الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 488
- بتاريخ: 09 - 11 - 1942
دفاع عن البلاغة
أسباب التنكر للبلاغة، البلاغة، الذوق، الأسلوب
السرعة، والصحافة، والتطفل، هي البلايا الثلاث التي تكابدها البلاغة في هذا العصر
فالسرعة - وهي جناية اختراع الآلة على الناس - كانت جريرتها على الفكر بوجه أعم، أن استحال تقدير القيم التي يحتاج وزنها إلى الروية والتأمل، أو إلى الأناة والصبر، فظهر الخبيث في صورة الطيب، ودخل الرديء في حكم الجيد، وقيس كل عمل بمقياس السرعة لا بمقياس الجودة!
وكانت جريرتها على البلاغة بوجه أخص، أنها أصابت الأذهان فلم تملك أن تحيط بالأطراف، ولا أن تغوص إلى الأعماق، فجاء أكثر ما تنتج من الزبد الذي لا رجع منه ولا بقاء له.
وأصابت الإفهام فلم تصبر على معاناة الجد من بليغ الكلام، فكان أغلب ما تقرأ من الأدب الخفيف الذي لا غناء فيه ولا وزن له
وأصابت الأذواق فلم تستطيع أن تميز الفروق الدقيقة بين الطعوم المختلفة، فاختلط الحلو، بالمر، والتبس الفج بالناضح. فالكاتب البليغ قد بعجله الحافز الملح عن تعهد كلامه فيأتي بالركيك التافه. والكلام البليغ قد يسرع فيه النظر فلا يفطن إلى عبقريات الفن في تصوره وتصويره فيذهب في ذمة الغث. وقد السرعة خطأ في موازين بعض النقاد فيحسبونها شرطاً في حسن الإنتاج. وربما عابوا الكاتب المرويبالإبطاء وغمزوه بالتجويد وسفهوا قول الحكيم القائل:(لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ، وإنما يسألون عن جودته وإتقانه).
والصحافة - وهي من فنون الأدب المستحدثة - كانت جريرتها على البلاغة أنها أوشكت أن تستبد بالمجال الحيوي للكتابة. وليس في هذا الأمر على ظاهره نكير ولا مؤاخذة، ولكن عمل الصحافة رواية الأخبار العالمية، وتسجيل الأحداث اليومية، ونشر الثقافة العامة؛ وهي في كل أولئك تخاطب الجمهور فلا مندوحة لها عن التبذل والتبسط والإسفاف والمط مراعاة للموضوعات التي تكتب فيها، وللطبقات التي تكتب لها، وللسرعة التي تعمل بها. ولو كان للصحافة كتابها وللتأليف كتابه لما لقيت البلاغة منها أذاه ولا مضرة؛ ولكن حالها
مع الكتاب كحال السينما مع المسرح. فهي أوفر في المال، وأقوى في السلطان، وأوسع في الانتشار، وأشمل في المعرفة، وأغنى في الوسائل، ولذلك غلبت الكتاب على أمراء القلم؛ فهم يعملون فيها على ما تقتضيه أحوالها من مجاوبة السرعة وتوخي السهولة وإيثار العامية. وللصحافة سبعة أبواب لا يدخل بلغاء الكتاب إلا من باب واحد. أما سائر الأبواب فهي لأنماط من ذوي الثقافات المختلفة هيأتهم ملكاتهم ونزعاتهم ليكونوا جنوداً في جيش (صاحبة الجلالة)، فحملوا القلم لأنهم لا بد أن يكتبوا، ثم حملهم إدمان الكتابة ومواتاة النشر على أن يعالجوا الأدب الرفيع فقعد بأكثرهم وهن السليقة وضعف الاطلاع عن مجاراة الموهوبين من أهله؛ فسول لهم الغرور أن يخفضوا مستوى البلاغة، ويبتذلوا حرم الفن، ويوهموا الناس أن أدب الدهماء هو أدب المستقبل، لأن العصر عصر السرعة، ولأن الشأن شأن العامة، ولأن الديمقراطية تقضي باختيار لغة الشعب وإيثاره أدبه. وما داموا هم الكثرة وقراؤهم هم الكثرة؛ فإنهم بحكم الديمقراطية يملكون وحدهم حتى التشريع في الأدب: فينهجون القواعد، ويقررون الأساليب، ويعينون الكتاب ويوجهون الرأي
