المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 482 - بتاريخ: 28 - 09 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٨٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 482

- بتاريخ: 28 - 09 - 1942

ص: -1

‌من عجائب الناس

لعل ابن آدم هو المخلوق الوحيد الذي يرى الشيء الواحد بعينيه

الاثنتين أبيض تارة وأسود أخرى على حسب الصبغ الذي يلونه به

الهوى؛ فقد يتحد الشيء في ذاته وصفاته، ولكنه يختلف وا عجباه في

نظره أو في رأيه، فيكون حسناً وقبيحاً، أو خيراً وشراً، أو حلالاً

وحراماً، أو نافعاً وضاراً، لا باعتبار حقيقته في نفسه، ولكن، باعتبار

ما تقتضيه الحاجة أو الأثرة أو الرياء أو المحاباة. وبفضل هذه الميزة

العجيبة في الإنسان تعددت مقاييسه، وتضاربت أهواؤه، وتناقضت

أحكامه، وتباينت عقائده، وتفرقت سبله

ذلك كلام لا نكير فيه ولا لبس فلا أحلل ولا أعلل، وبحسبي أن أدع الحوادث تحدث والأمثلة تمثل

أذاع راديو (باري) منذ ليلتين أن فريقاً من الطلاب الهنود تظاهروا في بمباي فاعترضتهم فئة من الشرط الإنجليز فتفرقوا في شوارع المدنية أباديد بعد أن نفر منهم بجروح. ثم عقب المذيع على هذا الخبر بأن الاعتداء على المتظاهرين بالضرب ينافي المدنية، ويجافي الخلق، ويصم الذين ارتكبوه بالقسوة والوحشية والبربرية الأثيمة. وفي هذه الإذاعة نفسها أعلن هذا المذيع نفسه أن مليوناً من جنود المحور قد اقتحموا بالدبابات الثقيلة والطائرات المنقضة والسيارات المدرعة منازل (ستالينجراد) على الروس وفيهم النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، فدكوا كل بناء، وسحقوا كل حي، وركموا أشلاء القتلى في الحجرات والطرقات على صورة لم يرها الراءون ولم يروها الراوون. ثم أخذ هذا البوق البشرى يهذي بفضل هذا النصر على المدنية، وينوه بعظيم أثره غي مستقبل الإنسانية!

كان لكاتب من كبار المصلحين حصة مأكولة في وقف أهلي، فظل يكتب وجوب حل هذا النوع من الوقف حتى نضب مداده، ويخطب في جشع النظارة وإهمال الوزارة حتى جف ريقه. وتداول الناس مما كتب وخطب جملة من البراهين الملزمة والنصوص الصريحة والوقائع الثابتة لا تدع لوجود الوقف الأهلي مبررا ولا للدفاع عنه حجة. فما هو إلا أن

ص: 1

آلت النظارة على هذا الوقف إليه حتى بلع لسانه فلم يخطب، وكسر قلمه فلم يكتب، وفرغ لاستغلال الوقف والاستبداد بريعه فلم يقبل رقيباً عليه، ولم يقابل مستحقاً فيه!! ذكرت بهذا الكاتب المصلح ذلك الاشتراكي المفلس الذي كان يرى الرأسمالية وبالاً على المجتمع، والرأسماليين كلا على الناس. وكان يسوغ في سبيل اشتراكية الإرهاب والإضراب والمصادر والقتل، حتى ورث عن أحد أقربائه الأباعد قطعة من الأرض، فنصب على كل جهة من جهاتها الأربع لوحة كتب عليها بالخط العريض:(ممنوع المرور)!

وكان خطيب من خطباء المساجد عليه سمات التقى والزهد لا ينفك يقرع آذان المصلين بالعظات الزاجرة عن احتكار السلع وإفحاش الأسعار وإرهاق الناس في هذه السنين العجاف.

فإذا فرغ من الوعظ وخرج من المسجد جلس في حانوته الصغير يسبح لله ويقسم لطالب السكر أو الزيت أو الرز أن دكانه من كل أولئك خلاء. فإذا مجد الضعيف المضطر أعطاه بالسعر المضعف والكيل المطفف بعض ما يطلب! وهيهات أن تنفذ إليه عيون الحكومة من وراء الحجب الأربعة التي ضربها عليه من وظيفته وعمامته ولحيته ومسبحته!

هذا الشيخ يحسب أن حدود الدين لا تتعدى حدود المسجد، فإذا عالج شؤون الدنيا عالجها على النهج الذي سنه الشيطان لأوليائه؛ فهو كالتلميذ الذي يحسب أن قواعد النحو لا تتعدى (حصة) اللغة العربية، فإذا كتب في التاريخ أو في الكيمياء كان مطلق الحرية في إنشائه. ذلك أحسن الفروض، فإذا كان يعتقد أن الدين طعم الدنيا وشرك المال، كان كذلك الصوفي الهرم الذي زعموا أنه كان يركب الترام كل صباح إلى ضريح الشافعي فكلما أقبل عليه (الكمساري) يطلب أجر الركوب أدبر عنه وشغل لسانه بالذكر ويده بالتسبيح حتى ينصرف إلى غيره. ففي ذات يوم ألح المحصل على تغافل الشيخ وسأله عن (التذكرة) فلم ير بدا من أن يدفع هذه المرة ويقول في هيئة المفجوء ولهجة الذاهل:(معذرة يا بني! فقد شغلت بالله عن كل شيء)

كبير من الكبراء له في الصوم مذهب جديد؛ فهو يصوم الصوم (الصحي) الذي يفيد الجسم ولا يفسد الروح: يتعاطى كل ساعتين كوباً كبيراً من عصير العنب أو الليمون أو المانجو، ثم يمسك عن التبغ في النهار وعن الخمر في الليل، ويصر على أن تساقط أصابعه الثلاث

ص: 2

حبات المسبحة منذ أذان العصر، وأن يفطر على أشربة رمضان وآكاله عند أذان المغرب. فإذا بلغه أن أحد مرءوسيه غفل عن آداب الصيام، في النظر أو الكلام، أخذه أخذاً شديداً (بتعليمات الوزارة)

أستاذ من أساتذة الأدب لا يحاضر إلا في الدين ولا يجادل إلا في الخلق، له في الحرية الشخصية مذهب فضفاض يسحب أطرافه السابغة على كل معروف من الدين والخلق. ثم لا يعوزه أن يجد لكل رغيبة من رغائب نفسه الشهوانة سنداً مما يسميه هو الدين والخلق. فمثله كمثل ذلك الفقيه الثقة الذي تبحر في القانون وتقصى في الإفتاء حتى لا تند عن ذهنه مسألة، ولا تعزب عن براعته حيله. فلما تولى أمور الناس وجد لكل مأزق من مآزق الضمير مخرجاً من مخارج الرأي لا يضيق عن أمر من الأمور في أي غرض من الأغراض!

هذه أمثلة من الواقع المشهود تؤيد شقاء الإنسانية بين العقل والهوى. ولو طاوعت القلم لسردت عليك ما هو أعجب؛ ولكن. . .

قالت الضفدع قول

ردَّدته الحكماء

في فمي ماءُ وهل ين

طق مَن في فيه ماء!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

مكانة الأديب في الجهاد - أدب المعاش - نفحة سودانية

مكانة الأديب في الجهاد

اقترح أحد النواب المحترمين إحياء ذكرى (شوقي) بإقامة تمثال له في أحد شوارع القاهرة، وتلك التفاتة لطيفة تدل على قيمة الشعر في أنفس بعض النواب

ولكن أديباً فاضلاً تعقب هذا الاقتراح في جريدة (الدستور) فقال: يجب أولاً إقامة تمثال لمحمد فريد، وتمثال لمحمد عبده، وتمثال لقاسم أمين، قبل أن يقام تمثال لأحمد شوقي أو حافظ إبراهيم

ولا بأس بهذا الكلام، ولكن الأديب الفاضل علله فقال: نحن في عصر السيادة فيه للشجاعة والبأس، والعبادة فيه للبطولة والأبطال، لا للفن والجمال، وكل مقتحم ميداناً، وداك سوراً، ومنتزع نصراً، مقدم على من يجلس فوق رابية آمنة، ليرسل من قيثارته ألحاناً مشجية

ومعنى هذا التعليل أن أمثال محمد عبده ومحمد فريد كانوا جماعة من المجاهدين، وأن أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم كانوا جماعة من المغنين!!

ومن يعش في مصر ير العجب، وإلا فكيف يجوز القول بأن صورة الشاعر هي صورة (من يجلس فوق رابية آمنة، ليرسل من قيثارته ألحاناً مشجية)؟ وكيف يجوز القول بأن الشعراء ليسوا إلا جماعة يسبحون للفن والجمال، ولا صلة لهم بالبطولة والأبطال؟

إن هذا الناقد لا يعرف كيف يحيا الشعراء، ولا يفهم من الشعر إلا أنه غناء، والأدب عنده متعة ذوقية يلهو بها الفارغون من أهل العبث والمجون

فمتى يعرف أهل مصر أن حامل القلم هو الوطني الأول، والمجاهد الأول، وأن معاني البطولة تعتلج في صدره قبل أن تعتلج في صدور القادة والزعماء؟

وما أساس البطولة الحقيقية عند أمثال: محمد فريد ومحمد عبده وقاسم أمين؟

أساسها الفكر والبيان، ويجب حتماً أن نضيف هؤلاء إلى الأدباء قبل أن نعدهم زعماء، فما ارتفعوا إلا بالفكر المشرق والبيان الجميل

ص: 4

وحكاية دك السوار واقتحام الميادين وانتزاع النصر تحتاج إلى شرح:

فهل من الحق أن الأديب لا يدك أسواراً ولا يقتحم ميادين؟

إن الأديب يقضي عمره في جهاد ونضال وعراك مع الدنيا والناس، ومع الأوهام والأباطيل والأضاليل، وما شرق مشرق أو غرب مغرب في دعوة وطنية أو اجتماعية إلا على هدى من وحي الأديب؛ ولا استبسل جبان، أو استقتل شجاع، إلا بتحريض من عبارة فاه بها شاعر أو كاتب أو خطيب

في أعقاب الحرب الماضية ظهر كتاب فرنسي اسمه: وهو كتب أقيم على أساس القول بأن الوحشية الألمانية ترجع إلى إيحاء من شعراء الألمان ومفكريهم في القرن التاسع عشر، وأن السيوف تتلقى الوحي عن الأقلام في تلك البلاد

وقبل هذه القولة الفرنسية في تعليل الوحشية الألمانية، قال أسلافنا منذ أزمان طوال: إن أبياتاً من شعر عمر بن أبي ربيعة نقلت قلب هرون الرشيد من مكان إلى مكان، فصنع بالبرامكة ما دونه التاريخ بإسهاب

وإلى الأدب العربي يرجع الفضل في تأريث البطولة العربية وكذلك حظ جميع الآداب في جميع الشعوب

حين تزاور الرؤساء من الإنجليز والأمريكان بعد انتصار الحلفاء في الحرب الماضية لم يجدوا عبارة تفصح عن الألفة بين الأمتين أفضل من العبارة التي تقول بأن لغة شكسبير هي الرباط الوثيق بين الإنجليز والأمريكان

فهل سمعتم أن شكسبير دك أسواراً واقتحم ميادين؟

ومنذ أسبوع نقلت البرقيات أن المسيو هريو رد وسام (اللجيون دونير) إلى المشير ببتان - وكان تلقاه من كليمنصو العظيم - لأن حكومة فيشي منحت هذا الوسام لضابطين يحاربان في صفوف الألمان، فعمن تلقى هريو هذا الوحي الرائع، الوحي الذي يأبى على الضمير الفرنسي أن يستبقى وساماً يهدي إلى من يحارب في صفوف الأعداء، ولو أصبحوا بحكم الضرورة حلفاء؟

