجنادين، وكان بين جنده فارس على جواد فاره وبيده رمح طويلة، قد تجلبب بجلابيب سود، وتلثم حتى لا يرى منه إلا الحدق، وكان يسبق القوم وخالد يعجب من أمره، فلما أن أدرك خالد المسلمين في أجنادين وجد هذا الفارس المتلثم يهبط على الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع الكتائب وحطم الأجناد. وكان يخترق قلب خميس الروم، فما هي إلا جولة جائل حتى يخرج وسنانه ملطخ بالدماء، وقد جندل رجالاًوصرع أبطالاً. ثم يعود فيخرق القوم ثانية معرضاً نفسه للهلاك والناس أمامه مصروع أو فار. وكثر قلق المسلمين عليه وهم لا يدرون من هو_وقد ظنه بعضهم خالد فما هي إلا جولات خالد - ولما رأوا خالداً بينهم سألوه عنه فقال أن والله لأشد إنكاراً وتعجباً.
وما إن غابت الشمس ووقفت الحرب، حتى أحدق القوم بهذا الفارس وفيهم خالد يسألونه
عن اسمه فلا يجيب، ثم ينتحي بخالد زاوية فيقول له:(ما سكت يا سيف الله حين سألتموني عن اسمي إلا حياء منك لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الحجال، وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد، زائدة الكمد. فقال: من أنت؟ قالت: خولة بنت الأزور أخت ضرار أسير الروم، أتاني آت بخبر أخي فركبت وفعلت ما فعلت.).
أشرقت الشمس فجدد المسلمون عزائمهم وكروا على القوم وحملوا حملة عظم أمرها على الروم، وكانت خولة تجول في كل مكان تطلب أخاها وهي لا ترى له أثراً ولا يراه أحد من المسلمين فيعم القوم حزن شديد وتبكيه بقولها:(يا ابن أمي! ليت شعري في أي البيداء طرحوك، أم بأي سنان طعنوك، يا أخي، أختك لك الفداء. . . ليت شعري، أتراني أراك بعدها أبداً؟ فقد تركت في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ، فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء). فبكي القوم وبكي خالد لحالها. وبينا المسلمون في شدة واضطراب إذا هم بمن يخبرهم بأن الروم أخذوا ضراراً إلى صاحب حمص لينفذه إلى الملك، ففرح خالد وتهلل وجهه، وشكرت خولة الله، فدعا خالد رافع بن عمرة الطائي لينفذه إلى حمص فسار خالد في مائة منهم خولة، فما وصل القوم قرب حمص حتى كمنوا، فبينا هم كذلك إذا بنفر أقبلوا، فنبه رافع قومه، فلما قاربوهم كر عليهم رافع فإذا فيهم ضراراً فتجالد الفريقان حتى أنقذ ضراراً، فخرت خولة لله شكراً وشكر خالد لرافع بلاءه.
هذا موقف من مواقف بسالتها الخالدات، وما موقفها يوم أسر النساء في يوم صحورا والناس يغزون الشام بالأمر الذي ينسى فقد ذكر الطبري أنها أسرت في فريق من نسوة حمير. فجمعتهن وخطبتهن تستحثهن على الثورة على هؤلاء الأعلاج، وقالت (يا بنات حمير، وبقية تبع، أترضين لأنفسكن علوج الروم، وأن يكون أولادكن عبيداً لأهل الشرك، فأين شجاعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب، ولا أراكن إلا بمعزل عن ذلك، وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه المصائب، وما نزل بكن من خدمة الروم الكلاب) فقالت عفراء بنت غفار الحميرية (صدقت والله يا بنت الأزور، نحن والله في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفت، لنا المشاهد العظام، والمواقف الجسام. ولقد اعتدنا ركوب الخيل، وهجوم الليل. غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت، ولقد دهمنا العدو على حين غرة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح) فقالت خولة (يا بنات التبابعة، خذوا
أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب، نحمل بها على هؤلاء، فلعل الله ينصرنا فنستريح من المعرة) فقالت عفراء (والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا) ثم تناولن الأعمدة وتقدمتهن خولة وهي تقول لهن لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة، وأوسعن أرجل أفراس القوم ضرباً، ولا تتفرقن فيقع بكن التشتيت، ثم هجمت وهي تقول:
نحن بنات تبع وحمير
…
وضربنا في القوم ليس ينكر
لأننا في الحرب نار تسعر
…
اليوم تسقون العذاب الأكبر
وما هي إلا جولات حتى خلصن إلى المسلمين.
هذان موقفان من مواقف البطولة في هذه المرأة العربية المسلمة ولقد كان لها رضوان الله عليها مواطن أخر غر صالحات. جعل الله منها أسوة حسنة لمرأة اليوم، هداها الله أقوم طريق.
م. أسعد طلس
في الأدب الفرنسي
الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
ثم انتقل إلى وصف عواطفه فقال (إنه رحب الأناة، ناصح السريرة، لا يتملكه الغضب، ولا يضمر لأحد من الناس العداوة والبغضاء). وعقب هذا الوصف قال: (لست مع ذلك عاجزاً عن الانتقام لنفسي إذا اعتدى أحد علي أو أساء إلى شرفي. وفي هذه الحال أؤمن بأن الواجب يقوم في نفسي مقام الحقد، ويأمرني بأن أتم انتقامي في صلابة وعزم)
وليس في هذا القول شذوذ أو غرابة، ولكن ما يقوله عن الشفقة يثير الدهشة والعجب:(إني قليل الشعور بالشفقة، وأستريح إلى ذلك جد الراحة. ولكني إذا رأيت إنساناً جعجعت به المصائب، بذلت غاية جهدي في مواساته. وأعتقد حقاً أن من الواجب على الإنسان أن يسلك كل السبل التي تؤدي إلى إظهار الشفقة على من تصيبه الأرزاء والمحن، لان البائسين أغبياء إلى درجة تجعلهم يجدون في إظهار الشفقة عليهم والرثاء لحالهم راحة وعزاء. وأجد من الحزم إظهار هذه العاطفة دون الشعور بها صدقاً، لأنها لا تصلح لشيء في دخيلة الإنسان ولا عمل لها إلا إضعاف القلب وتحطيمه، ويجب النزول عنها للدهماء لأنهم لا يفعلون شيئاً بإيحاء العقل فهم في حاجة إلى عاطفة تحفزهم إلى العمل)
وقوله هذا يعبر أبلغ تعبير عن روح القرن السابع عشر الذي عرف الناس فيه بصلابة القلب وضعف الحساسية. كانوا أثناء الحرب الأهلية يدمرون نهاراً ويقتلون، ثم يرقصون ليلاً ويمجنون، وكانوا يتحدثون عن التعذيب والقتل في بساطة الحديث عن الدعابة الفرحة، والفكاهة الشهية.
