المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 487 - بتاريخ: 02 - 11 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٨٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 487

- بتاريخ: 02 - 11 - 1942

ص: -1

‌أمثال أخرى وأفعال

للأستاذ عباس محمود العقاد

بين الروسيين والصينيين مشابهة محسوسة وهي اشتراك كل من الأمتين في الاتصال بالمغول من طريق المجاورة والمعاشرة والمصاهرة، واقتباس كل من الأمتين كثيرا من عادات المغول ومأثوراتهم في القصة والمثل والجديلة. فمن قرأ القصص والأمثال الصينية لم يعدم بينها وبين أمثال الروسيين وقصصهم مشابهة ظاهرة في الأسلوب والمزاج، ولم يكد يتخيل بين الأسلوبين فارقا بعيدا في غير الحواشي والتفصيلات. أما الجوهر فواحد أو يكاد أن يتوحد كما يتوحد الاقربون والصحبة المتلازمون

فإذا استحضرت أمثال الروسيين وتخيلت قائلها رجلا واحدا خيل إليك أنه إنسان صبور رصين مستسلم يعرف الدنيا معرفة هادئة، ويتحدث عنها تحدث سخر ممزوج بالآلفة والمحبة، وهذه هي الصورة التي تبدو لك من قراءة القصص وألا مثال الصينية مع فارق يسير تلمحه في جملة الأمثال وقد تخطئه في المثل الواحد والمثلين، ونريد به أن صقل الحضارة أظهر في أمثل الصينيين، وأن خشونة البداوة والفلاحة أظهر في أمثال الروسيين، ويتفرع على ذلك أن الصيني أقرب إلى السلم، وأن الروسي أقرب إلى الحرب، وان كانا يتلاقيان في خصلة متماثلة وهي أنهما يباشران الحرب دفاعا فيصبران عليها ويستبسلان فيها، ويباشرانها هجوما وعدوانا فلا يتحركان طويلا للهجوم ولا يحتفظان كثيرا بحماسة العدوان

وقد ظهر هذا جميعه في حرب الصين واليابان وفي حرب الروس والألمان، فظهرت شجاعة الصينيين وصبرهم كما ظهرت شجاعة الروسيين وصبرهم، ولم يعهد للأمتين قبل الآن مثل هذه الشجاعة ومثل هذا الصبر في حروب الهجوم والعدوان

وقد تحولت من أمثال الروسيين إلى أمثال الصينيين كما تتحول اليد من فاكهة إلى فاكهة مثلها على شجرتين متقاربتين في بستان واحد، فلم أشعر أنني أبعدت النقلة بين القطفتين وان كان لابد من خلاف بين ثمرة وثمرة وان قطفتا من شجرة واحدة

والصينيون أولع أمم العالم قاطبة بالمثل السائر والنادرة المنجمة على حسب العبر والوقائع. وليس هذا بعجيب مع ما هو معلوم من محافظة القوم على شعائر السلف

ص: 1

وتبجيلهم لذكرى الآباء والأجداد ورجوعهم بالحكمة كلها إلى عظات الأقدمين. وفي ذلك تأييد لما أسلفناه في ختام مقالنا السابق عن أمثال الروسيين

قلنا في ختام ذلك المقال أن إهمال العصريين لرواية الأمثال غير عجيب إذا نظرنا إلى الخلق الغالب بينهم، (فقل في أبناء عصرنا من يقتدي بالسلف أو يحب أن يقال عنه انه من يقتدي بهم في المعيشة والسلوك، ولا معنى لسرد الأمثال ما لم يكن ديدن السلف حجة مقبولة بين القائلين والسامعين)

والصينيون يستحدثون اليوم ما يستحدثون في عادات المعيشة وآداب السلوك ولا يزالون على ديدنهم القديم من تقديس الآباء وتوقير السنن المأثورة عنهم، فلا جرم يحرصون على الأمثال حرصا لا نعهده بين المحدثين وطلاب الاستحداث في أنحاء العالم، ولا جرم يودعون في أمثالهم من روح الشعب ما هو أبلغ في الدلالة عليهم والإبانة عنهم من الأسفار والموسوعات

قال دكتور هنري هارت في مقدمة منتخباته من الأمثال الصينية: (كل إنسان في الصين يتمثل الأمثال. . . وقد سمعتها من لسان الإمبراطور كما سمعتها من لسان الخادم الوضيع، فهي عندهم العملة الجارية في اللغة، والدرب المختصر في المحادثة، وكثيرا ما تغنى عن الناقشات الطويلة وتحل العقد الشائكة. فيشوق المشاهد أن يصغي إلى المعارك الكلامية التي لا تني تتردد بين أهل تلك البلاد، إذ يعرض الخلاف الصغير فيزدحم حوله الجمع الكبير من الكسالى والمستطلعين، وإذ يحتدم المختلفان قليلا قليلا وكلهم مولود على استعداد للتمثيل، فيلوح للمشاهد أن العنف واقع لا محالة وان لم يكن الصينيون مشهورين بالملاكمة وقليلا ما يعتدي أحدهم باليد على أخيه، ثم يتفق فجأة يتقدم أحد الواقفين - ويغلب أن يكون من الكهول أو الشيوخ - فيتكلم ويأتي بمثل موجز موافق للمقام، فكأنما تلك الكلمة النافذة المحبوكة هي الكلمة التي كان ينتظرها الطرفان المتشاجران، فتنحل العقدة المعضلة، ويتراجع الخصمان، ويتخافت صوتاهما العاليان، وترتفع ابتسامة في مكان العبوس، وتنتهي المشاجرة على خلاف ما يود المشاهدون من طلاب الضجيج والعجيج)

وهذا المشهد الذي وصفه المؤلف قد نراه في مصر ونذكر الكلمات التي تفض بها مشاجرات الطريق، فهي في الغالب أمثال شائعة، وفي الأغلب عظات من الكتاب والسنة

ص: 2

النبوية، ولكنها في القرى أعم منها في الحواضر الكبيرة، ولحكمة السلف ومقام الشيخوخة فيها أثر غير قليل

ولكنك لا تقرأ مئات الأمثال عندهم ومئات الأمثال عندنا حتى تلمح الفارق بين الأمتين وان اتفقنا على بعض العادات والخطرات

فأول ما يبدهك من جملة أمثالهم أنهم أبيقوريون يحبون الترف المريح، ويألفون الدعة الفلسفية التي تسكن إليها النفس كما يسكن إليها الجسد، ويؤثرون الترشف من النعيم على الغرق فيه، ويقنعون بتجزئة السعادة إذ لا سبيل إلى السعادة الكاملة التي تدوم ولا يخشى عليها زوال

ومن أبدع أمثالهم التي تنم على هذا المزاج قولهم: (من عاش يوما خاليا عاش يوما خالدا) وقولهم: (ألف ريال لا تشتري ضحكة واحدة)؛ وقولهم: (الأمراض تدخل من الفم والمصائب تخرج منه)؛ وقولهم: (البركة قلما تقبل أزواجا، والمصائب قلما تقبل فرادى)

وقد أوردنا للروسيين مثلا يعبر عن الفوارق الاجتماعية يقولون فيه: (أن عيوننا تملأها شمس واحدة وبطوننا لا يملأها طعام واحد). وهو شاهد بارع من شواهد الطبيعية يقاربه في معدنه قول الصينيين: (الصيف للجميع والشتاء على حسب الكساء)

وأوردنا للروسيين مثلا لرشوة الحكام إذ يقولون: (من باب الطريق صد ومن باب السر ترحيب) ويشبهه عند الصينيين في موضوع الرشوة وفعل المال في قضاء الحاجات قولهم وهو مختلف بعبارته متفق بمؤداه: (عشرة ريالات تحرك أرباب الهيكل ومائة ريال تحرك السماء نفسها!)

والقوم معروفون بقدم العهد بالدماثة المدنية وحسن الحفاوة في الاستقبال، وهو ظاهر من تعويلهم في التجارة على الابتسام إذ يقولون ما فحواه:(إن الذي لا ينفرج فمه بابتسامة لا ينفرج له باب دكان) ومن استعظامهم داء الجلافة إذ يقولون: (إنها داء ليس له عند الطبيب دواء)

ومن قولهم فيما يشبه ويتصل به: (إن فتح دكان لسهل، وإنما الصعوبة أن يظل مفتوحا. . .)

ومن أمثالهم التي تدل على الطبيعة الحذر فيهم أو تدل على نصحهم بالحذر والاحتراس:

ص: 3

(أحمل مظلتك والسماء صاحية، وادخر مئونتك وجوفك شبعان) و (الجمال لا يوقع الرجال في الشرك، إنما هم الذين يقعون فيه) و (لا تشتم امرأتك في المساء وألا نمت وحدك!) و (المرأة الشائهة والخادمة الغبية كنزان لا يقومان) و (لا ترسل الباز حتى تبصر الأرنب) وهكذا في عشرات من الأمثال

وربما كان الصينيون في طليعة الأمم التي هانت فيها أقدار المقاتلين وعظمت أقدار الحكماء والنساك، ولهذا تتواتر عندهم الأمثال التي تدل على نفاسة الحكمة وصعوبة الحصول عليها من قبيل قولهم:(الذهب له ثمن والحكمة بغير ثمن) وقولهم: (طالب العلم كالصاعد في وجه التيار إن لم يتقدم فهو منحدر)

وقولهم: (خذ الخمر قطرات والحكمة جرعات!) وقولهم: (المعرفة كنز يتبع صاحبه حيثما ذهب) وقولهم: (العلماء ذخائر الأمم) وقولهم: (من علمني يوما فهو أبي مدى الحياة)

وقد اشتهروا كذلك بالسكن إلى حياة الأسرة وجيرة الوطن، فحفلت أمثالهم بالتغني بالبيت والوطن؛ واجتمع أفضل ما قالوه حول هذا الغرض في مثلين نموذجين أحدهما قولهم:(لا يخلو البيت من راحة ولا خارج البيت من تعب) وقولهم: (لتكن حسناء أو شوهاء فهي بلادي. وليكن قريبا أو غير قريب فهو أبن وطني!) وربما زادنا علما بقوام البيت عندهم قولهم: (الزوجة لفضيلتها والخليلة لجمالها)

ومن نماذج السخرية المطمئنة في أمثالهم قولهم: (بائع البطيخ يقول أنه حاو!) وقولهم: (كلب ينبح على شيء، وألف كلب تنبح على نباحه) وقولهم: (نولد ولا نحضر معنا شيئاً، ونموت ولا نذهب بشيء) وقولهم: (الغراب أسود هنا وأسود في كل مكان) وقولهم: (إذا خلقت السماء آنسانا فله طلب لا محالة!)

