الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 486
- بتاريخ: 26 - 10 - 1942
الراية المصرية
لكاتب كبير
هي راية الفكر والرأي والبيان، وهي أول هبة منٌ بها الوهاب على هذه البلاد، ولعلها أول هبة جاد بها الله على هذا الوجود
مصر بطبيعة الفطرة أمة سليمة الروح والوجدان، ومن أجل هذا المعنى كان فقراؤها أغنى من الأغنياء، وكان جهلاؤها أعلم من العلماء، فما عرف الناس في شرق ولا غرب بلداً يعيش على المواهب الطبيعية كما يعيش هذا البلد، ولا سجل التاريخ أمجاداً أشرف من أمجاد هذا البلد، ولا كان في الدنيا نهر أوفى وأكرم من نهرها الفياض بمعاني الخصب والثروة والشعر والخيال
عاصرت المدينة المصرية مدنيات كثيرة في القديم والحديث، فهل انهزمت أمام إحدى المدنيات؟ وهل خضعت لعبودية الروح في أي وقت، وإن جاز الزمن فنال من استقلالها السياسي في بعض العهود؟
صنع الدهر بمصر ما صنع في عهود الطغيان من الوجهة السياسة، ولكن الدهر عجز عن غزوها في الميادين الأدبية والروحية والعقلية، فظلت آية الآيات في سمو الفكر والرأي والبيان
إن مصر لم تخضع ولن تخضع لأي سيطرة تعتمد على الاستبداد، وهل كان من العبث أن تعرف مقابر من سيطروا على هذه البلاد، ثم تختفي مقبرة الإسكندر المقدوني، فلم يهتدي إليها منقب ولا باحث، مع أن صاحبها كان من أعاظم الرجال؟
كانت مصر لأبنائها، ولن تكون إلا لأبنائها، وستمضي أجيال وأجيال، وأزمان وأزمان، قبل أن يجوز في الوهم أن الذاتية المصرية معرضة لاستعباد الجهل والبغي والطغيان. في عصور الجاهلية الجهلاء كانت مصر مناراً يهدي اليونان والرومان، وفي عصر الإسلام كانت ملاذاً للعلوم الإسلامية، والحضارة العربية، وفي العصر الحديث كانت مصر درعاً يقي الشرق من طغيان الغرب، وستظل مصر إلى الأبد مصدر النور ومنبع الإشراق.
أكتب هذا وفي قلبي أشجان تعجز عن إثارة دموعي، فقد قيل وقيل أن أيام الحرب تصد العقول عن الرأي، وتمنع الأقلام من البيان
هيهات ثم هيهات، فالينبوع القاهر يفتك بالحواجز والأسداد، والقلم العارم يصنع ما يصنع النور في تبديد الظلمات
لن تضام مصر، ولن يضام أهلوها، ولن تجف أقلامها، ولن يكون لها بين المظلومين مكان
لا أقول أن مصر باقية ما بقي النيل، ولكني أقول أنها باقية ما بقى الوجود
مصر شرعت لجميع الأمم مذاهب الفكر والرأي والبيان وستظل بإذن الله مصدر الفكر والرأي والبيان
قال الزعيم النبيل مصطفى كامل: (لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً) وأقول إني أكره الافتراض الذي يبيح التخيل بأني لم أكن من المصريين
إن الظلم الذي يلاحقني في وطني لا ينسيني جمال وطني لأنه عندي أعز من روحي ونفسي
أنا أرفع الراية المصرية حيثما توجهت، ولن تضام مصر ولها أسندة ودروع من أبنائها الأوفياء
وكم تمنيت أن أكون أول من هتف بهذه الآراء، ليكون لي فضل الابتكار والإبداع، ولكني أشرح آراء جادت بها عقول كان لها فضل السبق في إحياء المواهب المصرية والعربية والإسلامية، من أمثال: أحمد زكي باشا، ومحمد بك مسعود، والشيخ محمد عبده، والسيد جمال الدين
هي آراء بشر بها ودعا إليها أولئك الجهابذة الأعلام، ولكنها حلت من نفسي محل اليقين، فصرت أهتف بها هتاف المبدع الأصيل، والمريد الصادق لا يقل إيماناً عن أساتذته النبلاء نحن لا نعمل لليوم الحاضر وحده، وإنما نعمل للمستقبل القريب والبعيد، وستظل سواعدنا قوية ولو احتواها الفناء
نحن لا نهاب الرجعية الممثلة في أوهام الفنانين، ولا نهاب مصالحنا وهي جديرة بأن تهاب، وإنما نهاب الحق، ونراعي الوطن، ونخاف الله، وتلك معان توجب أن نظل أوفياء لكرامة العقل، وسماحة الروح، وشجاعة الوجدان
سنقف كراماً حيث يقفنا الواجب، ولن نرضى أبداً بأن يعرض الفكر في بلادنا للخمود وستذكر مصر طائعة أو كارهة أن في أبنائها من وفوا بالعهد، في أيام ألهت جماهير الناس
عن الفكر والرأي والبيان. . .
(كاتب)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
1 -
حديث عيسى بن هشام
للدكتور زكي مبارك
فاتحة البحث - فوضى مزعجة - جنتمكان - الأمير - سبب الفوضى - تاريخ الكتاب - المويلحي الكبير والمويلحي الصغير - أصل الشبهة - سجين الفاقة والبؤس - الأديب المضطهد لنسبه وغناه - عصارة الشدائد - أغراض المؤلف - عقلية المويلحي - طبعات الكتاب
فاتحة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين. . .
أما بعد، فهذا بحث في كتاب (حديث عيسى بن هشام) المقرر للامتحان التحريري في مسابقة الأدب العربي، والمرجو - إذا وفق الله - أن يكون فيه ضمانة مؤكدة للنجاح في ذلك الامتحان، على شرط أن ينظر الطلبة في الكتاب نظرة جدية بعد قراءة هذا البحث، لأن الغرض من أمثال هذه البحوث هو التوجيه إلى الإطلاع عن بصيرة ويقين.
ويخطئ من يظن أننا ننوب عنه في قراءة ما يريد من الكتب، وفي استخلاص ما يشاء من الحقائق، ليواجه الامتحان وهو لا يملك غير ملاحظات لم يسهر له فيها جفن، ولم يقلق وساد!
هذه أبحاث نقدية، والنقد فن من التوجيه، وليس ضرباً من التحصيل؛ فليفهم أولئك الشبان هذا المعنى، وليقرءوا الكتب التي ننقدها قراءة فهم واستقصاء، بعد أن يستوعبوا ما فيها من المعاني والأغراض
فوضى مزعجة
هي الفوضى المحيطة بكتاب (حديث عيسى بن هشام)، فما يكاد القارئ يعرف في أي عام ألف، ولا يكاد يتصور أي مجتمع يصور، لولا عبارات تنطق بأنه كتب بعد موت (جنتمكان محمد علي): الجد الأكبر للملك فاروق، رحم الله الجد، وحرس الحفيد. . .
جنتمكان
وما (جنتمكان) التي ترد في الكتاب من صفحة إلى صفحات؟
لقد استبهمت علىَّ أول الأمر، وعجزت عن الاهتداء إلى نطقها الصحيح، ومدلولها الأصيل، ثم عرفت بعد لأي أنها كلمة تركية ركبت تركيباً مزجياً من كلمتين عربيتين: هما (جنة) و (مكان)؛ وإذن يكون: (جنتمكان) هو ساكن الجنان؛ وهي العبارة التي تذكرها الجرائد حين تتحدث عن كبار الأسلاف من البيت المالك؛ والظاهر أن (جنتمكان) كانت مفهومة عند تأليف الكتاب، فتركها المؤلف بلا شرح؛ وهل كان يخطر في باله أن معناها سيغيب عن رجل في مثل حالي؟!
اللهم إني أسألك السلامة من الجهل، فهو أخطر الأعداء!
الأمير
الألقاب نظمت في هذا العهد بطريقة واضحة الرسوم، فصرنا نعرف الفروق بين طبقة الأمراء وطبقة النبلاء من الوجهة الرسمية
فلنذكر أن كلمة (أمير) في عهد مؤلف الكتاب لم تكن تدل حتماً على أن الموصوف بها من أعضاء البيت المالك، وإنما كان الأمير هو الغني، ولو كان أجداده أبعد الناس من دماء الملوك
حدثني الشاعر عبد المحسن الكاظمي قال: كان محمود سامي البارودي أميراً بكل ما لهذه الكلمة من معاني
وقد توهمت في بعض ما سطرت من البحوث أن (إمارة) البارودي كانت رسمية أو شبه رسمية، لأن أجداده كانوا من أمراء المماليك، فالآن أعرف أن الإمارة في مصر كانت من نصيب أصحاب الثراء في جميع الأحوال
والكاظمي عراقي استمصر، وقد هال الرصافي أن يبكيه العراقيون بعد الموت فقال:
فيا عجباً بكتْك وأنت مَيْتٌ
…
بلادٌ ضَّيعتْك وأنت حيُّ
سبب الفوضى
وسبب الفوضى التي يعانيها من يقرأ (حديث عيسى بن هشام) أنه خلا خلواً فظيعاً من
التواريخ، وهل يوجد أعجب من أن تكون رسالة السيد جمال الدين الأفغاني إلى المويلحي بدون تاريخ؟
أستغفر الله، فالنص الزنكوغرافي ينص على أنها في 19 ربيع الثاني
ولكن من أي عام هذا الربيع الثاني، يا سيد جمال الدين؟
تاريخ الكتاب
يقول المؤلف إن كتابه مجموعة مقالات نشرت في (مصباح الشرق)؛ ومن السهل على المقيم بالقاهرة أن يراجع تلك الجريدة في دار الكتب المصرية، فما الذي يصنع المقيم بمدينة دمشق أو مدينة بغداد؟
في الصفحة الرابعة والثمانين نجد المؤلف يقول: (إنها أبدع نكتة في آخر القرن) فنعرف أن الكتاب ألف في آخر القرن التاسع عشر للميلاد
المويلحي الكبير والمويلحي الصغير
عرفت اللغة العربية في العهد القريب كاتبين عظيمين باسم المويلحي، ثانيهما محمد وأولهما إبراهيم، وكانت لإبراهيم مخاطرات سياسية دونها على صفحات (الرسالة) أحد أحفاده منذ سنين، فليرجع إلى تلك الصفحات من شاء، عساه يعرف كيف كانت مناورات ذلك الكاتب في ختل السلطان عبد الحميد
والمهم هو أن أسجل أن إبراهيم كان الكاتب الكاتب الكاتب، وإليه تنسب بالباطل أو بالحق رسائل ابنه محمد في (حديث عيسى بن هشام)، فقد مرت أزمان والناس يعتقدون أن محمداً ابن أبيه في كل شئ، حتى ذلك الحديث
أصل الشبهة
ولهذه الشبهة أصل، فقد سكت محمد بعد موت أبيه سكوت المريب، فتقول عليه الناس الأقاويل، وظنوا أدبه من الصنف المدخول.