هذه التفاتة أدبية لا سياسية، والأدب يوحي معاني تنفر منها السياسة، بحيث يجوز الحكم بأن الأدباء أشجع من السياسيين، وما مدح سعد زغلول بأفضل من النص على أنه كان

ص: 5

خطيباً وطنياً لا سياسياً، كما قال الأستاذ كامل بك سليم

التفاتة المسيو هريو التفاتة أديب، وكان هريو في مطلع حياته أستاذ الأدب الفرنسي بجامعة ليون، وكان يعاب عليه الإشراف في شرح أصول الغزل والتشبيب، فلم يكن يرتاد محاضراته بجامعة ليون غير عرائس ليون

ثم تحولت العواطف الوجدانية عند المسيو هريو إلى عواطف وطنية، وهل كانت خطبه في مجلس النواب الفرنسي إلا روائع من الأدب المضمخ بعبير الروح؟

ولم يقف الأدب بالمسيو هريو عند الوطنية المحلية، بل سما به إلى رعاية اللغة الفرنسية في البلاد الأجنبية، فرأس جمعية المسيو لاييك رياسة حقيقية لا صورية، وأمدها بما استطاع من الوقت والمال

عتب عليه المسيو بينار في المؤتمر الذي عقد في يوليه سنة 1933 خلف الوعد بحضور افتتاح الليسيه فرانسيه في حلب، فأعتذر بأسلوب لن أنسى وقعه في نفسي، اعتذر بأنه يبيت في القطر ثلاث ليال من كل أسبوع، ثم أعلن استعداده لدفع النفقات التي توجبها الدعوة لنشر اللغة الفرنسية في البلاد الأجنبية

فهل تصدر هذه الأريحية إلا عن أديب؟

وفي ذلك اليوم دعوته لزيارة القاهرة فقال في حماسة: سنلتقي هنالك يا صديقي

وقد بر بالوعد فحضر لافتتاح الليسيه فرانسيه بمصر الجديدة في سنة 1938، ولكني ما رأيته ولا رآني، فقد كنت في بغداد، عليها أطيب التحيات

وخلاصة القول أن الأدب عماد الوطنية، ولا قيمة لوطن ليس فيه أدباء

وإذا تحذلق متحذلق فادعى أن الأدباء لا يحسنون غير التغريد فوق أفنان الجمال، أجبناه قائلين بعزة وخيلاء:

إن الجمال وهو أعظم نعم الله في هذا الوجود، ولا يعيب التغني بالجمال غير مرضى الأذواق والقلوب. . . الأمم العظيمة هي التي تتغنى بالجمال، كما يصنع الإنجليز والألمان، وكما صنع العرب في شباب الزمان. . . فمن بدا له أن يغض من شعرائنا لأنهم يتحدثون عن الجمال، فليبادر باستشارة أحد الأطباء

أدب المعاش

ص: 6

لا جدال في أن الأدب العربي الحديث قد سما سموا عظيماً في كثير من الفنون، ولكني مع ذلك أراه تخلف أقبح التخلف في دعوة الناس إلى تدبير المعاش، وأنا أقترح أن يكون عندنا أدب يسمى (أدب المعاش) وهو الأدب الذي يعلم الناس كيف يقتصدون، وكيف يدخرون، وكيف يواجهون مطالب الحياة في الشباب والمشيب، بجيوب سليمة من مرض الإفلاس، فما يذل الرجال غير الفقر، أعاذنا الله وأعاذ جميع الأحرار من رؤية وجهة البغيض

ولتوضيح هذا النقص في اتجاهاتنا الأدبية أسوق الفكاهتين الآتيتين: لقيني الشاعر حافظ إبراهيم يوماً فقال:

- هل رأيت ما صنع شوقي؟

- ماذا صنع شوقي؟

- نظم قصيدة في (بنك مصر) مع أنه لو اختلف مع هذا البنك على مليم واحد لساقه إلى ساحة القضاء!

- ومعنى هذا أنك لا ترى أن تقال في (البنوك) قصائد؟

- القصائد لا تقال إلا في الأزهار والرياحين

ولقيني الشاعر عباس العقاد يوماً فقال:

- قد نفيناك عن فردوس الأدب

- وما سبب هذا النفي، يا حضرة الأستاذ؟

- لأنك بنيت بيتاً في مصر الجديدة، والأدب لا يعرف مثل هذا الثراء

وقد اعتذرت للأستاذ العقاد بعبارة لطيفة، عبارة تقول بأن شهرتي بالأدب هددت سمعتي المالية، فكان من واجبي أن أبني بيتاً ولو بالتقسيط، لتحسن سمعتي في سنتريس

والحق أن أدباءنا قد انصرفوا عن تعليم أنفسهم وتعليم قرائهم فكرة المعاش، ولو شئت لقلت إنهم يتباهون بالتبديد لما يملكون. وهذا خطر يجب التحذير من عواقبه السود، وأنا أنبه نفسي وأنبه تلاميذي وقرائي، فلأسمع وليسمعوا، ولعل فيهم من يعي كلامي بأكثر مما أعي كلامي

لا يعاب على الأديب أن يقص بعض وقائعه الغرامية، فمنذ عهد امرئ القيس إلى اليوم والشعراء يتباهون بحوادث الضم والعناق والوصال، والأمر كذلك عند شعراء الأمم

ص: 7

الأجنبية، ولكن يعاب على الأديب أن يقص بعض مسالكه في تدبير المعاش وما وقع من ذلك لم يقابل بغير السخرية والاستهزاء

وأخرج على هذا التقليد فأقول: إني جريت منذ أعوام على الادخار في حدود الاعتدال، فلا أحرم نفسي ولا أحرم أبنائي نعمة العيش المقبول، ولكني لا أسمح لنفسي ولا لأبنائي بتبديد ما يسوق الله من الرزق الحلال

وعند اشتغالي بالتدريس كنت أسأل تلاميذي عما يدخرون ولم يفتني أن ألقي درساً في الادخار على تلاميذي في بغداد، راجياً أن يلقوه على تلاميذهم في جميع أرجاء العراق

ومهنتي اليوم لا تتسع لأمثال هذه الدروس، ومع ذلك يغلبني حب الخير فأسأل المدرسين الذين أتشرف بتوجيههم إلى المناهج الصحيحة في التدريس، اسألهم عما يدخرون، لأطمئن إلى صلاحيتهم لمهنة التعليم؛ فالمعلم الحق في نظري هو الذي يروض نفسه ويروض تلاميذه على تدبير المعاش. ولا يمكن لمدرس يبدد مرتبه في الأسبوع الأول من الشهر أن يجد عقله في الباقي من الأسابيع

وتدبير المال في الحدود المعقولة يشهد بالقدرة على ضبط النفس، وضبط النفس هو أوثق صور الأخلاق، وما يجوز لمبذر أن يتوهم أنه يصلح لشيء من جلائل الأعمال

أكتب هذا وأنا اعرف أن في بني آدم من يطيب له أن يتهمني بالشح والبخل، لأنهم ألفوا وصف المدخرين بالشح والبخل؛ ولأن الشعر القديم صور لهم التبذير بصورة السخاء من أن أكثر المدائح كانت تمائم أريد بها انتهاب ما يملك الخلفاء والملوك

ومهما نهيتكم عن الإسراف فلن أنهاكم عن البر بالفقراء والمساكين. ولي هنا غاية تجارية: فقد عرفت بالتجربة أن الله يعوض ما ننفقه على المعوزين أضعافاً مضاعفة، ومن الواجب أن نستغل كرم الله أجمل استغلال في حدود ما نطيق

وأنا بعد هذا أرجو من يؤلفون كتب المطالعة لتلاميذ المدارس أن يكثروا من الحث على الادخار، ليساعدوا على إنشاء جيل جديد، جيل متماسك لا يتباهى أبناؤه بالسرف والتبديد، وإنما يتباهون بالبر والإفضال

نفحة سودانية

كان من توفيق الله أن نلتفت إلى الأدب في السودان بعض الالتفات، فبه أتيحت فرصة

ص: 8

للتعرف إلى ما هناك من روائع لو نشرت لبهرت شعراء مصر والشام والعراق

أقول هذا وأمامي قصيدة للشاعر محمد سعيد العباسي، قصيدة خفيفة الروح، حن فيها إلى أيامه بمصر فقال:

ولو كان لي عِلمُ ما في غدٍ

لما بِعتُ مصر بسودانيهْ

عدتنيَ عن طِيب ذاك الثواء

نَوىً قَذَفٌ خيلُها عاديهْ

فودّعتُها أمسِ لا عن قِلًى

ولم تكن النفسُ بالساليه

إلى بلدٍ عشتُ فيه غريباً

بعيداً عن الناس في ضاحيهْ

أقيم بها من صدور المطىّ

للمرخِ تُحدَى وللصافيهْ

لعلي أصيبُ بتلك البطاح

صباي وذاهب أياميهْ

فلله كم جَنَت الحادثات

علي وأودت بآماليهْ

رعَى الله مصرَ فكم للأديب

بها ثَمَّ من عيشةٍ راضيه

وأحبِب بأيامها الذاهبات

على ما بها وعلى ما بيهْ

قضينا بها غَفَلات الشباب

بأحلى مذاقاً من العافيهْ

تولَّت سراعاً فيا ليتَها

تعود لنا مرةً ثانيهْ

ويا قِبلة الخير لا تبعدي

وحُيِّيتِ زاهرة زاهية

ويا برقُ زُرها بوطف الغمام

وحُلِّى عزاليك يا ساريه

وإن تبخلي إن لي مُقلةً

هي المزن هامعةً هاميه

بني مصر حيَّاكم ذو الجلال

بعَرف تحياته الزاكيه

وأسدى بإحسانه منعماً

لكم كلَّ صالحةٍ باقيه

بكم غدت اليومَ أم اللغات

كحسناَء في بُرُدٍ ضافيه

حَمَلتم بمصرَ وبالمشرقَيْن

رسالةَ آدابها العاليه

أجلْ وشأوتم بسحر البيان

عباقرة الأعصر الخاليهْ

بيانٌ هو البدر في تِمِّهِ

يشقُّ حَشا الليلةِ الداجيه

وكالورد يعبق مطلولهُ

أو المسك أو جونة الغاليه

بَلوْنا الكرام فكانوا البناء

وكنتم به حَجَر الزوايهْ

ص: 9

فما رأى قراء (الرسالة) في هذا الكلام النفيس؟ ما رأيهم في شاعر سوداني يحن إلى مصر هذا الحنين؟ وما جزاؤه على هذا التلطف النبيل؟

نحن لا نملك الجزاء على مثل هذا الوداد، فهو فوق الجزاء، ويكفي أن نقول إنه شاعر من السودان، السودان المصري، أعزه الله ورعاه وحماه من جميع الأسواء

وداد مصر للسودان وداد صحيح، فليعرف السودانيون أننا لا نقبل أن يكونوا أوفى منا بأي حال، وسنعارض هذه القصيدة بقصائد، وسنريهم أن مصر تجزيهم صدقاً بصدق، وإخلاصاً بإخلاص

أيها الأرواح الشوارد بأعالي النيل، أيها الحافظون لأمجاد الإسلام بالوادي السحيق، هل تعرفون مكانتكم في أنفس المصريين؟

