المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 484 - بتاريخ: 12 - 10 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٨٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 484

- بتاريخ: 12 - 10 - 1942

ص: -1

‌الإحسان الاجتماعي

للمغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي

. . . أنا أعجب أشد العجب من أمر واحدِِ هو في الحقيقة الأمر كله: ذلك هو فشل الجمعيات الخيرية في بلادنا. ولا أدلّ على هذا الفشل من قلتها، ولا دليل على هذه القلة كانفراد الجمعية التي نحن اليوم في احتفالها وذهابها بمجد التأسيس بين السوّريين. وأن السابقة في الخير والاتحاد والثبات والإحسان وإخلاص النية إنما هي لها وحدها

ووجه العجب أننا إما أن نكون قد تجردّنا من حب الخير فلا نجتمع، وإما أن نكون لا نحس عمل الخير فلا نجتمع عليه. لا مناص البتة من إحدى الخصلتين أو من كلتيهما. وقد نعلم أن قوام كل عمل بنظامه وتصريفه على أصوله الطبيعية التي من شأنه أن ينصرف فيها؛ فإذا كان جمع المال يجرى على أصول اقتصادية محضة، فإن إنفاقه كذلك يجرى على فعل هذه الأصول، وما يجمع المرء إلا ما يفضل عما ينفقه. والإحسان إنما هو وجه من وجوه الإنفاق، وليس كالشرقي رجل مفطور على حب الإحسان، لأن تأريخه في كل أرض مملوء بالنكبات والجوائح التي تعلمه كيف يحسن، ودينه في كل صبغة مملوء بالعظات والآداب السامية التي تعلمه ما هو أسمى وأشرف من الإحسان، وهو كيف يتأدب في إحسانه. فإذا كان كل ذلك وكان ذلك كله صحيحاً لا ريب فيه كما هو الواقع، فما الذي يمنعنا - نحن الشرقيين - من أن نكون محسنين بالمعنى الحق، حتى تظهر ثمرة الإحسان، فتشبع بطون خاوية، وتكسى أجساد عارية، وتصلح عقول بالية، وتشفى جراح في جسم الإنسانية دامية، ويكون كل شيء عاملاً في تكوين الأمة تكويناً صحيحاً، حتى هذا الذي يقال إنه أصل الرذائل كلها ويقال فيه ما قيل فيها جميعاً، ويقال له الفقر!

ليس يذهب بإحساننا ضعفه وقلته، فالقليل لو أجتمع لصار كثيراً؛ ولا يخفى ثمرته أنه هو نفسه غير ظاهر، فإن كل شيء يؤتى نتائجه الطبيعية ظهر أو خفي. وما الإحسان إلا ضرب من ضروب الإصلاح الاجتماعي؛ ولكن الذي جعل الصحيح فاسداً، والموجود ضائعاً، والمثمر منقطعاً، وجعل كل أمر في أيدينا يكاد يكون عبثاً من العبث، إنما هو شيء واحد، وهو جهلنا كيفية الإحسان

لا ريب أننا اليوم أمة، وأننا نتبع الأصول الاجتماعية في كل أمورنا العامة، وأننا نرى

ص: 1

بأعيننا تسخير الطبيعة، ونستخدمها لأنفسنا، ولا ريب أننا مجتمع من المجتمعات المتمدنة، ولنا وصف طويل في علم الشعوب، وأن بلادنا ذات لون واضح في خريطة الأرض، ولكن مع هذا كله لا نزال في طريقة إحساننا كأننا في منقطع العالم، أو في رءوس الجبال، وكأننا لا نزال في معركة الاجتماع الطبيعي التي يكون الإنسان فيها جيشاً، والحيوان جيشاً يقابله

نحِسن إحساناً طبيعياً صرفاً، من الفرد للفرد، كيف اتفق وحيث اتفق. نعطى الدرهم بكَسَل لمن يأخذه، لا لكي يعمل به، ولكن ليكون ثمرة من ثمار كسله. . . في العصور الطبيعية تخرج الأرض أثمارها بعد أن تكون العناصر كلها قد اجتمعت على إنضاجها وعملت فيها أعمالاً كثيرة، فيأتي الإنسان ليمد يده، ولا يعمل عملاً أكثر من أن يمدها. وعندنا تخرج أيدي المحسنين دراهمها، فيأتي بعض الناس ليمد يده، ولا يعمل كذلك عملاً أكثر من أن يمدها. نحسن مثل هذا الإحسان الذي يذهب به وقته، فلا ننتفع به في إصلاح الأمة، ولا ينتفع به الفقير نفسه، لأنه في الأكثر يُفسدهُ ولا يُصلحه. ولا يوجد اليوم في أيدي الناس درهم من دراهم الخرافات، يصلح أن يكون رأس مال، ولا في خبزهم رغيف من رغفان المعجزات التي تشبع الجماعات الكثيرة. والفقير متى أكل بالدرهم الذي يُحسَن به إليه، فقد شبع من جوع، وتهَّيأ لجوع جديد، فيذهب الإحسان والدرهم كما هما، ويبقى الفقير والجوع كما هما أيضاً!

من أجل ذلك وما يتصل به، فشلنا وذهبت ريحنا، وركدنا والناس طائرون. ومن أجل ذلك أراني أحب هذه الجمعية المباركة، وأكرم رجالها والقائمين بها، وأمدحهم وأعتدُّهم من العظماء

فالجمعية صندوق أموال، وهي نفسها صدر يخفق في قلب الإنسانية. والجمعية سبب من أمتن أسباب الإحسان، وهي نفسها طريقة أفضل من طرق التربية الاجتماعية، وأكبر فضلها أنها من هذه الأمة كالظل في الرمضاء، والرقعة المخصبة في الجدب العريض، وأنها مجتمع صحيح في أمة متبدَّدة يمزَّقها كل شيء، حتى الأديان التي تعلم أن الناس أخوة من أب واحد. وحتى السياسة التي تجعل أفراد كل أمة أعضاء من أسرة واحدة. وحتى الأدب الذي يضرب مثل الإنسان للإنسان، بمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى

ص: 2

مجتمع صحيح من هذه الأمة العجيبة التي بهرتها الأمم بمعجزات الوطنية والاتحاد والإنسانية والعلم والأدب والاختراع، وأعجزت هي الأمم كلها في قاعدة حسابية غريبة، وهي أنها أفراد ولكن ليس لها مجموع في (الحساب)!

ليست العظمة بظهور المرء كما يظهر الممثل أمام المتفرجين في خلقة مزوّرة من رأسه إلى قدمه، ولا في هذه الأخيلة الذهبية التي تملأ رءوس الأغنياء كأنها أرواح الذهب، ولا في نحو ذلك من السخافات (العظيمة) التي ملأت الشرق كله. ولكن العظمة أحد شيئين: علم منتج، أو عمل مثمر. العظمة خلق إنساني يوجده العلم أو يوجد هو العمل الإنساني العظيم. فإن لم يكن علم صحيح، ولا عمل صحيح، فاجمع بين الماء والنار قبل أن تجمع بين النفس والعظمة. وقد أرى الرجل من عظمائنا وهو من تعاظمه لغناه أو لمنصبه أو لجاهه أو لحسبه، كأن رأسه صندوق من صناديق الموسيقى، وكأن كل حركاته وكلماته إنما توقع توقيعاً منتظماً مع (النفخة) التي تخرج من هذا الصندوق، ومع ذلك فلا أكرمه ولا أجد له في نفسي من المنزلة، ولا أحفل بتلك العناصر الأربعة التي أنشأت عظمة من الغنى أو المنصب والجاه والحسب، إلا كما يكون في نفسي لبعض قطع من الخشب والحديد والمعدن والنحاس، وهي العناصر التي تصنع منها الأدوات الموسيقية

العظيم ذات مبنية على مبدأ، وما دام كذلك فهو عظيم في خلقه وفي عمله، ولا يسلب هذه العظمة منه إلا الموت. على أن التاريخ يقوى على الموت فيستلبها منه، ويحفظها لصاحبها العظيم، ثم ينفض عليها صبغة الخلود، فإذا هي حياة ثانية لاسم من الأسماء الخالدة التي لا تموت إلا حين يموت الموت! وإذا كانت الذات مبنية على مبدأ، فيستحيل أن يسقط الرجل العظيم وذاته قائمة

وعلى هذه الجهة أتفاءل بمستقبل جمعية الاتحاد المباركة لأنها مظهر من مظاهر الأخلاق الفاضلة في نفوس القائمين بها؛ فهي بناء من الأبنية الراسخة، ولكن انظر إلى أحجارها الخالدة، فإن كل حجر إنما هو المعنى الإنساني الذي تنطوي عليه نفس الرجل العظيم

عندنا رجال كثيرون، ولكن ليس عندنا مبادئ ثابتة. فالذي ينقصنا إنما هو المبدأ. والرجل إذا لم يكن على مبدأ، فهو من يوم يولد إلى يوم يموت، إنما يتسكع في طريق الأقدار ليقطع مسافة ما بين مهده ولحده. وقد تكون هذه المسافة طويلة أو قصيرة، ولكنها على كل حال،

ص: 3

ليست إلا طريقاً من طرق الموت. ثم يذهب من الدنيا وكل ما بقى له فيها حجر من الأحجار، إذا وجد من ينظر فيه وجد من يعرف أنه كان في هذه الدنيا رجل اسمه فلان وهذا قبره

الحياة شيء أسمى من قطع العمر كله في إيجاد قبر من القبور يكون له اسم ولقب وتاريخ. كل منا حين يعتزي يقول عن نفسه كذباً: إنه سوري أو مصري؛ فما الذي صنع هذا القائل لمصر أو سوريا؟ ألا إن البلاد لا تعرف الناس بأسمائهم وطبيعة الإقليم لا تميز بين أناسها وحيواناتها؛ فمن الحمير والبغال وصنوف الحيوان ما يقال فيه سوري ومصري أيضاً. ولكن الأوطان تعرف أهلها بأعمالهم؛ وطبقة الفرق بين الإنسان والحيوان إنما هي طبقة تاريخه لا غير

قولوا في الشرقي على العموم إنه من بني آدم فقط. ومتى وجدتم رجل المبدأ الذي يظهر مبدأه في عمله والذي لا يعمل إلا ليتم تاريخ أمته، وليكون صفحة من كتاب مستقبلها، والذي لا يخرج من الدنيا حتى يترك من فضائله المنسوبة إليه شخصاً معنوناً يسمى باسمه، ويلقب بلقبه، ويؤرخ بتأريخه؛ متى وجدتم هذا الرجل، فقولوا فيه حينئذ، بل دعوا بلاده تقول: إنه مصري أو سوري. من أكبر عيوبنا أننا لا نعرف الخلق العام الذي يجانس بين أفراد كل أمة، ولا نجده إلا في أفراد قليلين منا، وهو الذي تقوم عليه الوطنية. ومن أجل ذلك، ليست لنا أمة اجتماعية، ومن أجل ذلك لا نتحد. فقدنا الخلق العام أو المبدأ الاجتماعي الذي يرمي لإنشاء المستقبل، وترقية الحاضر، وحفظ الماضي، فصارت الصلة بين الفرد والفرد من الأمة الواحدة، صلة لفظية لا معنى لها. أو لستم ترون أننا - كما هو مشهور عنا - يرائي بعضنا بعضاً حتى في الحق، ويجامل بعضنا بعضاً حتى في الواجب. وليس منا من يقدر أن يقول دائماً للباطل (لا) وللحق (نعم)؟ أقول (دائماً)، ولا أريد معناها الصحيح، لأن قيمة كل شيء تعلو وتنزل عندنا بحسب الأحوال حتى الكلمات التي لا تعلو ولا تنزل. فإن شئتم، فاعتبروا معنى قولي (دائماً) غالباً أو بعض الأحيان لأن الشرقي قد فقد الخلق الثابت، فلا ثبات له على شيء، ولا ثبات بشيء معه. ولولا أن أسماء الفضائل من اللغة، وأن هذه اللغة ثابتة في كتبها التي تحفظها، لكانت أكثر أسماء الفضائل اليوم عندنا هي نفس أسماء الرذائل!

