الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 485
- بتاريخ: 19 - 10 - 1942
أفعالهم من أمثالهم
للأستاذ عباس محمود العقاد
من مؤلف الأمثال؟
تلك الآيات القصار من موجز البلاغة من صائغها ومنتقى ألفاظها ومودع الحكمة في خلالها؟ إنها أسلوب غير أسلوب الفرد في كلامه، ولكن الأمم لا تجتمع للتأليف والصياغة فيقال أنها من تأليف أمة في أجيالها المتعاقبة. وهي بلا ريب لم تؤلف نفسها ولم تكن قولاً بغير قائل. فأصدق ما يقال فيها إنها كلام فرد صقلته الأمم جيلاً بعد جيل، وإنها وحي الإنسانية أجرته على بعض الألسنة وتعهدته بعد ذلك بالتنقيح والمراجعة فليست هي لغة فرد ولا صياغة أمة، ولكنها مساهمة من كل بما يستطيع فيها. فالفرد يستطيع أن يصوغ الكلام، والأمة تستطيع أن تقبل أو ترفض حتى يستقيم لها القول على ما تحب، ومن هذا وذاك تتجمع الأمثال
وقد اتفق في أمثال الأمم أمران عجيبان كأنهما متناقضان لا يتفقان
فأمثال الشعوب تتشابه في مغزاها، وتتوارث في محصولها ومؤداها، حتى يصح أن يقال في هذه الناحية إن الأمثال إنسانية عالمية يتفق فيها جميع الناس.
لكن أمثال الشعوب مع هذا قومية وطنية تدل على أهلها وتنم عن خلائق ملة بعينها، فلا تقرأ أمثال العرب دون أن تعرف منها شيئاً عن العرب لا تعرفك مثله عن الفرس أو الترك أو الروم، ولا تقرأ نخبة من أمثال الأوربيين إلا فرقت بينها وبين نخبة من أمثال الآسيويين أو الأمريكيين. فهي تكشف لنا الإنسانية لأن الأمم كلها من بين الإنسان، وتكشف لنا كل أمة على حدة لأن الناس يختلفون كما يتفقون، ولا تناقض بين الأمرين
ظهر في العهد الأخير كتاب إنكليزي عن الأمثال الروسية من أوفى ما كتب عن هذه الأمثال. فأوجز ما يوصف به إنه يلقي لك ضياء على كل حادث عظيم في تاريخ هذه الأمة ماضيها وحاضرها، منذ جلت عن سهوب آسيا إلى أن وقفت في حربها مع الألمان موقفها المجيد الذي قلت نظائره في تاريخ الحروب!
تقرأ هذه الأمثال فتوقن أن الروس والجرمان لا يعيشون في السلم والوئام إلى زمن طويل. وأول هذه الأمثال قولهم: إن (ما ينفع الروسي هلكة للألماني). . . ومصداق ذلك في
الحرب الحاضرة غير بعيد
ومن تلك الأمثال وفيها الدلالة على الحرب التي يحسنها الروسيون، أن البحر جميل من الشاطئ، وأن البعيد عن البحر بعيد عن الأحزان، وأن الموت أخ للجندي الروسي، وأن امرأة هذا الجندي ليست بزوج ولا بأيم، وأنه (ما كل رصاصة تصيب عظمة في الجسد؛ فقد تصيب الرصاصة الفراغ!)
وقلما دخل الروس حرباً إلا تركوا بعدها أمثالاً تنبئنا ببعض أنبائها. فمن بقايا حرب نابليون مثلهم القائل: (ما أسعد الفرنسي بغراب!) لأن جنود نابليون كانوا يتصيدون الغربان التي تأكل قتلاهم فيطبخونها وهم هلكى من الجوع!
ومن بقايا حروبهم مع الترك ذلك المثل الذي يفيض بالسخرية والشهادة لشجاعة الخصمين: (يتساقط الترك، ولكننا والحمد لله صامدون في الميدان. . . بغير رؤوس!)
ولعلنا لا نعرف جهاد الروس في طلب الحرية من بضع كلمات كما نعرفه من الكلمات القليلة التي يجمعونها في قولهم: (تبحث عن شجاع. . . اذهب إلى السجن!)
فقد مضى على الروس حقاً ذلك الزمن الذي كانت فيه السجون أجدر الأمكنة أن تبحث فيها عن الرجل الشجاع، وذلك زمن الثورات، أو زمن الجهاد في طلب الحرية، أو زمن التمرد على السلطان الذي لا خير فيه
ويذكر القراء أن قياصرة الروس كانوا من أكبر الدعاة إلى السلم في عهدهم الأخير، وأن حكيم الروس الكبير - تولستوي - كان أكبر دعاة السلام في أوائل القرن العشرين. ولكن الروس وحدهم هم الشعب الذي سجل خيبة الأمل في السلم كما تمناه منهم الرؤساء والمصالحون، فقالوا في أمثالهم:(إن السلم الدائم ليدوم. . . ولكن إلى أول حرب مقبلة. . .)
وهكذا أوحت الحكمة إلى ألسنة الدهماء، ما لم توحه إلى الساسة ولا إلى الحكماء
وكل خلائق الروس ظاهرة في أمثالهم الشعبية، وليست خلائقهم في حروبهم وثوراتهم وكفى؛ فهم معروفون بالتواكل والاستسلام للقدر فيما ينوبهم من عثرات الجدود، وذلك ظاهر في قولهم:(إذا طرق بابك الجد العاثر فافتحه له على مصراعيه). . . يريدون أن الجد غالب على أمره؛ فكل حذر في اتقائه لا يفيد
وهم معروفون بالمداورة بين القادرين المسيطرين عليهم، وذلك ظاهر في قولهم:(صل لله ولكن لا تهيج الشيطان!)
وهم معروفون بالحذر الدائم، وهو ظاهر في قولهم:(للخوف عيون واسعة) وقولهم: (من الحياة نخاف لا من الموت!)
وهم يتباطئون عن الجد كما يظهر من مثل الفلاح القائل: إلى الغيط. . . ما آلم هذا المغص في الأحشاء! إلى ألحان. . . هاتي المعطف يا امرأة، وعجلي!)
وتواكلهم مع معيشتهم في البيوت تظهر من أمثلة كثيرة في معارض شتى، منها:(إذا أقدمت على الزواج فلا تطيلي همك. . . ستعلمين متى يحين الموعد المقدور للبكاء ساعة يضربك زوجك!)
ومنها: (تزوج كبراهن وانظر إلى أمها وأبيها، أما الصغرى فلا تتزوج بها إلا وقد نظرت إلى أختها الكبرى)
ومنها: (زوجي سيئ أخافه، ولكني أكون معه فلا أخاف من أحد غيره!)
ومنها: (سأحفظ حكايات الخرافة متى رزقت الأحفاد)
وبسبيل من هذا وإن ظهرت فيه مناقضة للتواكل قولهم: (حسبما تهيئ فراشك يكون رقادك!)
وقولهم: (عش كما يتاح لك، ومت كما تتمنى!) أو قولهم: (من لم يكن صحيحاً في العشرين، عاقلاً في الثلاثين، غنياً في الأربعين، فلا أمل له في الصحة والعقل والغنى، حتى يموت)
ويقولون وفيه دليل على سوء الظن بالدنيا: (نرفع عقائرنا بالغناء فيسمعنا الناس، ونرفع عقائرنا بالعويل فليس للناس آذان)
ويقولون: (إن كان لابد من غرق فالبحر اللجي خير من البركة الآسنة) وفيه مشابهة لقول المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم
…
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
…
كطعم الموت في أمر عظيم
ويقولون وفيه صدق الغرض وإن لم يكن فيه صدق التاريخ: (موسكو أحرقتها شمعة
بدرهم)
فشمعة بدرهم قد تحرق موسكو حقاً، وإن لم تكن أحرقتها في حرب نابليون
ومن أبرع أمثالهم قولهم: (يولد الإنسان ليموت، ولكنه يموت ليحيا)
ومنها في فضل الوقاية: (يخاف الهواء الأصفر ممن يخافه) ومنها في المساواة والفوارق بين الناس: (عيوننا تملأها شمس واحدة، وبطوننا لا يملأها طعام واحد) ومنها: (من سكن بجوار المقابر لم يحزن على كل فقيد) ومنها: (راقب الجدي من أمام، وراقب الحصان من وراء، وراقب الشرير من كل جانب) ومنها في رشوة الحكام: (من باب الطريق صد ومن باب السر ترحيب)
وعلى الجملة يندر أن نعرف الروس من كتاب واحد كما نعرفهم من هذا الكتاب الذي جمع لنا المئات من أمثالهم المنتقاة
ونعتقد أن هذا هر شأن الأمثال في كل أمة وفي كل طبقة وفي كل جيل، وربما أغنتنا ثلاثة أمثال أو أربعة عن قراءة سفر مطول في أخلاق بعض الأمم خلال فترة من الفترات
فأي كتاب يدلنا على أخلاق المصريين في القرن الماضي كما يدلنا عليها مثلهم القائل: (أردب ما هو لك لا تحضر كيلة، تتعفر دقنك وتتعب في شيله) أو مثلهم القائل: (اللي يجوز أمي أقول له يا عمي) أو مثلهم القائل: (إن عبدوا تور حش وارمي له) وما شابه هذه الأمثال
فثلاثة أمثال من هذا القبيل تلخص لنا تاريخ الاستبداد في ذلك القرن وما أحدثه في مصر من التفكك واجتناب التعاون ومداراة الظلم والإذعان لكل آمر والعجز عن كل مقاومة
ومئات منتقاة من هذه الأمثال في شتى المعارض تجمع لنا من الأخلاق القومية والدلائل التاريخية ما يتفرق في كتب مختلفات تتكلم عن الأخلاق ولكنها لا تعرض لنا تلك الأخلاق عرضاً مجسماً كما تعرضها الأمثال
ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ قلة التمثل بالأمثال في هذه الأيام سواء بين المصريين أو بين الأمم الأخرى
فأبناء العصر الحاضر لا يحفظون أمثال أمتهم ولا يكررون ما يحفظونه منها، وليس هذا بعجيب إذا نظرنا إلى الخلق الغالب بين أكثر المحدثين
فقل في أبناء عصرنا من يقتدي بالسلف أو يحب أن يقال عنه أنه ممن يقتدي بهم في المعيشة والسلوك. ولا معنى لسرد الأمثال ما لم يكن ديدن السلف حجة مقبولة بين القائلين والسامعين
إنما الخلق الغالب في عصرنا أن يباهي الرجل في يومه بمخالفة أمسه، وأن يجري في كل حين على بدعة لم يسبقه فيها سابق قبل حينه، وأن يتهالك على الجديد ولو لم تكن له مزية غير الجدة العابرة. وهذه حالة من الحالات النفسية لا توائمها متابعة الأمثال، أو تحريها في الأقوال والأعمال؛ بل هي تستدعي كلاماً يناقض المثل في لبابه ومرماه، وهو الارتجال المقتضب الذي لا يتعدى ساعته إلى ما وراءها، ولا يصلح للتكرار والاستشهاد
ولهذا تسنح الفرصة اليوم للحرص على ذخائر الأمثال، والاستزادة من مجموعاتها التي يخاف عليها النسيان والإهمال؛ فإنها لموصولة يوماً لا محالة، وإن طال عهد الانقطاع والارتجال.