لذلك حديث وأحاديث، فانتظروا قليلاً، فسأقص من أخباركم ما تجهلون

أيها الشاعر الذي حيا مصر، حياك الله وحياك ثم حياك، فقد طوقت جيد مصر بقلائد صيغت من حبات القلوب

أهذا شعر أم سحر؟

هو فوق الشعر وفوق السحر، هو إلهام جادت فطرةٌ كريمة الأصل، في بلاد أبناؤنا أصلاء

وإلى الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد تحيتي وثنائي، فهو الذي حمل إلي هذا القصيد، كما يحمل النسيم رسائل المحبوب إلى الحبيب

زكي مبارك

ص: 10

‌مفاوضات الفتح العربي لمصر

للأستاذ السيد يعقوب بكر

(تتمة)

(ج) مفاوضة ثالثة

يحكى لنا الواقدي (ص25 - 28) أن أرمنوسة ابنة المقوقس كانت في طريقها إلى قيسارية لتزف إلى فلسطين (يقصد قسطنطين) بن هرقل، فلما علمت أن قيسارية قد حاصرها العرب، عادت إلى مصر بما كان معها من الخدم والمال، فما وصلت إلى بلبيس، حتى جاءتها جيوش عمرو وحاصرتها. ثم يقول الواقدي: إن العرب اقتحموا المدينة وأسروا أرمانوسة، ولكن عمراً إلى أبيها المقوقس، اعترافاً منه بحسن صنيعه (أي صنيع المقوقس)، حين أتته منذ سنين عدة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، يحملها إليه حاطب بن أبي بلتعة. أرسل عمرو أرمانوسه إلى أبيها مع قيس ابن سعد، فيصل هذا ويدور بينه وبين أبيها حديث طويل يسجله لنا الواقدي (ص28 - 29). ونحن يعنينا هنا الجزء الأخير من هذا الحديث (ص29):(فقال المقوقس لقيس ابن سعد: يا أخا العرب، أرجع إلى أصحابك وأخبرهم بما سمعت وبما رأيت، وانظر فيما يستقر عندكم وبينكم؛ فقال قيس: أيها الملك، لابد لنا منكم، ولا ينجيكم منا إلا الإسلام أو أداء الجزية أو القتال. فقال المقوقس: أنا أعرض ذلك عليهم، وأعلم أنهم لا يجيبون، لأن قلوبهم قاسية من أكل الحرام)

فهل نعد ذلك الحديث مفاوضة؟ لا شك في ذلك. ولكننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذه المفاوضة لم تكن، وذلك لسببين: الأول أن قصة أرمانوسه نفسها موضوعة؛ فالأستاذ بتلر يقول فيها (ت3 ص191): ولا حاجة بي إلى إضاعة الوقت في تفنيد هذه القصة، فإن مجرد العلم بأن المقوقس كان بطريق الإسكندرية كاف لدحضها. . . ويجدر بنا هنا أن نذكر أن أبا صالح قال: إن (أرمنوسه) هي الاسم المصري القديم لمدينة أرمنت (ص279). وقد ذكر ابن عبد الحكم بغير دقة أنها امرأة المقوقس، وذكر كرماً كان لها أغرقته فصارت منه بحيرة مريوط. وإنه مما يؤسف له أن هذه القصص التي يمليها خيال ألف ليلة وليلة مما يجب علينا إبعاده من التاريخ)؛ والثاني أن المقوقس لم يكن هو الذي

ص: 11

تسلم رسالة النبي عليه الصلاة والسلام وإنما الذي تسلمها هو (جرج) الذي سمى (بالمقوقس) في (الرسالة) خطأ، وهو حاكم الإسكندرية ونائب الملك في مصر (بتلر ص125)

(د) مفاوضة رابعة

يحكى لنا الواقدي (ص35 - 39) ما فعله العرب الذين كانوا سائرين لنصرة عمرو - مع العرب المتنصرة الذين كانوا سائرين لنصرة أرسطوليس وكيف أن أرسطوليس هذا استهدف لمكيدتين: مكيدة عمه أرجانوس الذي أدرك مقتل أخيه على يد ابنه (أي ابن أخيه)، ومكيدة العرب المسلمين الذين انبثت طائفة منهم في معسكره متظاهرة بأنها جماعة العرب المتنصرة الذين جاءوا لنصرته؛ ثم كيف هزم بسبب هاتين المكيدتين أمام الحصن وفر إلى الإسكندرية. وبعد ذلك يقول الواقدي (ص39):((قال ابن إسحق) حدثني من أثق به أنه قتل في تلك الليلة من عسكر القبط خمسة آلاف، وغنم المسلمون أثقالهم وما كان فيها من الأموال. فلما أقبل الصباح اجتمع خالد بالمسلمين وسلم بعضهم على بعض وهنوهم بالسلامة، ودخلوا مصر وملكوا ديارها وأحاطوا بقصر الشمع. فأشرف عليهم أرجانوس بن راعيل أخو المقوقس، وقال لهم: يا فتيان العرب، اعلموا أن الله قد أمدكم بالنصر، وقد فعلت في حقكم كذا وكذا، ولولا حيلتي على ابن أخي لما انهزم منكم، وقد ظفرتم الآن، ونحن نسلم إليكم على شرط أنكم لا تتعرضون لنا ولا تمدون أيديكم لنا بسوء، ومن أراد منا أن يبقى على دينه يؤدي الجزية، ومن أراد أن يتبعكم يتبعكم. فقال له معاذ بن جبل: قد نصرنا الله على الكفار بصدق نياتنا وصالح أعمالنا واتباعنا للحق، وإنا ما قلنا قولاً إلا وفيناه، ولا استعملنا الغدر ولا المكر، وأنتم لكم الأمان على أنفسكم وأموالكم وحريمكم وأولادكم، ومن بقى منكم على دينه فلن نكرهه ومن اتبع ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا. فلما سمع أرجانوس ذلك نزل إليهم بالمفاتيح، فأمنوه وأمنوا من كان معه في القصر، وجمعوا كابر مصر ومشايخها. . .)

فهل نعد ذلك مفاوضة؟ لا شك في ذلك. ولكن القصة كلها من أولها إلى آخرها موضوعة ليست فيها أثارة من صواب فقد قلنا من قبل إن المقوقس لم يمت في ذلك الوقت، وإن اسم أرسطوليس لم يرد غير كتاب الواقدي؛ ونقول الآن إن اسم أرجانوس لم نجده كذلك عند

ص: 12

غير الواقدي. وليست بنا حاجة لتنفيذ هذه المفاوضة إلى القول بأن قصة العرب المنتصرة موضوعة وإننا لم نجدها في غير كتاب الواقدي

فخلاصة القسم الأول من البحث انه لم يصح عندنا إلا وقوع مفاوضتين: الأولى عند بلبيس بين عمرو وجماعة عليها أحد الأساقفة، ولم يرد إلينا نص ما دار في هذه المفاوضة. والثانية في جزيرة الروضة أثناء حصار حصن بابليون بين المقوقس وعبادة ابن الصامت، وقد ورد إلينا ما يقول مؤرخو العرب إنه دار في هذه المفاوضة، ولكننا لا نظن أن الذي نقله إلينا هؤلاء هو ما دار في هذه المفاوضة بالضبط، وإن كنا لا نشك في أنه لا يختلف عنه من حيث الروح المسيطرة على الطرفين المتفاوضين

فلنشرع إذن في القسم الثاني من البحث في تلمس هذه الروح في ما نقله إلينا مؤرخو العرب وتنسمها منه

القسم الثاني

كان عبادة بن الصامت وأصحابه تسيطر عليهم تلك الروح التي كانت تسيطر على العرب جميعهم في ذلك الوقت: الانصراف عن الدنيا وأعراضها وملذاتها، تلك الدنيا التي طلقوها ونبذوها وخلفوها ظهرياً؛ ثم السعي إلى لقاء الله تعالى والاستشهاد في سبيله والظفر بجنته ونعيم آخرته

وكان عبادة بن الصامت وأصحابه لا يجدون ما يصلح أساساً للمفاوضة بينهم وبين المقوقس وأصحابه غير هذه الثلاث الخصال: إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال. ذلك لأنها الأساس الوحيد الذي يرضى به المسلم المعمور القلب بالإيمان الخالص الضمير من أعراض الدنيا الموطن النفس على الاستشهاد

أما المقوقس فكان في أول الأمر تسيطر عليه نزعتان: الأولى هي خوف العرب وخشيتهم. والثانية هي الحرص على سلطان هرقل من أن يزول عن مصر. ولذلك وجدناه يصطنع الحيلة لصرف هؤلاء العرب عن البلاد؛ فيأخذ في تخويف عبادة وصحبه من جموع الروم التي تتجمع للقائهم وتوشك أن تنقض عليهم فلا يستطيعون لها ردا، ويأخذ في إظهار شفقته على هؤلاء العرب الذين يقاسون شظف العيش وضيق الحياة، ثم يأخذ أخيراً يقول: (ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة

ص: 13

دينار ولخليفتكم ألف دينار)

ولكن عندنا ما يدرك أن العرب قوم ليسوا كالأقوام وأناس ليسوا كالأناسي، وأنهم قد طلقوا الدنيا فلا يرضيهم منها إلا شظف العيش وضيق الحياة، وأنهم يتمنون لقاء الروم الذين يوشكون أن ينقضوا عليهم ليظفروا بالشهادة إن غلبوا أو ليعلوا منار الإسلام إن غلبوا، عندما يدرك ذلك تغلب عليه نزعة الخوف والرهبة، وينصح لأصحابه أن يسلموا البلاد للعرب ويدفعوا الجزية

ولكن أصحاب المقوقس كانوا قوماً لا يرضون الخروج من دين ابن مريم إلى دين لا يعرفونه، ولا تطيب نفوسهم بأن يذلوا ويهونوا، ولا يرون إلا القتال سبيلاً لهم. لذلك رفضوا نصح المقوقس وعادوا إلى القتال

هذه هي الروح المسيطرة على الطرفين المتفاوضين. ولكنا لا نحب آن نختم البحث قبل أن نقول إنها الروح المسيطرة على العرب والروم؛ فقد كان المقوقس رومياً (بتلر، الملحقان 3 و7 من كتابه)، وكان أصحابه روماً. أما القبط فلم يكن لهم اشتراك في سياسة البلاد ومفاوضة الغزاة، فقد كان المقوقس (قيرس) لا يزال على عهده العدو الأكبر لمذهب القبط (بتلر ص220، 221)

(تم البحث)

السيد يعقوب بكر

ص: 14

‌زواج الأدباء.

. .

للمغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي

. . . أما احتراف الأدب، والكتابة في الصحف، ومعالجة الشعر، فهذه في الشرق ضروب من الفقر - كما هي ضروب من الحرفة - غير أنه فقر عاقل مميز يذهب بنفسه إلى السمو، وينزع إلى الحق، ويستنكف أن ينحط إلى منزلة الفقر العامي الجاهل. . .!

فالحوذي، والكناس، والمتسول، وأمثالهم من هؤلاء الذين يضطربون في معاشهم اضطراب الكرة الأرضية، يقطعون كل أربع وعشرين ساعة دورة حول أنفسهم. . . هؤلاء يتزوجون إذ لا يتورعون أن يظلموا المرأة، وأن يزيدها من فقرهم فقراً، ومن قلتهم قلة؛ ثم هم لا يبالون حاجتها من الحياة، ولكن حاجتهم منها هي. . .