وقوى الشبهة أنه استغضب فلم يغضب، ولو كانت التهمة باطلة لثار وهاج، وفعل بخصومه الأفاعيل.
سجين الفاقة والبؤس
في سنة 1924 تفضل الدكتور منصور بك فهمي فوصلني بالمؤرخ الكبير أحمد باشا شفيق، وكانت مهمتي أن أدون مذكرات شفيق باشا بأسلوب مقبول. ثم جاء رمضان فدعاني الباشا لطعام الفطور مع جماعة منهم الكاتب العظيم محمد بك المويلحي، فكيف رأيت المويلحي؟
كان يلبس الردنجوت من غير موجب، وقد قضى الوقت كله في صمت، فصح عندي أن أدبه لا يخلو من تزييف
وفي صبيحة اليوم التالي واجهت أحمد باشا شفيق برأي في محمد بك المويلحي، فسكت لحظة ثم قال: هل تعرف كيف يعيش هذا الرجل وكان ابن ذوات؟
- كيف يعيش؟
- أتجهل كيف يعيش؟
- وهل أعلم الغيب؟
- إن محمد بك المويلحي يقضي الأيام والأعوام وليس له زاد غير الخبز والملح والماء، فهو أعظم من داوى الفقر بالتجمل في هذا الزمان
- أيعيش المويلحي هذا العيش؟
- هو غني افتقر، ولا تصلح هذه الهامة العالية لاستجداء الناس، ولو كانوا من الأمراء والملوك
الأديب المضطهد لنسبه وغناه
نشأ محمد المويلحي نشأة المياسير، فكان من حقه أن يستكبر على الناس كما يستكبر من يكون في مثل غناه، ولكن سليقته الأدبية فرضت عليه أن يدرس جميع الطبقات الاجتماعية بلا تفريق بين المرتفعين والمتضعين، فكان يغشى أماكن السوقية كما يغشى أماكن الأمراء
وفي ذات ليلة تطاول عليه سفيه في إحدى الحانات فضربه كفاً، كالذي يقع في أماكن الشبهات والظنون
فكيف كانت العواقب؟
أقام السخفاء من أدباء مصر موسماً سموه (عام الكف) عليهم غضبات صاحب الجبروت.
ومن العجب العاجب، والسخف الساخف، أن يكون شاعرنا إسماعيل باشا صبري أحد المشتركين في الشماتة بالأستاذ محمد المويلحي مع أنه مدح الشيخ أحمد الزين!
فيا بني آدم من أهل هذه البلاد، متى تعقلون؟
متى؟ ثم متى؟
عصارة الشدائد
تصدر عني من وقت إلى وقت آراء في غاية من الغرابة والشذوذ في نظر الناس، ثم تجئ الشواهد التي تؤكد أني لم أكن من المخطئين
ومن آرائي الشاذة في نظر الناس قولي بأن الأديب الغني أقدر على فهم الحياة من الأديب الفقير، وأشد إدراكاً لما في الحياة من مكاره وصعاب
وكان ذلك رأيي لأني أومن بأن الأغنياء تقع في حياتهم تعقيدات لا يعرفها الفقراء، وما يسيغ ذهني فكرة القول بأن الفقير يدرك معنى البؤس على الوجه الصحيح، لأن الفقر عصمة من مواجهة (الخطوب الثقال)، وقد نعرف بعد حين أن الفقراء هم الأغنياء
أقول هذا وقد صح عندي أن براعة المويلحي في كتابه أخذت مددها الأصيل من اضطلاعه بمتاعب الحياة في وقت مبكر، مع الاعتراف بأنه كان لا يزال في رعاية أبيه، ولم يكن عرف طعم القوت الدائم بالخبز والملح والماء
ومن حظ الأدب أن المويلحي لم يؤجل تسطير ملاحظاته إلى أن يشرب الصبابة من كأس البؤس، فما يستطيع بائس معدم أن يتبين ما يريد أن يقول
كان المويلحي في عافية حين سطر تلك الأحاديث، ثم عم الغم وطم، فآثر الانعزال إلى آخر الزمان
لم يعرف الأدباء الفارغون من أصحاب الجرائد الهزلية أن الأديب الحق لا يتوقد خاطره في كل حين، ولم يفهموا أن البلبل لا يغرد إلا وهو جذلان، فعدوا سكوت المويلحي بعد موت أبيه دليلاً على أن أدبه من ضروب الأدب المنحول، ولو عقلوا لفهموا أن الرجل أصابته بموت أبيه كوارث معاشيه تزلزل رواسي الجبال
إلى من يتوجه المويلحي وقد عادى جميع الطبقات باسم الأدب والبيان؟
وهل كان خصماؤه قبل عشرين سنة إلا كتبة مأجورين يأكلون النار طائعين أو كارهين؟
لقد مات المويلحي وظلوا أحياء، فمن الحي ومن الميت؟
تبارك من جعل الأدب الصحيح مهر الخلود!
أغراض المؤلف
للمويلحي من كتابه أغراض أدبية واجتماعية وتاريخية، فهو يريد اولاً أن يقدم للأدب صوراً من البيان الوهاج، وقد فاز من هذه الناحية فوزاً مبيناً، بغض النظر عما يقع من تكلف السجع في بعض الأحايين. ولا جدال في احتواء هذا الكتاب على صفحات يتمناها كبار الكاتبين
وهو يريد ثانياً أن يصور المجتمع، فهل أفلح في تصوير المجتمع؟
لقد وصل إلى أبعد الغايات في تصوير الطبقات العالية من وزراء وعلماء وتجار وقضاة ومحامين وأعيان وأوشاب، وللأوشاب في مصر مكان، ولكنه غفل عن تصوير الطبقة التي تمد الحياة المصرية بالغذاء السليم من الآفات، وهي طبقة الزراع والصناع.
وعذره في هذه الغفلة واضح، لأنه عاش عيشة لا تمكنه من التعرف إلى هؤلاء الناس
أما ملاحظاته التاريخية فهي من التفاهة بمكان!
عقلية المويلحي
عقلية هذا الرجل سليمة إلى أبعد الحدود، ولكنها تجود بالضحكات في بعض الأحيان، كأن يتحدث عن سور بابل فيقول: هو عدة أسوار متداخلة بعضها في بعض يتسع محيطها للإحاطة بسبع مدائن مثل مدينة باريس، وكان ارتفاعه ثمانية وأربعين متراً، وعرضه سبعة وعشرون متراً، ومن حوله خندق عميق، وعليه أبراج متعددة، وله مائة باب من حديد
يقول المويلحي هذا الكلام المضحك مع أنه نص على أن حدائق بابل المعلقة كانت في اتساع أربعين فداناً، ومع أن من المستحيل أن تسمح ثروة العراق بإقامة سور له ذلك الطول وذلك العرض، وفي محيط يسع سبع مدائن مثل مدينة باريس، باريس التي يسكنها نحو خمسة ملايين، مع اتساع الشوارع والميادين، ومع ابتلاع نهر السين
طبعات الكتاب
ظهرت الطبعة الأولى سنة 1907، وظهرت الطبعة الثانية سنة 1912، والطبعة الأخيرة هي الرابعة مع الرحلة الثانية، وهي موضوع الدرس، وعليها المعول في الامتحان، وقد عني المؤلف بتنقيحها قبل أن ينتقل إلى عالم الخلود
وكلمتي هذه تمهيد وجيز يحتاج إليه المتسابقون بعض الاحتياج أو كل الاحتياج، أما البحث المقبل فأنا أرجو أن يكون عندما أريد، إن تفضل الله بالتوفيق.
زكي مبارك
عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه
أرواح وأشباح
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 1 -
اطلع الأستاذ توحيد بك على نقد في (الثقافة) لـ (أرواح وأشباح)، فحرك ذلك نشاطه لاستئناف البحث في هذه الملحمة الرفيعة تحليلاً لمغزى القصيدة، وتعقيباً على رأي الناقد.
(الرسالة)
هي الأرواح والأشباح المائلة في البشر أجمعين، ويمثلها أبطال يحييهم في المخيلة فن الشاعر المبتكر في تحفته العربية. ولا بأس بالعودة إلى الحديث في موضوعها: فإن التحف الفائقة من شأنها أن تحرك الخواطر والخوالج في كل وقت على الدهر، فيكثر الكلام عليها من كل وجه. فلننظر المرة فيما قدم إلينا هذا الشاعر المفلق من صنيع كما هو:
هو قصة الروح والجسد في محاورة مدارها السر في تجاذب الرجل والمرأة، وأثر الغريزة في الفن بينهما. وهذا موضوع جدي بعيد الغور، أحسن معالجته شاعر مثقف، وبناه على أساس متين من وجدانيات وفكر جديرة بالنظر
والفكرة الرئيسية في الموضوع، هي أن بين الروح والجسد تفاعلاً، وبين القيم الأخلاقية والغريزة تدافعاً؛ وإن هذا التفاعل وهذا التدافع هما العاملان الخفيان المسيران للحياة البشرية.
وهذه الفكرة الأصلية مستحكمة في صلب الصنيع، مرفرفة على كلامه من أوله إلى آخره؛ وهي لذلك أس الوحدة الجامعة لأطرافه، يؤيدها سائر الأسباب المتممة لهذه الوحدة المتينة.