ويجمل بنا في هذا المقام أن نذكر رأى ثلاثة من قادة الفكر في هذه العاطفة، لنرى الفرق الشاسع بينهم وبين لاروشفوكو. فمونتني يقول:(إني شديد الميل إلى الرحمة والوداعة). وديكارت يرى أن ميزة النفس الكبيرة (أن يكون شعورها بآلامها أضعف بكثير من شعورها بآلام غيرها). ويتطلب لابروبير من النفس العالية (أن تكون قوية الشكيمة فلا تلين صعدتها إلا أمام عاطفة واحدة هي الشفقة)
ومما يدعو إلى العجب أن لاروشفوكو الذي ينكر هذه العاطفة في مقالة ومواعظه، يقرها
في مذكراته ورسائله. فقد كتب عن ثورة الفلاحين في (بواتو) التي سبق ذكرها في تاريخ حياته يقول: (لا أنكر أن بؤسهم جعلني أنظر بعين الشفقة إلى تمردهم). ثم طلب من الوزير مازاران في ذلك الوقت أن يمنحه حق العفو. ولما أجيب إلى ما طلب أحسن استعمال هذا الحق، فلم يخدش شرفاً ولم يسفح دماً. وقبل موته بقليل أي في عام 1674 كتب إلى الآنسة دي سكوردي يقول:(بودي لو تنفق سوق الرحمة وتصبح بدعة يولع الناس بها، فلا يقع بصرنا بعد ذلك على بائسين). وكثيراً ما رأته مدام دي سفنييه (متلبساً بالحنان)، فأدركت أنه يظهر من عواطفه وقلبه غير ما يبطن. ويغلب على ظننا أن هذا الرجل لم يميز طبيعة نفسه عن الأثر الذي أنشأته فيها البيئة والبلاط. فقد اشترك في الدسائس ورأى الأمراء والعظماء يتكالبون على متاع الحياة، ويجدون في البحث عن مصالحهم الذاتية في جشع وخسة، فكرههم واحتقرهم وقسا في الحكم عليهم، مع أنه بطبعه كريم رحيم. وأثر البيئة هو الذي جعله يخلص الود لعدد قليل من الناس اختارهم قلبه، وهذا شأن المتشائمين أمثاله، يضعون كل افتقارهم إلى الحب في بعض أفراد أعزاء عليهم. وهذا الافتقار إلى الحب هو جوهر نفورهم من الناس
وكان لاروشفوكو إلى جانب الصفات التي سبقت، طموحاً ولو أنه ينكر ذلك. لم يستحوذ عليه طموح ريشيليو، أو على الأقل عجز عن بلوغ شأو هذا السياسي العظيم، فتمنع بالسعي وراء الحصول على لقب لزوجه، والسماح له بدخول قصر اللوفر في عربة. فلما أخفق في سعيه، اقتصر طموحه على كتابة (المواعظ)
وقد حال خجله دون دخوله مجمع العلماء لأنه كان يعجز عن الكلام أمام جمع كبير من الناس، وتقليدات المجمع تفرض عليه أن يرد على خطبة الاستقبال بخطبة أخرى وما كان يجيد الحديث إلا في الصالونات الأدبية التي يؤمها عدد قليل من الأصدقاء الأخصاء. وكان من عادته أن يتكلم قليلاً، وينفر من الثرثارين الذين يدخلون الخطابة في الحديث، ويفرضون الصمت والإصغاء على غيرهم. ويعتقد أن (المصلحة الذاتية هي روح عزة النفس أو الأثرة) حتى في السمر والمناقشة، فإذا لم يفكر كل إنسان إلا في نفسه وفي قوله، شل الآخرين وبعث في نفوسهم الضيق والضجر، ويرى أن أمثل الطرق لإنعاشهم وإنقاذهم من الملل هو الإصغاء إليهم وإظهار الابتهاج بقولهم. ومن وصاياه المأثورة: (يجب
الإصغاء إلى المتكلم مهما كان حديثه واهي الرباط طائش الغرض عارياً من المعنى. ولا أوصي بتجنب معارضته ومقاطعته فحسب، بل أوصي أيضاً برياضة النفس على احتمال روحه وذوقه والاطمئنان إليهما والتشبع بهما، وإطراء قوله بقدر ما يستحق، ووضع هذا الإطراء في قالب أميل إلى الحقيقة منه إلى اللياقة والمجاملة). وعرف بالتجربة والملاحظة أن لا شيء أبغض إلى النفس وآلم للأذن من أن يجعل الإنسان نفسه محور الحديث في كل موطن، فتجنب ذلك جهد المستطاع
وكان يكره من المتكلم لهجة الثقة المستبدة والتعبير الذي يدل على البحث الطويل وإعنات القريحة، ويكلف بتوزيع القسط بين المعاني والمباني. ويميل إلى الإيجاز الممتع ويفخر بذلك (من شأن العقول الكبيرة أن تدل بقولها الموجز على كثير من المعاني. ومن صفات العقول الهزيلة أن تتكلم كثيراً ولا تقول شيئاً). وقد أجاد الإيجاز في مواعظه إلى درجة كادت تبلغ حد الكمال. ولنضرب مثلاً هذه الموعظة:(يملك الإنسان دائماً ما يكفي من الجلد لاحتمال آلام الغير)، فليس من المستطاع (تكثيف) التهكم في كلمات أقل من هذه. وهذا الإيجاز يجعل (للمواعظ) قيمة تاريخية هامة، لأنها تعين طوراً جديدا للنثر الفرنسي. وقد قدرها فولتير حق قدرها فقال:(يرجع أكثر الفضل في تكوين ذوق الأمة وجعلها تتعشق الأصالة والدقة إلى مواعظ لاروشفوكو)
وذكر معاصروه أنه كان دقيقاً في الحكم على الكتب التي تعرض عليه، وأنه كان يحب قراءة الكتب القيمة التي تتطلب الحوار والمناقشة، وترغم العقل على التفكير العميق. وكان من أحب الأشياء إلى نفسه أن يستمع إلى حديث ذوي العقول الراجحة إذا تكلموا في الموضوعات الجدية وجعلوا للأخلاق النصيب الأكبر من حديثهم. وهذا يدلنا على ولعه الطبعي بكتابة المواعظ
ومن تاريخ حياته يتبن لنا أنه كان مشغوفاً بالنساء في كل أدوار حياته. ولا يذكر اسمه في كل دور إلا مقروناً باسم امرأة تحمل لقباً كبيراً، أولها في تاريخ الأدب ذكراً جميلاً. واللهجة التي استعملها في كلامه عن عفة النساء، هي لهجة الرجل الغني العظيم الحب الذي لم يصادف في حياته امرأة تدمي قلبه بالصد والدلال
وكان يفضل مجلس النساء على مجلس الرجال. يدلنا على ذلك قوله: (إني أحترم النساء
وأعاملهن في أدب جم ورفق كثير، وأعتقد أني لم أقل قط أمامهن كلمة تؤذي شعورهن. (ولكنه آلم الدوقة دي لونجفيل في مذكراته، وآلم النساء جميعاً في مواعظه) وأفضل حديثهن، إذا كن حصيفات العقل، على حديث الرجال، لأني أجد فيه عذوبة وسحراً. ويخيل إلي أنهن يعبرن عن أفكارهن في وضوح وجلاء أكثر منا، ويضعن أقوالهن في أسلوب بهيج يسر النفس والخاطر)
ومن حسن حظه أن ساق إليه القدر الكونتس دي لافاييت في شيخوخته، تؤنسه وتنسيه مرارة الحياة وتهيئ له أسباب الهدوء والسعادة الروحية
يتبع
حسن صادق
-
العلوم
جاليليو
1564 -
1642
بقلم عبد الرحمن فهمي
بكالوريوس في الآداب
يمكننا أن نقول أن الكواكب في مسارها حفظت للجنس البشري عبقرية جاليليو. وجاليليو هو الابن البكر لأب فقير، بدأ تعلمه في دير بالقرب من فلورنسا، وبينما هو على وشك أن يكون راهباً رأى أبوه أن يرسله إلى جامعة بيزه ليتعلم فيها علوم الطب، مستعيناً على ذلك بموارد الأسرة الضيقة المحدودة.
وبينا كان الطالب الصغير يقضي بعض أوقات فراغه في العبادة بكاتدرائية بيزه، لاحظ أن المصباح الهائل المعلق في سقفها يتأرجح كما لو كان به مس من تيار شارد من الهواء، ولحظ أيضاً أن قوس التذبذب سواء أكبر هذا القوس أم صغر يكمل دورته في وقت بذاته، فاستخلص من ذلك قانون اضطراد (البندول).
وسنحت له الفرصة عن طريق المصادفة، فاستمع إلى محاضرة في العلوم الرياضية في بلاط الدوقية الكبير في بيزه، ومنذ هذه الساعة تعلقت نفسه بالأبحاث الرياضية فترك الجامعة ولم يستطع أبوه إرغامه على البقاء بها، وقضى سنوات مجدبة في درس العلم الجديد الذي اختاره لنفسه في حماسة فائقة، ولكنه استطاع فيما بعد أن ينال من الجامعة أجراً ضئيلاً على محاضرات في الرياضة يلقيها على طلابها.