وهم قديرون كالروسيين أو قديرون كعامة الشرقيين، فليس أكثر في أمثالهم من التسليم للقدر وقلة الجدوى في خلافه على تعدد في اللفظ وتوحد في المعنى، كما يقولون، وفيه شيء من سخريتهم:(يقول الإنسان هكذا هكذا وتقول السماء ليس كذلك ليس كذلك!) أو يقولون: (ما يبرمه القضاء لا ينقصه إنسان) أو يقولون: (من خلق للسعادة فلا يعجل وراءها) أو يقولون (كل كأس وكل لقمة مقتدرتان لفم، لا يأخذهما غيره)

ولا نهاية للمواضع والمناسبات التي يستشهد فيها ببعض هذه الأمثال الصينية التي يخطئها

ص: 4

الإحصاء

إلا أن الشاهد الأكبر فيما نحن بصدده هو هذا الاهتمام من قبل الأمم الغربية بكل جانب من جوانب البحث في البلدان التي تلتفت إليها أنظار الناس على أثر الحوادث الحربية أو السياسية التي تقع فيها. فما مضت أشهر على اشتغال الصحف بقضية الصين حتى امتلأت رفوف المكتبات بالمجلات والرسائل والمجلدات عن كل شيء يعرف - أو ينبغي أن يعرف - من أحوال تلك البلاد، فهذا يكتب عن النهضة الصينية، وذاك يكتب عن زعماء الصين، وغيرهما عن تاريخ السياسة الأوربية في الشرق الأقصى، وغيرهم يكتب عن فن الصين أو أغاني الصين أو عقائد الصين أو محاسن الصين، إلى أشباه ذلك مما يقترن بالصين وأبنائها ولو من بعيد

ومثل هذا حدث في اهتمامهم بروسيا بعد ثورتها الاجتماعية أو بعد حربها الأخيرة مع النازية، ويحدث مثله كذلك حول كل مسألة من المسائل القومية أو العالمية التي ترتبط ببلد من البلدان، حتى ليصح أن يقال إن الحرب عندهم ليست شرا محضا يجلب الخراب وينزل بالبلاء ثم ينتهي أثره عند ذلك، لأنها في الواقع سبيل من سبل المعرفة وباب من أبواب التعارف، وطريق إلى كشف الظلمات عن مجاهل العالم قاضية ودانية.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

2 -

حديث عيسى بن هشام

للدكتور زكي مبارك

تأريخ المجتمع ونقد المجتمع - جريمة أدبية - سريرة المويلحي - التحرش بالأزهريين - صفحات تعليمية - كلمة إنصاف

تأريخ المجتمع ونقد المجتمع

المجتمع أسمه الجمعية في لغة المويلحي وفي لغة من عاصروه، فهو يقول الجمعية الإنسانية ويعني بها ما نسميه المجتمع الإنساني.

وقد لاحظنا فيما سلف أن (الجامعة المصرية) معناها في كتابات لطفي باشا السيد (الرابطة المصرية) وأن الجامعة بمعناها الجديد كانت تسمى الكلية، وقد وردت بهذا النص في مجلة المقتطف عند الكلام عن إنشاء الجامعة المصرية. وبعض جرائد الشام لهذا العهد تذكر (الجامعة البشرية) وهي تعني الرابطة الإنسانية. فليلتفت الطلبة إلى أن في كتابات المويلحي ألفاظا هجرها كتاب اليوم، أو نقلوها من وضع إلى وضع، وللألفاظ أعمار وأزمان!

ثم أذكر أنه يجب أن نلاحظ الفرق بين تأريخ المجتمع ونقد المجتمع، ففي الكتاب فقرات تؤرخ المجتمع من غير قصد، فنعرف منها بعض أحوال القاهرة منذ نحو خمسين عاما، كأن يصف المؤلف دارا بالعزة والرفاهية فيذكر أنها تضاء بالكهرباء.

ونحن اليوم لا نقول ذلك، لأن الأغلب في القاهرة أن تضاء الدور بالكهرباء، وان لم يكن أهلها أغنياء. وكأن يذكر المؤلف أن محكمة الاستئناف في حي الإسماعيلية وأنها لم تكن تستقر في مكان. وكأن يقول: أن سكان مصر عشرة ملايين. وكأن ينص على أن المحامين أمام المحاكم الأهلية لا يعرفون اللغات الأجنبية، وكأن يشير إلى متحف بولاق ومتحف الجيزة، وليس عندنا اليوم غير متحف قصر النيل. وكأن يذكر أن كتاب المحكمة الشرعية تنتظرهم حميرهم وبغالهم على الأبواب،

وكأن يجعل سدنة (الدفتر خانة) أشياخا يحملون الدوي النحاسية في أحزمة القفاطين. وكأن

ص: 6

يقول التشخيص وهو يريد التمثيل. وكأن يذكر في القانون الجنائي أشياء لا يعرفها قضاة هذا الزمان

التأريخ المقصود

وقد يقصد المويلحي إلى تأريخ بعض تطورات المجتمع في الزمن الذي سبق تأليف الكتاب، كأن ينص على (سر الليل)، فمن هذا (السر) نفهم أن القاهرة كانت تغلق أبوابها بالليل فلا يدخلها أحد إلا بإشارة يفهم منها الشرطة أنه في غنى عن الاستئذان

وهنالك تأريخ معاني النقد، كأن ينطق (الباشا) بعبارات ندرك منها أن النزعة التركية كان لها في زمانه مكان.

ففي ص 24 يعجب الباشا من أن لا يكون لأمير على مصري أمر. وفي ص 27 ينكر الباشا (أن يحكم الناس فلاح وينوب عنها حراث). وفي ص 43 يعجب الباشا من أن (يتعدى المصري على الجندي). وفي ص 48 يصرح الباشا بأنه

عاش دهوره لا يعرف أن السجن يكون في عقاب الكبراء والأمراء، وإنما يكون في عقاب السفلة من العامة والغوغاء من الناس!

ثم ينفجر المؤلف في ص72 فيقول في الأتراك كلاما لا يقال اليوم، لأن هذه النزعة قد اختفت أو ماتت،

بغض النظر عن الحادث الذي وقع منذ بضع سنين

النقد المقصود

يجري قلم المؤلف بعبارات نقدية خفيفة من صفحة إلى صفحات، ثم يعمد إلى النقد عمدا فيسهب ويطيل. ولعل المحامين والقضاة والأعيان لم يصابوا في سمعتهم بأذى ولا أوجع مما رماهم به المويلحي في غرامة نادرة المثال

هل كان المجتمع المصري قبل خمسين سنة على النحو ما صوره ذلك القلم الفاتك؟ وهل كان يغلب أن يكون القضاة من الفتيان الأماليد؟ وهل كانت المحاماة نصباً في نصب وخداعاً في خداع؟ وهل كان (العمدة) الذي تعقبه المويلحي نموذجا في ذلك الزمان؟

جريمة أدبية

ص: 7

هي جريمة المويلحي في تصوير المجتمع المصري، فقد أهتم بتجسيم العيوب تجسيما بلغ الغاية في القسوة والعنف، وسكت عما في المجتمع المصري من محاسن أصيلة هي سر بقائه في صحة وعافية، برغم ما أصاب هذه البلاد من كوارث وخطوب

وعذر المويلحي أن نقاد المجتمع لعهده كانوا جميعا متشائمين، ولو شئت لقلت أنهم كانوا يجدون لذة في التذمر والتقزز والتفجع، ولهذا الاتجاه شواهد نجدها في كتابات توفيق البكري، وفي قصائد حافظ ابراهيم، وفي تلك البيئة ظهر المنفلوطي

فكان أدبه من صور القلق والانزعاج

وما أقول بأن أمثال هؤلاء الكتاب يفترون على المجتمع، لا، فقد صوروا بيئات موجودة بالفعل؛ وقد لا تنقرض، فلن تخلو الدنيا من محام نصاب، أو قاض كسلان، أو تاجر غشاش؛ وانما أنكر التعميم في الأحكام النقدية، التعميم الذي يضم المجتمع في جميع طبقاته بالتفكك والانحلال، مع أنه في الحقيقة لا يخلو من تماسك يضمن له البقاء

وانما عددت هذا المذهب جريمة أدبية لأنه ينتهي إلى التعجيز والتيئيس، ولأن أثره في تقويم المجتمع أثر ضئيل

يضاف إلى ذلك، أصحاب هذا المذهب لا يضعون النماذج للمجتمع المنشود، وان فعلوا فلن يكون المجتمع الصالح في نظرهم إلا بيئة خيالية لا يعرفها سكان الكرة الأرضية

سريرة المويلحي

حديث عيسى بن هشام يشهد شهادة صريحة بأن المويلحي قد ارتطم في حياته بمشكلات ومعضلات خلقتها معاملاته مع الناس. والظاهر أنه عرف المحاكم المصرية من مختلطة وأهلية وشرعية، عرفها مدعيا ومدعى علية. والظاهر أيضا

أنه أبتلى بمزعجات الأوقاف. ولا جدال في أنه عانى الغدر من بعض الأصدقاء، فله في الأصدقاء كلمات سارت مسير الأمثال. ويظهر كذلك أنه أتصل اتصالا وثيقا بالملاعب القاهرية في مكايدها الليلية، ثم يظهر أنه بادل الصحفيين من معاصريه ظلما بظلم، وعدوانا بعدوان

أقل هذا لأدفع تهمة وجهت إلى المويلحي من أديب عظيم هو أخونا الأستاذ الزيات الذي

ص: 8

يرى في (الرحلة الثانية) شاهدا على أن الرحلتين ليستا لكاتب واحد، لأن الفرق بين الرحلة الأولى والرحلة الثانية بعيد بعيد

والحق أن الرحلة الثانية ضعيفة كل الضعف، بالقياس إلى الرحلة الأولى، ولكن ما سبب ذلك الضعف، مع تقارب الأسلوب في الرحلتين تقاربا يشهد بأن الكاتب هنا هو الكاتب هناك؟

يرجع السبب إلى أن المويلحي لم يعرف من أوربا غير فرنسا، ولم يعرف من فرنسا غير باريس، ولم يعرف من باريس غير ظواهر سطحية لا تقلقل الخاطر، ولا تبلبل الوجدان، فكيف جاز أن يدعي القدرة على تصوير المدنية الغربية؟

المويلحي لا يعرف باريس، وان زار باريس، ولو أنه عرف تلك المدينة في حياتها الحقيقية (كما عرف القاهرة في حياتها الحقيقية) لقال فيها كلاما غير الذي قال، ولكان من الجائز أن يفردها بكتاب يشرح ما تعاني من اصطراع المذاهب والآراء، فقد زار باريس وهي في عنفوان الفتوة، وفي اتصال وثيق بأمم الغرب والشرق، ومع هذا لم يستطع أن يدون حيواتها غير بوارق مهددة بالخمود