عباس محمود العقاد
مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية
نقلاً عن (برنارد لويس)
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
3 -
القرن التاسع عشر
تقدمت الدراسات العربية في القرن التاسع عشر تقدماً عظيماً في جميع الأقطار المهمة في أوربا. ولقد كان من نتائج حملة نابليون في مصر أن أصبح الشرق الأدنى العربي في مقدمة الأمور السياسية الأوربية، وأن استعيد الاتصال بين العرب والفرنك بعد انقطاع دام قروناً عديدة، فشرع الكثيرون من الرحالين الأوربيين يزورون الشرق، ودخل عدد كثير من الطلاب المصريين في جامعات أوربا الغربية لدراسة ثقافة الغرب وفنه، واستثارة اهتمام جديد بالثقافة العربية بين الغربيين
وقد بدأ العلماء الفرنسيون الذين رافقوا نابليون الحركة العلمية الجديدة في الاستشراق الأوربي. والعلماء الفرنسيون هم من أبرز المشتغلين باللغة العربية في مطلع القرن التاسع عشر. وقد أنشأ المستشرق الفرنسي العظيم (سلفستر دي ساسي) جيلاً كاملاً من العلماء من جميع الجنسيات
وكذلك نجد في إنكلترا مجموعة منظمة ذات شأن من المشتغلين بالعربية، فكان إنشاء كرسي جديد للغة العربية في جامعة لندن - وكانت قد أنشأت حديثاً - وتكوين (الجمعية الآسيوية الملكية)، وهي مجمع مستشرقي الإنكليز، مما أثر في الاندفاع الجديد نحو الأبحاث الاستشراقية. وأصبح العلماء الإنكليز في الهند وهم الذين يدرسون لغة الإسلام ومدنيته للهنود يجدون أنفسهم ملزمين بدراسة اللغة العربية التي هي مصدر جميع الثقافات الإسلامية في كل اللغات. واكتسبت آثار المشتغلين بالعربية في القرن التاسع عشر ميزة وفائدة جديدتين نتيجة للتقدم الحاصل عند العرب أنفسهم. ففي خلال القرن التاسع عشر دخلت الشعوب التي تنطق بالعربية في دور بعث ثقافي وطني. وقد كابدوا في بداية الأمر مشقة من جراء قلة الكتب العربية المطبوعة، وقلة المطابع أيضاً، ولذلك كانت الطبعات الأنيقة العديدة للمؤلفات العربية الخالدة التي نشرت في أوربا - وقسم كبير منها في إنكلترا
- ذات فائدة عظمى للجيل العربي الجديد من القراء، ومكنتهم من الحصول على مادة لم يكن الحصول عليها ممكناً من غير ذلك المصدر. وفي آخر الأمر، عندما أنشئت المطابع في الشرق وبدئ بطبع الكتب محلياً، كانت الكتب تطبع وفق النصوص العربية، وبذلك قام المستشرقون بدور مهم في إعادة ثقافة العرب إليهم، وقضوا دين عرب القرون الوسطى الذين نقلوا كتب الإغريق إلى الغرب
وليس في وسعنا في هذا المجال أكثر من أن نذكر بعض الشخصيات البارزة من بين المشتغلين بالعربية من الإنكليز. ونقتصر على أشخاص مثل (ج. هـ. هندلي) وهو أحد العلماء البارعين في الفارسية والعربية، ومن جملة مؤلفاته ترجمة ودراسة - في الإنجليزية - عن الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي. و (م. لمسدن) الذي كان أستاذ اللغتين العربية والفارسية في كلية (قلعة وليم) في الهند. وقد ألف أجرومية عربية كانت كثيرة التداول في القرن التاسع عشر في أوربا والهند كليهما. ومما يجب ذكره أن أولى المحاولات الإنجليزية لتنظيم التعليم في الهند كانت تشمل اشتراط دراسة اللغة العربية من مسلمي الهند، وكان (لمسدن) أحد الإنكليز الكثيرين الذين ساعدوا على إنجاز هذا الأمر، وكان في كلية (قلعة وليم) - وهي أولى الكليات الإنجليزية في الهند - كرسيان للغتين العربية والفارسية.
وكان أعظم الشخصيات الإنجليزية - بل الأوربية أيضاَ - بلا مراء في مطلع القرن التاسع عشر هو المستر إدورد وليم لين (1801 - 1876).
اهتم (لين) مزيد الاهتمام بالدراسات الاستشراقية منذ فجر شبابه وعلى الأخص بمصر، وسافر في يوليه سنة 1825 إلى الإسكندرية في زيارته الأولى لمصر، وكان السفر في البحر الأبيض المتوسط وقتئذ لا يزال كبير الخطر، ولم تخل رحلته تلك من مخاطر، فقد أصاب السفينة إعصار، وعجز قائدها عن إدارة دفتها، ولم يكن على ظهرها من يحسن القيادة، وبالرغم من أن (لين) لم يركب سفينة قط في حياته، فإنه أخذ الدفة بيده، واستطاع أن ينقذ السفينة من التحطيم بفضل معلوماته الرياضية. وحدث بعد ذلك أيضاً أن قامت في السفينة ثورة كادت تودي بحياته. وبعد سفر شهرين وصل (لين) إلى مصر حيث بقى إلى خريف سنة 1828 وقضى معظم الوقت في القاهرة. ومع أن رغبته الأصيلة كانت دراسة المصريين القدماء، فإنه سرعان ما وجد أحفادهم المحدثين أحق منهم بالدراسة بكثير، فشرع
تو إقامته، في دراسة واسعة للغة العربية فحذقها حذقاً تاماً كتابة ولفظاً. وقد أفادته تلك الرحلة إلى الشرق - وهي الرحلة التي كان يتحرق شوقاً إليها - خبرة معنوية عظيمة. وقد قال في مذكراته:
عندما نزلت إلى الأرض لأول مرة داخلني شعور طاغ يشبه شعور عريس على أهبة رفع القناع عن وجه عروسه التي لم يرها من قبل. ولقد كان تأثره بعد ذلك بما رأى عميقاً، وامتلأ إعجاباً عظيماً بكل ما يمت إلى الإسلام بصلة
وعندما عاد إلى إنجلترا، كان قد درس مصر وشعبها ولغته دراسة عميقة، وكتب وصفاً مسهباً مخطوطاً عن الحياة في مصر. فلما طلب إليه أن يقوم بنشره أصر على الرجوع ثانية إلى مصر قبل طبع الكتاب استجابة لولوعه بالدقة العلمية التي كانت إحدى ميزات آثاره، فخصص رحلته الثانية في سنة 1833 - 35 لدراسة دقيقة عن الحياة في القاهرة. وكان من عادته في مصر أن يرتدي اللباس الذي يرتديه المصريون، وأن يقتصر في علاقاته على المصريين المسلمين. وقد اتخذ لنفسه داراً في القاهرة وعاش العيشة المعتادة التي يحياها أديب مصري من جميع الوجوه. وكانت هذه الأمور، مضافاً إليها طلاقة نطقه العربي وصحته، وشيء من السمة الشرقية في تقاطيعه، قد مكنته من أن يعيش كمصري بين المصريين، وأن يختلط بالمجتمع القاهري اختلاط الصديق والند. وكان يعرف في مصر باسم (منصور أفندي)
وعند عودته للمرة الثانية إلى إنجلترا نشر كتابه المشهور (وصف شمائل وعادات المصريين المحدثين) في جزءين فقوبل في الحال كأثر خالد، ونفدت الطبعة الأولى منه في أسبوعين، ولحقتها أخريات عديدات، كما أنه طبع في ألمانيا وأميركا واعتبر من مخلدات الأدب الإنجليزي، وهو يحتوي على وصف الحياة القاهرية وعاداتها، قبل أن يحل بها هذا التغيير الذي جعل منها مدنية حديثة. ولذلك فإنه سجل صحيح لعصر يكاد يكون غابراً، بدقة في الوصف فائقة، وهو مستند تاريخي ذو أهمية عليا لا يستغني عنه جميع الطلاب في مصر حتى الآن.
(للموضوع بقية)
عبد الوهاب أمين
راقصة.
. .
للأستاذ علي محمود طه
سَرَتْ بين أعينهم كالخيالْ
…
تعانقُ آلهةً في الخيالْ
مُجَرَّدةً حسبتْ أَنها
…
من الفنِّ في حَرَمٍ لا يُنَال
فليستْ تُحِسُّ اشتهاَء النفوس
…
وليستْ تُحِسُّ عيونَ الرجال
وليستْ ترى غير معبودها
…
على عرشه العبقريِّ الجلال
دعاها الهوى عنده للمثول
…
وما الفنُّ إلا هوىً وامتثال
فخفَّتْ له شِبْهَ مسحورةٍ
…
عَلَتْ وجهها مَسْحَةُ من خَبال
وفي روحها نشوةٌ حلوةٌ
…
كمهجورةٍ مُنِّيَتْ بالوصال
تراها وقد طوَّفَتْ حوله
…
جلاها الصِّبَى وزَهاها الدلال
تضمُّ الوشاحَ وَتُلْقِي به
…
وفي خَطوها عِزَّةٌ واختيال
كفارسةٍ حضنتْ سيفها
…
وألقتْ به بعد طول النضال
تمدُّ يديها وتثنيهما
…
وترتدُّ في عِوَجٍ واعتدال
كحوريَّةِ النبع تطوي الرِّشاَء
…
وتجذبُ ممتلئاتِ السجال
مُحَيَّرَةَ الطيف في مائجٍ
…
من النور يغمرها حيث جال
تُخَيَّلُ للعين فيما تَرَى
…
فراشةَ روضٍ جَفَتْهَا الظلال
وزنبقةً وَسْطَ بَلورةٍ
…
على رفرف الشمس عند الزوال
تَنَقَّلُ كالحُلمْ بين الجفون
…
وكالبرق بين رؤوس الجبال
على إصبعيْ قَدَمٍ ألْهِمَتْ
…
هبوبَ الصَّبا ووثوبَ الغزال
وتُجْرِي ذراعيْنِ منسابتين
…
كفرعين من جدولٍ في انثيال
كأنهما حولها تَرْسُمَانِ
…
تقاطيعَ جسمٍ فريدِ المثال
أبَتْ أنْ تَمُسَّاهُ بالرَّاحتين
…
ويَرْضى الهوى ويريد الجمال
ومن عَجَبٍ وهي مفتونةٌ
…
تُرِيكَ الهوى وتُرِيكَ الضلال
تَلَوَّى وتسهو كلُهَّابةٍ
…
تَرَاقصُ قبل فناءِ الذُّبال
وتعلو وتهبط مثل الشِّراع
…
تَرَامَي الجنوبُ به والشَّمال
وتعدو كأنَّ يداً خلفها
…
تُعَذِّبُهَا بسياطٍ طوال
وتزحفُ رافعةً وجهها
…
ضراعةَ مستغفرٍ في ابتهال
وتسقط عانيةً للجبين
…
كقُمْرِيَّةٍ وقعتْ في الحبال
تَبِضُّ ترائبها لوعةً
…
وتخفِقُ لا عن ضَنىً أو كلال
ولكنه بعضُ أشواقها
…
وبعضُ الذي اسْتَوْدَعَتْهَا الليال!!