وكان أجره من الجامعة قليلاً، ولكن تهيأت له فيها صفحة جديدة لمستقبل مجيد من أعلى برجها المائل، وتفصيل ذلك أن أحداً لم يكن ليفكر حينئذ في زعزعة عقيدة راسخة في الأذهان هي أن سرعة الأجسام الثقيلة ترجع في هبوطها إلى أوزانها، فقذيفة المدفع مثلاً تهبط أسرع مما لو هبطت ريشة. ولكن جاليليو نسب سرعة الهبوط إلى مقاومة الهواء، ودلل على صحة ذلك بأن ألقى عدة أجسام معدنية وخشبية من حجم واحد من أعلى قمة برج بيزه، وأرى العلماء أن هذه الأجسام تصل إلى الأرض في أوقات متقاربة جداً،
وبرهن بذلك على أنه لم يكن لأوزانها تأثير مذكور في سرعة هبوطها، فقضى على اعتقادات قديمة وخلق لنفسه أعداء كثيرين. ثم بدأ يتفهم طبيعة الجاذبية التي بقيت راسخة في عقله ولكنها لم تخرج من حيز هذا العقل.
وترك بيزه إلى فلورنسا لما طردته الجامعة، وفي هذا الوقت مات أبوه، واضطره الدهر إلى أن يعول باقي أفراد أسرته. ولكنه فيما بعد استطاع أن يوجد له كرسياً في جامعة بادوه، ومن هذا الكرسي واصل بحوثه ونظرياته العلمية ثمانية عشر عاماً بين استحسان إيطاليا وإعجاب أوروبا كلها، فأضحى بذلك أحد المفكرين الخالدين.
ولم يكن جاليليو ليستفيد من بعد نظره وقوة إدراكه فقط، بل استفاد أيضاً من أبحاث غيره واكتشافاته، ويعد اختراع (التلسكوب) وهو المثل الأعلى بين كافة أبحاثه واختراعاته، ففي حوالي هذا الوقت اخترع جوان ليبرشي من هولاندا بعض العدسات، وما إن سمع بهذا الاختراع حتى استولى عليه، وأوجد من هذه العدسات أول مجهر فلكي، وبه حول أبحاثه وفحوصه إلى الفضاء حيث كشف جديداً غير معروف، وقضى على معتقدات قديمة: كشف سطح القمر الجبلي، وأثبت طبيعة إضاءته بالانعكاس الضوئي، ومحا خرافة المجرة ودلل على أنها مجموعات من الكواكب، كذلك كشف أقمار زحل وأوجه الزهرة، واستعان بكل هذه الاكتشافات على تخليد الحق في تاريخ الفلك، وهو كل ما كان يعنى به من أبحاثه الطويلة، فأخذ عالم الخرافات المظلم في هذا الحين يستنير بضوء هذا الحق.
وكان جاليلو خلفاً لكوبرنيق الذي أثبت أن الأرض والكواكب تدور حول الشمس، وليست الشمس والكواكب هي التي تدور حول الأرض كما اعتقد ارسططاليس، بل أن كبلر وهو من معاصري جاليليو أوغل في هذا البحث، فدرس طبيعة مدار الكواكب. وبينما كان جاليليو يدري هذه الحقائق الفلكية كان باقي العالم ولا سيما الكنيسة ينكرها بتاتاً.
ولم تحرك الكنيسة ساكناً في بادئ الأمر، زعماً منها أن العاصفة التي نفخها جاليليو لا تلبث أن تهدأ، ولكن بحوث الفلكي وطريقة عرضها نبهت الأذهان إلى مناقضتها، لما جاء في الكتاب المقدس، وقويت الشبهة ضده بتأثير جيوردانو برنو، وهو زنديق ثائر على المسيحية، مفكر حر، بالرغم من إن جاليليو أعلن أنه ينكر على جيوردانو أن يقول عن بحوثه العلمية أنها تبرهن على تخبط الدين المسيحي، وحاول أن يظهر للعالم أن اكتشافاته
العلمية لم تعارض يوماً ما التعاليم الدينية المقدسة، إلا أن ذلك لم يفده، بل استدعته روما إليها ليدافع عن نفسه ويبرر هرطقته. ولكن كان له في البلاط البابوي أصدقاء ومريدون من علماء غير متعصبين، فسمعوا لنقاشه، ثم سمحوا له بالعودة إلى فلورنسا. وعاد وهو يعتقد أن من حقه أن يتابع بحوثه دون إذاعتها. وكانت مهادنة بين الجانبين بعد عودته إلى فلورنسا ظل فيها سبعة أعوام ساكنا راكنا إلى قريحته العلمية الوقادة.
إلا أنه لم يكن من طبعه وجبلته أن يبقى ساكناً إلى الأبد، فطبع مطبوعات مختلفة مطولة ضمنها محاوراته ومناظراته في نظام الأرض، وعندئذ استدعي إلى روما مرة أخرى، ولكن ليقابل في هذه المرة بابا عابساً حانقا على رجل متمرد ناكر للجميل، ولم تقبل منه شفاعة، بل اضطر تحت تأثير آلات التعذيب إلى أن ينقض أفكاره، ثم حكمت المحكمة عليه بالسجن، إلا أن هذا الحكم لم ينفذ، وإنما استبدلوا به يكفر عن خطيئته بتلاوة أدعية التوبة، وهي من سبعة أبواب في الزبور مرة في كل أسبوع. وتتصل بهذا العبث الرسمي من جانب الكنيسة فكاهة طريفة وهي أن جاليليو في كل مرة عندما كان ينهض من ركوعه بعد تلاوته الأدعية وقسمه اليمين بنقض معتقداته في الفلك، كان يقول بصوت خافت (ولكن الأرض ما زالت تدور).
كانت هذه الكلمات تقال بصوت يكاد لا يكون مسموعاً ولكن فكر العالم بدأ يلتهب بهذه الشرارة، وكان جاليليو رمزاً لتوسيع حدود العالم برغم محاولات الصلف والتحكم لتضييق محيطه ولا يزال الكون دائراً على رغم عرقلة المعرقلين من رجال الدين والمتعصبين ضد دورانه.
فهل يعد خضوع جاليليو للكنيسة جبناً منه؟ إن لكل بطل ساعة جبن في حياته، وقد تقلب الزمن من عهد هذا الفلكي العظيم حتى اليوم، فرأينا الآن الجمعية الإيطالية الملكية تطبع على النفقة العامة كل مؤلفاته في واحد وعشرين مجلداُ، شاملة وثائق محاكمته ومضابطها، وكان جد راغب في تجنب التصادم مع تعاليم الكنيسة، فأذعن لحقها في تعليم كافة الناس الإيمان بالدين، وبلغ من ذلك أنه كان يؤمن في الظاهر بكل ما كانت تطلب إليه أن يؤمن به، وباعد بقدر استطاعته بين العلم والدين علماُ منه بما يجب أن يكون بينهما من مسافة سحيقة، وجعل آراء كل منهما منفصلة عن الأخرى.
ولكن لم كل هذا، وغيره من الناس لم يكن ليفعل ذلك لو كان مكانه؟ ولا سيما أن الكنيسة طلبت إليه أن يقارعها بالحجة وقد كان من الطبيعي أن ينتصر عليها لو أنه قبل ذلك، لأنه على حق فيما يقول، ولأن تعاليمها متناقضة لا يصح أن يقبل عالم مثله أن تذاع على الناس فيقبلوها كأنها حقائق ثابتة غير قابلة للبحث والتمحيص. ولكنه لم يبغ قتالاً مع الكنيسة، بل سار معها موافقاً على كل ما طابت إليه، مكتفياً بالبقاء على عقيدته في نفسه واجداً فيها فضولياً متحرشاً واصفاً إياها (بأن واجبها هو تعليم الناس كيف يسيرون إلى عالم السموات، لا كيف يسير العالم السماوي).
وبذلك استطاع أن يجد في بعض الأحيان تعضيداً من سلطة الكنيسة، لولا المتعصبون الذين كانوا يضغطون عليه ويضطهدونه بين آونة وأخرى، لما وقفت الكنيسة قط في وجهه، بل كثيراً ما حماه الباباوات والكرادلة ودرأوا عنه السوء، عنه السوء، بل كان يعلم بعضهم أنه على حق في بحوثه العلمية، وكثيراً ما لمحوا إليه بالهروب من أعدائه في الوقت المناسب.
وقد بعثت الكنيسة إليه يوماً بالكردينال بللارد ليوبخه ويحذره، ولكنه بدلاً من أن يفعل ذلك أرشده إلى طريق التعبير عن نظرياته، فكتب إليه (لا تقل إن الأرض تدور حول الشمس بل قل لنفرض أنها تدور حول الشمس، لأن من الخطر عليك أن تقول بأنها تدور، ولكنه من المأمون قولك بفرض دورانها) وبذلك ظل جاليليو يفرض قي الظاهر وهو مؤمن بالحقيقة في الباطن مؤكداً أن للحق الغلبة في النهاية.