بدا لي أن أعرف ما ألف عن الحي اللاتيني، فجمعت نحو ثلاثين كتابا، منها كتاب يصور ما يعاني طلبة السوربون من اليهود المربين

وبدا لي مرة ثانية أن أحصي المكتبات القائمة بالحي اللاتيني وهو مهد الفكر الحر، فهالي أن أجد فيه مكتبة لا تبيع مؤلفات رينان بحجة أنه زنديق

وبدا لي مرة ثالثة أن أعرف إلى أي مدى تتصل باريس بأساطير الأولين فجمعت من ذلك أشياء وأشياء. . . فأين المويلحي من ذلك التعقيد العنيف؟

وخلاصة القول أن إخفاق المويلحي في تصوير الحياة الباريسية يرجع إلى أنه لم يعان فيها مشكلات تزلزل العقل أو تثير الوجدان، فجاء حديثه عن تلك الحياة أضعف وأضعف من أن يسامي حديثه الأول في وصف الحياة المصرية. . . والأدب يأخذ قوته من التجارب والمشاهدات، لا من الحدس والتخمين. وكذب من ادعوا أن الأدب أوهام وظنون

ومن الواجب أن نسجل أن المويلحي نظر إلى المدنية الغربية بالعين الشرقية، فلم يحاول إبراز ما فيها من خصائص إيجابية، كما حاول إبراز ما فيها من خصائص سلبية. وهو مع

ص: 9

ذلك محمود الصنيع، فقد جاهد في حدود طاقته جهاد الرجال، ومن كان كذلك فهو جدير بكل ثناء.

التحرش بالأزهريين

والمويلحي لا يكف عن التنديد بالعقلية الأزهرية، فما تعليل هذه النزعة عند ذلك الأديب؟

يرجع السبب إلى أن انقسام المتعاملين إلى معممين ومطربشين كان في عهد المويلحي فتنة تثور بين طبقتين. . . كان المطربشون يرون أنفسهم طلائع الجيل الجديد، وكان المعممون يرون أنفسهم حماة الدين الحنيف. . . وكانت الدولة نفسها لا تسند المناصب الإدارية لغير المطربشين، بحجة أنهم أعرف بالأنظمة المدنية وأقدر على سياسة الناس. . . وهل ننسى أن منصب الوزير عرض على الشيخ محمد عبده فرفضه بأباء، لأن من عرضوا عليه ذلك المنصب دعوه إلى خلع العمامة ولبس الطربوش؟

كانت الفتنة قائمة بين هاتين الطبقتين، وكان من العسير أن توجد بينهما صلات خالية من شوائب التحاسد المستور أو المكشوف. ولتلك الفتنة عقابيل باقية إلى اليوم ولا موجب للتفصيل!

هذا هو السبب في حرص المويلحي على التنديد بالأزهريين، وهو أيضا السبب في أنه هادنهم بعد انقطاع أسباب الشقاق. ولكن كيف؟

قلت أن الطبعة الأخيرة هي الطبعة الرابعة، وأنا لم أقرأ هذا الكتاب إلا في الطبعة الثانية، وقد ظهرت منذ أكثر من ربع قرن، ومع هذا بقيت في ذاكرتي منها أشياء لم أجدها في الطبعة الأخيرة. وبرغم ضيق الوقت عن مراجعة الطبعة الأولى أو الثانية فأنا أذكر جيدا أن (عيسى بن هشام) مضى مع (الباشا) لزيارة الأزهر الشريف، وأذكر انهما سمعا الأزهريين يتحاورون ويتجادلون في بدعة إصدار الجرائد والمجلات، وانتهى الرأي إلى الأزهري يستطيع أن يكون صحفيا إن أراد، وقرأ أحدهم مقالة نشرها أحد الأزهريين، وهي مقالة افتعلها المويلحي، فقد كانت فيما أتذكر غاية في الركاكة والإسفاف، على نحو ما صنع وهو يفتعل ما يلقى في الأعراس من الخطب الرنانة والقصائد الجياد!!

فكيف استجاز المويلحي أن ينال كتابه بالتعديل فيما يتصل بحياة الأزهريين؟

كان ذلك لأنه أراد أن يقرر كتابه للمطالعة في المدارس الثانوية، وكان يعلم أن المفتشين

ص: 10

الذين يحكمون لكتابه أو عليه هم في الأصل أزهريون، ومن الحزم أن يتقي شرهم بحذف ذلك الحديث. . . وآفة الأدب ان يعرض للمنافع، وأن تراعي فيه خواطر بعض الناس

وأذن يكون من الحزم - ونحن نؤرخ الحياة الأدبية والاجتماعية - أن نقرر أن الطبعات القديمة من هذا الكتاب هي الأساس في تصوير ما سماه المويلحي (فترة من الزمن)، بدون مبالاة للمجاملات اليومية على حساب التأريخ.

صفحات تعليمية

في الكتاب صفحات أريد بها التعليم، أعني أن المؤلف أراد بها شرح ما جد في مصر من الأنظمة واللوائح والقوانين، فما منهاجه المختار في الشرح؟

هو يشرح وينقد، يشرح أمورا وينقد أمورا كانت لعهده تحتاج إلى إيضاح مصحوب بالاعتراض، كالذي وقع في الصفحات 41 و42 و43، وهو يفصل أنواع المحاكم بهذه البلاد

يحدثنا المؤلف أن مفتي نظارة الحقانية - وزارة العدل - أقسم الأيمان المغلظة أن القانون الفرنسي غير مخالف للشرع الإسلامي، مع أنه لا يعاقب على الفسق أن تجاوز عمر المفسوق به الثانية عشر بيوم واحد ومع أنه ومع أنه لا يعاقب من يزني بأمه إذا هي رضيت وكانت غير متزوجة، ومع أنه يعد الأخ مجرما جانيا إذا تعرض للمدافعة عن أخته، ولا يعطي حق الدفاع لغير الزوج، ومع أنه يقبل شهادة المرأة الواحدة على الرجل، ولا يعاقب الزوج إذا سرق من امرأته ولا المرأة من زوجها ولا الولد من أبيه ولا الأب من أبنه

ويتكلم المؤلف عن المجالس التأديبية، فنعرف منه أنها خاصة بعقاب الموظف يخل بتأدية وظيفته، وأنها في الغالب تتألف من رؤسائه الذين يتهمونه ظالمين أو عادلين

أما حكم المؤلف على المحاكم القنصلية فلا يخففه غير الاطمئنان إلى ذهاب عهد الامتيازات الأجنبية

كلمة إنصاف

كان المويلحي فيما يظهر مفطورا على حاسة العدل، وهي حاسة تميل من الوجهة التشكيلية

ص: 11

إلى تجسيم العيوب، وتغفل أو تتغافل عن مكافأة من يتهمون وهم أبرياء

أعظم ما يجازى به المتهم البريء هو الحكم بأنه بريء، ولم نسمع أن متهما بريئا جازاه قاضيه بجائزة تذهب عنه أفاك المرجفين

لا رجاء في الدنيا ولا أمل في الناس، أن لم يأت يوم يكون فيه حكم البراءة بشيرا بالرفاهية والرخاء

فأين المويلحي من هذه المعاني؟

ظلمه معاصروه فظلم معاصريه، والظلم بالظلم بغي وعدوان كان المويلحي ابن زمانه، فلم يهتد إلى فكرة العدل الصحيح، ولو أنه عقل لأدرك أن المظلوم لا ينبغي له الوقوف في صفوف الظالمين

لو كان للمويلحي نصيب من الروحانية الصوفية لأدرك أن اضطراب المجتمع المصري عقوبة فرضها التفريط الذي توارثته أجيال عن أجيال، وعجز عن طبه الدهر والزمان

ونحن في مصر، ومصر أمةآذت وأوذيت، وقاتلت وقوتلت، وهي إلى الأبد في عراك وقتال وصيال

ليت المويلحي أدرك هذه المعاني، وليته فهم أننا نجرجر تاريخا له في ضمير الإنسانية جذور وجذوع وفروع.

لو عقل المويلحي لقال في مصر كلاما غير الذي قال

ولكنه معذور، لأن (العدل الرسمي) ساقه إلى أن يقول ما يقول

وفي الكلمة الآتية فصل القول في ذلك الأديب الفنان.

زكي مبارك

ص: 12

‌عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه

أرواح وأشباح

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

- 2 -

فرض الشاعر بمخيلته القادرة أن الأرواح المجردة تتكالم، في السماء، عن البشر وغريزتهم في الأرض. وهذا يعتبر فرضا فنيا يزيد في فهم القارئ وضوح الفرق، في تكافح الروح والجسد، بين نزعتها العلوية السماوية ونزعته السفلية الأرضية. وهو أيضا خيال أدخل في الصنيع البديع عنصرا مخففا من عناصر الملاحم: لأن أيجاد الخوارق فيها - بإدخال كائنات فائقة قوى الطبيعية في حوادثها - كان أمرا جوهريا، ثم أصبحت الخوارق محسنا اختياريا يرعى فيه احتمال الذوق العصري. وكأن هذا الخيال اتفاق أدبي مضمر بين الشاعر وقرائه، كالاتفاق الروائي الضمني في الروايات، بين المؤلف والنظارة: كأنهم اتفقوا معه على التسليم بالفرض الأول في روايته، ليضحكهم أو يبكيهم بما بنى عليه من مواقف، وبنا أنطق فيها أبطاله من كلام

واختار الشاعر من أسماء الأساطير الإغريقية أسماء لأبطاله؛ وهو اختار موفق لما تشير أليه هذه الأسماء - بتداعي المعاني في ذهن القارئ - من أن القصص يصف غريزة الإنسان وأخلاقه من ماض بعيد؛ ولأن أسماء أهل الفنون أليق بملحمة فيها كلام على الفنان وعلاقته بالمرأة. وفي اختيار تلك الأسماء القديمة مزية أخرى: فقد حسن وجودها في هذه الملحمة من حيث أن العتيق أشعر من الحديث، كالسيف مازال أحب في الشعر من المدفع. فما ظنك بمن لم يجد أسماء عربية تجمع مزايا تلك الأسماء الإغريقية، وتحسن حسنها إن حلت محلها في الملحمة، فود لو أن الشاعر تبدل بها أرقاما في شعره ولم يضيع دلالتها على شخصيات معروفة في الأساطير أو التأريخ!

