المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 480 - بتاريخ: 14 - 09 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٨٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 480

- بتاريخ: 14 - 09 - 1942

ص: -1

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

تخطيط القاهرة - فكاهات هندسية - النور القدير على تمزيق الظلمات - أبناء دار العلوم بوزارة المعارف

تخطيط القاهرة

أيام هذا الصيف آذتني أعنف الإيذاء، بسبب صعوبة المواصلات، الصعوبة التي خلقها الازدحام في الترام والاتوبيس في أكثر الأوقات، ولا سيما وقت انصراف الموظفين، فكنت أقطع الطريق على قدميَّ في حرِّ الظهيرة من وزارة المعارف إلى باب الحديد، وكانت الظروف قضت بأن تكون محطة المترو في باب الحديد بضعة أسابيع.

وقد غنمت من هذه الظروف غنيمتين: الغنيمة الأولى هي لفح الوجه بوهج الشمس، فما رآني صديق إلا توهم أني قضيت على شواطئ الإسكندرية شهراً أو شهرين. وليت الأمر كان كذلك، فقد سمعت بعد فوات الوقت أن شواطئ الإسكندرية كانت فتنة العيون والقلوب في هذا الصيف!

أما الغنيمة الثانية، فهي أغرب وأنفع، لأنها هدتني إلى أفكار تستحق التسجيل، أفكار متصلة بتخطيط القاهرة، عاصمة الشرق بلا نزاع، وأعظم مدينة دينها الإسلام ولغتها العربية.

هداني السير على قدميَّ في حرِّ الظهيرة إلى القول بأن القاهرة لم تجد مهندسين يراعون أصول الانسجام والتنسيق.

وقبل أن أفصِّل هذا القول، أرجو من زار القاهرة أن يتمثل شارع محمد علي فهو الشارع الوحيد الذي روعيت فيه أصول الانسجام والتنسيق، بحيث يجوز لك بعد مراعاة الأدب مع الله أن تقول إنه بين شوارع القاهرة واحدٌ بلا شريك.

تقف على رأس هذا الشارع من ميدان العتبة الخضراء (ميدان الملكة فريدة) ثم تنظر فتروعك منارة جامع السلطان حسن ومنارة جامع الرفاعي، مع أن بينك وبين هاتين المنارتين مسافات طويلات.

فما أسم المهندس الذي خط هذا الشارع منذ أعوام طوال؟

ص: 1

وأين قبره لننثر عليه زهرات الإقحوان المقطورة على التنسيق؟

وفي ميدان العتبة الخضراء يبدأ شارع حديث العهد، شارع أنشأناه بعد أن كثر عندنا المهندسين، وهو شارع الأزهر الشريف.

وهنا أيضاً أرجو من زار القاهرة أن يتمثل واجهة الأزهر وما يصحبها من منارات رشيقات. . . ليعرف كيف كان من الجناية على تخطيط القاهرة أن تحجب واجهة الأزهر عمن يقف متطلعاً إلى محاسن القاهرة في ميدان العتبة الخضراء.

وما يقال في شارع الأزهر يقال في شارع الأمير فاروق، فقد كان يجب أن يستقيم هذا الشارع بحيث تمكن رؤية ميدان فاروق، وعلى ناصيته سيل أم عباس، لمن ينظر فيه من ميدان العتبة الخضراء.

فما اسم المهندس الذي خطط هذين الشارعين قبل بضع سنين لنغري به أحد المستجوبين في مجلس النواب؟

أنا لا أدعو إلى أن تكون جميع الشوارع بريئة من الانحراف إلى اليمين أو إلى الشمال، فذلك تكليف بما لا يطاق، وإنما أدعو إلى مراعاة الذوق في إبراز محاسن القاهرة عند التخطيط، ولتوضيح هذه الفكرة أقول:

أجمل واجهة في قصور القاهرة هي واجهة قصر عابدين، فهل يرى تلك الواجهة من يمرَّ بميدان الإسماعيلية، مع أنه منها قريب؟

ومن الواجهات الجميلة واجهة محطة باب الحديد، فهل يراها من يقف في ميدان إبراهيم؟

وعلى من يرتاب في صحة القول بأن مدينة القاهرة لا تجد من يفكر في الانسجام والتنسيق، على من يرتاب في صحة هذا القول أن يزور حيّ الأزهر في أحد الأيام ليرى العجب العاجب في تعمد الخروج على الذوق، فهنالك قامت بناية عالية في العهد الحديث، بعد إكتهال الزمان وبعد الشعور بقيمة التنسيق في التخطيط، فكانت حجاباً كثيفاً يفصل بين واجهتين جميلتين: واجهة الجامع الأزهر وواجهة جامع الحسين.

إن الذوق من أطيب الأرزاق، فهل يتفضل الله فيزيد مهندسي القاهرة ذوقاً إلى ذوق؟

فكاهات هندسية

حين زرت البصرة في سنة 1938 تلّطف معالي السيد تحسين علي فمضى بي في سيارته

ص: 2

لنزهة جميلة تخترق غابة النخيل في طريق أسمه (طريق أبي الخصيب) وهو طريق كثير الاعوجاج بلا موجب معقول، فلما سألت معاليه عن سبب ذلك الاعوجاج ابتسم وقال:(كان المهندس الذي شق هذا الطريق يحب المال بعض الحب، فاعوج الطريق بعض الاعوجاج!!) فأدركت أن أصحاب الأملاك كانوا أصحاب الرأي في تخطيط ذلك الطريق.

وفي السنة التالية زرت الدير المحرَّق فرأيت في الذهاب إليه طريقاً كثير الاعوجاج بلا موجب معقول، فلما سألت عن سبب ذلك الاعوجاج كان الجواب أن المهندس الذي شق الطريق عُرف بشراهة الجيب فكان يراعي خواطر أصحاب الأملاك.

فليحذر من يشق طريقاً معوَّجاً في أي بقعة بعد اليوم، فقد يُتَهم بأنه من سلالة المهندس الذي شق طريق الدير المحرَّق، أو المهندس الذي شق طريق أبي الخصيب.

النور القدير على تمزيق الظلمات

هو نور الله، النور الغَّلاب القَّهار الذي لا يصده حجاب، ولو كان في كثافة أنفس المحجوبين عن كرم واجب الوجود.

وما تمر بنا لحظة من لحظات الكدر أو الغيظ إلا كانت شاهداً على أن إيماننا بالله إيمانٌ مدخول.

ولا تمر بنا لمحة نعتمد فيها على هذا المخلوق أو ذاك إلا كانت بعض دليلاً على أن ثقتنا بالله مزعزعة الأركان.

فما بالُ قومٍ تطير نفوسهم شَعاعاً حين يهدَّدون بغضب بعض الخلائق؟ وما بال قوم لا يستطيبون النوم إلا حين يطمئنون إلى أنهم تحت حماية بعض الخلائق؟

لا يجوز لمن يخاف الناس أن يرجو الله، فإنه عز شأنه لا يسبغ نعمته الصحيحة إلا على المؤمنين، والمؤمن لا يخاف الفانين.

وماذا يملك بنو آدم حتى يرجوهم من يرجو، أو يخافهم من يخاف؟

الأمر كله لله، ولا أمر لمخلوق، وإن زيّن الوهم للمخاليق أنهم أقوياء.

جرْب الثقة بالله، إن كنت لم تجرِّبها من قبل، فسترى أن الأنس بالله يرفع عنك آصار الثقة بالناس، وما أعتمد أحدٌ على خلق الله إلا باء بالخذلان.

كن رجلاً مؤمناً في جميع أحوالك، والرجل المؤمن ينظر إلى الناس كما ينظر الأسد إلى

ص: 3

النمال.

تواضَعْ لله وحده، ولا تتواضعْ للناس، فهم بحكم فنائهم أذلاّء.

تواضع لله أدباً لا خوفاً، فهو يحب أن يراك في أخلاق السادة لا أخلاق العبيد.

لا تعامل باللطف والرفق إلا أهل اللطف والرفق، ثم أمنح ظلمك وعدوانك لمن تحدثهم النفوس الأواثم بالتطاول عليك.

نَزِّه نفسك عن الكفر بالله، ومن صور الكفر الموبق أن تقيم وزناً لمخلوق لا يؤمن بفكرة العدل، ولا يجعل هواه من هواك في الاحتكام إلى صاحب العزة والجبروت.

إن زمانك قد أصيب باختلال الموازين، ولم يبق من أهله من تحدثك ملامح وجهه بالخوف من الظلم والكذب والافتراء، فكن أوحد زمانك في الفرار من تلك الأخلاق السُّود، ولا عليك أن تعيش عيش الفقراء، فما يغتني في أزمان الانحطاط غير التجار السفهاء.

وما أوصيك إلا بما أوصيت به نفسي، فما يستطيع أبن أنثى أن يقول أني استعنت به في جليلٍ من الأمر أو دقيق، ولا خطرٍ في بال مخلوق أن ينال ودادي بغير الصدق في الوداد.

دنياكم سخيفة يا بني آدم، وأنتم منها أسخف، وسبحان من تجاوز عنها وعنكم فأمدّها وأمدّكم بالشمس والقمر، والماء والهواء!

لست منكم، ولستم مني، فبينيَ وبين الله عهد وثيق، وإلا فكيف جاز أن تحاربوني عشرين سنة، ثم لا تكون شكواي إلا من متاعب الغنى والثراء؟

آمنت بالله، آمنت، آمنت، وإني لأكاد أصافحه بيمناي.

ومن أنت يا ربي؟ أجبني، فأنني

رأيتك بين الحُسن والزهّر والماءِ

في كلية الآداب

كتب إليَّ طالبٌ لا أسميه (إشفاقاً عليه من بعض المصاعب) كلمةً يقول فيها إن المحصول الأدبي في مجلة الرسالة قد استهواه فنقله من قسم اللغة الإنجليزية إلى قسم اللغة العربية، فماذا أقول في توجيه ذلك الطالب الأديب؟

أقول أن قسم اللغة الإنجليزية مطالبه أسهل من مطالب قسم اللغة العربية، وإليه البيان:

المتخرجون في قسم اللغة الإنجليزية لا يطالبون بالتفوق الذي يسمح بأن يكونوا من شُرَّاح الأدب الإنجليزي في مناحيه العقلية والاجتماعية، ولا يراد منهم إلا أن يكونوا أساتذة

ص: 4

صالحين لتدريس اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية والثانوية.

أما المتخرجون في قسم اللغة العربية فهم مطالبون بالتفوق المطلق، التفوق الذي يسمح بأن يكونوا من أئمة الأدب العربي في هذا الجيل.

يضاف إلى ذلك أن كلية الآداب شحيحة بالرجال، فمنذ إنشائها في سنة 1908 إلى اليوم لم يبرز من أبنائها غير آحاد، لأن المثل الأعلى في تصور كلية الآداب لا يسمح بنبوغ العشرات والمئات. ومن حسن الحظ أنها كانت كذلك، ليظل النبوغ الأدبي بعيداً من أوضار النسبة العددية، ولتظل كلية الآداب كلية آداب.

والحياة الجامعية في مصر تؤرخ بنشأة هذه الكلية، فهي النواة الصحيحة للجامعة المصرية، وهي الفيصل بين عهدين: عهد المحاكاة وعهد الإبداع.

وكان قسم اللغة العربية أساس كلية الآداب، كما كانت كلية الآداب أساس الجامعة المصرية، وهي عصارة الأماني الوطنية، فقد أنشئت لأسباب ما أظنها تخفى عليك، إلا أن يجب العلم بالتاريخ القديم مع جواز الجهل بالتاريخ الحديث!!