علي محمود طه
من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)
دّنيَّةُ القاضي
في العصر العباسي
للأستاذ ميخائيل عواد
الدنية وتجمع على الدنيات، قلنسوة بشكل الدَّن (وهو الحب عند العرافين له عسعس)، محدودة الأطراف، طولها نحو شبرين تتخذ من ورق وفضة على قصب (عيدان)، وتغشى بالسواد، وتزين أحياناً بشنائق صفر طوال تتدلى على الصدر كان يلبسها القضاة عامة، في العصور الإسلامية السالفة، كما يلبسها الخطباء والأكابر أحياناً
قال الشريشي في شرح المقامة التاسعة للحريري: إن أصل الدنية: الدنينة كسفينة. . . وليست من كلام العرب، إنما هي من الألفاظ المستعملة في العراق. . . إه. والصواب: أن الدنية عربية منسوبة إلى الدن وليست بالدنينة
والغريب أن هذه اللفظة وردت في (النجوم الزاهرة) باسم (المدينة) وهذا تحريف ظاهر
وكان من أهم ماجريات سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة، أن (أبا جعفر المنصور أمر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وأن يعلقوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم). فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي، فقال له أبو جعفر: ما حالك؟ قال: شر حال! وجهي في نصفي، وسيفي في لستي، وكتاب الله وراء ظهري، وقد صبغت بالسواد ثيابي. فضحك منه وأعفاه وحده من ذلك، وقال له:(إياك أن يسمع هذا منك أحد). قال أبو الفرج الأصفهاني: (ونسخت من كتاب لابن النطاح، فذكر مثل هذه القصة سواء وزاد فيها:
وكنا نُرَجِّي من إمام زيادةً
…
فجاد بطول زاده في القلانس
نراها على هام الرجال كأنها
…
دنان يهود جللت بالبرانس
والظاهر أن الرشيد لم يحب هذا التغيير الذي أحدثه المنصور من قبله، فقد حكى الجاحظ أن العماني الراجز (دخل على الرشيد لينشده شعراً وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج، فقال: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان دمالقان. . . فبكر من الغد وقد تزيا
بزي الأعراب فأنشده. . .)
ثم جاء المعتصم فأعاد لبس القلانس الطوال تشبهاً بملوك الأعاجم، فلبسها الناس اقتداء به، وسميت المعتصميات.
ومما ذكره الجاحظ في اختلاف الناس في صنوف اللباس قوله: (. . . وهل ذلك إلا كتعظيم كور العمامة، واتخاذ القضاة القلانس العظام في حمارة القيظ، واتخاذ الخلفاء العمائم على القلانس! فإن كانت القلانس مكشوفة زادوا في طولها وحدة رءوسها حتى تكون فوق قلانس جميع الأمة. . .).
ولم يكن لبس الدنيات قاصراً على قضاة العرب، بل تعداهم إلى غيرهم من الأمم، فهذا الاصطخري الرحالة البلداني يقول في عرض كلامه على صور أهل فارس وزيهم:(وأما قضاتهم فإنهم يلبسون الدنيات وما أشبهها من القلانس المشمرة عن الأذنين، مع الطيالسة والقمص والجباب، ولا يلبسون دراعة ولا خفاً بكسرة، ولا قلنسوة تغطي الأذنين. . .)
وكان القضاة يتفردون بلبس هذه القلانس الطوال أينما وجدوا، وقد يدفعهم الأمر إلى منع كافة الناس من لبسها. فقد أنبأنا الكندي في نحو سنة 230هـ بقوله:(كان زي أهل مصر وجمال شيوخهم، وأهل الفقه والعدالة منهم لباس القلانس الطوال؛ كانوا يبالغون فيها، فأمرهم ابن أبي الليث (القاضي) بتركها ومنعهم لباسها وأن يشبهوا بلباس القاضي وزيه فلم ينتهوا. قال ابن عثمان: فجلس ابن أبي الليث في مجلس حكمه في المسجد واجتمع أولئك الشيوخ عليهم القلانس؛ فأقبل عبد الغني ومطر جميعاً فضربا رؤوس الشيوخ حتى ألقوا قلانسهم. قال: وأخبرني محمد بن أبي الحديد قال: حدثني عتبة بن بسطام قال: رأيت قلانس الشيوخ يومئذ في أيدي الصبيان والرعاع يلعبون بها، وكانوا بعد ذلك لا يدخلون إلى ابن أبي الليث ولا يحضرون مجلسه في قلنسوة
وأنشدنا إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن تميم للجمل:
وأخفت أيام الطوال وأهلها
…
فرموا بكل طويلة لم تقصر
ما زلت تأخذهم بطرح طوالهم
…
والمشي نحوك بالرؤوس الحسَّر
حتى تركتهم يرون لباسها
…
بعد الجمال خطية لم تغفر
يتفزعون بكل قطعة خرقة
…
يجدونها من أعين ومخبِّر
فإذا خلا بهم المكان مشوا بها
…
وتأبطوها بالمكان الأعمَرِ
فلئن ذعرت طوالهم فلطالما
…
ذعرت ومن برؤائها لم يذعرِ
كانوا إذا دلفوا بهن لِمفْضَلٍ
…
أمضى عليه من الوشيج الأسمر
كم موسرٍ أفقرته ومفقَّرٍ
…
أغنيته من بعد جهد مفقرٍ
ما إن عليك لقيت منهم واحداً
…
أوفى العجاج مدججاً في مغفر
لبسوا الطوال لكل يوم شهادة
…
ولقوا القضاة بمشية وتبخْتُرِ
ما بي أراهم مطرقين كأنما
…
دمغت رؤوسهم بحمى خيْبَرِ
أخبرنا ابن قديد عن يحيى بن عثمان قال: لما عزل ابن أبى الليث ترك الكثير من الشيوخ لباس القلانس؛ منهم أبو إبراهيم المزني سمعت كهمس بن معمر يقول: لما أمر ابن أبي الليث بطرح القلانس لم يثبت على لباسها إلا محمد بن رمح فلم يعارض
أخبرني إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن تميم أن النيل كان توقف؛ فاستسقى أهل مصر وحضر بن أبي الليث الاستسقاء، فوثب المصريون بسبب غلاء القمح؛ وأخذوا قلنسوته فلعبوا بها بعدما فعل قلانس أهل مصر بثمانية أيام)
والظاهر أن الدَّنِيَات كان قد ضعف شأنها، وقل استعمالها في بغداد، في المائة الخامسة للهجرة، فقد أشار إلى ذلك هلال ابن المحسن الصابئ (المتوفى سنة 448هـ) في عرض كلامه على جلوس الخلفاء وما يلبسونه في المواكب، وما يلبسه الداخلون عليهم من الخواص وجميع الطوائف. قال:(. . . فأما العباسيون من أرباب المراتب، فزيُّهم السواد بالأقبية المولدة والخفاف، ولهم منازل في شد المناطق والسيوف وتقلدها؛ اللهم إلا أن يكون منهم من قد ارتسم بالقضاء، فله أن يلبس الطيلسان. وأما قضاة الحضرة ومن أهل للسواد من قضاة الأمصار والبلاد؛ فبالقمص والطيالسة والدنيات والقراقفات، وقد تركت الدنيات والقراقفات في زماننا وعدل إلى العمائم السود المصقولة)
وكانت الدنيات تبرز في أيام مواكب الخلفاء في بغداد؛ إذ يحضر صنوف الناس على مراتبهم ورسومهم. قال هلال الصابئ: (وإذا اتفق يوم الموكب حضر حاجب الحجاب بأكمل لباسه: من القباء الأسود المولد، والعمامة السوداء، والسيف، والمنطقة، وقدامه الحجاب وخلفاؤهم، وجلس في الدهليز من وراء الستر، وحضر الوزير وأمير الجيش،
ومن له رسم في حضور الموكب؛ فإذا تكامل الناس راسل الخليفة بذاك، فإن أراد أن يأذن الإذن العام، خرج الخادم الحرمي الرسائلي فاستدعى حاجب الحجاب ودخل وحده حتى يقف في الصحن، ويقبل الأرض، ثم يرسم له إيصال القوم على منازلهم، فيخرج ويدعو ولي العهد، إن كان في الوقت ولي العهد، وأولاد الخليفة، إن كان له ولد، ثم يدخل الوزير، ويمشي الحجاب بين يديه إلى أن يقرب من السرير. . . وأدخل بعده أمير الجيش. . . ثم أصحاب الدواوين والكتاب، وأوصل القواد يقدمهم خلفاء الحجاب على مراتبهم ودعوهم، ووقفوا يميناً وشمالاً على رسومهم، ونودي ببني هاشم ومن يلبس الدنيات ويتقلد الصلوات، فيقدمون إلى أول البساط ويسلمون ويقفون مفردين
للدنية أخبار طريفة كانت في أكثرها مدعاة للسخرية منها، والتمثيل بها. فقد روى أبو الفرج الأصفهاني حكاية قال فيها: أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: كان الخليجي القاضي واسمه عبد الله (بن محمد) ابن أخت علوية المغني، وكان تياهاً صلفاً، فتقلد في خلافة الأمين قضاء الشرقية؛ فكان يجلس إلى اسطوانة من أساطين المسجد، فيستند إليها بجميع جسده ولا يتحرك، فإذا تقدم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده وترك الاستناد حتى يفصل بينهما ثم يعود لحاله، فعمد بعض المجان إلى رقعة من الرقاع التي يكتب فيها الدعاوى فألصقها في موضع دنيته بالدبق وتمكن منها. فلما تقدم إليه الخصوم، وأقبل عليهم بجميع جسده كما كان يفعل؛ انكشف رأسه وبقيت الدنية موضعها مصلوبة ملتصقة، فقام الخليجي مغضباً وعلم أنها حيلة وقعت عليه فغطى رأسه بطيلسانه وقام فانصرف وتركها مكانها حتى جاء بعض أعوانه فأخذها. وقال بعض شعراء ذلك العصر فيه هذه الأبيات:
إن الخليجي من تتايهه
…
أثقل باد لنا من طلعته
ما إن لذي نخوة مناشبة
…
بين أخاوينه وقصعتهِ
يصالح الخصم من يخاصمه
…
خوفاً من الجور في قضيته
لو لم تدبقه كفّ قابضة
…
لطار منها على رعيته
(البقية في العدد القادم) - بغداد
ميخائيل عواد
إلى المعترضين علينا
للأب أنستاس ماري الكرملي
اعترض علينا في (الرسالة) 10: 869 حضرة الأستاذ اللغوي سعيد الأفغاني وغيره على أن جمع أفعل ومؤنثه فعلاء، غير مستند إلى نص صريح! (كذا) كأن قول سيبويه غير موثوق به! وذلك، (لأن نص سيبويه قاصر (كذا)، على أن جمع التكسير لأفعل فعلاً هو فعل العين (كذا). وما أظن أن كيفية تكسير هذه الصيغة كانت محل خلاف؛ وليس فيها شاهد على خطأ قولهم: صخور ملساء
(وإنما كان الأب بحاجة إلى نص صريح يستثني فيه هذه الصيغة من القاعدة العامة، وهي: أن نص جمع التكسير يكون بالمفرد المؤنث وبالجمع على السواء؛ فلك أن تقول: أشهر محرمة، وأشهر محرمات؛ وأياماً معدودة، وأياماً معدودات؛ كما في القرآن الكريم وغيره. فما الذي يفرد صيغة واحدة بين جميع صيغ النص بحكم خاص؟ هذا ما يحوج الأب الإبراه عليه. أما استقراؤه الشخصي، وطلبه من مخالفة الإتيان بشاهد، فلا يردان حجة، لأن المقيس لا يلزم له شاهد انتهى. . .
