الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 483
- بتاريخ: 05 - 10 - 1942
الحق المجرد
للأستاذ عباس محمود العقاد
عجب صديقنا الأستاذ الزيات لابن آدم (المخلوق الوحيد الذي يرى الشيء الواحد بعينيه الاثنتين أبيض تارة وأسود أخرى على حسب الصبغ الذي يلونه به الهوى)
وضرب لذلك أمثلة شتى، منها أن راديو باري أذاع منذ ليلتين أن فريقاً من الطلاب الهنود تظاهروا في بمباي فأعترضهم فئة من الشرط الإنجليز فتفرقوا في شوارع المدينة أباديد بعد أن أصيب نفر منهم بجروح. ثم عقب المذيع على هذا الخبر بأن الاعتداء على المتظاهرين بالضرب ينافي المدنية، ويجافي الخلق، ويصم الذين ارتكبوه بالقسوة الوحشية والبربرية الأثيمة. ثم أعلن المذيع في هذه الإذاعة نفسها أن مليوناً من جنود المحور قد اقتحموا بالدبابات الثقيلة والطيارات المنقضة والسيارات المدرعة منازل ستالينجراد على الروس وفيهم النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، فدكوا كل بناء، وسحقوا كل حي، وركموا أشلاء القتلى في الحجرات والطرقات على صورة لم يرها الراءون ولم يروها الراوون. ثم أخذ هذا البوق البشرى يهذي بفضل هذا النصر على المدنية، وينوه بعظيم أثره في مستقبل الإنسانية)
وأتى الأستاذ بأمثلة متعددة في هذا المعنى تؤيد شقاء الإنسانية بين العقل والهوى
وإنه لشقاء باق لن يزول أبداً، ولن يزال الهوى يرينا الشيء شيئين واللون لونين ما دمنا نحس ونرى، وقد
أعيا الهوى كل ذي عقل فلست ترى
…
إلا صحيحاً له حالات مجنون
وقد تناوله صديقنا الزيات من هذه الناحية فأبرزه في صور الحياة اليومية التي لا يخطئها من يرقبها
فهل هو نقص لا يوازنه جانب كمال؟ وهل هي آفة لا عزاء فيها لبني آدم؟ وهل نغير ما طبعنا عليه من هذه الخليقة بما طبعت عليه سائر المخلوقات من توافق وتشابه حالات؟
مصيبتنا أننا لا نستطيع!
لأن الإنسان لا ينقص إلا من حيث يزيد. فهو يعرف الخطأ لأنه يعرف الصواب، ويختل في هندسته من حيث يتقن تنحل هندسته كل الإتقان، لأنه أعلم بالهندسة من النحل لا لأنه
أجهل منه بفنونها وأنواعها. . . فهو يشتري الخطأ بثمن، لأنه لا يشتري الصواب إلا مخلوطاً به، مضافاً إليه
نحن نرى الشيء أشياء لأننا نرى
أما سائر المخلوقات فهي لا ترى إذ تنظر بعينيها. وإنما الأصح أن يقال إنها تلمس الأشياء بالعين على نحو من اللمس بالأيدي، فلا تقبل عندها التعدد والاختلاف
وهكذا الآدميون الذين يشبهون تلك المخلوقات
إنهم يلمسون الأمور بأعينهم كما يلمسونها بأيديهم، ولكنهم لا يرونها متعددة الحالات، متعددة الألوان، متعددة الوقع في الخواطر والأهواء؛ وإن تعددت عندهم قليلاً فهو أقرب تعدد إلى التوحيد
كنت أقول لبعضهم والألمان يدخلون باريس: إنهم سينهزمون
وكنت أقول لبعضهم والألمان يتقدمون الأراضي الروسية: إنهم سينهزمون
فكانوا يقولون: ولكننا نرى أنهم سينتصرون لأنهم منتصرون. . . فأقول لهم: ما هذا برأي. هذا لمس بالعين. هذا ما تبصرونه كما تبصره كل عين حيوانية تفتح أجفانها، وإنما الرأي غير هذا. الرأي ما يبصرك بالانهزام وأنت تنظر إلى النصر الملموس. فإن لم يفدنا الرأي هذه الفائدة فلا خير فيه، ولا حاجة بنا إليه مع وجود العيون والأجفان. إذ حسبنا بالعيون والأجفان أن تفتحها فنلمس بها، ثم لا نفكر ولا نرى خلاف ما تبديه
وهكذا يبصر الإنسان وجوه الرأي لأنه لا يرى الشيء على حالة واحدة ولا يستوفيه كله في صورة حاضرة
فهو يبصر الوجوه الرأي في الضرب مثلاً لأنه يحسه لذيذاً في حين ومؤلماً في حين ولا يحسه في بعض الأحايين
يحسه لذيذاً حين يكون هو الضارب، ويحسه مؤلماً حين يكون هو المضروب، وليس يحس له لذة ولا ألماً حين لا يكون ضارباً ولا مضروباً ولا شأن له في الحالتين
ومن العسير عليه جداً أن يعرف ما هو الضرب إذا عرفه على وجه واحد، ولم يعرفه على شتى الوجوه
ومن البعيد جداً أن يراه بالحق إن لم يره بالهوى على اختلافه، فيحبه ويبغضه وينظر إليه
بين الحب والبغض، و (يراه) بعد ذلك مستجمعاً بجميع هذه الوجوه
وهذا هو باب الكمال في تعدد الأهواء وتعدد الحكم على العمل الواحد إذ نعمله نحن وإذ يعمله الخصوم، وإذ يعمله من ليس من الخصوم ولا من الأصدقاء
وكل صورة من صورة هذه تمام لغيرها، ولا سبيل إلى التمام فيها بغير هذا التعديد
يقولون في الصعيد: إن نواتياً سمع مضغاً قوياً في مخزن الخبز الخاف من سفينته، فأشفق من نفاذ المؤنة في الطريق وصاح مغضباً: من هذا الذي يقضم في الخبز قضم الحمار؟
فقيل له: ابنك حسن!
قال: اسم الله عليه! أهو الذي يقرش هكذا قرش الفوير؟
والرجل قد صدق بعض الصدق فيما سمع من قضم حمار ومن قرش فوير، فإن أكل ابنه من الخبز يسره ولا يؤذيه، وإن انطلاق الغريب عليه يؤذيه ولا يسره. ويبقى أن يسمع المسافر الذي لا يسمع حماراً ولا فويراً، ولكنه يسمع الصوتين على حسب ما عنده من الزاد
وما أعجز الإنسان أن يتبين حقيقته بهذا الصغر وبهذه البساطة ما لم يسمع من جانب مخزن الخبز صوت حمار وصوت فأر وصوت إنسان
هذا نقص في خليقة بني آدم يؤدي إلى تمام
وإنما هو نقص دائم إذا وقف حيث هو ولم تجتمع صوره الكثيرة في صورة واحدة هي أدنى إلى الصدق وأبعد من الهوى وأوسط في الرأي بين مختلف الآراء
وذلك هو النقص الذي يحبه جماعة من أصحاب المذاهب الاجتماعية ويفرضون دوامه ويحضون على الاقتداء به في فهم التاريخ، ونريد بهم الشيوعيين
فهم يجعلون الهوى فرضاً لزاماً في معالجة كل حقيقة من حقائق الحياة
ويكتبون التاريخ فيذمون من لا يستحق الذم، ويثنون على من لا يستحق الثناء، لأنهم يستوحون المصلحة الشيوعية، ويعلنون أن الخروج من هوى المصلحة في تقدير الأمور مستحيل
فأما أنه مستحيل فلا، لأن الإنسان يعرف الفرق بين صوابه وهواه، وإن أحب هواه وآثره على الصواب
فإذا كانت له قوة خلق تصحب المعرفة غلب الهوى بالجمع بين معرفته وقوة خلقه، وأصبحت مصلحته تابعة لما يلزمها من جادة قويمة في رأيه
ولكن الشيوعيين لا يغلبون هوى المصلحة، لأن الخروج منه مستحيل، وإنما يغلبونه لأن تغليبه نافع لهم فيما يقدرونه ويفسرون به الأمور
ولا نقول: إن الشيوعيين وحدهم يغلبون الهوى في تفسير التاريخ وتصوير الحقائق، فهذه خليقة شائعة بين جميع الناس ملحوظة بين أصحاب المذاهب بلا استثناء
ولكننا نقول: إن الشيوعيين وحدهم هم الذين جعلوا ذلك فرضاً لا مناص منه، ولم يجعلوه عيباً يصححونه ويخجلون من إعلانه
وهذا هو الفارق الكبير بين الرأيين
فعلينا أن نعترف بالهوى ولا نجهل صنيعه في أفاعيل الأمم والأفراد، ولكن علينا أن نغالبه ما استطعنا كلما عرفناه واقتدرنا عليه
وهذا هو الواجب في كل عيب من العيوب، أياً كان سببه وأياً كان الناظر إليه
فأذكر أن (برتراند رسل) الفيلسوف الرياضي الباحث الاجتماعي الكبير قد أشار في بعض كتبه بإباحة العلاقات بين الفتيان والفتيات (بغير بنين) ليتم لهم اختبار الحياة الجنسية قبل الاضطلاع بتبعاتها، ولأن المنع رياء ما دامت الإباحة قائمة فعلاً وإن سترت عن أعين المجتمع والشريعة
فأما اختيار الحياة الجنسية فليست الإباحة سبيله الوحيد، وليس الزواج بعلاقة جنسية وكفى فيكون اختباره من طريق ذلك الانطلاق
وأما أن الإباحة مطلوبة ما دامت حاصلة، فهذا الذي يشبه عندنا مذهب الشيوعيين أن الهوى مفروض ما دام من عادات بني آدم
فالسرقة موجودة ولا نعالجها برفع العقوبة عنها، والسقم الذي يأتي من الطعام موجود ولا نعالجه بتسويغ الطعام المسقم للأبدان؛ وإنما وجود هذه الآفات هو الذي يدعونا إلى محاربتها واستئصالها؛ إذ نحن لا نحاربها وهي معدومة غير مكروهة الوجود
هو الهوى إذن نقص في طبيعة الإنسان تميز به بين المخلوقات لأنه طريقة إلى التمام
فلا نرميه ولا ندخره، ولكننا نتناوله بضاعة للاستبدال كلما تسنى لنا أن نبدل به بعض
الصواب
وهوى واحد لا يصلح تمناً مقبولاً في هذه التجارة
ولكن خمسة أهواء متقابلات هي أصلح الأثمان للمقايضة فيها، فليس أقمن بأضعاف الهوى من تعدد الأهواء
أيشقينا ذلك التبديل والاستبدال؟
نعم لا مراء. . . ولكن من الذي قال إننا خلقنا لنسعد؟ ومن الذي قال إن السعادة في استئصال الأهواء؟ لم يقل ذلك أحد؛ وإن قاله لم يحفله سامع. ولم تزل دنياه ماضية في شقائها وسعادتها وهواها.