أما خلاصة المحاورة فيما يتعلق بأثرالغريزة في الفن بين الرجل والمرأة، فهي أن المرأة تلهم الفنان بجمالها الجسدي وجمالها الروحي فيراها دمية صورت من نقاء، ويرى فيها ما لا تحد النهى، كأنها معنى وراء الخيال. غير أن الشهوة الجائعة فيها، بل الغريزة العاتية فيهما، توقعهما في الخطيئة؛ فالفنان يستلهم الشر سحر البيان، وتصير الفنون رمز الآثام. وتلك حال الآدمية، يريد الفن أن يعلو بها، فيقعدها الجسد بغرائزه. على أن أهل الفن منهم
من يحتمل سعير الحياة فتقوى روحه، ومنهم من يعشو بنور هذا السعير فتغلبه الغريزة:
شفت غُلَّة الفن حتى ارتوى
…
وإن دِنس الفن من طهرها
خطيئْتها قصة الملهمين
…
وإغراؤها الفرح المفتقَد
بأرواحهم يرتقون الخلود
…
على سُلَّم من متاع الجسد
وما الفن إلا سعير الحياة
…
وثورتها في محيط الأبد
لهيب إذا الروح مرَّت به
…
تضاعفتْ الروح في ناره
يُطيق القوى لظى جمره
…
ويعشو الضعيف بأنواره
وما الآدمية بنت السماء
…
ولكنها بنت ماء وطينّ
يريد لها الفن أُفق النجوم
…
فيقعدها جسم عبد سجين
كلام في الفن والفنانين، تتحدث به في السماء أرواح أسماؤها إغريقية مستعارة من الأساطير؛ ولكن هذه الأرواح رموز إلى الآدميين؛ والفنانون بشر على كل حال؛ فحديث الغريزة العاملة فيهم يعني معهم سائر البشر. ولذا جاء الكلام في الفن وسيلة فنية شعرية إلى إبداع ملحمة في شأن الإنسانية منذ نشأتها، ومن أقدم عصور اليونان، ومن أيام السامري وبني إسرائيل وموسى في أرض مدين؛ وتعني البيض وغيرهم، حتى زنوج هاواي؛ وتقص طبيعة البشر وأثر الغريزة في الرجال والنساء طرَّا:
نعم، أنت هن. . . نعم، ما أرى؟
…
أرى الكل في امرأة واحدة
لقد فنيت فيك أرواحهن
…
وها أنت أيتها الخالدة
أأبغض (حواء) وهي التي
…
عرفتُ الحنان لها والرضى؟
ورثت هواها فرمت الحياة
…
وحبَّب لي العالم المبغضا
هو الرجل القلب، لا غيره
…
فأودعنه القبس المضرما
إذا ما اقتحمتّن هذا السياج
…
فقد خضع الكون واستسلما
(على الأرض)
هنالك حيث تشبَّ الحياة
…
وحيث الوجود جنين العدم
وحيث الطريدان شجَّا الكؤوسَ
…
ومجَّا صُبابتها من قِدم
(في الزنوج)
وما أخطأ الطيف ألوانه
…
ولكنه اللهب الأحمر
لهم أعينٌ تتملى الجمال
…
وأفئدة بالهوى تشعر
تفَّرد فْهمُ بالخفاء
…
وصيغ بفطرتهم واتسم
له بأس (مانا) وإيحاؤه
…
إذا اضطربت روحه بالألم
ورقت (هاواي) في شدوها
…
إذا جاش خاطرها بالنغم
هم الناس لا يعشقون الخيال
…
إذا لم يكن حافزاً للطماع
هم الناس لا يعبدون الجمال
…
إذ لم يكن نهزة للمتاع
هم الناس لا يألفون الحياة
…
إذا لم تكن معرضاً للخداع
هذا، إلى أن المقدمة الشعرية والملحمة ذاتها تدلان دلالة واضحة على أن الشاعر قد طافت خواطره المجنحة في أحوال البشرية منذ أقدم القدم إلى حاضرها؛ وإن مخيلته الخصبة، وقلبه الفياض، قد تأثرا من عقائد راسخة في نفسه. . . نفسه المستنيرة بأدب جم وبمأثور في الإنسانية؛ وإن هذه النفس الحية، عرتها هزة الإلهام، فتبعث منها هذا الشعور الصادق المشرق الآسر:
(من المقدمة الشعرية)
إلى قمة الزمن الغابر
…
سمت ربة الشعر بالشاعر
يشق الأثير صدى عابراً
…
وروحاً مجنّحة الخاطر
وأوفت على عاَلم لم يكن
…
غريباً على أمسها الدابر
نمت فيه بين بنات السديم
…
وشّبت مع الفلك الدائر
مشاهد شتى وعتها العقول
…
وغابت صُواها عن الناظر
وجود حوى الروح قبل الوجود
…
وماض تمثّل في حاضر
تبدَّى لها فأنجلي شكها
…
وثابت إلى وعيها الذاكر
وأصغت فمرّت على سمعها
…
رواية ميلادها الغابر
على مذبح الحب من قلبها
…
سراج يسِّبح مَن لألأة
وتمشى الحياة على نوره
…
وما نوره غير عين امرأة
هو الحب؟. . لا. . بل نداء الحياة
…
تلبيه أجسادنا الضامئة
يخفّ دمي لصداه الحبيب
…
وتدفعني القدرة الهازئة
قلوب تلذّ بتعذيبها
…
غرائز عانية عارمة
صحت من خُمار ملذاتها
…
تعنِّف أهوائها الآثمة
هو ابن السماء. ولكن
…
من النقص تركيبه والتمام
صناع الطبيعة بل صنعها
…
فمنا دمامته والوسام
يسفّ إلى حيث لا ينتهي
…
ويسمو إلى قمة لا ترام
ويسقى بكأس إلاهية
…
مرنَّقة بالهوى والأثام
(من الخاتمة)
غدا تدرج الروح في طيفها
…
وما الطيف للروح إلا قناع
سترقد في غورها الذكريات
…
وتوقظهن السنون السراع
وتمشي لحاضرها في الحياة
…
بمصباح ماض خفي الشعاع
وكم نبأت كالحديث الجديد
…
وما هو إلا القديم السماع
من الخير والشر إلهامها
…
مقادير تجري بهن اليراع
ما أحب هذا الشعر وأسرعه إلى القلب واللب! وما أنفسه في الأدب! ثم إنه قريب إلى المعقول على نظريتي الحياة في الفلسفة العلمية: النظرية الروحية والنظرية الآلية!
فقد فطر الإنسان على غريزتين أصليتين، تعمل أحدهما على حفظ الفرد وتعمل الأخرى على حفظ النوع، وهذه هي علة التجاذب القاهر بين الرجل والمرأة، ولو بطل عملها لا نقرض النوع
والجسد مكمن الغريزة، أما الروح فهي مجمع الملكات السامية من المخيلة والشعور أو الوجدان والعقل والإرادة؛ وهي مبتدعة القيم الأخلاقية العالية والشعر وجميع الفنون
والإنسان يسف بغرائزه الحيوانية، ويسمو بملكاته الروحية؛ وقد تدرج بها إلى إنسانيته الحاضرة في مراقي أطوار غابت معالمها في غياهب الدهارير. ولاحظ الآدمي في حين من الدهر طواه الماضي السحيق أن هذه الملكات التي يتفوق بها على الحيوان تذهب مع الروح، وإن من فارقته روحه بقي جثة هامدة من اللحم والدم لا تلبث أن تنحل؛ ولذا قيل
إن الروح هي الأصل السماوي، وما الجسد إلا شبح تقمصته عند هبوطها من العالم العلوي
والملكات الروحية تؤثر في الجسد وغرائزه، كما أنها تتأثر منها. وما هذا التفاعل مختلف الأثر باختلاف عوامل شتى، كالوراثة والعادة والمعيشة والبيئة؛ مختلف الأثر في كيان كل شخصية، وفي شعورها بالذات والألم؛ وهذان هما سبب الفضيلة والخير، والرذيلة والشر جميعاً؛ والفضائل والرذائل خلال في البشر على نسب متفاوتة؛ فمنهم من هم أدنى إلى الحيوان، ومنهم من هم أدنى إلى الإنسان المثالي. وفي سورة (الشمس):(ونفسٍ وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد افلحَ مَنْ زكاها، وقد خاب من دساها)
تؤثر الملكات في غريزة حفظ النوع التي هي علة التجاذب القاهر بين الرجل والمرأة، فتلطف من حدتها وتهذبها بقيم أخلاقية هي قوام الحياة الاجتماعية؛ ولكن هذه الملكات لا تكف الغريزة عن العمل. ولذا فهي تخفي فعل الغريزة وراء أستار من المعاني والخيالات والأسماء الشريفة، إذ تسمي الجاذبية في الذكر والأنثى جمالاً، وسلطان الغريزة حباً؛ وتسمى اللذة من وصف الجمال والحب، أو من تصويرهما، فنا. بيد أنها لن تستطيع منع السنة الفطرية إن تبلغ غايتها في حفظ النوع. فإذا كان تغلب الغريزة خطيئة آدم وحواء، فهي خطيئة يذوق الإنسان مرغماً مر عواقبها وحلوه، ولن ينال الغفران وإن كفر عنها ما استطاع بفضائله
وفي ذلك حقائق كشفها الإنسان بخبرته وعلمه
وقد نظر الشاعر الملهم في ماضي الإنسانية البعيد وحاضرها، وأرادت خواطره المجنحة سيرة البشر، ثم عرض بفنه الجميل ما جنت من يانع الثمر، في ملحمة من كنه الشعر وسحر البيان.
(البقية في العدد القادم)
محمد توحيد السلحدار
يوم من أيام دمشق الخالدة
وفاة الإمام ابن تيميه
في 20 ذي القعدة سنة 728 هـ
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر العام في سورية ولبنان
(في شهر أغسطس الماضي أم دمشق الأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر العام في سورية ولبنان، فزار فيما زار قبر
الإمام ابن تيميه، ووقف عليه مستحضراً سيرته، مستذكراً
نبوغه، ثم كان من وحي هذه الوقفة الشاعرة هذا المقال القيم)
في سحر ذلك اليوم نعى المؤذن بمنارة القلعة شيخ الإسلام ابن تيميه وتناقل نداء ذلك الحراس على أبراجها فأذاعته المآذن من الجوامع والمساجد الأخرى، فأصبح الناس في اليوم التالي وقد سرى هذا النبأ بينهم، وغمرت المدينة موجة حزن وأسف عندما سمعوا بنبأ هذا الخطب الجسيم الذي أصابهم بفقدان العالم الإمام المجاهد الفقيه الحافظ الزاهد العابد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيميه.
وكان الشيخ محبوساً بالقلعة التي أمر نائبها بفتح أبوابها، وجلس في حجرة الوفاة يتقبل المعزين وقد اجتمع بها خلق من أصحاب الشيخ ورجال الدين وغيرهم من أعيان البلد. أما جماهير الشعب فقد أحاطت بالقلعة ووفدت عليها من أحياء الصالحية ومن جهات الغوطة والمرج بعد أن أقفلت المدينة أسواقها.
