الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 481
- بتاريخ: 21 - 09 - 1942
ما يمكن تبديله
للأستاذ عباس محمد العقاد
في عدد مضى من (الرسالة) تعقيب على كتاب (عبقرية محمد) يستدعي التعقيب عليه، لأن الكلام فيه باب من الكلام في الأدب والتأريخ
ونريد به ملاحظة الأديب (محمد النجار) على ما كتبناه عن رواية النبي عليه السلام للشعر إذ يقول: (. . . في ص 144 يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله. فكان يقول مثلاً: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) لأنها لا تقبل تبديل، ولكنه إذا نطق بقول سحيم بني الحسحاس (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) قدم كلمة الإسلام فقال:(كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا)
ثم يعقب الأديب فيقول (وتقسيم ما يتمثل به الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ما يمكن تبديله لم يورد المؤلف ما يؤيده ويقتضيه. والمثال الذي ذكره لما لا يمكن تبديله غير صحيح، فإن تبديله ممكن، وقد روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام تمثل به هكذا (ويأتيك من لم تزود بالأخبار). راجع السيرة الحلبية في باب الهجرة إلى المدينة)
والذي نعقب به على تعقيب الأديب هو الكلام فيما يمكن تبديله من الشعر والنثر وكل ما له معنى من القول
فإذا كان المقصود بالتبديل هو نقل كلمة في موضع كلمة بغير نظر إلى المعنى والسياق فالتبديل ممكن في كل كلام بلا استثناء؛ إذ ليس للكلام قوة مادية تمنعك أن تقدم فيه وتؤخر كما تشاء، وفي وسع كل قارئ أن يعمد إلى كتاب من الكتب فيقرأه عكساً وطرداً ومن أسفله إلى أعلاه ويضع الأول في موضع الوسط والوسط في موضع الأول، ثم يعود فيصنع به مثل ذلك إلى غير انتهاء، فلا يستعصي عليه عصى ولا يحول دونه حائل
وليس هذا بالبداهة هو التبديل المقصود حين نقول بإمكان التبديل أو استعصائه، وإنما المقصود هو التبديل مع بقاء المعنى وبقاء المزية الكلامية أو المزية البلاغية التي من أجلها كان الشعر أو النثر مستحقاً لروايته والاستشهاد به
وكثير من المعنى ومن المزية البلاغية يتوقف على تقديم كلمة إلى موضع أخرى حتى في العبارة التي لا تتجاوز كلمتين أو ثلاث كلمات
فالعالم زيد غير زيد العالم، وما اختلف منهما إلا تبديل موضع الكلمتين
لأن (العالم زيد) قد تقيد أنك تخص زيداً بالعلم وتنفيه عن غيره، وليس هذا مستفاداً من (زيد العالم) على هذا الوجه
وقد شرح علماء البلاغة دلالة التقديم والتأخير وعرض لها الإمام الجرجاني فقال مما قال في دلائل الإعجاز: (. . . إنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى، إنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ولا يعنيهم منه شئ، فإذا قتل وأراد مريد الأخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول: قتل الخارجي زيدُ: ولا يقول قتل زيد الخارجي، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم، ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه. متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد وإنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه. . .) إلى أخر ما قال
على أن الحكمة في التقديم والتأخير معنى من معاني العقل والمنطق وليست بقاعدة من قواعد اللغة وحسب
ولهذا ينص عليها في جميع اللغات ولا يقتصر التنبيه إليها على لسان دون لسان
فالإنجليز مثلاً ينبهون إلى الفرق بين معاني العبارات إذا تغير موضع كلمة واحدة فيها، ويمثلون لذلك بأمثلة كثيرة منها هذه الأمثلة الأربعة
1 -
أنا (فقط) أتحدث بهذه القصة إلى فلان
2 -
أنا أتحدث فقط بهذه القصة إلى فلان
3 -
أنا أتحدث بهذه القصة فقط إلى فلان
4 -
أنا أتحدث بهذه القصة إلى فلان فقط
فالفرق بعيد جداً بين كل عبارة من هذه العبارات وبين سائرها لتغير الموضع الذي توضع فيه كلمة واحدة
لأن العبارة الأولى معناها أنني وحدي أتحدث بهذه القصة إلى الشخص المذكور
والعبارة الثانية معناها أنني أتحدث فقط ولا يصدر مني شيء غير الحديث، وقد يتحدث به
غيري كذلك
والعبارة الثالثة معناها أنني أتحدث بالقصة فقط إلى فلان، ولا يتعدى التخصيص ذلك، فكل ما عدا هذا التخصيص فهو عام لا تقييد فيه
والعبارة الرابعة معناها أن المتحدث إليه هو فلان فقط وليس إنساناً غيره، ولا تخصيص للقصة ولا للمتحدث ولا للحديث
وتبديل الموضع الذي توضع فيه كلمة فقط ممكن جداً لكل من أراده، ولكن المهم هو المعنى الذي يترتب على هذا الإمكان. فإن كان المقصود أن نحافظ على معنى لا يتغير فالتبديل مستحيل أو كالمستحيل، وإن لم يكن هنالك معنى مقصود فبدل وقدم وأخر كما تشاء
ونأتي إلى الأبيات التي نطق بها النبي عليه السلام فننظر ماذا كان يترتب على التبديل في مواضع كلماتها؟
إن منها لأبياتاً يتغير منها شيء غير الوزن كالبيت الذي أنشده عليه السلام حين قال للعباس بن مرداس: أأنت القائل: أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فإن البيت موزون على قول الشاعر:
وأصبح نهبي ونهب العبي
…
د بين عيينة والأقرع
ولا فرق بين الوضعين إلا كالفرق بين قولك إن طنطا واقعة بين القاهرة والإسكندرية، وقولك إنها واقعة بين الإسكندرية والقاهرة، أو كالفرق بين قولك إن زيداً يجلس بين بكر وخالد، وقولك إنه يجلس بين خالد وبكر
فهل الفرق بين قول الشاعر (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وقولنا (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) هو فرق من هذا القبيل؟
إن كان الفرق من هذا القبيل فالتبديل ممكن، وإن لم يكن كذلك فهو مستحيل أو كالمستحيل
والمفهوم الذي لا يغيب عن سيد الفصحاء هو أن المعنيين مختلفان.
فالمفهوم من قول الشاعر أن الأخبار هي المقصودة، وأن الشاعر يورد قوله على سبيل الاستغراب أو التحدث بالغريب الذي لا ينتظر في الأغلب الأعم أن يكون: تسمع الخبر الذي تنتظره من مسافر لم تودعه ولم تحفل بسفره ولم ننتظره إيابه، وهذه هي الغرابة! وهذا موقع التنويه والاستشهاد
أما قولنا: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) فهو شيء آخر في معناه، أو هو شيء لا يستشهد به في الموقع الذي عناه الشاعر
فنحن لا نزود التاجر المسافر بزاد، ولكنه يعود إلينا من السفر بالبضائع والتحف ولا نستغرب ذلك، إذ لا وجه للغرابة في أن يسافر المسافر ولا تزوده ثم يعود إليك بشيء من الأشياء. أما أن عنيت غرابة الأمر، وعنيت الأخبار خاصة فلابد من التقديم ومن إظهار ما يفيد هذه الغرابة
وهذا فضلاً عن التباس آخر في قولنا: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار)
إذ يحتمل أن يفهم السامع أن المقصود: (من لم تزوده أنت بالأخبار) ثم ينتظر تتمة الكلام
ولا وجه لهذا الالتباس إذا لم يتبدل موضع الكلام
فتبديل مواضع الكلمات ممكن إذا نحن لم نحفل بهذا الالتباس وممكن إذا نحن تركنا المعنى الذي من أجله نظم البيت واستحق أن يروى في مقام الاستشهاد، وممكن إذا صرفنا النظر عن كل معنى وكل مقصد
ولكنه مستحيل أو كالمستحيل إذا أردنا المحافظة على معناه0 وهو فرق واضح لا يغيب عن سيد الفصحاء كما أسلفنا، ولهذا رجحنا الرواية الغالبة ولم نكترث لغيرها من الروايات، ولهذا كان ينبغي للأديب المعقب أن يتريث طويلاً قبل أن يجزم ويتحقق أن قولنا (لا يمكن تبديله غير الصحيح) فغير الصحيح هو ما قال وما قالته كل رواية توهم أن محمداً عليه السلام قد غاب عنه الفرق الواضح بين الروايتين
وما دمنا بصدد التعقيب على كتاب (عبقرية محمد) فلنذكر تعقيباً سمعناه من المذياع لطالب نجيب من طلاب الجامعة كان يتحدث عن هذا الكتاب؛ فقد أشار إلى كلامنا عن موت إبراهيم بن النبي عليه السلام حيث نقول: (مات ذلك الطفل الصغير ومات ذلك الأمل الكبير: مات كلاهما والأب في الستين. . . أي صدمة في ختام العمر؟ أي أمل في الحياة؟ الدين قد تم وهذه الآصرة قد انقطعت، فليس في الحياة ما يستقبل وينتظر: كل ما فيها للإشاحة والإدبار)
ثم عقب الطالب النجيب بما فحواه أن هذا يأس يتنزه عنه مقام الأنبياء
وكل ما نجيب به أن هذا ليس بيأس يتنزه عنه مقام الأنبياء، وإنما هو علم بأن الحياة قد
أصبحت للإشاحة ولأدبار، ومحمد عليه السلام كان يقول إن (معترك المنايا بين الستين والسبعين) فلا يأس في انتظاره أدبار الحياة بعد الستين
إنما اليأس الذي يتنزه عنه مقام النبي أن بيأس من أداء الرسالة التي بعث بها إلى الناس، وهذه قد تمت يوم مات إبراهيم، فلا يأس فيها ولا حرج أن يقبل النبي بعدها على أخراه. وما قلنا عن محمد عليه السلام بعض ما قاله بلسانه الشريف حين قال إن ما به موت إبراهيم ليهد الجبال. ثم استرجع. وما يكون الاسترجاع إلا أن يذكر الإنسان في كل عمر أنه تارك الحياة وراجع إلى الله!