فالمرأة عندهم وظيفة حياة طبيعية لا يشترط فيها إلا شرط الغريزة والعادة الاجتماعية. وفي طبقاتها في النساء من لا يصلحن إلا لهم؛ وقد أعدتهن رحمة الله إعداداً طبيعياً، وأمدتهن بنفوس صابرة قوية. . . فلها أن تعمل وترضى وتنقاد

إذ الرجل عندهن هو الجواد الأخير في عربة الحياة. . . ومتى فرشت دار الفقير بحصير فهذا هو بساطها وسجادها الفاخر!

بيد أن الشاعر والأديب وكاتب الصحف لا يرون على فقرهم إلا البساط والسجاد الفاخر والحشايا. . .!

فهؤلاء فقرهم هو الفقر، ما دام لأنفسهم، فإن اتصل بالمرأة التي تصلح زوجة لهم - أو تكون قريبة من أن صلح - لم يكن فقراً فحسب، بل فقراً وظلماً وبلاءً إنسانياً أسود. . . ومن ثم لا يتزوجون. وهذه ناحية من العدل في ذلك الفقر العاقل المميز الذي يحترف الأدب والشعر والفلسفة والكتابة في الصحف. . . فليس هنا طبيعة عبقرية ولا شعر، وإنما ذاك عمل النفس الطيبة لا غير. . .!

ولكنك واجد منهم من ينتحل العبقرية، ويقلد الشاعر الفحل والعبقري الكريم. وهذا شخص مضحك فإن الملك لا يكون بالتمثيل على خشبة المسرح. أما الشاعر الحق والعبقري الصحيح، فكلاهما واحد من ثلاثة:

الأول - أن يكون من مؤنثي الرجال، قد خلق كذلك، أو عرضت له آفة تنقص الفحولة فيه

ص: 15

أو تمحقها محقاً. . . وهذا معه عذره البين

والثاني - أن يكون رجلاً قد طغت فيه الحياة طغيانها العصبي الشديد المجتاح، ثم يكون الفن طاغياً فيه طغيانه الخيالي العنيف التمرد - وهذا لا يصلح زوجاً ولا تصلح الزوجة له؛ فإنه إنما يرد المرأة المغلة، كأنها ضيعة من الفن الحي تغل عليه من ريعها وثمراتها. . . وقد أبى الشيطان لعنه الله أن يكون المرأة المغلة في الفن إلا امرأة محرمة. . . ومتى كان الشيطان في الأمر استطاع أن يجعل لكل امرأة فنا على حدة. . .!

ومن ههنا فسوق الكتاب والكثرة من العباقرة. وهذا سر تعزبهم وانصرافهم عن الزواج أو انصراف الزواج عنهم. وهؤلاء بركة على الفن، ولكنهم بلاء على الدين، وعلى الفضيلة، وعلى النسل، وعلى الإنسانية كلها. . . ومن سخرية الحياة بهم أن يكون العبقري العظيم فيهم هو من ناحية أخرى الحيوان العظيم. . .! وليس إبليس مغفلاً ولا أحمق فيتخذ له أدوات من المساجد والكنائس، ويشتغل ببيع السبح والتعاويذ للمصلين، بل هو كما يتخذ المرأة من المومسات في موضعها. . . يتخذ الرجل من أولئك في موضعه أيضاً. وهذا شأن ظاهر

أما الثالث - ففي رأيي أنه خير الزواج جميعاً - ولن تجد المرأة خيراً منه وهو العبقري إذا كان تام الفحولة، وكان ذا دين يمسكه وضمير يردعه، فهذا يكون الحيوان الذي فيه قيده، ويكون شذوذه كالليل الممتاز في ليالي الشهر يأتي ظلامه وفيه البدر

نعم إن هذا العبقري قد يخسر أشياء من وسائل الفن، ولكنه مستعيض عنها بخياله، ويشعر بها محروماً أكثر مما لو نالها. ثم إن الفن ليس في جميع أدواره وأغراضه تخنيثاً للحياة ولا تفككا وخلاعة ورقاعة

هناك ما هو أسمى من كل أعمال العبقري. . . هو إيجاد فضيلة عبقرية. . .!

مصطفى صادق الرافعي

ص: 16

‌من وثبات العبقرية

5 -

نظام الضرائب في الإسلام

للأستاذ علي حسين الوردي

خراج الأرض وجزية الرؤوس

اختلف علماء المالية حول ضريبة الأرض فمنهم من استحسن فرض المبلغ المعين على الوحدة من مساحة الأرض ليؤخذ من غير زيادة ونقصان عاماً بعد عام

يقول أنصار هذه الرأي بأن تمسح الأراضي - في أول الأمر - مسحاً عادلاً متقناً، ثم تصنف بعد ذلك على أنواع حسب خصوبة التربة، أو طريقة سقيها ونوع الزرع فيها؛ ثم توضع الضريبة على كل نوع من هذه الأنواع، فيكون مقدار الضريبة كبيراً أو صغيراً تبعاً لما اعتادت الأرض أن تعطي من ريع ضخم أو ريع ضئيل

ومن العلماء من يخالف هذا الرأي كل المخالفة ويدل بالحجج على بطلانه أو المضرة التي تنتج عن اتباعه

ومن رأى هؤلاء ألا ينظر إلى مساحة الأرض بشيء من الاهتمام، إنما الواجب - على قولهم - هو أن تؤخذ الضريبة نسبة محدودة من إنتاج الأرض كل سنة

وإنهم بهذا يفندون الرأي الأول، إذ يرون من الظلم أن يفرض المقدار الثابت على جريب الأرض سنة بعد سنة، بينما نجد الزراعة لا تنتج مقداراً ثابتاً على توالي السنين؛ فقد يأتي المحل على أرض في موسم، ثم يأتي جباة الحكومة - وفيهم الغاشمون والطامعون - ليأخذوا نفس المبلغ الذي كانوا يأخذونه في أيام الرخاء. أو قد يأتي - على العكس - عهد الخير والإنتاج الوفير، ثم لا تستطيع الحكومة أن تجبي منه مبلغاً كبيراً، فهي تجبي المبلغ المعين على جريب الأرض، سواء أكان الإنتاج في تلك السنة قليلاً أم كثيراً

وما دامت الزراعة تتبع في إنتاجها تقلبات الطبيعة من رياح وحرارة وأمواه، فليس من العدل إذن أن تفرض الضريبة ثابتة متساوية في جميع السنين

أما أرباب الرأي الأول فهم لا يردون هذا الاعتراض القوي، وكأنهم يعترفون بصحته ضمناُ، أو لعلهم لا يستطيعون له رداً؛ ولكنهم مع ذلك يقولون إن الضريبة الثابتة لها من

ص: 17

المحاسن ما يوازن تلك السيئة أو ينيف عليها؛ خصوصاً إذا كانت الأرض منتظمة الخصوبة تابعة لنظام محكم من الري أو عناية مستمرة من الحكومة، إذ يكون الإنتاج آنئذ متناسق المقدار في اغلب السنين

ومن حسنات الضريبة الثابتة، كما يقولون، أنها تشجع الإنتاج، وتحرض أصحاب الأراضي على الزراعة

فهم يعتقدون أن بعض أصحاب الأراضي من الأغنياء قد يتقاعسون عن زراعة أرضهم حباً للراحة أو ضيقا من الضريبة إذا كانت الضريبة مفروضة على الإنتاج. وقد يجرؤ كذلك بعض من يملكون الأراضي في المدن وضواحيها. فيتركونها بوراً سنوات عديدة، احتكاراً لها وانتظاراً للأسعار العالية فيها

أما إذا وضعت الضريبة على مساحة الأرض، سواء زرعت أم لم تزرع، فسيضطر أولئك المالكون المترفون إلى عمارتها أو بيعها، هرباً من دفع الضريبة كل عام عبثاً، وبذلك يزداد إنتاج الأمة وتتقدم اقتصادياتنا تقدماً مبيناً

هذه خلاصة ما قام حول ضريبة الأرض من جدال. وقد يستغرب القارئ إذا علم أن هذا الجدال كان له مثيل في عهود الإسلام الأولى، ولعله سيعجب حين يرى أغلب البراهين التي يدلي بها علماء اليوم في تأييد كل من ذينك الرأيين، قد سبق ذكرها في كتب فقهائنا الأقدمين رضى الله عنهم

ولهذه المسألة في الإسلام قصة شيقة نلخصها فيما يلي:

عندما فتح المسلمون أرض العراق جمع عمر لجنة من أولي الرأي، منهم علي بن أبي طالب، وعثمان، وطلحة. . . للتشاور في أمر الأراضي المفتوحة

وقد قر الرأي أخيراً على مسح الأرض. فأرسل عمر عثمان ابن حنيف لمساحة أرض الفرات، وحذيفة بن اليمان لمساحة جوخى فيما وراء دجلة

وكان عثمان عالماً بالخراج فمسحها مساحة الديباج، أما حذيفة فقد لعب به أهل جوخى في مساحته إذ كانوا قوماً مناكير

وجعل عثمان على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة، وعلى جريب الحنطة أربعة، وعلى جريب الشعير درهمين

ص: 18

ووقف عمر على عامليه قبيل وفاته فقال لها: لعلكما حملتما الأرض ما تطيق؟

فقال عثمان: حملت الأرض أمراً هي له مطيقة ولو شئت لأضعفت أرضاً. وقال حذيفة: وضعت عليها أمراً هي له محتملة وما فيها كثير فضل. فقال عمر: انظرا لا تكونا حملتما الأرض ما تطيق. . .

وجرت سياسة الإسلام على هذا المنوال من فرض الخراج الثابت على كل جريب مزروع أو غير مزروع، حتى عهد الخليفة هرون الرشيد. فلقد سأل هذا الخليفة الفقيه أبا يوسف عن أمر الخراج، وكان من رأي أبي يوسف العدول عن الخراج الثابت إلى خراج المقاسمة في الإنتاج وهو ما يقول به الرأي الثاني من الرأيين اللذين سلفا. وقد رد أبو يوسف على ما يقول به الفريق الأول من أن الخراج الثابت يزيد إنتاج الأمة ويدعو الزراع إلى عمارة الأرض الغامرة:(. . . فأما ما تعطل منذ مائة سنة أو أكثر وأقل فليس يمكن عمارته ولا استخراجه في قريب ولمن يعمر ذلك حاجة إلى مؤونة ونفقة لا تمكنه، فهذا عذرنا في ترك عمارة ما قد تعطل، فرأيت أن وظيفة الطعام - كيلاً مسمى أو دراهم مسماة توضع عليهم مختلفاً - فيه ضرر على السلطان وعلى بيت المال، وفيه مثل ذلك على أهل الخراج بعضهم من بعض)

ثم يبدأ أبو يوسف بانتقاد الخراج الثابت على ما سبق ذكره من اختلاف المواسم: (أما وظيفة الطعام، فإن كان رخص فاحش لم يكتف السلطان بالذي وظف عليهم ولم يطب نفساً بالحط عنهم، ولم يقو بذلك الجنود ولم تشحن به الثغور. وإن كان غلاء فاحش لا يطيب السلطان نفساً بترك ما يستفضل من أهل الخراج من ذلك. والرخص والغلاء بيد الله تعالى لا يقومان على أمر واحد. وكذلك وظيفة الدراهم مع أشياء كثيرة تدخل في ذلك تفسيرها يطول. . .)