وكليتنا الغالية موسومة بقوة الروح، فما ذكرت الحياة الجامعية إلا كانت أول ما يخطر في البال، ولا جاز الاضطهاد إلا على أبنائها الأوفياء، لأنهم سبقوا زمنهم بأزمان.

فإن وجدت من قوة العزيمة ما يساعد على أن تكون من أساطين قسم اللغة العربية فأقبل غير هياب، حرسك الله ورعاك!

أبناء دار العلوم بوزارة المعارف

أمضى معالي الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا قراراً بترقية جماعة من كبار الموظفين بوزارة المعارف إلى الدرجة الأولى الفنية وعلى رأسهم الأستاذ جاد المولى بك كبير مفتشي اللغة العربية، فالتفت الذهن إلى نصيب أبناء العلوم من الترقيات بوزارة المعارف، وقد طالت شكواهم من الإغفال والإهمال عدداً من السنين الطوال.

والظاهر من البحث الذي بذلته في درس هذه القضية أن أبناء دار العلوم لم يفز منهم بالدرجة الأولى قبل جاد المولى بك غير رجلين أثنين: عاطف بركات وعبد العزيز جاويش.

ومع هذا فالطعم مختلف كل الاختلاف: فالمغفور له عاطف بركات رقَّته وزارة الحقانية لا

ص: 5

وزارة المعارف، لأنه كان ناظر مدرسة القضاء الشرعي، وكانت تلك المدرسة تحت إشراف وزارة الحقانية، وكان مفهوماً أنها تملك في إنصاف الرجال ما لا تملك وزارة المعارف.

أما الشيخ عبد العزيز جاويش فلم يراع في منحه الدرجة الأولى أنه من أبناء دار العلوم، وإنما روعيت شخصيته العظيمة الفخيمة، وكان رجلاً ملء العين والقلب، وكان يتكلم الإنجليزية والألمانية والتركية بسهولة تستوجب الالتفات، وكان له في خدمة الوطنية تاريخ طويل عريض، فصار من الصعب أن تجعله وزارة المعارف في منزلة أي كبير من كبار الموظفين.

فكيف ظفر جاد المولى بك بالدرجة الأولى، وهو رجل لا يعرف غير عمله الرسمي وعمله الأدبي في هدوء وسكون، ولم يعرف عنه التقرب إلى هذا الحزب أو ذاك، ولو شئت لقلت إنه ضعيف الحيلة إلى أبعد الحدود؟ كيف ظفر بهذه الدرجة؟ كيف؟ كيف؟ وهو لا يرى وزير المعارف إلا إن دعاه للتشاور في بعض الشؤون، ولا يعرف من أندية القاهرة غير القهوة التي يَسمُر فيها مع بعض المفتشين بميدان الإسماعيلية في مساء كل خميس؟. . . تلك إلتفاتة نبيلة من الهلالي باشا أراد بها إعزاز اللغة العربية، ولعلها كرمٌ أضفاه الله على رجل يصلي ويصوم، في زمن جُهلت فيه آداب الصلاة والصيام عند بعض الكبار من الموظفين زاده الله فلَاحاً إلى فلَاح.

زكي مبارك

ص: 6

‌تاريخ التاريخ

للدكتور محمد مصطفى صفوت

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

كان التاريخ أول أمره قصصاً يختار القصاص من أنبائه ما بهرهم وما يستثير إعجاب الجمهور، وكان يدور حول حوادث الآلهة والأبطال فكان عند اليونان مصوغاً شعراً قصصياً يرتل وينشد، شعراً يتغنى بمجد اليونان، ويشيد بما كان لأبطالهم من بلاء في الحروب؛ وأول أثر تاريخي وصلنا في ذلك القالب شعر (هوميروس).

ومثل ذلك كان موجوداً عند الشعوب التي لم تبلغ بعد حظاً من الحضارة، تاريخها قصص يتناقله الرواة ومركزه الأبطال. ظهر ذلك عند العرب في الجاهلية، وعند الترك قبل دخولهم المسيحية، وعند الفرس القدماء وغيرهم. ويغلب في ذلك النوع من التاريخ الأسطورة أو الأخبار، لأن العنصر الشخصي ظاهر فيه من ناحية الشاعر والناقل والقاص، فكل منهم ينتقي ما راقه - في الغالب - دون نقد أو تفكير، ثم يضيف إليه ما يضيف، أو ينقص منه ما شاء أن ينقص. فأمثال هوميروس ينسبون إلى أبطالهم وآلهتهم ما شاءوا من أعمال لا يستطيع العقل تصديقها، وسبح بهم الوهم والخيال. . . ولم يخف ذلك على بعض عقلاء اليونان من أمثال (أيزوكراتيس الذي يقول:(فلم ينسبوا إليهم - أي إلى الآلهة والأبطال - الوقوع في أسر من يموت ويفنى، ولكنهم يمثلونهم آكلين أطفالهم، معذبين آباءهم، ومقرنين أمهاتهم في الأصفاد).

وأول من أهتم بالتاريخ وبذل جهداً لجمع الأخبار بنفسه، ويهتم بالناحية الجغرافية في دراسته، ويعرض الآراء المختلفة أمام جمهرة قارئيه أو سامعيه ليختاروا منها ما شاءوا. ولكن هيرودتس كان قبل كل شئ قاصاً إخبارياً، يجمع ما له قيمة في نظره وما يلذ جمهوره فهو في الواقع أب المؤرخين القاصِّين الإخباريين.

وتمت المرحلة الثانية في البحث التاريخي على يد ثيوكيديدز مؤرخ حرب البلبونيز - انتقد ذلك الرجل سرعة الناس إلى التصديق، وعدم تمييزهم ما بين الصحيح وغير الصحيح ولذا فهو يهتم بتنظيم حقائق هذه الحرب حتى يبين الحوادث؛ وهو يعني بنقد حقائقه ويقول:(إنني ما وصفت شيئاً رأيته، أو سمعته، ولم أحققه بكل تدقيق وعناية).

ص: 7

ويختلف في مرماه عن هيرودوتس فهو يرمي إلى غرض تعليمي وإلى إعطاء دروس في السياسة حقيقية.

ولم تهتم حكومة في القديم بتدوين أخبارها مثلما اهتمت الحكومة المصرية. فعنى الملوك والأمراء والعظماء بتسجيل أعمالهم، وتدوين حوادثهم، ووصف نواحي حياتهم المختلفة: الحياة السياسية والدينية والاجتماعية، وحاولوا إعطاء الخلف صورة واضحة عن حياة السلف. وكانت فلسفتهم التاريخية الاستعداد في هذه الحياة الدنيا للحياة الآخرة، فالحياة الدنيا ليست دار قرار ولا دار عدالة. وكما أهتم المصريون القدماء بتدوين أخبارهم حاولوا تشويه معالم تاريخهم. فكانت هناك محاولات فردية قام بها بعض الملوك لطمس معالم تاريخ من سبقوه. ولكن لحسن الحظ لم تنجح مثل هذه المحاولات نجاحاً تاماً.

وقد ظل مظهر القصص والسياسة يغلبان على دراسة التاريخ مدة طويلة في العصر القديم. ومن بعد عهد المؤرخين الرومان من أمثال سالوست وليفي وتاكيتوس أصبح التاريخ فرعاً من فروع الأدب وانحطت دراسته. ولقد أغفل المؤرخون القدماء ما نسميه الآن بالتاريخ العام فما كانوا يعترفون بغير الإغريق والرومان؛ وما عداهم من الأمم فكانوا (متبربرين).

ثم جاءت المسيحية ونمت، فلم يعد المؤرخون يهتمون بأنباء الوثنية أو بالماضي الوثني، وإنما اهتموا بالمسيحية ذاتها. وكان للمسيحية فلسفتها التاريخية الخاصة بها، فحوادث هذا العالم - كما ترى - سائرة وفق نظام إلهي لتمهيد الطريق لظهور المسيح؛ وعلى فكرة ظهور المسيح يتوقف تاريخ ما قبل المسيح وما بعده، فبعده تقاسي الإنسانية أنواع العذاب إلى يوم القيامة. وقد وجدت هذه الفلسفة أحسن تعبير لها في كتاب القديس أغسطين (مدينة الله). وقريب من هذا فلسفة المسلمين التاريخية في العصور الوسطى إذ يرون العالم سائر وفق نظام وضعه الله له إلى يوم القيامة، وفي ذلك اليوم يجزي الله الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

أما نظرية التطور والتقدم فلم تظهر واضحة في العصور الوسطى، وإن كانت مبادؤها قد وضعت في الماضي الإغريقي. لأن الفكرة المنتشرة في أوربا في هذه العصور كانت فكرة الخطيئة الأولى، خطيئة آدم وحواء وليس هناك مجال للتقدم والتحسن. ويغلب على التاريخ

ص: 8

في ذلك الوقت نوع الجوليات، يضعه في الغالب رجال الدين الذين يهتمون بانتقاء المعجز والغريب من الأخبار، وربما كان خير مثل لهؤلاء جريجوري التوري. أما في الشرق عند المسلمين فكانت الحالة قريبة الشبه فكان الاهتمام (بالنقل) هو الظاهرة البارزة، وكانت النزعة الدينية غالبة، أما روح النقد الحقيقي كما نعرفه في الوقت الحاضر فما كانت موجودة إلا عند القليل.

سادت فكرة تفوق القديم بصفة عامة في العصور الوسطى، بل كانت مسيطرة على عقول عدد كبير من رجال النهضة. فكانوا يعتقدون في تفوق الإغريق والرومان فهم أرباب العلم والأدب والفن فما وصلوا إليه هو درجة الكمال لا يمكن الزيادة عليه. ولكنه بالرغم من ذلك بدأت تظهر فكرة التقدم واضحة في عصر النهضة نفسه. فكميافلي لا يرى الانسانية سائرة في طريق التقهقر - بدأت تظهر فكرة التقدم واضحة عندما أخذ الإنسان يشعر بأنه حر الإرادة يستطيع تحديد مستقبله إلى حد كبير. فبودن وهو من أعلام المؤرخين يرى أن التاريخ يعتمد على مشيئة الإنسان، ففي كل وقت تظهر قوانين وعادات ونظم جديدة كلها من صنع الإنسان، ويلاحظ قانوناً عاماً هو أنه ليس هناك انحطاط مستمر بل رقي تدريجي.

نشبت إذن معركة بين القدامى والمحدثين، بين الذين يقولون بتفوق الماضي وبين الذين يقولون بنفوق الحاضر، وظهر الإيمان بنظرية التقدم على يد فونتنل في القرن السابع عشر. يقول فونتنل:(ليس هناك فرق بيننا وبين أجدادنا إلا أنهم سبقونا في ميدان العلم فكانوا المخترعين الأول، ولو كنا محلهم لقمنا بمثل ما قاموا به، ولو كانوا محلنا لعملوا مثل ما نعمل، فنحن نجلهم أكثر مما ينبغي كما سيجلنا أبناؤنا فيما بعد). وجاءت ثورة ديكارت الفكرية التي أعلنت استقلال الإنسان في أعماله مؤيدة فكرة التقدم. ويضيف ليبنتز فيقول: (وعلى ممر الأيام سيصل الإنسان إلى درجة من الكمال لا نتصورها اليوم).