واتهم شاعرنا بالغريزة في الأشباح، وبرأ الأرواح المجردة. فالأرواح ذوات الأسماء الإغريقية تتكلم في العالم العلوي طليقة من قيود أشباحها، تتكلم قبيل بعثها بما يصف سجايا الفنانين الآدميين وغرائز الإنسان؛ وفي كلامها أنها حين تهبط في أشباحها إلى الأرض،

ص: 13

سيعروها ما عرا أرواح البشر:

لنا مثلهم في غد غشيه

إذا ما حللنا رحاب الثرى

وإذا قال ناقد أن لتلك الأرواح أسماء تلازمها دلالاتها على شخصيات أصحابها المعينة في الخرافات أو الأساطير أو في التأريخ، وان الشاعر أهمل في قصيدته هذه الدلالات - لأنه لم يدرس الأساطير الإغريقية كما يجب ولم يتفقه اليونانيات،

فان هذا القول اللطيف ليس يمنع أنها أسماء أناس كانوا من البشر، ما عدا هرميس (هرمس)، ولم يكونوا من أنصاف الآلهة ولا من الآلهة اليونانيين الذين خلقهم البشر؛ ولا يمنع أن منطق هذه التحفة يقتضي ألا تظل أرواحهم في السماء على حالها في حياتهم الأرضية الغابرة من الانقياد الكلي للغريزة والشهوات الحسية.

ومع أن هذه الملحمة - في رأينا إنسانية لا إغريقية، فان كلام أبطالها متصل بدلالة أسمائهم المعروفة. فهرميس الذي يقود الأرواح، في الأساطير، يقود هنا روح الشاعر. وروح بليتيس، البريئة في السماء، لا تكون بحالها يوم كانت حبيسة في شبحها على الأرض، أو بحالها يوم تبعث؛ لكن تنم ذكريات من ماضيها الأرضي وماضي سافو في مثل قولها:

حمت رقة الجنس رباته

فليس بها حاجة للرجال

لكل اثنتين هوى واحد

تَلاقي على سرّه مهجتان

وفي إجابة تاييس:

حديثك أن لم يكن بدعة

فحلم جرى في قديم الزمان

وصيحة مخفقة في الهوى

معربدة الروح سكرى اللسان

أما غضب بليتيس وصاحبتها من أن روح الشاعر مر أمامهن ورآهن فأعرض عنهن (ولم يحي السماء)، فهو غضب ليس يعد من (كبرياء النساء) في شيء، والكبرياء عظمة وتجبر، وانما هذا الغضب ثورة على إهانة. وان امرأة ما من أقل النساء عفة وأكثرهن استهتارا واستسلاما للشهوات، وانهماكاً في الملذات، لتغضب من تغافل رجل عنها، وقد تتظاهر بالأعراض عن رجل لتوقعه في شركها. وروح تاييس ألهمتها الذكريات الأرضية اعتراضها على صاحبتيها اعتراضا يشف عن حقيقة أمرهن جميعا بقولها في الرجال:

إذا خلت الأرض من طيرهم

فمن ذا يحي الجمال القسيم

ص: 14

ومن يطلق الحب من وكره

على خطرات الغناء الرخيم

وفيمَ نرقِّش هذا الجناح

ونصقله ببنان النعيم

بقيت سافو (سفون)؛ فهل كانت حسية بالمعنى الشائع؟ أليس في مؤلفات الذين استوعبوا دراسة اليونانيات رأي آخر أوفي تحقيقا؟ بلى، وهذه هي خلاصته:

أن سافو اتهمت في أخلاقها، لكن يبدو أن أخلاقها كانت سليمة. ويجب أن نلاحظ أنها من قوم ايوليين، كان نساؤهم كنساء الدوريين أكثر حرية من نساء الايونيين الذين كانوا يحجروهن في الحريم: فان هذه المغايرة تعلل ما لمؤلوفي الملاهي الأثينيين من دعابات سيئة القصد، وتعلل تلك الأقاويل المنحولة في سيرة سافو. ويجب أيضا ألا يغرب عن الخاطر أن الإغريق في ذلك العهد ما كانوا وصلوا إلى معرفة التمييز في الأدب بين الهوى الحسي والهوى العذري؛ ولكن لا صلة بين اللذة الحسية التي يصفها الشعر المنسوب خطأ إلى أنا كريون وبين لاعج الغرام الذي تعبر عنه سافو في القليل الموجود من شعرها

وبالنظر إلى هذا الرأي، أن لم يكن بالنظر إلى أن الملحمة إنسانية لا إغريقية، وأن أحوال أبطالها تختلف في السماء عنها في الأرض، جاز لشاعرنا أن يجعل روح سافو في السماء أهدأ منها في تلك القصة المأثورة عنها، ولا غرابة في أن تقول:

رأيت الرجولة كل الجمال

هو الرجل الفرد في المزدحم

ويحدو العذارى إلى دراهن

حيَ الخطى موسوي القدم

كلا، أن الشاعر لم يهمل تلك الدلالات التي يغلو بإيجاب مراعاتها المغالون في الإعجاب بمبلغ دراستهم لليونانيات.

فأولئك حوريات في السماء غصبن على الشاعر فاتهمنه في غريزته وفنه. لكن هرميس اله البلاغة ومبتكر الفنون عطفهن معتذرا عنه بأنه رآهن في قلبه، وحيا بقلبه وأطبق ناظريه على ما فيه ضنا بلألاء جمالهن. ودنامنهن روح الشاعر في شبحه قبيل بعثهن فأعجبن بالرجل: استلمت بليتيس صدره وجبينه مستجملة سائلة: أمن حمأ الأرض هذا الجبين؟ فأجاب هرميس: دعى طيفه وانظري روحه. فسألت متجاهلة: هل الرجل الروح؟ فأجابت تاييس: انه محيا وعينان! فقالت سافو: ما في الرجال سوى كل أصيد سبط القوام:

ذراعاه تستدرجان الخصور

وفي شفتيه حديث الغرام

ص: 15

فصاح هرميس مسيئا بهن الظن: تنزهت عالمي! أينطق فيك روح بهذا الكلم! لقد سبى السحر أجمل أرواح السماء! فقال صوت السماء: بل البعث آذنهن الغداة، وهي الآدمية طافت بهن، فلا تلحهن ولا تلم. وغضب الحوريات حيلة من ناظم الملحة جعلتهن يظهرن شرفهن أو سموهن الروحاني، وينعين على الفنان غريزته وأثرها في فنه أو انحطاطه الجسدي؛ وهي حيلة أثبتت مهارة الشاعر الفنية، ولا سيما أنه نجح بها أولا في شغلهن بمحاورة وصفت ما أراد. شغلهن حديث الفن

في السماء، وكان الفن يشغلهن في حياتهن الأرضية. وغضبن على الفنان الرجل، لكن ما لبثن أن رضين عنه وتهافتهن عليه في نزعة إلى الحسيات، فلم تضع الصلة بينهن وبين تلك الدلالات الغريزة، وبدا طبعهن في حالي السخط والرضى، وأثرهما واحد في كل البشر وان اختلفت درجاته، فهو لا يضر وحدة الشخصية في ذوات الأسماء الإغريقية، لأنهن في الحقيقة يمثلن النساء لا الملائكة

وعندنا أن الشاعر لم يتخذ من الأساطير مادة شعره، وأن اختار منها أسماء، وانما نحت شعره كله من صميم الحياة الإنسانية بالروح والجسد والغريزة جميعا على ما تبين في صنيعه، فلم يكن عليه أن يتقيد بدلالة تلك الأسماء

وتقرير هذه الحقيقة، بعد ما تقدم ذكره هنا وفي المقالة السابقة، تقرير واجب، إذ ليس يجوز التساهل في فهم المادة التي صدر عنها خيال الشاعر

ما القول أذن في البياناتالنثرية الوجيزة الواردة قبل القصيدة عن أصحاب تلك الأسماء؟

الجواب قريب: فهي في نظرنا بيانات تذكر بأنهم كانوا من أهل الفنون، ليكون كلام أرواحهم في الفن وأهله، والقلب وشأنه، والإنسان وغرائزه وخلاله، أحسن وقعا في النفس. وجمالك أيها القارئ الكريم ألا تخدع نفسك بهذه البيانات. أما الذين يتبحرون في العلم بالأساطير واليونانيات فقد يأخذهم الوجد بها حتى يصبح هجيراهم التشبث بدلالة تلك الأسماءكلما صادفتهم في أدب أيا كان وجهه

والبيانات النثرية الأخرى أيضا تذكر بمضمونها لكي يسهل فهم الإشارة في الملحمة إلى السامري وموسى، ومانا وهاواي، وغير ذلك؛ وذكر آدم وحواء في القصيدة فيه كذلك إشارة ضمينة إلى براءة الروح لبراءتهما قبل الخطيئة في الجنة وهو رمز إلى الرجل

ص: 16

والمرأة وخطاياهما في كفاح الأرواح والأشباح البشرية، ولم يذكرا لإيراد قصتهما المعروفة الحبيسة في المعتقدات الدينية

(البقية في العدد القادم)

محمد توحيد السلحدار

ص: 17

‌الأزهر والإمام محمد عبده

للدكتور محمد البهي

. . . أليس من العجب أن يكون من أبناء الأزهر من بعث إلى أوربا باسم محمد عبده، ثم لا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده؟. . .

إحدى الملاحظات التي ساقها الأستاذ الفاضل (م. . .) في عدد الرسالة 482 الصادرة في 17 رمضان سنة 1361 هـ تحت عنوان ذكرى الأستاذ الزنكلوني

أن الأمام محمد عبده والأستاذ الزنكلوني لم يكونا للأزهر وحده ولا شك؛ وان الأزهريين لم يعرفوا محمد عبده والزنكلوني وامثالهما ولاشك. ولهذا إذا لم يذكروا محمد عبده ولم يذكروا الزنكلوني لا يعود عدم ذكرهما إلى إهمال أو إلى نكران الجميل.

الأزهريون لم يعرفوا محمد عبده، لا لانهم لم يريدون أن يعرفوه، أو لأنهم أو لأنهم أرادوا أن يعرفونه فخفي عليهم، بل لأنهم دفعوا إلى عدم معرفته ودفعوا أيضا إلى استمرارهم على عدم معرفته. فقد شاع عن محمد عبده أنه شاذ وأنه خارج. . . وأخيرا شاع عنه أنه حر. وشاع كل هذا عن محمد عبده لأنه كان يكتب، وكان يفكر، وكان يتفلسف، ولأنه أراد أن يكون من الأمة، وأراد أن تسمع الأمة لأزهره وأن تسترشد بإسلامه في قضائها، في تثقيفها، وفي تسوية مشاكلها الاجتماعية والقومية، بينما كان الأزهريون في وقته يقرءون فقط، ويقلدون فقط، ويتبعون فحسب، وبينما كانوا يؤثرون العزلة ويؤثرون المحافظة على الأوضاع التي سبقوا بها في القضاء والتهذيب على رغم تجدد الزمن وتعقد مشاكل الإنسان تبعا لعوامل التطور المختلفة.