(ورأيت أبقى الله أمير المؤمنين، أن يقاسم من عمل الحنطة والشعير من أهل السواد جميعاً على خمسين للسيح منه؛ وأما الدوالي فعلى خمس ونصف، وأما النخل والكرم والرطاب والبساتين فعلى الثلث، وأما غلال الصيف فعلى الربع، ولا يؤخذ بالخرص في شيء من ذلك)؛ إنما تكون المقاسمات في الثمرة عندما يباع من التجار، أو يقوم ذلك قيمة عادلة، ثم يؤخذ منهم ما يلزمهم فيه

ص: 19

جزية الرءوس

استعملت هذه الضريبة قديماً في جميع الدول، فلقد جباها الفراعنة واليونان والفرس، ثم الرومان والعرب من بعدهم. وهي لا تزال تجبى اليوم على نطاق مصغر في بعض البلاد المتمدنة، أو هي قد اتخذت في أغلب الأمم الحديثة شكلاً جديداً أو اسماً غير اسمها القديم. ومؤيدو هذه الضريبة يقولون بوجوب فرضها على جميع الناس، لكي يشعر كل فرد من الأمة بأنه عضو فعال في دولته، وأن عليه مسؤولية نحوها كمسؤولية عضو الأسرة نحو الأسرة.

وهؤلاء المؤيدون يرون أن قسما كبيراً من الشعب لا يؤدون إلى الحكومة ضرائب مباشرة، وهم لذلك لا يشعرون بشيء من الصلة التي تربطهم بالدولة ارتباط الضرورة الاجتماعية

وعلى هذا ينبغي وضع الضرائب مباشرة على كل رأس ليتم بذلك الترابط الاجتماعي المنشود

وليس من العدل كذلك أن يشترك في حكم البلاد كل الأفراد، ثم لا يؤخذ من بعضهم قسط من النفقات اللازمة لتدبير الأمور العامة

إن مشروعية الجزية مستندة إلى حماية الحياة التي هي أهم وظائف الدول وأكثرها حاجة إلى الإنفاق. إذ يجب حفظ الأمن العام، الداخلي والخارجي، وعقاب المجرمين والمعتدين

ولا يزال بعض المؤلفين المحدثين يدافعون عن جزية الرءوس بقولهم: (ما دامت الحكومة الديمقراطية يشترك في إدارتها كل ناخب، فيجب إذن أن يفرض على جميع الناخبين جزية مباشرة، مهم كانت صغيرة، إذ لا يمكن أن تضطلع بأعباء الضرائب طبقة من الناس بينما تضطلع بالحكم طبقة أخرى)

وهاهي ذي بعض ولايات سويسره والولايات المتحدة الأمريكية، قد فرضت ضريبة يسيرة على الرؤوس لتكون بدلاً عما أعطى الفرد من حق التصويت أو الانتخاب

وفي الحقيقة أن الجزية لها من المزايا ما جعلها محببة إلى الجباة في كل حين. ذلك أنها سهلة في إدارتها كل السهولة، وافرة المحصول هينة الجباية. وما هي إلا أن يختم على رقاب الناس أو تسجل أسماؤهم، ثم لا يترك الشخص كل عام حتى يدفع ما عليه من ضريبة وهو من الصاغرين

ص: 20

وفي هذه المناسبة، يجب إلا ننسى أن التجنيد الإجباري للمتبع اليوم في جميع أنحاء العالم، ما هو إلا صورة من صور الجزية حيث يقدم الفرد عوضاً عن الضريبة النقدية ضريبة من الخدمة البدنية والمخاطرة بالنفس. ولذا سمى التجنيد (بضريبة الدم).

تؤخذ الجزية على أنواع مختلفة: منها أن تكون متساوية المقدار على الجميع، لا فرق فيها بين غني وفقير، أو بين ذكر وأنثى. وحجتهم في هذا الرأي أن الحكومة مكلفة بحماية الأرواح وأرواح الناس جميعاً ذات قيمة واحدة، فمن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ولذلك تؤخذ الجزية متساوية من المجتمع

وعلى رغم ما في هذه النظرية من رونق خاص، فإنها بعيدة عن العدل بعداً لا يخفى على اللبيب، ولذا فضلت عليها الطريقة الثانية التي يميز فيها بين شخص وآخر حسب مقدرته أو غنائه

وهذه الطريقة هي التي أتبعها الإسلام في أهل الذمة إذ فرض ثمانية وأربعون درهما على الغني، وأربعة وعشرين على الوسط، ثم أثني عشر على الحراث أو العامل بيده مثل الخياط والصباغ والإسكاف والجزار. ولم تؤخذ الجزية من النساء والصبيان ولا من المسكين الذي يتصدق عليه، ولا من الأعمى والمزمن والمقعد إذ كانوا لا يملكون حرفة ولا يساراً

وأيما شيخ من أهل الذمة ضعيف عن العمل أو أصابته آفة، أو كان غنياً فافتقر. . . طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين

وبعد فيجب ألا يغرب عن ذهن القارئ أن الجزية والخراج اللذين ذكرنا من أمرهما شيئاً، لم يضعهما الإسلام إلا على الذميين، وهم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم من الذين وقعوا تحت الإسلام ثم آثروا البقاء على دينهم.

وهنا نعرض لمسألة خاض فيها الباحثون طويلاً وذهبوا فيها كل مذهب:

إذا دققنا في أمر الضرائب هذه التي فرضت على أهل الذمة، وقارناها بالضرائب التي فرضت على المسلمين - أي الزكاة - وجدنا ثمة فرقاً كبيراً. إذ إن الزكاة كانت خفيفة جداً بالنسبة لما فرض على غير المسلمين. فالإسلام كان يأخذ من أتباعه ما يقارب ربع العشر على ما بأيديهم من أنعام وأموال وزراعة، بينما أخذ من الذميين الثلث والربع إضافة إلى

ص: 21

الجزية على الرءوس.

فهل في هذا عدل من الوجهة العلمية الحديثة؟

إن الحكومة الحديثة تفرض الآن على الناس جميعاً ضريبة الدم، وهي في الحقيقة أضخم وأكبر تضحية من جميع الضرائب. والإسلام كذلك أوجب الجهاد على أتباعه واستوفه منهم تلك الضريبة الهائلة التي ليس لها مثيل. فإذا علمنا بأنه استثنى الذميين من تلك الضريبة وأمر أتباعه أمراً مؤكداً (بأن يوفي لهم بعدهم ويقاتل من ورائهم وألا يكلفوا فوق طاقتهم)، فليس إذن من العجب أن نراه يعاملهم في الضرائب الأخرى معاملة أخرى. ولعل الإسلام لم يرغب في أن يفرض ضريبة الدم على غير أتباعه، كما فعل كثير من الدول قديماً وحديثاً، وكأنه كان حريصاً على أن تكون ضريبة الدم وغيرها من الضرائب الأخرى مدفوعة بعامل من رضا النفس وارتياح الضمير.

(الكاظمية - العراق)

علي حسين الوردي

ص: 22

‌البيئة العلمية

للأستاذ خليل السالم

يشيع التفاؤل والأمل في نفوسنا كلما نجد الباحثين يشيرون إلى المشكلة العلمية في البلاد، ويحضون على نشر الثقافة العلمية وتنظيمها التنظيم المنتج. والحس الجديد بخطورة العلم وأثره في كيان الأمة وليد التأثر بروح العصر، ونتيجة الإدراك الواعي لنزعات النهضة العالمية الحاضرة التي يرفع العلم عمادها، ويكيف وجهاتها بصرف النظر عن النكسات التي تمنى بها المدنية، والتي لا يمكن أن يعد العلم مسئولاً عنها بأي شكل كان. وهذا الشعور بالنقص العلمي، والفوضى التي نتخبط فيها سيحفزنا دون ريب لاستعجال العلاج، ولبذل الجهد الأكبر لحل مشكلاتنا حلاً سريعاً حاسماً.

هل العقم في الاختراع والابتكار والاكتشاف متأصل في العقل العربي، أو هو وليد ظروف قاهرة إن زالت تفرد هذا العقل في التفكير والأداء؟ لماذا نحجم عن ارتياد الأبحاث العالية التي تملأ كتب الغرب ومجلاتهم، ونكتفي بالتغلغل الأدبي في بواطن الأمور؟

كيف نكون رأياً علمياً هاماً وفلسفة قومية شاملة؟ هل في بلادنا من الإمكانيات العلمية ما لو انتقل من حيز القوة إلى حيز الفعل رفعها إلى مصاف الأمم الراقية كإنجلترا وألمانيا وروسيا مثلاً؟ هل تصلح بلادنا ليترعرع فيها العلم في تربة خصبة، وجو مناسب، وعوامل طبيعية صالحة؟ ما هي أخصر الوسائل لخلق مثل هذه البيئة العلمية؟

هذه مسائل أساسية أذكرها دون ترابط فيما بينها لأقول إن الخوض في مثلها واجب مفروض على كل متخصص يستطيع الإجابة الوافية المطلوبة. وبحثي هذا محاولة سريعة لشرح الدعائم التي ترتكز عليها البيئة العلمية. وأنا إن قصدت في هذا البحث وجهة خاصة فذلك ما يفرضه الوسط العلمي الموبوء الذي نعيش فيه، والصورة المثالية للوسط العلمي السليم الذي ننشده.

وقبل أن أبدأ أجدني مضطراً لذكر ملاحظة قد تكون من تحصيل الحاصل؛ ولكن لابد منها لنمحو بعض ما علق بنفوس مريضة بداء الشعور بالحقارة، فتنكر على الأمة كل كفاية علمية، وتكفر بماضيها المجيد، ومن ثم لا تؤمن بمستقبلها أي إيمان. مثل هذه الفئة من الناس يجب أن تفهم بأن العلم لم يكن ولن يكون وقفاً على أمة بعينها بحيث تعدم الأمم

ص: 23

الأخرى كل القوى الخلاقة في الاستنباط والاستكشاف والتفوق؛ فالتراث العلمي العالمي مزيج متآلف العناصر لكل الأمم شأن عظيم أو صغير في تقديم هذه العناصر أو تكييفها بشكل ما. إن مشعل العلم ينتقل من أمة إلى أخرى، وإذن لا يكون من الأمانة التاريخية أن تدعى أمه من الأمم السبق والفضل في أحد ميادين المعرفة. نحن لا ننكر أن الأمة العربية في القرون الأخيرة لم تحمل قسطها من الواجب العلمي، ولكن هذه الحقيقة لا تمنعها من أن تنشئ لها من جديد حضارة علمية مستقلة الطابع، وافرة الإنتاج.