قلنا: إننا لا نحتاج إلى نص صريح تستثنى فيه هذه الصيغة لأن قاعدة جمع أفعل فعلاً، قاعدة قائمة بنفسها، وليس لها صلة بالقاعدة العامة، إذ هي قاعدة خاصة بهذا الوزن، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة الرواية؛ والمسموع من كلام فصحاء العرب وبلغائهم هي أحسن شاهد، بل أحسن قاعدة لما نريد أن نثبته، ولا يهمنا بعد ذلك ضوابط النحاة، وقواعد الصرفيين، وآراء اللغويين، وتحكمات المتأولين، وأرباب الأحكام العربية، لأنهم لم يستقروا جميع قواعد اللغة المضرية. وبيدنا شواهد لا تحصى تدل على نقصان ضوابطهم وتتبعاتهم واستقراءاتهم، وربما ذكرنا شيئاً منها في فرصة مناسبة
ولهذا لا نعتمد في أغلب الأحايين على قواعد النحاة ولا على ما يقوله اللغويون، إلا إذا اتفق كلامهم وما ورد في الآي القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، وما سمع من كلام فصحاء الأقدمين الصادق النسب إليهم، فإن لم يتفق، لا نحفل بكلام الخليل، ولا بأقوال سيبويه، ولا بآراء تفطويه، ولا بنص عفطويه. فلقد رأينا في الآيات البديعة نعوتاً مختلفة واردة مفردة مؤنثة لموصوفات أو منعوتات مجموعة، كما قال حضرة أستاذنا الكريم النابه
الأفغاني، ونحن تبعناها في جميع ما نكتب، وكتبنا. . . فقد جاء مثلاً في سورة الحج:(والقاسية قلوبهم)؛ وفي سورة الإنسان: (ودانيةً ظلالها)؛ وفي سورة الهمزة: (في عمد ممددة)؛ وفي سورة التوبة: (والمؤلفة قلوبهم). . .
لكننا لم نر مرة واحدة صفة مفردة مؤنثة لموصوف مجموع جمع مكسر كقول أحدهم: كريات حمراء؛ مع إننا وجدنا أمثلة مختلفة وكثيرة لقولهم: أياماً معدودات، وأياماً معدودة؛ وأشهر محرمات، وأشهر محرمة، ولم يستعمل الوجهان، مرة هذا، ومرة هذا، لا لجواز النطق بهما؛ فلماذا لم يأت أمثالها في الآي الفصيح، بل جاءت كلها على فُعل؟ ذلكم - يا سادتي - لأن القول بفعلاء في مثل هذا الموطن لا يجوز البتة، ولأنه غلط شنيع فظيع، تلعنه الإنس والجن، وملائكة السماء، وأهل النار جميعاً!!
وكيف يجوز لك أن تقول: رجال سوداء، ونساء سمراء، ونهارات غراء، وليال سوداء. . .؟ إني أعد ذلك كفراً وبسلاً ولعنة وتحقيراً للغة الضاد!!
وفي المائة والأربع عشر سورة، سبعة وسبعون ألف كلمة، وتسعمائة وأربع وثلاثون كلمة، وليس فيها شاهد واحد على ما يدعي هؤلاء المساكين! وفي تلك السور من لغات القبائل خمسون لغة، وقد استخرجناها من تفسير الطبري الكبير، الواقع في عشرين مجلداً، ومن كتاب الإتقان السيوطي، ودونك أسماء تلك القبائل مرتبة على حروف المعجم:
1 -
أزدشنوءَة 2 - أشعر 3 - أنمار 4 - أوس 5 - بَلِيّ 6 - بنو حنيفة 7 - بنو العنبر (لا بنو الغُبَّر، كما وهم أحدهم) 8 - بنو فُجَاءَة 9 - تغلب 10 - تميم 11 - ثقيف 12 - جُذام 13 - جُرْهُم 14 - حضرموت 15 - حمير 16 - خثعم 17 - خزاعة 18 - الخزرج 19 - سبأ 20 - سدوس 21 - سعد العشيرة 22 - السكاسك 23 - طيّيء 24 - عامر بن صعصعة 25 - عذرة 26 - العمالقة 27 - عُمان (وزان غراب) 28 - عنز 29 - عنس 30 - غامد 31 - الغثاة 32 - غسان 33 - غطفان 34 - الغوث 35 - غيلان 36 - فرحان 37 - قريش 38 - قيس 39 - كنانة 40 - كندة 41 - لخم 42 - مدين 43 - مَذْحِج (وزان مجلس) 44 - مُزَيْنَة 45 - النمر 46 - نمير 47 - هُذَيْل 48 - هُوَازِن 49 - اليمامة 50 - اليمن
على أن الحقيقة هي: أن لغات قبائل العرب تنيف على المائة، لكني لم أبوبها إلى الآن. ثم
قد يكون في القبيلة الواحدة لغتان ما عدا اللغة الفصحى، وإذا طالعت في تاج العروس ما جاء على الأنفحة في مادة (ن ف ح) تصدق ما نقوله لك.
هذا ما عدا ما ورد في القرآن الكريم من الكلم اليونانية والرومية والفارسية والأرمية (السريانية)، والحبشية والبربرية، والعبرية والقبطية. وقد طالعنا (القرآن) مراراً لا تحصى ولم نجد فيه كلمة واحدة تؤيد مدعاهم. وطالعنا (النهاية) لابن الأثير، وهي في أربعة مجلدات، وتحوي أصدق الأحاديث النبوية الصحيحة ولم نجد شاهداً واحداً على ما يفتئتون. وكذلك لم نجد حرفاً واحداً في شعر الأقدمين، ولا في كلام فصحائهم المفوهين، ولا في (القاموس) وهو في أربعة مجلدات، ولا في (لسان العرب) وهو في عشرين مجلداً، ولا في (تاج العروس) وهو في عشرة مجلدات ضخام كبار، ولا في (الفائق) للزمخشري وهو في مجلدين كبيرين إلى غيرها (كصحاح) الجوهري و (الكليات) لأبي البقاء و (ديوان الأدب) للفارابي، وقد خططنا بالحمرة تحت كل كلمة، علامة على أنا طالعنا تلك المصنفات حرفاً حرفاً وبكل تدبر وترو، وذلك للمرة الثالثة أو الرابعة على كل تقدير، ومن يشك يراجعنا في الأمر.
فإذا كان النحاة والصرفيون لم ينتبهوا إلى هذه الحقيقة الناصعة البيان، أفهذا ذنبنا يا سيدتي الكرام؟
ثم إن أكبر نحاتهم غلط أغلاطاً كثيرة، كبيرة، قعيرة تكاد تكون جريرة، أريد بهذا الإمام سيبويه. فقد ألف (الكتاب) فنقده أبو بكر الزبيدي في (كتاب الأبنية والزيادات على ما أورده فيه مهذباً) وعنى بطبعه المستشرق الإيطالي إغناطيوس جويدي، وطبعه في روما سنة 1890م
وقد وجدنا نحن أغلاطاً كثيرة للخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ سيبويه، وليس الآن محل ذكرها هنا. ومثل ذلك قل على عدد جم من القدامى. أمل لغة القرآن والأحاديث الصحيحة والمسموع من كلام بلغاء العرب كالوارد في البيان والتبيين، وكتاب الحيوان، وكلاهما للجاحظ، وكالوارد في الكامل للمبرد، وكالمذكور في الأغاني، وما كان من هذا القبيل فهو كالإبريز النقي الذي لا عيب فيه
فكيف نصدق بعد هذا أقوال هؤلاء الأئمة ومن أتبعهم من غير أن تحقق أقوالهم ويبحث
عما فيها من الوهن والفهاهة؟ فهل أوتوا التنزيل من السماء حتى لا يجسر أحد على تخطئتهم، أو التعقيب عليهم، أو الاستدراك عليهم؟ وهل أوصد باب الاجتهاد في لغة الضاد، كما أوصد بعضهم باب الاجتهاد في الدين؟ - إن الله مع الصابرين!