من أجل ذلك طغت العامية، وفشت الركاكة، وفسد الذوق، وأصبحت العناية بجمال الأسلوب تكلفاً في الأداء، والمحافظة على سر البلاغة إلى الوراء، ولم يبق للمخلصين للغة الوحي وأدب الرسالة إلا أن يكتبوا لأنفسهم ولمن يعصمهم الله من أعقاب هذا الجيل
على أن العامية الأدبية عرض من أعراض العامية الاجتماعية. فمتى برئ المجتمع من أمراض الضعة فجنح للقوة وطمح للكمال، ظهرت الأصالة في فكره، والمتانة في خلقه، والسلامة في ذوقه؛ وحينئذ يتكون الرأي الأدبي العام، وهو وحده الذي يراقب ويحاسب، ويؤيد ويعارض، فلا تجوز عليه دعوى، ولا ينفق فيه زيف، ولا يطفر به مئوف
أما التطفل فقد رأيته ظاهر الأثر على موائد الصحافة! ولكن هناك ضرباً من التطفل المغرور يجوز أن نفرده بالذكر: ذلك هو تطفل فئة من أرباب المناصب لا يقدح في كفايتهم ألا يكونوا كتاباً ولا شعراء؛ ولكنهم يأبون إلا أن يضموا المجد من جميع حواشيه فيتكلفون ما ليس في طباعهم من صناعة البيان فيقمون في النقص وهم يريدون الكمال!
قد ينبغ أولئك السادة فيما يملك بالتحصيل والمزاولة، كالتعليم والتأليف والمحاماة والسياسة؛ ولكنهم أعجز من أن يخلقوا في رؤوسهم ملكة الفن بمجرد الإرادة أو الأمر أو الادعاء.
فإصرارهم على أن يعدوا في كبار الكتاب على ما فيهم من تخلف الطبع وخمود القريحة وضعف الأداة، دفعهم إلى مشايعة الجهلاء في تنقص البلاغة وخفض مستواها إلى الدرك الذي لا يعز مناله على القاعدة. وهذه المشايعة من قوم لهم في التوجيه الثقافي رأي مسموع وأثر ملحوظ أخطر على البلاغة من كل ماتعانيه في هذه المحنة
لذلك كان من البر بالأدب والإخلاص للفن أن نتقدم إلى قرائنا بهذه الفصول.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
حديث عيسى بن هشام
للدكتور زكي مبارك
الأسلوب - الفكاهات - الرحلة الثانية - الرحلة الفكرية - أسلوب وأسلوب - كلمة ختامية
الأسلوب
أشرنا من قبل إلى أن أسلوب المويلحي يغلب عليه السجع فلنقرر أنه لا يعفى نفسه من أثقال هذه الحلية إلا حين يخوض قي أحاديث يطلب فيها الإقناع لا الإمتاع. ومعنى هذا أن مقامات الكلام ترجع في جملتها إلى مقامين: مقام تخاطب فيه العقول، ومقام تناجى فيه القلوب. فالترسل الحر هو أسلوب الإقناع، والنثر الفني هو أسلوب الإمتاع، وبين هذين المقامين صلات دقيقة يعرفها جهابذة القلم البليغ
فهل التزم المويلحي هذه الخطة في جميع الأحوال؟
الظاهر انه لم يراعها كل المراعاة، فقد سجع في مواطن لا يجوز فيها السجع، وحار قلمه بين موجبات العقل، وموحيات الذوق، فلم يسلم في بعض الظروف من الإسفاف
نص شوقي على سجع المويلحي حين رثاه فقال:
رُبَّ سجعٍ كمرقص الروض لمَّا
…
يختلف لحنُهُ ولا إيقاعُهْ
أو كسجع الحمام لو فصلتْهُ
…
وتأنتْ به ودقَّ اختراعُهْ
هو فيه بديع كل زمانٍ
…
ما بديعُ الزمان ما أسجاعه؟
ومن الواضح أن شوقي يرثي، والرثاء يبيح التهويل، ولهذا جاز أن يكون سجع المويلحي أبرع من سجع بديع الزمان، مع أن الفرق بين فن المويلحي وفن البديع، كالفرق بين (عيسى بن هشام) الجديد، و (عيسى بن هشام) القديم؛ وسيظل بديع الزمان هو البديع، لأنه المبتكر الأول لهذا الفن الجميل، الفن الذي ينقد المجتمع عن طريق الأسمار والأحاديث، باللمحة البارعة والأسلوب الرشيق