عباس محمود العقاد
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
منظر لن أنساه - شعراء مبدعون - فكاهة عراقية - الحرية
- شيطنة مصرية - مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة
التوجيهية
منظر لن أنساه
في صباح يوم الجمعة الماضي توجهت مبكراً إلى سنتريس. فلما وصلت السيارة إلى القناطر الخيرية هالني أن أرى جماهير كثيرة معوّقة عن المسير. ونظرت فرأيت (هَوِيس الرياح التوفيقي) مفتوحاً، وهي فرصة يومية لمرور السفائن إلى الشمال وإلى الجنوب
ونزلت إلى الشط للتفرج فرأيت ثلاث سفن يصدها التيار عن دخول الهويس صد بلغ الغاية من العنف، فقدرّت أننا سنعوّق عن المسير زمناً غير قليل. عند ذلك بدا لي أن أرجو أحد الملاحظين إنزال الجسر الخشبي لحظات إلى أن يستطيع البحارة تسديد هذه السفن الثلاث، وفي هذا إنقاذ للمسافرين من الانتظار، ولأكثرهم شواغل تستوجب الاستعجال. فأجاب الملاحظ بأن الجسر يُفتح نصف ساعة لمرور السفن بأمر وزارة الأشغال، وقد بقى من الوقت عشر دقائق، فإن عجز هؤلاء البحارة عن تسيير هذه السفن قبل انقضاء الوقت المحدد فسيُرد الجسر ويمر الطريق، ولا يظفرون بغير الانتظار المملول!
فرجعت إلى الشط مرة ثانية لأشهد أعظم معركة معاشية رأتها عيناي
ما كان أولئك البحارة ناساً، وإنما كانوا من مردة الجن!
لم يكن بدٌّ من مصارعة تيار عنيف عنيف، تيار يُسمع هديره من مسافات ويُنذر من يصاوله بأفدح الخطوب
كانت المقاذيف بأيدي الملاحين، كالسيوف بأيدي المحاربين، وكانت القلوع تُطوى وتُنشر في اللحظة القصيرة مرات في اتجاهات مختلفات، وكانت الحبال تُرمى هنا وهناك فيتلقفها المتلقفون بأمضى وأسرع من نظرة البرق اللماح
وعلى الشط وقف أشخاص يصيحون صيحات الإرشاد والتوجيه بنبرات تقرُب من
الصراخ
دار رأسي من هول المنظر، وفكرت في مساعدة هؤلاء المجاهدين، ولكن ماذا أملك ولم أتلق في علم الملاحة أي درس؟
وطاف بالخاطر أطياف من ماضي الجهاد في هذه البلاد، الجهاد في سبيل الرزق الحلال، فهؤلاء الملاحون هم الذرية الباقة من رجال كانوا أسبق الآدميين إلى اتخاذ الأنهار وسائط لنقل المنافع من أرض إلى أرض، وكان لهم في الملاحة مهارة راعت القدماء. . . ألم يحدثنا ياقوت في معجم البلدان عن بُحيرة مصرية كان الملاحون فيها ينتفعون بالريح أغرب انتفاع، فيسيّرون السفائن إلى الشرق بمئونة ريح تتجه إلى الغرب!
ثم نظرت فرأيت على إحدى السفن حصيرة منشورة، فوقها أرغفة صغيرة تشبه أقراص (البتاو) والبتاو كلمة مصرية قديمة معناها الرغيف
ومن أجل هذا (البتاو) يجاهد أولئك الملاحون
المعركة لا تزال دائرة، ولم يبق من الوقت غير ثلاث دقائق، فكيف تمر السفائن الثلاث في دقائق ثلاث؟
والعمال فوق الجسر ينتظرون انتهاء الوقت ليعيدوا قوائم الطريق إلى ما كانت عليه، فأسير ويسيّر المسافرون إلى النحو الذي نريد!
ولكني أنسى نفسي وأنسى طريقي، فما يهمني إلا أن ينتصر الملاحون على التيار ليدخلوا (الهويس) بسلام آمنين
هِيلا هُب، هِيلا هُب، هِيلا هُب!!!
وانتصر الملاحون قبل ثواني ثلاث يحل بعدها الميعاد
وفي تلك اللحظة شعرت بفرح لا نظير له ولا مثيل
تباركت أسماء الله! فهو النصير لمن يتوكل عليه في مقاومة التيارات
شعراء مبدعون
يقال ويقال إن الشعر قل في مصر، فلم يبق فيها من الشعراء غير آحاد، ومع هذا رأيت في موقفي ذاك بقنطرة الرياح التوفيقي عشرين شاعراً على جانب عظيم من الإجادة والإبداع في الترنم والغناء
هنالك عشرون شاعراً، أو يزيدون من الطراز النفيس
فمن هؤلاء الشعراء؟
جماعة من العصافير اللطاف بَنَت أعشاشها في فجوات نقرتها نقراً بدخائل ذلك الجسر الصخاب الضجاج
كان المنظر في غاية من الروعة والجلال: على يميني بحارة يقاتلون الأمواج ليدخلوا (الهويس) قبل الوقت الذي حددته وزارة الأشغال، وعلى يساري صحابة من العصافير تقاتل لتنتصر في ميدان العواطف، فترف من هنا إلى هناك، رفيف الروح من القاهرة إلى بغداد
لن أنسى أبداً تلك العصافير بتلك الزقزقة الشعرية، ولن أنسى أنها فطنت إلى مأوى يصد عنها شر الآدميين
العصافير تأوي إلى أعشاشها قُبيل الغروب، ولا تخرُج من أعشاشها إلا بعيد الشروق، وهي تُهد هدّاً بقدوم الليل.
فما صبر عصفور على النوم ساعات طوالاً وحول أذنيه هدير يصفُر بجانبه هدير (سَدَّة الهندية) في سمع الفرات؟
هو عصفور شاعر يطيب له أن يهدأ على ضجيج الأمواج
لو بحث هذا العصفور عن مكان هادئ لوجد ملايين من القلوب الهوادئ، وبعض القلوب تهدأ فتسكن سكون الموت، فلا يأوي إليها غير البوم النعاب
في ضمائر (القناطر الخيرية) شعراء من العصافير اللطاف،
وقد يكون لهذه العصافير نظائر بقناطر أسيوط وقناطر أسوان. . .
مصر وطن الشعر والفن والجمال، وهي الغُرة اللائحة في جبين الوجود
فكاهة عراقية
وبمناسبة الملاحة النهرية أسوق فكاهة عراقية ما خطرت في بالي إلا ابتسمت. وخلاصة تلك الفكاهة أن أحد المسافرين سأل ملاَّحاً في دجلة عن أجر الركوب من بغداد إلى البصرة؛ فأجاب الملاح: عشرة دراهم مع جر الحبال، وعشرون درهماً بدون جر الحبال. ففكر المسافر قليلاُ، ثم رضي بالحال الأول مراعاة للاقتصاد!
فكاهة في غاية من العذوبة، ولكنها تحتاج إلى شرح، فأكثر القراء لا يعرفون حكاية جر الحبال.
أظنهم يعرفون، فلنُعف هذه الفكاهة من الشرح، لئلا تَبُوخ!
الحرية، الحرية!
وقف (المترو) ظهر اليوم عند مدخل مصر الجديدة، ثم طال به الوقوف، فنزلت لأعرف السبب، فرأيت قطارات كثيرة يعاني ركابها مثل ما نعاني من التعطيل، وكان السبب أن قطاراً أُصيب بعطب فعطَّل جميع القطارات
والتفت فرأيت الأستاذ سعد اللبان ينتظر مع المنتظرين، فوجهت نظره إلى الفرق بين (المترو) و (الأوتوبيس)
- أتريد يا دكتور أن تستغل هذا المنظر لكلمة في مجلة (الرسالة)؟
- أنت تعرف يا صديقي أني أنتفع من جميع مشاهداتي!