شروط جمع أفعل فعلاء على فعل
لهذا الجمع القائم بنفسه ستة شروط وهي:
(الأول) على أن يدل على (لون) ويكون (نعتاً) صرفاً لا منقولاً إلى الاسمية أو الموصوفية، ولهذا تجمع أسود على أساود للحية الكبيرة فيها سواد، وأجدل على أجادل للصقر، وأدهم على أداهم للقيد، إلى نظائرها. ومن النعوت الدالة على لون أو شِيَةٍ وهي على فُعْل ما جاء في سورة المرسلات:(كأنه جمالة صُفْر). وفي سورة طه: (ويوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً). وفي سورة فاطر: (ومن الجبال جدد بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود). وفي سورة الكهف: (ويلبسون ثياباً خضراً من سندس). وفي سورة الإنسان: (عاليهم ثياب سُنْدس خُضْرٌ). إلى غيرها وهي كثيرة. ومما سمع عن فصحاء العرب قولهم: حُدُلٌ ككتب جمعاً لأحدَل وحدْلاء. قالوا: هذا شاذ لأن أفعل وفعلاء من الألوان والعيوب والشيات يجمعان على فُعْل بالضم والسكون. إنما ثقل بعضهم طائفة من الألفاظ من هذا القبيل على لغة لبعض قبائلهم، فإنهم يثقلون ما هو مخفف من باب الشاذ، ولا تقس عليه إذ لا يحق لك أن تفعله
(الثاني) أن يدل على (عيب) إلَّمْ يدل على (لون) كما في سورة البقرة (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)
(الثالث) أن يدل على (حلية أو زينة) إلَّمْ يدل على عيب أو لون. كقولك: رجل أهيف، وامرأة هيفاء، ونساء هيف ورجال هيف، ورجل أحور، وامرأة حوراء، وقوم حُوْر، ونساء حور. ومنه في سورة الرحمن:(حور مقصورات في الخيام). وفي سورة الطور: (وزوجناهم بحور عين)
(الرابع) أن يكون للنعت المذكر نعت مؤنث يقابله ومن لفظه، وبالعكس، فإن لم يكن كذلك، لم يُجز تكسيره على فُعْل، بل على وزن آخر سمع منهم. تقول في جمع حسناء: حسان لأنه ليس لها مذكر من لفظها على وزن أفعل. ومنه في سورة الرحمن: (فيهن خيرات
حسان). وفيها أيضاً: (متكئين على رفرف خضار وعبقري حسان)
وتقول في جمع الصقلاء، وهي المنهضمة الخصر الصقال للسبب المذكور. وقالوا: أعوام عُوَّم، كسكر، ومفردها عام أعوم ولم يقولوا سنة عوماء. قال القجاج:
من حرِّ أعوام السنين العوَّم
(الخامس) إذا أشير إلى الجمع المكسر بضمير مفرد مؤنث لكونه لغير العاقل، أو جاور (فعلاء) وصف مفرد مؤنث يصح أن يكون للمفرد وللجمع على السواء، فأنت مخير في أن تنعته بفعل أو بفعلاء، وإذا كان اللفظ في الشعر والوزن يقتضي (فعلاء) فلا تخف من أن تزن اللفظ هذا الوزن. وكذلك يقال على الجمع المكسر لغير العاقل، فيصاغ نعته على (فعلاء) إذا كانت هيئة ذلك الاسم المجموع بهيئة نعت مفرد مؤنث تقول: قنا خطية ملد، وقنا خطية ملداء، لأنك نصف تلك القنا بأنها (خطية) وبأن هذه (الخطية) ملد، أو ملداء.
وما عدا ذلك لا يجوز لك أن تنعت الاسم المكسر بنعت مفرد مؤنث، ولاسيما إذا كان الاسم المنعوت مجموعاً جمعاً مؤنثاً سالماً، فلا نقول قط كريات بيضاء.
(يتبع)
الأب أنستاس ماري الكرملي
أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
بغداد في 2691942
42 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق
إن الضيافة فضيلة في الشرقيين تثير الإعجاب الحق للغاية. ويستحق المصريون من أجلها كل ثناء. ويطلق عادة على الزائر أو الضيف في مصر كلمة (مسافر). وقل في مصر من يفكر في تناول طعامه وفي بيته غريب دون أن يدعوه إلى مؤاكلته إلا إذا كان المدعو من طبقة دنيا فيدعى إلى مائدة الخدم. ويعتبر امتناع المسلم عن الأمر بإعداد المائدة في الوقت المعتاد لأن زائراً دخل عرضاً، مخالفة فاضحة للآداب. ويتناول أفراد الطبقة الوسطى عشاءهم أحياناً أمام أبواب دارهم عندما يعيشون منفردين، فيدعون كل عابر جليل الهيئة ليأكل معهم. ويفعل هذا عادة أفراد الطبقة الدنيا. والاستضافة في المدن نادرة لأن فيها وكالات أو خانات يستطيع الغرباء المبيت فيها. كما أن الحصول على الطعام فيها أمر هين. أما في القرى فكثيراً ما يضيف المسافرين شيخ القرية أو غيره من السكان؛ وفي العادة أن يقدم الضيف من الطبقتين العليا والوسطى عطية إلى خدم المضيف أو إلى المضيف نفسه. ولكن يندر أن تقبل عطية الضيف في البادية. وللمسافر أن يستقري، بموجب السنة، من يستطيع أن يقريه ثلاثة أيام. وتقدم لنا التوراة في قصة إبراهيم وإضافته الملائكة الثلاثة صورة كاملة للطريقة التي يستقبل بها الشيخ البدوي الآن الوافدين على مخيمه. فهو يأمر زوجه أو نساءه بعمل الخبز في الحال، ثم يذبح نعجة أو غيرها ويطهيها على عجل، ثم يحضر لبناً أو أي طعام آخر مهيأ فيقدمهما لضيوفه مع الخبز واللحم الذي أعده. ويقف البدوي بين أيدي عظماء الضيوف أثناء تناولهم الطعام كما فعل إبراهيم في القصة المشار إليها. ويكاد أغلب البدو يؤثرون الضيم على أن يرضوا بالإساءة
إلى ضيوفهم مدة الضيافة
كان من المعتاد أن ترى في القاهرة طوائف من (الطفيليين) الذين يستفيدون من ضيافة مواطنيهم، فيعيشون على التطفل. إلا أن هذه الطائفة نقص عددها أخيراً. وكان من المؤكد تقريباً أن يوجد بعض هؤلاء الأبطال حيث تولم وليمة، ولا يمكن التخلص منهم إلا بنفحة من النقود. وهم يتجولون أيضاً في البلاد دون أن يملكوا فلساً واحداً، فيتطفلون على المنازل الخاصة كلما احتاجوا إلى طعام، ويسعون إلى ذلك بمختلف الحيل. وحكي لي أن طفيليين عزما على الذهاب إلى مولد السيد البدوي في طنطا، وهي على مسيرة يومين ونصف يوم من القاهرة سفراً هيناً، فسار الطفيليان الهوينى حتى بلغا قليوب في نهاية اليوم الأول وتحيرا في الحصول على عشاء، فذهب أحدهما إلى القاضي، وبعد أن حياه قال: يا مولانا القاضي. . . أنا في طريقي من الشرقية إلى مصر، ومعي رفيق في ذمته لي خمسون كيساً يحملها معه ويرفض أن يعطيني إياها، وأنا في حاجة إليها الآن. فقال القاضي: أين رفيقك؟ فأجاب المدعي: هنا في هذه المدينة. فأرسل القاضي من يحضر المتهم، وأمر في أثناء ذلك بإعداد عشاء طيب، إذ كان يتوقع رسماً كبيراً في قضية كهذه، وهذا ما كان يفعله قضاة الأرياف في مثل هذه الظروف. ودعا القاضي الخصمين إلى العشاء والمبيت قبل النظر في القضية. ونظرت الدعوى في الصباح، فسلم المتهم بوجود الخمسين كيساً معه وقال: إنه مستعد لردها لأنها تتعبه، فهي ليست غير أكياس الورق التي يباع فيها البن؛ ثم قال: نحن طفيليان. فطردهما القاضي غاضباً
إن اعتدال المصريين في الطعام والشراب مثالي. فقلما رأيت منذ قدومي الأول مصرياً في حالة سكر ما لم يكن عازفاً في سامر أو راقصة أو عاهرة من السفلة. ويبدي المصريون احتراماً عظيماً للخبز باعتباره سند الحياة. ولا يجيزون البتة التبذير في أصغر قطعة منه إذا استطاعوا تجنب ذلك. وكثيراً ما لاحظت بعضهم يرفع قطعة الخبز إذا سقطت عرضاً في الطريق إلى فمه وجبهته ثلاث مرات، ويفضلون وضعها على جنب لكي يأكلها كلب على أن يدوسها المارة. وقد روى لي كثيرون الحادث التالي الذي يدل على احترام المصريين للخبز إلى حد غير معقول؛ ولكن ينبغي القول أن هذه الرواية يصعب تصديقها: كان خادمان يتناولان طعامهما جالسين لدى باب سيدهما عندما أبصرا مملوكاً يتجه نحوهما
راكباً في جمع من رجاله. فقام أحد الخادمين احتراماً للقادم العظيم؛ فصاح القادم غاضباً: أيهما أحق بالاحترام: الخبز أم أنا؟ ثم أشار بيده إلى المذنب إشارة معلومة دون أن ينتظر منه جواباً، فضرب عنقه في الحال
يراعي المسلمون المصريون من الطبقتين العليا والوسطى النظافة بدقة. وتعتبر الطبقة الدنيا في مصر أكثر اعتناء بالنظافة من غيرها في أغلب البلدان الأخرى. ولعل المسلمين ما كانوا يهتمون بالنظافة إلى هذه الدرجة لو لم يأمر بها الدين. ويبدو مما سبق ذكره في الفصل الثاني من هذا الكتاب أن الواجب ألا نحكم على المسلمين، نظراً لنظافتهم، من تركهم أطفالهم في حالة قذرة. ولا شك أن الوضوء أمر حكيم؛ فالصحة لا تكون في البلاد الحارة إلا بالنظافة. ويحرص المصريون حرصاً خاصاً على تجنب كل ما قرر الدين قذارته ونجاسته؛ فيمتنع المسلمون عن شرب النبيذ لعدة أسباب أحدها أنه نجس. وأعتقد أنه يندر حمل مسلم على تناول قطعة من لحم الخنزير. وقد تحدثت مرة مع مسلم في موضوع الخنزير فقال إن الفرنج شعب يفتري الناس عليه كثيراً؛ فلا شك أن المعروف عنهم أنهم يأكلون الخنزير، ولكن بعض المفترين هنا يؤكدون أنهم لا يأكلون لحم هذا الحيوان النجس فحسب، بل يأكلون جلده وأحشاءه والدم ذاته أيضاَ. فلما اعترفت له بصدق التهمة انفجر يلعن الكفار ويدعو عليهم بالدرك الأسفل من النار
يدين أكثر القصابين الذين يبيعون اللحم إلى أهل القاهرة المسلمين باليهودية. وقد اشتكى منذ سنوات مضت أحد العلماء الكبار إلى الباشا من هذا الأمر والتمس وقفه. وسمع بذلك عالم آخر فتبعه وألح أمام الباشا في أن هذا العمل لا يخالف الشرع. فقال المشتكي: قدم دليلك. فأجاب الآخر: دليلي قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه). فاستدعى حينئذ رئيس القصابين اليهود وسأله هل يقول شيئاً قبل ذبح الحيوان؟ فأجاب: نعم. نحن نقول دائماً مثل المسلمين: باسم الله الله أكبر. ولا نذبح الحيوان إلا بحز نحره. فصرف المشتكي حينئذ
ذهب رجل منذ أيام قليلة إلى خباز ليشتري فطيرة، فرآه يسحب من الفرن طبقاً به لحم خنزير كان يشويه لإفرنجي، فاستدعى الرجل في الحال شرطياً من أقرب قسم لأنه يعتقد أن من الممكن أن تكون الأشياء الأخرى لامست اللحم النجس فتلوثت. وألزم الشرطي قيادة
الخباز إلى الضابط. فلم يجزع الخباز واحتج بجهله أن اللحم كان خنزيراً. واعتبر الضابط الحادث مهماً يستدعي رفعه إلى ديوان الباشا. فرأى رئيس الديوان أن الأمر خطير يصعب الحكم فيه فأرسل المتهم إلى المحكمة. فاستفتى القاضي المفتي فأفتى أن كل طعام لا يكون نجساً في أصله تطهره النار مما يلوثه. فيعتبر طاهراً أي طعام وجد في الفرن ولو لامس الخنزير.