محمد عبده - أصاب أم أخطأ - كان في طرف، والأزهريون - أصابوا أم أخطئوا - كانوا أيضا في طرف مقابل له. ولو كان الفكر الفلسفي هو السائد في التوجيه العقلي أيام محمد عبده لعرف محمد عبده وارتفعت الهوة بينه وبين الأزهريين في زمن وجيز. لأن الفكر الفلسفي هو التأمل قبل إصدار الحكم، والروية في ربط الأسباب بالمسببات، وحرمان العاطفة - أيا كانت عواملها أو أيا كان لونها - من التدخل في قضاء العقل. ولكن التقليد هو الذي كانت له السيطرة على العمل العقلي الأزهري، وبقي أيضا مسيطرا بعد وفاة محمد عبده، ولم تزل كفته هي الراجحة الآن

ص: 18

وإذا كانت السيطرة للتقليد في توجيه جماعة من الجماعات، وفي عملها العقلي، لا يتحدث المؤرخ النفسي للجماعة عن أرادتها أو عن عدم أرادتها، بل عن دفع وانسياق في اتجاه معين محدود

نعم إن محمد عبدة كان له تلاميذ من الأزهريين، وله منهم ألان عدد غير قليل - وان اختلفوا في الإيمان بفكرته درجات - ومع ذلك لم يعرف محمد عبدة من الأزهريين تمام المعرفة حتى يرددوا فكرته ويخلدوا في نفوسهم ذكراه؛ لان اللحظة التي يعرف فيها محمد عبده هي اللحظة التي يتم فيها تحويل الجامع الأزهر إلى جامعة؛ وهي اللحظة التي ترتفع فيها قيمة الفكر الفلسفي لدى الأزهريين أنفسهم في البحوث العلمية وفي التفكير الأزهري

ولهذا ليس من العجيب أن لا يكون الذي فكر في إرسال بعوث أزهرية إلى أوربا باسم محمد عبده من الأزهريين. فعبد السلام الشاذلي باشا هو الذي فكر في تخليد ذكرى محمد عبده، وهو الذي أرسل باسم محمد عبده بعثة من الأزهر إلى أوربا على نفقة مجلس مديرية البحيرة، وهو الذي عمل على ربط ما للشرق الإسلامي من ثقافة عقلية وتاريخية بما للغرب من إنتاج عقلي منذ العصر الذي طرح فيه سلطة التقليد وهو عصر النهضة. وهو من أجل هذا قد ساهم في تكوين عنصر من المثقفين داخل البيئة المصرية يجمع بين ما للعنصر الشرقي المحض وما للعنصر المدني الآخر من مزايا؛ يضم إلى تراثه الشرقي الماضي ما يتلاءم من نتاج الغربيين.

و (ليس من العجيب كذلك ألا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده). لأن الأزهر إنما يعني بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده إذا تمت معرفته لمحمد عبده.

وليس تمام معرفته بسرد تاريخه أو التحدث عن أفكاره، وإنما يكون أولاً بتهيئة العقلية الأزهرية لقبول محمد عبده وأمثال محمد عبده، وذلك بإبراز مزايا التفكير الفلسفي وسط البيئة الأزهرية، فإذا اتضحت هذه المزايا لدى العقل الأزهري عرف محمد عبده من نفسه؛ لأن إنتاج محمد عبده أكثر شبهاً بإنتاج ديكارت. كل منهما قصد إلى التوجيه أكثر من محاولة الابتكار في الفكرة والرأي. فمحمد عبده نادى بالا يكون للتقليد سلطان على التفكير في حياتنا العقلية؛ وديكارت أقام منهجه في البحث على إبعاد السلطات التي كانت تهيمن في وقته وقبل وقته على التفكير الأوربي وهي كلها مظاهر لشيء واحد، هو التقليد

ص: 19

وليس لنا أن نيأس من قرب الزمن الذي يتمكن فيه الفكر الفلسفي من نفوس الأزهريين، على رغم أننا نعرف أن ممن يشرفون على التوجيه العلمي في الأزهر من يحاول أن يفهم أن الفلسفة مادة، وأنها يجب أن تخضع في بحوثها إلى المنقول أو إلى التقاليد، أو على الأقل يجب أن تؤمن في بحوثها الميتافيزيكية بسلطان بعض المؤلفين في العقيدة، لهم صبغتهم الحزبية في كتبهم المذهبية - لأنه من الشيوخ المحبب إلى نفوسهم ترديد معارف الماضي فحسب، والوقوف في دائرتها دون مجاوزتها إلى الحاضر، بل من هؤلاء الذين لا يزالون شديدي النفرة من اسم الحاضر، ومعارف الحاضر، ورجال الحاضر - ليس لنا أن نيأس لأنه يوجد في الصف الأول في قيادة التفكير الأزهري أمثال: المراغي وعبد المجيد سليم وشلتوت. . . ثم من ورائهم الشبان الأزهريون

حقاً، فيه رغبة قوية من الشبان الأزهريين في تعرف محمد عبده ومشايخ محمد عبده وتلاميذ محمد عبده ممن تتكون منهم المدرسة الجديدة في الإصلاح الديني والتفكير العلمي، ولكن مع ذلك، ليس من السهل أن تلقى عليهم أفكار محمد عبده، أو جمال الدين الأفغاني، أو أمثال الزنكلوني، قبل أن نهيئ هؤلاء الشبان ونزيل من نفوسهم، أو على الأقل نضعف عندهم ما تكون من عقيدة ضد محمد عبده، منذ أن درست لهم (السنوسية)، وقرىء عليهم تفسير (الخازن)

من الخير للأزهريين أن تتم معرفتهم بمحمد عبده؛ ومن الخير للشبان الأزهريين - على الخصوص - أن يعلموا من هو محمد عبده كقائد وإمام في الحركات الإصلاحية الدينية والعلمية والقومية، وأن يعلموا من هو محمد عبده في المحافظة على الكرامة الشخصية والكرامة الدينية، وأن يعلموا من هو محمد عبده في عزلته إذا اعتزل، وفي تقديره للأفراد والجماعات إذا اتصل واختلط؟

من الخير للإسلام ولمستقبل الدين أن يعرف الأزهريون دينهم كما عرفه محمد عبده، وأن يفهموه عقيدةً ونظرةً في الحياة لا أن يميلوا به إلى حرفة ومهنة لطائفة

ومن الخير للأمة المصرية أن يعرف الأزهريون محمد عبده؛ ومن الخير للدولة المصرية إذا ابتغت انسجاماً داخل الأمة المصرية، أو على الأقل قرباً في التفكير المصري والعقلية المصرية أن تنشئ باسم محمد عبده كرسيّا في الأزهر كما تعمل على إنشائه في جامعة

ص: 20

فؤاد الأول

وأخيراً أقول للأستاذ الفاضل (م. . .): إن من بعثوا إلى أوربا باسم محمد عبده لم يهملوا محمد عبده عملهم العلمي؛ فقد بدأت التعريف بمحمد عبده في الحياة الجامعية الألمانية بعقد موازنة بين نظرته إلى الإسلام ونظرة هيجل إليه في رسالة صغيرة؛ ثم كتبت عنه رسالة الدكتوراه في جامعة هامبرج. وهنا في أزهرهم لم يهملوه أيضاً. وإنما رأوا مهمتهم أولاً وبالذات في التوجيه، إذ فيه الضمان الكافي لقبول تاريخ محمد عبده، وأفكار محمد عبده، وبالتالي للتعرف بمحمد عبده.

محمد البهي

ص: 21

‌يوم من أيام دمشق الخالدة

وفاة الإمام ابن تيميه

في 20 ذي القعدة سنة 728هـ

للأستاذ أحمد رمزي بك

قنصل مصر العام في سورية ولبنان

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

- 3 -

لم يكن ثبات القلعة بدمشق وعودة الجند ليزيلا القلق من النفوس، فقد أقسم عاهل التتار هذه المرة أن يملك الشام ويفتح مصر عنوة، وملأ الدنيا بإشاعته والناس أشد ما يكونون ذعراً؛ كل هذا وابن تيميه لا يبالي، يقعد بمجلسه كالعادة في الجامع يحرض الناس كل يوم على القتال، ويسوق الآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى، ويحرم الفرار ويرغب الناس في إنفاق الأموال، وأن ما ينفق في الهجرة إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً

اضطرت السلطات إزاء هذه الهجرة نحو مصر والكرك والشوبك أن تمنع الخروج بغير ترخيص خاص، وكانت الأنباء قد وصلت بوصول التتار إلى الشمال مرة أخرى، وتراجع جند الممالك الحلبية، ثم الأمطار فأعاقت السير إلى الجنوب وإلى الشمال

- 4 -

كان موقفاً رائعا فذاً في التاريخ أقرأه ونفسي تضطرب حينما خرج الشيخ في صباح السبت من مستهل جمادى الأولى سنة 700 هجرية وقابل نائب الشام بالمرج فواجه الجنود وثبتهم وقوّى جأشهم وطيب قلوبهم ووعدهم بالنصر والظفر على الأعداء وتلا قوله تعالى: (ومن عاقب بمثل ما عوقب به، ثم بُغى عليه، لينصرنه الله إن الله غفور رحيم)

وبات ليلته وسط العسكر وهم يحيون هذه الروح التي وضعوا آمالهم فيها

أتدري ماذا يطلب منه أمير الشام ونائب السلطنة فيها؟

يطلب إليه أن يركب على البريد إلى مصر ليستحث السلطان على المجيء إليهم. ويسوق

ص: 22

الشيخ على خيل البريد إلى القاهرة، وهو أينما يحل يستحث الناس إلى المبادرة

أقام الشيخ في قلعة مصر ثمانية أيام، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروج، وكان فيما قاله لهم:(إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه - لو أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم نصره - فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وأنتم مسئولون عنه؟)

ثم عاد كما أتى على البريد من مصر، وقد أدى أمانته ونفخ في النفوس روحاً للكفاح جديدة

- 5 -

استمر المد والجزر بين الفرقين والرسل تتوالى إلى أن دخلت سنة 702 هجرية؛ وقد قدم جيش مصر وعلى رأسه الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وزحف التتار من جهتين من الشمال فوصلوا إلى البقاع واحتلوا بعلبك، ومن الشرق وصلت طلائعهم القريتين. كل هذا والتتار لا يعلمون بقدوم السلطان من مصر.