- وماذا ترى في هذا المنظر مما ينفع؟
- سأقول لقرائي وأقول. . . سأقول: إن (المترو) حين يُعطِّب منه قطار تُعطِّل جميع القطارات، ولا كذلك الأتوبيس
- أوضح ما تعنيه بعض الإيضاح
- المترو يسير في طريق مرسوم تحدده هذه القضبان، فهو في حقيقة الأمر مسجون؛ أما (الأتوبيس)، فيسير في الطريق كيف شاء، وهو لا يعطل أخاه إن أُصيب بعطب في الطريق
- وإذن؟
- وإذن تكون الحرية أساساً لكل فلاح
- ثم ماذا، على حد تعبيرك؟
ثم تكون الأخلاق الفردية والقومية مما يتأثر بالتفاوت في مثل هذا النظام؛ فالرجل الذي يسير على منهاج واحد طول حياته يُعطّل عن المسير من وقت إلى وقت، والأمة التي تلتزم خطة واحدة في حياتها السياسية والاقتصادية تعطل عن الانتفاع بما يجد في الدنيا من تطورات وتغيرات
- أنت إذن لا تقول بالثبات على المبدأ
- المبدأ هو الغاية، وهي لا تختلف، والوسائل هي الطرائق، والطرائق تختلف من يوم إلى يوم باختلاف الظروف
- ولكن الناس لا يفرقون بين الوفاء للغايات والوفاء للوسائل!
- وهل فهم الناس جميع الدقائق في الأخلاق الفردية والقومية؟
ثم سار المترو فانقطع الحديث. . .
شيطنة مصرية
تغربت عن وطني عدداً من السنين، وعرفت الناس من جميع الأجناس، فما رأيت أذكى من المصريين. ولو دُوِّن ما يتندَّر به السامرون بالأندية المصرية في أسبوع واحد لكان ثروة أدبية تقتات بها أجيال وأجيال
وأذكر شاهدين اثنين يتصلان بشخصي، وفيهما الكفاية لمن يريد إدراك بعض الجوانب من الشيطنة المصرية:
1 -
تفضلت حكومة العراق فمنحتني وسام الرافدين، فكتبت الجرائد كلمات لطيفة بينت فيها أن الحكومة العراقية أرادت أن تثيبني على ما بذلت من الجهود في توكيد الصلات بين مصر والعراق؛ ولكن إحدى المجلات اهتدت إلى السبب الصحيح فقالت: إني مُنحت ذلك الوسام جزاء بالرحيل عن بغداد!!
وتلك نكتة أدق من السحر الحلال!
2 -
الأستاذ الزيات يحرص على أن أكتب في (الرسالة) بدون انقطاع. وكان المفهوم عندي أن الأستاذ الزيات يراني من أمراء البيان، ولكن إحدى المجلات قد اهتدت إلى السبب الصحيح فزعمت أن الأستاذ الزيات قال أنه يستغني بمقالي عن صحيفة اللطائف والطرائف!
والحمق المصري أجمل من العقل، ومجانين مصر هم الغاية في لطف الذوق وخفة الروح
والمأمول أن يكون هذان الشاهدان من فنون المزاح، فلا يحق ما يترتب عليهما من أحكام لها في ساحة الظلم مكان
مسابقة الأدب العربي
احتفلت وزارة المعارف بتقديم الجوائز إلى الفائزين في مسابقة الأدب العربي، وكان احتفالاً في غاية من الرواء والبهاء
وكنت في الحفلة الماضية قد استهديت معالي الوزير جائزة، لأني شرحت مواد المسابقة على صفحات (الرسالة) في عامين متعاقبين، فقام أحد الطلبة في هذه الحفلة وطالبني بتقديم جوائز من مؤلفاتي لحضرات الفائزين. وقد ابتسم الهلالي باشا لهذا الاقتراح اللطيف، كأنه يظن أني سأعفيه من جائزة على الجهد الذي أبذله في هذه الدراسات. ولا يضيع حقٌّ وراءه مطالب!!
أترك هذا وأذكر أني سأستعين الله في دراسة المواد الجديدة لمسابقة العام المقبل، بعد انتهاء شهر الصوم، راجياً أن يتفضل أساتذة السنة التوجيهية بمعاونتي، فقد تكون المؤلفات المقررة فوق ما أطيق
سنلقي مرة ثالثة على صفحات الرسالة مع الطامحين من أبناء الجيل الجديد، وسيكون للقلم ميدان أو ميادين في تشريح الكتب المقررة على المتسابقين
(اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، ولو شئت لجعلت الحزن سهلاً)
بهذه العبارة كان يبدأ درسه أحد العلماء فيظفر بالتوفيق، وبها نبدأ ما نقبل عليه من الدروس، والله وحده هو المستعان، وبه التوفيق
زكي مبارك
المنتحرة
الدكتور محمد حسني ولاية
كانت في الخمسين من العمر عندما انتحرت بإحراق نفسها في آخر نوبة من نوبات الملانخوليا ولما كانت هذه النوبة خفيفة، فقد تمكنت بالإرادة الباقية لديها من وضع حد لحياتها. على أنها حاولت في إحدى النوبات المتوسطة في الشدة من أن تحنق نفسها بلف شعرها حول عنقها
بدأت حياتها في ظل عيش رغيد، وتولدت لديها نزعات ذكرية بعد أن أنجبت أمها عدة أطفال ذكور. ولما كانت العناية التي كانت موجهة إليها قد انتقلت إلى اخوتها، فقد نشأت عندها الرغبة في تحديهم وتحدي الذكورة بوجه عام. ومن مظاهر هذا التحدي أنها عندما بلغت العاشرة من عمرها كانت تقلد الذكور بإطارة طائرات مصنوعة من الورق الملون والبوص، وكثيراً ما كانت تصيد طائرات الأطفال بطائراتها التي كانت تعني بصناعتها أكبر عناية
وفي نحو العشرين من سنها تزوجت، ثم أنجبت من زوجها عدة أطفال، ولكن زواجها لم يكن موفقاً، لا لسبب سوى أنها كانت تنشد السيطرة وتشعر بغضاضة لقيامها بدور امرأة.
وقد انتهى أمرها إلى أن أحبت امرأة أخرى، فكانت تدللها وتعاملها معاملة الرجل للمرأة، وقد أعدت لها كوباً من الفضة نقشت عليه اسم خليلتها، ولا تسمح لأحد أن يشرب منه سواها، كما أنها طرزت اسم هذه الخليلة على الوسائد والفرش، ثم مهدت السبل لكي تزوج زوجها من هذه المرأة، فعاش الثلاثة في منزل واحد وفي شبه وئام. وقد حققت بهذا الزواج أهدافها بالتخلص من زوجها، على الرغم من أنها بقيت في عصمته، وفي الوقت نفسه قربت منها خليلتها
وعندما بلغت سن اليأس تشبثت بها نزعات سادية فكانت تضرب خادمتها ضرباً مبرحاً. وكثيراً ما كانت تجز شعرها وتكوي جسدها بسيخ محمي في النار، كما استبدت بها ميول ذكرية حملتها على السفر بمفردها إلى الأقطار الشقيقة وإلى تبذير أموالها تبذيراً شديداً. وما لبثت أن انتابتها نوبات ملانخولية متفاوتة في الشدة
بدأت عوارض مرضها بحدوث خفقان في القلب ورهبة من الموت وخوف من عقاب الله،
ثم أخذت تتجاذبها الهواجس السود فكانت تعتقد أنها قضت نحبها، ثم توسلت إلى الله أن يغفر لها خطاياها. وكانت إذا سمعت الحاكي (الفونوغراف) تصورت أن روح أحد أقاربها تقمصت في القرص المدار فلا يفتأ يصعد أنينه ويبث شكواه كلما وخزته إبرة الحاكي الحادة. وإذا رأت أحداً يهش الذباب خيل إليها أنه يشير إلى سفاح ليقطع رقبة أحد أقاربها
وكان في منزل المريضة زهريات برنزية صغيرة في كل منها وردة صناعية حمراء، فكانت تعتقد أن تلك الزهريات ما هي إلا يأجوج ومأجوج حاملين مضلات حمراء ليتقوا بها جمرات تتساقط عليهم من جهنم.
وتصورت ذات يوم أن سريرها سفينة نوح وأن أفراد أسرتها مشرفون على الغرق، فجعلت تناديهم ليتعلقوا بالسفينة طلباً للنجاة ولكن دون جدوى.
وكانت تمتنع عن تناول الكاكاو لاعتقادها أنه ليس إلا دماً مسفوكاً. وطالما امتنعت عن الاغتسال ظناً منها أن الماء ما هو إلا بول الفيلة.
ومن أطراف الهواجس التي كانت تنتاب المريضة عندما كنت أغذيها صناعياً بإدخال اللي المعدي إلى معدتها أنها كانت تعتقد أن المقصود بهذه العملية تشويه خلقتها ونقل أعضائها الجنسية إلى مكان فمها ونقل فمها إلى مكان تلك الأعضاء لتكون أعجوبة العالم.
ومن الهواجس التي تدل على رغبتها في أن تكون رجلاً أنها كانت تتصور أحياناً أنها رجل أو أن نصفها لرجل والنصف الآخر لامرأة، وحين تسعفها لمحة من لمحات الإدراك وتنظر إلى رجليها فتراهما متماثلين تقرر أنها إما أن تكون رجلاً وإما امرأة
وعلى الرغم من أنها كانت تتصور في أثناء مرضها أنها مذنبة وأن الله سينزل بها أشد العقاب، وإنها مخلوق دنيء لا يستحق دخول الجنة فإنها كانت أحياناً تعوض عن هذا نوعاً ما بتصورها نفسها ابنة ملك الفرس ولكنها وضعت في أحد المتاحف الأثرية لتكون فرجة للناس.