ازدادت العناية بالتاريخ في العصور الحديثة لحركة النهضة وللكشف الجغرافي. درس الانسانيون التاريخ، لأنه يفسر لهم العالم الإغريقي والروماني القديم، وكان في نظرهم خادماً للأدب، ولما قامت حركة الإصلاح الديني زادت أهمية التاريخ إذ وجد فيه المصلحون أسلحة قوية ضد ادعاءات البابا؛ واهتم به المفكرون الاجتماعيون لأنه يفسر في

ص: 9

نظرهم نظرية التقدم والنمو. فلا عجب إذا عنى المؤرخون بجمع الوثائق وتنظيمها. والاهتمام بالعوامل الجغرافية في دراسة التاريخ.

ولقد جاء منتسيكو وفلتير وقالوا بقيمة العوامل الطبيعية في تسيير التاريخ (فليست الصدف هي التي تحكم العالم في نظر منتسيكو، فالظواهر السياسية كالظواهر الطبيعية لها قوانينها العامة) ويرى أن الأخلاق تعمل على رفع الشعوب وأن العوامل الجغرافية والمناخية تؤثر في مجرى الحياة الإنسانية. أما فلتير فقد اهتم بتاريخ الشعوب ففي كتابه (عصر لوي الرابع عشر) أعلن أن غايته ليست وصفاً لعمل فرد وإنما لعقل الأفراد وللروح التي تسيطر عليهم. ولقد نحا نحوها الطبيعيون أو الفيزيوقراط وقالوا أن الإنسانية ولو أنها ترتكب كثيراً من الأخطاء إلا أنها سائرة في طريق التقدم، وأن الناس يعملون بوحي قوانين إلهية لا يستطيعون النكول عنها، هذه القوانين ترمي إلى صالح الفرد وإلى صالح الجماعة.

وكان للثورة الفرنسية فلسفتها التاريخية، فكوندرسيه يرى أن التاريخ يوضح نظرية التقدم ويساعد على تعيين اتجاهها في المستقبل، وحوادث التاريخ في اعتقاده تدل على أن الطبيعة لم تضع حداً لنمو الإنسان، وأن رقيه نحو الكمال رهين ببقاء العالم، وأن تقدم الإنسان بطئ تارة وسريع تارة أخرى، ويستطيع الإنسان التكهن بالحوادث إذا عرف القوانين العامة للظواهر الاجتماعية، ويمكن معرفة هذه الظواهر من دراسة التاريخ.

ومن القرن الثامن عشر لم يعد الاهتمام التاريخي مقصوراً على دراسة الأشخاص والشعوب، بل أخذ يمتد إلى دراسة الحضارة أو ما يسميه الألمان وقد زاد الاهتمام بدراسة التاريخ في القرن التاسع عشر على يد نيبور رانكه المؤسس للمدرسة التاريخية الحديثة، فزادت العناية بالرجوع إلى المصادر الأصلية للتاريخ وإلى دراسة نواحيه المختلفة وامتد نفوذ هذه الدراسة إلى بقية أجزاء أوربا وأمريكا.

(البقية في العدد القادم)

محمد مصطفى صفوت

ص: 10

‌مفاوضات الفتح العربي لمصر

للأستاذ السيد يعقوب بكر

- 2 -

(ب) المفاوضة الثانية

ورد لنا عنها روايتان:

الرواية الأولى

1 -

ذكرها أبو المحاسن (ص 9) نقلاً عن ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر قال: (ودخل عمرو إلى صاحب الحصن فتناظرا في شيء مما هم فيه؛ فقال عمرو: أخرج وأستشير أصحابي؛ وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مر به عمرو يلقي صخرة فيقتله، فمر عمرو وهو يريد الخروج برجل من العرب فقال له: قد دخلت فانظر كيف تخرج. فرجع عمرو إلى صاحب الحصن فقال له: إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت. فقال العلج في نفسه قتل جماعة أحب ألي من قتل واحد؛ فأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره من أمر عمرو ألا يتعرض له رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم؛ فخرج عمرو).

فواضح من هذا أن المفاوضة كانت في حصن بابليون نفسه بين عمرو وصاحب الحصن (وهو المقوقس بدون شك؛ لأن ابن عبد الحكم يقول قبل ذلك فيما نقله عنه أبو المحاسن (ص 8) إن المقوقس كان حاضراً الحصن حين حاصره المسلمون).

2 -

وذكرها المقريزي (الخطط ج 2 ص 65 ط النيل) نقلاً عن ابن الحكم أيضاً.

3 -

وذكرها السيوطي (حسن المحاضرة ج 1 ص 64 - 65 ط إدارة الوطن) نقلاً عنه أيضاً.

4 -

وذكرها الواقدي (فتوح الشام ومصر ج 2 ص 30 - 32 ط اليمنية). قال: (. . . وإذا برسول أرسطوليس قد قبل وقال: يا معشر العرب إن ولي عهد الملك يريد منكم أن تبعثوا له رجلاً منكم ليخاطبه بما في نفسه فلعل الله أن يصلح ذات بينكم. . . فلبس عمرو ثوباً من كرابيس الشام وتحته جبة صوف، وتقلد بسيفه، وركب جواده، وسار معه غلامه

ص: 11

وردان، وسار الثلاثة إلى قصر الشمع. . . فدخل عمرو وهو راكب حتى وصل إلى قبة الملك، ورأى السريرية والحجاب وقوف والبطارقة وهم في زينة عظيمة، فلما رأى ذلك عمرو تبسم وقرأ:(فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خيراً وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون). . . فأمروا عمراً أن ينزل عن جواده، فنزل وترجل، وجلس حيث انتهى به المجلس، وأمسك عنان جواده بيده ويده اليسرى على مقبضة سيفه، ونظر إلى زينتهم وزخرفة قصرهم فقرأ:(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون، وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) ثم قال: أعلموا أن الدنيا دار زوال وفناء، والآخرة هي دار البقاء. أما سمعتم ما كان من نبيكم عيسى وزهده وورعه؟ كان لباسه الشعر ووساده الحجر وسراجه القمر. وقد قال نبينا صلوات الله عليه: إن الله أوحى إلى عيسى أن نح على نفسك في الفلوات، وعاتبها في الخلوات، وسارع إلى الصلوات، واستعمل الحسنات، وتجنب السيئات، وابك على نفسك بكاء من ودع الأهل والأولاد، وأصبح وحيداً في البلاد. وكن يقظان إذا نامت العيون، خوف من أمر لابد أن يكون. فإذا كان روح الله وكلمته فخوف بهذا التخويف، فكيف يكون المكلف الضعيف؟ وأول من تكلم في المهد قال: إني عبد الله، فإذا كان أقر لله بالعبودية فلم تنسبون إليه الربوبية؟ تعالى الله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا أشرك في حكمه أحدا، جل عن الصاحبة والأولاد، والشركاء والأضداد. لا صاحبة له ولا ولد ولا شريك له ولا وزير، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انتهاء، ولا يحويه مكان، ليس بجسم فيمس، ولا بجوهر فيحس، لا يوصف بالسكون والحركات، ولا بالحلول والكيفيات، ولا تحتوي عليه الكميات، ولا المنافع ولا الضارات. ثم إنه (يعني عمراً) قرأ (إن كل من في السموات والأرض إلا أتى الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتاهم يوم القيامة فردا). فقال له الوزير: أصح عندكم معاشر العرب أن المسيح تكلم في المهد؟ قال: نعم. قالوا له: فهذه فضيلة قد انفرد بها عن جميع الأنبياء. فقال عمروا: قد تكلم في المهد أطفال منهم صاحب يوسف وصاحب جريح وصاحب الأخدود وغيرهم. فقالوا يا عربي، أتكلم نبيك بغير العربية؟ قال: لا، قال الله في كتابه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء

ص: 12

ويهدي من يشاء). قالوا: أبعث الله منكم أنبياء غير نبيكم؟ قال: نعم. قالوا: من؟ قال صالح وشعيب ولوط وهود. قال: فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضر قالوا بالقبطية للملك: إن هذا العربي فصيح اللسان جريء الجنان ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش، فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا. قال وغلام عمرو وردان يسمع ذلك. فقال الملك أنه لا يجوز لنا أن نغدر برسول لا سيما ونحن استدعيناه إلينا. فقال وردان بلسان آخر ما قالوه، ففهم عمرو كلامه. ثم أن الملك قال: يا أخا العرب، ما الذي تريدون منا وما قصدنا أحد إلا ورجع بالخيبة؟ وإنا قد كتبنا إلى النوبة والبجاوة، وكأنكم بهم قد وصلوا إلينا. فقال عمرو: إننا لا نخاف من كثرة الجيوش والأمم وإن الله قد وعدنا النصر وأن يورثنا الأرض، ونحن ندعوكم إلى خصلة من ثلاث: إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال. فقالوا: أننا لا نبرم أمراً إلا بمشورة الملك المقوقس، وقد دخل خلوته، ولكن يا أخا العرب ما نظن أن في أصحابك من هو أقوى منك جناناً ولا أفصح منك لساناً. فقال عمرو: أنا ألكن لساناً ممن في أصحابي، ومنهم من لو تكلم لعلمت أني لا أقاس به. فقال الملك: هذا من المحال أن يكون فيهم مثلك. فقال: إن أحب الملك آتيه بعشرة منهم يسمع خطابهم. فقال الملك: أرسل فاطلبهم. فقال عمرو: لا يأتون برسالة وإنما إن أراد الملك مضيت وأتيت بهم. فقال الملك لوزرائه: إذا حضروا قبضنا عليهم، والأحد عشر أحسن من الواحد. ووردان يفهم ذلك. ثم أن الملك قال لعمرو: امض ولا تبطئ علي. فوثب عمرو قائماً وركب جواده، فقال الملك بالقبطية، لأقتلنهم أجمعين. فلما خرج من مصر قال له وردان ما قاله الملك. فلما وصل إلى الجيش أقبلت الصحابة وسلموا عليه وهم يقولون: والله يا عمرو لقد ساءت بك الظنون. فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم وبما قالوه وبما قاله وردان فحمدوا الله على سلامته)

فواضح من هذا أن الواقدي متفق مع ابن عبد الحكم في مكان المفاوضة، ولكنه يختلف عنه في أحد طرفي المفاوضة؛ فبينما يقول ابن الحكم إنها كانت بين عمرو وصاحب الحصن المقوقس، يقول الواقدي إنها كانت بين عمرو وارسطوليس؛ وأرسطوليس هذا هو - فيما يحدثنا الواقدي (ص 25 - 30) ابن المقوقس، وقد قتل أباه لما أدركه من ميله إلى الإسلام ورغبته في أن يسلم ملكه للعرب، ثم قام مقامه والناس جميعاً يظنون أنه يقوم مقام أبيه

ص: 13

أثناء غيبته تلك التي اعتاد أن يتغيبها طول شهر رمضان من كل سنة

ولا يرد ما يؤيد هذه الرواية في كتاب حنا النقيوسي

وإذا صح ما ترويه هذه الرواية العربية من وقوع مفاوضة في ذلك الوقت في حصن بابليون، فليس من شك في أنها كانت بين عمرو من ناحية، والمقوقس من ناحية ثانية كما يقول ابن الحكم، لا بين عمرو وأرسطوليس كما يزعم الواقدي. ونحن نرفض ما يقوله الواقدي لسببين جوهريين: الأول أننا لم نلتق بهذا الاسم (ارسطوليس) فيما قرأناه من سائر الكتب التي تتحدث عن وقائع الفتح. والثاني أن المقوقس توفي في 21 مارس 642 (بتلر ص 313) في حين أن الحصن سلم للعرب في 9 إبريل سنة 641 (بتلر ص 328)، فليس صحيحاً إذن أن المقوقس قتل قبل تسليم الحصن. ويخيل إلينا أن الواقدي قال بوقوع المفاوضة بين عمرو وأرسطوليس لا المقوقس، لأنه كان يعتقد في حب المقوقس للعرب، وإيمانه بدعوتهم، وتصديقه لرسولهم، صلوات الله عليه ونقده لما جاء به بولص (الواقدي ص 24 و27) فلا يكون من طبائع الأشياء إذن أن يحاول اغتيال عمرو قائد العرب، وإنما يلزم أن يكون غيره هو الذي دبر هذه المكيدة.