وقد ولد أسحق نيوتن في 8 يناير سنة 1642، وهو اليوم الذي توفي فيه جاليليو، وبذلك بدأ فصل جديد من حيث انتهى آخر. ولم تؤيد نظرية الأرض وموقعها من المجموعة الشمسية ودورتها فقط، بل أصبحت العقول تدرك جيداً حركات الكواكب وقانونها أيضاً.
وقد أصيب بالعمى في أواخر حياته، إلا أنه وهو أعمى كشف عن أقمار زحل، وبحث ودرس البقع الشمسية مستعيناً على ذلك بتلاميذه بدل عينيه. وهو بشير لنيوتن وطليعة له، وإذا كان نيوتن هو الذي وضع قوانين الحركة وأثبت بالدقة الرياضية قانون الجاذبية بين الكون المرئي والقاعدة المضبوطة لحركاته، فإن جاليليو هو الذي مهد إلى ذلك وقاد نيوتن إلى الحقيقة الخالدة.
ولم يستطع إي بلاط بابوي في هذا الوقت تقييد أفكاره الطامحة، وأبحاثه العلمية، بل اكتفى
بإرساله أخيراً من روما إلى دير سينا، وهو دير تطل جدرانه على سهول توسكاني، اعتكف فيه أشهراً قلائل، ثم سمح له بالعودة إلى فلورنسا حيث قضى الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته في عزلة تامة امتثالاً لأمر روما، إلا أنها عزلة لم تعرف قط السكون بل كان جاليليو فيها يغلي بأبحاثه كالمرجل.
وقد لحقه الأسى وحلت به عاهته في كبره، وكان أعمى عندما زاره جون ملتون في إركتري عام 1638، وقد واصل رسالته العلمية وهو بعاهته فاخترع وأملى اختراعاته. وانتابته حمى بسيطة وهو يملي ملحوظاته على تلميذين من حواريه، فأسدلت حياته الطويلة ستاراً كثيفاً أبدياً، ولكن برغم ذلك بقي للعالم من هذه الحياة بحث خالد في الأرض وعقل إنساني جبار.
عبد الرحمن فهمي
القصص
الأمير السعيد
للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد
مترجمة بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
يقوم تمثال الأمير السعيد على عمود باسق يشرف على المدينة، وقد كست التمثال لفائف من صفائح الذهب الخالص، وجعل له من الياقوت الأزرق عينان، وأمسك بسيف في قبضته ياقوتة حمراء. وكان هذا التمثال موضع الإعجاب والفخار من الناس أجمعين، فينظر إليه عضو من أعضاء المجلس البلدي فيتحدث عنه ويتكلف الوصف والتشبيه حتى يقول (إنه لجميل، وله من الجمال ما لديك الرياح، وإن لم تكن ما لذلك الديك من المنفعة) وكان هذا العضو يحاول ما استطاع في تشدقه بالحديث أن يمتاز بما للفنانين من بديع الذوق، وما للعمليين من صدق النظر،.
وتمر بالتمثال إحدى العاملات وبيدها طفلها يبكي لأنها لم تستطع أن تجتذب إليه القمر، وتقول له مفتخرة بالأمير السعيد (لم لا تكون يا بني كهذا الأمير، وما أحسبه بكي في حياته من حاجته لشيء؟)
وينظر إلى التمثال رجل قد شاع في نفسه اليأس ويقول (كم يسرني أن أرى على الأرض رجلاً قد حاز السعادة كاملة).
ويطوف بالتمثال أطفال المبرة وهم منصرفون من الكنيسة في أرديتهم القرمزية، وعباءاتهم البيضاء الناصعة فيقولون (أليس هذا التمثال شبيها بالملائكة!!) فينهرهم أستاذ الرياضة في حدة وجفاء مستنكراً هذا التشبيه (وأنى لكم هذا وأنتم لم تروا واحداً من الملائكة؟) فيجيب الأطفال (نحن لم نر الملائكة جهرة ولكنهم طافوا بنا في أحلامنا) فيعبس أستاذهم ويتولى.
في إحدى الليالي كان يطير فوق المدينة سنونو صغير، وكان رفاقه قد رحلوا إلى مصر وتقدموه بستة أسابيع وتخلف هو عنهم وقد فتن بحب مغردة تقطن شجر الغاب الذي يكتنف النهر، وكانت أجمل بنات جنسها، لقيها في الربيع وهو يطارد يراعة كبيرة صفراء، فأعجبه خصرها الناحل، فكاشفه بحبه وابتدرها في صراحة وبيان (أتأذنين لي في حبك؟)
فأومأت إليه إيماءة خفيفة، فطار من فرط الفرح، وكانت آية حبه أن يحلق في الجو طائراً حولها يرتفع أحياناً ويسف بجناحيه أحياناً حتى يضرب بهما صفحة النهر، فيخط عليه سطوراً من فضة كانت هي تقرأ فيها التحية والإجلال، وكانت هذه تحيته طوال أشهر الصيف،
ولقد شاع حديث حبه بين أبناء جنسه، فتغامزوا عليه يتساءلون عن هذه الصلة التي توثقت بينه وبين المغردة، وهي ليست بذات مال ولها من أقربائها عدد وفير، وكان النهر غاصاً بأسراب المغردات.
ثم رحل رفاق السنونو رحلة الخريف وشعر صاحبنا بعدهم بسأم الوحدة وشاع السأم في نفسه حتى غشى حبه لصاحبته المفردة، فبدا له ما يعيبها من صمتها، وحدثته نفسه بأنها فتاة مبتذلة، ولا سيما وقد رآها تداعب الهواء في خفة ودلال!! وهو أن وثق بما لها من طبيعة الاستقرار، فلا يتفق طبعها مع ما جبل عليه من حب الأسفار، ولن تكون له إذاً الزوجة الصالحة، وصارحها يوماً برأيه فسألها (أتظعنين معي؟) فهزت رأسها مستنكرة أن تهجر وطنها. ولقد ساءه منها إباؤها، وصاح في وجهها (أنت إذاً كنت عابثة في حبي؟ سأرحل عن ديارك إلى الأهرام!! وداعا!! وداعا!!) وطار
طوى نهاره طائراً وأدركه الليل عند المدينة، فتحسس فيها مهبطاً سوياً، وساءه أن المدينة لم تعد له العدة لهبوطه، ثم تراءى له التمثال فطاب له النزول عليه، واستهواه من المكان هواؤه العليل واتخذ له بين قدمي الأمير مقعداً. ثم دار ببصره في المكان يتبينه، وقال معجباً (ما أجمله فراشاً من ذهب) ثم طوى رأسه تحت جناحه، وما لبث أن أحس بقطرة من الماء تسقط عليه فعجب للسماء تمطر بغير سحاب، والنجوم سافرة بغير حجاب، وما له يعجب لهذا الجو وهو في شمال أوربا أشد نكاية بالخلق وأبلغ إيذاء، ثم خطرت له المغردة وحبها لوطنها المطير وقال (إنها لمؤثرة) ثم قطرة ثانية تسقط عليه فينحى باللائمة على هذا التمثال القائم (أما فيه على طول قامته عاصم من الأمطار؟؟.)(سآوي إلى رأس مدخنة لعل فيها من المطر تقية) وهم بأن يطير فشخص ببصره إلى السماء ورأى. . . . وما أعجب ما رأى. . . . غشيت الدموع عيني الأمير السعيد، وهطل الدمع على خديه الذهبيين مدراراً، وبدا وجهه تحت سنا البدر في حلة من الجمال،
أشفق السنونو من بكاء الأمير السعيد وقال له (من أنت؟) قال (أنا الأمير السعيد) قال (وما بكاؤك في هذه الساعة وقد بللتني دموعك؟) قال (كنت حياً وكان لي قلب كقلوب الناس، وما عرف الدمع إلى عيني سبيلاً، كنت أسكن قصر (البال الخالي) وكان الحزن لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، وكنت أمضي سحابة اليوم ألهو وألعب مع رفاقي بين الزهر والشجر، وأقضي هزيعاً من الليل أطرب وأرقص في بهوه الفسيح، وكان يحيط بالقصر حائط لم أحفل بما وراءه، وكان كل ما حولي جميلاً، طربت لهذه الحياة حتى دعتني حاشيتي بالأمير السعيد يحسبون السعادة في الطرب. إلى أن أدركني الفناء فأقاموني على هذا الشرف، أرى منه كل ما في المدينة فلا يقع بصري إلا على ما تكره الأبصار، ولا يمتد إلا ليرتد حسيراً، ولي قلب قد من الرصاص ولكن لا محيد لي عن البكاء،.)