ص: 4

انظروا إلى الرجل الإنكليزي الذي هو نتيجة التاريخ الحاضر: إنه لا يثق بثلاثة أرباع الأرض التي تملكها دولته، كما يثق بقدر أنملة في باطنه. فالأرض كلها وهي تدور على محورها، وتتقلب بالتاريخ أجيالاً ودولاً، ليست في عين الإنكليزي أكبر من قلبه الذي يخفق بين جبينه، والأرض لا تحفظ له فضيلة، ولكن فضيلته تحفظ له الأرض.

كل إنكليزي قد يراه الناس مصبوباً من معادن بلاده حتى الفحم الأسود. ولكنه يرى نفسه إنكليزياً، ولا يبالي ما وراء ذلك. ترونه كالحديد المصمت لا ينبعث له صدى، لأنه للعمل والحمل والثبات والاستمرار. وإذا كان الشرقي حديداً أيضاً. . . فهو كالجرس سواء كان في الأعلى أم في الأسفل، ليس إلا أن يهتز ويصيح بالأصوات الرنانة من جوفه الفارغ. . . يعمل الواحد منا عملاً ضئيلاً، أو عملاً لا قيمة له، فيملأ الدنيا كلاماً، ويملأ ما ضِفَيْه فخراً، ويملأ رأسه بهذا النوع الذي يسمونه جنون العظمة. وما ذلك من جهلنا لقيمة كل عمل، ولكن من عجزنا عن أكثر الأعمال النافعة، ومن مجازفتنا بالأوصاف رياءً ومجاملة. وقد ذكر الرواد الذين ضربوا في مجاهل الأرض أنهم رأوا قبيلة من قبائل الزنوج كان أجمل وسام تسطع عليه الشمس في صدر ملكها علبة فارغة من علب السردين!

هي علبة من علب السردين الفارغة التي يطرحها أفقر الناس في الطرقات، وهي قطعة من الصفيح قد لا تكون لها قيمة، ولكن ذلك لا يمنعها أن تكون وساماً في صدر الملك الزنجي، ومتى قلنا (الملك الزنجي) فكأننا قلنا (الزنجي) فقط، لأن أوصاف المتوحشين متوحشة أيضاً، فلفظ الزنجي يأكل لفظ الملك، وكذلك أوصاف الضعفاء، وكذلك أعمال الشرقيين.

لا تظنوا أني أنتقص الشرق وأهله وتاريخه. كلا، ولكني أصف عيوباً لا يجعلها من المحاسن أنها عيوبنا. ولو سئل أفضل رجل شرقي عن أحسن فضيلة فيه، لقال إنها شرقية. ولو سئل أرذل رجل شرقي عن أقبح رذيلة فيه، لقال أيضاً إنها شرقية. فهذا الشرق الذي هو مهد التاريخ، هو كذلك مهد الأديان ومبعث الفضائل. لكن أهله قد أضاعوا أنفسهم وأضاعوه. فإذا رأوا الفضيلة قالوا غربية، وإذا رأوا الرذيلة، قالوا شرقية، وأحالوا بكل ذنب على الشرق، كأن الأرض تنبت الرجال، وتهيئ لهم العمل، وتوحي إليهم المخترعات! وكأننا نريد أن تكون هذه الأرض مثلنا في التقليد. فالبحر يهز أمواجه، ويجب على الأرض أن تهز أهلها ليتخبطوا على ساحل الحياة.

ص: 5

ما تقدم الغربي وجرى مسرعاً لأن أرضه من المطاط، ولا تأخر الشرقي وجرى متعثراً لأن أرضه من الصمغ؛ ولكن أكبر رذائلنا أننا لا نتحد، لأننا نجهل التربية الاجتماعية. وقد تخلقنا بالأخلاق الفردية فصار الألف منا وأكثر من الألف لا يحسنون عمل اثنين متحدين. . . الجبل تصعد عليه مائة قدم شديدة الوطأة فلا تؤثر فيه ما تؤثر فيه ما تؤثر النحلة؛ وتتناوله مائة ألف ساعد قوية فتزيله عن مكانه، لأن طبيعة الأقدام غير طبيعية الأيدي. فإن لم نجتمع، ونأخذ أنفسنا بأصول التربية الاجتماعية فلا تنتظروا من الشرقي أن يعمل عملاً.

مصطفى صادق الرافعي

ص: 6

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

اتجاه جديد في الحياة المصرية - أخيلة ريفية تساور الكتاب

المصريين - تاجوج المريضة في السودان - فرصة لن تضيع

- نقد الشعر على أساس وحدة البيت - قصة أدبية - شاعر

يتحدى جميع الشعراء

اتجاه جديد في الحياة المصرية

التاريخ الأدبي والعلمي لمصر يشهد بأن المصريين كانوا يعتزون بالريف كل الاعتزاز، فينتسب الأديب واللغوي والفقيه إلى بلده الذي ولد فيه بأسلوب يفصح عن ارتياحه لذلك الانتساب. وفي رجالنا العظماء من عرفوا بالنسب إلى بلادهم، بحيث صارت تلك النسبة هي العلم الأصيل، وبحيث صار الاهتداء إلى أسمائهم الأولى يحوج الباحث إلى مراجعة كتب التراجم والتاريخ

الأشموني النحوي، والشنشوري الفرضي، والباجوري الفقيه، والدميري المحيط: أمثال هؤلاء لا يعرفون بغير هذه الأنساب، وهي غاية في التعريف، وعلى مثلها يقاس في الأعلام المنسوبة إلى قرى الريف بمصر الشمالية ومصر الجنوبية

ومن غريب ما لاحظت أن النسبة إلى العواصم كانت قليلة، فلا يقال القاهري أو الفسطاطي إلا في أندر الأحايين!

ولعل السيوطي حين انتسب إلى سيوط لاحظ أن بلده ليست إلا دسكرة من دساكر الريف، وإن الانتساب إليها يميزه عن القاهريين

وأكثر من تولوا رياسة الأزهر منسوبون إلى بلادهم، من أمثال: البشري والمراغي والظواهري؛ وهذه الظاهرة أوضح من أن تحتاج إلى استقراء

ولكن، ما الذي أفدناه من الانتساب إلى قرى الريف؟

الفائدة تفوق الوصف، فقد أضفت على القرى المصرية لمحات روحية، وزادت في قيمها

ص: 7

المعنوية، وربطت أهلها برباطِِ وثيق، وأطمعتهم في معاني المجد والخلود

ومن الذي يمر على أشمون أو شنشور أو الباجور أو إسنا أو ملوي أو أسيوط أو منفلوط، ولا يتذكر أن هذه البلاد كانت منابع لعبقريات حفظ فضلها التاريخ؟

ولكن الحال تبدلت فيما بعد، وصار الانتساب إلى الريف لا يقع من الأنفس موقع القبول. وزاد الخطر بتوهم أهل الريف أن لا قيمة للحياة في غير الحواضر، وأن الريف لا يصلح مقاماً لغير العاجزين عن الانتفاع بثمرات التمدن الحديث، وصار من حق الفلاح أن يودع المسافر إلى القاهرة بهذا النشيد:

(ليلتك سعيدة وسعيدة يا رايح مصر)

ثم لطف الله بالمصريين فوصلوا قراهم بعد القطيعة، وآنسوها بعد الإيحاش، وأصبح من المألوف أن تجد فتى من حملة الإجازات العالية يحدثك عن متاعبه في البحث عن أدوات الحرث والحصاد، وصار من السهل أن تجد في الوزراء السابقين من يستغل نشاطه في استئجار الأراضي الواسعة بالريف

وأظهر أمراء مصر عناية بمزارعه هو صاحب السمو الأمير عمر طوسون، فقد سمعت أنه يعرف أملاكه قطعة قطعة، وأنه يراقب الأسعار مراقبة الخبراء. وهذا هو السر في أن الله حفظ عليه نعمة اليسار العريض

أخيلة ريفية

والذي يهمني من هذا كله هو انتفاع الأدب الحديث بعودة المصريين إلى الريف، فقد لاحظت أن في كتابنا من تساورهم الأخيلة الريفية، وهي أخيلة على جانب من الجمال، وستغذي الأدب الحديث بألوان وألوان

ولتوضيح هذه الفكرة أذكر أني كنت ألوم الأستاذ الزيات على طول مقامه بالريف، ثم تمنيت أن يقيم بالريف إلى آخر الزمان حين رأيته يقول:

(وفي الريف خطباء وشعراء كعصافير الحصاد، تزقزق للحبة، ولا تزقزق للزهرة)

وهذا كلام عجيب غريب، أعني أنه من النفاسة بمكان

وفي صباح اليوم قرأت كلمة للدكتور سعيد عبده في (مجلة الساعة 12) كلمة من جنس كلام الأستاذ الزيات في الاستفادة من الأخيلة الريفية، فالتفت ذهني إلى هذا المعنى من

ص: 8

جديد،

فما كلمة ذلك الدكتور الفلاح؟

تكلم عن المعارضين في مجلس النواب فقال (إن عددهم أقل من عدد الدحريج في القمح النظيف)

أي عبارة هذه؟ وما الذي فاتها من خصائص التشبيه الدقيق؟

ولو نظرنا في تذييل هذه العبارة لوجدناها أعجب وأغرب، لأن التذييل كان لمحة من النقد اللاذع لما صرنا إليه من الوجهة المعاشية، ويكفي أن أقول إنه قيد القمح النظيف بالقمح الذي كان قبل سنة 1939

تاجوج المريضة في السودان

في قصيدة الشاعر محمد سعيد العباسي جاءت هذه الأبيات:

فيا ابن المبارك عِش سالماً

وبُورِكَ في زَندك الواريهْ

تغنيتَ حيناً بليلى العراق

فأحللتها الرتبة الساميهْ

فمُد لنا فضل ذاك العِنان

عنانَ يراعتك الطاغيةْ

وألمِمْ بتاجُوجَ واحفِلْ بها

فتاجوجُ جوهرةُ الباديهْ

وعلِّقْ على جيد تاريخها

دراريَّ أبحرك الطاميهْ

فمن تاجُوج؟ من تاجُوج وما تحدث عنها أحد من الذين قصوا أخبار العشاق؟

هي فتاة جميلة عفيفة، أحبها فتى جميل عفيف، وكانت لهما أخبار تشبه ما كان بين ليلى وقيس، ولعشاقها أشعر لا تقل روعة عن أشعار المجنون، عليهم جميعاً رحمات الذي خلق ثمرات النخيل والأعناب!