تقف الصناعة في طليعة العوامل الرئيسية التي تفعل في خلق البيئة العلمية، فحيثما كانت الصناعة تجد العلم ربيباً لها في طور، ورائداً لها في طور آخر. وتطور الصناعة يرافقه دائماً تطور في العلم وارتقاء في سبل الاختراع والاكتشاف، كما أن تقدم الصناعة مظهر من أقوى مظاهر تقدم العلم. وبمعنى آخر، يعتمد العلم والصناعة كل على الآخر كالدوال الجبرية، أي زيادة في قيمة التغير الأول تزيد في قيمة التغير الآخر والعكس بالعكس

قد نرى أن كثيراً من الأبحاث الرائجة اليوم لا تحمل في ذاتها طابع النفعية والاستثمار، ولكننا لا نحكم عليها حكماً نهائياً بذلك، فربما تؤدي أخيراً إلى تطبيق عملي واسع، وتخدم الإنسانية خدمة مخلصة. فمن كان يدري مثلاً أن أبحاث فراداي النظرية المحض حول علاقة الكهرباء بالمغناطيس ستقود إلى اكتشاف المحرك والمولد؟ حتى عندما ما لا تدخل هذه الأبحاث في نطاق التطبيق فيكفيها أنها تزيد المعرفة، وتفتق ضروباً جديدة من الفهم لأسرار الكون وحقائقه

ولما قدرت الصناعة أثر العلم الكبير في تقدمها وكمالها، روجت بضاعة العلم. فالمصانع تشتري العلماء، وتبني لهم المخترعات الواسعة وتجهزهم بالآلات الدقيقة، وتبذل في سبيل البحث أموالاً طائلة، سواء كان البحث مقصوداً لذاته، أو مقصوداً لمنفعة المصنع. وبذا خلقت عدداً من العلماء الأفذاذ الذين يعود التقدم الصناعي إلى مهارتهم ونباهتهم وقوة ابتكارهم. يقول الأستاذ هكسلي ما معناه:(إذا استطاعت الأمة أن تبتاع رجلاً مثل (وط) أو ديفي أو فراداي بمائة ألف جنيه كان عملها صفقة رابحة)

إلا أن الصناعة العربية لم تقف على قدميها بعد، وهي متلمسة طريقها بيديها، فلا يمكننا الاعتماد إذن على هذا الركن الأساسي في خلق البيئة العلمية الصالحة. وعلى النقيض

ص: 24

نؤمن بأن على العلم أن يشجع الصناعة وينير أمامها السبل، ويخلق الوسط الصناعي الخصب، فإمكانيات البلاد الصناعية واسعة النطاق ومواردها موفورة الغنى وإنما تعوزها القرائح الكبيرة تستغلها بشكل علمي دقيق وعلى نظام اقتصادي مثمر

لا يقل أثر الدولة في تأمين البيئة العلمية عن أثر الصناعة إن لم يزد عليه. وقف البرنس ألبرت زوج الملكة فكتوريا يقول في خطبة الرياسة للجمعية الملكية سنة 1859 (قد يحق لنا أن نرجو أننا بانتشار العلوم التدريجي وتزايد الاعتراف به كجزء جوهري من ارتقائنا الوطني - نجد رجل الحكومة والجمهور بنوع عام يعترفون أن العلم حقيق باهتمامهم فسيترفع عن التسول ويخاطب الحكومة كما يخاطب ولد عزيز والده واثقاً أنه يجيبه إلى ما فيه نفعه؛ وأن الحكومة تجد في العلم ركناً من أركان قوتها وفلاحها، وإن مصلحتها الذاتية تضطرها لتعزيزه)

وقال الرئيس هوفر (إن علماءنا أغلى مقتنياتنا القومية التي نملكها، وكل مبلغ ضئيل إزاء عمل هؤلاء الرجال. إننا لا نستطيع أن نقيس ما عملوه لترقية العمران بكل أرباح البنوك في جميع أنحاء المعمورة)

بمثل هذه الروح يجب أن تبدأ الدولة نضالها في سبيل نشر الثقافة العلمية العالية. وواجب الحكومات عندنا ثقيل باهظ، لأن الجمعيات العلمية ومعاهد التعليم والشركات الصناعية ورجال الإحسان يساهمون بقسط وافر من التعضيد والتشجيع في بلاد الغرب، أما حكوماتنا فتقف وحدها في هذا النضال لا معين لها من الخارج

على الحكومة أن ترصد الأموال راضية مغتبطة دون أن تؤذيها خسارة ما، فكل البذر لا ينمو، لأن من الحب ما يقع على الصخور أو يلتقطه الطير، ولكن أغلبه يلقى في التربة الصالحة. وإذا ما وكل هذا الإنفاق لرجال الاختصاص فلا شك أنهم يركزون عنايتهم في النواحي المفيدة الواضحة الأثر، لأنهم سيعلمون حق العلم أن مواردنا لا تتحمل الإسراف والترف

على الحكومة أن تنشئ المختبرات في الطبيعة والكيمياء وعلم الحياة والطب، وعلوم الهندسة المدنية والكهربائية والميكانيكية. . . الخ؛ وتجهز هذه المختبرات بالآلات العلمية الدقيقة التي أصبحت ضرورتها كضرورة العقل العلمي نفسه، ثم تسلم هذه المختبرات إلى

ص: 25

العلماء المختصين المشهود لهم من الجامعات الغربية والقومية بالتفوق والنبوغ

وتستطيع الحكومة أن تنشئ جمعية علمية خاصة بها تضم العلماء الذين قدموا للعلم والإنسانية خدمات كبيرة تعترف بها المجامع العالمية؛ وتساعد تشكيل الجمعيات العلمية الأخرى، وتمدها في أول عهدها بالمال اللازم لحياتها وطراد تقدمها. ولعل من أقوى مظاهر التنظيم أن يكون المجمع اللغوي واقفاً على كل المصطلحات الجديدة، قامعاً من فوضى الترجمات المتباينة ومشجعاً على نقل الكتب الحية من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية، وناشراً هذه الكتب بأثمان لا تبهظ المثقف العادي

بيد الحكومة إرسال البعثات إلى الجامعات الكبرى، وبيدها قضية تبادل الأساتذة والعلماء، وبيدها الاشتراك في المؤتمرات العلمية والثقافية، وهذه أسباب قوية في تطعيم الثقافات وبعث روح جديد في الوسط العلمي

وهي ترسم الخطط لترويج الثقافة العلمية في المدارس على الوجه الأخص وفي الأمة على الوجه الأعم. ولعل هذا الجهد أجدى ما يمكن أن تقدمه الحكومة لمساعدة العلم، وفي الوقت نفسه لا يكلف خزانتها ثمناً باهظاً. فهي تستطيع أن تعدل المناهج وتقرر الأصول، وترشد إلى أنجع الطرق التربوية التي تشوق الطلاب وتصرفهم إلى حياه علمية قبل أن تلقنهم الحقائق العلمية. تستطيع كل هذا دون أن تضيف إلى الميزانية شيئاً جديداً. أما بين أفراد الأمة، فإننا لا نستطيع أن نؤمن بالوسط الصالح إلا إذا أقبل الرأي العام على العلم بشغف ونهم؛ والمجلات العلمية المتزنة، والمحاضرات المجانية في قاعات الجامعات والمدارس ومن وراء المذياع تعجب الجمهور، لأن العلم يتسع لكثير من المحاضرات التي تتملق الرأي العام وتثير في ذهنه مشاكل نهائية حيوية، لا يصبر عقله عن البحث الطويل لفهم حلولها وتفسيرها

وقصارى القول أن تعزيز السلطة للعلم واحترامها للعلماء يبعثان في الجمهور تقدير العلماء وإكبارهم دون تعليق على قيمة أبحاثهم سواء كانت سياحة في أعماق الفضاء، أو استنطاقاً لأسرار الذرة.

وتبقى شخصية العالم لتكون دعامة ثالثة قوية في خلق البيئة العلمية، فكما نجد كثيرين من العلماء خلقهم الظرف الحازب، نجد عدداً كبيراً من العلماء خلقوا الظرف الملائم، والوسط

ص: 26

المناسب لانتشار آرائهم وذيوع أفكارهم. ولا يعوزنا الدليل بأن العربي موفور الذكاء مستعد بفطرته للاستنباط والتفوق إذا ما تساوت الأشياء، وأمنت السبل.

سواء علينا أن نعتنق الفكرة الرأسمالية التي ترى أن الدوافع المادية القوية تخلق العلماء، أو نعتنق الفكرة الاشتراكية التي ترى أن الرجال القادرين على الخلق والابتكار والتجديد ينفذون مآربهم بأي ثمن كان ويعملون بجد وحزم دون أمل في مغنم أو خشية مغرم؛ فإننا لا نستطيع إلا أن نحكم بأن تفكير العالم في خبزه وحياته يعطل تفكيره ويشل إنتاجه. فمقدار التضحيات المبذولة في سبيل العلم - مهما عظم هذا المقدار - لا يحملنا على الظن بأن رجال العلم رجال تضحية دائماً ولا يسعون من أجل المادة والمتاع الدنيوي. ولما كان حق الحياة وحق الحصول على مقوماتها متوقفين على خدمة الجماعة، فأولى بالمسؤولين أن يضمنوا للعالم حياة راضية لأنهم أول من يقدر خدمة العالم للجماعة

لا يكون هناك شيء غريب في أن يلقى العالم بعض المضايقات هنا، فتاريخ العلم مفعم بمثل هذه المضايقات. لقد دمرت الغوغاء مختبر بريستلي، وحرم جول من إجراء تجاربه لأن صوت الآلة كان يزعج أحد جيرانه، وجن العالم ماير لأن الناس سخفوا آراءه الصادقة. وكم أصيبت حرية الفكر بصدمات عديدة نتعب ونتعب إن حاولنا تقصيها وذكرها. ولكن جهد الحكومة المثمر سيقلل من هذه المضايقات، ويهيئ للعالم جواً رحباً تكون آفاق التفكير فيه واسعة مشرقة

نحن في فجر عصر يحملنا على التفكير السياسي، والتفكير الاقتصادي، والتفكير العلمي، والتفكير الأخلاقي، وبقدر ما نفكر ونستعد بقدر ما نستطيع أن نؤكد ذاتنا في المعترك الأدبي

اخلقوا لنا بيئة علمية راقية تزيلوا بذلك أمراضاً كثيرة تنخر في أجسامنا وتهدم من كياننا.

خليل السالم

ص: 27

‌41 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل ثالث عشر - الأخلاق

يثير احترام المسلمين للقرآن الدهشة؛ فهم يحصرون على ألا يكون المصحف أدنى الصدر سواء أكان محمولاً أم معلقاً. ويودعونه مكاناً مرتفعاً طاهراً ولا يضعون فوقه كتاباً ولا شيئاً آخر. ويقولون عادة عند الاقتباس منه: قال الله تعالى في كتابه العزيز. ويعتبرون غير لائق أن يلمس المصحف نصراني أو يهودي أو غير مؤمن بتعالمه، ولكن البعض يدفعه الجشع، وإن ندر ذلك، إلى بيعه إلى هؤلاء. ومن المحرم أيضاً أن يلمس المسلم القرآن ما لم يكن على طهر شرعي. ولهذا كثر ما يطبع قوله تعالى:(لا يمسه إلا المطهرون) فوق الغلاف. وتنطبق هذه الملاحظات عينها على أي شيء يكتب عليه كلام من القرآن. ومما يستحق الاعتبار مع ذلك أن ينقش على أكثر النقود العربية القديمة كلمات قرآنية أو الشهادة مع أنها سكت ليستعملها اليهود والنصارى مثل المسلمين. ولكني سمعت أن هذا الإجراء ملوم بشدة

وقد سألت مرة صديقاً مسلماً هل يعتبر التين موافقاً للصحة في مصر؟ فأجاب: ألم يذكر التين في القرآن؟ إن الله أقسم به في قوله: والتين والزيتون

لا شك أن المسلمين المحدثين أتقياء إلى حد الحماسة وإنما يعوزهم الثبات ونبذ الخرافات، ويندر - على ما أعتقد - أن يوجد فيهم ملحدون حقا. وهؤلاء لا يجرءون على إظهار إلحادهم خوفاً على حياتهم. وقد سمعت عن اثنين أو ثلاثة منهم ارتدوا عن دينهم بمخالطتهم الأوربيين مخالطة طويلة وثيقة. وقابلت ملحداً واحداً كانت له معي مناقشات طويلة. وقد ذكرت عرضاً في الفصول السابقة عادات كثيرة تبين الشعور الديني السائد بين مسلمي

ص: 28

مصر. ويستعمل المتسولون في هذا البلد نداءات دينية سأذكر أمثلة منها فيما بعد. ويشبه هذه النداءات صياح باعة الخضر وغيرها. وقد أدهشني هتاف حارس الليل في الحي الذي سكنته أثناء زيارتي الأولى: (سبحان الملك الحي الذي لا ينام ولا يموت)؛ ويصيح الحارس الحالي في الحي ذاته: (يا رب يا دائم). ويمكنني أن أضيف أمثلة كثيرة أخرى توضح تدين الشعب الذي أحاول وصفه، إلا أنه ينبغي أن أقرر هنا أن التدين ضعف كثيراً بين المسلمين، فإنك لا تنفك تسمع منهم أثناء الحديث معهم مثل قولهم:(إنها نهاية الدنيا! لقد تردى العالم في الكفر). ويعتقدون أن حالة المسلمين الآن تدل إلى قرب النهاية. ويبين ما ذكرت في بعض عقائد الوهابيين على أنها عقائد المسلمين الأولين إلى أي حد كبير حاد المسلمون عن تعاليم القرآن كما بلغت أولاً.