عباس محمود العقاد
تحية الأزهر في عيده
للأستاذ محمد محمد المدني
(مرت بالأزهر في هذا الأسبوع ذكرى فريدة، لم يسجلها
التاريخ لجامعة سواه: أتم ألف عام من عمره المبارك في اليوم
السابع من هذا الشهر الكريم (رمضان سنة 1361هـ)، وقد
أثارت هذا الذكرى في نفس الكاتب ألواناً من المعاني رأى أن
يسجل بعضها في هذا الكتاب ويجعله تحية العيد)
أيها الشيخ الوقور:
يرفع هذا الكتاب إلى مقامك العظيم - في أدب واحترام، وإكبار وإجلال - واحد من أبنائك أنعم الله عليه وأنعمت عليه، إذ بسطت له جناحك غلاماً، وتعهدته برعايتك ناشئاً، ومددت له من ظلالك كهلاً، فأنت مولاه ذو الطول عليه، وهو غرسك وسقيك وثمرتك. يحبك ويحسب لفرط حبه أنه أبر الناس بك، وأوفاهم لعهدك، ويغار عليك فيحمل نفسه ما حملته وما لم تحمله من أعبائك، ويرى حقاً عليه أن يشاطرك - بروحه وقلبه وقلمه - أفراحك وأحزانك، فيشيد بأيامك، ويرثي لآلامك، ويكافح عنك، ويسهر الليالي ضنياً بك، مفكراً فيك، يود لو يمتد به العمر حتى يراك وقد عاد لك سابق مجدك، واجتمع إليك ما تفرق من أمرك!
واليوم، وهذه ذكرى من ذكرياتك المجيدة، يقف هذا الابن البار بين يديك خاشعاً مطرقاً، يفضي حياء من مهابتك، وينحني إجلالاً لماضيك، ويزجي إليك التهنئة فخوراً بك، ويحي فيك مهد العلم، ومهبط الحكمة، ومنبت الأدب، وحصن الدين واللغة، ومطلع الكواكب اللامعة من سماء مصر ينبعث بها النور في الشرق والغرب يفيد منه أصدقاؤك وأعداؤك، ويهتدي به من آمن بك ومن صد عنك!
هذا عيدك الألفي الفريد، ذكرى لم تعرف مثلها الدنيا، ولم يشهد مثلها الناس: ألف عام تقف من البشرية الحيرى موقف الرسل الهداة، تحمل على الجهل وتبدد ظلامه، وتنصر العلم
وتحمي أعلامه
ألف عام تغالب الأهواء والنزعات، وتختلف عليك الدول والنظم والسياسات، ويبتسم لك الدهر حيناً، ويعبس في وجهك أحيانا؛ ومرة تحتضن فأنت العزيز المقرب، وأخرى تضطهد فأنت الشريد المطرح، ولكنك في جميع أحوالك ثابت كالطود الشامخ، تتكسر السهام حواليك، وتتفرق الأعاصير على جانبيك
أنت تلقيت ميراث الإسلام يوم خلت الأرض كلها ممن يتلقى هذا الميراث الكريم. تلقيته فصنته، وحفظت أمانته، ورعيت حقه، ووقفت دون العبث به والكيد له:
هذا كتاب الله بين يديك: تتلى آياته، وتجوَّد لهجاته، وتروى قراءاته، وتفسر معانيه، وتستنبط أحكامه، وتدرس أسراره!
وهذه هي السنة المطهرة قد أينعت بك ثماراً، وتباركت آثاراً، وزكت أصولاً وفروعاً!
وإليك صار علم المدينة، وفقه العراق، ونحو البصرة، وأدب الكوفة، وتصنيف بغداد، وفن قرطبة، وما كان من فلسفة المتفلسفة، وكلام المتكلمة، ونزعات المتصوفة!
وبك وقى الله المسلمين عوادي الفتن، فلم ترُج عندك شبهة، ولم تدخل عليك نحلة، ولم تخدع عن عقيدة، ولم تستدرج إلى الهوى، ولم يطمع فيك من المبطلين طامع!
أنت حملت شعلة العلم عالية السناء، وهاجة الضياء، حين كان العالم في أكثر بقاع الأرض سابحاً في الأوهام
ألف عام! ياله من ماض طويل، في جهاد نبيل! فما لي إذن أراك وقد انفردت في موقفك يوم عيدك الفريد؟ أين مهرجانك؟ أين مهنئوك؟ أين الوفود تفد إليك من الشرق والغرب لتجعل على مفرقك التاج؟ أين المستشرقون المستعربون ليضفروا لك أكاليل الغار؟ أين كتابك؟ أين شعراؤك؟ بل أين (لجانك) التي ألفوها لهذا العيد تحضر له، وتخط برنامجه، وترتب نظامه؟ أباقية هي؟ فأين أعمالها؟ أم حلت؟ فمن ذا الذي أشار بحلها؟ أم أدركها (داء اللجان) من قبلها ومن بعدها فقضى عليها في مهدها؟!
أيها المعهد العتيق:
لقد ختمت بأمس ألفاً، وبدأت اليوم ألفاً، ولكن ما أبعد الفرق بين أمسك ويومك:
كأني أرى حلقاتك العلمية تحفها السكينة، ويزينها الوقار! عرفتها قبل أن تعرف أوربا نظام
المدرجات الجامعية، وأجريت فيها العقل على سجيته حراً كما خلقه الله، نافذاً كما يجب أن يكون: يقول الشيخ ما يريد أن يقول، ويناقش الطالب ما يرى أن يناقش، وتجلى الغوامض على هينة، وتحل العقد في صبر وتؤدة، لا وقت يعجلهم، ولا شغل يشغلهم، ولا رقيب عليهم إلا من ضمائرهم! فأين منك اليوم هذا المجالس العلمية الجادة؟ لقد أبدلك الزمان منها فصولاً دراسية متفرقة على نظم مقلدة غر أولياءك ظاهرها الجميل فاكتفوا به، وتغافلوا عما وراءه، ولو فتشوا عن العلم في هذه الفصول المبعثرة لما وجدوا إلا ألفاظاً وكلمات تلاك ولا تستساغ، وأطرافاً من أوائل الكتب ومقدمات العلوم تمس مساً ما رفيقاً في كل عام!
كأني أرى علماءك الأولين، وقد عكفوا على المكتبة العربية يدرسون نوادرها، ويقلبون صحفها، ويكشفون عن أسرارها، ويشتارون للناس جناها، ويعتصرون من ثمارها وثمارهم شراباً صافياً سائغاً للشاربين! فأين من هؤلاء علماؤك الحاضرون، وقد ذكروا أنفسهم ونسوك، واشتغلوا بشئونهم وتركوك؟ أليسوا إلى اليوم عالة على كتبك التي ألفها سلفهم الناشط، لولاها لضلوا في البحث والدرس سواء السبيل؟ بلى، وإن أحدهم على ذلك لو ألف كتاباً أو نشر بحثاً لتجدنه يملأ الدنيا صياحاً، وينفخ أوداجه كبراً، ويحسب أنه أتى بما لم يأت به أحد من الأولين والآخرين!
ما أبعد الفرق - أيها المعهد العتيق - بين يومك وأمسك! لقد كان طلابك مُثلاً عُليا في الجد والإقبال علي العلم، ينقطعون إليك، ويؤثرونك على أوطانهم وأهليهم، ويرتشفون من مناهل علمك، ويغترفون من بحار فضلك، تدفعهم الرغبة المخلصة، وتغريهم اللذة العلمية، وكانوا مثلاً عليا في الخلق والاستقامة وحسن الطاعة، لا يشارون ولا يمارون، ولا يصيحون ولا يصخبون، ويخفضون رءوسهم لأساتذتهم متأدبين، ويستمعون إلى رؤسائهم طائعين، أما اليوم فقد جرأهم الأساتذة ولحظهم الرؤساء، وشغلتهم عن العلم المطالب والرغاب، وأصبحوا لا يعملون إلا لاجتياز عقبة الامتحان: يسألون في ورقات معدودات دورين من لم يفز في أولهما كان في الآخر من الفائزين!
أيها المعهد العتيق
لقد كان الشعب كله: أغنياؤه وفقراؤه، حكامه ومحكوموه، ريفه وحضره، ينظرون إليك
نظرة الإجلال والإكبار، ويرفعونك إلى مرتبة التقديس، ويمنحون أساتذتك ألقاب التكريم، وأوصاف التعظيم: فهم (العلماء) من بين أهل العلم أجمعين، وهم (أصحاب الفضيلة) من بين سائر الفاضلين، وهم أعلام التقى، ومثل الهدى، وأهل الرأي، وقادة الفكر، وحماة الدين، ورعاة الخلق! وكان (رجل الدين) إذا أهل بطلعته على أهل حي عظموه وأجلوه، والتمسوا بركته، ورجوا خيره. وكان إذا تكلم في قوم أصغوا إلى ما يقول في خشوع وخضوع: أمره الأمر، وحكمه الحكم، ورأيه في المعضلات هو الرأي!
أما اليوم فأنت ورجالك على هامش الحياة:
أنت سليب حريب. نقصوا أطرافك وعدوا على اختصاصك، واستباحوا حماك، وأغروا بك المنافسين، يمدونهم بالمال والمناصب، ويؤيدونهم بالجاه والسلطان، ويحاسبونك على النقير والقطمير، بينما يكيلون لغيرك بالشمال وباليمين!
ورجالك! وا لهف نفسي على رجالك! لقد احتواهم المجتمع، ونكرهم الناس، وهانوا حتى على أنفسهم، وفقدوا أو كادوا يفقدون مجدهم القديم، وكأني بهم الآن يقفون وراء الصفوف في معترك هذه الحياة، ينظرون بعيون كسيرة، وقد وضعوا أيديهم على قلوبهم، واحتبسوا أنفاسهم في صدورهم، خائفين وجلين لا يدرون متى تعصف العاصفة أو ترجف الراجفة!
أيها الأزهر:
بين ماضيك وحاضرك! أحدهما يثير الفخر والإعجاب، والآخر يثير الهم والاكتئاب! وإني مع ذلك أهنئك بالعيد، ولا أحب لك أن تيأس (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً) وإن الله الذي رفع لك ذكرك، سيضع عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك. سلام عليك في الأولين، وسلام عليك في الآخرين!