سمعت أول مرة بأخبار تاجوج وأنا في بغداد، من خطاب فتى سوداني عز عليه أن تشغلني ليلى عن تاجوج، فرمى سهم العتاب من الخرطوم إلى الزوراء

سهمٌ أصابَ وراميه بذي سَلَمٍ

من العراق لقد أبعدتَ مرماكِ

ثم اتفق بعد رجوعي إلى مصر أن أبحث عن أخبار تاجوج فرأيتها مسطورة في رحلة سمو الأمير يوسف كمال إلى السودان في أقل من صحيفتين، فعاهدت الله والحب أن أكتب أخبارها في مئات الصفحات

ص: 9

ولكن متى؟

قلبي يحدثني بأن الله لن يبخل علي بتحقيق هذا الحلم الجميل

كانت (تاجوج) تعيش في (عروس الرمال)

فما عروس الرمال؟

سترون وصفها بعد حين أو أحايين

فرصة لن تضيع

في العام الماضي أرسلت إلى المهرجان الأدبي في السودان بحثاً عن (الطريق عن الوحدة العربية) وهو أول وحي جاد به السودان على قلمي. وفي هذا العام تفضل رئيس المهرجان فوجه إلي دعوة كريمة لإرسال كلمة أو قصيدة تلقى في المهرجان، فرأيت أن أرسل إليه قصيدة عن مصر الجديدة. ولكني عرفت أن آخر موعد لتقديم الكلمات والخطب والقصائد هو اليوم العشرون من رمضان، فماذا أصنع؟

سأنشر قصيدتي في العدد المقبل من (الرسالة) مهداةً إلى نادي الخريجين، وبذلك لا تضيع فرصة الاشتراك في ذلك المهرجان، فالمهم هو تعاون العقول، وتآخي النفوس، وتناجي القلوب. وقد يتفضل الله فيسمح بالفرصة المقبلة، فرصة المؤتمر الذي يعقد في عيد الأضحى، وللمؤتمر هنالك معنى يختلف عن المهرجان باختلاف الموضوعات الأدبية والقومية والاجتماعية

ولعل الأقدار تسمح بأن يكون لنادي الخرجين في السودان قوة الجمعية الطبية المصرية، فيومذاك ينتفع بما سنت من التقاليد فلا يكتفي بالتنقل بين مدائن السودان عند إقامة المهرجانات والمؤتمرات، وإنما يتنقل بين المدائن العربية فيكون مرة في الخرطوم ومرة في القاهرة ومرة في دمشق ومرة في بيروت ومرة في بغداد

وبهذه المناسبة أقول: هل أقامت الجمعية الطبية المصرية أحد مؤتمراتها في الخرطوم أو أم درمان، مع أنها زارت أكثر الحواضر العربية وفكرت في زيارة طهران؟

أجب عن هذا السؤال، يا معالي الدكتور علي باشا إبراهيم!

نقد الشعر على أساس وحدة البيت

ص: 10

من رأي بعض القدماء أن الشعر لا ينقده غير الشعراء، وحجة ذلك البعض أن الشاعر هو الذي يدرك الدقائق الشعرية، ويعرف ما يباح وما لا يباح من التأنق والابتذال

والظاهر أن ابن الرومي هو أول شاعر نص على أن الجودة المطلقة لا تشترط في كل بيت، ولكن هذه النظرية لم تتضح في ذهن ابن الرومي كل الاتضاح، بدليل أنه ساقها مساق الاعتذار، حين قرر أنه ليس أعظم من الله، والله يخلق الشجرة وفي أغصانها القوي والضعيف

ولو أن هذه النظرية كانت اتضحت في ذهن ابن الرومي لترك جانب الاعتذار واعتصم بجانب الاحتجاج. وتفسير ذلك أن جمال الشجرة مجمل لا مفصل، فهي جميلة في مرأى العين، بغض النظر عما فيها من أغصان ضعاف، ولعل جمالها لم يكمل إلا بفضل تلك الأغصان الضعاف

وأوضح هذه النظرية بعض التوضيح فأقول: في كل وجه جميل ملامح تكميلية تؤكد ما فيه من جمال، ولكنها منفردة لا توصف بالجمال

وفي الزهرة الجميلة أوراق يعوزها الحسن، ولكن جمال الزهرة يحتاج إليها كل الاحتياج

والأرض الجيدة لا تستوي أبداً، وعدم استواء الأرض الجيدة هو الذي يتيح لها فرصة الانتفاع بالشمس والهواء

وما يقال في المحسوسات يقال في المعقولات، فالنبوغ الفائق هو في ذاته لون من الانحراف، لأنه صورة من طغيان بعض المواهب على بعض، ولو استقامت المواهب الإنسانية استقامة مطلقة في جميع الناس لكان من المستحيل أن يتفوق الإنسان على الحيوان

تفوق جارحة على جارحة أو ملكة على ملكة، وهو أساس النبوغ والعبقرية، ولكن وجود الجارحة الضعيفة أو الملكة الضعيفة شرط أساسي في تكوين ما يقوى من الجوارح والملكات، كما أن الغصن الضعيف سناد للغصن القوي في تكوين الشجرة الفرعاء

والقصيدة كالشجرة، يستبد فيها البيت القوي بالبيت الضعيف، وعلى أساس القوة والضعف ينهض بناء الوجود

وإذن؟

ص: 11

وإذن يخطئ من يجاري القدماء في نقد كل بيت من القصيدة على حدة، وإنما الرأي أن تكون أبيات القصيدة كمسامير السفينة، مسامير السفينة تختلف باختلاف مواطن الرباط والوثاق

ولو نظر القدماء هذه النظرة لأعفونا من أبحاث كان فيها نقد الشعر قائماً على وحدة البيت لا وحدة القصيدة، فكان مثلهم مثل من يعيب الغابة الشجراء، لأنه عثر فيها على شُجَيرة عجفاء

قصة أدبية

وهذا الكلام ساقته قصة أدبية تلخصها الأسطر الآتية:

بدا لي أن أقرأ (قصيدة مصر الجديدة) على الدكتور طه حسين، فاعتذر بالسفر إلى فلسطين. وأردت عرضها على الأستاذ خليل مطران فحدد موعداً، ولكني تخلفت عن الموعد ساعة وبضع دقائق، فانصرف قبل أن يلقاني مع الأسف، فقد كنت أرجو أن أنتفع بنقده الدقيق. وعند خروجي من مكتب الأستاذ خليل مطران لقيت الأستاذ محمد هاشم عطية فدعوته لسماع القصيدة عساه يعطي رأياً في تنقيح بعض الأبيات؛ ثم كان رأيه أن هذه القصيدة يفسدها التنقيح، فعرفت من جديد أنه ذلك الأديب الفنان

ما هذا الكلام؟ أترونني أعتذر عما سيقع في قصيدتي من ضعف كما اعتذر ابن الرومي؟

هيهات ثم هيهات! فقصيدتي هي القصيدة، ولن يستطيع شاعر أن يجاريني في أي ميدان؟

راية الشعر يحملها المصريون، ولن تنزع هذه الراية من أيدينا، ولو سهر ليل الإخوان الأعزاء في سائر الأقطار العربية

قد تقولون: ما هذا الغرور؟ وما هذا الادعاء؟

وأقول إني سألقى عليكم قصيدة تلقف ما تأفكون، وسأقهركم على الإيمان بعبقرية مصر الشعرية في هذا الزمان

زكي مبارك

ص: 12

‌المحاباة ومصدرها الاجتماعي

للأستاذ عبد الله حسين

في يوم صائف من أيام عام 1940 كنت مع بعض زملائي المحامين في غرفتهم في دار محكمة استئناف مصر الأهلية، وانتظمنا جماعة نعرض لشئون الدنيا العامة والخاصة بشتى فنون الحديث وألوان التخريج والتأويل، ونترصد لها بالنقد والتأميل. فبدهنا الزميل المحترم عبد الرحمن الرافعي بك، وهو من هو في أمثال هذه المعالجات والبحوث، بكلام في المحاباة:

تحدث الزميل مستغرباً متسائلاً: ما بال حكومات مصر قد بليت ببلية المحاباة، كأنها أساس من أسس الحكم، لا يستوي على حال مرضية إذا لم تكن في حساب الحكام؟ ثم سأل بعدئذ: أليس هناك علاج لهذه العلة الفاشية؟

وقد سارعت يومئذ إلى الإجابة على هذين السؤالين قائلاً عن السؤال الأول: إن المحاباة ليست خلقاً لحزب بذاته أو بلية ابتلى الله بها عهداً دون عهد أو حكماً دون آخر؛ بل إنها تستند إلى ما ورثنا من عادات. ذلك أن الأمة هي الصورة الكبرى للأسرة؛ وما دمنا نعمد في أسرتنا إلى إيثارها بالغنم والخير ولو كان هذا على حساب أسرة أخرى أو جميع الأسر الأخرى، فليس لنا أن نشكو ظاهرة المحاباة في الأسرة الكبرى: الأمة.

إن عاداتنا وأخلاقنا لتقتضينا أن نعني بشئون أبنائنا وأبناء عمومتنا وخؤولتنا وأصهارنا، فإذا قام منا سيد أو حاكم، وزيراً كان أو غير وزير، اقتضته الشهامة أن يؤثر ابنه على ولد أخيه، وولد الأخ على ولد العم، وهذا على من كانت صلته بعيدة. فإذا اطمأن الحاكم أو السيد على الخير قد وصل إلى أحد من هؤلاء على الترتيب والتعاقب، وكانت هناك فضلة من هذا الخير، لزمه أن يؤديها إلى الصديق أو المواطن في الفرية ذاتها أو إلى ابن حزبه

أما إذا تغشى صاحب الكلمة والنفوذ وهم من تلك الأوهام، أو رجس من تلك الأرجاس، التي ينعتونها على أسلات الأقلام أو منابر الخطابة والوعظ والدعوة السياسية، بالنزاهة التامة والعدالة الحق، فحدث ما شئت عما يصيب هذا الرجل من ألوان التشهير، فهو - عند ذويه وأصهاره وبنى قريته وبين صُدقانه - الخارج على الأسرة، المارق من المروءة، الجاحد للفضل، المختلس لثقة ناخبيه إن كان منخوباً لعضوية إحدى الهيئات، الضعيف

ص: 13

الرأي، الأناني، الخائر العزيمة؛ بل لقد يتمادى الطاعنون في طعنهم، فيرمونه بالخيانة لأن من ينكص عن خدمة ذويه وأصدقائه وأسرته، لا يرجى منه خير لوطنه وأمته. أو بأنه في حقيقته لم ينحدر من صلب آله وقومه!