على أن الأستاذ بتلر يرفض هذه الرواية فيقول (تعليق 3 ص 223): (ولا تشك في تكذيب هذه الرواية ووصفها بأنها اختلاق ووهم، ونقول هنا إن هذه القصة نفسها قد ذكرها (ابن بطريق) عن غزة في فلسطين)

ونحن، اعتماداً على ما يلقيه الأستاذ بتلر على هذه الرواية من ظلال الشك، نرفض هذه الرواية كذلك أو نشك فيها على الأقل، وواضح جداً أن القصة التي تقصها إنما وضعت للتدليل على دهاء عمرو وسعة حيلته.

(للبحث بقية)

السيد يعقوب بكر

ص: 14

‌سقوط بولندة

للشاعر (توماس كامبل)

للأستاذ محمود عزت عرفة

انطوت ثلاثة أعوام كوامل على حادث اجتياح (بولندة) الذي اندلعت بسببه نيران هذه الحرب القائمة؛ وفي الواقع أن بلداً من البلدان لم يُمَن بمثل ما مُنيتْ به (بولندة) من عدوان جاراتها المتتابع عليها. . . ففي منتصف القرن الثامن عشر - وكان نظام الإقطاع إذ ذاك يفتك بعوامل الاستقرار والهدوء فيها - أحست الدول الطامعة في امتلاكها - لأول مرة - بسنوح الفرصة التي طال ارتقابها؛ فاقترح فردريك الأكبر ملك بروسيا على كل من النمسا وروسيا الاشتراكَ معه في اجتياح هذه البلاد. وتم ذلك في عام 1772م، حيث اقتسم الجميع ثلث مساحتها، في حين وضعوا لسائرها استقلالاً اسميَّاً، وتركوا السلطة الحقيقية في يد معتمد روسي يقيم في (وارسو).

وبعد عشرين عاماً من هذا التاريخ، اتجهت أنظار أوربا جميعها إلى فرنسا وثورتها العارمة؛ واختلس الروس هذه الفرصة فاجتاحوا بقية بولندة واحتلوا عاصمتها عام 1792م.

وقد لاذ الوطنيون البولنديون بأذيال الفرار، حيث تجمعوا بإقليم سكسونيا (في شمال بوهيميا)، وكونوا حزباً سياسياً قوياً برياسة كوشيسكو.

وكان هذا الأخير ممن تعلموا في فرنسا، وتغلغلت في نفوسهم روح الحرية منذ طفولتهم؛ وقد اشترك في حرب الاستقلال الأمريكي انتصاراً منه للروح الوطنية أنى وجدت. . . فكان في الواقع خير من يقود مثل هذه الحركة!

وقد بدأ بتأليف جيش قوي تربص به حتى اندلع لهيب الثورة في بولندة عام 1794م، فدخل البلاد منتصراً، واحتل (وارسو)، حيث أنشأ حكومة وطنية حرة. . . وهنا استنجد الروس بالبروسيين، وتمكنوا متحدين من هزيمة الوطنيين واحتلال وارسو مرة أخرى عام 1795م.

وقد وقع (كوشيسكو) يوم ذاك أسيراً، وجرت مذبحة رهيبة عند جسر مدينة براغة (شرقي وارسو) راح ضحيتها عدد وفير من الوطنيين البولنديين. . . واتفقت حينئذ كلمة روسيا وبروسيا والنمسا على محو بولندة نهائياً من مصور أوربا السياسي! فكانت تلك أشنع

ص: 15

صورة للطغيان يسجلها تاريخ القرن الثامن عشر؛ وقد ضجت أوربا والعالم المتحضر جميعاً لهذا الحادث الذي بدا فيه مبلغ استهتار القوة المسلحة بحقوق الأعزل الضعيف!

وفي هذه القصيدة يصور لنا (توماس كمبل) - وقد عاش بين سنتي: 1777م، 1844م - مأساة (بولندة) في عام 1795م.

وهو يبدو فيها معبراً عن شعور الوطنيين ومحبي الحرية في العالم جميعاً، ممن آسفهم هذا الحادث وأرمض نفوسهم. . . ولسنا هنا بسبيل ذكر كفاح بولندة لتخليص استقلالها طيلة القرن التاسع عشر، أو إيضاح ما تلا ذلك من أحداث انتهت باحتلالها الأخير في أول الحرب الحاضرة؛ فلكل ذلك مواضعه من أبحاث التاريخ؛ وإنما تختم هذه المقدمة الضرورية بقولنا: إن قصيدة (سقوط بولندة) نشرت - لأول مرة - في عام 1799م - أي بعد مأساة السقوط بأربع سنوات - ضمن ديوان للشاعر عنوانه (مباهج الأمل). . . وهاهي ترجمتها:

أيتها الحقيقة المقدسة! لقد تخلى عنك النصر، ولكن إلى حين، وفارقتْ أخاكِ (الأملَ) ابتسامتُه أسفاً عليك. . . عندما توجه الظلم الغاشم بجحافله إلى معترك الشمال، وتحركت فرسانه من العُتاة أولى القوة، ومشاته من (البندوريين) ذوي السبال والعثانين: خافقة أعلامهم الرهيبة مع نسمات الصباح مدويةً طبولهم في دقات كهزيم الرعد، مرتفعاً رنين أبواقهم في شبه العويل. . .!

إنه الفزع الأكبر في ضجيجه وعجيجه، يتحدَّر مع طلائع الشر منذراً بولندة والعالم كله بالويل والثبور!

. . . أشرف بطل فارسوفيا الأخير من مربأه العالي على سهول ألم بها الخراب واجتاحتها جوائح الدمار، فصاح من قلب منكوء:

يا أهلي، ضمد جراح وطني الكليم. . . أما ثمة يد قوية تشد أزر الأبطال المجاهدين؟ ولكن. . . لِتعْثُ في أرضنا شياطين الفناء، ولتُثْجِم عليها سحائب المنايا. . . فالوطن حي برغم ذلك باق؛ وباسمه الرهيب نشهر أسيافنا البواتر. . . فانهضوا يا رفاق؛ وأقسموا جميعاً أن تعيشوا من أجله أو تموتوا فداءً له!

قال البطل هذا، ثم انكفأ إلى رجاله البواسل ينظمهم صفوفاً خلف الأسوار الحصينة. . .

ص: 16

فئة قليلة لا ينقصها الإيمان ولا تعوزها النجدة. . . قوة متماسكة مرهوبة السطوة، تخطو في ثبات وفي أناة معاً: مترفقة كأنها النسيم العابر، متدفقة كأنها العواصف الهوج!

. . . وانتقلت الأصوات خفيضة هامسة تموج مع الهواء موج البنود، مرددة شعارهم الذي به يتعارفون:(الانتقام. . . أو الموت)؛ ثم ارتفع الضجيج عالياً قوياً يستلب النهى، وطنّت نواقيس الإنذار تعلن الخطر الداهم، وتبلغ التحذير الأخير!

ولكن. . . يا للأسف! عبثاً أيتها القلة الباسلة أن تنثال قذائفك مدوية كالرعد بين الصفوف. . . إنها لأشنع صورة وأدماها يسجلها التاريخ في سِفر الأيام! (سَرْماتْيا) تسقط صريعة في غير جرم، فما تُبكَى عليها عينٌ بقطرة من دمع. . .!

واهاً لها. . . لم تجد الصديق كريماً ولا العدو رحيماً. . .!

لم تسعفها القوة وهي في سلاحها وعدتها، ولا أبقت عليها الرحمة وهي في محنتها وبلواها. . .

هو رديْنُّيها العسْال من يدها الواهنة قِصَداً، وأغمضت عيناها الوامضتان ببريق الحياة، وناءت بكاهلها أثقال الطغيان، فما أطاقت النهوض.

هاهو ذا الأمل يقرع سمع الدنيا بكلمة الوداع مولياً عنها إلى حين؛ والحرية تعول صارخة إذ ترى (كوشيسكو) يهوى من عليائه. . .

انحدرت الشمس إلى مغربها وما وقف سيل الدماء الموائر، وبدد ضجيج القتل والقتال سكون الليل الغارق في غفوته، وألقت لُهب الدمار ظلالها على قناطر (براعة) الفخمة؛ وتحدرت المياه من أسفلها مخضوبة بالدم القاني. ثم أعولت العاصفة فطغت على صرخات الجزع وصيحات الوهل المتصاعدة؛ بينا أفسحت الحصون الصماء للغزاة طريقاً مهادها الأشلاء.

ألا أصيخوا. . . إن الأبنية المحترقة لتنهار في دوي يصم الآذان؛ ومئات الأصوات الواهنة تجأر في طلب الرحمة والغوث وهي يائسة منهما؛ حتى لكأنما الأرض تزلزل زلزالها، والسماء ترمى من رجومها بكل شهاب ثاقب!. . .

إنها الطبيعة وقد أدركت هول الفاجعة تضطرب من أعماقها؛ والكون بأجمعه يهتز جزعاً لهذا البكاء والإعوال.

ص: 17

أيتها الأرواح الذواهب. أرواح الأبطال الكماة وكل ذوي النجدة من الهالكين. . . يا من أستنزفوا دماءهم ولفظوا آخر أنفاسهم في ساحات القتال من مراثون ولكترا. . . يا حلفاء العالم وأصدقاء الإنسانية جميعاً: أشهروا سيوفكم من جديد لأجل (الإنسان)؛ حاربوا في سبيل غايته المقدسة؛ وقودوا طلائعه إلى النصر. ثم كفروا بالدم الصبيب عن دموع (سرماتيا) التي تحدرت وهي بالنجيع مخضوبة؛ واجعلوا لها من العتاد والعدة كما جعلتم لأوطانكم. . .

آه لو يرتد إلينا الزمن برب الوطنية وربيبها (تيل). . . أو بالملك الفارس (بروس) بطل (بانكبرن). . . إذن لكان للحرية بهما قوة؛ ولأوى الحق منهما إلى ركن شديد!

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 18

‌في معبد الشاعر المصري

للأستاذ إبراهيم صبري

مترجمة بقلم الأستاذ عثمان علي عسل

إبراهيم صبري شاعر موهوب من شعراء اللغة التركية، وهو يعيش في مصر في غربة متصلة أكثر من عشرين عاماً، يعيش في داخله لا أنيس له إلا شيطان شعره. شاعر يترنم أو ينوح لنفسه. شعلة تتوهج لا يراها إلا الظلام الدامس، يا للعجب!