عجب السنونو في نفسه من هذه القصة، وزاد عجبه أن القلب قد قد من الرصاص، والجسم من الذهب
قال الأمير في صوت هادئ ونغم موسيقى،:(في أقصى المدينة دار فيها البؤس، وفيها الشقاء، وفيها أم قد ألح عليها الفقر العنيف. حتى شحب وجهها، وغابت نضارتها، واحمرت يداها من فرط ما تعانيان من وخز الإبر، وهي جالسة إلى منضدة وبين يديها ثوب من الحرير توشيه (بزهر العواطف) وتعده لأجمل وصيفات الملكة، تريد أن تزدهي به في مرقص يقام في القصر غداً. وإني لأرى الأم من نافذة الدار وأرى ولدها الصغير طريح الفراش، تضطرم في أحشائه نار الحمى، ولا عاصم له من شرها إلا شربة من عصير البرتقال، وأنى لهذه الوالدة بعصير البرتقال؟ - إنها تسكب في فمه ماء النهر، وهو لا يروي صداه، ولا يدفع جواه، هذه رسالتي أيها السنونو الصغير، اخلع عن قبضة سيفي هذه الياقوتة، وألقي بها بين يدي الأم البائسة، فأنا في موقفي هذا لا أستطيع حراكاً بما شدت به قدماي إلى هذا العامود).
برم السنونو بهذا الأمر واستعفى منه الأمير قائلا (إن لي في مصر من يترقب عودتي. أولئك رفاقي ترفرف أجنحتهم فوق نهر النيل يناجون أزهار اللوتس العظيمة، وما أحسبهم الآن إلا آوين إلى مضاجعهم في مقبرة الملك العظيم، المضطجع في تابوته الموشى، وقد ضمت لفائف التيل الأصفر جسده المحنط بالتوابل والأفاويه، ويحيط بعنقه قلادة من
الكديش الأخضر الشاحب، وتمتد يداه كأوراق الشجر الذابلة،)
توسل الأمير السعيد للسنونو أن يقيم معه الليلة، وأن يبلغ رسالته إلى ذلك الطفل الصادي، وتلك الأم الحزينة، قال السنونو أنا لا أعطف على الأطفال، فقد كنت في الصيف الماضي مقيماً على النهر، وكان هناك صبيان يحصبانني بالحصى وهما ولدا الطحان، ولم يكن الحصى يصيبني لما اشتهرت به طائفتنا من خفة الحركة، وسرعة الطيران، ولكن الذي يحزنني هو ما ينطوي عليه عملهما من المهانة لنا والتحقير لشأننا)
طافت بوجه الأمير سحابة حزن أشفق منها السنونو ولان قلبه وقال: (الآن طبت نفساً بالبقاء معك هذه الليلة، وسأحمل رسالتك) وشكره الأمير، واقتلع السنونو الياقوتة من قبضة السيف وضم عليها منقاره وطار،. . . طار فوق برج الكنيسة ورأى تماثيل الملائكة قد قدت من الرخام الأبيض إذا رأيتها حسبتها لؤلؤاً منثوراً، وطاف بالقصر الملكي فرأى مرقصاً ونعيماً ونوراً، وخرجت إلى شرفة القصر غادة جميلة مستندة إلى ذراع صاحبها فأنصت إليهما فإذا الرجل يقول (ما أغرب الحب وما أشده) قالت الفتاة لاهيةً عن حديث الحب بحديث الثياب (ما أشد لهفتي على ثوبي الذي أعده لليلة المرقص! لقد كلفت الحائكة وشيه بأزهار العواطف، ولكن الحائكة كسول،) وطار فوق النهر وأبصر المصابيح تتدلى على ساريات المراكب، وطاف بحي اليهود، فرأى شيوخهم يتنازعون في البيع والشراء، ويزنون الدراهم بموازين من نحاس، وحط على الدار الحزينة ونظر من خلال النافذة فإذا الصبي يصطلي بنار الحمى فلا يهدأ مضجعه، وإذا الأم قد احتواها التعب فقامت إلى فراشها. ونفذ السنونو إلى الغرفة وألقى بالياقوتة على المنضدة، ثم طاف يرفرف بجناحيه على الصبي. تحرك الصبي في مضجعه وقال (ما أعذب هذا النسيم العليل، لعلي واجد من المرض خلاصاً) ثم أخذته سنة مريحة.
عاد السنونو إلى الأمير السعيد، وقص عليه ما رأى وما فعل وقال (عجباً! إنني لأشعر بالدفء في هذا الجو البارد!) قال الأمير (ذلك بما وفقت إليه من فعل الخير)
وساد صمت عميق، كان السنونو فيه مطرقاً مفكراً وهو إذا فكر نام!! ولما انبثق الفجر طار إلى النهر واغتسل بمائه فأبصره أستاذ علم الطير، وراعه أن يرى السنونو في فصل الشتاء، وعد هذا من خوارق الطبيعة، فحرر مقالاً طويلاً نشره في الصحيفة المحلية وقرأه
الناس جميعاً ولم يفهموا منه شيئاً لأنه وحشاه بألفاظ لا يفقهون لها معنى. قال السنونو وقد هزه الطرب (الليلة سأطير إلى مصر) وقام يزور آثار المدينة وأعلامها، فحط على منارة الكنيسة، وطابت نفسه بالاستراحة عليها ثم طار، وكان حيثما طار سمع تغريد العصافير يقول بعضها لبعض:(ما أعجب هذا الطائر وما أغربه!) فلما استمتع من رحلته وطلع البدر خف إلى الأمير السعيد وقال له (هل لديك رسالة أحملها إلى مصر، فأنا ميمها الساعة)
قال الأمير السعيد (أيها السنونو الصغير هل لك أن تبقى معي الليلة؟) قال السنونو (إن لي بمصر رفاقاً يترقبون عودتي. وما أحسبهم في الغداة إلا طائرين إلى الشلال الثاني ينعمون بطلعة فرس النهر مضطجعاً بين أوراق البردي ويسعدون بلقيا الإله ممنون جالساً على عرش من الجرانيت يناجي النجم طيلة الليل، حتى إذا أقبلت نجمة الصباح حياها بصيحة عالية ثم لزم الصمت، ويرقبون الأسود الصفراء ذات العيون الخضراء تنساب إلى الشاطئ وتستسقي ثم تزأر زأرة تذوب في صداها زأرة الشلال،) قال الأمير (أيها السنونو الصغير! في أقصى المدينة رجل يقيم غرفة وقد أكب على أوراق بين يديه، وأمامه باقة من زهر البنفسج الذابل، وله شعر مجعد، وشفتاه كجب الرمان، وعيناه ناعستان، أراه جاداً في نسج قصة تمثيلية يعدها لمدير المرسح وقد ألح عليه البرد والفقر فما يستطيع منهما خلاصاً، وما يستطيع معها التحرير،)
قال السنونو وقد رق قلبه (إني مقيم معك الليلة، فهل أنت مرسلي إليه بياقوتة أخرى؟) قال الأمير (لقد نفد الياقوت الأحمر، وما أملك إلا عيني، وهما من الجوهر الأزرق النادر، جلبت حبتاهما من ألف سنة من بلاد الهند، فاقتلع واحدة منهما وخذها إلى الرجل يبيعها للجوهري ويشتري طعاماً وناراً فيقوى على إتمام قصته) قال السنونو (أيها الأمير السعيد، لا قبل لي بما كلفتني، وما أستطيع على بعض هذا صبراً) وذرفت عيناه. قال الأمير (افعل ما أمرتك به) وفعل، وطار إلى القصصي فنفذ إلى غرفته من ثغرة في سقفها، وكان الرجل قد أسند رأسه إلى يديه فصمت أذناه، ولم يسمع حفيف أجنحة السنونو، ثم رفع رأسه وبهره بريق الجوهرة الزرقاء وسط باقة البنفسج الذابل، فأفتر ثغره عن ابتسامة فيها الزهور وفيها الإعجاب وقال: (لقد آن للناس أن يحسنوا تقديري، ما أحسب هذه العطية إلا من
عظيم قد أعجب بقصصي وما أحسبني الآن إلا قادراً على إتمام القصة) ثم أشرقت في نفسه السعادة،.