فمن منا - من المصريين يرضى أن يدرج مع الساقطين في المروءة والوطنية؟

فهذه المحاباة - والأمر كما أوضحنا - ليست شيئاً مستغرباً وليست حادثة موقوتة يرجى علاجها إذا ما ولى عهد وخلفه آخر، أو إذا ما سقط سيد وقام بالأمر بعده سيد آخر، مهما يختلف مداها سعة وشططاً وعلة وتعليلاً

إنها ليست بحدث الأحداث كما يغلو بعض الكاتبين، وليست بطارئ ظهر في هذا الزمان

بل أن المحاباة - وهي من خلق الإنسان منذ الخليقة - تقع في الصدر من أخلاقنا وتستقل بالصميم من عاداتنا

إنما الجديد فيها أننا نهضنا نهضة سياسية جديدة، فأصبح لنا أحزاب سياسية ذات أنصار وأنصار للأنصار، وأصبح لنا برلمان ونواب وشيوخ، ولابد لمجيء هؤلاء من الناخبين، ولا سبيل إلى الفوز بالأصوات إلا بخدمة المصوتين أو بذل الوعد لهم بتأديتها

ومن ثم انتقلت المحاباة من ميدان القرية، حيث يشتد النزاع حول العمديات والشياخات وتقديم أنفار القرعة وحول الميراث وحدود الأطيان وما يجب لها من ري وصرف - إلى الحكومة، فكان ما شهدنا ونشاهد، وما من أجله تناول الناقدون ما تناولوا من الإنحاء على المحاباة والمحابين

أما الإجابة على السؤال الثاني، وهو كيف نعالج هذا الداء، ونبرأ من هذه العلة - فإن الواجب أن نعمد إلى تقوية الرأي العام، فإن رأينا العام ضعيف، أو قل إنه قوي حيناً، ضعيف أحياناً. . .

أعني بتقوية الرأي العام، تقوية المعنى الوطني، أي أن تقوم تربية النشء على تقديم مصلحة الوطن والدولة على مصالح الأفراد التي تتعارض مع تلك المصلحة

هذه واحدة؛ وواحدة أخرى علينا أن نبذل ما نستطيع لكي نجعل الانتخابات في جميع صورها وأن نجعل ألوان التأييد للحكومات والثقة بها بمعزل عن الوظائف والتعيين فيها والترقية إليها. . .

ص: 14

وأني لا أقدر في أسف شديد وألم عميق، أن أجيالاً قد تمضي قبل أن نستطيع أن نقضي على هذا الداء قضاء تاماً، وأن كل ما نطمح إليه يجب أن يكون مقصوراً على تخفيف ويلاته، والحد من مضاعفاته. وفوق كل ذي علم عليم.

عبد الله حسين

ص: 15

‌من أدب العراق الشعبي

مم وزين

فاجعة كردية خالدة

للأستاذ عبد المسيح وزير

(مم وزين) عنوان قصة فاجعة غنائية كردية خالدة يتغنى بها مغنون اختصاصيون من كرد وغيرهم في العراق وفي باقي الأقطار التي يستوطنها العنصر الكردي كسورية وتركية وإيران. ولا أزال اذكر كيف كنا ونحن أطفال نلتف مع والدينا وأقربائنا وأصدقائنا الذين كانوا يزوروننا بدعوة خاصة حول موقد النار أو (الكرسي) في ليالي شتاء ماردين القارس محيطين بمغني (مم وزين) مصغين في صمت عميق إلى غنائه الابتدائي البسيط بصوته الجافي الذي لا رخامه فيه ولا فن. وكان المغني في فترات الاستراحة من الغناء يقص علينا القصة باللغة العربية. وكان الغناء والقصة يستغرقان ساعات الهزيع الأول من الليل ويزيد. وكنا بعد الغناء ننام ونحن نحلم بشقاء الحبيبين وحياتهما الغرامية المرة التي انتهت بموت كليهما

وعندي أن قصة (مم وزين) لا تقل شأنا عن فواجع الإغريق القدماء فيما لها من اللذة والمتعة باعتبارها قصة خيالية شائقة تسترعي سمع الكبار وتخلب لب الصغار فيسهرون مصغين إليها بلا ملل

وهذه الفاجعة من جملة فواجع كردية أخرى مثل (درويش عبدي) و (جامي مازي) و (فليت قطو) التي لما ينشر منها شيء حتى الآن سوى فاجعة (مم وزين) المنشورة باللغة الكردية وحدها؛ فهذه هي المرة الأولى التي تنشر فيها خلاصة (مم وزين) بغير اللغة الكردية، وبذلك تكون مجلة (الرسالة) الغراء السابقة إلى نشرها على ما أعلم

وقد طالعت في كتاب (ألف ليلة وليلة) قصة مختصرة فيها بعض الشبه بقصة (مم وزين). أعتقد أن جامع قصص (ألف ليلة وليلة) اقتبسها من (مم وزين) التي كانت شائعة في ذلك العهد في المناطق الكردية شيوعها في هذه الأيام

وأؤمن أن يتاح يوماً لهذه القصة الفاجعة شاعر عظيم عربي، أو أعجمي، ينظمها في

ص: 16

مسرحية شائقة، أو قصيدة علواء، نظماً ساحراً يذيع صيتها في الدنيا الأدبية على ما فعله الشاعر الإنكليزي (فتزجرالد) بنقله رباعيات (عمر الخيام) إلى اللغة الإنكليزية، فيضيف بذلك إلى متاحف الأدب العالمي درة يتيمة جديدة من كنوز الآداب الشرقية المكنونة في العراق

(ع. و)

القصة

في مدينة نائية قائمة على نجد خصب بين قنن الجبال في بلاد الكرد حكم أمير شاب اسمه (مم) اشتهر بكرم أصله وجلال قدره وهيف قده وجمال صورته ومتانة خلقه وعلو همته وندرة بطولته. وكان الأمير أعزب لم يفكر قط في أمر الزواج، لأنه لم ير في مملكته أميرة حسناء تضاهيه في الحسب والنسب ليقترن بها

ففي ذات يوم فاتحه وزراؤه في أمر الزواج فلم يحر جواباً. ولما انفض مجلسه ذهب إلى فراشه لينام فأرقه التفكير في أمر الأميرة التي يختارها زوجاً فتلد لعرشه وارثاً. ولما أعياه التفكير غلبه النعاس فاستغرق في نوم عميق، فرأى نفسه مجتمعاً بالأميرة (زين) الغادة الحسناء بنت أمير الجزيرة تلك المدينة الجميلة الراكبة على نهر دجلة. وبعد سمر سعيد طويل ثمل فيه الأميران بخمرة الحب الخالص والغرام البريء تعاهد (مم) و (زين) على الزواج على أن يخطب الأمير الأميرة إلى اخوتها الأمراء (جَكُّو) و (حَسُّو) و (قره تاج الدين)؛ لأن والدها الأمير كان قد توفى. ورمزاً إلى عهد الحب والزواج تبادل الأميران خاتميهما، فوضع (مم) خاتمه في إصبع (زين)، ووضعت (زين) خاتمها في إصبع (مم)؛ ثم اضطجع العاشقان للنوم في فراش واحد، فانتضى (مم) حسامه ومده بينه وبين (زين) المضطجعة بجانبه رمزاً إلى صيانة عفاف العذراء وشرفها وعهداً منه على ألا ينال منها وطراً قبل الزواج شرعاً بإذن الله وأوصيائها

أفاق الأمير (مم) على تغاريد الأطيار التي نقلها نسيم الصباح إلى أذنيه، فقال في نفسه:(ما ألذ حلم هذه الليلة! ليتني لم أفق من النوم) وحانت منه التفاته إلى أصابعه فوجد أن الخاتم الذي في إصبعه غير خاتمه. فتفرس فيه فقرأ اسم الأميرة (زين) بنت أمير الجزيرة منقوشاً

ص: 17

في ذلك الخاتم. فحار في أمر وعلم بأن ما كان في ليلته البارحة لم يكن حلماً بل حقيقة. أما صورة الأميرة الحسناء فلم تبرح ذهنه

وكذلك كان أمر الأميرة (زين) فإنها لما استيقظت من نومها على خرير دجلة حسبت حادث الليلة البارحة حلماً في النوم؛ ولكنها لما وجدت خاتم (مم) في إصبعها اعتقدت أن في الأمر أعجوبة، لأن ما رأت كان حقيقة لا حلماً. وكانت صورة الأمير (مم) الجميل مطبوعة طبعاً ثابتاً في مخيلتها

أما حقيقة الخبر، فهي أنه في الليلة التي فكر فيها الأمير (مم) في الزواج أوقعه الجن في سبات عميق، ثم حملوا إليه (زين) من خدرها وجرى ما جرى بين الأميرين في تلك الليلة. وقبيل انفلاق الصبح أوقعه الجن مرة أخرى في سبات عميق هو وحبيبته وعادوا بالحسناء (زين) إلى خدرها في الجزيرة بغير شعور منها

لما أفاق الأمير (مم) من سباته ووقف على جلية الأمر قطع على نفسه عهداً ألا يتزوج غير الأميرة (زين) بنت أمير الجزيرة. فنهض من فوره وارتدى ملابسه وحمل سلاحه وامتطى جواده وخرج من المدينة بغير علم رعيته قاصداً الجزيرة ليخطب بنت أميرها التي حملها إليه الجن في الليلة البارحة السعيدة. وبعد سفرة طويلة شاقة وصل الأمير (مم) إلى تلك المدينة فذهب تواً إلى قصر الأمراء المطل على دجلة وحل ضيفاً على اخوة (زين) الثلاثة الذين اكرموا وفادته. فنعى خبر قدومه إلى الأميرة (زين) فحملها الشوق الشديد إلى رؤيته على ركوب كل مركب في سبيل الوصول إليه. فتحينت كل فرصة سانحة للاجتماع به غير آبهة لعذل العذال ولا مكترثة لنميمة النمامين. وطفقت تجتمع به سراً حين يخرج أخوتها الأمراء إلى الصيد والقنص، إذ كان (مم) يتخلف عن الذهاب معهم بحجة يختلقها كل يوم فيتذرع بها للبقاء في القصر وحده لكي يتاح له الاجتماع بحبيبته.

وكان في القصر وزير اسمه (بكو عوان) من دأبه إيقاع الأذية بالناس ولا سيما أولئك الذين كانوا موضوع حسده. فحقد هذا الوزير على الأمير (مم) وطفق ينتهز الفرص للإيقاع به. فبث العيون والأرصاد ليأتوه بأخبار (مم) و (زين). فعلم بأمر اجتماعهما، ووقف على ما كان يجري بينهما، وأخذ يدس للعاشقين عند الأمراء أخوة (زين)، ولكن أولئك الأخوة لم يعيروه أذناً صاغية.

ص: 18

واتفق يوماً أن (مم) تخلف على عادته عن الخروج إلى الصيد مع الأمراء بحجة المرض. فاجتمعت به (زين). وبينما كان الحبيبان يتباثان لواعج الهوى إذا بالأخوة يدخلون القصر راجعين من الصيد ومعهم (بكو عوان). فأسرع (مم) إلى إخفاء (زين) تحت عباءته الواسعة المنسوجة من المرعز، ولكنه نسى أن يخفي إحدى ضفائر شعر (زين) الطويل فبرزت من العباءة دون أن يشعر بذلك (مم). فدخل الأخوة الأمراء ودخل معهم بكو عوان الديوان الذي كان فيه (مم) فلم ينهض (مم) لهم بحجة مرضه. ولم يشاهد ضفيرة الشعر الخارجة من العباءة أحد سوى (بكو عوان). فأسر (بكو عوان) في أذن الأخ الأكبر (جكو) قائلاً:(ما أوقح هذا الضيف! أرأيت كيف أنه لم يقم إجلالاً لكم وأنتم الأمراء بل ظل جامداً في مكانه كأن الداخلين من عامة الناس أو من خدمه وحشمه؟) فأجاب (جكو) قائلاً:

(تباً لك من وغد ذميم! إن عدم قيام (مم) ليس تكبراً بل ذلك عجز منه لأنه مريض).