ثم انتقل الشاعر إلى جو جديد من الشعر بين صحابة يعيشون في بلادهم في غربة كغربته. استمع الشاعر التركي إلى أنين الشعر العربي الذي تناثر في جو (المعبد)، وأصغى إلى الترنم الحزين الذي اشتركت في إيقاعه نفوس تحن في غربتها، وتلقف روح الآلام العربية فعانقها بشوق وصبابة

احترقت النفوس في نار الغربة المستعرة، وحول دخانها العطري طافت أشباح الصحابة:(الشاعر محمود حسن إسماعيل الذي تهدي إليه هذه القصيدة، ويحيى. . . وسعيد. . .، وعبد السلام. . .، وعبد الرحيم. .، والشاعر التركي إبراهيم صبري، ومحمود. . . وعثمان. . .). وفي معبد الغربة المحترقة أقيمت شعائر الألم المتوهج، والأحزان المنصرمة، وانبعثت روح العطر تتصاعد من نار غريبة متأججة، ومن هذا الجو المشتعل قبس الشاعر التركي لأشعاره ناراً خالدة أضاء بها زاوية من المعبد قد نامت فيها ساعة من الزمن فرت إليه من جنة الخلد.

(عثمان)

ذات يوم حوم الشيطان شعري في جو حياتي، وحدثني حديثاً من الشعر، قال:

(لقد اتخذت من أودية الحقيقة مسكناً وبقيت فيها إلى الآن، فليكن هدف جناحك الذي يسف بك إلى الأرض جواً جديداً متعالياً. ولا ريب أن السموات الحرة لا تشبه منفاك الضيق، فليرافقني يراعك محلقاً في سماء الخيال، ليطلع على المعنى الخفي في (ديوان) الفلك، فيكتب أشعاراً اسطورية

دع عنك هذه الأفكار التي صورت بها هذه الأرض البالية، وليكن لون أشعارك من لون

ص: 19

الفجر والشفق، ولتكن أنغام نظمك من وزن نظام النجوم)

وإذا بقوة سحرية قد تسلطت على سمعي وخيالي فعرجت إلى السماء كأني في غيبوبة، واحترقت روحي بلهيب لا يرى، وتصاعدت كالبخار حتى انتهت إلى السحاب. وكانت نظرتي هي صلتي الأخيرة بالأرض التي احتجبت وراء الغيوم. لا أدري كم مكثت في الظلام حين وجدت نفسي في ساحة معبد التقيت فيه بشيطان شعري؟ وبدا لي أن هذا المكان الذي يسمى (المعبد) كأنه يحتوي على الدهر: قبته رأس شاعر عبقري شيد عرشه السامي في مملكة الخيال، وقد بسط سلطانه على دولة الشعر، اشتعلت نار العبقرية في رأسه كالبركان فتألق جو المعبد بأضواء هذه النار. وبعد لحظة ترددت في المعبد أنغام وألحان، وتقدمت لاستقبالنا حور أمسكن بأيديهن مجامر البخور، فانتقلنا إلى عالم خرافي يفوح بالعطر، وقد تربع الشاعر منزوياً بغير اكتراث في زاوية الصمت، وأمامه موقد النار قد وضع على حجر سحري. من نظر إلى هذه النار خيل إليه أنها صيغت من الشمس لأنها تتوهج بضياء كأنه احتوى على لآلاء النجوم. وكأن الشاعر قد أذاب العلوم وألقاها في سعيرها فتصاعد دخان براق يتمثل فيه الذكاء. أنشأ في الجو قوساً متموجاً تخال أمواجه مصقولة من لجين وعسجد، فاعتلى الشاعر هذا القوس وبيده لآيات شعره، بينما رقصت أشباح أبدعت في الرقص وغنت بألحان لا تسمع، كأن في حلقات الدخان معاني مبهمة أحاطت بالنفوس فأثارت فيها عاطفة سامية غير بشرية تكاد تشبه السكر، لو أن السكر يأتلف مع العبقرية. كان بريق النظرات وهاجاً بينما كانت الأجسام خامدة كأنها احترقت بطلسم، تاركة الروح وحدها.

رقص الشاعر مع شيعته كأنهم يتهادون في الفضاء، وأقام شعائر المعبد، ثم أطرق كأنه يسجد. ولو أقامها كاهن مجوسي لما أبدع كما أبدع، ولما اهتزت له أركان المعبد كما اهتزت للشاعر، وكأنما الشاعر يستمد إلهامه من الهند والصين، فهو ينشر في جوه من محرابه خيالات تتضوع بالعطر، فتسري في نظمه قوة سحرية تجعل قوافيه تتجلى في صورة بوذا

اجتمعت بالشاعر في ساحة المعبد، وتآلفت روحي مع أعماق سريرته. لمحت في يده يراعاً قد أمسكه بقوة سحرية شيطانية؛ هو يصور العالم بهذا اليراع. إن شاء استرسل في وصف

ص: 20

العشق فأبكى القلوب الميتة كما بكى هو من الهجر والضنى، وإن شاء أودع الرياح أسراراً تحملها إلى سوالف حبيبته. إن البحار صورة حية للحرية، لكنها تبدو له أحياناً كأنها أسرى مقيدة بسلاسل أمواجها؛ وإنه ليستنشق النسيم فيتحول في صدره إلى زفرات تترنم بالأنين. لو شاهدت ألهامه لرأيت عالماً آخر. العالم بلا حبيبة هو - عنده - عالم لا وجود له! ومن هي حبيبته؟ وماهي. سر مجهول!! في عينيه ظلال لا تزول حتى في الظلام. نظراته غاسقة كأنها ممتلئة بألوان حسناء سمراء. وهو يرسل هذه النظرات إلى النيل فيخيل إلى غرامه غارق في لجه، فهو يبقى على ضفافه ساهراً ساهداً لعل الحباب يتحدث بغرامه؛ والدموع تنحدر من مقلتيه في محاذاته كأنها تسيل وراء شعر حسناته المسترسل في مجراه. . .! لقد اتخذ وادي النيل معبداً لعبقريته، كأنه أفق يشرف على حدود الدهر المطلقة، والقارئ أمامه كذرة لا يدري ما هو هذا العالم، ولا يدرك ما هي هذه الأفلاك؟

عثمان علي عسل

ص: 21

‌حق الإمام في نسخ الأحكام

لعالم فاضل

نشرت مجلة (الرسالة) الغراء كلمة قصيرة تحت عنوان (محاولة قديمة جريئة في الفقه الإسلامي)؛ وقد ذكر في هذه الكلمة أن من الفرق الإسلامية من يعطي الإمام حق نسخ الأحكام، وأن الإمام أبا جعفر النحاس في كتابه (الناسخ والمنسوخ)؛ ولا شك أن ما تذهب إليه من تلك الفرقة - إن صح - هو الوسيلة الوحيدة لما يراد الآن من تطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال، حتى لا يجد المسلمون في العمل به حرجاً في أي زمن من الأزمان؛ وقد قال الله تعالى:(وما جعل عليكم في الدين من حرج)؛ وقال أيضاً في بيان الغاية من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). فالدين الذي جاء لرفع ما كان في الأديان قبله من أغلال، لا يمكن أن يقر أغلالاً على أتباعه في أي زمن، لأن هذا لا يتفق مع غايته، ولا تتحقق معه تلك الميزة التي امتاز بها على الأديان قبله

وإنما كان ذلك هو الوسيلة الوحيدة لتطويع الفقه لمجاراة الظروف والأحوال، لأن ما يذهب إليه بعضهم في ذلك من جعل وظيفة الإسلام روحية بحتة، لا يتفق مع حقيقة هذا الدين، فقد جاء بعد أديان بعضها يغلب جانب الروح على المادة، وبعضها يغلب جانب المادة على الروح؛ فعمل على الموازنة بينهما، وجعل من غايته إعطاء كل منهما حقها، حتى لا تطغى إحداهما على الأخرى، ليتم بها نظام العمران، ويتلاءم الدين مع طبيعة الاجتماع البشري، لأن كل دين لا يتلاءم مع هذه الطبيعة، يكون غلا عليها، وتكون تكاليفه فوق طاقتها؛ وقد قال الله تعالى:(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)

وكذلك ما ذهب إليه بعضهم من تقسيم التشريع الإسلامي إلى دائم ومؤقت؛ فهو لا يبقى أيضاً بتطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال، لأن جعل التشريع المؤقت ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بشخصية الإمام المجتهد، وجعل التشريع الدائم ما صدر عنه بشخصية الرسول المبلغ عن الوحي، ومن يدرس التشريع الإسلامي يعرف أنه من المتعذر تمييز ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الشخصيتين، ويرى أنه مع إقرار الوحي لأحكام الاجتهاد، لا يكون هناك فرقاً بينهما وبين الأحكام الصادرة عن

ص: 22

الوحي الصرف، وهذا إلى أن ما يراد الآن هو تطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال ولو لم يكن مصدره شخصية الإمام المجتهد، حتى يكون تطويعاً شاملاً كاملاً، ولا يوجد فيه ما يعوق هذا الفقه عن مسايرة أي زمن؛ وهذا لا يمكن إلا بما تذهب إليه تلك الفرقة من إعطاء الإمام حق نسخ الأحكام؛ ولهذا قلنا: إنه هو الوسيلة الوحيدة لتطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال

ونريد بعد هذا أن نبين أن الإمام أبا جعفر النحاس لم ينصف في عرض مذهب تلك الفرقة في إعطاء الإمام حق نسخ الأحكام لأنه لم يعن بالرد عليها، ولم يبين ما استندت عليه في إعطاء الإمام ذلك الحق، مع أن كل عاقل لا يمكن أن يصدر في أحكامه عن الهوى، بل لا بد له من سند قوي أو ضعيف يعتمد عليه في أحكامه، ويحمله على مخالفة غيره؛ وقد فاته أيضاً أن يبين كيف يستعمل الإمام هذا الحق عند تلك الفرقة؟ أيستعمله كما يشاء ويهوي، فيكون الحكم في ذلك للهوى المذموم ولمصلحة الإمام دون مصلحة الرعية؟ أم يستعجله للمصلحة العامة، ويحكم فيه بالاجتهاد منه ومن أهل الحل والعقد في الأمة؟ ولا بد أن هذه الفرقة لا تعطي الإمام حق نسخ الأحكام بحسب الهوى، فيكون عرضه لسوء استعماله، واستخدامه فيما يضر الرعية ولا ينفعها

وإذا كان الإمام أبو جعفر النحاس قد فاته بيان مستند تلك الفرقة، وجرى في ذلك على عادة فقهائنا في العمل على إماتة كل مذهب يخالف المذاهب المشهورة، حتى فقدنا بذلك ثروة فقهية لا يستهان بها، وكانت تنفعنا في كل أزمة تشريعية تحصل لنا، كالأزمة التشريعية التي نعانيها في عصرنا، إذا كان قد فاته ذلك فإنا نحاول أن نبين هنا ما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة فيما ذهبت إليه، بدون أن نحمل أنفسنا تبعة ما نسوقه ونحكيه، لأن من يحكي ما يمكن أن يكون مستند القول من الأقوال لا يصح في أدب المناظرة تحميله تبعته، وإنما هو كناقل لا يلزم إلا بتصحيح النقل

فمما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحاً والأنبياء من بعده، فشريعة الله إذن واحدة لا تقبل التغيير والتبديل، وليس الإسلام في صميمه إلا تلك الشريعة الثابتة من عهد نوح، أما تلك الفروع التي تضاف إليها فإنها ليست من صميمها، ولهذا تخلف فيها الأنظار، وتقبل التغيير والتبديل