ولما وصل دمشق قرر أن يكون المصاف في جنوب دمشق بقرية شقحب، وأتم التعبئة والحشود ومشى السلطان والخليفة بجانبه ومعهما القراء يتلون القرآن، ويحثون على الجهاد، ويشقون إلى الجنة.

في هذا الموقف العصيب يقوم الطابور الخامس بدعايته فيقول: كيف تحاربون قوماً أسلموا وهم إخوان لكم؟ وهنا برز الشيخ بقوته ومضاء فكره فألهمه المولى هذه العبارة:

(هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي وعلى معاوية ورأوا أنهم أحقبالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين ويعيبون على الناس ما هم فيه من المعاصي والظلم، ولكنهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، والله لو رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني) فقويت النفوس وانقطعت دعاية الضلال.

فلما تم الترتيب أخذت كراديس التتار تزحف كقطع الليل والتحم القتال على طول الجبهة قتالاً هائلاً رائعاً بيعت فيه النفوس بغير حساب. كل هذا والجاشنكير يسيطر على المعركة بجند مصر والشام. وهنا مال قطلوشاه القائد التتري إلى جبل قريب ونظر إلى السهل والجبال المحيطة فإذا المسيرة السلطانية ثابتة لا تتزعزع، والأعلام خافقة. وجئ إليه

ص: 23

الأسرى فسأله من أنت؟ فقال من أمراء مصر. فعلم بأنه قد خسر المعركة.

معركة فاصلة دامت أربعة أيام أظهرت فن القيادة والتعبئة لدى القواد المصريين والشوام، واختتمت بالنصر الباهر الذي نفخ فيه ابن تيميه من روحه.

وقبل اختتامها حاول قطلوشاه للمرة الأخيرة أن يجازف فقذف بما بقي لديه من جنده فرساناً ومشاة. وقد ترجل الخيالة فلقيتهم المماليك السلطانية من البرجية بسور من الفولاذ مزقهم شر ممزق وحلت بهم الهزيمة فانتشروا منهزمين إلى القريتين وقد تتبعهم العامة

وتقهقر قائدهم عائداً إلى بلاده فلم يعبر الفرات إلا في شرذمة قليلة من هذا الجيش اللجب الذي عبأ لفتح مصر والشام.

وبات السلطان بالكسوة ثم دخل دمشق وقد فتحت قلبها وتلقته لقاء الأبطال بعد أن أزال الهم والغمة عنها.

وفي مكان المعركة وبغير غسل ولا كفن جمع من استشهد من أبطالها فدفنوا في موضع واحد وبنيت عليهم قبة أرجوان تكون باقية إلى اليوم.

وكان الشيخ أول من فرح قلبه لهذا النصر المبين.

- 6 -

مرت ابتداء من سنة 705 سنوات كفاح للشيخ من أجل المبدأ يقارع الأيام وتقارعه، وتغمره موجة من الدسائس فيخرج منها سالماً، وتعقد المجالس لامتحان عقيدته فيخرج من هذه المغامرات أحياناً إلى الحرية وحيناً إلى السجن. وطلب إلى مصر، فلما أزمع السفر ازدحم الناس لوداعه. وفي إبان سفره لم يترك فرصة تمر دون أن يقف واعظاً للناس. ولما وصل القاهرة واجتمع له العلماء واختلف معهم أدخل في أحد أبراج القلعة وبقي بها محبوساً. وكلما نجحت محاولة لإخراجه أبي إلا أن يبقى، والناس تقصده وترسل أليه المشكل من الأمور لاستفتائه فيه

- 7 -

انتقل ابن تيميه إلى الثغر الإسكندري في صفر سنة 809 بصحبة أمير من الأمراء فأدخل في دار السلطان وأنزل في برج فسيح منها. ووصلت أخباره إلى دمشق بعد عشرة أيام من

ص: 24

سفره من القاهرة، فقلقت الخواطر عليه وتألم أنصاره وخلفوا سطوة أعدائه الذين عقدوا النية على النيل منه. وكان الشيخ يحضر الجماعات ويقيم الوعظ فيأتي إليه الناس من أهل الإسكندرية أفواجاً ينصتون إليه ويقرءون العلم عليه، وقد ازدادوا تعلقاً به ومحبة له وتقرباً منه

ووصل إلى دمشق كتاب من أخيه يقول: (. . . إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط فإن أعداء الله قصدوا بذلك أموراً يكيدونه بها. . . وقد انقلب أهل الثغر أجمعون إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له في وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقربه أعين المؤمنين، ولقد استتاب جماعة منهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه)

ويقول ابن كثير - وهو من المراجع التي اعتمدنا عليها مع غيره -: (إن الشيخ أقام بالإسكندرية ثمانية أشهر، وكان سكنه في برج متسع مليح نظيف له شباكان أحدهما إلى جهة البحر والآخر إلى جهة المدينة، وكان ينزل عنده من شاء ويتردد عليه الأكابر والأعيان والفقهاء يقرءون عليه ويستفيدون منه وهو في أطيب عيش وأشرح صدر)

- 8 -

دارت الأيام دورتها وعاد الملك الناصر إلى عاصمة ملكه بعد زوال حكم أعدائه، وكان ذلك في عيد الفطر المبارك من سنة 709 وقد استقبلته في القاهرة، وقبل ذلك بدمشق، دنيا من الأفراح إذ استبشرت العاصمتان بعودة ابن قلاوون إلى ملكه وحيته الجماهير وهتف له ذلك الهتاف المحبوب:(يا ناصر يا منصور).

ولم ينس المليك الشاب في أفراحه الشيخ المجاهد ابن تيميه فأرسل أليه وحضر إلى القلعة معززاً مكرماً مبجلاً. وكان قدومه في 18 شوال، وقد خرج مع الشيخ خلق عظيم من الثغر الإسكندري يودعونه بالبكاء لتركه مدينتهم. ولما دخل على الناصر تلقاه ومشى إليه وأنس به في محفل كبير جمع قضاة مصر والشام فأصلح السلطان بينه وبينهم. ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من المشهد الحسيني والناس يترددون عليه من الأمراء والجند وهو يقول لكل من يعتذر أليه:(أنا حللت كل من آذاني)؛ وجدد الشيخ سابق عهده بدمشق ولكن بمدينة القاهرة المعزية - قلب العروبة - فأخذ يقيم حلقات الدروس وبدأ حياة كفاح وجهاد

ص: 25

في سبيل العلم

هذا هو الشيخ الذي يضم عظامه قبر بسيط بفناء الجامعة السورية، والذي كان يمثل دنيا وحده وكانت شخصيته فذة جديرة بالبحث والدرس

إننا في حاجة إلى أن نستلهم الماضي ونستوحي صفحاته؛ وابن تيميه رجل من رجال الماضي وشخصيته تطل علينا من وراء القرون

كان ابن تيميه دمشقياً مائة في المائة، وكان مصرياً مائة في المائة؛ فهو حلقة الوصل بين البلدين في عصر مضى. وأنني كلما دققت النظر في تاريخه وعمقت التأمل في أقواله أجد نفسي إزاء رجل أقف أمام ذكراه والاحترام يملأ نفسي

والآن في أرض هذه العاصمة الخالدة وفي فناء جامعتها المباركة أقول: (هنا يرقد رجل).

أحمد رمزي

ص: 26

‌ذكرى أم كلثوم

للشاعر التركي إبراهيم صبري

(نشرت الرسالة في عددها (480) تعريفاً بالشاعر التركي

إبراهيم صبري وترجمة لقصيدة من شعره. وهذه القصيدة

التي ترجمها الأستاذ (محمود محمد شاكر) تعطي صورة

جديدة من الشعر التركي بل من الشعر التركي في غربته.

وفيها يصف الشاعر ذلك الصوت الشعري السامي الذي يسحر

السمع، ويسبح بالروح في جو ممتد كامتداده، مرتعش

كرعشته، منتحب كانتحابه: صوت أم كلثوم)

إلى أخي محمود محمد شاكر

انصرفت من دعوتك الماضية وقد احتفظت بشعور وإحساس كتب في ذاكرتي هذه الأبيات:

كان يوماً بديعاً مِلْؤُه السرور! واحسرتا لذلك اليوم! لقد مضى!

ألوان من الطعام لذيذة اتصلت بموسيقى السحر التي فاضت على شفتي أم كلثوم الفاتنة،

قصيدة وردية من أباريق اللحن انسكبت في أرواحنا.

حين يأخذني سكر الإبداع أجد قلبي نشوانَ،

وتذهب أعصابي في سُبات عميق من فرط ما ثملت.

حينئذ أشعر بعروج خيالي وحده إلى عالم الأرواح

تاركاً على الأرض كل ما هو نقيض لهذا الصوت السماوي.

أراني أصل بخيالي إلى قمر في آفاقه نغم ألحانه من عالم الحور والسحر:

هو ذرة أثيرية أخرى لا أبعاد لها، تكِّون هواء ذلك القمر وماءه وأرضه ونوره الشفاف.

إن هذا الصوت ليس للتراب، إنما حقه أن يسمع في السماوات.

في مصر التي تشعرك بالبقاء أدوارها التاريخية المديدة

ص: 27

وفي مصر التي يشبه الأهرام فيها صوت أم كلثوم

لا أقف لأستمع بل أُبادر لأنظر وأشاهد.

(ليلى والدهر) في ذلك الصوت كلاهما كمومياء مذهَّبةٍ جديرة بالمشاهدة.

في هذا الصوت تتمزق صدور العشاق إرباُ إرباً،

وكيف لا تتمزق فيه صدور العشاق، وقد ورث نبئ موسيقار لوعة نايه من هذا الوادي.

وإن حفر البشر الهواء في المستقبل، فلعلهم يكتشفون في صوتها صوت المزامير.

حين تبدأ تغني ينبعث صوتها كأنهُ وسوسةُ ذاتُ ألوان من الحباب المنطفئ على النيل

الأخضر الذي يجري أمام الشمس النَّارنجِيَّة؛

ثم إذا بك تراه ينقلب إلى أمواج في بحر تندفع كل موجاته فترتطم على قلب؛

ثم إذا بك تراه ينتصر على البعد المطلق.

تخال رَجْع (نواه) آتياً من وراء الفضاء.

هذا الصوت يغرِد كتغريد البلبل في الجنة،

كأنما تفوح منه رائحة ماءِ الورد وشجرة العود؛

كأنه نطفة يجري فيها ماء الحياة، لو انصبت قطرة منها على أجساد الموتى لشعروا بها.