محمد حسني ولاية
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية
أيبيقوس
للأب أنستاس ماري الكرملي
1 -
توطئة
طالعنا في الرسالة (10: 812) النبذة التي قلّد بها جيد هذه المجلة، الأستاذ محمد مندور، أحد المدرسين في كلية الآداب في مصر القاهرة الزاهرة، وحالما وقع طائر بصرنا عليها، وعلى اسم كاتبها، استبشرنا وقلنا في نفسنا:
إذا جاء موسى وألقى العصا
…
فقد بطل السحر والساحر
ولما استهل الكاتب نبذته بقوله: (أصحح للأب الفاضل أنستاس ماري الكرملي خطأ وقع فيه) - قلنا في نفسنا: وما هذا التصحيح؟ - فإذا هو يبيع لنا بضاعة عرضناها نحن على القراء بكل تحرز وتوق، إذ لم يسبقنا أحد إلى عرضها. إذن لم يأتنا بشيء جديد؛ وإذن لم نفهم كيف ساغ له أن يقول:(أصحح). . .
ومن الغريب، أنه ألح على أن الشاعر المبحوث عنه في (الامتناع والمؤانسة) هو (أتيقوس) أي الأتيكي، وهو يوناني صميم. . . إلى آخر ما قال وجال وصال!
ولم يشر أبداً إلى أننا كنا أول من أشار إلى هذا الرجل إشارة خفيفة، من غير أن نلح على أنه هو المطلوب في هذا المبحث. وقد ذهبنا إلى ذلك لمقاربة بين لفظة (أتيقوس) و (إيقوس)، ولم يكن ذلك من باب التأكيد؛ فإذا الأستاذ مندور المدرس بكلية الآداب، يتمسك بهذا (الخاطر الضعيف)، ويعده (رأياً) ويأخذ به، ويدافع عنه مدافعة الأبطال، كأنه من وضعه، أو من فكره
ولكن من بعد أن تنصر لهذا الرأي، ونافح عنه أبدع منافحة، قذفه فجأة من يده في مهاوي الرذل، كأنه عقرب حاولت لسعه، فأراد التخلص منها على هذا الوجه المبارك النتيجة، إذ قال:(وإذا ذكرنا أن (كومودوس) هو. . . وإذا كان من الممكن أن يكون (قومودس) إمبراطور روما. . . فأي غرابة في أن يكونوا. . .
فيا سيدي الأستاذ، المدرس بكلية الآداب في القاهرة، لقد هدمت بإذا. . . وبإذا (مكررة)
وبمن الممكن أن يكون. . . ما بنيته، أي صرحك الممرد، فوقع عليك وسحقك سحقاً، وأنت تُري للناس أنك لم تشعر به وهم قد شعروا به كل الشعور. أما أنك تري للناس أنك لم تشعر به، فذلك لأنك قلت في الختام:(وهكذا يتضح أن القراءة التي (نضنها) أقرب ما تكون إلى الصحة، هي قومودوس وأتيقوس؛ اللهم إلا أن تكون عند الأستاذ كراوس معرفة خاصة بأبقوس الشاعر اليوناني، وذلك ما ننتظره منه، إن تفضل فجاد بعلمه (الغزير)
فلو كنت، يا سيدي المدرس بكلية الآداب، واثقاً بما تقول لما قلت هذا القول، ولما التجأت إلى غيرك، لأنك بهذه المحاولة نسفت صرحك نسفاً حتى أُسسه
يا سيدي الأستاذ، المدرس بكلية الآداب، إن التاريخ لا يبني على (إذا)، ولا على (إذا كان من الممكن أن يكون كذا وكذا) ـ إن التاريخ، يا سيدي الأستاذ المدرس بكلية الآداب، رواية وقائع، ونقل أحداث تنقل إلى السلف على ما رووه، ولا دخل فيه لـ (إذا) و (من المكن) فمثل هذا الكلام يرد في المنطق والفلسفة والصرف والنحو واللغة والحديث وأمثالها، التي يصح فيها التخريج؛ أما التاريخ فبعيد عن التأويل والتفسير. فالظاهر أن حضرتك مهرت في التخريج حتى رسخ في نفسك كل الرسوخ، فصرت تستعمله في كل ناد وواد، في ما يجوز استعماله، وفي ما لا يجوز، فآذيت نفسك من حيث تدري ولا تدري
2 -
كيف وجدنا ضالتنا
جرت لنا عادة أن نرحب بأصدقائنا، وأحبائنا، وأدبائنا في كل صباح جمعة من الأسبوع، وذلك منذ سنة 1911، فيجتمع في نادينا الكتّاب والصحفيون والشعراء والمؤرخون، ووصاف البلدان، ويختلف عددهم بين العشرين والثلاثين، فتلقى الأسئلة، وتجري المحاورات والمطارحات على أحسن وجه، وأسلم طريقة، بشرط ألا يلقى سؤال في الدين ولا في السياسة. وإن وقع شيء من هذا القبيل، ينبه صاحبه على أن مثل هذا الأمر ممنوع، فيسكت بكل حشمة ووقار وأدب من غير أدنى امتعاض
ويوضع بين أيدي الأدباء جميع جرائد المدينة، وما يأتي إلينا من الصحف والمجلات والكتب الجديدة الواردة من العراق وخارج العراق، فيطالعها المنتمون إلى هذا الديوان المتواضع. ويتفق لنا أن نخط خطاً أزرق تحت كل غلط نقع عليه فيما نقرأه فيأتي بعدنا من يقف عليه فيعرف ما فيه من الزلل والخلل. ولما طالعنا نبذة الأستاذ (مندور) المدرس
بكلية الآداب خططنا خطوطاً زرقاً تحت بعض الألفاظ، وأشرنا بعض الأحيان بالنص إلى ما فيها من الأغلاط بكلمات وجيزات، ولا سيما أشرنا إلى قوله:(إن هيرودس أتيقوس) روماني، لا يوناني، فهذا أبعد في الخطأ من استنكاره أن يعتبر (ثيودوسيوس) يونانيا. . .) استحسنها الجميع واستصوبها الكثيرون
بقي علينا أن نعرف الاسم الحقيقي للشاعر اليوناني (إبقوس) أو (إتقوس) أو (إنقوس) أو (إيقوس)؛ إذ كل هذه الروايات وردت مصحفة للاسم الحقيقي المصحف، فتذكرنا أننا لما كنا ندرس اليونانية في جامعة بيروت اليسوعية، إن أحد معلمينا ذكر استطراداً اسم شاعر يوناني مشهور سماه (إيبيقوس)، وكان قد ذكره من باب العرض، من غير أن يتصدى له تصدياً مقصوداً، فبقي اسمه هذا مطبوعاً في ذاكرتنا، وكان عمرنا يومئذ 21 سنة:(أي كان ذلك في سنة 1887م)
فسألنا أحد الحاضرين في الجمعة التي وقعت في 28 أغسطس (آب) من هذه السنة المستشرق الإيطالي سيريني والأستاذ مير بصري منشئ مجلة (غرفة تجارة بغداد): أتعرفان شيئاً عن (إيبيقوس)؟ فقالا: وكيف يكتب هذا الاسم بالحرف الروماني؟ فقلنا: لعله فقال الأستاذ سيريني: سأنظر غداً السبت في المعلمة البريطانية وأفيدك عنه الإفادة الصادقة، وكذلك قال الأستاذ مير بصري
وفي اليوم الثاني - بعد أن مضت أربع وعشرون ساعة على سؤالنا - هتف الأستاذ بصري قائلاً: وجدتُ ضالتكم في المعلمة البريطانية، ويكتب العلم هكذا لا كما كتبتموه ثم قال: وهأنذا أنقل إليكم بالعربية ما ورد في المعلمة المذكورة، وأبعث به إليكم في هذه الساعة. وبعد عشر دقائق، ورد إلينا تعريب الموضوع، وهو ما ننقله إلى القراء بحروفه عن المعلمة البريطانية بقلم الأستاذ مير بصري:
3 -
ايبيقوس هو اسم الشاعر اليوناني على التحقيق
(إيبيقوس من أبناء ريجيوم من أعمال إيطالية، شاعر غنائي، يوناني، معاصر لأناكريون وقد طوي بساط أيامه في المائة السادسة (ق. م.) وقضى حياته متنقلاً، ولازم زمناً بلاط يولقراطس طاغية ساموس وقد قص بلوطرخس أسطورة وفاته قال: هاجمه لصوص، فناشد سرباً من الكراكي أن يأخذ بثأره. وحدث بعد ذلك أن أحد اللصوص شاهد كركياً في
مسرح كورنتس فصاح: انظروا إلى أصحاب ثار إيبيقوس؛ فنم بذلك على نفسه؛ فذهبت كراكي إيبيقوس مثلاً
وقد نظم إيبيقوس سبعة كتب في الشعر الغنائي، منه في التصوف، ومنه في الغزل) انتهى نقله تعريباً.