فقال بكو معترضاً: (كلا، ليس السبب مرضه، وقد لا يكون عدم قيامه لكم لتكبره، إلا أنني أرى سبباً آخر يمنع الأمير الضيف من القيام)

قال هذا وأشار بيده إلى ضفيرة شعر الأميرة البارزة من العباءة

فلما وقعت عين جكو على الضفيرة، استشاط غيظاً فطرد أخته زين من الديوان، وأمر بزج مم في غياهب السجن، وكان السجن حبساً ينزل إليه بأربعين دركة

فظل مم في السجن أربعين يوماً وليلة وهو يقاسي أشد آلام البين. وما انفكت زين في خلال تلك المدة تسعى لدى أخوتها لإطلاق سراح مم بدعوى أنه خطيبها جاء ليخطبها من أخوتها. وأخيراً تمكنت زين من التغلب على دسائس بكو عوان، فأقنعت اخوتها بالإفراج عنه

وفي موعد إخراج الأمير مم من سجنه بعد مضي أربعين يوماً على حبسه، لبست زين أفخر ملابسها، وتحلت بأثمن حليها وسارت مع أربعين فتاة عذراء من أجمل بنات المدينة إلى السجن لتخرج منها حبيبها السجين في موكب العذارى. . . ولما وصلت إلى رأس السلم نادت مم بصوتها العذب. . . فنظر إليها نظرة ولهان لم يصدق ما يشهده، فرأى زين في غاية الجمال الفتان. . . أما زين، فخيل إليها أنه غاضب عليها وعلى اخوتها فخاطبته تقول:

ص: 19

(أمم. . . إذا كنت لا ترضى بي عروساً بعد الذي جرى فاختر لك من هؤلاء الحسان زوجاً تليق بك!)

فوقع كلام زين وقع الصاعقة على مم، لأنه اعتقد أن زين قد نفرت منه فلا تريده بعلاً لها. . . فخرجت حينئذ من أنفه نقطة دم واحدة، وسقط جثة هامدة!

أما زين، فرجعت في موكب العذارى خائبة كئيبة ونفسها حزينة حتى الموت. . . وبعد مدة قصيرة توفيت هي أيضاً هماً وكمداً على فراق حبيبها، وأوصت بدفنها في البقعة التي دفن فيها مم!

بعد أربعين يوماً خرج الأمراء (جكو) و (حسو) و (قره تاج الدين) ومعهم وزيرهم (بكو عوان) إلى الصيد والقنص على سابق عادتهم. وفي أثناء الصيد مرت الخيل بفرسانها بالقرب من البقعة المدفون فيها جثمان العاشقين فغارت قائمة جواد (جكو) في حفرة وكان (بكو عوان) راكباً إلى جانبه. فنظر الأمير إلى الحفرة فوجدها ضريح (مم) ووجد جثة (زين) ممددة بجانب جثة (مم) وقد تعانق الحبيبان. فقال (بكو عوان) للأمير:

(أنظر تر هذين العاشقين الخبيثين لا يزالان يرتكبان المنكر حتى في مماتهما!)

فاستشاط الأمير غيظاً من هذا الكلام المنكر واستل سيفه وضرب عنق (بكو عوان) وقال وهو ينهال عليه ضرباً:

(أذهب إلى حيث ألقت، أيها اللعين! ألا ترى أن الله يجمع ما يفرقه الإنسان الخبيث مثلك؟)

فسقط (بكو عوان) ميتاً في تلك البقعة فدفن في مكان بعيد عنها، إلا أن تلك البقعة المقدسة ظلت ملوثة بدمه النجس. وبعد مدة زار الأخوة تلك البقعة فرأوا زهرة جميلة عطرة نابتة على قبر كل من العاشقين وقد برز بين الزهرتين الجميلتين شوكة قبيحة سامة أنبتها دم (بكو عوان)

وإلى اليوم يزور العشاق مرقد ذينك الحبيبين ليمطروا ثراه بالرحمات الواسعة

(بغداد)

عبد المسيح وزير

ص: 20

‌إيبيقوس

للأب أنستاس ماري الكرملى

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

5 -

كنا نود أن يرأف الأستاذ مندور بأجداده العرب

قلت - يا سيدي الأستاذ - ما هذا نصه، وقد ورد في ص812 من (الرسالة): وإذا ذكرنا أن كومودوس هو أبن مارك أوريل، وأن إتيقوس قد أشرف أيضاً على تربيته كما أشرف على تربيه أبيه، وإذا كان من الممكن أن يكون قومودس إمبراطور روما قد كتب إلى إنتيقوس باللغة اليونانية يطلب إليه كتباً وأشعاراً، وأن العرب قد علموا بذلك - مترجماً عن اليونانية ترجمة لا نعلم مبلغ دقتها؛ فأي غرابة في أن يكونوا قد جعلوا إتيقوس شاعراً يونانياً، ومن قومودوس ملكاً لليونان، مادام مصدرهم كان يونانياً، ومادام التوحيدي يورده على سبيل الرواية؟ وهل العرب كانوا يعرفون شيئاً دقيقاً عن الشعراء اليونان ومعلمي البلاغة عندهم، حتى نستعبد أن يخلطوا بين الشاعر ومعلم البلاغة، أو أن يستنتجوا من يونانية النص أنه تبودل بين يونانيين؟

انتهى كلام الأستاذ مندور المدرس بكلية الآداب في مصر

فيا سيدي، أهذا هو إكرامك للعرب أجدادك وأنت تنشئ تلاميذ عرباً ليقدروا أجدادهم أحسن تقدير؟ فكيف تتمكن بعد ذلك من تعليمهم احترام أسلافهم بعد أن قلت عليهم أنهم ما كانوا يميزون بين الشاعر ومعلم البلاغة، حتى أنهم كانوا يخلطون الواحد بالآخر؟!

ذلك ما لا نقبله منك، ونلتمس من حضرتك بعد هذا أن تكرم بني مضر الإكرام اللائق بهم، لأن الدقة في التعريب بلغ منهم أبعد مبلغ، حتى أن المستشرقين المعاصرين يدهشون مما جاء به هؤلاء الدهاة الذين لا يشق لهم غبار! فنحن يا سيدي نحتج عليك وعلى قولك هذا، ونرجو منك ألا تعود إليه ولا إلى مثله، وتعوض عنه بما يغفر لك سيئتك هذه!!

6 -

نتيجة الأستاذ الجليل

ختم الأستاذ نبذته - ويا ليته لم يكتبها! - بقوله: (ولعل في هذه القراءة ما يطمئن إليه -

ص: 21

ولو مؤقتاً - الأب الفاضل، إلى أن يقترح غيرنا قراءة أصح) انتهى

قلنا: لم نطمئن إلى هذا المقال دقيقة واحدة. والدليل عل ذلك، وعلى أننا لم نقبل منه رأياً واحداً من جميع تلك الآراء كثرة ما ورد فيها من التشويش والارتباك وعدم بقائه في قرار مكين

وكيف نطمئن إلى ما ذهب إليه وهو نفسه لا يطمئن إليه؛ إذ قال في آخر آرائه: (ولعل في هذه القراءة. . . ولو مؤقتاً. . . إلى أن يقترح غيرنا قراءة أخرى.

فهذه كلها أقوال هدامة، ناسفة لكل ما أورده من الآراء والقراءات، حتى اضطررنا إلى أن نمعن في البحث كل الإمعان لنجد ضالتنا، فوجدناها والحمد لله في الأول والآخر.

7 -

من كان ملك يونان الذي طلب ايبيقوس؟

هذه مسألة في نهاية الغموض؛ فإن هذا الملك لم يكن ثيودسيوس، كما قال الناشران في 153: 2، ولا قومودس، كما ذهب إليه حضرة أستاذنا الذكي المدرس بكلية الآداب في مصر الزاهرة، ولاتودورس، على ما ورد في حاشية ص153. وسبب كل هذا الإنكار أن هؤلاء جميعهم كانوا روماً لا يونانيين خلافاً لما يذهب إليه أستاذنا المدرس. ولعله يفعل هذا تحقيقاً لقولهم: خالف تذكر؛ ولأنهم لم يكونوا جميعاً من المائة السادسة قبل الميلاد. وكفى بذلك دليلاً على أنه لم يكن أحد منهم الملك الذي طلب إيبيقوس.

إذن من عسى أن يكون هذا المنشود؟. إننا نظن أن الاسم تيودوسيوس وغيره من قومودوس ولاتودورس من وضع النساخ، لا من وضع الناطق به لأول مرة، أي أبو سليمان المنطقي السجستاني. وكثيراً ما كان النساخ يضعون في مواطن الأسماء المجهولة، أو الأعجمية، أو الصعبة القراءة أو النطق بها، ألفاظاً مشهورة مألوفة سهلة التلفظ بها، إن في الأعلام، وإن في المصطلحات العلمية، بل في الأحاديث النبوية نفسها

فمن الأول قولهم في الهبودروموس البذروم (راجع كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبه ص109 من طبعة أوربة سنة 1306). وقد قال ناشره في الحاشية: وسماه ابن رسته: البذرون والبيدرون واليبذرون. ونشر الأستاذ الجليل الشيخ عبد القادر المغربي في المقتطف 101 ص274 وما يليها مقالة قال فيها: إن العَلَم (ناصف تحريف ولدته اللهجة التركية عن نصوح) - وحضرته يعتقد هذا الأمر حاق الاعتقاد. أما نحن فلا نسلم به، بل

ص: 22

نظن أن من كان اسم واحد ممن اتصل بالترك ناصفاً، كان اسمه أيضاً (نصوحاً)، فكان يعرف (بناصف نصوح) معاً، كما قالوا: محمد علي، ومحمد حسن، ومحمد حسين، إلى نظائرها، ثم تُرِك العلم الأول وأُخِذ العلم الثاني، وهو كثير عندهم فقالوا:(نصوح) أو (نصوحي). أما أن يكون (ناصف) تصحيف (نصوح) أو بالعكس فبعيد عندنا

ومن الثاني قولهم: الشكار والبتكار في التنكار. والرجات والزاحات في الزاجات. والراوندي والرموندي والرواندي في الزراوندي لنوع من البورق. والمحّوض والمحوَّض والمجوَّص والمخصص في المخوص، لنوع من التوتيا (راجع مفاتيح العلوم طبعة فان فلوتن ص210 و211)