وفي الغداة طار السنونو إلى مرفأ المدينة وجلس إلى سارية سفينة فأشرف على الحمالين وهم يجتذبون الصناديق الثقيلة وقد شدوها إلى الحبال، وألقي إليهم السمع وهم يصيحون جماعات كلما اجتذبوا صندوقاً فصاح بهم السنونو وقال (أنا طائر إلى مصر) فلم يحفل به أحد، ثم طار في ضوء القمر إلى الأمير السعيد وقال (جئت الآن لأستودعك الله) قال الأمير (هل لك أن تبقى معي الليلة؟) قال (نحن في زمان الشتاء وسيشتد البرد بهذه المدينة ومالي بها بعد اليوم مقام. سأطير إلى مصر فأنعم بشمسها الحارة تنصب على رءوس النخل الأخضر، وأسعد برؤية تماسيحها، وقد اطمأنت إلى أرض رخوة واستمرأت الكسل، ودارت عيونها تبصر ما حولها، وما أحسب رفاقي إلا جادين في اتخاذ أعشاشهم في معبد بعلبك، ترقبهم أعين الحمامات الرقطاوات تتناجى بأعذب الأنغام، أيها الأمير العزيز لست بعد اليوم مقيماً، وما أنسى فضلك وجودك، وسأعود إليك في الربيع وفي فمي جوهرتان جميلتان أعوضك بهما عن الجوهرتين اللتين جدت بهما، ستكون إحداهما أشد حمرة من الورد، والأخرى أشد زرقة من البحر.).
قال الأمير (هنا في الميدان فتاة تبيع أعواد الكبريت، ولقد سقطت الأعواد من يدها وأصابها البلل فما تصلح للبيع، وستلقى الفتاة من أبيها نصباً، وإني لأرها باكية، وأراها حافية القدمين حاسرة الرأس،. . اقتلع عيني الأخرى وجد بها عليها عل أباها يعفيها من سوط عذابه) قال السنونو (أما البقاء معك هذه الليلة فنعم، وأما ما تأمرني به فلا! أتحسبني لا أعصيك في هذه فأقتلع عينك فتصبح مكفوفا!!) قال الأمير (بل لا تعص لي أمراً). . . فما عصاه. . .!
وطاف فوق رأس الفتاة وأسقط الجوهرة في يدها. قالت (ما أجمل هذه الزجاجة! وسارعت إلى بيتها ضاحكة مستبشرة،) وعاد السنونو إلى الأمير وقال له (أما الآن فحق علي البقاء معك، فقد أصبحت كفيفاً ولا غنى لك عني!) قال الأمير المسكين (بل ارحل إلى مصر) قال السنونو (ما بي إلى الرحلة حاجة، ولن أبرح مقامك) وطوى رأسه تحت جناحيه واستكن بين قدمي الأمير)
وفي الغداة جلس على كتف الأمير وأخذ يقص عليه من أنباء الدنيا عجباً، قص عليه أنباء طير مصر المعبود، وكيف وقوفه على ضفتي النيل يمسك بين منقاريه سمكاً ذهبياً، وقص عليه أنباء أبي الهول وقد عمر عمر الدنيا واتخذ الصحراء مسكناً، وأوتي علم كل شيء، وقص عليه أنباء التجار يسيرون الهوينى بجانب إبلهم وفي أيديهم مسابح من الكهرمان يذكرون عليها اسم الله ويسبحون بحمده، وقص عليه أنباء الأرقط الذي يأوي إلى سعف النخل، وله من الكهنة سدنة عشرون يطمعونه فطيراً معسولاً، وقص عليه أنباء الأقزام وما شب بينهم وبين الفراش من حرب في البحر،
وألقى إليه الأمير السمع ثم قال (أيها السنونو الصغير، في حديثك العجب، ولكني أرى في شقاء الرجال وشقاء وفي النساء ما هو أعجب، ليس في العالم مأساة أمعن في الأسى من الشقاء) طر أيها السنونو فوق مدينتي، وائتني بأنباء ما ترى، وما لا أرى.
طاف بالمدينة فرأى دوراً منجدة، وقصوراً مشيدة. وأغنياء ينعمون وعلى أبوابهم سابلة محرمون،!
وطار إلى أزقة يغشاها الظلام فرأى أطفالاً يتضورون جوعاً، ترنو أبصارهم المتلهفة إلى الشوارع المظلمة، ورأى تحت جسر صبيين قد استلقيا على الأرض متعانقين يتقيان شر البرد، ويهمس أحدهما في أذن الآخر (ما أشد الجوع) فينهرهما حارس الليل ويقول (ما ينبغي لكما أن تقيما في هذا المكان) فيفران وقد صب عليهما عذاب عنيف من الجوع والبرد والمطر.!
وعاد السنونو إلى الأمير وحدثه بما رأى، قال الأمير (هذه لفائف الذهب فوق جسدي فانزعها عني ورقة ورقة وهبها إلى الفقراء، فقد جبل الناس على حب الذهب، كأنهم يرون فيه السعادة.)
وقام السنونو ينزع الذهب عن الأمير ورقة بعد ورقة، حتى بدا جسمه كالح اللون شاحباً، وطاف بها على الفقراء يغدقها عليهم أرزاقاً، فتهللت وجوه الأطفال واستخفهم الطرب، فملئوا شوارع المدينة بشراً وسروراً وقالوا (لقد أوتينا طعاماً).
ثم قسا الشتاء على المدينة وصب عليها صقيعه وجليده، وتدلى الثلج من النوافذ، وخرج الناس يبتغون أرزاقهم، وقد اكتسوا الفراء، وخرج الأطفال يلعبون ويتسابقون زحفاً على
الثلوج، كل هذا والسنونو تضنيه تباريح البرد، ولكنه لا يبتغي عن الأمير حولاً. يبتغي في الأرض رزقه من فتات يسترقه من حانوت الخباز، ويبتغي دفئه من تحريك جناحيه الضعيفين، ولكنه أحس أخيراً بدبيب الموت يسري في جسمه المقرور، وأحس بقواه تضعف وتخور، حتى لم يقو على أن يطير إلا مرة واحدة يصعد بها إلى كتف الأمير، وقال (وداعاً أيها الأمير العزيز، أتسمح لي أن أقبل يدك) قال الأمير (إني لسعيد بما عزمت عليه من الرحلة إلى مصر - أيها السنونو الصغير - لقد طال مكثك معي. خذها قبلة من فمي فإني أحبك) قال (ما رحلتي إلى مصر ولكن إلى دار البقاء، وما يفزعني الموت فهو صنو النعاس، أليس هو كذلك؟) ثم طبع على فم الأمير قبلة. . . ثم رفرف بجناحيه. . . وسقط بين قدميه. . . ميتاً،.
في هذه اللحظة سمعت في جوف التمثال قرقعة داويه، وكان قلبه وقد قد من الرصاص قد انشطر شطرين.
وفي الصباح مر عمدة المدينة بالميدان وحوله أعضاء المجلس البلدي فشهدوا التمثال وقد أصبح عاطلاً من حلاه، وقال العمدة (ما أقبح منظر الأمير السعيد!) قال أعضاء المجلس (حقاً ما أقبحه!) وكانوا دائماً يرددون ما يقوله العمدة - ثم صعدوا إلى التمثال ليتبينوا شأنه وقال العمدة (لقد ضاعت حلاه، وسقطت عن قبضة سيفه ياقوتها الحمراء، وسقطت من عينيه جوهرتاهما الزرقاوان، وتعطل جسده عن لفائف الذهب، وهو بهذا لا يفضل الشحاذ إلا قليلاً) قال أعضاء المجلس (وهو لا يفضل الشحاذ إلا قليلاً) قال العمدة وهاكم طائراً قد مات بين قدميه، أرسلوا في المدينة إلى الطير نذيراً ألا يموت أحد في هذا المكان، وحرر كاتب المدينة إعلاناً كتب فيه (ممنوع موت الطيور هنا).