ثم بحثنا عن إيبيقوس في سائر المعاجم التاريخية، من فرنسية وإنجليزية، وإيطالية وغيرها، فرأيناها جميعاً تذكر هذا الشاعر اليوناني، وعصره، والكراكي التي استشهدها على قتله. ولاروس الكبير - وهو معجم ضخم في أكثر من عشرين مجلداً - تكلم عليه أكثر من جميع المعاجم. ومن أراد التوسع في هذا الموضوع فعليه به؛ فإنه في غاية الإفادة التاريخية، ونحب بنوع خاص أن يطالعه حضرة الأستاذ (محمد مندور) المدرس بكلية الآداب في مصر المحمية، من كل شر وبلية
4 -
الكراكي المندورية
قال جناب الأستاذ المكرم: (وأما قصة الكراكي، فقصة لا أثر لها فيما عثرت به من كتب اليونان، فهي خرافة لا نعلم عن نسبتها إلى قومودس وأتيقوس شيئاً؛ وإن يكن هناك احتمال في أن تكون من بين الأساطير الكثيرة التي راجت عن وفاة الشاعر اليوناني الكبير لوسيان المعاصر لقومودوس وأتيقوس) انتهى
يا سيدي الأستاذ، لا يقول كلامك ولا مثله أرسخ المؤرخين قدماً في أخبار اليونان، من أقدمين ومحدثين. فقولك. (فقصة لا أثر لها فيما عثرت به من كتب اليونان). فهذا كلام يدل على أنك وقفت على جميع مؤلفات أصحابنا اليونان. فهذا ادعاء لا يسلم لك به تلاميذك؛ ولو كان صادراً عن حسن نية! بل لا أظن أن تلاميذك وكلهم ـأذكياء نجباءـ يقبلون منك هذا الإنكار العام العظيم، فكيف يقبله قراء مجلة (الرسالة)، وفيهم كبار المؤرخين، وأساتذة التعليم وأعاظم جهابذة الأخبار وأرسخ العلماء قدماً في النقد وتزييف الأقوال والآراء
وصاحب الإمتاع لم ينسب هذه الكراكي إلى لقيانس، ولا إلى أتيقوس، بل قال، وهذا كلامه بحروفه منقولاً عن 153: 2 من الإمتاع: (حكى لنا أبو سليمان أن تيودسيوس ملك يونان، كتب إلى كنتس الشاعر أن يزوده بما عنده من (كتب) فلسفية. . .)
فالكراكي منسوبة هنا إلى (كنتس) الشاعر والذي أثبتنا أنه إيبيقوس فما ذكرته يا سيدي لم
يذكره أحد فمن أين تأتينا بالوحي؟
وزدت الطين بلة، إنك ذكرت اسم شاعر آخر وهو لسيان (أي لقيانس). هذه كلها أمور تزيد في المعضلات ارتباكاً، وفي العقد عجزاً.
ثم يا سيدي، أن لقيانس وقومودوس وأتيقوس كانوا من أبناء المائة الثانية بعد المسيح، ونحن رأينا أن إيبيقوس كان من أبناء المائة السادسة قبل المسيح، فكيف نقلتنا فجأة من عصر إلى عصر، كأنك تسير في جو التاريخ سير الطيارات العصرية في أجواز السماء، في عهدنا هذا؟ أتجهل يا سيدي أن الطيارات لم تكن يومئذ معروفة عند مختلف الأمم؟ أفتأذن يا حضرة الأستاذ أن تطير هذا الطيران السريع في تلك العصور القديمة؟ كل هذا يدهشنا لأنه صادر من مدرس بكلية الآداب
إذن الكراكي (المندورية) غير كراكي الشاعر اليوناني إيبيقوس، وهذه الكراكي ذكرها جميع من تكلم على هذا الشاعر الكبير، من إنجليز وفرنسيين وإيطاليين وألمان وروس وإسبانيين وأمريكيين وغيرهم، أفيكذبهم جميعاً كذلك كراكيك ولا نعلم إلى من ننسبها إلى لقيانس أم قومودوس، أم أتيقوس؟
(البقية في العدد القادم)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
من أدباء الصعيد في القرن السادس
الرشيد الأسواني
للأستاذ محمود عزت عرفة
في عام 549 هـ قتل الخليفة الفاطمي الظافر بأعداء الله في دار وزارته بالسيوفية؛ وعهد بالأمر من بعده لأبنه الفائز (عيسى)؛ وقد أقيم وقتذاك بقصر الخلافة حفل كبير لتأبين الخليفة المقتول، أمه شعراء الدولة من كل أقليم، فأنشدوا مراثيهم حسب مراتبهم؛ ثم نهض في أُخرياتهم رجل تتخطاه العيون، أسود الإهاب، عليه أطمار رثة، وطيلسان من صوف؛ فأنشد قصيدة أولها:
ما للرياض تميل سُكراً
…
هل سقيت بالمُزن خمراً؟
. . . ولما وصل منها إلى قوله:
أفكَرْبَلاءُ بالعرا
…
ق وكرْبلاءُ بمصرَ أخرى؟!
كان التأثر قد بلغ من الحاضرين مبلغه، فجاشت قلوبهم بزفرات من الأسى، وترددت أصوات من البكاء والإعوال هنا وهناك. . . وظل الحزن معتلجاً في النفوس حتى فرغ الشاعر من إلقاء ما تهيأ له، فغادر منبره وقد شجي وأشجى وكان أن رمقته العيون بنظرات الإعجاب والإكبار، وانثالت عليه العطايا من الأمراء والحاشية والخدم وحظايا القصر؛ وحُمل إليه من قبل الوزير - طلائع بن رزيك - جملة من المال؛ ثم قيل له في شبه اعتذار: لولا أنه العزاء والمأتم لجاءتك الخلع!
ذلكم هو شاعر الصعيد أبو الحسين أحمد بن علي بن إبراهيم ابن الزبير الغساني (الأسواني) الملقب بالرشيد، وصفه ياقوت في معجمه فقال:(كان على جلالته وفضله، ومنزلته من العلم والنسب، قبيح المنظر، أسود الجلدة، جهم الوجه، سمج الخلقة، ذا شفة غليظة وأنف مبسوط كخلقة الزنوج، قصيراً)
وترجم له كثير من المصنفين غير ياقوت: كالعماد الأصبهاني (صاحب الخريدة)، وأبى الطاهر أحمد السُلفي، وابن خلكان وكمال الدين الأدفوي.
على أن واحداً من هؤلاء لم يذكر لنا سنة مولده على وجه التحديد، وإن كانوا قد أجمعوا على أنه توفي عام 563 هـ
نشأته وأخلاقه
كان أبو الحسن من أهل الفضل والنباهة والرياسة، ينتمي إلى بيت كبير واسع الثراء من بيوتات الصعيد، وكان يداخل نفسه شيء من الكبر والأنفة والطموح، وقد لازمته هذه النزعة طيلة حياته، بل جنت عليه أكثر من مرة، وأذاقته مرارة الكُره والشماتة من نظرائه، والتحيف والعسف من ولاة بلده وحكامه
وما من شك في أن مصرعه الرهيب على يد شاور وزير العاضد - كما سيأتي - مما يمت إلى هذه الصفات التي غلبت عليه بسبب قريب أو بعيد
لقد وصفه الشيخ الحافظ زكي الدين المنذري فقال: كانت في نفسه عظمة! وقال عنه ابن شاكر الحموي في مشيخته: كان الرشيد عالي الهمة، سامي القدر، عزيز النفس، يترفع على الملوك ويرقى بنفسه عنهم
وذكره ابن أبي المنصور في كتاب البداية فقال: كان قد اجتمعت فيه صفات وخلائق تعين على هجائه، منها أنه كان أسود، ويدعى الذكاء، وأن خاطره من نار
ولقد ضمه ليلة - مع جمع من الفضلاء - مجلس للملك الصالح بن رزيك، فألقى عليهم مسألة في اللغة عجزوا جميعاً عنها، حتى أتى هو بفصل الخطاب فيها. فلما أبدى الملك الصالح إعجابه قال الرشيد مفتخراً: ما سئلت قط عن مسألة إلا وجدتني أتوقد فهماً. . . فقال محمود بن قادوس الشاعر وكان حاضراً:
إن قلتَ: من نارٍ خُلِقْ
…
تُ وفُقْت كلَّ الناس فهما
قلنا: صدَقْتَ فما الذي
…
أطفَاكَ حتى صرتَ فحما؟
ومما قاله فيه ابن قادوس أيضاً، وكان به مغرى:
يا شِبْه لقمان بلا حكمةٍ
…
وخاسراً في العلم لا راسخاً
سلخت أشعار الورى كلها
…
فصرت تدعى (الأسود السالخا)!
ويبدو أن الرشيد لم يكن يخلو - مع هذا - من حب المفاكهة، والميل إلى التندر والمداعبة. ولقد كان مما قصه عن نفسه لبعض أصحابه أنه مر ذات يوم بموضع في القاهرة، فإذا امرأة شابة صبيحة الوجه تنظر إليه نظر مُطمع في نفسه، وتشير بطرفها، قال: (فتبعها وهي تدخل في سكة وتخرج من أخرى، حتى دخلت داراً وأشارت إليَّ فدخلت؛ ورفعت
النقاب عن وجه كالقمر في ليلة تمامه، ثم صفقت بيديها منادية: يا ست الدار! فنزلت إليها طفلة كأنها فلقة قمر. فقالت لها: إن رجعت تبولين في الفراش تركت سيدنا القاضي يأكلك! ثم التفتت وقالت: لا أعدمني الله إحسانه، بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه! قال: فخرجت وأنا خزيان خجلاً لا أهتدي إلى الطريق)
ثقافته الأدبية والعلمية
كان الرشيد كاتباً شاعراً، فقيهاً نحوياً لغوياً، منشئاً عروضياً مؤرخاً، منطقياً مهندساً، عارفاً بالطب والموسيقى والنجوم متفننا
وقد ذكر صاحب الجريدة أن رسالة (أودعها من كل علم مشكلة، ومن كل فن أفضله) قال الأدفوي: (وقد وقفت أنا على رسالته، وهي تدل على جودة معرفته بالفقه والنحو واللغة والتصريف والأنساب والكلام والمنطق والهيئة والموسيقى والطب وأحكام النجوم وغير ذلك. . .)
وقال محمد بن عيسى اليمني: كان الرشيد أستاذي في الهندسة. ويعتبر كتابه (جنان الجنان ورياض الأذهان) أهم مصنفاته وأشهرها. وهو يشتمل على مختارات جيدة لشعراء مصر ومن طرأ عليهم. وله غير هذا الكتاب مؤلفات أخرى أورد ياقوت في معجمه منها:
كتاب (منية الألمعي وبغية المدعي). كتاب (الهدايا والطرف). كتاب (شفاء الغُلة في سمث القِبلة).