يظهر الرجال - تحت تأثير إيمانهم بالقضاء والقدر - في أوقات الابتلاء صبراً مثاليا، وبعد الحوادث المفجعة استسلاماً وتجلداً عجيبين يكادان يقربان من البلادة؛ ويعبرون عن أسفهم بقولهم متنهدين:(الله كريم). أما النساء، فهن على النقيض يبدين حزنهن بالإسراف في البكاء والصراخ. وبينما يلوم المسيحي نفسه بحق على كل حادث مكدر يظن أنه جلبه على نفسه أو كان يمكنه تجنبه، يتمتع المسلم عند تقلبات الزمان وصروف الدهر بهدوء بال عجيب، ولا ينفك مستسلماً عند دنو أجله فيصيح:(إنا لله وإنا إليه راجعون). ويجيب من يستفسر عن حاله: (الحمد لله. . . الله كريم). ولا يمنع الإيمان بالقضاء والقدر المسلم مع ذلك من السعي إلى تحقيق غايته؛ فإيمانه بالقدر ليس مطلقاً، ولا هو يجعله يهمل تجنب الخطر، إذ حرم القرآن ذلك بقوله:(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). غير أنه في بعض الأحوال كانتشار الطاعون وغيره من الأوبئة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين ألا يدخلوا مدينة موبوءة وألا يخرجوا منها. ويختلف المسلمون في جواز الحجر الصحي، إلا أن عمومهم يرونه غير ملائم

ويجعل الإيمان بالقدر المسلم مجرداً من الادعاء بمعرفة أعماله المستقبلة أو أي حادثة آتية، فلا يتحدث أبداً عما ينوي عمله أو يتوقع حدوثه دون أن يقول:(إن شاء الله)؛ وكذلك عندما يروي واقعة سابقة غير محققة، يقدم كلامه أو يختمه بقول:(الله أعلم)

يتمتع المصريون بفضيلتي الجود والإحسان - اللتين يبثهما الدين في قلوبهم - إلى درجة

ص: 29

عالية. ولكن يبدو من تصريحهم أن انتظار الثواب في الآخرة يحرضهم على الصدقة بقدر ما تحرضهم الشفقة ببني جنسهم أو الرغبة المنزهة في القيام بما يأمر الله. ويمكن من بعض الوجوه أن نعزو كثرة المتسولين في القاهرة إلى ميل السكان إلى الإحسان.

ومن آثار هذه الفضيلة أيضاً إقامة السبل الجميلة التي نراها في هذه المدينة، والسبل الوضيعة في القرى والحقول. كان يسرني كثيراً أول اختلاطي بالمصريين أن أشاهد شفقتهم في معاملة الحيوان وأن أرى البعض يجمع أطراف ثيابه المرسلة ليتحاشى لمس الكلب، ثم يقذف للحيوان الدنس قطعة من الخبز الذي يأكله. وكانت جرائم القتل والسرقة وغيرها نادرة حينئذ. ولكني أجد اليوم أغلب المصريين قد انقلبوا إلى الأسوأ في شفقتهم نحو الحيوان وبني جنسهم. ويبدو لأول وهلة أن شدة الحكومة المفرطة قد أوجدت في الشعب البغي والميل إلى الإجرام، إلا أنني أميل إلى الظن بأن سلوك الأوربيين أفضى كثيراً إلى هذه النتيجة، إذ لا أتذكر أنني رأيت قسوة في معاملة الحيوان إلا حيث يسكن الفرنج أو حيث يترددون مثل الإسكندرية والقاهرة وطيبة. ويتقزز المرء من رؤية حمير النقل التعسة في القاهرة، فأكثرها مصاب بجروح قرمزية كالياقوت الجمري، وتعقرها على الدوام حبال غليظة من مسد تربط بظهر البرذعة. وكثيراً ما يضرب الأطفال والرجال الكلاب في الشوارع لمجرد اللهو. وكثيراً ما رأيت أطفالاً يلهون بمضايقة القطط التي كانت محبوبة كثيراً قبلا. وكانت جرائم السرقة والقتل تحدث أسبوعياً تقريباً أثناء الشهرين أو الثلاثة التالية لقدومي الثاني. وكان الحكام الترك يجورون على الفلاحين ولكن بعض هؤلاء منذ خلفوهم على الحكم فاقوهم في الطغيان. والرأي العام أنهم ألعن من الأتراك

ومع أني أشاهد الآن على التوالي الكلاب الشريدة تضرب في شوارع القاهرة وهي هادئة لا تضر، فلا أزال أرى بعضهم يطعمونها وأغلبهم فقراء. ويوجد في كل حي من أحياء المدينة أحواض صغيرة تملأ يومياً للكلاب. ويؤجر أصحاب الحوانيت في شارع واحد سقاء لرش الشارع وملء أحواض الكلاب. ويوجد أيضاً حوض للكلاب عند كل دكان لبيع الشراب. ويمكن أن نذكر هنا أن كلاب القاهرة، وقلما يكون لها صاحب، تكون جماعات منظمة مختلفة تقصر كل منها نفسها على حي تطرد منه كل كلب دخيل. وهذه الحيوانات تكثر جداً في القاهرة. وهي تحرص على العموم أن تتجنب الإنسان كما لو كانت تعلم أن

ص: 30

أغلبية السكان تنبذها، ولكنها كثيراً ما تنبح عندما ترى أحداً يلبس الملابس الإفرنجية. وتضايق المارة ليلاً، وهذه الكلاب مفيدة لأنها تأكل سقط الذبائح التي يرمي بها من حوانيت الجزارة والبيوت، كما أن الكثير منها يتردد على أكوام الزبالة حول العاصمة فتقتات مع الصقور من رمم الجمال والحمير التي تنفق في المدينة. وأغلب الكلاب صهب اللون، والظاهر أنها تماثل بنات آوى شكلاً وميولاً.

ولا يمنع رأي المسلمين في الكلاب من الاحتفاظ بها للحراسة وأحياناً للتدليل. وقد حدث من زمن قصير حادث غريب من النوع الأخير، فقد اتخذت امرأة وحيدة في هذه المدينة، كلبا يؤنسها في وحدتها. فاختطف الموت هذا الأنيس الوحيد، فعزمت المرأة لحزنها وعطفها عليه أن تدفنه كأي مسلم في قبر لائق في مدافن الإمام الشافعي المقدسة. فغسلت الكلب طبقاً للقواعد المرعية عند وفاة المسلم وكفنته في كفن جميل ووضعته في نعش، واستأجرت نادبات وأقامت مأتماً حقيقياً. ولم يتم ذلك دون أن يثير عجب الجيران الذين لم يستطيعوا معرفة المتوفى ولم يتدخلوا لأنه لم يكن بينهم وبينها ألفة قط. ثم استأجرت المرأة مرتلين ليتقدموا الجنازة وتلاميذ لينشدوا ويحملوا القرآن أمام النعش. وسار الموكب في نظام مهيب، وتبعت المرأة والنائحات النعش وهن يملأن الجو بصراخهن؛ غير أن الموكب لم يسر كثيراً إذ اجترأت إحدى الجارات وسألت السيدة الحزينة: من المتوفى؟ فأجابتها: (إنه ابني المسكين) فكذبتها السائلة فاعترفت الثكلى بأنه كلبها ورجت جارتها الفضولية أن تكتم السر؛ إلا أن احتفاظ المرأة المصرية بالسر، وبسر مثل هذا، مستحيل. فأذيع الخبر في الحال، وسرعان ما تجمع جمهور غاضب أوقف الجنازة. وصب المرتلون والمنشدون غضبهم على مستخدمهم، حالما استخلصوا منه نقودهم، لأنه مكر بهم. ولو لم يتدخل الشرطة لذهبت المرأة على الأرجح ضحية هياج الشعب

والعجيب أن القطط الشريدة في مصر تطعم على نفقة القاضي. فيوضع في الساحة الكبرى أمام المحكمة عصر كل يوم مقدار من سقط الذبائح وتدعى القطط معاً لتأكل. وقد وقف السلطان الظاهر بيبرس على القطط، كما علمت من كبير كتاب القاضي، حديقة تسمى (غيط القطط) بجانب مسجده شمالي القاهرة. ولكن هذه الحديقة باعها الأمناء عليها ومشتروها على التوالي. وقد باعها السابقون بحجة أنها خربة فلا تصلح للإنتاج إلا بعد

ص: 31

نفقات كثيرة. وتستغل الحديقة الآن حكراً بخمسة عشر قرشاً سنوياً تنفق في إطعام القطط المتروكة. ومن ثم ألقيت نفقة القطط كلها على القاضي بحكم منصبه الذي يجعله حارساً على الأوقاف الخيرية، فعليه أن يتحمل إهمال سلفه. ومع ذلك أهمل واجب إطعام القطط أخيراً. ويتخلص الكثيرون في القاهرة من القطط بإرسالها إلى بيت القاضي وإطلاقها في الساحة الكبرى

ذكرت قبلاً مؤانسة المصريين بعضهم لبعض. وهم يخاطبون الأجانب الذين لا يوافقونهم في الشمائل والعادات، ولا يذهبون مذهبهم في التفكير بأدب يشوبه الجفاء والحذر. وكثيراً ما يظهر المصريون نحو الأجانب وفيما بينهم أيضاً فضولاً وقحا. وهم يخشون كثيراً أن يجعلوا لهم أعداء فيدفعهم خوفهم هذا إلى أن يؤيد كل منهم الآخر ولو كان في ذلك جرم. ويعتبر السرور صفة ظاهرة من الشعب المصري. ويظهر البعض احتقاراً كبيراً للتسلية التافهة. ولكن الكثيرين يجدون فيها بهجة. ومن المدهش أن ترى المصريين يتسلون بأقل شيء، فهم يبتهجون حيثما يوجد حشد وضجة وحركة. وتخلوا حفلاتهم العامة مما يسلي الرجل المثقف. ويبدو أن الطبقات السفلى تسعد كثيراً بالجلوس في المقهى للتدخين وشرب القهوة بعد العمل اليومي.

عدلي طاهر نور

ص: 32

‌أشعار صينية

للأستاذ محمد وهبة

- 11 -

منذ أن رحلت

للشاعر الصيني (نو - فو)

(715 - 774م)

لا تجلبوا إلي أزهاراً، أنا أريد أغصان السرو أغرق فيها وجهي

عندما تختفي الشمس وراء الجبال، سأضع على منكبي عباءتي الزرقاء ذات الأكمام الخفيفة، وأذهب لأنام بين عيدان الغاب التي تحبها

- 12 -

الشاعر في السجن

للشاعر الصيني (لو - بن - وانج)

(عاش حوالي عام 650م)

كم يحزنني غناء الصرصور الذي يعلو هناك. . .