ص: 23

بحسب الظروف والأحوال

ومما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن الله تعالى ذكر تشريع النصارى للرهبنية بعد عيسى عليه السلام، فلم يدم تشريعها منهم، بل أقر ابتداعهم بقوله تعالى:(ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) فلا بأس إذن في كل تشريع حسن بعد الأنبياء، والإسلام في ذلك مثل غيره من الأديان

ومما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المسلمين حق التشريع بعده، وذلك بقوله:(ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، وبقوله أيضاً:(من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر فاعلها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر فاعلها إلى يوم القيامة)

ومنها أن أهل الصدر الأول لم يتحرجوا من التغيير والتبديل في الأحكام على ما اقتضته المصلحة العامة في عصرهم، فأبطل عمر التغريب في الزنا حين فرَّ بعض من غرَّبهم إلى بلاد الروم فتنصر، وقد طلب منه نصارى تغلب أن يجعل جزيتهم صدقة كالمسلمين على أن يدفعوا ضعفها له فقيل ذلك منهم، وكذلك زاد عثمان في أذان الجمعة حين كثر سكان المدينة في خلافته، واسقط معاوية حد السرقة عن قوم أشراف سرقوا في عهده، وقدم مروان بن الحكم خطبة العيد على صلاته حين رأى الناس ينصرفون بعد الصلاة ولا يجلسون للخطبة

فهذه كلها وجوه يمكن أستناد تلك الفرقة عليها، كما يمكن أيضاً ردَّها عليهم، ولو أن الأمام أبا جعفر ذكر ما تستند عليه لأغنانا عن تكلف تلك الوجوه، وقضى بذلك حق الإنصاف والتاريخ

(ع)

ص: 24

‌الفن والحياة

فهم الشيء رؤيتُه في موضعه الحقيقي بين سائر الأشياء. ولا يقف العلم عند الجزئي أو عند الفرد إلا لكي يكشف عن القوانين التي تربط ذلك الجزئي أو ذلك الفرد بباقي العالم. ولكن إذا نظرنا إلى الأشياء من الناحية الجمالية، فإن كل شيء يبدو لنا كأنه كلٌّ متميز تام ومحدد، ونحن لا نتمتع بصورته إلا لأنها تمثل لنا شيئاً متميزاً له خصائص تعريفية خاصة. ولما كنا نحن - وحدنا - عاجزين عن خلق مثل تلك العورة، فإن الفن يسارع لمساعدتنا.

وتنتمي العاطفة العقلية إلى طائفة العواطف الوجدانية مثلها في كل ذلك مثل العاطفية الجمالية ولكن العاطفة الجمالية تتجلى فيها المشاركة الوجدانية أكثر مما يتجلى في العاطفة العقلية، لأن هذه الأخيرة تحددها علاقة الأشياء فيما بينها أكثر مما تتحدد بعلاقة الشيء الجزئي نفسه بماهيته الخاصة. كذلك تنتج العاطفة الجمالية مما نبحث عنه لنوحد به بيننا وبين الأشياء حياتها وندخل عنصر المخيلة في حياتنا الخاصة. وهناك لذة جمالية تنتج من استخدامنا لأعضائنا استخداماً حراً، أي أنها ترجع إلى اللعب الذي نقلد فيه أعمالاً يباشرها الإنسان بحكم العادة من أجل غايات هامة وعملية. ويمكن أن نسمى كل فن لعباً ما دام يقدم لنا صورة ما، أعني إنتاجاً مثالياً للحياة الواقعية كلها أو أجزاء منها.

وتتخذ العاطفة الجمالية في نموها وانتشارها مظهراً خلقياً هاماً، فحين تسيطر على الإنسان تجعله ينسى نفسه أمام قيمة الأشياء، فلا يعود يفكر في نفسه ذلك النوع من ذلك النوع من التفكير الأناني المبتذل. ويتضمن الجمال الحقيقي قوة تجبرنا على تذكره وإرادة رؤيته الأشياء ثانية الجميلة، مثل من ينظر إلى الأعمال الفنية أو أعمال الطبيعة من وجهة النظر الجمالية، يحس ميلاً نزيهاً نحوها (أي غير أناني) وفي نفس الوقت تتيقظ فيه قوى الحدس والانتباه والإنتاج قوية متسقة ويضاف إلى ذلك عنصر مثالي آخر.

عرف أرسطو التراجيديا بأنها تقليد حدث عظيم يثير الشفقة والخوف في الإنسان ويظهرهما. وما يقال عن التراجيديا يمكن أن يقال عن كل ألوان الفن المختلفة. فاللعب (وكذلك الصورة) يثير نفس ما يثيره الأحداث الواقعية التي يمثلها من عواطف، ولكن بشكل آخر تستخفي فيه العناصر المؤلمة والأنانية في تلك الأحداث. والحوادث الواقعية تفاجئنا وتقع مباغتة، فلا نتمكن من كشف ما بينها من الارتباط والاتصال، ولذا يبدو لنا

ص: 25

أنها تحدث بمقتضى الاتفاق والصدفة فقط، وهذا هو السبب في أنها تقدم لنا أشكالاً متعددة ومختلفة تثير عواطف متعددة ومختلفة. ولكن الأمر على عكس ذلك في الغد؛ فكل شيء هنا له غرض معين هو إثارة انفعال كلي واحد يتناسب مع خطوط الشيء أو الحدث الضرورية والتعريفية المميزة. ويستخرج الفن سماته الضرورية من صورة الشيء الفردية دون أن يذهب إليها، وبذلك نتخلص من التنافر ونستقبل تأثيراً واحداً معيناً، فيكون من السهل أن نندمج ونتوحد بعواطفنا في الشيء الممثل، وهذا هو سبب أن الإنتاج الفني يجعلنا نفهم الأشياء فهماً أحسن، وإن كان لا يقدم لنا طبعاً شرحاً علمياً. ولكن إذا كانت التراجيديا تثير الشفقة والخوف وتظهرهما، فإن الكوميديا تطهر عاطفة القوة والعاطفة الشخصية؛ وما تثيره من ضحك ليس في الحقيقة تهكماً أو استهزاء، ولكنه عاطفة تحرر وخلاص، تأتي من رؤيتنا الصغائر والدنايا والمتناقضات والشرور ظاهرة عارية ساخرة، على معرفتنا في نفس الوقت أنها جزء من الحياة

وقد بحث كثيرون في علاقة الجمال بالأخلاق، وإلى أي حد يتفق العمل الجمالي أو الظاهرة الجمالية مع مطالب الأخلاق، وتساءلوا هل الصور والنقوش المحسوسة وغيرها جائزة ومباحة ولا تتعارض مع الأخلاق أم لا؟ وفي الحقيقة ليس هناك محل لمثل هذا التساؤل؛ ففيما يختص بمادة العرض وشكله لا يوجد أي اختلاف أو تنافر بين ما يقتضيه الجمال في الواقع وما تسمح به الأخلاق، فكل ما له قيمة جمالية لا بد أن يكون متفقاً مع التعاليم الأخلاقية. وفي صلة الفن بالبيداجوجيا نجد أنه لا يمكن السماح بوضع كل قصيدة، ولا أي قصيدة، بين أيدي الأطفال فيتداولونها فيما بينهم. ولكن ذلك لا يتصل بالقيمة الجمالية ولا يحط منها، فإن الذي تهيج نزعاته الحسية أو الشهوية من اثر نقش مثلاً إنما يحدث له ذلك لأنه لم ينظر إليه من الناحية الجمالية فلم يتطهر ميله وهواه، بل جاء الأمر على العكس وهاجاً بشدة وذلك الشاب الذي يحدثنا عن لوسيان أنه أغلق على نفسه معبد أفروديت وقضى فيه ليلة يعتنق تمثالها، لم تدفعه إلى ذلك في الواقع العاطفة الجمالية بل شيء آخر

وعليه، إذا كان الفن يعني حياة مثالية، فإن القيمة الفنية يجب أن تطابق القيمة وتناسبها. وبالتالي قيمة العمل الفني لا ترتكز فقط على النبوغ أو العبقرية، بل على الحياة التي يمثلها كذلك. ويجب على الفنان القيمي أن يصارع في سبيل سيادة وجهة نظره نحو الأشياء حتى

ص: 26

يقبلها الناس. ويرجع سيادة وجهه نحو الأشياء حتى يقبلها الناس. ويرجع جزء كبير من المعارضة ضد الواقعية الجمالية الحديثة إلى أن الناس يبحثون في الفن عن اللهو أو الراحة فقط، فهم لا يحبون أن يواجهوا مرارة الحياة وأحزانها، ولا يريدون أن يثيرهم الخوف والشفقة؛ قد اعتادوا على تذوق التراجيديا القديمة والإعجاب بما فيها من ضربات القدر القاسية، ولكنهم لا يمكنهم احتمال تراجيديا حديثة مثل تراجيديا (إبسن) مثلاً المسماة (أشباح). والواقعية الحديثة في الأعمال الكبرى لم تصنع شيئاً إلا أن جعلت النظر إلى الحياة الواقعية أعمق من ذي قبل. فالفن إذن يباشر عملاً تربوياً إذ يفتح ويقوي مشاعرنا وأنفسنا لمقابلة الحياة وجدَّها، ويهيج وجداناتنا ضد ما فيها من شرور، ويرينا كيف أن الحياة الإنسانية مغلولة ومسجونة في سجن سحيق بعيد. فالشاعر مثلاً يمكنه أن يعلمنا ويهيئنا لتقويم الأعمال أحسن من أي فلسفة خلقية

وبالرغم من عِظَم المكان الذي يشغله الفن في الحياة، فإنه لا يمكن أن يقوم مقامها. ولا يمكن أن ينظر الفنان الحق إلى الحياة الواقعية كشيء فني بسيط. فهو في فنه يبحث عن العمل أكثر مما يبحث عن التسلية، وينظر إلى فنه كعمل جِدَّي اجتماعي. وَمثل الفنان مَثَل العالمِ يرى الحياة فيحاول أن يريها للآخرين مثلما رآها هو. ولكن الهواة يرون الحياة لعباً حتى إن شيللر يقول:(إن الإنسان لا يكون إنساناً إلا حين يلعب) فهو يرى أن العيش في دنيا الخيال واللعب هو عمل الإنسان الذاتي، ويجب أن يكون للإنسان قلب حر كيما يتخلص من ضغط الواقع وسيطرته ويذهب إلى الحياة المثالية والواقعية في الفن - مثلها في ذلك مثل الرومانتيكية تماماً - تجعلنا نعيش في عالم خيالي أغراباً عن الواقع. فالواقع حقيقة غارق بدوره في الخيال كالمثالي؛ وخطر ذلك أعظم على الواقعي منه على المثالي، لأن المثالي المعتدل يعيش في عالمين: عالم الأحلام المثالي، والعالم السفلي الوضيع، فهو يتهكم من هذا الأخير، ولكنه بالرغم من ذلك يعرف كيف يقبله ويراه على ما هو عليه، فلا يكون الاستهواء الجمالي عليه كبيراً مثلما هو عليه عند الواقعي الذي يريد إشباع مخيلته من المؤثرات الواقعية نفسها

وليس الفن عملاً صغيراً بسيطاً يختص به بعض الناس دون غيرهم، أو ينفرد به عصر دون غيره من العصور. بل الفن شيء عام لكل أمة ولكل عصر منه حظ مقسوم. فلا بد أن

ص: 27

يكون لكل أمة فنها الخاص، ولا بد أن يكون لكل عصر فنه الذاتي. ومن العسير أن تكتفي أمة من الأمم بفن غيرها دون أن يكون لها فن خاص بها، لأن كل أمة لا تعرف تماماً إلا نفسها وما يمكن أن يؤثر فيها من مظاهر حياتها تأثيراً جمالياً. والفنان يعكس تلك المظاهر الجمالية انعكاساً كاملاً، لأنه يعيش فيها وقد أدمجت عواطف بها. وعلى العموم يمكن أن يُقال إن هناك أساساً مشتركاً من الفكر والحساسية لكل شعب وكل عصر يمثله فعل هوميروس، ودانتي، وشكسبير، وجوته، وغيرهم. إذ عرفونا تمام التعريف - خلال آثارهم وأعمالهم - بالحياة العقلية الإنسانية عند الأوربيين.