دكوا تمثال الأمير السعيد، وما بهم إليه من حاجة بعد أن زال عنه جماله، ثم صهروا معدنه، وعقد العمدة مجلساً يتشاورون فيما يستخدم فيه معدنه المصهور،.
قال العمدة: (ما أرى إلا أن تعملوا منه تمثالاً، ويكون التمثال لي) وقال كل عضو من أعضاء المجلس: (ويكون التمثال لي) فدبت بينهما الشحناء، وماج بعضهم في بعض وما زالوا مختلفين،.
قال أحد العمال الذين يصهرون معدن التمثال (هذه قطعة من الرصاص لا تذوب في النار
ولا تلين) والقى بها على كومة القمامة، وكان على الكومة جثمان السنونو)
فلو قال الله لملائكته ائتوني باثنين من أعز ما لقيتم في المدينة، وأتاه الملائكة بقلب الأمير وجسم الطائر - لقال لهم (صدقتم فيما اخترتم - وسعت جنتي هذا الطائر الصغير يغرد فيها، وهذا الأمير السعيد يسبح بحمدي)
أحمد الطاهر
الكتب
بحث في نقد الأدب العربي
بقلم محمد بديع شريف
مؤلف هذا الكتاب الموجز شاب عراقي، يتلقى علومه في مدرسة دار العلوم، تكلم فيه عن النقد في الأدب العربي من فجر تاريخه حتى يومنا هذا، فأرانا كيف كان أهل الجاهلية يتحاكمون في أشعارهم إلى النابهين منهم كالنابغة وأضرابه، ثم قص علينا حديثاً طريفاً عن النقد في صدر الإسلام وفي عهد بني أمية مشيراً إلى ما كان عليه أهل هذين العصرين من سلامة الذوق وحسن الفهم والنزاهة كما يتضح فيما أورده من حديث عقيلة بنت عقيل ابن أبي طالب مع جميل وكثير والأحوص، وانتقل إلى العصر العباسي فأرانا كيف كان الخلفاء يهتمون بالنقد ويفطنون إلى موازينه وأوضاعه، وأخيراً تكلم عن النقد في أيامنا ويعجبني منه قوله في ذلك (والنقد في أيامنا يجري في البيت والبيتين، وهو عند الصديقين إلى تقارض المدح أقرب منه إلى النقد، وعند المغيظ المحنق أبعد عن النقد وأقرب إلى السباب، والمنصف بينهما قليل بل من القليل أقل).
وختم المؤلف كتابه بكلمة عن النقد وموازينه وطرقه مورداً في ذلك كثيراً من الأمثلة التي تدل على صدق نظره وحسن فهمه وسلامة ذوقه، وهي باكورة تبشر بمستقبل أدبي باهر لهذا الطالب النجيب.
أما اسم الكتاب فقد يبدو لي غريباً أو منحرفاً عن موضوعه فكان أولى به أن يسميه بحث في طرق النقد في الأدب العربي، فهو لا ينقذ الأدب العربي كما يشعر بذلك عنوانه، ولكنه يبحث في أساليب النقد في هذا الأدب قديمه وحديثه.
م. الخفيف
مسعود
تأليف محمود أبو النجاة
يتوق كثير من شبابنا اليوم إلى التأليف، فأول ما يستهوي الشاب في مستهل حياته الأدبية، فترة المطالعة والتأمل والاستعداد، أن يكون له كتاب يقرؤه الناس. لا جناح على الشاب أن
يعمل على رفع نفسه، بيد أن لكل غاية وسائلها ولكل أمر عدته، ولابد لمن يضطلع بالتأليف أن يكون له من الخبرة والنضوج ما يكفل له النجاح في هذه المهمة الشاقة، أما أن يعمد الشاب إلى التأليف وهو لم يدر بعد ما القراءة، فهذا إلى العبث أقرب منه إلى الجد، بل هو الهزل بعينه، وهذا الكتيب الذي أحدثك عنه مثل من أمثلة التسرع والشطط، فهو رواية شعرية في موضوع تافه لا يليق حتى الأسلوب (الحواديت) وحسبك أن تقرأ حواراً كهذا ولو على سبيل التندر والفكاهة
مسعود - ما العشاء الليلة؟
سعيد - إنه جبن وعدس
مسعود (متأثراً) - كنت أرجو الفرخة
زينب - ماتت الفرخة أمس
ثم اقرأ إحدى أغانيه وهي من أجود مقطوعاته
بسم الصبح ابتساماً
…
فيه آيات الجمال
فانحنى الزرع احتراماً
…
في سكون وجلال
وشعاع الشمس ضاءا
…
يملأ الآفاق نورا
وسرى الزهر هواءا
…
يملأ الدنيا عبيرا
ودونك حواراً لذيذاً بين المحضر والعمدة
المحضر: كم يملكون من العقار؟
العمدة: عشرون فداناً ودار
الحد من جهة الشمال: أرض مسطحة بوار
ومن الجنوب المصرف: والغرب أحمد ذو الفقار
والرواية كلها على هذا النحو وكم وددت لو اتسع المجال لأذكر لك طرفاً من ذلك الحوار البديع بين النائب والمحامي في الجلسة. . .!
وحي النسيب في شعر شوقي
تأليف أحمد محمود الحوفي بدار العلوم
حاول المؤلف الشاب أن يبرهن على صدق عاطفة الحب عند شوقي، أو بعبارة أخرى أراد أن يقيم الدليل على أن الغزل في شعر شوقي نتيجة غرام حقيقي ملك قلب الشاعر الكبير ليبطل بذلك حجة الذين يقولون أنه غزل لم تلده عاطفة ولم يبعثه حب. ابتدأ المؤلف الفاضل كتابه بكلمة في الغزل وأنواعه، ثم تكلم عن العلاقة بين الحب والشعر، وذكر طرفاً من غزل شوقي في الصبا والكبر، ثم شرح بصره بنفسية المحبين، وتعرض لشرح بيئته وصور نزعته إلى الوصف وصلتها بالحب.
ولكنه لم يخرج في براهينه كثيراً عن ذكر أبيات شوقي في الغزل مستدلاً بها على صدق حبه مع أن تلك الأبيات التي يذكرها من ينكرون عليه هذا الحب مستشهدين بوجودها في مطلع بعض قصائده دون مناسبة أو داع، وكان أولى به أن يسلك في البرهان طريقاً غير هذا، فان إثبات مواقف معينه أو إقامة الدليل على صفة خاصة في حياة شاعر لا تتأتى إلا بذكر حوادث معينة واضحة، أو الإتيان بقرائن قوية توضح الغرض من شعره.
على أننا نحمد لهذا الشاب وأقرانه من طلاب دار العلوم نشاطهم وإقبالهم على الأدب العربي بحثاً وتنقيباً، ويسرنا بنوع خاص أن ينهض الشباب لدراسة شعر شوقي من جميع نواحيه، ولنا أن نعتبر هذا الكتاب باكورة طيبة لهذا الشاب الأديب.
م. الخفيف
المدينة الإسلامية وأثرها في أوروبا
تأليف محمد سعيد بخت ولي
دعا المؤلف إلى نشر هذا الكتاب كما يتضح من مقدمته ما يراه من إقبال الشبان على دراسة مدنية الغرب مع إغفالهم مدنية العرب والإسلام، ولقد تكلم في هذا الكتاب الصغير عن عظمة الإسلام في أول نشأته، ثم تقدم المسلمين في العلوم والمعارف والآداب، ثم عن قوى الإسلام البرية والبحرية في شتى عصوره، ثم عقد فصلاً عن مبلغ ما أفاده أهل الغرب من الإسلام مستشهداً بعبارات من كلام مؤرخيهم
وإنك لتلمس غيرة المؤلف وحماسته للإسلام في كتابه هذا على صغره، فلا يسعك إلا أن تشكره على هذه الأريحية، بيد أن الموضوع أوسع من أن يلم به كتيب كهذا لا تزيد
صفحاته على السبعين.