أرى هذه الحشرة الضعيفة، مثقلة بالندى، لا تستطيع الطيران، وتغني. . .

وروحي أيضاً أعياه الأسف، لا يقدر أن يعلو إلى القمم، حيث لا تصل إليه نبال الغادرين

في العاصفة التي هدمتني، أكتب وأنا أبكي، أشعاراً صافية

- 13 -

الشاعر يفكر في حبيبته

للشاعر الصيني (يانج - كي)

ص: 33

(عاش حوالي عام 1400م)

ستمطر السماء. الريح أدمت أزهار الياسمين، ونقلت أوراق الفاويا التي تغطي الدغل. . . أهاجت ستائر النوافذ، وأثارت شعور الفتيات الجميلات. . .

إني حزين، أفكر في حبيبتي: السماء زرقاء، والبحر أخضر، والجبال البيض تفصل بيننا. . . آه لو تستطيع هذه العصافير أن تحمل إلى حبيبتي الرسائل التي كتبتها إليها. . . لو يستطيع هذا الجدول أن يحمل إليها أوراق الفاويا. . .!

أزهار الماجنوليا تلمع في الظلام. . . وأنا لا أستطيع أن أتناول عودي. . . إني أحدق في القمر الذي يشبه زهرة الماجنوليا. . .

لن أغني، لن أعزف، أريد أن أركن إلى أحزاني. . .

- 14 -

رحلة طويلة

للشاعر الصيني. لي. تين. بو

(702 - 763م)

أنا لا أستطيع أن أسترجع الفرح الذي عرفته صباح أمس. . . أنا لا أستطيع أن أطرد الكآبة التي عرفتها هذا الصباح

الطيور تقطع السماء. . . تصارع ريح الخريف. . . أنا أملأ قدحي وأحدق بعيداً

أنا أحلم بشعراء كبار، لم يوجدوا بعد. أذكر أشعارهم، وأردد أنني كنت يوماً - أنا أيضاً - قادراً على أن أصنع أشعاراً عالية، لو أنني استطعت أن أحوم في السماء بين النجوم

عبثاً أشرب لأغرق أحزاني. هنا عندما لا تسير الأشياء، حيث ترضى رغباتنا، يجب أن أطرح نفسي في مركب، تاركاً شعري للريح مهاجراً في البحر.

(بور سعيد)

محمد وهبة

ص: 34

‌البريد الأدبي

ذكرى الأستاذ الزنكلوني

منذ عامين مضيا، وفي النصف الأخير من شهر رمضان، اختار المغفور له الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني جوار ربه بعد عمر طويل مبارك كان فيه مثال العالم العامل، والمفكر الحر الجريء يقول ما يعتقد، ويدافع عما يعتنق، ويجهر بآرائه في صراحة نادرة المثال. والذين يعرفون الأستاذ الشيخ الزنكلوني كثيرون في الأزهر وفي خارج الأزهر، وإنك لتستمع إلى الرجل منهم يحدثك عن إيمانه بربه، وقوة يقينه، وصفاء نفسه فتأخذك الروعة، ويملكك الإعجاب، ولكنك تبحث عن رجل واحد من أصدقاء هذا الفقيد العظيم قد اهتم بأن يؤرخ له، أو يرسم صورة ولو مصغرة لحياته، أو يجلو للناس بقلمه ناحية العظمة فيه فلا تجد

وإذا كان غير الأزهر بين أصدقاء الفقيد وعار فيه قد شغلوا عن ذلك بأعمالهم، أو انصرفوا عن القيام بمثل هذا الواجب إلى ما هو أشبه بهم فما عذر الأزهريين؟ إن الأستاذ الزنكلوني رضي الله عنه رجل من رجالات الأزهر في عهده الأخير، له ذكريات ماثلة في حركته الفكرية وتطوراته العلمية، وله إلى ذلك أثره النافذ في شئون الأزهر على عهد شيخه الحالي، فقد كان يجله ويحترمه ويستعين برأيه في كل ما يعرض له من مشكلات الأزهر، وكان رحمه الله ناصحاً أميناً لا يعرف المداورة، ولا يماري في الحق ولا يجامل، فكيف يمر عامان كاملان على مثل هذا الرجل العالم الجريء المجاهد ولا يذكره أحد من أبنائه أو أصدقائه؟

لو أن اسم الأستاذ الزنكلوني لمع في بيئة غير هذه البيئة، لكان لذكراه شأن غير هذا الشأن، ولكنه الأزهر مما قعد به أنه يقف دون المصلحين في حياتهم، وينسى ذكراهم بعد مماتهم وكأنه يريد من الناس أن يذكروا هم أبطاله، وأن يتحدثوا هم عن رجاله، وحسبه أن يشترك في ذلك قارئاً أو سامعاً! بل إنه ليغفل حتى عن ذلك، فلو أنك فتشت في دار نابه من الأزهريين عن أي أثر من آثار المؤلفين المحدثين يتصل بالأزهر أو بمسألة من مسائل الأزهر العلمية أو التاريخية، لأعياك البحث دون أن تجد!

وإذا كان الأستاذ الزنكلوني قد أدركه إهمال الأزهر إلى هذا الحد المعيب، فأصبح بين

ص: 36

أصدقائه وتلاميذه نسياً منسياً، فإن أخاً له من قبل قد أدركه من إهمال الأزهريين مثل ما أدركه وهو المغفور له الأستاذ الإمام محمد عبده!!

أليس من العجيب أن يكون من أبناء الأزهر من بعث إلى أوربا باسم محمد عبده، ثم لا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكاره محمد عبده؟!

كأني بالسنين تطوى عاماً بعد عام، ثم يزول هذا الجيل ويأتي جيل آخر، فيتساءل أبناؤه: ماذا فعل محمود شلتوت، ومحمد عبد اللطيف دراز، بل ماذا فعل الأستاذ الأكبر المراغي من أجل ذكرى الزنكلوني، وعلم الزنكلوني، وأفكار الزنكلوني؟ ثم يتساءلون: ماذا فعل الدكتوران الفاضلان ماضي والبهي وغيرهم من أبناء الأزهر من أجل ذكرى محمد عبده وتاريخ محمد عبده؟

إننا نرجو بهذه الكلمة مخلصين للأزهر ولمكانة الأزهر ولشيخ الأزهر وأبناء الأزهر أن يكون لهم شأن غير هذا الشأن، ولا سيما في أمثال هؤلاء الأبطال

وإننا لمنتظرون

(م. . .)

من خليل مطران إلى علي طه

أشار بعض النقاد إلى الكتاب البليغ الذي بعث به شاعر القطرين خليل مطران إلى الشاعر الكبير علي محمود طه عن ديوانه الأخير (أرواح وأشباح) وإنا لننشر هذا الكتاب فيما يلي: (. . . واتتك السليقة السليمة، وأمدك الاطلاع الواسع، فجئت بالطريف من المعنى في الصريح الشائق من المبنى. ولئن كانت المصادر التي استنزلت منها الوحي غريبة في اصلها عن المصادر العربية، لقد وفقت إلى إبراز روائعها، وتقريب أبعد مغازيها، بما نفى عنها الغربة وكشف آفاقاً غير محدودة لطلاب التجديد والإبداع من حملة الأقلام بين الأدباء الناطقين بالضاد

وكان عزيزاً على غيرك أن يذلل ما ذللته من الصعاب، ويبلغ ما بلغته من الإجادة، ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء، وفضل العزيمة التي لا يفل غربها والأناة التي لا يدرك حدها

إن في مطالعة (الأرواح والأشباح) لمتعة فكرية ولذة فنية قد غنمت منهما ما اشتهت النفس

ص: 37

في ساعات لن أنسى طيبها بين ما أعانيه من آلام العلل في ساعاتي الأخر. . .)

1 -

حول نسخ الأحكام

تعقيباُ على مقال (حق الإمام في نسخ الأحكام) المنشور في العدد 480 من مجلة (الرسالة) أقول: إن أبا جعفر النحاس لم يعز القول بإعطاء الإمام حق نسخ الأحكام إلى فرقة إسلامية، ولا إلى جماعة من فقهاء الإسلام؛ بل قال:(وقال آخرون بأن الناسخ والمنسوخ إلى الإمام ينسخ ما يشاء؛ وهذا القول أعظم، لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله إما بقرآن مثله على قول قوم، وإما بوحي من غير القرآن، فلما ارتفع هذان بموت النبي عليه السلام ارتفع النسخ)

وإنما قال (أعظم) لأنه ذكر قبل ذلك قولاً يراه يؤول إلى الكفر، فيكون هذا أشد إمعاناً في الكفر في نظره. وهو يريد بقوله (وقال آخرون) الإسماعيلية الباطنية الذين يجعلون النسخ للأمام (أنظر فضائح الباطنية للغزالي)

2 -

في كتاب الإمتاع والمؤانسة

قرأت مواضع من (الجزء الثاني من هذا الكتاب فلمحت أغلاطاً فات الأب الكرملي ذكرها، منها:

1 -

في ص78 (وهذا لفظي) وفي الحاشية كذا ورد هذا اللفظ في كلتا النسختين ولم نجد فرقة بهذا الاسم، فلعله يريد بها الظاهرية الذين يأخذون بظاهر اللفظ

والصواب أنها نسبة إلى فرقة تسمى (اللفظية) لقول المنتمي إليها: (لفظي بالقرآن مخلوق). وقد ألف الإمام ابن قتيبة في هذا الموضوع كتابه (الاختلاف في اللفظ) المطبوع بالقاهرة سنه 1349. وفي كتاب (شروط الأئمة الخمسة) قال الحاكم: سمعت أبا الوليد يقول: قال أبي: أي كتاب تجمع؟ قلت: أخرج على كتاب البخاري، قال عليك بكتاب مسلم فإنه أكثر بركة لأن البخاري كان ينسب إلى (اللفظ). يشير إلى ما وقع بين البخاري وشيخه الذهلي حين قدم البخاري نيسابور سألوه عن اللفظ فقال: (القرآن كلام الله غير مخلوق وأعمالنا مخلوقة) قال الشرقي: سمعت الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ومن زعم (لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجلس إلينا ولا نكلم من يذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل

ص: 38

- يعني البخاري - فأنقطع الناس عنه إلا مسلم ابن الحجاج واحمد بن سلمة. وقال الذهلي لا يساكنني محمد ابن إسماعيل في البلد، فسافر البخاري. والحق في ذلك مع البخاري. ومن أشرف على سير المسألة بعد محنة الإمام احمد رأى مبلغ ما اعترى الرواة من التشدد في مسائل يكون الخلاف فيها لفظياً، مما سبب امتلاء كتب الجرح بجروح لا طائل فيها كقولهم: فلان من الواقفة الملعونة، أو من اللفظية الضالة. . . الخ

2 -

في ص133 (ومن شرفه - أي النثر - أن الوحدة في أظهر) وقيدوا (الوحدة) بفتح الواو وتكررت كذلك مرات في هذه الصفحة وغيرها. والصواب (الوحدة) بالضم على ما في تاج العروس.

3 -

في ص177 (وأبو عبد الله المرزباني شيخنا). تكرر في الكتاب مرات كذلك. والصواب (أبو عبيد الله) كما في شذرات الذهب وتاريخ بغداد والموشح ومعجم الشعراء وغيرها. وجاء محرفاُ كذلك في الإعلام والنثر الفني. وهو إمام كبير لا يسوغ إغفال الخطأ في كنيته.

صلاح الدين شفيق

ص: 39