مجموعة رسائل وديوان شعر. . . ومن شعر الرشيد قوله معاتباً بعض أصحابه:
لئن خاب ظني في رجائك بعدما
…
ظننتُ باني قد ظفرتُ بمنصف
فإنك قد قلدتني كل منَّةٍ
…
ملكتَ بها شكري لدى كل موقف
لأنك قد حذَّرتني كلَّ صاحب
…
وعلمتني أن ليس في الأرض من يفي!
ومن قوله في الافتخار بنفسه:
جلَّت لديَّ الرزايا بل جلَتْ هِمَمى
…
وهل يضر جلاء الصارم الذكر؟
غيري بغِّيره عن حُسن شيمتِهِ
…
صرفُ الزمان وما يأتي من الغَير
لو كانت النار للياقوت محرقةً
…
لكان يشتبه الياقوت بالحجر
لا تُغريَنَّ بأطماري وقيمتها
…
فإنما هي أصداف على دُرر
ولا تظن خفاَء النجم من صغر
…
فالذنب في ذاك محمول على البصر
وروى عنه أبو الطاهر السلفي (في بعض تعاليقه) ما أنشده إياه لنفسه وهما بالإسكندرية:
سمحنا لدنيانا بما بخلتْ به
…
علينا، ولم نحفل بِجُلِّ أمورها
فيا ليتنا لما حُرمنا سرَورها
…
وُقِينا أذى آفاتها وشرورها
رحلة إلى اليمن
سافر الرشيد الأسواني إلى اليمن رسولاً، داعياً للخليفة الفاطمي. ويبدو أنه قوبل هناك بحفاوة سرَّته، وطاب له المقام حيناً، حيث تقلد منصب القضاء والأحكام ولقب بـ (قاضي قضاة اليمن وداعي دعاة الزمن). . . ويقول ياقوت أن نفسه طمحت وقتذاك إلى رتبة الخلافة. . . (فسعى فيها، وأجابه قوم، وسلم عليه بها، وضربت له السكة. وكان نقش الكتابة على الوجه الواحد: قل هو الله أحد الله الصمد، وعلى الوجه الآخر: الإمام الأمجد أبو الحسين أحمد).
(للمقال بقية)
محمود عزت عرفة
العبقرية
ليست العبقرية ملكة بسيطة، بل هي في الحقيقة مجموعة قوى أو
ملكات متحد بعضها ببعض. هذه القوى والملكات يمكن إرجاعها إلى
ثلاث رئيسية هي:
(ا) مخيلة حية تثيرها للعمل حساسية شديدة أو عاطفة مشبوبة متقدة. . .
(ب) عقل قوى مفكر ناضج. . .
(جـ) إرادة قوية حازمة
ونحن لا يمكننا أن نعرف الفكر الخالق إلا خلال ما يصدر عنه من أعمال، ولا يمكن أن تنفصل العبقرية عن القوة الخالقة التي توجد بالضرورة في الإرادة القوية
هذه العناصر السيكولوجية لازمة بالضرورة للعبقرية، ولا بد أن توجد كلها عند كل عبقري، ولكنها تختلف في واحد عنها في آخر، بمعنى أنها توجد بنسب متفاوتة باختلاف العباقرة وإن وجدت فيهم جميعاً، فليس هناك عبقري ينقصه أي عنصر منها بل تتحد كلها فيه وإن ساد عنصر من تلك العناصر على بقية العناصر الأخرى عند عبقري معين، وساد عنصر آخر عند عبقري آخر وهكذا، فهي لازمة كلها لإنتاج الأعمال العظيمة التي تحتاج إلى عبقرية خاصة، سواء أكانت تلك الأعمال إنتاجاً فنياً أم اكتشافاً علمياً أم صناعياً أو غير ذلك.
وهناك نهاية معينة يدركها الذهن القوي الراقي، وهي نهاية أو غاية أسمى وأعظم من أن تتصورها الأذهان الشعبية العامة غير المستنيرة أو ترقى إليها. هذه النهاية نسميها تصور أو إدراك العبقرية هذا التصور أو الإدراك موجود، ولكن يجب إيجاد وسائل تحقيقه، أي يجب أن نعرف كيف نحقق تلك النهاية أو الغاية. إن المخيلة الحية والعاطفة المشبوبة تجعلاننا نتصور تلك النهاية ونحسها ونرغب فيها بشدة، وتقدمان لنا ما وسعهما من وسائل، ولكنها وسائل مضطربة في الحقيقة غير مرتبة ولا منظمة. فالمخيلة والحساسية والعاطفة لا يمكن للإنسان أن يعمل بها وحدها شيئاً ذا أهمية إن لم يتدخل العقل الآمر الناهي في الأمر فيختار الأحسن ويترك ما لا يصلح ويربط بين ما يختار ويرتبه وينظمه. فعمل العقل - في كل شيء - هو الاختيار والترتيب والربط. ثم يجيء بعد ذلك دور الإرادة، فإنها هي
التي تتم العمل المدرك المتصور بتحقيق تلك الوسائل المرتبطة في الذهن. والعالم مليء بالأذهان التي لا تنقصها المخيلة ولا الانفعال، حتى ولا ملكة الترتيب والتنظيم والربط، ومع ذلك فهي أذهان مجدبة لا تنتج شيئاً بل تعيش هي وحدها فيما تتصور وتحلم به؛ وقد تكون تصوراتها جميلة، ولكنها لا تخرجها للناس، لأنها تفتقر إلى الإرادة والصبر، وهما عنصران هامان في الإنتاج. وهناك عنصر أخير هو الإلهام يقدمه لنا في الحقيقة الحساسية - طبيعية أو مكتسبة - والمخيلة، ولذلك لا يمكن للإنسان أن ينتج بالإلهام وحده شيئاً خالداً باقياً.
ولابد للعبقري من الصبر والمجالدة والصراع، حتى يتوصل إلى ما يصبو إليه. وقد قال بيفون إن العبقرية صبر طويل ويمكن أن نمثل لذلك بالعالم الرياضي الكبير نيوتن، فهو - باعترافه - لم يصل إلى تلك النتائج العلمية المدهشة إلا بصبره وطول أناته وقوة إرادته. وقد سئل كيف أمكنه اكتشاف الجاذبية الأرضية؟ فقال: بطول تفكيري فيها دائماً. ويستلزم الصبر إرادة قوية. ووجود الإرادة كعنصر في شيء ما يعني وجود الحرية بالضرورة، فلا إرادة إن لم تكن هناك حرية اختيار، وما دامت الإرادة عنصراً في العبقرية فإن هذا يبعدنا عن النظريات التي تجعل من الرجل العبقري نتاجاً ضرورياً أوجدته الظروف والبيئة، كما تنتج النبات والحيوان، أي أنها تجعل منه شيئاً أوجدته القوى الطبيعية بالصدفة السعيدة فقط، وتعتبره غير مسؤول عن أفعاله وإنتاجه إلا كما يعتبر حصان جميل مسئولاً عن جماله، أو شجرة عالية مشذبة عن علوها وتشذيبها، والواقع عكس ذلك تماماً، فهناك إرادة، وهناك بالتالي حرية
ولكن إذا كانت كل تلك العناصر تدخل في تكوين العبقرية، أفلا يمكن أن يكون للتربية أو التعليم أثر في تكوينها كذلك؟ إن القول بأثر التربية في تكوين العبقرية يبدو لأول وهلة غريباً وشاذاً لأن العبقرية هبة طبيعية، ويظهر أنها أولية وسابقة على كل اكتساب، ومستقلة عن كل تربية مقصودة. والواقع إن الجانب الطبيعي في العبقرية هو الأكبر، فالمخيلة والحساسية والعقل والإرادة كلها هبات طبيعية، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون للتربية أثر في هذه الملكات. فيمكن توجيه المخيلة مثلاً نحو الخير والشر بالتربية والتعليم والقراءة وغير ذلك. كذلك تنمو الحساسية وتزيد في هذه الناحية أو تلك تبعاً لما يصادفنا من
الظروف والملابسات المختلفة والمشاركات الوجدانية والنفور؛ كذلك يقوي العقل والإرادة بالعمل والتمرين. فالتربية إذن لا يمكنها - أن تخلق العبقري؛ توقظ فيه جرثومة عبقرية وتساعده على الوصول إلى مبتغاه. وليس هناك - قبل كل شيء - هوة عميقة تفصل بين النبوغ والعبقرية، وإن تعليماً وتربية صحيحين وكاملين يمكنهما أن يخرجا للأمة عدداً من القيم العليا والأذهان القوية في جميع أنواع النشاط العقلي، أكبر مما ينتج لو تركنا أمر تكوين الشخصية للصدفة أو الاتفاق فحسب. وتضطلع الأمهات بأكبر نصيب من التربية؛ فإن أثرهن كبير جداً على أطفالهن. والمشاهد إن معظم العباقرة - إن لم يكن كلهم - كانت أمهاتهم نساء ممتازات ذوات قلوب كبيرة وحنان بالغ ووجدانات حارة توقظ في الأطفال قواهم النائمة الخامدة، وتضيء ما أظلم من نفوسهم. وقد شبه أحد الكتاب الإنجليز فعل الأم على طفلها بفعل أشعة الشمس على الفاكهة
هناك نقطة أخيرة يجب الإشارة إليها وهي تتعلق بتشبيه بعض المفكرين العبقرية بالجنون، وعلى رأس هؤلاء المفكرين ليلى فقد يرى ليلى أن العبقرية ضرب من الجنون، وحاول أن يطبق نظريته هذه على سقراط وبسكال، فكان يرى في سقراط رجلاً معتوهاً مدعياً للوحي؛ وأن الشيطان الذي كان يسمعه في سجنه إنما هو صوت خيالي ابتدعه الفيلسوف نفسه من عندياته، فليس ثمة وحي في الحقيقة أو شيطان. ولكن يمكن الرد على ليلى بأن شيطان سقراط إنما هو العناية الإلهية نفسها تخاطب نفس الفيلسوف وضميره، ثم شخص هو هذا الصوت الباطني كي يقربه إلى أذهان تلاميذه
نعم لا شك أن بعض العناصر التي تدخل في العبقرية تدخل أيضاً في الجنون، فالمخيلة الفياضة مثلاً إذا اعتَبَرت تخييلاتها وهذيانها وأحلامها حقائق واقعة كانت هي الحماقة نفسيها، فهناك في الواقع صلة بين العبقرية والجنون، وهذه الصلة ترجع إلى الدور الذي تلعبه الحساسية الشديدة التهيج والمخيلة المتقدة المشبوبة في العبقرية إذا لم يسيطر عليهما العقل. فمن السهل إذن أن تختلط معالم العبقرية بالجنون إذا غفا العقل وغفل عن القيام بمهمته في الرقابة، ولكن من السهل أيضاً التمييز بين الجنون والعبقرية؛ ففي الناحية الأولى تسيطر العناصر السفلي: المخيلة والإحساس، بينما ترجع في الناحية الأخرى السيطرة إلى الملكات العليا السامية: العقل والإرادة
أحمد أبو زيد
كلية الآداب - جامعة فاروق الأول
رسالة الشعر
من ديوان (السلوى)
عزة. . .