هذا الصوت يمسُّ خدَّ السمع كمنديل من الحرير في كف معطّرة،

كم من ناصية قد اعتمدت على هذه اليد الساحرة

تبكي وتنوح، غارقة في حنانها،

لذلك ينبعث ترديده منتحباً

ولذلك يحرق كما يحرق البكاء

حين غربت الشمس - انطفأ اللون الأحمر للرمال المتوهجة في جفون الصحراء فكأنها

استحالت رماداً،

وتردد في نفسي صدى النغمة الأخيرة لهذا الصوت فأثار وجدي فقمت للوداع من زاويتي

حيث كنت مستغرقاً في خواطر.

كأن ذاكرتي لم تكن معي

عادت كأنما عادت من وراء أفق بعيد؛

ص: 28

وكأنها يد وضعت على كتف روحي

وأعادتني إلى الحقيقة.

تذكرت حينئذ زمناً من الأزمنة الماضية:

اجتمعت ليلة في بيت صديق ومعنا (سامي)

ما كان أبدع ما غنى من (الغزل) والأصوات!

كيف كوى بها قلوبنا؟

وكيف امتلأت جفوننا بالدموع ككؤوس خمر؟

وكيف أصبح شيطان ألحانه ساقياً للعبرات؟

إذا فاضت دموع التأثر من هذه العيون التي كانت ترسل دموع اللذة في ذلك الزمن، فلا

بأس!

فإن في هذه الأرض أصواتاً تجعل الغربة أُنساً

وفها مودتك المخلصة الغالية

ترجمة

محمود محمد شاكر

ص: 29

‌إلى المعترضين علينا

للأب أنستاس ماري الكرملي

(تتمة)

4 -

نتيجة كلامنا مع الأستاذ المكابر

لا يقال إلا البساتين الغن، وإلا الدروع الحصد، وإلا الكريات البيض، وإلا الدروع الخضر. وأما قول القائل: البساتين الغناء، والدروع الحصداء، والكريات البيضاء، فخطأ ثم خطأ ثم خطأ. اللهم إلا إذا قدمت على هذه النعوت كلمات منسوبة مفردة مؤنثة، فيصح حينئذ مثل هذا القول: بساتين عبقرية غناء، ودروع فارسية خضراء، وكريات بيضيه بيضاء؛ وهذا القدر كاف لهذا الموضوع اليابس الناشف، ولا نعود إليه بعد، بل نحول أنظار السائلين إليه، وهو الهادي إلى الصواب!

5 -

إلى الأستاذ الأفغاني

كنا نود - يا سيدي الكريم الجليل - أن تكلمني بالعربية، لأني عربي وأجدادي من بني مراد، لا بالأفغانية لسان أجدادك أهل الحسب والنسب. . . نعم، إني كنت قد اجتلبت كتباً أفغانية من باريس، لأدرس هذه اللغة البديعة لكن الزمان لم يساعدني على المطالعة، فبقيت الكتب في الخزانة من غير أن أنتفع بها إلى اليوم

قلت لي في نبذتك في (الرسالة) 869: 10: وقد كتب (أي الأب أنستاس ماري الكرملي) الجملة الأولى بخط عريض وأنا لم أكتب عنوان المقال إلا بالقلم الدقيق كما يمكنك أن تطلب الأصل من صاحب (الرسالة) ليطلعك عليه. أما الذي رسمه بالقلم الريان، وحضرتك تسميه الخط العريض، فمن منضد (الرسالة)، تزييناً للطبع ولسطور الصفحة، فلو جعلها كلها بقلم واحد، لملت النفس، ونبا البصر، وعاف القارئ المطالعة ونبذ الصحيفة من يده. وهذا ما تحققه بنفسك في جميع نبذ (البريد الأدبي). . . إذن، ليس المزكزك بأنيئهن

وقلت لي: بخط عريض مذيل؛ ولم أذيل الخط بشيء، لعلمي أن ذيل الشيء جعل له ذيلاً، وذيل الصحيفة كتب شيئاً في ذيلها زيادة على ما فيها، وهذا لم أفعله، ولا أرى هناك ما يؤيد هذا الكلام

ص: 30

وقولك يا سيدي: بخط أفقي، لا ينطق به فصيح، إنما ينطق به أرباب الهندسة، وهو من معرب الكلام الحديث، ورائحة التعبير الأجنبي تفوح منه. وأما ابن الناطق بالضاد، فيقول: وتحته خط. وأحسن من ذلك أن يقال: وقد رسم بخط ريان (أو عريض؟)، وخطّ تحته خطاً توجيهاً للأنظار.

ثم نقلت، يا سيدي، بعض العبارات من المعاجم تأييداً للخطأ وأنه أحسن من الخطآء. والدليل الذي أتيت به هو أن: أرباب الدواوين ذكروا الخطأ المقصور قبل الخطآء الممدود. وهذا برهان ينطبق به الأطفال قبل الحلم، وهل تكون إلى الآن بهذه السن؟ ألا تعلم يا سيدي أن أرباب كتب متون اللغة يقدمون الكلمة القليلة الأحرف، على الكلمة الكثيرتها. خذ بيدك أيّ معجم شئت، وانظر إلى المصادر، أو إلى الأسماء أياً كانت، تر أن الكلمة القليلة الأحرف مقدمة على غيرها. وكذلك يفعل أهل الحساب فإنهم يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، إلى آخرها.

وأما أن صاحب (الصحاح) ضعف الحرف الذي (ذكر الأب أنه الصواب دون غيره) فهذا لا يعني أنه مصيب فيما قال.

يا سيدي إنك تعلم أن مؤلف الصحاح خّطئ في كثير من أقواله الغوية والنحوية، فكيف تحتج بكلامه، وتسر كل السرور لكونه نطق بتلك الكلم؟ وهناك من أعلى مقاماً منه وهو صاحب الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، وكان معاصراً للجوهري، وقد انتبه لهذه الحقيقة الأستاذ اللوذعي محمد غسان فنقل في الرسالة (892: 10) ما ورد في ذلك التصنيف المفيد من المقال الزاري على اللآل

زد على ذلك أني أحاول في كل ما أكتب أن أتأثر أحسن من نطق باللغة المضرية باتفاق شهادة جميع قبائل العرب وجميع أمم الأرض قاطبة، فانه كان يحب الازدواج والمشاكلة والإمتاع والمجانسة، فقد قال مثلاً: ارجعن مأجورات غير مأزورات، مع ما في مأجورات من الغلط في نظر بعض حمقى اللغويين. فلما قلت الخطاء أردت أن أبين أن ما كتبه الناشران لكتاب الإمتاع في آخره، حين كتبا: خطأ وصواب، كان يحسن بهما أن يقولا: خطأ (بالمد) وصواب، مجانسة للوزن، لأن كليهما على وزن سحاب، فالقارئ يتذوق طيب هذه المشاكلة إذا ما رأى فيها هذه الموازنة

ص: 31

هذا ما أحببت عرضه على العلامة المحقق (الأستاذ الأفغاني) وله إعجابي وتحيتي!

6 -

إلى الأستاذ داود حمدان

كتبت يا سيدي في الرسالة (870: 10) مخطئاً قولي: (قال ابن دريد في الجمهرة: (وبالصاد (أي ألخص) أحسبها لغة لبني تميم، وهي لغة ابن الغبر خاصة). كذا في تاج العروس وهو خطأ أيضاً. والصواب:(وهي لغة بني العنبر، إذ لا وجود لابن العنبر) أهـ

فانبرت لي من أقصى اللد وكتب: (وقد يقال: عدم الجزم بهذه التخطئة أولى، فبنو الغبر لهم وجود. جاء في القاموس المحيط في (فصل الطاء وباب اللام): وككتاب (أي طحال) كلب وع لبنى الغبر. راجع القاموس المحيط ففيه شاهد لا يليق ذكره.) أهـ

قلنا: لو كسرت يراعتك المرضوضة، وألقيت بها في التنور، وبقيت ساكتاً إلى أن يفيض التنور، لكان ذلك أحسن لك! وأنصحك نصيحة لله: ألا تكتب كلمة قبل أن تتدبرها كل التدبر ثم تعرضها على أصدقائك، ثم تتأملها ثانية، وتعرضها على أعدائك، وحينئذ ابعث بها إلى أصحاب الجرائد والمجلات.

وإلا فمثل هذه الخربشة والخربقة لا ترفع قدرك ولا تبقى لك أثراً طيباً!

أنك يا سيدي رأيت في القاموس أن (طحال كلب وع لبنى الغير. . .) وضبطت: (الغبر) في قولك هذا بضم وفتح مشددة فكم من غلط في كلمة واحدة!

وأول كل شيء، أن الغبر، التي ضبطتها كسكر، ضبطت في القاموس المشكوك كما ضبطتها. وأما يا قوت الحموي فضبطها في معجمه: غُبر كزُفر. والغلط الثاني أنه لم يدخل عليها أل، وكذا ضبطها ابن دريد في كتاب الاشتقاق ص 205 من طبع أوربة قال:(ومن قبائلهم بنو غُبَر بن غَنم، وغُبَر فُعَل، ولم يعرفها باللام هو أيضاً وضبطها صاحب جزيرة العرب - وهو الحجة العظمى في هذه المادة (بنو غُبَر) على حد ما ضبطها يا قوت وابن دريد. وعندنا عدة نسخ خطية قديمة من القاموس وكلها تضبطها كزُفر وبلا لام التعريف. وقد قال صاحب القاموس نفسه في مادة (غ ب ر): غبر كزفر ولم يذكر في ذلك التركيب (غُبَّر) كسكر

ثم لو فرضنا أننا صدقنا رواية القاموس الواردة في مادة طحال، فمن قال لك إن أولئك

ص: 32

المسلمين بني الغبر هم أصحاب تلك اللغة أي لغة قلب السين صاداً؟ وقلنا: (وبالصاد (أي الصديق) وأنت كتبتها (الخص) فما هذه الخربشة؟)

نحن نقلنا ما نقلنا وقلنا ما قلنا لا على مجرد الوهم والتخيل، على الحقيقة. فإن الجمهرة لابن دريد مطبوعة في الهند وما ذكرناه منقول عنها مع بعض الاختلاف هو الوارد في التاج لكنه قال:(لغة بني العنبر) لا لغة بني الغبر. وإن شككت في ما أقول فما عليك إلا مراجعة الجمهرة فهي في الأيدي لابتذالها في الطبع. فما معنى هذا التحكك الذي أظهرته يا سيدي وأنت لا تملك من الكتب ما تؤيد مدعاتك؟ فبنو الغبر كسكر لا وجود لهم ولا للغتهم. فإياك إياك يا سيدي العودة إلى هذا الميدان، فإنه لا يصيبك منه إلا الهوان، بعد هذا الامتحان!

(تم)

الأب أنستاس ماري الكرملي

أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية

بغداد في 2691942

ص: 33

‌اذهب.

. .