واستقدم الباشا من أوربا منذ مدة قصيرة لديوان حريمه طقماً من الحشايا والوسائد حشيت بشعر الخيل. ففتحت السيدات إحدى الوسائد ليتحققن من المادة التي تجعلها وثيرة على هذا الشكل اللطيف. فلما رأينها من شعر الكلاب تقززن أشد التقزز وأصررن على طرح الديوان بأكمله
واستخدم الباشا منذ سنوات قليلة رجلاً فرنسياً لتكرير السكر. فاستعمل هذا الأخير الدم لهذا الغرض. ومنذ ذلك اليوم قل من يجرؤ من المصريين على استهلاك السكر الذي يصنعه هذا الإفرنجي. فاضطر الباشا إلى تحريم استعمال الدم في مصانعه واستبدل به زلال البيض. وقد رأى بعض المصريين أن السكر الأوربي يفضل السكر المصري فاستعملوا الأول على اعتبار أن ما كان طاهراً في الأصل يمكن أن يطهر مرة أخرى بعد تلوثه. ولكني مضطر إلى استعمال السكر المصري غير المكرر في عمل الشراب لضيوفي إذ أن البعض يناقشني طويلاً في هذا الموضوع.
جرت العادة أن يصب المصريون على ملابسهم بعد غسلها ماءً نقياً ناطقين بالشهادتين. وقد ذكرت عند الكلام على الدين عادات أخرى في النظافة يراعي المصريون أغلبها. ولكن المصريين بالرغم من هذه العادات والمبادئ في الطهارة وتعودهم الاستحمام لا يغيرون ملابسهم الداخلية كثيراً بقدر ما تفعل بعض الشعوب التي تعيش في أقصى الشمال والتي لا تحتاج إلى ذلك كثيراً، ويذهب المصريون إلى الحمام مراراً في ملابس قذرة يلبسونها بعينها ثانية بعد استحمام تام.
يتبع
عدلي طاهر نور
قصيدة مصر الجديدة
(مهداة إلى نادي الخرجين في السودان، وإلى جميع أصدقاء
(الرسالة) هناك)
للدكتور زكي مبارك
(حدثت الأستاذ الزيات أني سأنشر قصيدة أتحدى بها جميع
الشعراء، وأقول أن هذا الزهو لم يخطر في البال وأنا أنظم
هذا القصيد، فقد أوحته روحانية لا تسيطر على النفس إلا في
أندر الأحايين، فجاء كما يراه أقباساً من الأشواق العواصف
بالقلب والوجدان
وفتنة الشاعر بشعره مرض عرفته جميع الأجيال، فليس من الغريب أن أقول إني مفتون بهذا القصيد، وأن أزعم أني قبسته من جمر الوجود
أنا أكره أن تبيت قلوب وعيون بلا قرار ولا منام، فكيف جاز أن أزلزل قلوباً وأؤرق عيوناً بهذا القصيد؟
كان ذلك لأني أريد أن يعرف أبناء هذا الجيل حقوق الشعر البليغ، وأن يفهم قوم أن الكاتب الذي يعرفون هو الشاعر الذي يجهلون، إن كان فيهم من لم يقرأ قصيدة الإسكندرية أو قصيدة بغداد)
تناسيتُكم عمداً كأني سلوتكم
…
وبعض التناسي العمد من صور الود
إذا اشتدَّ إظلام العقوق تبلجتْ
…
مآثِرُ تذكي نار معروفكم عندي
أمِثلَي يَنسى؟ آهِ مما اجترحتمُ
…
على الهائم الحيران في حَوْمة الوِردِ
أأن خِفتُ عذَّالي فأخفيت لوعتي
…
تظنوني صبَّا أفاق من الوجدِ؟
غرامي بكم لم يُبقِ قلباً بلا جوىً
…
وحبي لكم لم يُبق عَيناً بلا سُهدِ
خلعتَ عليكم من هُيامي وصَبوتي
…
غلائلَ لم تُخلع على ساكني الخُلد
مضى ما مضى، هل يرجعُ الدهرُ ما مضى؟
…
وهل تتقون الحبَّ أو سالف العهدِ؟
معاهد في (مصرَ الجديدة) أصبحتْ
…
رسوماً من الأشجان أحرسها وحدي
أنسري معاً فيها كما كان عهدنا
…
وعهدُ الهوى أشهى مذاقاً من الشهد؟
أنقرأُها حرفاً فحرفاً كأنها
…
رسائلُ من ليلى المريضة أو هند؟
تعالَوا نُعدْ ليلاتِها الغُرَّ حسبةً
…
لحبٍ قبضتمْ روحه وهو في المهد
تعالوْا تعالوْا قبل أن يُمسيَ الهوى
…
تواريخَ لا تُغني المحبَّ ولا تُجدي
تعالوْا. . . فلن ألَقى سَناً مثلَ نوركم
…
ولن تستطيبوا جَنةٍ الحبِّ من بعدي!
تعالوْا. . . ففي (مصرَ الجديدةِ) ما بها
…
منَّ النرجس النعسان والفُلِّ والوردِ. . .
مَثابةُ أحلامي ومهوى مآربي
…
ومنسكُ روحي في الملامةِ والحمد
إذا جُلت فيها جولةَ الفتكِ أسلمت
…
مفاتحها فيما تُسرُّ وما تُبدي
وإن غبت عنها بعض ليلٍ تلفتْت
…
تُسائل عن سرِّ القطيعة والصد
شوارعها عند الأصيل مشارعٌ
…
لكلِّ محبّ من حبيبٍ على وعدِ
وأنفاسها بالليل كالمسكِ نفحةً
…
وظلماؤها كالخال في صفحة الخد
فلا تذكروا نجداً أو الخيف بعدها
…
تسامتْ مغانيها عن الخيف أو نجد
ولا تطلبوا نِدّاً لها في جمالها
…
فما لجمال الشمس في الكون من ندِّ
أباريسُ أو برلينُ تحوي فُتُونها
…
إذا ازدهرت بالحسن كالكوكب السَّعدِ؟
أفي لَنْدَنٍ شِبهٌ لها في صِيالها
…
إذا صفّتِ الأرواح جنداً إلى جند؟
تَّجمعَ فيها الحُسن من كلِّ أمةٍ
…
كبغدادَ بين العُرب والفُرس والكُرد
ورفَّتْ بها الأنفاس شتَّى غرائباً
…
من الورد والريحان والضال والرَّند
هديرُ الأماني في الفؤاد هديرُها
…
إذا جَدَّ جِدُّ (السَّبق) بالركض والشَّد
وروَّادها في الصبح والعصر زادُهم
…
إذا ما استضافوها فنونٌ من الوجد
تَشابهَ فيها الليل والصبح فاعجبوا
…
لصحراء أضحت وهي من جنة الخلد
يجسَّد نور البدر فيها مُفضَّضاً
…
فتحسبه درّاً يُساقَطُ من عِقد
بكل مكانٍ أو بكل ثَنيَّةٍ
…
بأرجائها سحرٌ يُثار بلا عمد
وما بدرها بدر السموات وحده
…
ففيها بُدورٌ قد تجلُّ من العدَّ
خذوا وصفها عني فلي في ضميرها
…
مكان الضريم الحر يكتنُّ في الزنَّد
ولا عيبَ فيها غير أنَّ نسميها
…
يزيد سعيرَ القلب وقداً إلى وقد
يُحِدُّ شعوري بالوجود فاغتدى
…
أحدَّ سماعاً من قُوى آلة الرَّصد
أسجل فيها ما أشاء من المنى
…
ومن خطرات الروح للشاعر الغِرْد
وأنقل عنها في ضُحاها وفجرها
…
أفانين أشتاتاً من الهزل والجِدِّ
إذا اجتمع السُّمار فيها رأيتهم
…
ملائك توصي بالوثيق من العَقد
وإن طَرِبوا ليلاً وللقلب حقهُ
…
حسبتم جنّاً أقيلوا من القِدِّ
هُيامي بها لم يُبق للعقل من شدىً
…
بلألائه في غمرة الوجد استهدى
مدينةُ من هذي؟ مدينةُ ساحر
…
يرى طيبها النفَّاح أذكى من النَّد
مدينة من هذي؟ مدينة ناسك
…
يُسر من الإيمان أضعاف ما يبدي
أرى الله في مصرَ الجديدة كلما
…
رأيت بها الأزهار تنظم في عقد
أرى الله فيها ما أردتُ ومن يعشْ
…
كعيشي بها يقرُب من الصمد الفرد
حُلوليةٌ تزدار قلبي وخاطري
…
فيحيا بها عقلي ويقوى بها عَقدي
أكان الحلوليون يرأوْن ما أرى
…
من الحسن في قرب من الله أو بعد؟
أمرَّ زمان فيه (مصرٌ جديدةٌ)
…
بها فارس يأوي إلى فرس نهدِ
أحبُّك يا مصر الجديدة فاسمعي
…
نشيدي ولا تصغي إلى شاعر بعدي
تعالوْا تروْا قلبي على ما عهدتمُ
…
وفاءً إلى غدر وصفحاً إلى حقدِ
أنا العيلم العجّاج بالرفق والأذى
…
أضل أحبائي إذا شئت أو أهدي
بقايا من الرُّوح المريد تعودني
…
فأرتدُّ صبّاً جائر الرأي والقصد
أُحبكُم؟ ماذا أقول؟ لقد صَحَا
…
فؤادي وأبصرتُ الطريق إلى الرُّشد
عواطف جالت في ضلال كأنها
…
بوارق في جُنح من الليل مسودّ
عشقتكم؟ قد كان ذلك وانطوت
…
صحائف خطتها يد العبث المردى
فلا تذكروا عهدي بسخطٍ ولا رضاً
…
تناسيت أو أنسيت ما كان من عهدي
أضاليل أزجيها لنفسي عُلَالةً
…
عسانيَ أطفئ ما تَضرَّم من وجدي
وكيف التناسي كيف؟ ما أكذَبَ المنى
…
إذا حدثتني بالخلاص من القيد
أحبُّكم حبّاً أحرَّ من الوغى
…
تؤجج في سهل إلى الموت ممتد
أحبُّكم طوعاً وكرهاً وإنني
…
لأخشى الذي تخشون من ذلك الإد
برغم الذي ألقاه من جور حكمكم
…
ألوذ بكم عند الخصام واستعدي
ملاعب من لهو أثيم تمرَّدتْ
…
فأمست كأقسى ما يكون من الجد
أروني باباً للنجاة أروده
…
فقد ضقت ذرعاً بالضلالة في الرَّود
وكيف نجاتي كيف؟ هيهات فالذي
…
سقيتم به روحي سيسرع في هدِّي
دعاني الهوى ماذا أراد بي الهوى
…
لقد حدّ من عزمي وقد فل من حدي
إذا رُمت أسباب المتاب تعرضت
…
نسائم رياكم فأقلعت عن هَودي
أأنتم نسيتم كيف كنا ولم نَدَع
…
مآربَ من قبل تراد ولا بعد؟
غرامي بكم كان الغرامَ ومحنتي
…