أحمد أبو زيد

كلية الآداب - جامعة فاروق الأول

ص: 28

‌بجماليون

تحية للكاتب وعرض للكتاب

للأستاذ فخري شهاب السعيدي

جاء كتاب توفيق الحكيم الجديد في شكل حوار لأبطال بعثهم من أساطير اليونان، وابتداع لهم من خياله الخصب عبارات ذلك الحوار، وهيأ لهم رمزَّياً يصلح لهم، وتتناوبهم فيه العواطف والمشاعر

ما الحياة، وما الفن، وما ميزان الحكم عليهما؟ وما المرأة، وما الرجل، وما وجه المفاضلة بينهما؟ وما فكرة الآلهة والمخلوقات وما مقاييس الأحكام على الأمور عندهما؟ ما الخلود، وما الفناء؟ وما العقل، وما الجنون؟! ما هي الحكمة؟ وكيف توصف وتعرف وتقدر، وما البطش بالقياس إليها، وكيف يكون اتقاؤه والحذر من التورط فيه، وهل إلى ذلك من سبيل؟؟

وما هو الجمال وما هو الحب؟ وما مقدار لصوقهما بالحياة واتصالهما بها، وهل هملا وقف عليها؟!

تلك - ومثلها أكثر منها - أسئلة البشرية الخالدة التي مرت بكل فكر، وطلب أجوبتها من كل حكيم. . . وما دام البشر محدود القوى بالنقص والفناء، فإنه سيفتنّ في التسآل والأجابة، وفي الأخذ والرد، والإقناع والاقتناع، كل هذا تطميناً لفضول القوى العاقلة التي تثيرها في نفس مشاهد الكون!

. . أما عن الفن والحياة، فهما لدى توفيق الحكيم فكرتان إحداهما تتمّ الأخرى لإبداع الكمال المطلق الذي يتخيله في أذهانهم أرباب المثل العليا في الحياة، وهما من أجل إيجاد هذا الكمال ينبغي أن يكونا متلازمين يضيق عنه إدراك البشر المحدود؛ ومن هنا تبدأ عقد القصة الفلسفية في الظهور: فصانع التماثيل (المثال)(بجماليون) رجل فني نزاع إلى الكمال المطلق، ولكن نزوعه هذا نزوع يكتنفه الغموض، لأنه لا يدري به ولا يدري كيف يستقيم له هذا الكمال: هو يريد الحياة، لأن في أعماق نفسه شعور الإنسان الحي الذي إذا رنا إلى غاية نفسه الحية ألفاها متمثلة في الجسم النابضة عروقه بالحرارة والحياة. . . وهو يحب الفن لأن في طبيعته قبساً من عبقرية الخالقين المبدعين. . . وفي سريرة نفسه

ص: 29

الصافية التي مزجت قوة الإبداع بجمال الحياة، استطاع أن يجمع بين النقيضين؛ وإلى ذلك توصلت روحه؛ ولكن عقله - وهو بشري محدود - لم يهتد إلى سر التوفيق بين ما يقع تحت فهمه من تناقض ظاهر في فكرتي خلود الفن وزوال الحياة، وبين طمأنينة روح (بجماليون) ونفسه إلى هذا التنافر البين الواضح. . .؟ وفي هذه المرحلة من القصة، تصل الفكرة الفلسفية إلى أبعد أغوارها، وتبدو عقدة الرمزية فيها رائعة الجمال، تمثل أبرع تمثيل وأصدقه ما يقوم من خلاف بين العقل في حدوده المادية من جهة، وبين الروح والنفس في جوهرهما المتجانس الموحد من جهة أخرى. وعلى قدر سعة اختلاف النظرتين، وبمقدار قصور العقل عن فهم ما تشمله الروح من آفاق، وما تصل إليه النفس من حقائق، يشتد الغموض على المثال البطل، ويشتد كرب نفسه، وتغشاه هموم العماء والعيش في المجهول. . . ولا يدرك هذا الألم النفسي الهائل الناشيء بين العقل والروح عن اختلافهما في الفهم واختلاف طبيعتهما في شمول الأشياء والنفوذ إليها، إلا عبقري كالبطل المثال، أو عبقري كالبطل الكاتب الحكيم!

وإذا عرفنا بعد هذا أن العقل هو الحكم في هذه الخصومة التي بينه وبين الروح عرفنا شقاء هذا البطل الشاب (بجماليون) ومقدار الحيف الذي لحق روحه الشاعرة وقواه المبدعة وصفاء نفسه الجميل!

قال: (قوة الفن! وما قوة الفن تلك التي يستطيع بها الهالك أن يخلق الخالد!)

وقال الفن: (ردوا علىّ عملي. . . ردوا عليّ (جالاتيا) كما كانت تمثالاً من عاج. . . أيها الآلهة، دعوني وشأني، لنفسي ومخلوقات نفسي، وما أنا إلا صنوكم ونظيركم؛ بل إني عليكم سموت، وعلى قدرتكم تفوقت، فأنتم ما فعلتم غير أن أفسدتم الجمال الذي أقمت. . أفسدتم جمالي الخالد، أفسدتم جمالي الخالد).

وقالت الحياة كلاماً كثيراً ولكن على غرار ما نطقت به قولها: (نعم! المودة والرحمة. . . أشياء تعطيها الحياة، ولا يستطيع أن يعطيها الفن!)

وقال المثال كلاماً أطول من كلام الحياة ولكن كلمتين صدرتا منه أدين بهما في هذه الخصومة، وهما قوله في موقف المقارنة بين (جالاتيا) صنماً و (جالاتيا) امرأة:(كل ما فيك محدود وكل ما فيها غير محدود) وقوله في معرض الاعتراف بانكساره وخطيئته:

ص: 30

(الخطيئة التي كُتِبَ على كل فنّان أن يحمل وزرها. . . الافتتان بالنفس، الافتتان بالذات!) ولولا صدور هذين الاعترافين لما حُكِم على (بجاليون) المثال العبقري الحي أن يموت وعلى آيته (جالاتيا) الخالدة أن تحطم تحطيماً!

تلك هي الفكرة الرئيسة التي تقوم القصة عليها؛ ولكن ليس معنى ذلك أن الأفكار الفلسفية الأخرى أقل منها روعة أو اضعف شاناً؛ ففكرة الرجل والمرأة والمفاضلة بينهما، وتمييز الرجولة بشهامتها على الأنوثة بضعفها ومكرها، وحبها الإطراء وانخداعها به، وولوعها بالمكابرة ورغبتها في الانتقام، فكرة واضحة تامة الوضوح في تصرفات الآلهة (فينوس) وفي هباتها وكلامها وكل دورها الذي قامت به في المسرحية

أحب بعد هذا أن أشير إشارة شريعة إلى فكرة أحسبها أسمى الأفكار الرمزية التي وفق إليها الأستاذ في هذا الجهد الرائع الجديد، تلك الفكرة التي أزال بها الحجاب بين الحي والجماد، وسما إلى نوع من الرمزية الحلولية الروحية التي لم تُقم للفارق العقلي الذي يأبه الناس له وزناً في التفريق بينهما. بل اعتبرهما جدلين لا يلبثان أن ينصبَّا في خضم الوجود العظيم، وهما إذا نمَّا عن شيء فعن وحدة متجانسة ينضم إليها كل ما في الكون والوجود. وإنك لترى ذلك واضحاً متمثلاً في مخاطبة الجماد بأسلوب الأحياء، وإنطاقه بما يعرب عن مثل أحاسيسهم ومشاعرهم. على أنه في هذه المحاولة الناجحة لم يخرج عن كونه جاء بصورة أخرى للعذاب الذي لقيه المبدع البديع (بجماليون) حين تعذر عليه أن يمزج جمال الفن الخالد الذي أنطق الجماد به، برقة الطبيعة الحية الفانية التي تمثلها جلايتا امرأة سوية الخلقة رائعة التكوين. ولكن الفرق بين العبقريين: العبقري المثال، والعبقري الكاتب الأديب، أن الأول أطاع عقله واحترام مقاييسه المادية، أما الثاني فقد استعار الحلول وسيلة إلى إظهار ما يريد بمظهر يصدق الاعتماد عليه

أكتفي بهذا المقدار لأسمع رأي الناقدين في هذا الأثر الخالد المجيد. وإذا أذن الصديق في سماع تحيتي وقبول تهنئتي فليسمع ذلك إذاً متجلياً في قولي إن أثره هذا وإن آثره وإن يكن مصدره الغرب، سيرتد بعد أن اتشح بوشاح من عبقرية شرقية إلى مصدره بعد قليل على قلم ناقل أو أسلة مترجم معجب محب!

فخري شهاب السعيدي

ص: 31

‌أشعار صينية

- 7 -

أغنية (لو - فوه)

لشاعر صيني مجهول

(عاش حوالي عام 600م)

إذا ما برزت الشمس من الأفق، أضاءت مسكننا، مسكننا المنير في أقليم تسان

في إقليم تسان فتاة جميلة، فتاة جميلة تسمى لو - فوه لو - فوه فاتنة وعاقلة، لو - فوه التي ترعى دائماً دود القز، تسير أشواطا بعيدة لتجمع له أوراق التوت

ولكي تذهب لجمع أوراق التوت، تلبس لو - فوه عصابة يابانية، تعلق أحجاراً مستديرة في أذنيها، ترتدي ثوبين: أحدهما أصفر، والآخر وردي، وتحمل سفطاً صغيراً مضفراً بالحرير الأزرق. . .