المويلحي يتعثر في الأسجاع، ولكنه قد يبلغ الغاية في بعض الفقرات، كأن يقول على لسان المحامي وهو يخاطب موكلا رجاه أن يرجئ الأجر إلى أخر الشهر:
(أتظن أن هذه الوعود، تقوم لدينا مقام النقود، في بلد كثر فيه الإنفاق وزادت الضرورات، وقل فيه الربح كما قلت المروءات، وصار الدرهم أعز عند الأب من بنيه، وعند الابن من أبيه؟ وقد تعبت في القضية تعبين: باللسان وبالجنان، ولا أستريح منهما إلا بنقد الأصفر الرنان. فلا تجعل الخلاص من قضية بقضية، والفكاك من بلية ببلية، فذلك ما لا يأتيه العقلاء، ولا يرتضيه الأمراء)
وكأن يقول: إنه رأى في ساحة المحكمة: (وجوهاَ مكفهرة، وألواناَ مصفرة، وأنفاساَ مقطوعة، وأكفاً مرفوعة، وباطلا يذكر، وحقاَ ينكر، وشاكياَ يتوعد، وجانياَ يتودد، وشاهداَ يتردد، وجندياَِ يتهدد، وحاجياَ يستبد، ومحامياَ يستعد، وأما تنوح، وطفلَا يصيح، وفتاة تتلهف، وشيخاَ يتأفف)
وجملة القول أن الأسجاع الجيدة عند المويلحي كثيرة، أليس هو الذي يسجع فيقول في التبرم بالناس:
(إن سالمتهم حاربوك، وإن وادعتهم ناصبوك، وأن صادقتهم خانوك، وإن واثقتهم كادوك، وإذا خالطتهم لا تأمن الاعتداء، وإذا مازحتهم لا تعدم الافتراء، وإن طالبتهم بحق، فانك لا تسمع الصم الدعاء)
الفكاهات
المويلحي كثير التندر والدعاية، وهو ألطف ما يكون حين يسوق الفكاهة بطريق النقد الملفوف. . . أراد أن يعيب عدم استقرار محكمة الاستئناف في مكان فقال وهو ذاهب إليها مع الباشا:(ولعلنا نجدها بإذن الله في مكانها، فقد تعودت التنقل من مكان إلى مكان، ثم اقتربنا فوجدناها)
والكلمة الأخيرة من دقيق التنكيت. . . وقد عاش المويلحي إلى أن رأى محكمة الاستئناف قد استقرت في مكان!
وأراد أن يفصح عن جرأة (المحامي الشرعي) في ذلك الزمان فأدار الحديث على مثل هذه الصورة:
- علمنا أنك رجلٌ عدلٌ عفّ، فجئناك لقضية في وقت
- أتطلبون ريعه؟ أم تريدون بيعه؟
- سبحان الله! وهل تباع الأوقاف؟
- نعم، ويباع جبل قاف!
ثم يصير السجع نفسه فكاهة في هذا الموضع (تنحنح الشيخ وسعل، وبصق وتفل، وتسعط، ثم تمخط، واقترب منا ودنا، ثم قال لنا)
وأراد أن يصور بلاء الناس بطول الإجراءات في المحاكم فقال:
(نسأل الله أن ينقذنا مما أصابنا من حكم الدهر، وأن يعجل بانقضاء القضية قبل انقضاء العمر)
وهذه فكاهة مرة المذاق، فلعل إجراءات المحاكم المصرية أصبحت أقصر مما كانت في ذلك الزمان
المرحلة الثانية َ
وعد المويلحي في نهاية الرحلة الأولى بأنه سيقوم برحلة ثانية ليصور المجتمع في الأقطار الغربية، وقد انتظر القراء هذه الرحلة عشرين سنة، انتظروها من سنة 1907 إلى سنة 1937
فمتى قام المويلحي بالرحلة الثانية؟
حدثني الأديب إبراهيم المويلحي تلفونياَ أن هذه الرحلة كانت سنة 1889، فعارضته في التاريخ، لأن معرض باريس لسنة 1889 هو المعرض الذي أقيم فيه برج أيفل أول مرة، وفي الرحلة الثانية فقرات صريحة في أن المعرض الذي زاره المويلحي لم يكن ذلك المعرض، لأنه يتحدث عن (إيراد البرج في المعرض السابق) ولأنه يتحدث عما انتهى إليه أمر (المسيو أيفل) وقد اتهم بالسرقة والاختلاس وسجن في قضية (بناما) ولا يمكن أن يقع ذلك في سنة 1889