ويطنب المؤرخون في وصف ذلك اليوم وكيف تلقى الناس أخباره، وكيف ساروا في جنازة الشيخ عشرات الآلاف، وكيف اقتحموا باب القلعة ودخلوا زرافات على الشيخ يقبلون وجهه، وكيف امتلأت أرجاء قلعة دمشق وضج الناس بالبكاء والنحيب عليه والثناء والدعاء والترحم له.
فقالوا إن يوم جنازة ابن تيميه كان يوماً مشهوداً لم تر مثله دمشق في تاريخها، إلا أن يكون ذلك في أيام بني أمية حينما كانت قلب العالم المتمدين.
ولما أريد الصلاة عليه بجامع أمية خفت الجماعات إليه حتى امتلأت الرحبات والصحن وجيء بالجند لحراسة النعش؛ ولما صُلي عليه صاح صائح يقول: (هكذا تكون جنائز أهل السنة!) وخرجت جنازته من باب الجامع إلى مقابر الصوفية مارة بباب الفراديس وباب النصر وباب الجابية والقوم حولها خاشعون.
من هذا الشيخ الذي ارتجت له الشام بأسرها ونعته مآذن مصر، وأقيمت له كبرى جنائز أهل السنة بدمشق، ورفعته الجماعات إلى مصاف الأبطال برغم كونه سجين السلطة الحاكمة؟ ومن الذي ألقى الناس المناديل والعمائم على نعشه؟ ومن كانت تخشاه الدولة في الشام ومصر، ثم مات وعلى رأسه عمامة بيضاء بعذبات مغروزة وقد علا بعض رأسه الشيب؟
من هذا الذي فاضت روحه وقد تمتمت شفتاه بالآية الكريمة: (إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فكانت نهاية ثمانين ختمه لكتاب الله بدأها عند دخوله المعتقل، وبدأ الحادية والثمانين فأسلم الروح وهو يتلو هذه الآية الكريمة؟
لاشك في أنه من أولئك الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والعمل بما أمر به الله - هو صاحب دعوة قام بها مخلصاً وجهه لله وحده، له مذهبه وآراؤه. ولسنا نعرض لها فإن ما كتب فيها كثير، ولله الحمد، وهو متداول ومعروف، ولكنا نعرض لهذه الشخصية الإنسانية الفذة التي جمعت من الصفات والمزايا ما يضعها في مصاف عظماء الرجال من كل عصر
كان ابن تيميه شخصية فيها من الإيمان والقوة والإخلاص والجرأة والصلابة في الحق ما يجعله عالماً وحده. كان ابن تيميه صاحب رسالة من أولئك الذين بعثوا لينشروا بين الناس تعاليم وأفكاراً ومبادئ تهدم القديم الرث البالي، وتصور لهم المتناقضات السائدة في أوساطهم وتدعوهم إلى كلمة سواء، ثم ترسم لهم قيماً جديدة أخذها الشيخ من كتاب الله وسنة رسوله وهديه والعودة إلى السلف الصالح الذي كانت ترتجف لعزائمه الدنيا. واتخذ له نبراساً لا يحيد عنه هو تصفية العقيدة وتوجيهها إلى التوحيد والخضوع للذات السرمدية
الأحدية التي تسيطر على هذا الكون وتقوده إلى الخير الصرف إن تعاليم ابن تيميه خالدة بين الناس، وهي لا تزال تشغلهم وسوف تشغلهم في المستقبل القريب والبعيد، ولكن شخصيته وعمله وبطولته أمور لا تزال خافية على الكثيرين، ولذلك سنحاول أن نعرض لبعض نواحيها. ويسرني أن أكون قد أديت بعض الدين لصاحبها ولمدينة (دمشق) التي ضمت رفاته، ولها في قلبي ونفسي أروع وأسمى مكان
ودمشق إذا افتخرت بتاريخها الخالد وأيامها الغر وآثارها التي نحج من مصر وغيرها لرؤيتها؛ وإذا افتخرت بدولها ورجالها وأبطالها، فمن حقها أن تفخر بابنها البار الإمام ابن تيميه الذي عرض حياته للموت من أجلها، والذي جاهد أكمل جهاد، وذاق مرارة السجن، وتحمل كيد الكائدين، فهو جدير بأن تقام باسمه مدرسة، أو ينشأ باسمه ميدان، أو أن يفرغ لذكراه يوم أو بعض يوم
ابن تيمية المجاهد المرابط ضد التتار
يموج وسط عجيج الناس في دهش
…
من نبأة قد سرى في الحي سأريها
(من عمريه حافظ)
كانت سنة 699 هجرية سنة مهولة على البلاد، إذ قصد التتار تحت قيادة قازان الأراضي الشامية، ولم يكن هناك بيبرس أو قلاوون ليحميها أو ليخلق من الهزيمة نصراً كما حدث قبل ذلك في عين جالوت أو مرج حمص
كان التتار يغزون وهم على دين آبائهم؛ أما هذا العام فقد جاءوا واسم سلطانهم محمود، وهم يظهرون الإسلام ومعهم المؤذن والقاضي والشيخ والإمام، ليؤمهم في أوقات الصلاة.
جاءوا إلى الشام، وقد اختل أمر مصر والشام، وانضم فريق من أمراء البلاد إليهم، فسلمهم الجزء الشمالي من سورية بغير قتال
وصلوا النبك، واحتوا القطيفة، وانكفأ جيش مصر والشام إلى البقاع وبعلبك، وفتحت دمشق أبوابها عدا قلعتها العتيدة التي أبت أن تستسلم
وكان ابن تيميه في التاسعة والثلاثين من عمره في حركة دائمة، لا يستقر ولا يهمد، لم يقبل أن تترك دمشق بغير أمن، فذهب مع أعيان البلد وقابلوا عاهل التتار، واحتج عليه
قائلاً: (أنت تزعم أنك مسلم، فلماذا أتيت إلينا غازياً وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت؟!)
واشتد اللجاج بينه وبين قازان وقطلوشاه وبولاي. وأتوا للوفد بطعام، فأكلوا منه إلا ابن تيميه. فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس؟!
قيل وطلب إليه عاهل التتار الدعاء فقال في دعائه: (اللهم إن كان عبدك محمود هذا إنما يقاتل لتكوم كلمتك هي العليا، وليكون الدين كله لك، فانصره وأيده وملكه البلاد والعباد. وإن قام رياءً وسمعة وطلباً للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره) قال هذا وقازان يؤمن على كلامه. ولما خرج الوفد من حضرة العاهل التتري التفت بعضهم إليه قائلاً: كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك. والله لا نصحبك من هنا.
والغريب في أمره بعد هذا أن يتبرك به جند التتار ويلوذون به فيدخل دمشق وفي ركابه ثلاثمائة منهم!
كان وقتاً شديداً على الناس، فتحت فيه السجون وخرج منها الأشرار ينهبون، وامتلأت القرى بالجنود، وكثرت المصادرات وراجت الأراجيف والإشاعات؛ كل هذا والشيخ لا ينفك يرأس الوفود ويفك الأسرى ويواسي المرضى
وفي يوم من الأيام رحل جند التتار عن البلاد وانسحبوا إلى عقبة (دمر) ومنها غادروا المدينة تاركين بها أحد الأمراء من الذين انضموا إليهم نائباً عنهم. كل هذا والقلعة صامدة وابن تيميه يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط
وأخيراً انكشفت الغمة بقدوم عسكر مصر وفتح لهم باب الفرج مضافاً إليه باب النصر. وجاء عسكر الشام وعلى رأسه نائب دمشق جمال الدين الأفرم وكان دخولهم في تجمل زائد الوصف.
ابن تيميه يلازم عسكر الشام في تنقلاته
نفخت روح الجهاد في نفسه نشاطاً جعله يختلف عن غيره من شيوخ عصره؛ فهو بمجرد
عودة عسكر دمشق لا يتركهم بل يلازمهم في تنقلاتهم وفي ركابه خلق من أهل حوران يدعو إلى الهدى؛ فمر ببعلبك والبقاع وجبال الجرد والكسروان يخطب ويهدي؛ فتاب كثيرون على يديه وحسن معتقدهم، وكان كثيرون لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
وحينما عاد أمير دمشق وقد رأى من عمل الشيخ وفتوته ما رأى أمر لأول مرة أن يتعلم الفقهاء الرمي بالنشاب وأن يستعدوا بتعلم الفروسية وطرق القتال المختلفة ليواجهوا العدو إن حضر، ولا ريب في أن للشيخ يداً في ذلك الرأي السديد.
(البقية في العدد القادم)
احمد رمزي
مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية
نقلاً عن (برنارد لويس)
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
3 -
القرن التاسع عشر
(تابع)
خصص (لين) نفسه في السنين التي أعقبت عودته مباشرة لتحضير ترجمة إنجليزية لكتاب (ألف ليلة وليلة). وكانت الترجمات الأولى منه سبق أن ظهرت واكتسبت شهرة كبيرة ولكنها كانت غير دقيقة وغير علمية، فأخذ (لين) على نفسه أن يقوم بترجمة تحتفظ في غير الوقت بمعنى وجود النص الأصلي.
وقد أرفق ترجمته تلك بملاحظات وشروح عن العادات الإسلامية في العصور الوسطى وطبعت بعد ذلك منفصلة بعنوان:
(الحياة العربية في العصور الوسطى).
وكان في خلال ذلك الوقت يفكر في تصنيف قاموس عربي إنجليزي واسع، فقد كانت القواميس الأوربية السابقة للغربية - كقاموس جوليوس وفريتاغ وغيرهما - ذات نفع من بعض الوجوه؛ غير أنها وضعت على أساس غير دقيق، وهي ناقصة من عدة وجوه. فكانت فكرة (لين) أن يقوم بعمل منظم في القواميس العربية القديمة كتاج العروس وغيره، وعلى أساس ذلك العمل يقوم بإعداد معجمه، وفي يوليو سنة 1420 سافر للمرة الثالثة إلى مصر حاملاً هذه الفكرة، وشرع يعمل من سنة 1842 إلى سنة 1844 في القاهرة من 12 ساعة إلى 14 ساعة يومياً بصورة اعتيادية، ونادراً ما كان يغادر داره، وفي الأخير، عندما جمع المادة اللازمة من القواميس العربية - ويجب أن لا ننسى أنها لم تكن قد طبعت بعد، وأن الحصول عليها لم يكن ميسوراً - عاد إلى إنجلترا وقضى السنين الخمس والعشرين الأخيرة من حياته في إكمال هذا المعجم. ولقد كانت المهمة شاقة؛ فإن دراسة اللغة العربية - وهي في ذاتها مجهود كبير - لم تكن إلا بداية له، فيبقى من ورائها الغربلة والتحضير والتصنيف، أي - بالاختصار - يبقى العمل الشاق المضني لصنع معجم منظم منسق على
الطريقة الأوروبية من بين المادة المشوشة التي كانت تحت يديه. ولم يكن العمل - حتى تاريخ وفاته في سنة 1876 - قد أنجز، غير أن الأجزاء العديدة التي كان قد نشرها تشكل جزءاً ثميناً من الدراسة الشرقية، وهو يعتبر بصورة عامة جزءاً لا يمكن الاستغناء عنه من المؤونة التي يتزود بها طالبو العربية الجدد. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم بقي معجم (لين) الأول من نوعه كما أنه كان الأساس لمعظم القواميس العربية المتأخرة باللغات الأوربية.