وفي ذات يوم قابل حاكم المقاطعة لو - فوه في طريق الغرب، فأوقف أفراسه الأربعة، وخاطب رئيس حراسه:(سل هذه الجميلة ما اسمها وكم عمرها؟)

أجابت أو - فوه: (في إقليم تسان فتاة جميلة تسمى لو - فوه لم تتعد العشرين، ولكنها لم تعُد صغيرة فقد جاوزت السادسة عشرة)

خاطب حاكم المقاطعة رئيس حراسه مرة أخرى: (اذهب واطلب إلى هذه الجميلة إذا كانت تريد أن تصعد إلى عربتي؟)

أجابت لو - فوه وعيناها إلى الأرض: (أليس للحاكم زوجة يحبها؟ للو - فوه في إقليم تسان خطيبها)

- 8 -

زهرة الخوخ

للشاعر الصيني نسيه - تيه (643 - 706م)

قطفت زهرة خوخ حمراء، وهديتها إلى حبيبتي، التي فمها صغير أيضاً كزهرة الخوخ،

ص: 33

أحمر مثلها

أحضرت (سنونو) ذا أجنحة سود من عشه، وأهديته إلى حبيبتي التي حاجباها يشبهان جناحي السنونو

وفي الصباح، كانت زهرة الخوخ قد ذبلت، وطار السنونو من النافذة التي تطل على الجبل الأزرق

ولكن فم حبيبتي ظل دائماً أحمر، وحاجباها بقيا سوداوين

- 9 -

سري ليلة صيف

للشاعر الصيني لي. تين. يو (702 - 763م)

إنا نبتعد عن الجبل الأزرق، والقمر يتبعنا. الندى قد أثقل أكمام أثوابنا. إنا نعود ثانية قبل أن يطاول بنا السير، لكن ضباباً أبيض قد غطى القرية

اليد في اليد وقد اقتربنا من حاجز مسكننا القديم، حيث ينتظرنا أصدقاء

والآن نحن نسلك طريقاً على جانب الغاب الذي يمسنا مساً خفيفاً في سيرنا

نحن جميعاً مؤتلفون. أية سعاد! النبيذ المعطر يصب لي وأنا أغني أغنية الريح بين الصنوبر. البلابل تردد معي، والضفادع والحشرات كلها أيضاً

- 10 -

أمنية

للشاعر الصين هنج. سو. فان (1812 - 1861م)

أيها الليل الفاتر، يا نور القمر، يا رائحة أشجار التوت، هبوا حبيبتي حلماً لذيذاً. اجعلوها لا تطيق الصبر عن رؤيتي، يأتي عند الفجر تدق بابي. يا رائحة أشجار التوت، يا نور القمر، أيها الليل الفاتر، ستدفئني قبلاتها، إذا استمعتم إليّ

(بور سعيد)

ص: 34

محمد وهبة

ص: 35

‌البريد الأدبي

في ديوان صرَّدُر

اطلعت أخيراً على نسخة من ديوان (صرَّدُر) الذي أشرفت دار الكتب المصرية على طبعه، فأخرجته منقحاً مضبوطاً بالشكل مع شروح وتعليقات مفيدة. ولكن يبدو لي أن هذه العناية لم تحل دون وقوع أخطاء بَيَّنة ينبغي النص على أمثلة منها. وأنا مثبت هنا بعض ما عرض لي في القصيدة الأولى؛ وهي السينية التي قيلت في مدح الخليفة القائم بأمر الله، والتي مطلعها:(كما قُلتُما، بُرءُ الصبابة في اليَاسِ)

يقول صرَّدُر:

جيوشٌ من الأقدارِ تُفْني عداتِه

بلا ضَرب إيتاخٍ ولا طعْن أَشناسِ

وقد جاء في شرح هذا البيت: (إيتاخ وأشناس: كذا بالأصل، ولعل الأولى (أثباج) جمع ثبج وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، والثانية لم نوفق إلى مراد الشاعر منها)!

وأقول إن الصواب في ذلك أن إيتاخ وأشناس اسمان لقائدين تركيين من اشهر قواد الخليفة المعتصم بالله العباسي: أشترى أولهما عام 199هـ - وكان غلاماً خَزَويا طباخاً - فرفع شأنه ورشحه لأخطر المناصب، حتى كان رأس إحدى الفرق الثلاث التي دخلت بلاد الروم لفتح حصن عمورية عام 223هـ. وكانت حاله عند الواثق كحاله عند أبيه

وقد قتل في أول عهد المتوكل عام 235هـ

أما اشناس فكان غلاماً تركياً اشتراه المعتصم ورباه، حتى نبوأ رفيع المراتب؛ وقد توجه ووشحه في احتفال مشهود عام 225هـ؛ وجدد الواثق من كرامته والاصطناع إليه سنة 228هـ وبعد عامين من ذلك التاريخ توفي وهو في أوج عظمته. . .

ويقول صردر بعد هذا ببيتين:

وقد عَلم المصريُّ أن جُنودَه

سِنُو يوسفٍ منها وطاعون عَمواسٍ

أحاطتْ به حتى استراب بنفسه

وأوجسَ منها خفيفةً أيً إيجاس

وجاء في التعليق على كلمة (المصري): يشير الشاعر إلى الغلاء الذي حصل في مصر أيام المنتصر العباسي الخ. والغريب أن هذا الخليفة الذي يذكره الشارح حكم في بغداد بين عامي (623 - 640هـ) في حين توفي صردر عام 465هـ؛ وتوفي ممدوحة القائم عام 467هـ

ص: 36

أي قبل وفاة المستنصر العباسي بقرن وثلاثة أرباع القرن. فكل ما ذكره إنما هو خلط بين الحوادث ووهم في تبين مراد الشاعر: والذي يبدو لي أن صردر يشير في بيته إلى حادث تاريخي هام، أوجزه فيما يلي:

قبيل منتصف القرن الخامس الهجري تضعضع شأن آل بويه في بغداد وآذنت دولتهم بالزوال. وقد نجحت وقتئذ فتنة أبي الحارث أرسلان المعروف بالبساسيري (نسبة إلى بَسا: مدينة بفارس)؛ وهو غلام تركي من مماليك بهاء الدولة البويهي كاتب الخليفة المستنصر العلوي بمصر وعرض عليه الدخول في طاعته والقضاء على خلافة العباسيين في بغداد. ولما علم الخليفة القائم بذلك أستنجد بسلطان السلجوقين طُغرل بك الذي انتهز هذه الفرصة فدخل بغداد وقضى على بقية ملك البويهيين (أوائل عام 447هـ) ثم خرج بعد حين لقتال أخيه لأمة (إبراهيم ينال) الذي خانه بإغراء بعض المصريين ومكاتباتهم، فتمكن البساسيري في أواخر عام 450 من اقتحام بغداد؛ واستقام له الأمر فيها عاماً كاملاً لاذ الخليفة أثناءه ببعض من تكفلوا بحمايته من العرب.

ولما رجع السلطان من حربه عجز البساسيري عن الصمود له؛ فخرج بجيشه إلى الشام وتبعه طغرل بك إلى هنالك حيث أوقع به وقتله وحمل رأسه إلى بغداد

فالشاعر يشير بقوله: (وقد علم المصري أن جنوده الخ. . .)؛ إما إلى إبراهيم ينال الذي انتقض بتحريض المصريين، وإما إلى أبي الحارث البساسيري الذي كاتب خليفتهم ودخل حاضرة العراق باسمه، كما أنه لا يبعد أن تكون الإشارة إلى الخليفة المستنصر (العلوي) نفسه. ويكون ضمير (جنوده) في كل ذلك راجعاً إلى ممدوح الشاعر الخليفة العباسي القائم بأمر الله.

(جرجا)

محمود عزت عرفه

في الشعر التمثيلي

ردّاً على كلمة الأستاذ عبد الرحمن عيسى خريج كلية اللغات العربية - التي وجهها إلى والدي الأستاذ محمود البشبيشي وكان الصواب أن يوجهها إلى، لأن كل ما يدور على

ص: 37

لساني في حوار (جيل وجيل) فهو لي صياغة ومعنى - نقول إننا لسنا ممن يعتسفون الأحكام اعتسافاً، وإنما استندنا في حكمنا إلى قراءة واستيعاب وإلى مقال نشرته مجلة (المعرفة، ثم إننا لم نرد غير التاريخ لشعراء مصر والاعتراف بفضل شاعر كبير منهم ولكن الأستاذ سكت طويلاً ثم وقف على الكنز الدفين فطلع على قراء (الرسالة) الغراء بحكم عام يصب النفي صباً على كل ما قررت، وقد أبث عليه ثورة الفكرة واعتلاج الرأي في صدره إلا أن يستعير صيغة عموم السلب المعروفة فيقول:(كل ذلك لم يكن) ولقد كان أليق بالأستاذ أن يقول: (لم يكن كل ذلك) وإذاً لها الخطب، وهو بحمد الله جد يسير، فأي منصف يكابر في أن عبد المطلب عالج الروية الشعرية؟ وأي منصف ينازع في أن لعبد المطلب حيوية شعرية دفعت به إلى أن يسبق غيره من فحول شعراء مصر في هذه الناحية؟. . . أما إقحام الأستاذ لانتشار الشعر التمثيلي في القرن التاسع عشر في أرجاء أوربا فلا نجد له مكاناً فيما ذهبنا إليه من الكشف عن اثر الحيوية في شعراء العربية بمصر فحسب. وفرق كبير بين الأدب العربي وألوربي!. . . وأما قوله:(ولا شك أن حادثة بلقاء كهذه قد وصلت إلى سمع عبد المطلب. . .) فنحن لا ننكر أن يكون شيخنا الجليل قد سمع بها، لأننا نعترف بصدق حيويته وسعة إطلاعه. ولكنا ننكر كل الإنكار توهم الأستاذ أننا قررنا حكمنا من غير أن نعلم (حادثة اليازجي البلقاء. . .) فإنا لم نرد غير التاريخ للشعراء المصريين

وأخيراً هل يتفضل الأستاذ فيذكر لنا أي شرائط الفن تنقص روايات عبد المطلب؟!. . . لسنا في مقام المفاضلة بين (عبد المطلب وشوقي) طيب الله ثراهما حتى نوازن بين شرائط الفن عند كليهما، ولكنا نعرض في حوارنا لحيوية الشاعرية ونثبت أنها تدفع بصاحبها دفعاً إلى أبعد الغايات. وهذا ما ظفر به عبد المطلب في مصر مهما تكن قيمة إنتاجه. ولن أندفع اليوم إلي ما ليس له صلة بموضوع الخلاف ويكفي أن نسجل على الأستاذ قوله:(إنهما اشتركا في الجنس) ولا يعنينا أن يكونا (مختلفين في النوع) - على حد تعبير الأستاذ -

وبعد، فما من شك عندي فيما قرره المرحوم الأستاذ محمود مصطفى. ومن حقي أن أقول إن المقام يحدد مجال البحث، وأنا إنما بحثت في حيوية عبد المطلب شاعراً مصرياً افترع فن الشعر التمثيلي بين شعراء مصر فلا يضيرني أن تنسب للشيخ اليازجي رواية مثلث أو

ص: 38

طبعت في سنة (1878) أو قبلها

(المنصورة)

حسين محمود البشبيشي

الخطأ والخطأ

وقف (في العدد 479 من مجلة الرسالة) على استدراك الأستاذ الأفغاني على الأب الكرملي في تسرعه إلى تخطئة استعمال كلمة (الخطأ) وزعمه أن الصواب هو (الخطاء) بالمد.

وإليكم فرقاً دقيقاً بين (الخطأ والخطا) حققه الإمام أبو هلال العسكري في كتابه (الفروق اللغوية) حيث قال في الصفحة 40: (الفرق أن الخطأ هو أن تقصد الشيء حسناً، مثل أن يقصد القبيح فيصيب الحسن فيقال أخطأ ما أراد وإن لم يأت قبيحاً. والخطأ: تعمد الخطأ فلا يكون إلا قبحاً، والمصيب مثل المخطئ إذا أطلق لم يكن إلا ممدوحاً، وإذا قيد جاز أن يكون مذموماً كقولك مصيب في رميه قبيحاً. فالصواب لا يكون إلا حسناً والإصابة تكون حسنة وقبيحة. والخاطئ في الدين لا يكون إلا عاصياً لأنه قد زال عنه لقصده غيره، والمخطئ يخالفه لأنه قد زل عما قصد منه، وكذلك يكون المخطئ من طريق الاجتهاد مطيعاً لأنه قصد الحق واجتهد في إصابته)

محمد غسان

ص: 39