ومن الثالث، ما ذكره أبو عبد الله حمزة بن حسن الأصفهاني المتوفى سنة 367 هـ في كتابه (التنبيه على حدوث التصحيف):(إن كثيراً من رواة الحديث يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: تختموا بالعقيق؛ وإنما قال: تختموا (بمعنى تعمموا) بالقيق. وهو اسم واد بظاهر المدينة. وروى آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يسحب العسل يوم الجمعة، وإنما هو يستحب الغسل في يوم الجمعة. ورووا: غم الرجل، ضيق أبيه، وإنما هو عم الرجل صنو أبيه، أي شبهه. وقال عليه السلام: خراب بصرتكم بالريح، وإنما قال بالزنج) انتهى

وبعد هذا البسط الوجيز الذي لا بد منه في هذا المقام، لوقوع التصحيف والتحريف في الكتب المخطوطة، نظن أن اسم الملك الذي طلب الشاعر اليوناني إيبيقوس هو أحد هؤلاء الأربعة:

فأما أن يكون (بولقراطس وهو طاغية ساموس (من سنة 535 إلى سنة 542 ق م. وكان محباً للعلوم والآداب، واجتذب إليه أنا كريون، كما ذكرته المعلمة البريطانية) وفريقيديس وشاعرنا إيبيقوس. وكان قد أنشأ خزانة كتب ثمينة

وأما أن يكون (بيستراتيدس وكان طاغية آثينة، ومن قرابة صولون. وكان قد ساعد على ازدهار الصنائع والفنون والحراثة والزراعة، وحسن آثينة، وأمر بإعادة النظر في قصائد أوميرس وعمم نشرها بالنسخ والنقل وهي التي أصبحت أمّا لجميع ما نشر منها بالطبع بعد ذلك. وكان من أبناء المائة السادسة

ص: 23

وإما أن يكون ابنه (هبياس الذي خلف والده على كرسي الملك في سنة 528 ق م، مع أخيه هبرخس فاجتذب إلى بلاطه الشاعرين (أنا كريون) و (سيمونيدس وأنشأ خزانة كتب عامة، وإنما أعمال أبيهما في ما يتعلق بأشعار أوميروس، وتصحيحها وإبرازها بحلة موشاة أحسن وشي

وإما أن يكون (برياندروس وهو طاغية كورنتس من سنة 621 إلى سنة 584 ق م. وكان قد خلف ولده قبسيلوس ووضع بعض أقوال حكمية اشتهرت فعد بين حكماء اليونان السبعة. وكان محامياً للعلوم والآداب والفلسفة، فاجتذب إلى كورنتس كليون وأنا خرسيس هؤلاء هم أشهر ملوك يونان المعروفين بحبهم للعلوم والآداب، وجذب العلماء والشعراء إلى بلاطهم، فكانوا يشركونهم في مجالس أنسهم وطربهم وشربهم ومآدبهم. وربما كان هناك غير هؤلاء الأربعة الذين ذكرناهم لكننا نجهلهم لجهلنا تاريخ اليونان وشعرائهم وأدبائهم

ولعل الأستاذ (محمد مندور) يهدينا إليهم أو إلى بعض منهم لأنه يظهر - على ما يبين من كلامه - أنه وقف على كتب اليونان التي لم يصب فيها قصة الكراكي، مع كل توغله في مطالعة أسفار تواريخهم وآدابهم، فجاءنا بكراكي مندورية، وغابت عنه الكراكي الأيبيقوسية

8 -

الخاتمة والخلاصة

ظهر لنا، ولكل محب للتاريخ الحقيقي المبني على أخبار الأوائل، لا على الأوهام، لا على الأقاويل الأباطيل الفارغة، أن الشعر اليوناني الشهير الذي طلب من سرب الكراكي أن ينتقم له، كان (إيبيقوس)

أما اسم الملك الذي كتب إليه يستقدمه فلا يعرف على التحقيق، ولعله كان أحد هؤلاء الأربعة:(بولقراطس) أو (بيسستراتيدس) أو (هبياس) وأخوه هيرخس أو (برياندروس) وكانوا معاصرين جميعهم (لايبيقوس)، والله أعلم.

الأب أنستاس ماري السكردلى

من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ص: 24

‌من أدباء الصعيد في القرن السادس

الرشيد الأسواني

للأستاذ محمود عزت عرفة

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

دعواه الخلافة في اليمن

آلت هذه الدعوى بالرشيد إلى القبض عليه وتجريده، ثم إنفاذه مكبلاً إلى قوص وسجنه بها، وكان حاكمهاً (طرخان) ممن يسرون له عداوة قديمة؛ فشهره في الاسواق، ولم يقصر في إضعاف العقوبة له، ولكن سرعان ما ورد الأمر من قبل الملك الصالح بإطلاق سراح الرشيد، ولما يمض على اعتقاله أكثر من ليلتين (وكان الصالح إذ ذاك والياً على منية ابن خصيب)

ومن الغريب حقاً أن يكون هذا كل ما ينال الرشيد من عقوبة على دعواه الجريئة؛ وما من ريب في أن التهمة - بهذا الوضع - مبالغ فيها، ولا سيما إذا ذكرنا أن بعثته إلى اليمن وقعت في عهد الخليفة الحافظ لدين الله، والد الخليفة الظافر الذي رثاه الرشيد أول مقدمه إلى القاهرة

وقد حدد موعدها الأدفوي بعام تسع وثلاثين وخمسمائة - أي قبل وقفته في رثاء الخليفة الظافر بعشر سنوات - فهو لم يكن وقت هذه البعثة على شيء من الجاه أو النفوذ، يكفل له النجاة من عواقب دعوى جريئة، كتلك التي نسبت إليه، إن كان يجدي في مثل هذا نفوذ أو جاه!

نعم، قد يكون لسعي أخيه (المهذب) الذي كان عظيم الحظوة لدى الملك الصالح أثره في العفو عنه. . . ولكن، هل يتفق مع نوع هذه التهمة أن يأمر الصالح - بعد ليلتين من وصول الرشيد - بإطلاق سراحه والإحسان إليه، فيحضره والي قوص من سجنه مكرماً - كما يذكر ياقوت -؟

التهمة ولا شك مبالغ فيها - كما ذكرنا - وغير مستبعد أن تكون قد دست عليه في جملتها وتفصيلها، ثم تبينت براءته منها بوجه لم يدع إلى مؤاخذته سبيلاً. ويؤيد هذا الرأي عندنا

ص: 25

أن الأدفوي (صاحب الطالع السعيد) يؤكد براءته من تهمة دعوى الخلافة بدليل يمكن أن نعده قاطعاً. فقد ذكر أنه ذهب إلى اليمن داعياً للخليفة الحافظ، متلقباً بعلم المهتدين، حتى قال فيه بعض شعرائهم من قصيدة بعث بها إلى صاحب مصر:

بعثت لنا علم المهتدين (م) ولكنه علم (أسود)!

ثم قال: (وقد وقفت على محضر كتبه باليمن، فيه خط جماعة كثيرة، أنه لم يدع الخلافة، وأنه مواظب على الدعوة للخليفة، رأيت المحضر بأسوان)

ويذهب ابن خلكان في تعليل الغضب عليه واعتقاله مذهباً آخر - دون أن يشير إلى قصة ادعائه الخلافة - فيذكر أن الرشيد كان قد مدح جماعة من ملوك اليمن، منهم علي بن حاتم الهمداني الذي قال فيه:

لقد أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا

فلست أنال القحط في أرض قحطان

وقد كفلت لي (مأرب) بمآربي

فلست على (أسوان) يوماً بأسوان

وأن جهلت حقي زعانف خندفِ

فقد عرفت فضلى غطارف همْدانِ

قال: فحسده الداعي في عدن على ذلك، وكتب بالأبيات إلى صاحب مصر، فكانت سبب الغضب عليه

المهذب أخو الرشيد

كان من أسباب تعجيل العفو عن الرشيد ما سعى به أخوه المهذب (حسن بن الزبير) لدى الملك الصالح؛ وكان لديه أثيراً وبه مختصاً

والمهذب شاعر معروف، مجيد في نظمه وفي نثره. ذكره العماد الأصفهاني، فأجزل في الثناء عليه ثم قال: هو أشعر من الرشيد، والرشيد أعلم منه. ومن شعره قوله:

هْمُ نصبُ عيني أَنجدُوا أم غاروا

ومُنى فؤادي أَنصَفوا أو جاروا

وهموا مكان السِّر من قلبي وإنْ

بعُدتْ نوى بهمو وشطَّ مزارُ

تركوا المنازل والديار، فما لهم

إلا القلوبَ منازلٌ وديار

واستوطنوا البيد القفار فأصبحت

منهم ديار الأنس وهي قفارُ

وله أيضاً هذا البيت الذي يستشهد به علماء المعاني كثيراً، في باب الإطناب:

ومالي إلى ماءٍ سوى النيل غُلةٌ

ولو أنهُ - أستغفُر الَله - زمزمُ

ص: 26

وهو من قصيدة يمدح بها كنز الدولة ابن متوج أولها:

بأيِّ بلادٍ غيرِ أرضي أخيمُ

وأيَّ أناسٍ غيرَ أهلي أيِّممُ

ومن أشهر شعر المهذب قصيدة له تسمي (النواحة) كتب بها إلى داعي اليمن يمدحه ويستعطفه على أخيه، ويقول فيها:

يا ربعُ أين ترى الأحبة يَّمموا؟

هل أنجدُوا من بعدنا أم أتهموا؟

رحلوا وقد لاح الصباح وإنما

يسرى إذا جُنَّ الظلامُ الأنْجمُ

وتعوضت بالأنس روحي وحشةً

لا أوحش لله المنازل منهمو!

لولا همو ما قمتُ بين ديارهْم

حيرانَ أستافُ التراب وألثِم

وقد أجاب الرشيد على هذه القصيدة بميمية من وزنها قال فيها:

رحلوا فلا خلتِ المنازلُ منهمو

ونأوْا فلا سلتِ الجوانحُ عنهمو

وسرَوْا - وقد كتموا الغداةَ مسيرهم -

وضياء نور الشمس ما لا يُكتَم

وتبدَّلوا أرضَ العقيق عن الحمي

روَّت جفوني أيَّ أرض يمموا!

ما ضرهم لو ودَّعوا من أودعوا

نار الغرام، وسلَّموا من أسلموا

هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا

أو أيمنوا أو أنجدوا أو أتهَموا

في غمرة السياسة

خرج الرشيد من معتقله موفور الكرامة، ممتلئ النفس بالآمال الجسم؛ وقد انتقل بعد حين إلى القاهرة فاحتل مكانه موموقة بين أدبائها.

وكانت أبواب المناصب أمامه مفتوحة، وسبله إليها معبدة. ولكن همته كانت أبعد من أن تفق من ذلك عند غاية، وقد اختير في عام 559 هـ ناظراً على الدواوين السلطانية في ثغر الإسكندرية، فكان ذلك على كره شديد منه؛ ولعله كان أشد اهتماما وقتئذ بما جرى في مصر من أحداث سياسية، اجتذبه تيارها - بعد حين - فخض غمرتها في جرأة وطموح كفاه حياته

وتفصيل ذلك أن أبا شجاع شاور بن مجير - وكان والياً على الصعيد الأعلى - قصد القاهرة بعد مقتل الملك الصالح عام 556 هـ وتمكن من قتل العادل وزير الخليفة العاضد (آخر خلفاء الفاطميين)، واحتلال مكانه من الوزارة. ثم لم يلبث أن خرج عليه أبو الأشبال

ص: 27

ضرغام بن عامر فطرده من القاهرة وتولى الوزارة بعده.