وقد ظل (لين) طيلة حياته (أستاذ الدراسات العربية العظيم) كما نعته بذلك أحد العلماء المشتغلين بالعربية من الألمان، وقدرته الجمعيات الثقافية في عدة عواصم أوربية.
أما (إدوارد هنري بالمر) - وهو أحد العلماء الإنجليز المعروفين في القرن التاسع عشر - فربما كان أكثر اشتهاراً في الشرق باسم (الشيخ عبد الله). وقد ولد في كامبردج في سنة 1840 وتوفي في مصر سنة 1882 وهي السنة التي قامت فيها ثورة عرابي باشا. وأظهر منذ طفولته قدرة كبيرة على تعلم اللغات فأجاد الفرنسية والإيطالية بطلاقة. ولما بلغ العشرين من عمره تعرف إلى شخص يدعى (سيد عبد الله) وهو أحد المسلمين الهنود، وكان حينذاك محاضراً باللغة الهندستانية في جامعة كامبردج، واكتسب منه الاهتمام بالدراسات الشرقية؛ فقام بنشاطه المعهود بدراسة اللغات العربية والفارسية والأردية في آن واحد، ولم يمض عليه زمن طويل حتى شرع ينقل الشعر الإنجليزي إلى (لغته العربية المفضلة) وينظم بالفعل شعراً عربياً أصيلاً. وبعد ذلك مبشرة قرر أن خير طريق لتعلم اللغة العربية هو أن يتعلمها من العرب أنفسهم، فنراه يتصل بصلة قريبة بأعضاء عديدين من الجالية العربية في إنجلترا - وكان أحدهم وهو سوري من حلب يدعى (رزق الله حسون الحلبي) الذي أصبح صديقه المقرب، والذي كان له تأثير في مؤلفات بالمر وخلقه، فدرسه دروساً كثيرة، وكان بالمر يحترمه كثيراً - وبعد ذلك بقليل دخل (بالمر) جامعة كامبردج وواصل دراساته الشرقية بصورة أكثر تنظيماً، وكان يطمح منذ زمن بعيد أن يزور بلاد العرب ويتعرف شخصياً تلك الأمة التي كان يعجب كثيراً بلغتها وآدابها. وفي سنة 1869 أتيحت لفه تلك الفرصة؛ ففي تلك السنة والسنة التي تلتها، قام (بالمر) برحلتين إلى الشرق الأدنى، بالنيابة عن (جمعية كشف فلسطين)؛ وبذلك أتيحت له الفرصة الأولى
لكي يدرس عن كثب الثقافة العربية واللهجات العربية، تلك الفرصة التي انتهزها كلها. وبعد أن عاد إلى إنجلترا بقليل عين أستاذاً للغة العربية في كامبردج، وقسم عمله عدة سنين بين العمل الأكاديمي والعمل الصحافي، وأصدر بضعة كتب مهمة. وفي سنة 1882، زار مصر مرة أخرى، وقام برحلة جريئة على ظهور الخيل في شبه جزيرة سيناء، وهي تلك المنطقة التي يعرفها جيداً من رحلاته السابقة. وقد أصبح ركوب (الشيخ عبد الله) في الصحراء يذكر الآن كما تذكر الأساطير، وكانت خاتمته فاجعة، فقد كان ذلك الوقت زمن اضطرابات في الشرق الأدنى؛ ولذلك كانت الأسفار فيه أكثر من مخاطرة اعتيادية، فقتله قطاع الطرق من البدو في عودته من رحلته في الصحراء، وانبتت تلك الحياة الحافلة عن عمر مبكر يناهز42 عاماً
ربما كان (بالمر) فريداً بين المستشرقين الأوربيين باعتبار أنه لم يقتصر على اكتساب المعلومات الأكاديمية للغة العربية فحسب، بل تعمق في روح الأمة العربية ولغتها. وكان من القليلين من المستشرقين الأوربيين الذين كانوا يستطيعون الكتابة باللغات الأجنبية بطلاقة ودقة، وبعض كتاباته باللغة الأردية تقرأ في الهند كثيراً. ويعتبر وصفه بالأردية لزيارة الشاه الإيراني لإنكلترا من الخوالد. وكان يكتب وينظم بالعربية والفارسية كلتيهما. ومن الطريف ذكره في هذا المجال، أنه عندما كان يكتب إلى زملائه المستشرقين خطاباته الخاصة، يجد أنه لا يستطيع الأداء عما في نفسه بصورة محكمة باللغة الإنكليزية، فيندفع كاتباً بالعربية. وقد ذكر عنه أحد أصدقائه وزملائه ج. ف نيكول أستاذ اللغة العربية في أكسفورد ما يلي:(لقد كان (بالمر) غير مستقر في رسائله التي كان يكتبها بالإنكليزية، فكان ينفجر تحت تأثير احساسات طارئة، أو بقصد النقد ذاكراً بعض النثر أو النظم الفارسي أو العربي).
ويمكن اعتبار القطعة التالية نموذجاً لشعر بالمر العربي:
ليت شعري، هل كفى ما قد جرى
…
مذ جرى ما قد كفى من مقلتي؟
قد برى أعظمُ حزن أعظمي
…
وفنى جسميَ حاشا أصغري
وبالرغم من قصر عمر بالمر، فإنه خلف قائمة كبيرة من الكتب المطبوعة، نجتزئ بذكر المهم منها فيما يلي:
لقد قام قبيل وفاته بطبع النص الكامل لديوان البهاء زهير المصري مصحوباً بترجمة منظومة وشروح مقدمة. وفي السنة التي تلتها نشر أجرومية للغة العربية بالإنكليزية، وهي على خلاف الأجروميات السابقة قد وضعت على الطريقة التقليدية التي كان النحويون العرب يتبعونها، وحاول أن يقدم النحو العربي إلي الطلاب الإنكليز بالشكل الذي كان العرب أنفسهم يدرسونه. وقد ظهر هذا الكتاب في طبعته الثانية موسعاً في السنة التي تلت وفاته. وأهم من ذلك نوعاً ما كتابه عن حياة هارون الرشيد الذي قدم فيه (بالمر) صورة زاهية من العاصمة العباسية في عصر أشهر الخلفاء، كما أنه نشر عدة ترجمات شعرية من العربية والفارسية، وقاموساً فارسياً، وفهرساً انتقاديَّا للمخطوطات الشرقية في كامبردج، ووصفاً لرحلاته في شيه جزيرة الطور. وقد حزن لوفاته أصدقاؤه الكثيرون. والمعجبون به في جميع أنحاء العالم، وظهرت مراثٍ له فيما لا يقل عن الخمس عشرة لغة منها اللغة العربية
وهناك عالم آخر من الدرجة الأولى في الأهمية وهو (وليم رايث)، (1840 - 1889) وهو ابن ضابط إنكليزي في الهند، وقد ولد في ذلك القطر، وكانت أمه ضليعة في عدة لغات شرقية، فشجعته على أن يعتنق الدراسات الشرقية من باكر عمره، فدرس العربية في الجامعات الإنكليزية وفي القارة، وأشتغل مدة في ليدن على المستشرق الهولندي العظيم (راينهارت دوزي)، وكان أستاذ العربية في لندن ودبلن وكامبردج على التعاقب. وقد كتب إلى صديق له - وكان في الثانية والعشرين من عمره - انه اختط لنفسه خطة يهب فيها حياته لدراسة اللغة العربية. وكانت تلك الخطة طموحة، ولكن ما أعجب ما وصل (رايث) من المدى في تحقيقها في السنين التي تعاقبت بعد ذلك!
كان من أهم أعماله للأدب العربي عملان: أحدهما طبعته لرحلة ابن جبير، والآخر طبعة لكتاب المبرد المشهور (الكامل) واشترك مع دوزي في طبع تاريخ الأندلس للمقري. ونشر كذلك عدة نصوص عربية أخرى. ولا يزال كتابه عن النحو العربي (في مجلدين) من خيرة الكتب في هذا الموضوع، ويستعمله جميع الطلاب المتقدمين في البلاد التي تنطق الإنكليزية
وقد خلف (رايث) على كرسي اللغة العربية في كامبردج (روبر تسون سمث) (1846 -
1894)، وهو إسكتلندي من (أبردين)، درس العربية في جامعة تلك المدينة وفي القارة، وسرعان ما اكتسب الشهرة، فقدم له جماعة من المعجبين به في سنة 1881 مجموعة من الكتب والمخطوطات العربية هدية تقدير، وقام بعدة رحلات إلى الشرق الأدنى بين سنتي 1879 و1881، وساح كثيراً في فلسطين ومصر وسورية، حتى الجزيرة العربية، حيث تغلغل إلى جدة والطائف. وتشمل كتبه المطبوعة دراسات عن:(القربى والزواج عند العرب القدماء)، ونواحي أخرى من تاريخ العرب قبل الإسلام. وكان محرر (الموسوعة البريطانية)؛ ولذلك فإنه يعتبر الشخص الوحيد الذي قرأ هذه الموسوعة كلها قراءة إمعان
ولقد كان ذا اطلاع عجيب، وكثيراً ما كان يستشير استغراب أصدقائه بعمق معلوماته وتشعبها في جميع أنواع الموضوعات. ولقد قيل عنه إنه أملى محاضرة كاملة عن تاريخ إنكلترا في العصور الوسطى، وهو في شبه غيبوبة، وعلى فراش الموت!!