للأستاذ علي متولي صلاح
أتحسبُ أني أحمل الذل في الهوى
…
وأن الجمال الفذَّ منك شفيع؟
تعذّب من نفسي وترضي مهانتي
…
وذلك إثم - لو علمت - شنيع
حملتُ الهوى صدَّاً ودلاً وحرقةً
…
وإني سميع في هواك مطيع
حسبتَ رضائي ذلةً وحقارةً
…
رويدك حصني في الغرام منيع
رويدك. . . وأعلم أنني أرفض الهوى
…
إذا خالطتْه ذلّةً وخضوع. . .
فإِن كنت لا ترضى بغير مهانتي
…
كأني عبدٌ تشتري وتبيع
وإن كنت تأبى لي مكاني ومنزلي
…
وما كان من حقِّي لديك يضيع
إذاً. . . فاتَّخذ غيري خليلاً وصاحباً
…
ودعْني. . . فإني في هواي رفيع!
علي متولي صلاح
الأمل المنشود
الوَحدةُ العربيةُ
(إلى شباب العرب أسوق الحديث)
للأستاذ علي شرف الدين
دَعَوْتُ بَنيِ عَمِّي بِلَيْلٍ فَلَمْ يَصْحوُا
…
وَنَامُوا، وَقَالوا: كلُّ لَيْلٍ لَهُ صُبْحُ
فَمَرَّتْ بِهِمْ لَيْلَاءُ مَرْهُوبَةُ الدُّجَى
…
بَعِيَدةُ نُورِ الفَجْرِ أوحَشَهَا جُنْحُ
وَلَوْ أَجْمَعُوا فِي ظُلْمَةِ الخْطْبِ أَمْرَهُمْ
…
لَكَانَ لَهُمْ فِيماَ يُرَجُّونَهُ نُجْحُ
تَغَنَّوْا بِمَاضِيِهمْ. . . فَقُلْنَا: صَحِيفَةٌ
…
مِنَ الْمَجْدِ جَلَّتْ أنْ يُطَلوِ لَهَا المَدْحُ
وَلِكنَّماَ طُولُ التَّغَنِّي تِجَارةٌ
…
إِذَا طَالَ فِيهاَ الْقَوْلُ أَخْطَأَهَا الرِّبْحُ
وَماَ يَنْفُعُ الماَضِي المُغَنِّى بِمَجْدِهِ
…
إذا لَمْ يَكُنْ فِي إِثْرِهِ السَّعْيُ وَالْكَدْحُ
وَقَاْلوا: غَدَاً تَحْوِي العُرُوَبةَ وَحْدَةٌ
…
فَخَفَّتْ قُلُوبٌ كَادَ يَقْتُلُهَا الضَّرْحُ
أَفَاضُوا بِهَا دَرْساً وَشَرْحاً مُنَمِّقاً
…
وَمَا أَبْعَدَ الْجَدْوَى إِذَا كَثُرَ الشَّرْحُ
لئِنْ كَانَ حَقاً فَاتْرُكُوا الْقَوْلَ وَاعْمَلُوا
…
وَخُطُّوا إِلَى الْعَلْيَاءِ نَهْجَكُمُ وَأنْحُو
أَفِيقُوا - بَنِي عَمِّي - لَقَدْ طَال نَوْمُكُمْ
…
وَلَيْسَ لدى التَّارِيخُ عَنْ نَوْمِكُمْ صَفْحُ
وَضُمُّوا عَلَى البُعْدِ الصُّفُوفَ وَجَاهِدُوا
…
فَقَدْ يَنْجَلِي عَنْ ظُلْمَةِ الْغَسَقِ الصُّبْحُ
وَكُونُوا صُرُوحاً لِلْعَوَادِي دَرِيئَةً
…
إِذَا هَانَ صَرْحُ قَامَ مِنْ دُونِهِ صَرْحُ
تُرَجِّعُ مِصْرُ لِلعِرَاقِ شَكَاتَهُ
…
وَيَحْنُو عَليْهَا الشَّامُ إِنْ مَسَّهَا قَرْحُ
فَنَحْنُ عَلَى بُعْدِ الْمَوَطِنِ اخْوَةٌ
…
تُؤَلَّفُنَا الشَّكْوَى وَيَجْمَعُنَا الْجُرْحُ
وَتَنْظِمُنَا (الفُصْحَى) رِبَاطاً مُقَدَّساً
…
وَيَشْمَلُنَا اَلإِخْلَاصُ وَالْخُلْقُ السَّمْحُ
لَوِ أصطَعْتُ ألغَيْتُ الحُدُودَ فَلَمْ تَعُدْ
…
لِتَفْصِلَكُمْ عَنْ مِصْرَ (سِينَا) وَلَا (رَفْحُ)
ذَكَرتُ لَكُمْ عَهداً جَمِيلاً وَمَاضِياً
…
هُوَ الرَّوضُ لَمْ يَهْدَأ لِرَيحانِهِ نَفْحُ
وَأيَّامَ كَانَتْ لِلْعُرُوبَةِ رَايَةٌ
…
يُؤَيِّدُها العُضْبُ اليَمَانِيُّ والرُّمْحُ
يُحِيطُ بِهَا الصِّيدُ الجُدُودُ بَوَاسِلاً
…
وَيَمضِي بِهَا النَّصْرُ المُبَارَكَ وَالفَتْحُ
يُطَوِّقُ أعْطَافُ (الفُرَاتِ) عَمُودُهَا
…
وَيَشْهَدُهَا خَفَّاقَةٌ فَوْقَهُ (الطَّلْح)
أإخوَتَنَا بِالشَّرْقِ رُدُّوا نِدَاَءنَا
…
وَفِي النَّهْضَةِ الكُبرَى لأوْطَانِهُمْ ضَحُّوا
عَلَى النَّيلِ مِنْ سيفِ الجَزِيَرةِ شَاعِرٌ
…
يُحَيِّيكُمُ وَالدَّمْعُ فِي جَفْنِهِ سَفْحُ
وَمَجْنُونَةٍ بِالدُّمعِ تَنْضَحُ قَلْبَهُ
…
أضَرَّ بِهَا دَمْعِي وَأتْلَفَهَا الفَّضْحُ
أُحِبُّ بَنِي (عَدْنَانَ) حُبَّ عِبَادَةٍ
…
وَمَا حِيلَتِي إلا الشِّكَايَةُ وَالنُّصْحُ!
علي شرف الدين
البريد الأدبي
حول نسخ الأحكام
نشرت (الرسالة) الغراء تعقيبا على مقال - حق الإمام في نسخ الأحكام - جاء فيه أن أبا جعفر النحاس لم يعز القول بذلك إلى فرقة إسلامية، ولا إلى جماعة من فقهاء الإسلام، وأن الذي قال ذلك إنما هم الإسماعيلية الباطنية
فأما أن أبا جعفر لم يعز القول بذلك إلى فرقة إسلامية فليس بصحيح، لأنه ذكر قبل ذلك أن العلماء من الصحابة والتابعين تكلموا في الناسخ والمنسوخ، ثم اختلف المتأخرون، فمنهم من جرى على سنن المتقدمين فوفق، ومنهم خالف ذلك فاجتنب، فمن المتأخرين من قال ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ، وكابر العيان، واتبع غير سبيل المؤمنين الخ وهذا ظاهر كل الظهور في أن هؤلاء المتأخرين فرق إسلامية، ولا يهم بعد هذا رأي أبي جعفر فيها، لأن فيه مجازفة ظاهرة في تكفيرها. وإذا صح أن هذا القول لفرقة الإسماعيلية، فهي من فرق الشيعة المعدودة في الفرق الإسلامية، ومنها كان الفاطميون الذين أنشئوا أكبر جامعة إسلامية نعتز بها الآن، ونشروا بمصر كثيراً من آثار الإسلام
(. . .)