ابنك البار
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
فرحة الأديب بالأديب - عصا إلياس - مع الأستاذ علوبة باشا
- هلال شعبان وهلال رمضان - تقليد جميل - آداب إسلامية
فرحة الأديب بالأديب
عبارة (فرحة الأديب بالأديب) تعد من مبتكرات ابن الرومي من حيث الصورة والمعنى، برغم كثرة النظائر والأشباه في تصوير هذا الخاطر الطريف. ومع أن أدباء هذا الزمان لا يفرح بعضهم بلقاء بعض إلا في أندر الأحيان، فأنا أفرح من أعماق القلب حين يصل إلى سمعي أن أحد الأدباء بسم له الدهر بعد عبوس، وقد أطيل الشكر لله حين يظهر كتاب يشرف أحد الباحثين، كالذي صنعت حين ظهر كتاب (عيد الأزهر الألفي) للأستاذ محمد عبد الله عنان، وكالذي سأصنع كلما ظهر كتاب جيد، ولو كان مؤلفه من ألد خصومي، فقد قضيت أعواماً وأعواماً في الحديث عن الحب إلى أن فاض القلب وامتلأ فلم يبق فيه لناثرة الحقد مكان
ولكن ما سبب هذه الخاطرة الوجدانية؟
كان ذلك بعد قراءة مقال في مجلة الجمهور البيروتية، مجلة الأستاذ (ميشال أبو شهلا) وهو أديب مر بمصر مرة فرأى الأستاذ الزيات أن يكرمني بمعرفته في مسامرة أدبية، وكان الزيات يقيم بالقاهرة (في ذلك الزمان) وكانت أسمارنا لا تنقطع، فقد كنا نتلاقى روحاً إلى روح في كل مساء عن طريق الهتاف، وإن لم نتلاق وجهاً إلى وجه إلا لحظة واحدة في كل شهرين
متى يرجع الزيات إلى القاهرة؟ متى يرجع؟
المقال الذي أنار هذه الخاطرة الوجدانية هو مقال نشره الأستاذ (إلياس أبو شبكة) وهو أديب تحرش بي عدة مرات ولم أغضب عليه لأنه حقاً أديب، والأديب الحق مغفور الذنوب
وما أثارني هذا المقال إلا بفضل ما فيه من الدلالة علي حيوية الأريحية العربية في الديار
السورية، فقد ذكرني بماضينا الغالي، يوم كان الأديب لا يتألم إلا تألمت له أقطار وديار وشعوب، ثم ذكرني بحاضرنا المزعج، الحاضر المثقل بالعقوق، الحاضر الذي يقضي بأن يعيش الأستاذ أحمد علام أسابيع وهو معصوب العينين بعد عملية خطيرة، ولكنها بإذن الله مرجوة النجاح، ثم لا نقرأ في إحدى المجلات الأدبية كلمة يتوجع كاتبها لفنان كانت عيناه أجمل ما رأت العيون
لقيني الأستاذ أحمد علام مرة بعد فراق طال، فاعتذرت عن تقصيري بكثرة الشواغل، فابتسم ابتسامة العاتب ثم قال: سيكون نصيبي منك نصيب الأستاذ محمد السباعي، فلا تؤدي حقي من الوفاء إلا بعد أن أموت!
ولقيني مرةً بعد ذلك فقال: كيف تشيد في مجلة الرسالة بمواهب الأستاذ إبراهيم الجزار في إنشاد الشعر ثم تنساني؟
فقلت: إن إبراهيم الجزار مات، ولم يبق له غير وفائي
فقال: عيب الدكتور مبارك أنه يذكر الأموات وينسى الأحياء
ومنذ يومين كنت أسير في شارع فؤاد فهتف هاتف والترام يعدو به عدواً: دكتور، دكتور، دكتور! فالتفت فإذا الأستاذ عباس فارس، فقلت: نعم، نعم، نعم! فقال: هل زرت الأستاذ أحمد علام؟
ومضيت إلى ما أريد قبل أن يمضي الترام إلى ما يريد، فلن أرى أحمد علام إلا بعد أن يرفع العصائب عن عينيه الساحرتين. فهل يكرمني الله فيبرئ هذا العليل النبيل لأزور مع شواطئ النيل قبيل الغروب، ولنقول معاً بصوت الشكران للواهب المنان: هنا وقفنا قبل عشرين عاماً أو تزيد!
أنا أقدم جائزة لمن يثبت ولو عن طريق التلفيق أن الأستاذ أحمد علام نكث بعد عهد، أو خان بعد وفاء
ذلك روح لا تجود بمثله الأقدار إلا في القلل من الأحايين
فارفع العصائب عن عينيك يا أحمد لتقرأ هذه الكلمات، ولتعرف أن أخاك لا ينساك، ولتفرح (فرحة الأديب بالأديب) يا أجمل أمثلة الأدب في هذا الجيل
عصا إلياس
هي عصا شعرية، وإليها يرجع الفضل في تذكيري بالواجب نحو الأستاذ أحمد علام، عصا سوداء ورثها الأستاذ إلياس أبو شبكة عن أبيه، ثم أوحت إليه هذه الأبيات اللطاف:
عروسٌ تزيتْ بزِيَّ الدُجُنهْ
…
ولقَنها ساحِرُ اللّيل فنهْ
تناهتْ إلى والدي من أبيه
…
وأورثنيها عجوزاً مُسِنهْ
لئن كثرت في الدُجى عن بريق
…
أخافت طيوف الظلام وَجِنَّهْ
إذا هَبطَ الليلُ أرخِي لها
…
على حَصَبات الطريق الأعنَّهْ
فيَسمع من صُلبها العاشقون
…
وقد أرِقوا رنْةً إثْر رَنهْ
أنينٌ سَرَى من عروق إليها
…
فرَنَ بها كصَليل الأسِنَّهْ
ثم وقع أن أخذ أبو شبكة إلى دار الشرطة بتهمة التجمهر في أحد الأيام السود، ولم ينج من السجن إلا بعد أن سمع بخبره وزير الداخلية، وردت إليه الشرطة كل ما أخذت منه إلا عصاه، فصرخ: هاتوا عصاي! فقال أحد الرؤساء: عصاك التي قلت فيها شعراً؟ فأجاب: نعم، عصاي التي قلت فيها شعراً. ولم تعد العصا برغم هذا الصراخ، فكتب في جريدة المعرض يقول:
(أيها الجندي الذي خطف عصاي من يدي، من أنت؟ ومن تكون؟ وأي شأن لك بعصاي، عصاي التي قلت فيها شعراً؟)
وبعد أسبوع تبارى اللبنانيون بالهدايا، هدايا العصي إلى الشاعر الذي فقد عصاه الشعرية، وسرى الخبر إلى اللبنانيين في المهاجر فتلقى عصاً من الأرجنتين وعصاً من البلجيك، وبهذا كان أعظم شاعر (مضروب) في هذا الزمان
أكرم الله أهل لبنان، فما يزالون من أمثلة الأريحية العربية!
مع الأستاذ علوبة باشا
الحديث ذو شجون، كما يقال، فليس من الإسراف أن أستطرد فأقول:
منذ عامين لقيت الأستاذ الجليل محمد علي علوبة باشا بقصر عابدين وفي صحبته الأستاذ أنطون بك الجميل، فدعاني برفق ليسر إلي إحدى نصائحه الغالية، فاشترطت أن يسمع الأستاذ الجميل خشية أن يستوحش من إبعاده عن حديث هو منه قريب
علوبة باشا - أنا أقرأ مقالاتك بإعجاب
زكي مبارك - يشرفني أن يكون معالي الباشا من قرائي
- ولكن. . .
- من حق القراء أن يعلقوا على مقالاتي بألف (لكن) لأني أكتب في كل يوم، ولا يسلم المكثار من العثار، فما (لكن) عندك يا معالي الباشا؟
- لكني أراك كثير الشكاية من زمانك
- هذا صحيح، و (لكن) هل يذكر الباشا أنه كان وزير المعارف؟
- أذكر ذلك، فما تريد أن تقول؟
- أريد أن أقول: إني لم أكن أملك الدخول عليك بدون استئذان، ولهذا صحت نيتي على أن لا أرى وجه وزير إلا إن دعاني
- أنت مسرف في سوء الظن بالوزراء، فلهم شواغل لا تخفى عليك
- هذا الاعتذار مقبول، إذا كان الزائر رجلاً من أصحاب المطالب، وأنا رجل نفضت يدي من الدنيا ومن الناس، فما حجة الوزير الذي لا يرى أن أراه بدون استئذان؟
- الوزراء مشاغيل
- والأديب غير مشغول، يا معالي الباشا؟ إن للأديب شواغل وجدانية وروحية وعقلية وفلسفية لا تخطر لبني آدم في بال، وهو مسئول عن رعاية وطنه في حاضره وماضيه، فيعادي من يعادي ويصادق من يصادق في سبيل الوطن الغالي، ثم يكون جزاؤه أن يعتذر أحد الوزراء عن مقابلته بحجة أنه مشغول
- أنت مزعج، يا دكتور مبارك!
- المزعج هو الذي يطالب بالإنصاف، وأنا لم أطلب من أحد إنصافي، وإنما أسأل كيف يسرني أن استصيح بوجه أحد الوزراء فلا يتم ذلك بدون استئذان؟
- إن رجعت إلى الوزارة فسأبلغ من إنصافك ما تريد
- وإن رجعت إلى الوزارة فلن تراني ولن أراك!!
- ما هذا الذي تقول؟
- أنظر ثم انظر إلي ذلك الجانب تر (معالي. . . باشا)، فهل تراني هرعت للتسليم عليه؟
- أنت مخطئ، فهو رجل جليل
- ولكنه وزير أديب!
- وما عيب الوزراء الأدباء؟
- عيبهم أنهم كانوا معنا فطاروا عنا، وأنهم لا يحفظون حق الأديب على الأديب
- وهل تحفظ حق إخوانك إذا صرت من الوزراء؟
- حقق الله نبوءتك ليكون لي إخوان!