وبعد يومين تفضل الأديب إبراهيم المويلحي فاخبرني انه راجع ما عنده من دقائق فعرف أن الرحلة الثانية كانت في صيف سنة 1900 وأن أصولها أرسلت من باريس ونشرت في (مصباح الشرق) على فترات
وإذن يكون المويلحي قبر الرحلة الثانية سبعاَ وعشرين سنة، فما سبب ذلك؟
لعل السبب يرجع إلى أن المويلحي كان يستصغر محصول الرحلة الثانية، ولعل كان يرجو
أن تتاح فرصة يزور فيها أوربا زيارة الباحث المدقق، ليؤلف كتاباَ في قوة كتابه الأول، ثم صنع الدهر ما صنع فصرفه عما يريد، ولم يبق إلا أن يقنع بالمحصول السابق من الرحلة الثانية، فطبعها قبل أن يموت بثلاث سنين
رحلة أمين فكري
والمؤكد عندي أن رحلة أمين باشا فكري كانت السبب في تردد المويلحي، فقد كان يحب أن يصل إلى دقائق تفوق ما احتوت عليه (الرحلة الفكرية) فما تلك الرحلة؟
الجمهور يجهل أن القاهر شهدت في سنة 1892 ظهور كتاب لم تعرف مثله اللغة العربية، وهو كتاب (السفر إلى المؤتمر) في صفحات بلغت 823 بالقطع الكبير. وفيه وصف للحيوية الصناعية في البلاد الأوربية، وصف لم يكتب مثله كاتب في الشرق الحديث. وقد كنت شرعت في كتابة بحث أصور به قيمة هذا الكتاب النفيس ثم انصرفت عنه لبعض الشؤون، ولعلي أرجع إليه بعد حين
نحن في صحبة كاتبين وصف أولها معرض باريس سنة 1888 ثم وصفه الثاني في سنة 1900، فما الفروق بين هذين الكاتبين؟
لا جدال في أن أسلوب المويلحي أروع وأرشق، ولا جدال في أن المويلحي مفطور على الحاسة الفنية؛ ولكن عند الباحث أمين فكري نزعة علمية قليلة الأمثال، فقد وصف المعرض وصفاَ هو الغاية في تعقب الأصول والفروع من حيوات العلوم والفنون
قضى الباحث أمين فكري تسعة أيام في زيارة المعرض، وهو في صحبة أبيه عبد الله باشا فكري، أحد أئمة الأدب في الجيل الماضي، ورئيس الوفد المصري إلى مؤتمر المستشرقين الذي عقد في بلاد السويد والنرويج سنة 1889
كان أمين فكري يسجل مشاهداته في كل يوم، وأي مشاهدات؟ كان يتعقب ما ترى عيناه بالبحث والفحص والتشريح ثم يسجل ما يراه بعبارات فصيحة بليغة أغناها الوضوح والتحديد عن التزويق والتنميق
إذا قال محمد المويلحي إن برج أيفل هو أرم ذات العماد، أخذ أمين فكري في سرد تاريخ البرج وتصميماته الهندسية، وانطلق فتحدث عن طبيعة الأرض القريبة من نهر السين، وطاف بشؤون علمية لا تخطر للمويلحي في بال
والحق أن أمين باشا فكري آية من آيات النبوغ المصري، وما كان بينه وبين أبيه يشابه ما كان بين المويلحي وأبيه، فشهرة عبد الله فكري طغت على منزلة أمين فكري، كما أن شهرة إبراهيم المويلحي طغت على منزلة محمد المويلحي وأمين فكري نفسه يحدثنا في المقدمة أن أباه عبد الله باشا فكري كان ينوي كتابة هذه الرحلة، وأنه ألمع إلى ذلك في خطاب أرسله من لوسرن إلى الوزير علي باشا مبارك، ثم دهمه المرض والموت، فكان مصير الكتاب إلى ابنه أمين.
أسلوب وأسلوب
في (السفر إلى المؤتمر) صحائف من إنشاء عبد الله فكري، وهي تشهد شهادة قاطعة بأن أسلوب الأب وأسلوب الابن يختلفان بعض الاختلاف
فمتى نصل إلى مثل هذا اليقين في التميز بين أسلوب محمد المويلحي أبيه إبراهيم؟
محمد المويلحي ترك (حديث عيسى بن هشام) وإبراهيم المويلحي ترك (حديث موسى بن عصام) وهو منشور بجريدة (مصباح الشرق) فإن سمح الوقت يوماَ بالموازنة بين الحديثين فستعرف مدى الفرق بين الأسلوب.