الشيخ خليل الخالدي
في عاشر رمضان من السنة الماضية توفي بالقاهرة الأستاذ العالم الجليل خليل الخالدي عن 78 سنة رحمه الله. ولم يكتب شيء عن وفاته في (مجلة الرسالة) مع أنها عنيت بنشر نبذ من أخبار وأماليه في حياته (في السنة السابعة وقبلها) بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام. فكتبت هذه الكلمة الموجزة إيجاباً لبعض حقه:
ولد الفقيد في القدس، وأخذ مبادئ العلوم عن مشايخ العلم هناك، ثم ارتحل إلى الآستانة ولازم الأستاذ الشيخ محمد عاطف شارح المجلة، ووكيل الدرس الشيخ أحمد عاصم، إلى أن تخرج عليهما. ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي حتى أحرز شهادتها. وقدم مصر وحضر دروس كبار علمائها فأجازوه. ثم تولى القضاء في كثير من أقضيه روم إيلى (رومالي) إلى أن ولى قضاء ديار بكر. ثم اختارته المشيخة الإسلامية عضواً في مجلس
تدقيق المصاحف والمؤلفات. وفي أواخر الحرب العامة السابقة عاد إلى بيت المقدس فأسندت إليه رياسة الاستئناف الشرعية.
وكان له علم بالمخطوطات العربية ومؤلفيها ومواضعها من دور الكتب في أكثر البلاد الإسلامية التي ارتحل إليها حتى الأندلس، وله مذكرات عنها لم تنشر بعد.
وكانت شهرة بيتهم قديماً بالديري ثم اشتهروا بالخالدي، وهو بيت علم قديم تولى عدة منهم قضاة القضاة بمصر من عهد الملك المؤيد، كالشمس الديري والمسعد الديري، وتراجمهم مبسوطة في (الضوء اللامع للسخاوي) و (الأنس الجليل) وغيرهما.
ودفن الفقيد - برد الله مضجعه - في باب النصر أمام مدفن أحمد بك عفت.
محمد غسان
فرحة الأديب بالأديب
جاء في العدد السابق من مجلة الرسالة الغراء تحت عنوان (الحديث ذو شجون) للدكتور زكي مبارك ما نصه:
(عبارة (فرحة الأديب بالأديب) تعد من مبتكرات ابن الروي من حيث الصورة والمعنى) وأقول إن هذه العبارة ليست إلا من مبتكرات أبي تمام من حيث الصورة والمعنى أيضاً، فقد قال في وصف السحب:
لما بدت للأرض من قريب
…
تشوفت لوبلها السكوب
تشوف المريض للطبيب
…
وطرب المحب للحبيب
وفرحة الأديب بالأديب =. . . . . . . . . . . . . .
وقد ذكرها الديوان كما ذكرها الشيخ يوسف البديعي في كتابه (هبة الأيام).
أعرض هذا على الدكتور وله تحيتي وإعجابي.
(جرجا)
فؤاد الزوكي
رواية (فاطمة البتول) لمعروف الأرناؤوط
يضطلع الشام الآن بحصة وافية من النهضة الأدبية العربية على الوجه الذي يحمل بتاريخه العريق
ومن أدباء الشام المبرزين في هذه النهضة الأستاذ معروف الأرنؤوط صاحب رواية (فاطمة البتول)، التي نحن بسبيل الحديث عنها
يسرد المؤلف في روايته قصة الحسين بن علي منذ تلفت إلى الخلافة لفتة الأمل إلى أن قضى في سبيلها نحبه. ويبث المؤلف في جنبات القصة سيرة الحسين، وأشتاتاً من أخلاق جده النبي صلى الله عليه وسلم وأمه الكريمة وآله الطيبين، معتمداً على المراجع التاريخية العربية المعتادة، مسترفداً أحياناً من أمهات كتب الأدب العربي. وعلى حوافي قصة الحسين وآله قصة زوجين عذريين هما نموذج فذ للتعاطف والتحاب، أدناهما الزواج بعد عشق مبرح، فجاءا البلاد المقدسة يباركان حبهما، ويريان إلى نور النبي في وجه سبطه. . . وهناك يلقيان ليلى الكندية أخت حجر بن عدي، فتزين للزواج أن ينفر إلى العراق ليكون يداً للحسين على أعدائه، فيستجيب لهذه الدعوة ابتغاء المجد وطاعةً لعواطف الشباب، ويودع زوجته الحبيبة التي تعود إلى وطنها في وادي القرى، ويمضي هو إلى العراق ليحقق مطامحه المخلصة، فيذهب هناك ضحيتها. . . ويضني الشوق زوجته، ويطول عليها الانتظار، فتبخع نفسها حزناً!
تلك خلاصة الرواية، لا يزيد حظ فاطمة منها على حظ أغلب شخصياتها الأخرى؛ لذلك كان غريباً أن تحمل اسمها الكريم، فلئن جاز ذلك لأن الرواية تضمنت شيئاً عنها، لكان الأولى أن تحمل أسم النبي صلى الله عليه وسلم، أو اسم الحسين ابن علي، أو عمرو ابن الحويرث، أو هند زوجته، أو ليلى بنت عدي، أو يزيد ابن معاوية، فلكل من هؤلاء في الرواية ذكر أطول
والمؤلف إذ يتحدث عن عواطف الزوجين الحبيبين وهما يقطعان الصحراء الموحشة إلى مكة في الغلس الرهيب، وبين غضبات الطبيعة، وإذ يذكران صباهما في وادي القرى، وإذ يختلفان في الميل: عمرو يريد العراق، وهند لا تريده، وإذ يشقيان بعد بالنوى والوجد. . . المؤلف إذ يتحدث عن هذا كله يأتي بالمعجب المطرب، فما ينفك قارئه بين رقة تراوحه وتغاديه، وفتنة تلقاه من كل جانب. . .
وفي حديثه عن الحسين الطفل، ومنزلته لدى جده العطوف، وعن الرباب زوجة الحسين الوفية، وعن شديد حب الناس للحسين شعور دافق وبيان فاتن، لولا أن القول عن طفولة الحسين تكرر كثيراً فطامن ذلك من بهائه
والعبارات التي أجراها المؤلف على لسان ليلى الكندية في حض عمر على المضي إلى العراق، تسترق اللب بما حوت من عاطفة وحصافة ودقة
فأما الصفحات التي ألم فيها بعواطف النبي نحو ابنته فاطمة وأطلعنا فيها على الحسين في البقيع حيال قبري أمه وأخيه، وفي وادي العقيق حيال قبر (حمزة)، وحين يسأل الله للطيور الأمن والسكينة. . . هذه الصفحات هي من أحفل صفحات الرواية بالجمال والشعر
وأما وصف المعركة التي استشهد فيها الحسين وذووه وهم بين شيخ فان وامرأة ضعيفة وصبي لا يريش ولا يبري فوصف بارع جلى فيه الكاتب أحسن جلاء صبر الحسين وشجاعته وإيمانه ونبالته، وفصل القول في ما أبدى أهله وأصحابه من النصر له والموت بين يديه في إخلاص عبقري
وقصة موت يزيد بن معاوية قصة هي الأخرى مشجية وبارعة
وفي الرواية لفتات تعجب القومية العربية، فالمؤلف يشير إلى أن الدماء التي أريقت في صدر الإسلام (أريقت في سبيل عروبة الشام والعراق)، و (رفات عبد الله بن جعفر طوتها قيعان كتب قومه على حجارتها قصة الحرية في الشام)، وهذه الدنيا العربية ستجدد شبابها كلما فتحت عينيها على نور ذلك اليتيم المقدس)
ولكننا نلاحظ أن المعاني الفرنجية تدسست إلى الرواية، فهند مثلاً تذكر أن على حواشي الأحراج وأطرافها أشجاراً كبيرة كتبت هي وحبيبها على لحاءها قصة القلب!! وهي تحزن فتمرض فتسعل دماً!! كما يقع تماماً للأوربيات في كثير من القصص الحديث
وكثرة الاستعارات في الرواية تسترعي الانتباه. وقد احب الكاتب ألفاظاً وعبارات بعينها فما تكاد صفحة تخلو منها؛ نذكر منها: العرف، والينبوع، والنشيج، وألمانع، والعمر الجني الطري، والتيه الراعب، والنهر الهادر، والنفوس الحادبة، ويميد، ويفيح، ويلذ، ويتدفق، ويرف، ويهدر، ويدغدغ، ويهدهد. . . هذه الكلمات تتكرر على نحو ممل، مع أن العربية لغة المترادفات. والمؤلف يميل إلى استعمال صيغ المبالغة؛ فالعين سحور، والسيل جراف،
والريح جفول؛ والظن أن لا ضرورة لهذا في جل المناسبات، فالمعاني قد تركب اللفظ القريب فتدرك به غاية المراد البعيد.
وثَم ألفاظ لا يسيغها في مواضعها كل مزاج، فمن ذلك (استخذاء) الحسين لفتنة الليل، وكونه أمام (المرأة) التي لاعبها محمد ورق لها وبارك لها (يعني أمه فاطمة بنت الرسول)، وتلاحق صور الوطن على قلب هند (المريض).
وقد يكرر المؤلف المعنى الواحد في أكثر من فصل، ولا يعني بالتسلسل الواجب بين الفصول، فلو غيرت موضع بعضها لخفي ذلك. وهذا دليل أن الرواية تعوزها الوحدة الصحيحة.
وأغلب أشخاص الرواية مرهفو الإحساس دقيقو الشعور، على شاكلة ليست في الطبيعة.
فأما طبع الكتاب فيؤسفنا أنه دون ما نرجو، فكأين من غلطة مطبعية في صفحاته كان من الميسور تحاشيها.
وبعد، فهذه الهنات على كل حال لا تغشى على حسنات الكتاب الكثيرة.
(المنصورة)
لبيب السعيد