ثم نظرت فرأيت وزير المعارف السابق قد انصرف (بدون استئذان)، ورأيتني أهتف بقول أبن درَّاج:
سلامٌ على الإخوان تسليم يائس
…
وسقياً لدهرٍ كان لي فيه إخوانُ
مضى عيشهم بعدي وعيشي بعدهم
…
كأنيَ قد خنتُ الوداد وقد خانوا
هلال شعبان وهلال رمضان
في الأشعار الشعبية التي تقص أخبار الزناتي خليفة وأبي زيد الهلالي يوصف الوجه الجميل بأنه كهلال شعبان، وقد التفت إلى هذا المعنى مرات كثيرة فرأيت هلال شعبان يبدو غاية في الإشراق، بصورة تميزه عن سائر الشهور، وتجعله هلال شعبان بلا جدال، فهل يتفضل الفلكيون بتعليل هذه الظاهرة الطبيعية، وقد أدركت الجماهير آثارها منذ أزمان، ودونوها في أشعارهم الشعبية بدون تفكير في علتها الأساسية
أما هلال رمضان فهو في أغلب أحواله نحيل، وينبني على نحوله أن تراه عيون، ويغم على عيون، بحيث يجوز أن يصوم المصريون في يوم الأحد، ويصوم العراقيون في يوم الاثنين، والتونسيون في يوم الثلاثاء، كالذي وقع منذ بضع سنين
فما الحكمة في نحول هلال رمضان؟
إن راعينا الحساب الذي يجريه الفلكيون فالهلال يولد في وقت واحد، بلا تفريق بين هذا القطر أو ذاك؛ وإن راعينا (الرؤية) فهي تختلف في القطر الواحد، وقد صمنا مرة ثم افطرنا ثم صمنا، وكان لذلك حديث بين الشيخ سليم البشري والسلطان حسين، وهذا شاهد على نحول هلال رمضان
وفي حل هذه المشكلة رأى قوم أن نعتمد على الحساب لا على الرؤية، لنتقي شر الخلاف
حول بداية الصوم، وهو في بعض مظاهره من المضحكات
ولكن الحساب في هذه السنة كان محرجاً، فهو يقول بأن هلال رمضان يمكث دقيقة واحدة بعد غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان
وما دقيقة واحدة فيها الهلال بعد الغروب ثم يغيب؟
أمن أجل دقيقة واحدة نقطع ما بين الفجر والمغرب صائمين بدون تكليف من الشرع الشريف؟
لا، الرؤية هي الأساس، وهي أيضاً الشاهد على أن الإسلام يبني قواعده على أصول لا تحتمل الشك والامتراء. أصول يستوي في إدراكها العوام والخواص
وهنا تظهر الحكمة الحقيقية لاشتراط الرؤية في ثبوت هلال رمضان
تقليد جميل
قالت إحدى الجرائد أن المحكمة الشرعية جرت على العادة التقليدية في ثبوت الرؤيا فصنعت كيت وكيت
وأقول إن هذا تقليد جميل، ويعز على أن تضعف مظاهره من عام إلى عام، فلا نرى (موكب الرؤية) في الفخامة التي شهدها الآباء والأجداد
هذا الموكب هو (التهيؤ لاستقبال شهر الصيام، وهذا التهيؤ هو في ذاته قربان من أعظم القرابين، وهو يعد النفوس لروحانية هذا الشهر الجليل
أتذكرون اختلاف الفقهاء في صحة الصيام لمن فاته أن ينوي الصيام؟
هذا دليلٌ على أن النية هي الأساس في جميع الأعمال الأخلاقية، والنية رياضة تقوى بها عضلات النفوس. والنفوس كالأجسام لها جوارح وعضلات وأعضاء، ولكن أكثر الناس لا يفقهون
آداب إسلامية
إن من يقرأ كتب الفقه الإسلامي يعجب من ترفق الإسلام بالصائمين، فهو لا يفرض الصوم على من يتأذى بالصوم لسبب من الأسباب، ثم يفتح له باب التحرر من تلك الفريضة بتعويض خفيف تقدر عليه أكثر الجيوب، وهو الجود بصدقات ينتفع بها بعض الفقراء
والمساكين
فإن عجزت عن الصوم فتصدق، وأنا أومن بأن الله يجزي المتصدقين أضعاف ما يجزي الصائمين، لأن الجود بالمال يحتاج إلى عزيمة دونها عزيمة الإمساك عن الطعام والشراب
ومع هذا، فلا يجوز لك الخروج على آداب الصيام بحجة الاعتصام بالصدقات، فما يخرج على آداب الصيام غير السفهاء
وإن استطعت إن تصوم وتتصدق، فتلك غاية لا يتسامى إليها غير عظماء المؤمنين
المهم هو أن تكون لك نية في جميع أفعالك، فتصوم عن نية، وتفطر عن نية. المهم هو أن تحفظ أدبك مع الله الذي ترفق بك فلم يكلفك ما لا تطيق، كن رجلً في إيمانك ليجعلك الله أحد عظماء الرجال!
زكي مبارك
تاريخ التاريخ
للدكتور محمد مصطفى صفوت
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
هل التاريخ علم؟
يرى بعض المفكرين أن للتاريخ قوانينه الطبيعية، وقامت محاولات للوصول إلى معرفة هذه القوانين، وتوالت نظريات مختلفة: فهناك النظرية الدينية التي سادت العصور الوسطى، وهناك نظرية التقدم والنمو، وهناك محاولات باتستا ومنتسكيو وغيرهما، وهناك نظرية كارليل التي تقول بأن الأبطال وحدهم هم الذين يغيرون مجرى التاريخ؛ ونظرية هجل التي تجعل الدين مفتاح التطور والنمو، فاليهودية - في نظره - تمثل الواجب، والكونفيوشية تمثل النظام، والبوذية الصبر، والمسيحية الحب، والإسلام العدالة
ولقد تعرض أوجست كنت لتفسير قوانين التطور، فقال: إن التاريخ تفسره الأفكار؛ فالإنسان مر خلاله في ثلاث مراحل، المرحلة الأولى مرحلة تفسير الظواهر الطبيعية بأنها ناشئة من عمل آلهة خياليين؛ ثم مرحلة تفسير هذه الظواهر بمعنويات مجردة، والأخيرة محاولة فهمها بالطرق العلمية، بالملاحظة والتجريب
ولما وضع كارل ماركس نظريته المادية في تفسير التاريخ قال: إن تطور الجماعة متوقف على الظروف الاقتصادية وحدها. ولقد بني ماركس نظريته على أساس فكرة كفاح الطبقات في سبيل الرقي المادي، ذلك الكفاح الذي ينتهي، في نظره، بانتصار الطبقة الأكثر عدداً والأسوأ حالاُ على طبقة المثرين القليلة العدد. ويسمى ماركس ذلك قانون التطور الاجتماعي، ويظل ذلك التطور مستمراً حتى يتلاءم نظام الملكية مع نظام الإنتاج، أي إلى ذلك الوقت الذي تصير فيه الملكية اشتراكية وتنصر فيه طبقة العمال انتصاراً حاسماً. ولقد سبق كارل ماركس إلى الإشادة بأهمية العوامل الاقتصادية آدم سميث وأتباعه من أمثال ريكاردو
وجاء (بكل في كتابة (تاريخ التمدن في إنجلترا) ينحني باللائمة على المؤرخين لأنه لم
يجد أحداً منهم اهتم بإيجاد وحدة مترابطة من حقائق التاريخ. وهو يرى أنه في كل ميادين البحث قد صار للتعميم قيمة عظمى، وبذلت جهود للخروج من حيز الحقائق الجزئية إلى المعاني العامة بينما لا يرى أثراً لذلك في التاريخ، فهم المؤرخين في نظره هو سرد الحقائق، ولذا يرى أنه أصبح من السهل على كل مكسال لا يحسن التفكير قراءة بضعة كتب ليصير مؤرخاً. ويرى (بكل) أن أعمال الإنسان ما زالت ترسف في أغلال القوى الروحية، فلا يمكن وجدان سبب أو نتيجة؛ ويقول لقد وجدنا في ناحية مهمة من الإعمال الإنسانية قوانين طبيعية، لا سيما في ميدان الاقتصاد السياسي، فقد فسرت لنا قوانين الاقتصاد الأزمات التي كانت تقع في الماضي. ويتساءل (بكل): لماذا لا نجد قوانين لأعمال الإنسان الأخرى. يرى أن هناك عوامل كالمركز الجغرافي والجو والتربة والوسط الاجتماعي تحدد أعمال الإنسان، ويعزو تقدم البشرية إلى العقل لا إلى العاطفة والأخلاق
ومن أهم من قال بوجود قوانين للتاريخ فسيولويوجي أمريكي (دريبر ففي تاريخه (نمو أوربا العقلي) يمثل المجتمع بالفرد ويرى أن التقدم الاجتماعي خاضع لقوانين طبيعية كالنمو الجسمي، فحياة الفرد ما هي إلا تصغير حياة الشعب. والاثنان لهما طفولتهما وشبابهما وكهولتهما وهرمهما
هذه المحاولة من جانب المؤرخين لوضع في التاريخ في مصاف العلوم، ناشئة عن أن الاستقراء والتجريب قد شملا كل العلوم الطبيعية في القرن التاسع عشر. والاستقراء والتجريب لا يمكن تحقيقهما في التاريخ، لأن العلم الطبيعي يبحث في أشياء هي في متناول الإنسان يستطيع أن يقلبها على وجوهها المختلفة ويجري تجاربه كما يريد. فالعلوم الوصفية والطبيعية دقيقة لأن البحث فيها موضوعي صرف. أما التاريخ فهو من العلوم الإنسانية، وكل العلوم الإنسانية غير دقيقة لأن حياة الإنسان لا يمكن قياسها ولا وصفها بنفس الدقة التي نستطيعها في العلوم الوصفية، فنحن لا نستطيع قياس عقلية الإنسان ولا عواطفه ولا معلوماته قياساً دقيقاً. بل وأكثر من هذا أن كلا منا لا يستطيع أن يتعرف ما نفوس الذين يشاركونه المعيشة، فنحن كما يقول برسي نان في كتابه:(التربية. . .) كجزائر منعزلة يفصلها بحر لا يمكن عبوره، وأن وسيلة التفاهم بيننا وهي اللغة غير كافية، فشتان بين ما يجده الإنسان في نفسه وبين ما يصنعه للغير. فكيف إذن يعرف
الإنسان ما في نفوس الناس الذين مضوا، وكيف يقدر الدوافع لأعمالهم والظروف التي قامت فيها هذه الإعمال. ثم إن الإنسان من جهة أخرى يفسر أعمال الناس وفق شخصيته ومزاجه وثقافته لا يرى في الأشياء إلا ما يحب أو ما يستطيع أن يراه فيها. فقد يرى المؤرخ في عمل ما العظمة وما هو بعظيم، وذلك لتأثره بطريقة لا شعورية بشخصية من قام بذلك العمل. ومن جهة ثالثة هل لدنيا مقاييس ثابتة نحكم بها على أعمال الناس؟ هل نقيس هذه الإعمال بحب الشخص لذاته أو بحبه للآخرين أو برغبته في أداء الواجب. الواقع ليس هناك مقياس متفق عليه. وكيف نفسر الحوادث بمنطق العقل أم بمنطق الجموع أم بمنطق الدين؟ ثم بعد ذلك هل من الممكن في تقدير أعمال الناس في الماضي أن نفصل بين ما ورثه الإنسان من آبائه وأجداده وبين ما اكتسبه من بيئته؟
التاريخ يدرس حقائق الإنسانية الماضية، هذه الحقائق ليست في متناول أيدينا، وهي لن تعود مرة أخرى. ثم هي مجرد آثار ومخلفات تعطينا فكرة عامة، وعلينا نحن تكميل التفاصيل باستعمال الخيال. فهناك فعلاً حلقات مفقودة في التاريخ. وكثير من الحقائق المهمة قد عفا دون أن يترك وراءه أثراً. ثم من الذي كتب أو أنشأ هذه الآثار؟ أليسوا من بني الإنسان لهم ميولهم وأغراضهم الخاصة! ومصادر التاريخ فوق ذلك لا تستلزم معرفة بالتاريخ فحسب، بل معرفة تامة باللغات وطرق الكتابة والسياسة والاقتصاد والاجتماع مما جعل البحث في التاريخ عسيراً.
ويظهر أن محاولات بعض المفكرين لوضع قوانين للتاريخ لم تنجح تماماً، فالنظريات مختلفة، حتى نظرية التقدم لا زالت طائفة محترمة من المفكرين ترفضها لا سيما في النواحي الروحية. والديانات تحدثنا بأن الإنسان خرج من حياة نعيم دائم وعيش موفق إلى حياة كلها تعب وشقاء لا ينتهي. ثم ما الذي يدرينا أن العالم لا يزال في شبابه أو هو في طريق الفناء. وكثير من حوادث التاريخ بعد ذلك قائمة على الصدق لا دخل لإرادة الإنسان فيها ولا يمكن تعليلها.