إحدى الطرائف
من طريف ما لاحظت أن أسلوب عبد الله فكري تغلب عليه النزعة الأدبية، على حين تغلب النزعة العلمية على أسلوب ابنه أمين
ولا كذلك الحال بين المويلحي وأبيه، فالابن تغلب على أسلوبه النزعة الأدبية، أما الأب فتغلب على أسلوبه النزعة العلمية والظاهر أن الجيل الماضي في مصر يحتاج إلى دراسات، فهو الذي وضع الأساس لبناء الجيل الجديد، وكان فيما أرى على جانب من العافية، تصوره النكتة الآتية:
كان الوزير علي باشا مبارك رجلَا من أهل الجد الرزين، ومع هذا استطاع عبد الله باشا فكري أن يصف له ملاعب أوربا في خطاب يقول فيه:
(وكم رأينا في تلك البطاح، من صباح ملاح، كل خود رداح، شاكية السلاح، من الحاظ كالصفاح، مراض صحاح، وقدود كالرماح، دامية الجراح، فاتكة في الأرواح، وليس عليها
لدى القانون فيما جرحت جناح، وكل ما أجترحت مباح، وهن منتشرات في تلك الجهات كعقد خانه السمط فانتثرت درره، وروض ألحت عليه الريح فتبدد زهره، فهن ظباء في هذه المراتع روائع، وأقمار من هذه المطالع طوالع، وأنوار في تلك المواضع سواطع، قد ربين في مهاد الدلال رواضع، وغذتهن بلبان الجمال لا الجمال المراضع، فبرزن كالحور، في غلائل نور، أو ورد جور، في زجاج بلور، تراهن بين الأشجار، فتراهن بعض الأزهار)
أيكتب هذا الكلام إلى وزير اسمه علي مبارك لا زكي مبارك؟
كان أسلافنا في عافية، وكانوا يرون التشبيب فنا من البيان، ولم يكن من العيب أن يوضع مثل هذا الخطاب في وثائق مجلس الوزراء. فعلى رجال الجيل الماضي ألف تحية وألف سلام!
كلمة ختامية
بهذا المقال الثالث نختم القول في توجيه الطلاب إلى فهم سريرة عيسى بن هشام، فقد أفصحنا عن أهم الدقائق من تلك السريرة، ورفعنا عن المؤلف بعض الآصار التي أثقله بها معاصروه وأزحنا الستار عن حقائق كانت مجهولة عند الكثير من أبناء هذا الجيل
وأنا وأرجو من ينظر في كتاب (حديث عيسى بن هشام) أن يتذكرانه كتب في عصر كانت لأبنائه عقيدة أدبية، فما كانوا يخطون حرفاَ إلا بميزان، ولا كان الفتى منهم يتطاول إلى تسطير مقال إلا بعد أن يستوعب ما يصل إليه من أثار القدماء، ولا كان يتسامى إلى الأدب إلا من زود بمواهب تضمن له الخلود
وما ظنكم بجيل كان من أبنائه محمد عبده وسعد زغلول وتوفيق البكري واحمد تيمور وإبراهيم المويلحي ومحمود البارودي وعبد الله فكري وعلي يوسف وعبد العزيز جاويش؟
لا تنسوا أن الجيل الماضي كانت له عقيدة أدبية وعقيدة قومية. لا تنسوا أنه ترك أثاراَ تستحق الدرس والاقتداء. لا تنسوا أنه لا يليق أن نكون أقل منهم حرصاَ على التلحيق، ونحن نملك من الوسائل ما لم يكونوا يملكون
إن (حديث عيسى بن هشام) صورة من صور القلق الاجتماعي، وهو يشهد أن مؤلفه كان يتجه إلى خلق جيل جديد يسلم من أوضار الجيل العتيق إن وقعت في الكتاب سجعة لا ترضيكم فلا تبتسموا ابتسام السخرية، فهي الدليل على ابتلاء المؤلف بمحنة الفنون
على أني أحب أن تكون لكم عيوب المويلحي، وهي عيوب رجال، وأكره أن تكون لكم محاسن أهل الغفلة، وهي محاسن أطفال
كونوا مبدعين في جميع الميادين، وكونوا أنتم أنتم، ولتكن صورة الوجه هي التي تميزكم بعد صورة الأسلوب.