م. الخفيف
العامي النبيل
تأليف موليير وتعريب فؤاد نور الدين
عرب هذه الرواية الظريفة التي تعد إحدى طرف الأدب الفرنسي شاب من شباب سوريا، ولا ريب أن حاجة العالم العربي في هذه الأيام إلى تعريب الآثار الغربية القيمة، حاجة شديدة ملحة، بيد أن الترجمة ليست كما يتوهم البعض من السهولة، وفضلاً عن ذلك فليس كل كتاب بصالح للنقل إلى العربية، وأكبر ظني أن معرب هذه الرواية لم يتوخ الدقة في الاختيار، فالرواية يغلب عليها عنصر الفكاهة، وأسلوب الفكاهة في لغة غيره في لغة أخرى، هذا إلى اختلاف الذوق العام في أمة عنه في أخرى وخصوصاً في الأدب الفكاهي، وهذه القصة بنوع خاص ينحصر جزء كبير من فكآهتها حول نطق الكلمات وإخراج الحروف فكيف ينقل ذلك إلى العربية؟ نقل المعرب الحروف الفرنسية كما هي، فكان موقفه أشبه بموقف ذلك الذي يتصدى لإضحاكك فلا تفهم ما يريد فتقابله بالوجوم فينقلب مرحه إلى فتور.
غير أني لا أنكر على المعرب ما بذل من جهد وما توخى من كمال كما يتضح في كثير من عبارته.
سعادة الأسرة
للحكيم الروسي الأكبر ليو تولوستوي
نقله إلى العربية (مختار الوكيل)
لا تكاد تمضي في قراءة هذه الترجمة العربية للقصة الروسية البديعة حتى تشعر بدقة المعرب وسلامة أسلوبه من الضعف والابتذال، فألفاظه منتقاة وتراكيبه عربية وجمله متزنة، ثم أنك لتشعر أيضاً بأن المعرب الفاضل يفهم الأصل فهما صحيحاً فلا التواء في الحوادث ولا اضطرب في مجرى القصة كلها، هذا إلى ما يشع من هذه الترجمة من روح
الاتزان والحصافة والشغف بفن القصص مما كان له أكبر الأثر في إنجاز هذا العمل على خير ما يرجى من طالب في كلية الحقوق لما يزل بين أعماله الدراسية المرهقة، وحسبك أن تقرأ هذه الفقرة من مقدمة المعرب لتعرف الروح التي سيطرت عليه أثناء التعريب فهو يقول (أما بعد، فغاية ما أطمح فيه من نقل هذه القصة إلى لغتنا هو تغذية الفن القصصي الناشئ عندنا بضم عناصر قوية خالدة من الفن العالمي إليه، فهل يا ترى ستحقق هذه الأمنية؟ علم الله أنها غاية ما أتوق إليه. . .؟)
ولا شك عندي أن تعريبه جاء مصداقاً لمقدمته المهذبة.
ديوان الفراتي
نظم محمد الفراتي
مطبعة باييل أخوان - دمشق
يقع هذا الديوان في أربعين ومائتي صفحة من القطع الكبير، جيد الورق متقن الطبع قسم ناظمه ما جاء فيه من قصائد إلى مصريات وسوريات وحجازيات وعراقيات وبحرينيات! ولست أذكر ديواناً في هذا الحجم تنوعت قصائده على نحو ما تنوعت القصائد في هذا الديوان، فلقد نظم الشاعر في الاجتماعات وفي شكوى الزمان وفي الرثاء والمديح والعتاب، وتغني بحنينه إلى البادية، وتفاخر بمجد الأوائل، ونظم يستنهض أهل عصره، ثم نظم في الوصف فوصف الكهرباء وصاغ شعراً في الأكسجين والنتروجين! وناجى الكواكب، ولم تكفه الأرض بما رحبت فطار على أجنحة الشعر إلى المريخ ونظم قصائد في وصفه وشط به خياله فاخترع ألفاظاً أشار في الحواشي إلى أنها من لغة المريخ!!
وهكذا أطلق الشاعر العنان لخياله في غير تحفظ ولا احتراس وسجل كل ما جادت به قريحته من غير حذف ولا إصلاح
من أجل ذلك أرجع أن الفراتي الفاضل يعنى حقاً ما أثبته في مقدمة ديوانه إذ يقول (لم أنظمة للناس وإنما نظمته لنفسي، وحسبي أن نفسي عنه راضية، ولم أقدم على نشره ليذيع اسمي ويشتهر، وإنما نشرته حرصاً عليه من الضياع) أقول أني أرجح أنه يعني ما كتب، وقد كنت أحسب ذلك منه تواضعاً أول الأمر، على أنني لست أقصد بذلك أن الديوان لا
يستحق النشر، كلا ففيه عدد من القصائد يستحق الشاعر من أجلها التهنئة الصادقة، ثم أن شعره في الجملة مشرق الديباجة جيد الصياغة بله تنوعه المدهش، ومن قصائده البارعة قصيدته المسماة (درة في جبين الدهر) وأختها (نفثت مصدور) وقصيدته تحت عنوان (يا ابنة عمي) ومرثيته لسعيد وغيرها.
وإنما أقصد بما ذكرت أنه كمان ينبغي أن يحذف الشاعر من ديوانه بعض القصائد التي لا تسمو إلى مستوى شعره، ولئن فعل فما كان ذلك بضائره، فبضاعته موفورة، ولا سيما وأن هذا هو الجزء الأول، وخير له أن ينتقي من الجزءين ديواناً جيداً. ثم ليسمح لي أن أنبهه في احترام إلى ألفاظ استعملها بكثرة وهي في زعمي مما يمجه الذوق الشعري (كالقطقط والعجنفل والصنبر ونفنف اللوح وغيرها مما يجب أن يخلص منها شعر الفراتي.
صحيفة مدارس الأقباط الخيرية الكبرى بطنطا
هذه الصحيفة التي تفضل حضرة المربي الفاضل ناظر مدارس الأقباط بطنطا بإهدائها إلى الرسالة، هي باكورة أعمال الطلبة وأول ثمرة لجهودهم الأدبية الفتية، فإذا قلبتها أعجبك وسرك أن تكون تلك الباكورة على خير ما تكون عليه المجلات المدرسية من دقة وجمال وحسن نظام، وإذا قرأتها حمدت لأصحابها روحهم الطيبة التي تتجلى في إخلاصهم لمدرستهم وبلادهم، فالصحيفة مليئة بدروس الوطنية، حافلة بالأبحاث المتنوعة في الاجتماع والاقتصاد والتاريخ والعلوم والآداب. والذي تغتبط له بنوع خاص أن هذه الأبحاث التي كتبها الطلاب من عملهم لم يعمدوا فيها إلى نقل أو تلفيق، بل هي أصدق صورة لعواطفهم وآمالهم، وإذا أنت قارنت بين هذه الصحيفة وأمثالها مما يظهر في مدارسنا اليوم، وبين الصحف التي كانت تصدرها المدارس منذ بضع سنوات أحسست بتقدم الطلاب في فهم العالم الذي يحيط بهم، واستبشرت بالخير لبلادنا على أيدي هؤلاء الشبان الذين نعتبرهم عدة الحاضر ورسل المستقبل.
صحيفة مدارس الأهرام
تفضل حضرة المربي الفاضل ناظر مدارس الأهرام فأهدى صحيفة مدارسه إلى الرسالة أيضاً، وتلك الصحيفة في مرحلتها الثالثة، متقنة الطبع، أنيقة الشكل، كبيرة الحجم، وهي
كأختها السالفة دقة وحسن نظام، تشرق صفحاتها الغر بقيم البحث في شتى المواضيع، كما أنها ثمرة خالصة لجهود الطلاب، ومرآة صادقة لعواطفهم وميولهم، التي تنهض دليلاً على وصول التعليم الأهلي في بلادنا إلى درجة يغبط عليها، فالصحيفتان ناطقتان بما يرفع رأس رجال التعليم الحر، وما جاء فيهما على ألسنة أبنائهم شاهد بما يبثونه في قلوبهم من الفضائل وما يغذون به عقولهم من المعارف.
هذا وتجد في الصحفيتين طائفة من الصور البديعة للجمعيات المدرسية المختلفة، والفرق الرياضية تتوج كلاً منهما صورة صاحب السمو الكشاف الأعظم أمير الصعيد كما تتصدر الصحيفتين صورة جلالة الملك مما يكسبهما جلالاً وعزة.