ويرد على هذه الاعتراضات بالقول إن هناك ظروفاً تقع فتغير الموقف وليس للإنسان دخل فيها. ولكن بالرغم من ذلك هناك تطور وتقدم في الحياة لا يمكن مدافعته. وكما يرى جيبون بأن لكل عصر قيمته في زيادة ثروة الجنس الإنساني وسعادته ونواحي فضائله: فالإنسان
في القديم عاري الجسم والعقل لا يعرف قانوناً ولا فناً ولا أفكاراً. ثم تحسنت حالته فعمل في الأرض وطوف في أرجاء المحيط واستثمر قواه الجسمية والعقلية كما استثمر قوى الطبيعة وذلك لنفسه. ثم إن كثيراً من الصعوبات السابقة قائمة على النقص وعدم الكمال الإنساني. ويجب ألا نبالغ فيها، فكثرة الناقدين والباحثين قد أظهرت إلى حد كبير ما هو صحيح وما هو خطأ، أو هي على الأقل تحاول ذلك. ولذلك لا محل للاعتقاد بأن التاريخ ما هو إلا جملة خرافات أجمع الناس على تصديقها. والواقع أننا نجد لمعظم عصور الماضي آثاراً خالدة مادية وروحية لا يمكن الطعن فيها. ومنها ما هو في أنفسنا وثقافتنا وعقائدنا وتقاليدنا.
التاريخ فن وعلم وفلسفة: فهو فن وفلسفة من حيث أنه يستلزم من المؤرخ معرفة واسعة بنواحي الثقافة وبأمور العالم، وقدرة على اللغة والتعبير والتصوير. فالمؤرخ كالمصور أمامه الحياة الاجتماعية وعليه هو وضع صور لها. وكما أن المصور يصور الناحية الطبيعية التي تروقه بالطريقة التي يرضاها، فكذلك المؤرخ. والتاريخ علم من حيث أنه قائم على أسس صحيحة في البحث والتفكير في المصادر الأصلية والوثائق ومقارنتها ومناقشتها والحكم عليها. وطريقة البحث في التاريخ ولو أنها علمية إلا أنها في ذات الوقت فنية وشخصية، لأن دراسة التاريخ ليس معناها كشف الماضي فحسب وإنما تقدير الماضي، فلا بد من إحساس بني الإنسان بشعور خاص عند دراستهم للإنسان. فهل هم إلا أبناؤه وورثته!
محمد مصطفى صفوت
طلاب الالتحاق بالجامعة
للأستاذ عبد الله حسين
في ختام كل عام دراسي، تقترن بنتائج الامتحانات العامة صيحة تنادي بوجوب إنصاف الطلبة، حين يقدر الممتحنون الدراجات على الإجابة، أو بضرورة الرفق بحال الطالب لأسباب تبسط من أمثلتها صعوبة الأسئلة، أو ملابسات أحاطت بالطلبة ينبغي وزن آثارها في استذكارهم!
وفي مستهل كل عام دراسي ينادي الناس بوجوب فتح أبواب الكليات لجميع من يطلبون الالتحاق بها، حرصاً على مستقبلهم وتوطيداً لأركان التعليم الجامعي، أو استجابة لأسباب أخرى!
وقد روت إحدى الصحف اليومية - في معرض المباهاة والاغتباط - أن الذين طلبوا الالتحاق بالكلية الحربية بلغ عددهم حوالي الألفين. ثم عقبت الصحيفة على هذه الراوية بأن مدلولها يبرهن على أن الروح العسكرية قد أصبحت تملأ نفوس طلبتنا، بعد أن كان الالتحاق بالجندية أمراً لا يرتاح إليه الكثيرون منذ عهد غير بعيد
وثمة أنباء أخرى عن حركة الكليات وكثرة طلاب الالتحاق بها، وعن الجهد الذي يبذله المشرفون على التعليم، والقائمون على شؤون الجامعة في سبيل تيسير التحاق الطلبة بالكليات، وخاصة بعد أن وسع جامعة فاروق الأول في الإسكندرية أن تقبل ما يزيد على حاجة جامعة فؤاد الأول في القاهرة
وما من ريب في أن اطراد الزيادة في طلاب الالتحاق بالكليات والمعاهد أمر جدير بأن يقابل بالارتياح حقا من الوجهة النظرية
أما من الجهة العملية، فإن من بواعث الأسف حقا، أن يتبن أن طلاب الالتحاق بالكلية الحربية، لا يصدرون في طلبهم هذا عن رغبة صادقة في الجندية وفي المساهمة في ذلك الجهد الوطني الأول - وهو الدفاع عن البلاد بالتضحية بالذات وهو أعز ما يملك الإنسان - وإنما وجهتهم في هذا الطلب، أن يكفلوا لأنفسهم مستقبلاً ثابت الدعائم موفور الرزق والترقية المطردة، بأن يعين الطالب حين يتخرج من غير شفاعة شفيع ولا وساطة وسيط، وبأن يرقى سلم الترقي، فيبلغ أعلى رتب الجيش وهي الآن (الفريق)، وفي المستقبل غير
البعيد (المشير) أو (المارشال)
كذلك مما يدعو إلى الألم والإشفاق أن يكثر طلاب الالتحاق بكلية التجارة، مع أنهم حملوا على هذا، لأن درجات نجاحهم لا تيسر لهم الالتحاق بكليات أخرى، دون الاستجابة إلى أية رغبة في العلوم التجارية، ودون التهيؤ السابق للنهوض بالأعمال الاقتصادية والحسابية
ومما يبعث على الأسف أيضاً، أن يكثر طلاب الالتحاق بكلية الزراعة، على حين أنهم لم يعدوا أنفسهم أو لم تعدهم دراستهم وطبائع نفوسهم، أو بيئتهم أو ثروتهم لمزاولة الأعمال الزراعية.
في كل أمة مهما تبلغ من الرقى ومهما تبلغ الذروة في الحضارة القائمة، فريقان من الناس: الفريق الأول وهو الأكبر أيضاً، هو الذي تعول عليه الأمة في العمل المأجور في الزراعة والصناعة، وهذا لا غنى لكل أمة عن استخدامه في سن مبكرة، لكي تستفيد من شبابه ونشاطه ومنته البدنية، ولكي يسعه أن يبادر إلى إعفاء ذويه الفقراء أو الدولة نفسها من نفقات تربيته، لأن ميزانية أية دولة في العالم لا يسعها أن تدفع نفقات مراحل التعليم كلها بالمجان إلى الجميع، حتى سن الثلاثين مثلاً
أما الفريق الثاني فهو الفريق الأقل عدداً وهو الذي لا غنى للدولة عن أن تتيح له أن يتفرغ لشئون الحكم وإرادة الأعمال والبحوث العلمية المنوعة
هذان الفريقان قائمان في كل أمة مهما يكن نوع نظام الحكم: فهو قائم في روسيا السوفيتية لأن المساواة النظرية فيها تقوم على إلغاء الرأسمالية لا على إلغاء نظرية التفوق العقلي الطبيعي، وفي البلاد الديكتاتورية ذاتها. أما في البلاد الديمقراطية فقيام الفريقين فخر من مفاخرها
ولما كانت الحضارة القائمة، هي حضارة صناعية أي مؤسسة على التقدم الصناعي الآلي، كان التخصص في كل فرع من فروع الحضارة ركناً من أركانها وظاهرة من ظواهرها
وعلى هذا أصبح لزاماً على القائمين بأمور التعليم الجامعي أن يتعرفوا مدى جدارة الطالب بدراسة العلوم التي اختصت بها الكلية التي طلب الالتحاق بها، لكي يتحقق المعنى الجامعي، وهو الرغبة الصادقة في متابعة دراسة هذه العلوم في الجامعة وبعدها وإلى ما يشاء الله، ولكي تحقق الأمة ما تطلبه من الكفاية الفنية الدقيقة في أبنائها البررة.
ومن أجل هذا ينبغي أن يوجه المحبون للفنون العسكرية إلى الكليات الحربية، وأن يتجه المعدون للشئون الهندسية إلى كلية الهندسة وهكذا. . .
ومتى وفقنا إلى هذا، أي إلى رد الأمور إلى مستقرها الطبيعي وتوجيه كل طالب إلى ما يصلح له - حق لنا أن نبدي ما نشاء من الاغتباط. أما قبل هذا فليس يسعنا إلا أن نبدي الأسف والإشفاق ونطلب من الله الرحمة والمغفرة.