بكم صيرتني في الأسى أُمّة وحدي
سلوا الليل في مصرَ الجديدة هل رأى
…
على عهده بالحب أصدق من عهدي
وهل أبصر البدر المنير بأرضها
…
أصحَّ أديماً من ضلالي ومن رشدي
وهل عرفت ظلماؤها في سهوبها
…
أحبَّ إليها من هيامي ومن سهدي
لقد كنت ألقاها وللشمس ميلةٌ
…
إلى الغرب تستهدى النعاس وتستجدي
فأملأها وحياً وشعراً وصبوةً
…
إلى أن تفيق الشمس من نومةِ الخود
أتلك ليالٍ لا تعود ولم أزل
…
بحمد الهوى في صوْلة الأسد الورد
جهلتك إذا كنتم تظنون مهجتي
…
سَتَجنْحُ يوماً للسلام وللبَرْد
هواي هو الجمر الذي تعرفونه
…
وللجمر سلطان على الحجر الصَّلْد
سأرزأكم بالهجر والصد فارقبوا
…
بلايا تُغاديكم من الهجر والصدّ
أكان غرامي غرّكم فظننْتُم
…
بأن ليس للإسراف في الحب من حد
هو القول ما قلتم فإن صبابتي
…
ستبلغ ما لا يبلغ الجمر من وقد
سنون تقضت في اضطرام وحبنا
…
يصاول بالعذْل المحمل بالنَّأد
فهل أفلحَ العذّال يوماً وفيهمُ
…
وفيون يؤذيهم خباليَ في سهدي
مساويكم تبدو لقلبي محاسناً
…
فواتنَ تُجزَي بالثناء وبالحمد
فمن أيِّ وادٍ للفُتون تفجرت
…
ينابيع هذا الحسن مرهوبة الوردِ
أمرُّ بها ظمآن والجوُّ قائظٌ
…
فأسمع همساً من وعيد ومن وعد
تلوِّح بالإشفاق عينٌ مريبةٌ
…
لها ما لهذا الدهر من خاتل الكيد
وهل يعرف الحيران ضل طريقه
…
بنحس رمى التلويح بالرفق أم سعد
أرى بيتكم مني قريباً وتارة
…
أراه وأدني منه أبنية السند
على قدر ما نلقي من الوصل والجفا
…
يقدر ما نلقى من القرب والبعد
أذلك بيت أم كناس يهابه
…
ويرهب غزلاناً به أفتك الأسد
فأيان أيان السلامة منكمُ
…
وليس لطغيان الملاحة من صد
أعوذ بربِّ الجنِّ منكم وإنني
…
لأعلم أن لا عوذ من سَورة الوجد
شفى وكفى أني مُحِبٌّ محسَّدٌ
…
يساق إليه الإفك في صورة النقد
قضى حبكم أن أجرع اللوم طائعاً
…
وأن أحسب التهيام فنّاً من المجد
إذا صرت في غي الهوى ورشاده
…
إماماً فقد تمت أياديكم عندي
أجيبوا: أكان الحب حلماً تبددتْ
…
أشعته عند الآفاق من الرَّقدِ؟
أكان صفاكم لمحةً جاد بارقٌ
…
بلألائها في الليل يُفجَع بالرعد؟
سأنساكمُ يوماً وللقلب رجعةٌ
…
على جهله للراجحات من الجد
سأنسى هُيامي ثم سأنسى غوايتي
…
وكلُّ ضرام في الغرام إلى خمد
أجيبوا فلي رأيٌ يقرُّ إلى مدىً
…
قرار الجراز العضب في سُدف الغمد
أأنتم رضيتم أن تصير حياتُنا
…
أفانينَ من نسك يكفنُ في زهد؟
لكم ما أردتم، فاذهبوا ثمةَ اذهبوا
…
إلى الوهد من وادي الخمود أو النجد
ولي ما أراد الحبُّ والحبُّ حاكم
…
نرى جوره فينا أبرَّ من القصد
بلادةُ أقوام تُعَدُّ رزانةً
…
بكل زمانٍ عن هدَى الحب مرتدِّ
جمال التماثيل الحسان جمالكم
…
وليس لغادات التماثيل من رفد
فحتامَ حتامَ الوفاءُ لصبوةٍ
…
رددتم إليها سؤلها أقبح الردِّ
أحبايَ ضاقت بي بلادي وآدني
…
زماني فأولاني من الكرب ما يُردي
إذا قلت أيام الشقاء إلى مدىً
…
تعاقبنَ بالأنواء والبرق والرعد
وإن ظمئت روحي إلى الصفو صدّني
…
عن الصفو أقوامٌ جبلنَ على الحقد
ثلاثون عاماً أو تزيد قضيتها
…
جواداً ببذل الروح للوطن الفرد
فما نلت حظاً من جداه سوى الذي
…
يمنُّ به أهل الوشاية والكيد
أمن أجل هذا عشت ما عشت صابراً
…
على وثبات العزم في الزمن الجعد؟
بلادي بلادي، أنت ما أنت؟ إنني
…
أجرَّع فيك الصاب ينعت بالشهد
أأنت بلادي أنت؟ صدَّقت، فاصدُقي
…
وعودك يوماً للفتى الصادق الوعد
تسابقني فيك الأماني خوادعاً
…
كواذب لا تورى بحل ولا عقد
أساهر في ليلي كتابي ولا أرى
…
لنفسي حظ الساهرين على النرد
فماذا دها الدنيا وماذا أصابها
…
أسفّت فأمست وهي في خسة القرد
إلى من أسوق الشكوَ والدهرُ ما أرى
…
تماثلَ فيه شامخ القُور بالوهد
إلى الوطن الجاني شكوت كما شكا
…
لديغٌ إلى الصم المؤرَّقة الرُّبد
أمثليَ يؤذي بالعقوق ولم يكن
…
له غير حفظ العهد في الحب من وكد؟
بلادي، وما هانت عليَّ مواطن
…
أبي كان منها في الذؤابة أو جدي
أيشقى الثرى بالماء حتى يعودَه
…
أطباء علامون بالجزر والمدّ
وأظمأ وحدي فيك والنيل ثائرٌ
…
يروز الجسور الشمَّ بالمزق والقدّ
بلادي، أمن جرم جنيت تحولت
…
حياتي إلى وجه من العيش مرمدّ
لئن كان لي ذنب فذاك تولُّهي
…
بشرح الذي زُوِّدت في الدهر من مجد
ستمضي الليالي ثم تمضي ولا يرى
…
جمالك أقوى من غرامي ولا وجدي
بلادي، أكان الحب نوراً تطاولت
…
عليه غيوم من عقوق ومن جحد
توحدت مقهوراً فما لي أخوةٌ
…
ولا صحبة يقوى برفقتهم زندي
توحدت لا خِلٌّ أبثُّ شكايتي
…
إليه ولا حبٌّ يؤرقه سهدي
إذا آدني الدهر اللئيم بجفوة
…
تحوَّل أهلوه إلى عصبة لُدِّ
توحدت؟ لا، فالأسد يؤنسها الأسى
…
بوحشتها في ظلمة الكثُب الجُردِ
ليصنع زماني ما أراد فلن يرى
…
سوى ساعد يلقاه بالبأس مستدّ
بناني الذي يبني الجبال شواهقاً
…
وليس لحصنٍ شاده الله من هَدّ
فما بال أقوامٍ تهاوت حلومهم
…
يعادون بَنّاء الجبال بلا عند
يعدُّون أجناداً لحربي بواسلاً
…
وقد جهلوا أني سألقاهمُ وحدي
إذا اعتز بالله القدير مجاهدٌ
…
أذل ألوف الظالمين من الجند
أحباي في (مصر الجديدة) ما الذي
…
دعاكم إلى تكدير ذيّاكم الورد
به جاد دهرٌ لا يجود فكنتمُ
…
أضنَّ من الدهر المبخل بالرِّفد
سقاكم فروَّاكم غرامي ولم أجد
…
على عثرات الدهر والوجد من يعدي
تُّمر ليالٍ أو أسابيع لا أرى
…
على شغفي إلا مواعيدَ لا ُتجدي
عذرت أحبايَ الذين تصدُّهم
…
فيافٍ سحيقاتٌ عن البر بالوعد
عذرت الألى بالكرخ شطت ديارهم
…
فليس لهمٍ عن عصمة الصبر من بُدّ
فما صبركم أنتم وبيني وبينكم
…
خطىً هيناتٌ قد يقدَّرن بالعد
إذا صلصل الهتّاف أصبحت عندكم
…
وإن وسوس الهتاف أمسيتم عندي
بخمسة أرقام تدار أراكم
…
وترأونني، أهونْ بذلك من جهد
تعالوْا، ولا تُصغوا لأقوال ناصح
…
يسوق الكلام الحرَّ عن خاطرٍ عبد
نصيحةُ بعض الناس غشٌّ مقنَّع
…
وإشفاق بعض الناس ضرب من الحقد
عرفت زماني في بنيه ومن يُقمْ
…
بمسبعةٍ يسبق فلاسفة الهند
أنسمع لغو الحاقدين ولا نعي
…
هدير حميّا الحسن ينصح بالوجد؟
هو الحسن فليأمر بما شاء ولتكن
…
مشيئته، إنَّا له أطوع من الجند
سمعنا، ومن يهتف به الحسن يستمع
…
ألا إنَّ همس الحسن لحنٌ من الخلد
تعالوْا فأوقات الصفاء ذواهبٌ
…
وليس لوقتٍ قد أضعناه من ردّ
تعالوْا سراعاً، لا تقولوا: إلى غدٍ
…
غدٌ عند صدق الشوق دهر من البعد
وإلا ففي (مصر الجديدة) أنجمٌ
…
زواهر ترجو أن يكون لها ودِّي
أبغداد في عهد الرشيد تأرَّجتْ
…
بأطيب من أنفاسها وهي في عهدي
زكي مبارك
البريد الأدبي
حول نسب الفاطميين
جاء في العدد (484) من مجلة (الرسالة) الغراء كلمة تحت عنوان (حول نسخ الأحكام) تأثر فيها كاتبها بأقوال خصوم الفاطميين السياسيين من بني العباس ومن كان ينتمي إليهم من العلماء، ولو أنه رجع إلى أقوال المنصفين فيهم كشيخ المؤرخين ابن خلدون لخفف شيئاً من غلوائه في أمر هؤلاء الفاطميين، ولعلم أن نسبهم صحيح إلى إسماعيل بن جعفر الصادق رضي الله عنهما، وقد يكون الطعن في دينهم كالطعن في نسبهم، أثراً من آثار السياسة التي تبيح كل شيء في سبيل أغراضها، وتذهب إلى أن الغاية تبرر الواسطة، فتذيع الكذب بين الناس وتنصر الباطل على الحق
والظاهر بعد هذا كله أن القول بإعطاء الإمام حق نسخ الأحكام كما حكاه أبو جعفر النحاس، غير ما يحكى عن بعض الإسماعيلية في الإمام السابع الذي ينسخ الشرائع، لأن نسخ الشرائع يدخل فيه أصولها كالصلاة وغيرها، أما نسخ الأحكام فالظاهر أنه خاص بالأحكام الجزئية التي تتأثر بالظروف والأحوال، وتدعو الحاجة إلى نسخها بالاجتهاد لسبب من الأسباب. . .