ونذكر في الأخير (سر وليم موير)(1819 - 1907) وهو أحد المشتغلين بالعربية من الإسكتلنديين، وكان ذا سيرة حافلة كإداري في الهند وكعالم في جامعة أدنبرة. وقد نشر عدة كتب بالإنجليزية عن محمد صلى الله عليه وسلم، وعن التاريخ الإسلامي. ولا يزال عدد من هذه الكتب يستعمل أصولاً في الجامعات الإنجليزية والهندية، وأحقها بالذكر السيرة الكاملة لحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ذلك الكتاب الذي خلا من الغرض خلوَّا تاماً. ولا يزال كتابه عن تاريخ الخلافة الذي وضعه على أساس المصادر العربية - وكان الكثير منها في ذلك الحين مخطوطاً - خير الكتب في هذا الموضوع بالإنكليزية.
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين
من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)
دَنّيَّةُ القاضي في العصر العباسي
للأستاذ ميخائيل عواد
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
كان ببغداد قاض يعرف بالجذوعي، واسمه محمد بن محمد ابن إسماعيل بن شداد أبو عبد الله الأنصاري (المتوفى سنة 291 هـ) حكى بن الجوزي قصة وقعت للجذوعي هذا مع غلام من متقدمي غلمان الموفق، وكان أميراً يوم ذاك، ومدار القصة دنية الجذوعي القاضي. قال أبو الفرج:(. . . فقال المعتمد من هذا؟ فقيل له الجذوعي البصري، قال وما إليه؟ قالوا ليس إليه شئ؛ فقيل مثل هذا لا ينبغي أن يكون مصروفاً فقلدوه واسطاً؛ فقلده إسماعيل وانحدر، فاحتاج الموفق يوماً إلى مشاورة الحاكم فيما يشاور في مثله، فقال استدعوا القاضي، فحضر وكان قصيراً وله دنية طويلة، فدخل في بعض الممرات ومعه غلام له، فلقيه غلام كان للموفق، وكان شديد التقدم عنده، وكان مخموراً؛ فصادفه في مكان خال من الممر، فوضع دنيته حتى غاص رأسه بها فتركه ومضى، فجلس الجذوعي في مكانه، وأقبل غلامه حتى فتقها وأخرج رأسه منها وثنى رداءه على رأسه وعاد إلى داره. وأحضر الشهود، فأمرهم بتسليم الديوان، ورسل الموفق يترددون، وقد سترت الحال عنه حتى ذكر بعض الشهود لبعض الرسل الخبر، فعاد إلى الموفق فأخبره بذلك؛ فأحضر صاحب الشرطة وأمر بتجريد الغلام وحمله إلى باب دار القاضي وضربه هناك ألف سوط. وكان والد هذا الغلام من جلة القواد، ومحله محل من لو هم بالعصيان لإطاعة أكثر الجيش، فلم يقل شيئاً. وترجل القواد وصاروا إليه وقالوا مرنا بأمرك، فقال إن الأمير الموفق أشفق عليه مني، فمشى القواد بأسرهم مع الغلام إلى باب دار الجذوعي فدخلوا إليه وضرعوا له، فأدخل صاحب الشرطة والغلام وقال له لا تضربه، فقال: لا أقدم على خلاف الموفق. قال: فإني أركب إليه وأزيل ذلك عنه، فركب فتشفع له وصفح عنه)
ومن ظريف الترادف قول بديع الزمان الهمذاني حينما كتب إلى القاضي أبي القاسم علي بن أحمد، يشكو أبا بكر الحيرى (. . . ثم يلبس دنيته، ليخلع دينيته، ويسوى طيلسانه،
ليحرف يده ولسانه. . .)
وفي بعض أخبار الظراف والمتماجنين إن سعد بن إبراهيم الكاتب قال يوماً لعبادة المخنث: (يكون مخنث غير بغاء؟ قال: نعم. ولكن لا يكون مليح: يكون مثل قاضي بلا دنية)
ولقد تقاذفها الشعراء في هجوهم. فمن قائل في حث متحكم على إعطاء رشوة إلى قاضٍ:
يا خليّلي يا أبا الغيث درك
…
نصب القاضي لكَ اليوم شرك
طلب البرطيل فأبذلهُ لهُ
…
يسكت القاضي وإلاّ ذكرك
لا يهولنك دَنِّيَّته
…
أعطه من رشوة ما حضرك
وعلى ذكر إعطاء الرشوة للقاضي، وكان أمرها مشتهراً يوم ذاك، قال عمارة اليمني (المتوفى سنة 569 هـ) في ترسلاته:(. . . وقاضي مصرك، قدمتا على الوالي، فأدلى القاضي بالدنيه، وأدليت أنت بالهدية. . .)
وكان أبو الحسين محمد بن محمد بن لنكك البصري مولعاً بهجو كلاب بن حمزة العقيلي أبي الهيذام اللغوي. فمن أهاجيه التي تعرض فيها للدنية قوله:
نفسي تقيك أبا الهيذام كل أذى
…
إني بكل الذي ترضاه لي راضي
ما كان أبدى فقيهاً إذ ظفرت به
…
فكيف ألبسته دنية القاضي
وهذا شاعر آخر من المائة الرابعة يسخر منها؛ فيذكرها مقرونة بغراب نوح؛ فيقول:
كأنّ دنِّيَّة عليها
…
غراب نوح بلا جناح
وقال آخر:
ترى قلانسهم كالرمح طعنّها
…
تخفي جراحاتها في جنب مغرور
وقال الصابئ:
وفوقه دنِّيَّة
…
تذهب طوراً وتجي
وكانت بعض النساء يفزعن من رؤية القاضي بدنيته ولحيته الطويلتين. فقد ذكر متن نقلاً عن الذهبي أنه: (كان ببغداد في سنة 368 للهجرة، قاض يعرف بأحمد بن سيار، وكانت له هيئة وجثة مهولة (كذا؛ والصواب: هائلة)، ولحية طويلة، فقدم إليه امرأتان ادعت إحداهما على الأخرى. فقال: ما تقولين في دعواها؟ قالت: أفزع؛ أيد الله القاضي. قال: ماذا؟ قالت: لحية طولها ذراع، ووجه طوله ذراع، ودنية طولها ذراع؛ فأخذتني هيبتها. فوضع القاضي
دنيته، وغطى بكمه لحيته؛ وقال: قد نقصتك (كذا؛ والصواب: نقصت منك) ذراعين. أجيبيني عن دعوتها)
وقد بالغ الناس في درجة استهزائهم بالدنية واحتقارهم لها. فمن ذلك ما حكي عن أبي الظاهر الذهلي الذي ولي قضاء مصر في شهر ربيع الأول من سنة 348 للهجرة أنه (كان في خلافة المطيع يلبس السواد، ويضع على رأسه دنية طويلة تزيد على الدماغ (كذا؛ والصواب: الذراع)، فتحاكم إليه زوجان؛ فبدر من المرأة في حق زوجها كلام، فقال لها: اسكتي هذا القاضي هو أبو الظاهر؛ متى زدت من هذا المعنى نزع الخف الذي على رأسه وقطعه على دماغك. فقال أبو الظاهر: قم يا كذا إلى لعنة الله! من أين لك أن هذا خف؟. . .)
هذه باقة أخبار في لطائف دنية القاضي تناثرت هنا وهناك، وكانت في جميعها مدعاة والسخرية، فكم جلبت تلك الدنيات من الأذى والألم لكثير من القضاة! وكم جرت عليهم من الويلات! وكم من دنية غاصت برأس صاحبها، وكم منها تعاورتها أيدي الصبيان والرعاع وتقاذفتها أرجلهم، وكم من قاض ترك عمله بسببها
فلا غرو أن هذا الملبوس الدخيل على العرب لم يرق لهم، ولم تستأنس عيونهم برؤيته فوق هام القضاة، فما أنفكوا يعرضون به ويستهجنون شكله حتى خف استعماله شيئاً فشيئاً على مر العصور، ثم زال من الوجود منذ عهد بعيد
(بغداد)
ميخائيل عواد
2 - إلى المعترضين علينا
للأب أنستاس ماري الكرملي
3 -
حل المعضلات
إننا لم نفكر يوماً، بل دقيقة، بل لحظة عين، أن نعت جمع التكسير يكون مفرداً مؤنثاً، أو جمعاً على السواء، والمطبوعات التي عنينا بنشرها - من تأليف ومقالات - مما طبع ولا نزال نتولى طبعه في المجلات والجرائد والكتب، نشهد شهادة تفقأ في العين حصرماً، وتذر فيها رماداً، في الوقت عينه بأننا عملنا - ولا نزال نعمل - بهذه الضابطة المطردة؛ ومن نسب إلينا الخلاف، فهو أعمى أو يتعامى، ولا يهمنا أمره، إنما إنكارنا كان لما كان على أفعل فعلاء وجمعهما على فعل لا غير؛ إذ لا يوصف الجمع المكسر والصحيح بغير هذه الصيغة الأخيرة؛ فإنك لا تقول البتة: رجال سوداء، ولا نساء سمراء؛ ولا نهارات زهراء، ولا ليلات بيضاء؛ حتى أن العوام لا تنطق بها. وكذلك لا تقول: كريات بيضاء، ولو علقت برجليك تلك الكرى دهوراً وعصوراً، توبة وندامة على ما سلف من أغلاطك، وعلى ما فرطت في حياتك
فالذي أنكرناه إذن - ولا نزال ننكره - هو قولك: كريات بيضاء. . . فهذا كفر نحوي عربي لم تنطق به العوام، ولا الأعاجم ولا الأروام!!
وقال أحد المعترضين المعاندين الذي لا يريد أن يهتدي إلى سواء السبيل: وبحسب قاعدة الكرملي، لا يجوز نعت المنازل بالأخرى ولا بالأولى، كما جاء في قول المتنبي:
هذى منازلك الأخرى نهنئها
…
فمن يمر على الأولى يسليها!
لكن، هل يستطيع هذا المخالف أن يقول لنا: أين رأى كلامنا هذا؟ أليس هذا كذباً منه وبهتاناً وافتئاتاً؟! فهل في (أولى)(أخرى) لون، أو عيب، أو حلية؟ وهل تجمعان على (أول) و (أخر) بضم أوليهما؟ أفليس هذا مخالفاً للشرط الرابع؟ فما هذا التعامي والعمي أجارنا الله منه؟
وأما قول الخصم: إن (المتنبي) قال:
(وبستانيك الجياد وما تح_مل من سمهرية سمراء)
فالسمهرية هنا مفردة والسمراء كذلك. والمفردة هنا منكرة تدل على جمع، فهي من قبيل
وضع الواحد موضع الجمع، وهذا معتاد في وضع الأجناس. قال هذا علي في المخصص 68:1.