وقد ذهب شاور إلى الشام مستنجداً بالملك الصالح نور الدين محمود زنكي أمير حلب، الذي أمده بجيش يقوده أسد الدين شيركوه (عام 559هـ) فانتصر على ضرغام وتبوأ منصب الوزارة من جديد.

ولكن ما عتم أن تنكر لحلفائه وخان عهد من نصروه، واستعان بملك الإفرنج صاحب بيت القدس على محاربتهم وطردهم؛ وبعد مناوشات وحرب وحصار انسحب شيركوه مرتداً بجيشه إلى الشام.

وفي أثناء هذه الحوادث كان يبدو ميل الرشيد إلى نصرة شيركوه، وقد جرت بينهما مكاتبات انتهى أمرها إلى شاور فحنق عليه حنقا شديداً وجد في طلبه ولكنه اختفى. . . واعتقل شاور المهذب - أخا الرشيد - لنفس التهمة. ولم يجد لديه ما استعطفه به من رقيق الأشعار، حتى التجأ إلى ابنه أبو الفوارس شجاع ابن شاور - وكان كريم النفس خيرا - فتقبل منه مدائحه التي بعث بها إليه من معتقله، وعنى بأمره أبلغ عناية، حتى تمكن من إخراجه من محبسه، ثم ضمه إليه ورفه من حاله واصطنعه. . . ولم يمتد حبل الحياة بالمهذب بعد هذا طويلاً فمات في ربيع الثاني من سنة 561 هـ

وفي عام 562 هـ عاد شيركوه إلى مصر فاستولى على الجيزة وهزم الإفرنج في الصعيد، ثم مضى إلى الإسكندرية فافتتحها، وجعل عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف. ولما عاد شيركوه إلى الصعيد حاصرت عساكر الإفرنج والمصريين مدينة الإسكندرية؛ وقد جاهد صلاح الدين في سبيل الاحتفاظ بها ثلاثة أشهر. وظهر أثناء ذلك أبو الحسين الرشيدي بعد أن طال اختفاؤه، واقبل يقاتل بين يدي صلاح الدين بسيفه؛ ولم يزل معه حتى تم رفع الحصار باتفاق أجراه الطرفان إثر عودة شيركوه، وبذلك تم انسحاب عسكر الشام

القبض على الرشيد ومقتله

لم يمض غير يسير على الحوادث حتى وقع الرشيد في قبضة شاور وكان حقده عليه بالغاً. قال ياقوت: (اتفق أن ظفر به على صفة لم تتحقق لنا، فأمر بإشهاره على جمل، وعلى رأسه طرطور، ووراءه جلواز ينال منه) وقد رؤى على هذه الحال الشنيعة وهو ينشد:

ص: 28

إن كان عندك يا زمان بقيةٌ

مما تهين به الكرام فهاتها

وشنق الرشيد وهو على حال عجيب من التجلد وفرط الاحتمال؛ وقد ظل يتمتم بآيات من القرآن الكريم حتى فاضت روحه، وكان ذلك في المحرم من سنة 563 هـ

ورواية المنذري عن مقتله تقول: (دخل مع الناصر الإسكندرية وكتب في أمور، فأخذه شاور وعذبه عذاباً شديداً. فبلغه أنه قال: (الهوان والعذاب من الملوك في طلب الملك ليس بعار. فأمر به فضربت عنقه)

وقد دفن الرشيد في الموضع الذي صلب فيه؛ ثم نقلت رفاته بعد عام أو أكثر إلى مقبرة خاصة في مدافن القاهرة.

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 29

‌الأثر المصري

في نهضتنا الأدبية الحاضرة

للأديب بشري السيد أمين

قبل فتح السودان الأخير الذي تم للحكومتين المصرية والإنجليزية في سنة 1898 بقليل، كان الأدب والعلم بمعناهما المعروف في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصورين في فئة قليلة من الناس. فلما أراد الله، ولا راد لإرادته، وقضى، ولا ناقض لما قضى، أن يتم فتح السودان الأخير على المصرين والإنجليز، كان غنماً لنا بدل أن يكون غرماً علينا، وعاد علينا بأحسن الفوائد وأبركها بدل أن ينزل على رؤوسنا الويل والثبور وعظائم الأمور. وهذا من أعجب ما يبعث في النفوس العجب؛ إذ كان المنظور أن تأتي النتائج بعكس ذلك؛ وهذا طبعاً لا ينفي القول الكريم بأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. فانتشر العلم، وذاع الأدب، وشاع في السواد الأعظم من شباب مدننا لكثرة ما أنشأ السادة الحاكمون من المدارس في مدن السودان الكبيرة وعواصمه، وما اهتموا به من شأن العلم والتعليم، وما أنشأوا من صحف وطبعوا من كتب. هذا إلى جلبهم مطابع لهذا الغرض وفت به كل الوفاء، وجعلت مدن السودان وأقاليمه القاصية، مرتبطة بالدانية منها، كالسلسلة الواحدة، لا يفصمها إلا بعد المسافة. وحتى هذه ذللت تذليلاً حال استقرار الحكم للمصريين والإنجليز بالبلاد، بإنشاء الخطوط الحديدية العديدة في كثير من أنحاء السودان وقد تولى التعليم في مدارس السودان أكفاء من خيرة الأساتذة المصريين، المشهود لهم بالعلم الغزير والأدب الكثير، فأداروه على خير الوجوه وأحسنها، وتصرفوا في شؤونه تصرفاً هو الغاية لمن يريد الإحسان، فكان عهد المصريين الأول من خير العهود التي مرت بالسودان في جميع أدواره الثقافية

وإني لأذهب إلى القول الآن غير متحفظ أن نهضتنا الأدبية الحاضرة ما هي إلا وليدة تلك الروح العلمية الأدبية السامية التي سرت إلينا من إخواننا المصريين الذين تولوا تعليم ناشئتنا في المدارس التي أنشأوها، والتي وجهتنا بعد ذلك فأحسنت التوجيه

ولا يفوتني أن أذكر - وأنا أكتب عن الأثر المصري في الأدب السوداني - ما للمحاضرات والمساجلات والمسامرات التي كان يتولى شؤونها أساطين البلاغة وجهابذة

ص: 30

القول من المصريين في مجتمعاتنا وأنديتنا الأدبية بمهارة لا يشركهم فيها غيرهم، ولباقة لا يدانيهم فيها سواهم، من أثر لا يمحى، ولا زال واضح الصبغة، مشرق اللون في بعض أدبائنا على الخصوص، وفي أدبنا على العموم وفهمنا

للأدب ومعناه، وللعلم وجدواه، لا يعود الفضل فيها إلا إلى الأساتذة المصريين الذين تولوا تربيتنا وتثقيفنا بصفة مباشرة، أو غير مباشرة.

فنحن مدينون لهم بالفضل، ومقرون لهم بالجميل، فلولاهم، ومن يدري، لظللنا إلى الآن نسبح في ظلامين دامسين من جهلنا ولوننا: ظلام جهلنا الذي لا زال يبدده هذا الصبح الواضح لذي عينين، صبح العلم والمعرفة؛ ونسأل الله أن يأتي على بقاياه في زمن قريب. أما ظلام ألواننا، فهو آية من آيات الله الشاهدة فينا بقدرته وإعجازه، لأن الصبح بدل أن يجلوه يزيده إظلاماً!

إذ أضفت، إلى ما تقدم شغف شبابنا المثقف بما تخرجه الصحف، وتطلع به الكتب كل يوم من روائع الأدب المصري على أنواعه في الأغراض، وألوانه في الأساليب، أدركت في يسر سر انطباع أدبائنا على هذه الأنواع في الأغراض والألوان في الأساليب، لأن مثل هذا السحر في البيان العربي الممتاز مما لا يقوى على رده ومقاومته الأدباء الراسخون في الأدب وصنعة البيان، فكيف بمن هم حديثو عهد بالأدب ومزاولة الكتابة؟ ولأدركت في يسر كذلك أن هذه الثمرة من تلك الشجرة، ولتنبأت لنهضتنا الأدبية المباركة هذه بعاقبة تصير الهلال قمراً، والفجر صبحاً، والليل نهاراً. أو لم تسر النهضة الأدبية المصرية في بدايتها على مثل هذه الدرجات من التقدم حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من مكان ملحوظ ومجد باهر في عالم الأدب؟ فكذلك سيكون شأننا نحن في المستقبل القريب إن شاء الله.

ويتجلى لك بوضوح تام شغف شبابنا المتأدب بالأدب المصري المعاصر في تأثر بعضهم بأساليب بعض أئمة البيان هناك تأثراً تنم عليه أساليبهم وتفضحه ألسنتهم مفتخرة! فمنهم من يقلد الدكتور هيكل، ومنهم من يحاكي الدكتور طه، والأستاذ الزيات، والأستاذ المازني، ويشغف بأدب هؤلاء وغيرهم، حتى لا يجد غضاضة أن يفخر على غيره بأنه يملك القدرة التي تمكنه من تقليد أسلوب أحد المذكورين أو غيره في ما يكتب للصحف والمجلات. ولو

ص: 31

سكت - عفا الله عنه - لدل من نفسه الفرع على أصله من غير تنبيه أو لفت نظر! على أن هذا ليس فيه لفاخر فضل، بقدر ما فيه من عيب واضح، وضلال فاضح.

ولا أنسى بجانب هذا أن أذكر أن لنا أدباء بالمعنى الصحيح، وأن لهؤلاء الأدباء أقداماً راسخة في الأدب على ألوانه وأوضاعه، وأنهم قد أوتوا من حسن البيان وسحره، وقوة التعبير وفصاحة الأسلوب وخلوصه من الشوائب قدراً يخلوهم الوقوف مع كبار أدباء العربية في العالم العربي، وإن آثارهم التي تطالعنا بها صحفنا المحلية كل يوم، أو الكتب التي أخرجوها للناس - وهي قليلة - من بضع سنين إلى اليوم، تشهد بهذه الحقيقة الواقعة، وتشهد فوق ذلك بأنهم لا يقلدون غيرهم، ولا يتأثرون سواهم في أسلوب أو تعبير أو فكرة، إلا إذا جاء ذلك عن غير قصد، لأنهم يريدون لأدبهم حياة، ولأمتهم بقاء ومكاناً ملحوظاً تحت الشمس، ولا يتأتى لهم ذلك، إلا إذا كانوا كذلك، والفضل في ذلك راجع إلى حسن توجيه الأدب المصري ورسمه لنا الطريق التي يجب على أدبائنا سلوكها كي تكون نهضتنا الأدبية نهضة بالمعنى الصحيح لقيامها على أمتن الدعائم، وأقوى الأسس التي يشاد عليها بناء نهضة أدبية لأمة متيقظة طامحة إلى المجد متطلعة إلى العلاء.