عبد الله حسين
المحامي
مفاوضات الفتح العربي لمصر
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 3 -
الرواية الثانية
1 -
يذكر أبو المحاسن (ص10 - 16) نقلاً عمن لا يسميه. ونحن نورد خلاصة ما قال:
لما حاصر المسلمون حصن بابليون وجدوا في فتحه خشي من في الحصن - وكانوا جماعة من الروم وأكابر القبط وعليهم المقوقس - أن يظهر عليهم المحاصرون، فلحق المقوقس وجماعة من أكابر القبط بالجزيرة تاركين وراءهم في الحصن جماعة لقتال العرب. ومن هناك - أي من الجزيرة - أرسل المقوقس إلى عمر رسلاً يحملون هذه الرسالة:(إنكم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا فابعثوا إلينا رجلاً منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن يغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفاً لمطلبكم ورجائكم فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء). فرد عمر على المقوقس رسله بعد يومين كاملين ومعهم هذا الجواب: (إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم مالنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين)
فلما رجع الرسل أتخبرهم المقوقس عما وجدوه من حال العرب، فأخبروه أنهم قوم يؤثرون الموت على الحياة والتواضع على الرفعة، وأنهم لا رغبة لهم في الدنيا ولا نهمة، وأنهم في معيشتهم سواء: وضيعهم كرفيعهم وسيدهم كعبدهم وأميرهم كواحد منهم، وأنهم لا يتخلفون عن صلاة. فلما سمع المقوقس من حال العرب ما سمع أيقن أنه إن لم يغتنم صلحهم وهم محصورون بالنيل فلن يغتنمه حين تمكنهم الأرض. فرد رسله إلى عمرو يقول له: (ابعثوا
إلينا رسلاً منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه يكون فيه صلاح لنا ولكم)
فبعث عمر عشرة نفر جعل عليهم عبادة بن الصامت، وأمره ألا يجيب المقوقس إلى شيء غير هذه الخصال الثلاثة سالفة الذكر
وكان عبادة أسود طويلاً موغلاً في السواد والطول، فلما دخل على المقوقس هابه هذا وسأل النفر العرب الذين جاءوا معه أن ينحوه عنه ويقدموا غيره للكلام. فقالوا جميعاً إن عبادة أفضلهم رأياً وعلماً، وإن أميرهم قد أمره عليهم فهم لا يخالفونه في رأي أو قول. فدهش المقوقس وأظهر لهم عجبه من أن يفضلهم رجل أسود. فأجابوه بأن السواد لا ينكر فيهم، وأنه لا يضع لصاحبه رفعة هو قَمن بها أو يغمط له حقاً هو جدير به
فقال المقوقس لعبادة: (تقدم يا أسود وكلمني برفق، فإنني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة). فتقدم إليه عبادة فقال: (قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سواداً منى وأفظع منظراً، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم مني. وأنا قد وليت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً. وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها؛ وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى. . . لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وامرنا به نبينا وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه)
فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: (هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها). ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت فأقره على ما وصف به نفسه وأصحابه، ثم حاول أن يخوفه ويصرفه عن الهدف الذي
يقصد إليه العرب فقال له: (وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لم تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم. وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلة ما بأيديكم. ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به). فقال عبادة: (يا هذا، لا تغرن نفسك ولا أصحابك. أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم لعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم. . . وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا. . . وأما قولك إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن فيه. . .). ثم يخير عبادة المقوقس بين هذه الخصال الثلاث التي عهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين وأمر أمير المؤمنين عمراً بها ثم تلقاها عبادة عن عمرو: إما الإجابة إلى الإسلام الذي يوحد بين معتنقيه ويكف بعضهم عن بعض، وإما جزية مقدرة يؤديها القبط والروم للعرب في كل عام ولهم في مقابل أدائها أن يقتل العرب عنهم من يناوئهم ويعرض لهم في شئ من أرضهم ودمائهم وأموالهم، وإما الاحتكام إلى السيف
فيقول المقوقس: (هذا لا يكون أبداً، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا). فيجيبه عبادة: (هو ذلك فاختر ما شئت). فيسأل المقوقس: (أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الثلاث الخصال؟). فيرفع عبادة يديه ويقول: (لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم)
فيلتفت المقوقس حينئذ لأصحابه ويسألهم رأيهم؛ فيجيبون بأنهم يأبون ترك دين المسيح بن مريم إلى دين لا يعرفونه، وانهم يرون الموت أيسر لهم من أن يذعنوا للعرب ويسلسوا لهم القياد ويملكوهم منهم الرقاب، وأنهم يرضون أن يضاعفوا للعرب من المال حتى يتركوهم ويتولوا عن ديارهم.
ويخبر المقوقس عبادة بما انتهى إليه رأي أصحابه، فيقوم هذا وأصحابه. وهنا يقول المقوقس لصحبه:(أطيعوني وأجيبوا للقوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة؛ ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين) فيسألونه: (وأي خصلة نجيبهم إليها؟) فيجيب: (إذن أخبركم أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة). فيقولون: (فنكون لهم عبيداً أبداً؟). فيقول: (نعم، تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم وتكونوا عبيداً تباعون وتمزقون في البلاد مستعبدين أبداً أنتم وأهلكم وذراريكم). فيقولون: (فالموت أهون علينا)
فواضح مما لخصناه عن أبي المحاسن أن المفاوضة كانت في جزيرة الروضة بين المقوقس وعبادة بن الصامت.
2 -
ويذكرها المقريزي (ص 65 - 70) نقلاً عن كتاب ابن عبد الحكم بما لا يخرج عما ذكره أبو المحاسن.
3 -
ويذكرها السيوطي (ص 65 - 69) نقلاً عن كتاب ابن عبد الحكم بما لا يخرج عما ذكره أبو المحاسن ايضاً
4 -
ويشير إليها القضاعي فيها لخصه في كتابه (الخطط من قصة فتح مصر)؛ وذلك فيما ينقله عنه السيوطي (ص77) يقول القضاعي: إن العرب لما ظفروا بالحصن (حصن بابليون) لحق المقوقس وأهل القوة بالجزيرة، وتحصنوا هناك والنيل حينئذ في مده، فسأل المقوقس في الصلح، فبعث إليه عمرو بعبادة ابن الصامت، فصالحه المقوقس على القبط والروم، على أن للروم الخيار في الصلح إلى أن يوافي كتاب ملكهم، فإن رضي تم ذلك، وإن سخط انتقض ما بينه وبين الروم؛ وأما القبط، فبغير خيار. . .
فواضح أن القضاعي متفق مع من ينقل عنه أبو المحاسن، وكذلك مع ابن عبد الحكم في مكان المعاهدة وطرفيها، ولكنه مختلف عنهما في وقتها، فهو يقول: إنها كانت بعد سقوط (حصن بابليون)؛ وهم يقولون إنها كانت قبل ذلك
ولا يرد في كتاب حنا النقيوسي شيء من ذلك
والأستاذ بتار لا يجد ما يشككه في هذه الرواية، فهو يسلم بها ولا يرفضها؛ وهو ينقل إلينا
في كتابه (ص223 - 277) طرفاً من هذه المفاوضة، وهو يتفق مع ابن عبد الحكم، ومن ينقل عنه أبو المحاسن في أن المفاوضة كانت قبل سقوط الحصن
ونحن نسلم بما يراه الأستاذ بتلر بصدد هذه الرواية، ولكننا لا نظن بعد ذلك أن الحديث الذي دار في المفاوضة هو نفس الحديث الذي نقلته إلينا تلك المراجع التاريخية العربية؛ إذ يظهر أن يد أديب صناع قد امتدت إلى هذا الحديث الذي دار في المفاوضة فنمقته ووشته وهذبت حواشيه وخرجت به عن صورته الأولى الساذجة، إلى صورة أخرى أدبية، لا نشك في روعتها وجمالها. . . نقول: إننا لا نظن أن الحديث الذي دار في المفاوضة هو نفس الحديث الذي نقلته إلينا المراجع التاريخية العربية؛ ولكننا - مع ذلك - لا نظن أن الحديثين يختلفان في الروح المسيطرة عليهما المنبثة فيهما
(للبحث بقية أخيرة)
السيد يعقوب بكر
رمضان
للأستاذ يحيي محمد علي
بعد جهاد مضن في سبيل الحياة والبقاء، ونضال منهك من أجل القوت والعيش، تعود النفوس رازحة لاغبة ضارعة قد أرهقها النصب فوهنت وتراخت، وهدها الإعياء فتثبطت وتوانت، وفدحها الإخفاق فقنطت وتخاذلت؛ لتنعم في ظل رمضان بالراحة التي تجدد قواها المكدودة، والرجاء الذي يرهف عزمها الكليل، والرشاد الذي يقيها مغبة الضياع في مجاهل الغواية
وبعد خصام ملث على المال المدنس، ونزاع متواصل على الجاه المزيف، تعوج القلوب مرمضة صادية قد غمرها الإثم فصدها عن الخير، وغشيها الجشع فصرفها عن الإحسان، وتألب عليها الغرور فكبحها عن التواضع؛ لتستمد من وحي رمضان الإيمان الذي يقر في مطاويها فورة البغى، والقناعة التي تسكن في أعنائها سورة الشره، والإباء الذي يخمد في ثناياها جذوة الحسد
وبعد صراع عنيف على المجد الزائل، وتهافت شائن على السطوة الكاذبة، واندفاع يائس وراء الظنون والأوهام، تدلف العقول جائرة مفتونة حائرة قد ران عليها الباطل فحجب عنها ضوء الحق، ووطئها الغي فجنحت للطيش، ولازمها الحرص فزين لها الصلف والزهو والعجب، لتقتبس من قدسية رمضان اليقين الذي يبدد لها دجى الشكوك والريب، والهدى الذي يرفع عنها آصار المروق والزيغ، والحلم الذي يكفكف فيها غلواء الجهالة والنزق
فلا يلبث ذلك الإنسان السادر في المعصية والجامع في الشر والمصر على المنكر أن يدرك أسرار الوجود فيرق ويلين، ويترفق ولا يتمرد، ولا يتجبر ولا يتكبر، ويعرف قيمة الحياة فيتعفف عن الرذيلة ويتصون عن الرجس ويترفع عن الغش والخداع ولا يخضع لسلطان الهوى ولا يخنع لطغيان الشهوة ولا يصغي لهمسات الشيطان، ويفهم معاني الإنسانية فلا يتغلظ ولا يقسو ولا يظلم، وتتيقظ في أعماقه أحاسيس الرحمة والشفقة فيعطف ويحسن ولا يسيء، وتتفجر في أغواره منابع البر والرأفة فيرفد ويتصدق ولا يبخل
هذا هو رمضان أيها المسلم. . .
ترويض للنفس على الكفاح والمجالدة والاحتمال، وتدريب للقلب على الصبر والثبات والمثابرة، وسمو بالعقل إلى الصلاح والسداد والتبصر، وتقويم للطباع وردع للأهواء
وهو يلوح لنا من أفق الزمن هذا العام والكون مغتلم الأمواج صخاب اللجج عصوف الريح يكاد سيله العاتي يطم ويطغى فيجتاح ما ظل من آثار الحضارة المنكوبة، ويكتسح ما بقى من أطلال المدينة المحروبة، والإنسان المجنون محمول على غوارب اللجج وقد غلبه الجزع فأفقده وسيلة النجاة، وملكه الذهول فضيع عليه معالم الطريق، فلم يعرف كيف يتفادى العاقبة المؤلمة ولم يدر كيف يتقي الغب المر.
فلا ريب أن حاجة المسلمين اليوم إلى التعاون والتقرب والتضامن أشد منها بالأمس.
فليكن رمضان وازعاً للتعاون وسبباً للتقرب ودافعاً للتضامن
ولا ريب أن المصاعب التي تعانيها الطبقة الفقيرة الآن أعظم منها في أي وقت مضى.
فليكن رمضان سبيلاً لتخفيف وطأة هذه المصاعب عن كاهل هذه الطبقة.
تذكر أيها الغني المترف المتقلب في الرخاء والمتمرغ على الذهب والديباج أولئك المعوزين الذين جار عليهم الدهر، وأغار عليهم الإملاق، وأناخ عليهم الداء، وقعد بهم العجز، وادرء عنهم بالصدقة عرام الفاقة.
وتذكر أولئك اليتامى الذين نكبهم القدر فحرمهم عناية الأم ورعاية الأب وحنان الناس، وأجهدهم السغب فسلبهم الدعة والاطمئنان، وطاردهم التشرد فضن عليهم باللقمة التي تسد الرمق، والسمل الذي يستر الجسد، والمأوى الذي يلوذون به من الحر والقر، وكن لهم الردء والمساعد والمعين.
فقد يمن الله علينا بعد خلاص النفوس من الأهواء، وصفاء القلوب من الأحقاد، وتجرد العقول من الأوهام؛ بالسلامة من أوار هذا الجحيم المتأجج وخطر هذه النكبة البشرية المروعة!