وقال هذا المعترض المسكين المغرور: السماع يؤيد القياس في هذا الشأن، فمن السماع قول طرفة:
ويوم رأينا الغيم فيه كأنه
…
سماحيق ترب وهي حمراء حرجف
قلنا: (حمراء) هنا مجاورة (لهي)، وهي مفردة مؤنثة فحمراء صحيحة لما أشرنا إليه في الشرط الخامس
وقال المعترض أيضاً، محاولاً بكل قواه أن يضع رأيه الجامح موضع رأي ناجح، وذلك من العبث، فقال:(ومن ذلك قول الفند الزماني معاصر المهلهل)
(بقيت بعده الجليلة تبكي
…
والخدود العيطاء تدعو لحاحاً)
ثم قال: (هكذا جاء في روضة الأدب (ص185)، وشعراء النصرانية (ص243) انتهى.
قلنا: وحسناً فعل حين قال: (هكذا جاء في روضة الأدب وشعراء النصرانية، لأن سليقته تقول له: ليس هذا العجز من العربية في شيء، إنما هو باللغة الشويرية، ولم تكن هذه اللغة يوماً لغة فصيحة، بل خليطاً من العربية، والرومية، واليونانية، والزعفرانية، والجلجلوتية!
زد على ذلك أن صاحب روضة الأدب اسكندر آغا أبكاريوس وهو أرمني فاسد الذوق العربي، فهو غثاء سيل؛ وصاحب شعراء النصرانية شيخو، وكان رحمه الله حاطب ليل، على ما اشتهر عنه في سورية والعراق وديار النيل، فوقعنا بين غثاء سيل وحاطب ليل، لكن لا عتب على الأب شيخو، لأنه نقل أبياته الزمانية عن الأرمني المذكور، وهذا الرجل يكتب الأرمنية بحروف عربية، ويتوهم أنه يكتب المضرية، وإلا فما معنى قول الفند:(الخدود العيطاء)، وهل كانت أو تكون أو ستكون، أو سوف تكون، يوماً، الخدود عِيطاً (بكسر العين وإسكان الياء). فالعيطاء مؤنث الأعيط، والأعيط على ما في معاجم اللغة:(الطويل الرأس والعنق، والأبي الممتنع) فما معنى العيطاء وكيف تتفق مع الخدود؟ اللهم إلا أن يكون معناها غير هذا في إحدى اللغات الثلاث: المالطية والوقواقية، أو الشنقناقية؛ لكني أقر معترفاً أني أجهلهن كلهن. ولعل حضرة المجادل يفهمهن، فيفسر لنا الكلمة في موقعها هنا!
ثم لو فرضنا أن لها معنى غير مدون في كتب متون اللغة فليس ذلك دليلاً على أنها وردت في كلام الشاعر الأصلي، إذ البيت ظاهر الوضع وليس من كلام الأقدمين.
ثم لو فرضنا ثانياً أن لها معنى حسناً يناسب المقام هنا، فإن الفند الزماني كان من ربيعه بن نزار، والعربية الفصحى لم تنقل إلا عن قريش، وأسد، وتميم، وقيس، وكلهم من مضر، فكيف يستشهد بكلام من هو من ربيعه؟
ثم لو فرضنا ثالثاً - وهو أمر قريب من المحال - أن المجادل وجد لنا عشرة أبيات شعر ممن يستشهد بكلامهم وفيها ما يثبت دعواه، فليس ذلك بشيء، لأن شواهده ليست من القرآن، ولا من الأحاديث النبوية، ولا من كلام الفصحاء، والبلغاء، الإثبات، إذ لا يكون الكلام ممن يوثق به إلا إذا جاء منقولاً عمن أخذت عنهم العربية المضرية الفصحى.
ثم لو فرضنا رابعاً أنه أتانا بعشرة شواهد ممن يوثق بعربيتهم من قريش، وأسد، وتميم، وقيس، فعشرة شواهد غير كافية لوضع قاعدة.
ثم لو فرضنا أن العشرة شواهد التي جاءنا بها من فحول شعراء مضر ومن عشرة منهم، فإننا لا نقبل الشعر في اتخاذ القياس، لأن النظم يتحمل ضرائر لا يقبلها النثر، فنحن لا نرضى إلا بنثر رصين يذكر مثل تلك الكلمة أي الكريات البيضاء، وإلا فنصيب تلك الشواهد سلة المهملات، أو سلة المحترقات
فليتدبر حضرة مخالفي هذه الأقوال كلمة كلمة، ثم يتعرض للرد علىِّ رداً معقولاً يفهمه الناطقون بالضاد لا أبناء الشوير فقط
وقال أيضاً المعترض: (ورد في كتب النحاة كشروح ألفية ابن مالك، وفي المعاجم كالقاموس والتاج: جاءوا الجماء الغفير، أي يقال: جاء العلماء الجماء الغفير)
لله درك يا سيدي من عالم بارع ولغوي عظيم! إننا لم نجد في التأليف التي تشير إليها ما تقول. ففي أي طبعة من طبعاتها؟ وفي أي بلد من البلدان طبعت تلك المصنفات؟ وفي أي سنة من السنين نشرت؟ إنك لم تقل لنا كل ذلك. أما في الكتب التي بأيدينا فإنها لا تقول ما تدعي. وكيف يكون كلامك صحيحاً وفيه من الخطأ ما ارتعد له الملأ الأعلى، وأهل الأرضيين السفلي!
كيف يكون معنى جاءوا الجماء الغفير: جاء العلماء الجماء الغفير؟ ففي أي لغة تتكلم، وهل
تفهم ما تقول يا سيدي اللغوي القدير! أما نحن فنخالفك؛ فقد يقال: جاءوا الجماء الغفير من غير أن يكونوا علماء؛ إذ قد يكونون عوام وسوقة، فأين وجدت ما تقول؟ إننا نرى في تاج العروس في باب (جمم) ما هذا نقله:(وجاءوا جماً غفيراً، والجماء الغفير) أي (بأجمعهم) قال سيبوبه: (الجماء الغفير من الأسماء التي وضعت موضع الحال، ودخلتها اللام والألف، كما دخلت في العراك من قولهم: أرسلها العراك) اهـ. المقصود من إيراده وهنا كلام القاموس وكلام التاج أيضاً؛ فالذي بين هلالين هو للقاموس وما بقي هو للتاج على ما هو مقرر في هذا الديوان اللغوي
فيا سيدي وأستاذي العزيز، على من تريد أن تعبر عباراتك وآراؤك؟ وقراء هذه المجلة كلهم يفهمون ما تكتب وما تحاول أن تعبره عليهم من الأحلام والمنامات، وما شابه هذه الترهات والخزعبلات وأضغاث الأحلام
وقال حضرة سيدي وأستاذي الجليل: (وفي شرح الزوزني القاضي قول الحارث اليشكري: (وله فارسية خضراء) يقول: (وله دروع فارسية خضراء) فهذا كلام لا غبار عليه، لأن خضراء هنا مجاورة لفارسية، وفارسية كلمة مفردة مؤنثة وإن كان معناها يدل على جمع لأنها عائدة إلى (دروع). فراجع الشرط الخامس لتفهم سبب هذا القول، وإن كان يجوز لك أن تقول أيضاً:(وله دروع فارسية خضر) وهذه أفصح من تلك.
ثم من هو الزوزني، أبو الزوزني، وجد الزوزني بجانب نص القرآن، والأحاديث النبوية الصحيحة، وفصيح كلام البلغاء من العرب؟. أنسيت، يا سيدي وأستاذي، أن الزوزني قال هكذا في شرح بيت اليشكري:(يقول: ثم قابلنا بعد ذلك حجر بن أم قطام، وكانت له (كتيبة) فارسية خضراء لما ركب دروعها وبيضها من الصدأ. وقيل: بل أراد: وله دروع فارسية خضراء لصدئها) اهـ
فلو قال: أراد: وله (دروع خضراء) لما جاز لكنه قال: (وله دروع فارسية خضراء) فجاورت خضراء فارسية فجاز له هذا التعبير. ولا تنس انه قال في أول شرحه: (وكانت له (كتيبة) فارسية خضراء - فافهم يا سيدي، وتأمل وتدبر وترو إلى أن تروي من ماء الحقيقة ونميرها. والله المعين
(البقية في العدد القادم)
الأب أنستاس ماري الكرملي
أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
بغداد في 2691942
البريد الأدبي
1 -
الحدية اللغوية!
أخذ الأب أنستاس ماري الكرملي على الأستاذ محمد مندور خطأً لغوياً وقع فيه حين قال: (وأما قصة الكراكي، فقصة لا أثر لها فيما (عثرت به) من كتب اليونان)؛ وذلك لأن وجه الصواب أن يقال: عثرت (عليه) لا عثرت (به)، والعثور بالشيء غير العثور عليه. وقد أراد الأب الكرملي أن يبين للأستاذ مندور - في تضاعيف كلامه - معنى قوله:(عثرت به)؛ فقال: (. . . ولعله أراد أن يقول: فيما عثرت (عليه) من كتب اليونان، (أقاله الله من كل عثرة)، وإن الجواد قد يعثر). ولكن الأستاذ لم يلتفت إلى هذه الإشارة المقصودة؛ لذلك رأيناه في تعقيبه على كلمة الأب أنستاس يعود فيقول:(. . . إنني لم أعثر بها، ولا أقول: لم أعثر عليها - كما يقترح اللغوي الكبير الأب الكرملي - لأن المعنى الذي أريد أن أعبر عنه، هو إنني لم أعثر بها، أي لم أقع عليها؛ وللأب الفاضل أن يظهر علمه - إذا أراد - في غير هذه التوافه، وأن يتفضل بأن يترك للكاتب الحق في أن يتصرف في اللغة، وفقاً للمعنى الذي في قلبه)!
ولو أن الأستاذ مندور توخى الحق في تعقيبه، لما انساق إلى هذا الرد؛ إذ إن غرض الأب الكرملي - فيما أعلم - أن يرشد الكاتب إلى التعبير الصحيح المتفق مع اللغة التي يكتب بها؛ وأي إنسان يجهل الفرق بين عثرت (به) وعثرت (عليه)؟
ثم أريد أن ألفت نظر الأستاذ إلى أن ما يسميه (توافه)، ليس كما يتوهم: وسبب ذلك أن اللغة العربية - على الرغم من رحبها وسعتها - لغة دقيقة، تتميز بالعمق وبعد الغور؛ فأي اختلاف في حرف الجر الذي يجيء بعد الفعل يترتب عليه اختلاف في المعنى قد لا يفطن إليه الكاتب الذي لا يتوخى الدقة في التعبير. . . وأما الحرية اللغوية التي يطالبنا بها الأستاذ، فهي حديث خرافة، لا أضن أحداً من المخلصين للغتنا العربية يقبل أن يسمعه، ولأ أعرف واحداً من كتاب الغرب يدعيه لنفسه. فأنا أفهم أن تكون هناك حرية في التعبير وتخير الألفاظ، وصوغ أساليب جديدة؛ وأما الحرية في اللغة نفسها بحيث يكون للكاتب الحق في أن يقول:(عثرت به) حين يكون يريد (عثرت عليه)؛ فهذه حرية لا أفهمها، ولا يفهمها أحد، لأنها فوضى لغوية لا تباح إلا حين يكون لكل منا أن يخترع لغة جديدة تلائم
حريته!!