للأستاذ علي متولي صلاح

إذهبْ فإِنِّي قد سلوتُ غرامي

وملكتُ نفسي وانتهَتْ آلامي

إذهبْ فقد وضح الصواب ولم أعدْ

عبد الخيال ولا فتى الأحلام

إذهبْ فإني قد تركتُ عواطفي

وجعلتُ عقلي في الطريق أمامي

يا طالما أرسلتُ فيك مدامعي

يا طالما شرَّدتُ فيك منامي

يا طالما ذقتُ الهوان ولم أكنْ

لولاك في يوم يهون مقامي

صدَّا لقيتُ وذقتُ ألوان الجوى

وحملْتُ مصطبراً أذى لوَّامي

حيران في أهلي وبين صحابتي

أسوان أشكر للنجوم هيامي

الناس من حولي ولستُ أراهمو

وأراك في عقلي وفي أوهامي

والنور في الأرض العريضة مشرقٌ

لكنني أحيا بأرض ظلام

والزهر في عيني مريضٌ ذابلٌ

والجدول الرقراق جوف رجام

والشعر في صدري ذبيحٌ ميت

والنَّوْح صدْحي والبكا أنغامي

حتى كأَنَّ الفلك غيَّرَ نهْجه

ومحا السطور البيض من أيامي

ماذا رأيتُ أنك خائني

ورأيتُ أنك لا تصون زمامي

ورأيت أنك ساخرٌ بمدامعي

ورأيت حبك ليس غير كلام!

فالآن فاذهبْ قد سلوتُ غرامي

والآن فاذهبْ قد مضت آلامي

وعلى جمالك من مُحِبٍ سابقٍ

وعلى غرامك ألف ألف سلام

على متولي صلاح

ص: 34

‌المقابر.

. .

للأستاذ محمد برهام

وقفت في حذر فيها فروعني

ما تبصر العين من صمت وإظلام

تطلعت لي عيون الدوح في دهش

وأنعمت في خيالي أي إنعام

وعاد يهمس هذا الدوح في أذني

أركن لقوم ببطن الأرض نوام

تعال مت مثلما ماتوا فسوف غدا

تعل كأْس الردى من بحره الطامي

تعال مت ميتة في العمر واحدة

فقد تميتك ألفاً دورة العام

كأْس المنية خذها عن طواعية

من قبل أن تتلقاها بإرغام

ولم أكد أبصر الأحجار قائمة

والترب يضرب أكواماً بأكوام

حتى نسيت حياة الناس ناحية

وعاد عيشي بها أضغاث أحلام

ورحت في عالم الأموات مبتعداً

عن كل باعث أشجان وآلام

يا ليت كان هنا مثوى أقيم به

ولا أعود إلى عيشي وأيامي

(عن العبرية)

محمد برهام

ص: 35

‌البريد الأدبي

في جماعة كبار العلماء: مصادرة كتاب ومؤاخذة عالم

روت البلاغ أن قد عرض على جماعة كبار العلماء في اجتماعها الأخير التقرير الذي كانت وضعته اللجنة المؤلفة من بعض أصحاب الفضيلة أعضاء الجماعة عن كتاب (رد الدرامي على المريس) الذي طبعه ونشره وكتب مقدمته الشيخ حامد الفقي من علماء الأزهر الشريف.

وقصة هذا الكتاب ترجع إلى أن أحد كبار العلماء وجد فيه أحاديث شك في نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فعرض الكتاب على الجماعة وطلب بحثه فألفت اللجنة السالفة الذكر.

وقد رأت اللجنة في الكتاب جملة مآخذ خلاصتها أن الأحاديث التي يستند عليها المؤلف في روايته غير صحيحة، وأن الكتاب يدعو إلى عقيدة التجسيم للخالق سبحانه وتعالى، وأن مقدمة الكتاب فيها مآخذ شديد وطعن على علماء الكلام، واتهام صريح لهم بأنهم أفسدوا العقائد ببحوثهم والتغالي فيها وزيفوها وخرجوا بها عن سلامتها. وانتهت اللجنة في تقريرها إلى أن نشر هذا الكتاب وإباحة تداوله هو ترويج لمبادئ باطلة عفي عليها الزمان، وطلبت مصادرته ومحاسبة ناشره على نشره وعلى ما جاء في مقدمته من طعن على العلماء خصوصاً وأنه يرأس جماعة إسلامية للدعوة للدين هي جماعة أنصار السنةالمحمدية.

وقد طبع هذا التقرير ووزع على أعضاء الجماعة لبحثه. ورأى فضيلة الشيخ محمود شلتوت عضو الجماعة أن يرد عليه فكتب تقريراً وقدمه للجماعة ووزع على الأعضاء وقد عرض في الاجتماع نفسه. وقد تضمن أن الأحاديث التي طعن فيها والموجودة في هذا الكتاب لها أصل في كتب الأحاديث رواها أبو داود وابن كثير، وكثير من علماء الحديث. وقال عما جاء في المقدمة من كلمات نابية في حق علماء الكلام الإسلاميين أن المقصود بها أولئك الذين دخلوا في الإسلام تظاهراً وهدفهم الأول الإساءة إلى العقائد الإسلامية وتعاليم الإسلام السليمة، وهذا المعنى يتجلى في سياق كلام المقدمة، وضرب الأمثال الكثيرة لذلك

وعلى الجماعة أن تقرر مبدأ بالنسبة لهذا الكتاب وما يوجد من الكتب الأخرى وهو دراسته

ص: 36

والرد على ما فيه؛ وهذا أسلوب القرآن الكريم؛ فسبحانه جل شأنه ساق آراء المشركين والمعارضين للإسلام وحجهم ودعاواهم وعقب عليها بالرد والتنفيذ. وهكذا كان شأن علماء الإسلام الأول يسردون أقوال معارضيهم ويردون عليها. وفي الكتب التي بين أيدينا آراء وأقوال لكثير من الطوائف الإسلامية رد عليها رووها وكان في هذا تنوير للباحثين والدارسين والوقوف على المزيف منها والسليم.

وقد أفاد هذا الأسلوب ونفع وأوجد ثروة واسعة للمكتبة الإسلامية وأدى إلى الوقوف على الحركات العلمية التي كانت موجودة في العهود السابقة. ولعل الأزهر لم ينس بعد الموقف الذي كان منه في سنة 37 إزاء كتاب تاريخ بغداد ومصادرته ثم فك المصادرة عنه.

وانتهى الأستاذ الشيخ شلتوت من تقرير إلى الاقتراح باتباع أسلوب السلف في حماية العقائد والدين بتنفيذ ما يرى أن فيه مساساً بهما والرد عليه وعدم مصادرة الكتاب أو مؤاخذة الناشر على نشره وما جاء في مقدمته.

في نسب العبيدين

في العدد 485 من الرسالة كلمة بعنوان (حول الفاطميين) تراءى كاتبها برأي ابن خلدون في تصديق دعواهم في نسبهم المخالف لجماهير أهل التحقيق في التاريخ والأنساب العلوية، قال ابن خلكان في ترجمة عبيد الله المهدي:(أهل العلم بالأنساب من المحققين ينكرون دعواهم في النسب). وابن خلدون ليس بأقل خطأ في رأيه منه في (العرب والحضارة) و (العرب والعلوم)، وأغلاطه في ما دونه من أخبار الشرق غير مجهولة. إلا أن له هنا دافعاً نفسياً أوقعه في الشذوذ عن الجماعة، كما نص على ذلك المؤرخ الكبير السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ) نقلاً عن شيخه الحافظ بن حجر، وذكر فيه أيضاً سبب شذوذ المقريزي في ذلك

هذا ورد كل شيء إلى السياسة مضيعة للحقائق، وليست كلمة (الغاية تبرر الواسطة) سوى قاعدة (مكيفلية) واهية يبرأ منها علماء الإسلام في جميع العصور. والحكم الذي أصدره كبار الأئمة من علماء بغداد في تزييف نسب العبيديين وافقهم عليه علماء الأمصار كالقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي منصور عبد القاهر التميمي وأبي المظفر الإسفرايني ومؤرخ الإسلام الذهبي وابن تيميه وغيرهم. ومن درس سير أولئك العلماء الذين وقعوا

ص: 37

ذلك الحكم استيقن أن أحدهم يفضل الموت على إصدار حكم مخالف للشرع في نظره. ولم يكن الخليفة يومئذ القادر بالله بقادر على إكراههم على القول بما لا يعتقدونه لأنهمكانوا أهل الحل والعقد في الدولة مع عظم منازلهم في الأمة، على أن القادر بالله لم يوصم في التاريخ بظلم ولا عدوان بل ذكر بالدين والتقوى. ومما يدل على بطلان دعواهم في الانتساب إلى محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق: أن إسماعيل مات في حياة والده، ومحمد لم يعقب كما قال النسابون الثقات على ما هو مبسوط (في الفرق بين) وغيره، فصلتهم بإسماعيل بن جعفر الإمام كصلتهم بالإسلام. وقال ابن طولن في (اللمعات البرقية في النكت التاريخية) في ترجمة الحاكم: وكان هو وأسلافه يدعون الشرف ويقولون: أبونا على وأمنا فاطمة، كان في كل أسبوع يقول ذلك على المنبر، وكانت الرقاع ترفع إليه وهو على المنبر فرفعت إليه رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات:

إنا سمعنا نسباً منكراً

يتلى على المنبر في الجامع

إن كنت فيما قلته صادقاً

فأنسب لنا نفسك كالطالع

أو كان حقاً كلُّ ما تدعي

فاعدد لنا بعد الأب السابع

وزاد غيره:

أو فدع الأشياء مستورةً

وادخل بنا النسب الواسع

فرماها ولم ينتسب فيما بعد. ولما دخل المعز العبيدي مصر وسُئل عن نسبه سل سيفه وقال (هذا نسبي) ونثر الذهب وقال (وهذا حسبي)

ثم إن الكاتب لو رجع إلى بعض كتب الأصول لعلم أن الأحكام الفقهية مسائل كلية لا جزئية، فلا وجه لا دعاء تأثرها بالظروف والأحوال فضلاً عن ادعاء الحاجة إلى نسخها بالاجتهاد، وإنما الأحكام الجزئية هي أحكام القضاة في القضايا الجزئية؛ ولعلم كذلك أن (الأحكام) في كلمته جمع محلى باللام فيفيد العموم، فيكون حملها على بعض الأحكام تراجعاً عن نص المدعى ودلالته. على أن القول بنسخ حكم من أحكام الشرع بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم مما لا يعلمه الدين الإسلامي، ولذلك ترى إجماع الأئمة خلفاً عن سلف على إكفار من يقول بذلك، كما في مراتب الإجماع لابن حزم وغيره

صلاح الدين شفيق

ص: 38