وإن العقبى للصالحين.
(بغداد)
يحيي محمد علي
شهداء المعلمين
للأستاذ علي الجندي
(كثر في السنوات الأخيرة موت المعلمين فجأة في أثناء تأدية
واجباتهم، كما فشا فيهم مرض الذبحة الصدرية والفالج
وضغط الدم! حتى لفت ذلك أنظار الناس! وسر هذا البلاء
معروف لا يجهله أحد، وهأنذا أرفع صوتي بهذا الشعر الباكي
لعله يصل إلى أسماع القادرين على تخفيف الضر عنهم)
مَا غَالَهُ الْمًوْتُ، بَلْ أَوْدَى بِهِ الْعَمَلُ
…
كَيْفَ الْحَيَاةُ وَلَا سَلْوَى وَلَا أَمَلُ!
قَالُوا: هُوَ اْلأَجَلُ الْمَحْتُومُ؛ قُلْتُ لَهُمْ:
…
لَوْ لَمْ تَخُنْهُ الْمُنَى مَا خَانَهُ اْلأَجَلُ
يَأْسٌ وَبُؤْسٌ يَضِيعُ الْعُمْرُ بَيْنَهُماَ
…
كِلَاهُماَ شَرٌ مَا يُمْنَى بِهِ رَجُلُ
أَغْرَتْ بِهِ الْمَوْتَ أَعْباَءُ تَحَمُلَهاَ
…
لَا يَشْتِكي. . . بَعْضُهاَ يَعْياَ بِهِ الْجَبَلُ
أَمَانَةٌ تُثْقِلُ اْلأَعْناَقَ مَا بُعِثَتْ
…
إِلَا لَهاَ أَنْبِياَءُ اللهِ وَالرُسُلُ
قَالُوا: بِهاَ انْهَضْ وَسِرْ فَوْقَ الْقَتاَدِ وَلَا
…
تَمْشِ الْهُوينَى! لِمَنْ جَاَءتْ بِكَ الْهَبلُ؟
هُوَ الشَّهِيدُ وَإِنْ لَمْ تَرْوَ مِنْ دَمِهِ
…
بِيضُ السُّيُوفِ وَلَا الْخَطَّيةُ الذُّبُلُ
تَمْضِي السُّنُونُ وَلَا يَفْتَرُّ مَبْسِمُهُ
…
وَلَا يُرَنِّحُ مِنْ أَعْطاَفِهِ الْجَذَلُ
وَلَا يَخَفِّ - عَلَى الأيام - مَحْمَلُهُ
…
إَنَّ الشَّقِيَّ بِهِ الأَرْزَاءُ تَتَّصِلُ
مَشَى بَنُوهُ إلى غَاياَتِهِمْ، وَمَشَتْ
…
بِهِ إلى قَبْرِهِ الأَوْصاَبُ وَالْعِلَلُ
ساَعٍ إلى دَرْسِهِ وَالضَّرُّ يُثْقِلُهُ
…
كماَ مَشَى يَتَكفَا الشَّارِبُ الثَّمِلُ
تُكَادَ تَعْرِفُهُ مِنْ فَرْطِ صُفْرَتِهِ
…
كأَنْ مِنْ وَجْنَتَيْهِ يَطْلُعُ الأُصُلُ
مَا جَازَ سِنَّ الصِّباَ وَالْوَجْهُ مُكْنَهلٌ
…
وَالرَّأْسُ مُشْتَمِلٌ بِالشَّيْبِ مُشْتَعِلُ
وَالنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِ. . . كلٌّ لَهُ شُغُلٌ
…
عَنْ هَمِّهِ. . . وَلَهُ مِنْ هَمِّهِ شُغُلُ
ساَرُوا عَلَى نُورِهِ الهْاَدِي، فَبَانَ لَهُمْ
…
قَصْدُ السًّبِيلِ، وَسُدَّتْ دُونَهُ السُّبُلُ
وَخَلَّفُوهُ سِرَاعَ الْخَطْوِ، وَهْوَ لَقَي
…
كماَ تَخَلَّفَ فيِ دَارَ الْبِلى الطَّلَلُ
وَلَمْ تَضِقْ بِهِموُ فيِ عَيْشِهِمْ حِيَلٌ
…
تُدْنَى الأَمَانيِ. . . وَقَدْ ضاَقَتْ بِهِ الْحِيَلُ
فيِ كلِّ يَوْمٍ لَناَ صَرْعَى نُشَيِّعُهُمْ
…
إِلَى الْقُبُورِ، وَفيِ أَكباَدِناَ شُعَلُ
قَدْ عَاجَلَتْهُمْ مَناَياَهُمْ فَماَ فَزَعوا
…
إِلَى طَبِيبٍ، وَلَا أَوْصَوْا بِمَنْ نَجَلوا
أَنْضاَءُ حَرْبٍ مَفاَلِيلٌ وَلَيْسَ لَهُمْ
…
عَلَى بَلَائهِموُ غُنْمٌ وَلَا نَفلُ
لَهفْيِ عَلَيْهِمْ ضَحاَياَ لَا يُحسُّ بِهاَ
…
فِيمَنْ أَقاَمُوا مِنَ الأَحْياءِ، أو رَحَلُوا!
الصَّابِرِينَ عَلَى الضَّرَّاءِ مَا نَبَسُوا
…
يَوْماً بَشكْوَى، وَلَا مَلُّوا، وَلَا تَجلُوا
وَالْقاَنِعينَ مِنَ الدُّنْياَ بِقُوتِهِموُ
…
وَغَيْرُهُمْ بِغِناَهُ يُضْرَبَ الْمَثَلُ!!
وَالسَّاهِرِينَ عَلَى الأَوْرَاقٍ مَا عَرَفَتْ
…
طَعْم الْكَرَى فيِ الدُّجًى السًّاجِي لَهُمْ مُقَلُ
إَنْ أَحْسَنُوا لَمْ يُجاَزُوا بِالُّذِي صَنَعُوا
…
وَإِنْ أَساءُوا فَذَنْبٌ لَيْسَ يُحْتَمَلُ!!
هِيَ الْحَياَةُ. . . فَمَوْلُودُ أُتِيحُ لَهُ
…
(سَعْدُ السُّعُودِ) وَمَوْلُودٌ لَهُ (زُحَلُ)!
كَمْ دَائِبٍ فيِ نَوَاحِيهاَ قَضَى سَغَباً
…
وَقَاعِدٍ جَاءهُ بِالنِّعْمَةِ الْكَسَلُ؟!
لَوْ أَنْصَفَتْ باَتَ كلٌّ عِنْدَ رُتْبَتِهِ
…
فَلَمْ يَنَلْ نَهْلَةً مِنْ وِرْدَهاَ الْوَكِلُ
كَيْفَ احْتِياَلُكَ فيِ دُنْياَ يَطُولُ بِهاَ
…
عُمْرُ الْجَباَنُ، وَيَلْقَى حَتْفَهُ الْبَطَلُ
لَا يَجْتنيِ صاَبَهاَ إَلاَّ أَخُو كَرَمٍ
…
وَلِلَّئِيمِ سُلَافُ الرَّاحِ وَالْعَسَلُ
صَبْراً عَلَى نُوَبِ الأيام، عَلَّ لَكُمْ
…
أَوَاخِراً، عِنْدَهَا تُنْسَى بِهاَ الأَولُ
الدَّهْرُ: أَنْعُمُهُ ظِلٌّ وَأَبْؤُسُهُ
…
وَالظِّلُّ يَسْجوُ قَلِيلاً ثُمَّ يَنْتَقِلُ
(التوفيقية)
علي الجندي
صرخة الألم!
للأديب عبد العليم عيسى
أَأَناَ الَّذِي رَدَّدْتُ أَلْحَانيِ عَلَي
…
قِيثاَرَتيِ السَّكْرَى طَروباً حَالماً؟
أَأَناَ الَّذِي ضَحِكَتْ عَلَى كَوْنيِ الرُّؤَى
…
فَمشَيتُ مِطرَاباً عَلَيْهِ هاَئمِاً؟
أَأَناَ الَّذِي وَهَبَ الْعَذَارَى رُوحَهُ
…
وَوَهَبْنَهُ أَرْوَاحَهِنَّ بَوَاسِمَا؟
أَأَناَ الَّذِي دَفَنَتْ يَدَايَ كآبتيِ
…
وَمَضَيْتُ وَضَّاحَ الأَسْرَةِ ناَعِماً؟
. . . أَناَ غَيْرُ هذَا كلِّهِ. . . أَناَ لَمْ أَكُنْ
…
إِلاَّ جَحِيماً مُسْتَفِزاً عاَرِمَا
ياَ بَحْرُ كَمْ غَنَّيْتُ فَوْقُكَ ساَبِحاً
…
لَا أَعْرِفُ الأَشْجاَنَ إِلاَّ وَاهِماً!
ياَ زَهْرُ كَمْ رَشَفَتْ جَمَالَكَ مُهْجَتيِ
…
وَاسْتَلْهَمَتْ مِنْكَ النشِيدَ الْباَسِمَا!
ياَ لَيْلُ كَمْ فَجَّرْتُ فيكَ مَلَاحِنيِ
…
وسَهَرْتُ فِيكَ مُساَمِراً وَمُناَدِمَا!
كاَنَتْ لِقَلْبي فيِ دُجَاكَ مَلَاعِبٌ
…
سَكَبَتْ بِهِ نَغَماً يَهُزُّ الْعاَلَماً. . .
أَسْياَنُ. . وَالدُّنْياَ تَموجُ بِحُسْنِها
…
فَعَلامَ أُنْكِرُ حُسْنَهاَ مُتَشَائماً!
ظَمْآنُ. . . وَالأَقْدَاحُ تَطْفَحُ فيِ يَديِ
…
فَعَلَامَ أَسكبها حَزِيناً وَاجِماً!
مَاليِ أَسِيرُ عَلى الَّلهِيبِ مُجَرَّحاً
…
وَأُعَانِقُ الْهَوْلَ الْمُحَطَّمَ ساَئماً!
وَأَناَ الذيِ عَبَرَ الْحَياَةَ كأَنَّهُ
…
طَيْرٌ عَلَى الأَغْصاَنِ يَهْتِفُ دَائماً!
وَا حَرَّ أَشْوَاقيِ لفَجْرٍ ضاَحِكٍ
…
يَمْحُو ضَباَباً فيِ وُجُوديِ قاَتِماً!