(. . .)
كرملة الكرملي
أعود فأصحح للأب أنستاس ماري الكرملي أخطاء أخرى وقع فيها؛ والأمر في هذه المرة أخطر، فقد جمع إلى الأخطاء التاريخية أخطاء روحية؛ ولقد قال (ربليه) قدس الله روحه:(إن علماً بلا ضمير خراب للنفس)؛ فما بالك إذا كان العلم زيفاً حمله الرافدان؟
لو أن الأب أنستاس ماري الكرملي العالم النحرير والروحاني المتواضع زف إلى ما يقول (كرملة) يستسيغها الذوق لقبلتها، ولكن كرملته حصرم تمجه النفوس. إن في نفسي إيماناً بأن العلم والروحانية لا ينزلان بنفس إلا هذباها، ونحن كلما ازددنا توغلاً نحو آفاق المعرفة ازددنا دنواً من حدودها وإحساساً بتلك الحدود، فتهدأ جوارحنا ويسكن غرورنا. وأنا قد أقبل من رجل أن يعتز بماله إن كان صانعاً أو تاجراً، وأما العالم فالزهو منه ممقوت
إن روح العلم الصحيح لا تعرف نغمات الكرملي. العلم تواضع كما أن الدين محبة؛ وأين هذا من كلام الأب؟ أنا لا أعرف التأكيد في أي شيء ولذا قلت - أيها الأب أنستاس ماري الكرملي - إذا صح هذا أو ذاك. والأب الجليل العالي الكعب في كل أمر لابد قد قرأ أفلاطون، ولابد أن أستاذه قد قال له سنة 1887م إن موضع الجمال في أسلوب أفلاطون موضع السحر، موضع السمو، كثيراً ما يتركز في الحرفين اللذين يضافان إلى الأفعال اليونانية لينقلا التأكيد إلى الاحتمال، والأب الخطير يستطيع بلا ريب أن يترجم ب إذا صح الخ. . .
ثم إنني أيها الأب أنستاس ماري الكرملي لم أستنجد بعلم الأستاذ كراوس كما أني لم أغتصب منك أسلابك العلمية الثمينة، وإنما الذي حدث أن مجلة الرسالة لم تنشر مقالي كاملاً كما تستطيع أن تلاحظ ذلك من ابتدائه بنقط، ولو أنها نشرته كاملاً لرأيت أني سلمت لك بأنك تعرف أسماء أتيقوس وتيودسيوس وغيرهما ممن لا يعتبرون إلا قطرة في بحرك الملح الأجاج. ولو أنها نشرته كاملاً لعلمت أني لم أنشر هذا المقال رداً عليك وأنا لا صبر لي على قراءة تحقيقاتك التي تبعدها عني روحك الوديعة الطاهرة، وإنما أردت أن أحاج الأستاذ كراوس لأننا اختلفنا في هذا النص قبل أن ينشر الكتاب. وأنت أيها الأب أنستاس ماري الكرملي لا ريب مرهف الحس لطيف الذوق فكيف غاب عنك أن قولي:(اللهم إلا أن يكون لدى الأستاذ كراوس علم آخر. . . الخ) لا يفيد طلب النجدة
سلمت إذن للأب الكبير بأنه قد عرف اسم أبيقوس، ولكنني أنكرت عليه أن يعرف عنه أكثر من ذلك بدليل أنه زعم أنه روماني وهو يوناني. ولقد فطن إلى هذا الأب نفسه عندما راجع دفاتره وراجع العلماء الأفاضل الذين يجتمعون معه فوضعوا خطاً - كما يقول - تحت جملتي التي تحمل هذا المعنى، ووضع الخط هذا وتأمين الأب على وضعه هو طريقة العالم الفاضل في الاعتراف بخطئه. وإذن فقد كنت محقاً في أن أصحح له هذا الخطأ
بقيت مسألة الكراكي التي لم أعثر بها فقلت (إنها خرافة لا نعلم عن نسبتها إلى قومودس وأتيقوس شيئاً). وهذا حق، فأنا لم أعثر بها في حياتهما؛ وأعود فأكرر أنني لم أعثر بها ولا أقول لم أعثر عليها - كما يقترح اللغوي الكبير الأب الكرملي - لأن المعنى الذي أريد أن
أعبر عنه هو أنني لم أعثر بها، أي لم أقع عليها. وللأب الفاضل أن يظهر علمه - إذا أراد - في غير هذه التوافه، وأن يتفضل بأن يترك للكاتب الحق في أن يتصرف في اللغة وفقاً للمعنى الذي في قلبه
وأما مسألة أبيقوس ونسبه الكراكي إليه، فهذا لن يفيد الأب الكرملي في شيء، لأن النص يقول:(إن تودورس أو قومودس ملك يونان كتب إلى أينقس الشاعر أن يزوده بما عنده من كتب فلسفية). . . وإذا كان من الثابت أن قومودس قد عاش في القرن الثاني بعد الميلاد، وأن أبيقوس الذي فرح الأب باكتشاف أحد أصدقائه لوجوده قد عاش في القرن السادس قبل الميلاد، فإنه يكون بين الرجلين ثمانية قرون. أيريد الأب الشيخ أن يطير في طائرة عصرية ليجمع بين العصرين!
لم يكن لي أن أتجه نحو أبيقوس ما دمت قد رجحت كومودس
هذا ما يستحق الرد في كلام أوفى كرملة الكرملي، وأما ما دون ذلك، فالعلم منه بريء.
محمد مندور
مدرس بجامعة فاروق الأول
القضاء العشائري في العراق
كتاب قيم ألفه الشيخ فريق المزهر آل فرعون عضو البرلمان العراقي ورئيس عشائر الفتلة، يبحث في الأصول والقواعد العشائرية والعادات المألوفة لدى القبائل العراقية، ويتناول تدوين تلك الأحكام المرعية والعادات المتبعة التي ساروا عليها منذ ثمانمائة سنة، كما ضمنه عادات العشائر العراقية وآدابهم وتقاليدهم وأساليبهم وسائر شؤون حياتهم الاجتماعية
والحق أن للقبائل والعشائر العراقية تاريخاً حافلاً بالعادات والتقاليد المتوارثة، يحرصون عليها ويتواصون بالتمسك بها وعدم التفريط فيها؛ ومن هذه التقاليد المرعية يتألف قانون غير مدون له قدسية سائر القوانين المدنية وحرمة بقية الأنظمة الاجتماعية، يرجعون إليها فيما يتعلق بخلافاتهم وأحكامهم ومشاكلهم العديدة وفيما يخص سائر أمورهم الاجتماعية والشرعية والاقتصادية، ولهم فيما يتفرع من هذه النواحي وفيما ينجم عنها من ملابسات،
أحكام وآراء وحلول تنطوي على البراعة والمهارة والطرافة بقدر ما تنطوي عليه من صرامة وشدة وقوة مستمدة من ذكاء وقاد وإحساس مرهف، وحرص شديد يبلغ حد العصبية على محافظة العنعنات والنزعات العربية الخالصة
ولم يتهيأ إلى الآن من يعنى بدراسة هذه التقاليد والسنن، وما تكون منها من أحكام ومن أصول أصبحت على مر الزمن قانوناٌ مرعياً نافذاً صارماً، فيؤدي بذلك إلى التاريخ العربي خدمة كبيرة، ويوسع مجالاً للحياة القبلية العربية في العصر الحاضر، أن تأخذ مكانها في التدوين إلى جانب الحياة المدنية، حتى انبرى لها الشيخ فريق المزهر آل فرعون، وهو من هذه القبائل العربية الضاربة على ضفاف الفرات، فسد فراغاً في خزانة الأدب والتاريخ العربيين، بما قام به من وضع سجل تاريخي حافل في هذا الصدد، وهو كتاب (القضاء العشائري) الذي بحث فيه (نظام دعاوى العشائر)، وهو القانون الوحيد الذي يسير عليه القضاء الإداري في العراق؛ وقضايا الحق المنازع فيه قسمان: قضايا موضوعية، وقضايا أصولية، أو شكلية؛ وقد وضع (العرف العشائري) قواعد خاصة لكل من الحالين، وقد كانت هذه القواعد معمولاً بها في العراق لفض المنازعات بين القبائل منذ أقدم الأزمنة إلى الآن.