وبعد، فإن الأثر الأدبي المصري في الأدب السوداني المعاصر أثر واضح لا ينكر أو يخفي على ذي بصيرة وبصر للأسباب المذكورة آنفاً، وهي أسباب قوية حرية أن توجهنا توجيهاً رشيداً نحو العلم والأدب إن أحسنا الاسترشاد بها والتهدي بهديها، ولكن لابد للطفل من أن يقلد أباه بادئ ذي بدء حتى يكبر فيرسم لنفسه طريقاً في الحياة ليسير عليه، ولعلنا نجتاز الآن - في ثبات وهدى من أبصارنا وبصائرنا - هذه المرحلة

(السودان: الجزيرة أبا)

بشري السيد أمين

ص: 32

‌أحلام (المنصورة)

للأستاذ صالح جودت

آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟

يومَ وَدَّعْتُكِ وَدَّعْتُ شَبَابِي!

أين أحلامي على تلك الروابي؟

ذابت الأحلامُ في قلبي المذابِ

لي حبيبٌ فيكِ أفْدِيه بعُمري

سُمْرَةُ النيل على خديّه تجري

هو إبهامي وأحلامي وشعري

ونعيمي بين عينيه وسُكري

كان عند الليلة الظلماء بدري

وله نجواي في دُنيا اغترابي

يا ترى يذكرني بعد الغيابِ؟

آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟

يومَ وَدَّعْتُكِ وَدَّعْتُ شَبَابِي!

يا عروس النيل والبحر الصغيرِ

حَدِّثي عن مَلِكِ الغرب الغرير

يومَ أنْ جاءكِ في ذُل الأسير

لِفتىً من آل أ ُّ بَ أمير

ذكْرُهُ لا زال نفَّاحَ العبير

وَهَبَ النصرِ إلى الأُسْدِ الغِضَابِ

مِنْ بَنِي (المنصورة) الغُرِّ الأَوابي

آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟

يوم ودعتك ودعت شبابي!

يا مُنَى الشرق وباريسَ الجَنُوبِ

مَنْ كأبنائِكِ في غَزْوِ الشعوب

شهداء المجد أبطال الحروب

وكغاداتك في غَزْوِ القلوب

بالعيون السُّودِ واللحظ اللَّعوب

المنى بَعْدَكِ مِنْ وَهْمِ السَّرَابِ

والصِّبي في غير لُقْياكِ تصابى

آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟

يوم ودعتك ودعت شبابي!

ص: 33

قد صحبتُ النيل من فجر الصعيدِ

لرشيد وإلى أخْتِ رشيد

ما وعى لحني ولا غنى نشيدي

غيرَ غاداتك في الخطو الوئيد

حين يَخْطرْنَ على النيل السعيد

بالوجوه السُّمْح كالنور المذاب

يَتَهادَيْنَ بمعسول الدُّعَابِ

آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟

يوم ودعتك ودعت شبابي!

ص: 34

‌البريد الأدبي

ما لم ينشر من أدب الرافعي

في العدد الماضي من (الرسالة) قطعة ممتعة للمرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، فات الأستاذ العريان أن يضمها إلى مقالات الرافعي التي جمعها في الجزء الثالث من كتاب (وحي القلم)؛ والرافعي - طيب الله ثراه - كان أديب العربية الذي لا يلحق في صوغه وغوصه؛ لذلك كان كل ما يخطه قلمه تحفة فنية غالية، يجب أن يحرص عليها الأدب العربي

(لقد كان الرافعي في الكتابة طريقة وحده!)، كما قال الأستاذ الزيات بحق؛ فهل من عجب أن يعد الباحث الذي يعثر على مقالة ضائع له، أو قطعة مفقودة من وضعه، كالذي عثر على كنز أو ثروة!؟

إن الأستاذ العريان قد أدى للأدب العربي خدمة جليلة، حين شغل نفسه بجمع آثار الرافعي التي لم يسبق نشرها مجتمعة في كتاب واحد؛ وهو بإصداره الجزء الثالث من كتاب (وحي القلم)، قد أطلعنا على كنوز مخفية، أو ضائعة، طالما تاقت نفوسنا إلى الاطلاع عليها. . . يقول الأستاذ العريان في تصديره للجزء الأول من (وحي القلم): أما الجزء الثالث، فهذه طبعته لأولى؛ كان قصاصات من صحف، وصفحات من كتب ومجلات، فعاد كتاباً بين دفتين. . . وقد جمعت ما قدرت عليه بعد، فأضفته إلى ما جمع المؤلف، ورتبت كل ذلك وهيأته للمطبعة؛ فإن كان قد فاتني شيء مما ينبغي إضافته إلى ذلك الجزء. . . فمعذرة إلى قارئه؛ ولعلني - بمعونة القراء - أستدرك في الطبيعة الثانية - إن شاء الله - ما فاتني في الأولى)

وقد عثرت - عرضاً - على قطعة للرافعي عن (الإحسان الاجتماعي) المنشورة في صدر هذا العدد، فرأيت أن ألفت إلى ذلك نظر الأستاذ العريان، حتى يضمها إلى الجزء الثالث من (وحي القلم) في الطبعة الثانية إن شاء الله؛ وهذه القطعة قد ألقيت في سبتمبر سنة 1914. وعلى الرغم من أن الرافعي كان يومئذ - لا يزال - أديباً ناشئاً في مقتبل العمر - إذ كان لا يتجاوز الرابعة والثلاثين - إلا أننا نلمح في هذه القطعة روح الرافعي وطريقته في الكتابة بشكل ظاهر. وهذا يدلنا على أن طريقته في الإنشاء قد استقامت له منذ زمن

ص: 35

بعيد!

وقد أرفقت هذه القطعة بكلمتي هذه، حتى يطلع عليها قراء لرسالة الغراء، ورأيت أن أحذف منها قطعة صغيرة بدأ بها الرافعي كلامه، مبيناً الظرف الذي دعاه إلى الكلام

(مصر الجديدة)

زكريا إبراهيم

زواج الأدباء للرافعي

أرسل إلينا الأديب نعمان أحمد عسكرية يقول: إن مقال (زواج الأدباء) الذي بعث به إلينا ونشرناه في (العدد 482)، قد عثر عليه مصادفة في مجلة كانت تصدر في القاهرة باسم (الإشاعة) وهو جواب الرافعي عن استفتاء وجهه محررها إلى رجال الأدب

حول نسخ الأحكام

أقول رداً على المقال المنشور في العدد 483 من مجلة الرسالة بعنوان (حول نسخ الأحكام): إن الإمام أبا جعفر بن النحاس يرى أن القول بشمول النسخ للأخبار يؤول إلى الكفر، وأن القول يجعل النسخ إلى الأمام أشد كفراً - كما في نصه المنقول في تعقيبي السابق وهو موضع البحث - فيثبت بالضرورة أنه لم يعز القول بجعل النسخ للأمام إلى فرقة إسلامية عنده، لظهور أن فئة يذكرها بأشد الكفر لا تكون فرقة إسلامية في نظره. فقول كاتب المقال:(فأما أن أبا جعفر لم يعز القول بذلك إلى فرقة إسلامية فليس بصحيح) - مع اعترافه بأن أبا جعفر ابن النحاس يكفر تلك الفرقة - يكون من قبيل إنكار النتيجة بعد التسليم بالمقدمتين

ذلك وقد أطبق أصحاب كتب الملل والنحل على أن الإسماعيلية الباطنية ليسوا بمسلمين وإن تظاهروا بالإسلام على ما يظهر من كتاب الرد على الباطنية لابن رزام، والفهرست لابن النديم، وكشف الأسرار للباقلاني. والفرق بين الفرق. وكتاب أصول الدين لأبي منصور البغدادي، والفصل لابن حزم، والتبصير لأبي المظفر الاسفراييني، وفضائح الباطنية للغزالي، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للفخر الرازي، وغيرها فليتفضل كاتب المقال بذكر واحد من أهل هذا الشأن يعدهم من فرق المسلمين غير الداخلين في فرق

ص: 36

الكفر فنعذره بعض عذر في حسبانه الباطنية الإسماعيلية من فرق الإسلام لو وجد سبيلاً إلى ذلك، وليس بواجد

على أن من الظاهر كل الظهور أن جعل نسخ الوحي المنزل من حكيم حميد بين شفتي شخص بعد انقطاع زمن الوحي لا يعقل أن يصدر ممن يدين بدين الإسلام، فثبوت بطلان مثل هذا الرأي لا يحوج إلى أكثر من تصور طرفي الحكم من داع لما يقال له

وكون الدولة الفاطمية من الإسماعيلية الباطنية لا يزيدهم إلا سوء مخبر. وبناء القائد جوهر الأرمني الصقلي للجامع الأزهر لا يبرئهم من نحلتهم الإلحادية المكشوفة. ثم إن الجامع الأزهر إنما نعتز به كجامعة إسلامية منذ تولى أمره ملوك الإسلام وحماة السنة الغراء من عهد الظاهر بيبرس، وكان قبل ذلك محشداً للإسماعيلية ذكورهم وإناثهم يجتمعون فيه للعن الصحابة علناً جهاراً لنشر دعوتهم الإلحادية ليلاً ونهاراً؛ ولم يكن الأزهر في زمنهم جامعة، بل كان يحلق فيه فقهاء مذهبهم بين الظهر والعصر من يوم الجمعة في عهد الوزير بن كلس لإلقاء عظات في مذهب الرفض والباطنية. ويقول الإمام الباقلاني عنهم في كشف الأسرار:(هم قوم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض) وفي المنتظم لابن الجوزي، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ ابن الوردي صورة ما أصدره القضاة والأشراف وعلماء المذاهب ببغداد في تبيين أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح، وأن والد عبيد الله الذي تنتمي إليه العبيدية كان يهودياً صباغاً بسلمية حمص، وأنهم زنادقة أعداد للإسلام. وفي (اللمعات البرقية لابن طولون) ذكر نماذج من إلحادهم وزائف نسبهم. ونجد في كشف أسرار الباطنية للحمادي عند الكلام في تدرج الداخل في عودتهم ما نصه (قالوا له قرب قرباناً يكون لك سلماً ونجوى ونسأل لك مولانا (الإمام المعصوم) أن يحط عنك الصلاة ويضع عنك هذا الإصر، فيدفع أثنى عشر ديناراً، فيقول ذلك الداعي: يا مولانا إن عبدك فلاناً قد عرف الصلاة ومعانيها، فاطرح عنه الصلاة، وضع عنه هذا الإصر وهذا نجواه اثنا عشر ديناراً، فيقول: أشهدوا أني قد وضعت عنه الصلاة ويقرأ له (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) فعند ذلك يقبل إليه أهل هذه الدعوة يهنئونه ويقولون: الحمد لله الذي وضع عنك وزرك الذي انقض ظهرك. . .) وهكذا. وقد أفاض المقريزي في خططه في بيان المجالس التي يعقدها الداعي للذكور والإناث، ومنازل الدعوة، وعدد

ص: 37

النطقاء إلى السابع الذي ينسخ الشرائع، وهو صاحب الزمان محمد بن إسماعيل ابن جعفر وهو سابع الأنبياء النطقاء في نحلتهم، ونبيناً فخر الرسل عليه الصلاة والسلام سادسهم عندهم، إلى غير هذا مما تضيق مجلة الرسالة عن بسطه الآن

صلاح الدين شفيق

ص: 38