عبد العليم عيسى
البريد الأدبي
العيد الألفي للجامع الأزهر
هذه ألف سنه طوتها يد الدهر على أقدم جامعة باقية في العالم كما يطوي الخيال أغشية النور على كوكب النهار. وكان المقدر أن يحتفل العالم الإسلامي كله بالذكرى الألفية للجامع الأزهر في يوم السابع من شهر رمضان لولا أن الحرب التي لا تزال تزلزل الأرض قد أذهلت الناس عن كل شيء وأعجزتهم عن كل أمر، فانتهى العزم بالقائمين على إعداد هذا الاحتفال أن يفعلوا مأدبة الخليفة الفاطمي يوم افتتاحه. وعلى ذلك تقرر أن يؤدي صلاة الجمعة فيه صاحب الجلالة المعز لدين الله فاروق الأول يتبعه كبار حاشيته ورجال دولته، وان يستمع إلى درس ديني يلقيه الأستاذ الأكبر عقب الصلاة، وأن يتفضل جلالته فيشرف العلماء والطلاب بدعوتهم إلى الإفطار على موائده الكريمة، وأن تصدر لجنة من كبار العلماء مختصراً في تاريخ الأزهر يوزع على الناس. وقد نشرنا في هذا العدد كلمة قيمة للأستاذ المدني تعبر أصدق التعبير عما يعتلج من الآلام والآمال في نفوس المصلحين البررة من أبناء الأزهر الحديث. وفي العدد القادم سنصف هذا الاحتفال وما قيل فيه.
تاريخ الجامع الأزهر في العصر الفاطمي
كان صدور هذا الكتاب القيم في هذه الأيام تحية طيبة قدمها صديقنا الأستاذ محمد عبد الله عنان إلى الأزهر المعمور في عيده. والأستاذ عنان من الكتاب القلائل الذين توفروا على دراسة مصر الإسلامية وخدموها بالتأليف والبحث. وكان الظن به آن يضع للأزهر تاريخاَ كاملاً في نواحيه شاملاً في عصوره (ولكن ظروف الوقت العصيبة واضطراب الأذهان وافتقاد المراجع، حالت كلها دون تحقيق هذه الأمنية). فاكتفى الأستاذ بأن قدم تاريخ الأزهر في العصر الفاطمي موصولاً ببعض الفصول التكميلية استعرض فيها أحوال الأزهر منذ العصر الفاطمي إلى هذا العصر بإيجاز. والكتاب حسن الطبع جيد الورق. يباع في المكاتب الشهيرة باثني عشر قرشاً.
مكتبة المستشرق المجري جولد زيهر
في سنة 1921 توفي المستشرق المجري أغناطيوس جولد زيهر أول من كتب من
المستشرقين في الإسلام كتابة علمية دقيقة، وخلف وراءه مكتبة نفيسة تحتوي زهاء 6000 مجلد جمعها من مختلف الأقطار الغربية والشرقية، وبخاصة من القطر المصري الذي نزح إليه لإتمام دراسته في الأزهر الشريف
وهذه الكتب جليلة القدر عظيمة النفع لأنها تكاد تشتمل على جميع المؤلفات الأساسية في الفقه الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، والغة العربية، والأدب العربي، وما إلى ذلك من الموضوعات. ومما يجعل لها قيمة خاصة تلك التعليقات الهامة التي علقها جولد زيهر على هوامشها لإبداء ما يخطر له من ملاحظات، وانتقادات، وتصحيحات، وإشارات
وإلى جانب هذه الكتب، تحتوي مكتبة جولد زيهر على طائفة كبيرة تبلغ الألف من نسخ الأبحاث التي كان يرسلها إليه المستشرقون مما ينشرونه في الصحف والمجلات العلمية عن الشرق والإسلام والعرب، وهي مطبوعة على حدة
فلما توفي جولد زيهر آلت هذه المكتبة إلى دار الكتب الوطنية والجامعة في القدس الشريف
مقدمة أسكار وايلد في الفن
اطلعت - متأخراً مع الأسف - على ترجمة الأستاذ علي كمال لمقدمة أسكار وايلد الخالدة في الفن في عدد الرسالة (474) فلاحظت على ترجمته المشكورة أنها خلت من بعض الفقرات المهمة من النص الأصلي، كالفقرة المختصة بفن الترجمة مثلاً حيث يقول وايلد:
(إن أرفع أشكال النقد - كأحطها - هو نمط من فن الترجمة). وكذلك فإني رأيت التسلسل في الترجمة مبتوراً فقد جاء فيها: (إن الذين يجدون معاني قبيحة في الأشياء الجميلة إنما هم فاسدون مجردون من الجمال)
وهي على هذا الشكل مبتورة كما أسلفت. فقد أعقبها وايلد في النص بقوله:
(إن أولئك الذين يجدون معاني جميلة في الأشياء الجميلة مهذبون. والأمل فيهم)
كما أنه ترجم كلمة بمادة في قولة:
(حياة الرجل الأخلاقية (؟) تكون جزءاً من مادة الفنان غير أن أخلاق الفن تتألف من الاستعمال التام لمادة ناقصة.
وهي ليست كذلك وإنما هي وسيلته. وجرى على هذا الأسلوب من التصرف في النص وذلك شائع في الترجمة.
وقد أسقط منها ما هو بالغ في الأهمية بالنسبة لفكرة وايلد الأصلية في الفن والنقد كقوله مثلاً:
(الفن كله سطحي ورمزي. . .)
وهو ترجمة النص التالي:.
وترجمتها على هذا الشكل فيها إغفال تام لكلمة فإن القصد من هذا القول تأكيد كون السطحية والرمزية متلازمين ولم تظهر الناحية في الترجمة.
وكم كنت أود - كما يود غيري من المعجبين بهذه المقدمة وبفن أسكار وايلد - أن تكون ترجمتها أكثر دقة
(بغداد - العراق)
عبد الوهاب الأمين
البطريرك
قرأنا في الرسالة الغراء العدد 472 في (الحديث ذو شجون) للدكتور زكي مبارك قوله (البطريرك كلمة يونانية الأصل، أو لاتينية الأصل: ومن الطريف أن نذكر أن كازيميرسكي يجعل البطريق (بالقاف) من اللاتينية، ويجعل البطريك (بالكاف) من اليونانية، برغم تقارب مدلول الكلمتين)
والذي نعرفه أن البطريرك تعريب للفظ رومي معناه أبو الأسرة أو رب البيت. فقد جاء في كتاب التنبيه والأشراف للمسعودي أنه بالرومية بطرياركس تفسيره رئيس الأدباء ثم خفف. وقد سماه المسعودي والإسلاميون بطريرخ ثم بطريرك ثم خفف في الاستعمال فصرنا نقول بطرك ونكتبها بطريرك، كما نقول بيه ونكتب بك، وكانوا قبلنا يقولون جنبية ويكتبون جنباواي وجنبوية، ويقولون أبشيه وأبشاي ويكتبون أبشواي وأبشويه.
رضوان العوادلي
(شعاب قلب)
(مجموعة من الأقاصيص التحليلية أصدرها الأستاذ حبيب
الزحلاوي، وقدم لها بهذه الكلمة الأستاذ العقاد):
من المزايا التي يحسن أن تتوافر للكاتب القصصي أن تكون حياته صالحة لموضوع قصة أو قصص كثيرة، سواء في مساعيه الخارجية أو تجاربه النفسية
وهذه مزية قد توافر منها النصيب الوافي لصديقنا الكاتب الفاضل صاحب هذه المجموعة منذ نشأته الأولى، فعرف الجهاد في سبيل الوطن، كما عرف الجهاد في سبيل العمل، وتمرس بالناس كما تمرس بنفسه، واختبر حياة الأسرة وملابساتها، كما اختبر حياة المجتمع الشرقي وملابساته، وزار - مع هذا - بلاداً غير بلاده الشرقية، فسنحت له فرص شتى للمقابلة والموازنة والاستفادة من هنا وهناك
وليس أيسر على القارئ من أن يلمس هذه الحقيقة في صفحات هذه المجموعة القصصية. فهي ترجمة الأديب كاتبها موزعة بين قصة وقصة وبين صفحة وصفحة، يكاد من له ولع بالمشابهات والتوفيقات أن يستخرجها ويجمعها في نسق واحد، فإذا هي قصة واحدة، وإذا هي ترجمة حياة
توخى الأستاذ حبيب أساليب شتى في سرد الوقائع وإبلاغها إلى نفس القارئ، ووفق في جميع هذه الأساليب إلى التشويق الذي ينبغي أن يكون غرضاً من أوائل أغراض الكتابة القصصية على خلاف مذهب الطائفة الأخيرة من متحذلقة العصر الحاضر، التي تنكر التشويق أو تعجز عنه، كأنما تنفير القارئ غرض من الأغراض في اعتقادها يقابل ترغيب القارئ فيما اتفق عليه القصصيون والكتاب على الإجمال
وشاعت في ثنايا الوصف أو السرد عبارات متفرقة في مواضعها الملائمة لها، تشتمل إلى بلاغة وحسن تمثيل، كقوله في وصف لحظة انتظار:(تمضي الثواني والدقائق والساعات، بل العمر كله يمضي في طريق الزمن، والزمن لا ينفك من الأزل، وسيبقى مدى الآباد يسر بنظام محكم الضبط، فعلام اختل اليوم نظامه، وهدأت دورته، وتركني وحدي أنا: الشاذ المضطرب، الصاخب والهادئ، المفكر المبلبل. . . أنا السعيد الحزين، والباكي الضاحك. . . علام تركني في أرض يلوح لي الآن أنها تدور دورة معكوسة. . .)
أو كقوله على لسان البطلة في قصة مع الريح: (قلت له مرة، هل تستمد الوحي من أغصان الشجر أو من أفواه النيل الجارية؟ إنك دائم ترويح النظر بين هذه وتلك. وكأني به ارتاح إلى ملاحظتي فابتسم ابتسامة رقيقة: من القلب وحده يستمد الإنسان وحيه)
أو كقوله على لسان تلك البطلة تخاطب أختها: كتبت لي تعنفني على استرسالي في معاشرة ذاك الشيخ الذي توسل بوعد الزواج بي للوصول إلى غاية تنفى نبالة القصد من الزواج فتنبهت. اطلقني ملامك الصارخ من البحر الخضم فصيرني كالضفدع أقفز على اليابسة ولا أجرأ على الابتعاد من المستنقع الآسن. . .)
وهكذا في أمثال هذه التعبيرات الموفقة في معارض شتى تتخلل الأقاصيص التي اشتملت عليها المجموعة
ولا حاجة بالكاتب إلى سبب يرجع إليه وهو يقدم قصته لقرائه بعد أن يكفل لهم المزيتين اللازمتين في كل كتابة لا في كتابة القصة وحدها وهما: صدق الرواية عن الحياة وحسن التمثيل لما رواه
وكلتا المزيتين بينة في قصص الأستاذ حبيب على ما نلاحظ خلالهما من هفوات لغوية تعهد في العصر الحاضر عند كتاب كثيرين، وتشفع لها هنا حسنات تميل إلى الرجحان ويخرج منها القارئ وهو رابح الميزان