2 -
تعريب الأسماء الأعجمية
لاحظ الأب أنستاس الكرملي في كلمة الأستاذ مندور أخطاء كثيرة (وأصر على تسميتها أخطاء) في تعريب بعض الأسماء الأعجمية؛ فهو يقول مثلاً: (لوسيان) و (مارك أوربل) والصواب: (لقيانس) و (مرقس أوراليوس). وقد وقع بين يدي - بعد قراءة هذه الملاحظة - كتاب (المجمل في التاريخ المصري): (وهو من تأليف بعض أساتذة التاريخ بالجامعة المصرية)، فوجدت فيه أخطاء كثيرة من هذا النوع: فالكاتب مثلاً يسمى يوليانوس جوليان (ص101)، ويسمى كيرلس (وهو اسم شاعر شائع بمصر خاصة، فقد كان البطريرك الأسبق يسمى كيرلس الخامس): (سيرل ويسمى ديوقلديانوس (ديوكليشان)، ويسمى هباتيا (هباشيا)، ويسمى ثيودوسيوس (ثيودوزيوس)، وأثناسيوس (أثنازيوس) ومرقيانوس (مارسيان) ص102، ويوستنيانس (جوستينيان) ص104 الخ. وسبب هذه الأخطاء كلها رجوع الكاتب إلى الاسم في لغة غير لغته الأصلية - كالإنجليزية والفرنسية - حتى لقد سمى بعضهم سقراط (سوكراتيز)، أو (سكرات)!
والواجب (أن نعود إلى لفظ الأعلام كما ينطق بها أصحابها): (كما قال الأب الكرملي في مقاله، وكما قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية). وذلك لأن الاسم الأصلي كثيراً ما يختلف عن الاسم الموضوع باللغات الأجنبية؛ والعرب لم يترجموا الأسماء إلا عن لغتها الأصلية، ومن ثم نجد اختلافاً كبيراً بين الأسماء العربية التي وضعوها نقلاً عن اللغة الأصلية نفسها، والأسماء العربية التي يضعها بعض الكتاب نقلاً عن الإنكليزية أو الفرنسية. وهذا الاختلاف كثيراً ما يضيق به الطالب الذي يرجع إلى المؤلفات التاريخية العربية، مع أن الألفاظ التي يجدها في كتب العرب هي الأصح، لأنها أقرب إلى الأصل من الألفاظ التي ألف استعمالها عن الإنكليزية والفرنسية
ومن الغريب أن بعض أساتذة الجامعة يصرون على استعمال طريقة النقل عن هاتين اللغتين في تعريبهم للأسماء الأعجمية0 وأني لأذكر أن أحد أساتذتنا في الجامعة - وهو يدرس لنا الفلسفة المسيحية - نطق باسم فرده طالب من بيننا قائلا له: الاسم بالعربية هو (أمبروسيوس)؛ ولكن الأستاذ أبى أن يأخذ باللفظ العربي، مع أن الاسم في لغته الأصلية
ينطق بالسين لا بالزاي (كما يقال أيضاً فيلسوف لا فيلوزوف). ولا يفوتني أن أذكر في هذا الصدد أنني قرأت مقالاً في هذا الموضوع للفريق أمين باشا المعلوف، يتضمن بعض الأصول التي يجب التزامها في تعريب الأسماء الأعجمية (عن اللاتينية أو اليونانية)؛ فإلى هذا البحث أوجه نظر الأستاذ مندور - وغيره من أساتذة الجامعة المدققين - حتى يعم النطق الصحيح بين الطلاب، ولا يجد أحدهم صعوبة في تذوق اللفظ العربي الذي يعثر عليه في كتب التاريخ العربية.
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال
لم يكن لنا إلى ما قبل عشرين سنة أو ما حولها تاريخ مفصل لنهضة البلاد الوطنية يضمه كتاب، ولا سند صحيح لحركتها القومية يحتويه سفر، وإنما كان هذا التاريخ مطموس المعالم مبهم الحدود، حتى لو أراد دارس أن يقف عليه أو يلم به لأعياه السعي ولعميت عليه السبل، إذ لا يجد مهما جد في البحث وأمعن فيه إلا أنباء مبعثرة هنا وهناك بين صفحات أسفار لا يبلغها الحصر، ولو هو ظفر بشيء منها لوجده مما لا يشبع نهمه ولا يروي غليله. ومن الغريب أن يظل جهادنا لوطننا وكفاحنا في سبيل تحرير بلادنا، بغير تاريخ يبين أطواره، ويسجل أدواره، ويكشف عن نصيب كل جيل منه بما أنفق فيه من جهد وما قدم له من عمل!
وقد ظل هذا النقص بادياً في تاريخنا إلى أن قيض الله له مؤرخاً محققاً، وقانونياً كبيراً، وسياسياً محنكاً، ومجاهداً مخلصاً، هو الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك. توفر حفظه الله على دراسة هذا التاريخ والبحث عن تفاريقه الممزقة بين مئات الأسفار، واستقل بأعبائه وحده يؤلف بين هذه التفاريق ويجمع أشتاتها، مستنفداً ما وسعه من جهد في سبيل تمحيصها واستخلاص الحق منها، باذلاً في سبيل إحسان عمله كل نفيس من نفسه وماله، مما لا يكاد يستطيع فرد أن ينهض وحده به، حتى أخرج لنا في أصدق صورة وأبلغ بيان عملاً ضخماً، وعلى إنه ملأ مما عمل لهذا التاريخ تسعة أسفار كبار فإنه قد بقى منه أجزاءً
أخرى ستظهر إن شاء الله
كان الذي بعث عزيمة المؤلف على هذا العمل أنه كان يريد أن يضع (تاريخاً لفقيد الوطن العظيم مصطفى كامل علي مثال كتاب (بول دشانل) عن (جامبتا) خدمة للقضية الوطنية وأداءً لواجب الوفاء نحو من تلقى عنه مبادئ الوطنية الأولى) ولكنه وجد أن تاريخ هذا الزعيم يستتبع (الكلام عن مبدأ ظهور الحركة القومية بمصر والتطورات التي تعاقبت عليهاِ) فجعل همه أن يدرس هذه الحركة (من بدء ظهورها إلى اليوم) ذلك بأن مصطفى كامل إنما كان (يمثل دوراً من أدوار الحركة القومية سبقته أدوار وتلته أخرى، ولا تكون دراسة الحركة القومية وافية إذا اقتصرت على عصر واحد من عصورها، بل يجب أن يتناولها البحث بأجمعها)
ولما أنشأ يدرس الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل لكي يصل إلى مبدأ هذه الأدوار، وجد بعد مواصلة الدرس ومطاولة البحث إن (للروح القومية التي بدأت تظهر في أواخر القرن الثامن عشر - يجب أن يرجع مبدأ الحركة القومية المصرية؛ وإن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر)
ولم يقف به البحث عند دراسة الحركة القومية، بل وجد إن تاريخ هذه الحركة يدعو إلى (دراسة نظم الحكم التي تخللت أدوارها، ذلك إن سياسة الحكم وأساليبه كانت في مختلف العصور والبلدان الرئيسية لظهور الانقلابات والحركات القومية كما إن لهذه الحركات أثراً فعالاً في تطور نظام الحكم)
ولما استوت له هذه الطريقة ووضع لها المعالم وأحكام الحدود، أخذ يؤرخ هذه الأدوار على ما قدمنا، ثم زاد عليها ما يلابسها وما يتصل بها من دراسة الحركات العلمية والفكرية والاقتصادية مما هو كمال لها، وتمام عليها، بما في ذلك من ترجمة رجال هذه الحركات كلها
ولقد كنت أود أن أفصل القول في وصف هذا العمل العظيم الذي يعد بلا ريب من أعظم الأعمال التي يقوم بها المجاهدون المخلصون في سبيل أوطانهم، وإن أبين شيئاً مما جاء في هذا التاريخ الزاخر الذي أوفى فيه مؤلفه الجليل على غاية ليس فوقها مرتقى لهمة، ولا وراءها مذهب لذي إحسان، حتى يعرف القارئ الكريم مقدار هذه المعلمة الوطنية ويقف
على هذا النهج الفريد من التأليف الذي يجمع بين عف القول وصدق اللهجة وبين بلاغة العبير وتقرير الحق، ثم ما وراء ذلك من وزن الأمور بمعيار الدقة والنزاهة وهو ما اتصف به مؤلفنا الجليل سواء كان ذلك في أقواله وأفعاله أو في جهاده وتأليفه كنت أريد ذلك كله أو بعضه، ولكن ما أصاب الصحف في هذه الأيام من ضيق الصفحات وقلتها يضطر الكاتب إلى أن يلزم القصد في القول والإيجاز في التعبير
من أجل ذلك أراني مرغماً على الوقوف عند الكلام على هذا الجزء الذي عقدت من أجله هذه الكلمة ولكن بعبارة موجزة لا تعدو بضعة سطور. تكلم المؤلف الفاضل في هذا الجزء عن تاريخ مصر القومية مدى عشر سنوات (من سنة 1882 إلى سنة 1892) وهي السنوات الأولى للاحتلال وفصل القول في جميع ما جرى للبلاد في هذه الفترة من كل النواحي تفصيلاً لا يوجد مثله في كتاب. وبحسبك إنه قد جاء على غرار ما سبق من الأجزاء من حيث التحقيق والاستيعاب، فلم يدع صغيره ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا ترك ناحية من نواحي هذه الفترة من تاريخنا إلا بينها وجلاها. فجزاه الله بما قدم من عمل صالح لبلاده خير الجزاء، ووفقه بعنايته وفضله إلى إتمام ما بقي لهذا التاريخ من أجزاء، إنه سميع الدعاء.
(المنصورة)
محمود أبو ريه