زكي مبارك
عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه
أرواح وأشباح
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
(تتمة)
ألم يتضح بعد أن كلام الشاعر في الفنان وعلاقته بالمرآة ليس جماع ملحمته، على ما قد يذهب إليه وهم واهم؟ أليس ذلك الكلام سبيلَا إلى وصف الكفاح بين الروح والجسد بذكر حقائق بشرية عامة هي المادة التي صدر عنها خيال الشاعر؟ ألحق أن شعره تحفة من الأدب الإنساني الصادق بعينه. ويجعل بالقارئ وهو يطالع مثل هذه التحفة ألا يميل إلى الكسل كي لا يمنعه من البحث فيها عن المميزات التي تدخلها في نوعها من الأدب. فإن هو أدرك هذه المميزات رأى أن التحفة فتحت باباَ جديداَ واسعاَ في الأدب العربي بالاقتباس من أنواع الأدب الأجنبي، وعرف قدرها خصوصاَ من هذا الوجه
فقد توافرت فيها مميزات النوع المعروف عند الغربيين باسم ملحمة: شعر في الإنسانية يعبر عن وجدانيات وفكر معروفة في المأثور من أساطيرها الشرقية والغربية، وفي المعهود من طبعها وعاداتها وخلالها وعقائدها، وفي علمها وأدبها. وهو شعر رفيع صادر عن إيمان من الشاعر برأيه، ويشف عن إيمانه لهجته وبلاغته فيما قص؛ وقد مزج الحقيقة والخيال في قصصه، وبعث فيه الحركة والحياة بفنه؛ وطالت قصيدته حتى بلغت أربعمائة بيت ونيفاَ. فهي ملحمة ليست يونانية موقوفة على تمثيل شخصيات بعينها من جيل إغريقي معين، ولا مترجمة، ولا فرنسية، بل هي إنسانية مبتكرة في الأدب العربي وإذا كانت العزة القومية تغرى بأن نسر لمثل هذا التجديد فإنما وجه السرور أننا نأخذ من الأجنبي ما يلائمنا ويندمج في آدابنا وأساليبنا، كما أخذ أسلافنا وكما هو منهم وأفلح، وأنها جاءت ملحمة عربية من أدبنا في القرن الرابع عشر الهجري، ومعنى ذلك أننا ما كنا لننفر من أدب بني جنسنا، بل إننا نرجو له أن يتلخص كل التخلص من الجمود ليتصل كمال الاتصال بحركة الحياة الإنسانية الحاضرة فيعود إلى ما كان عليه من خصب في أيامه الذهبية
وهذه الملحمة أدب عربي لا يقاس على كل مقاييس الآداب الأجنبية حتى يقال، مثلا - من
أجل بيت أو بيتين - هذا شعر رومانتيكي، ولم يكن للأدب العربي عصر رومانتيكي بمدلول هذه الكلمة الأجنبية، أو حتى يقال إن نظرة الشاعر إلى الفن والحياة في ملحمة نظرة رومانيتكية جعلت من الفنان (صدى عابراَ. . . ورحاَ مجنحة الخاطر) في حين أن نظرته إنسانية اجتماعية لا فردية، وعقلية لا وجدانية، وأن عرض هذه النظرة بشعر مزاجه الخيال والوجدانيات وبلاغة هزة الإلهام، وكان فيه ما في طبائع البشر التي وصفها من انفعالية وشهوانية
ألا أن هذه التحفة شعر يملا النفس جلاله، ويثير الفكر في موضوعه الذي تترامى آفاقه كلما حاول النظر أن يتتبعها؛ وإن صاحب التحفة لشاعر شاعر، أسلوبه ساحر، وهو قادر حتى على تشريف كلام يعد خارج شعره من السهل غير الممتنع، كالبيت الثالث من قوله:
وكنت فتى ساذجاَ لا أرى
…
سوى دمية صُوِّرت من نقاء
أنيل الثرى قدمَي عابر
…
يعيش بأحلامه في السماء
فأصبحت شيئاَ ككل الرجال
…
وأصبحت شيئاَ ككل النساء
أليس في ثالث هذه الأبيات كل حسرة الفنان المؤلمة على روحه الخائبة، وكل لهفة على ما استحال من نظرته العفيفة إلى الجمال يوم كان فتى ساذجاَ لا يرى مكر الغريزة به لشغله عنها بخواطر وخوالجه السامية، ومثله العليا في الحياة؟ أليس ما أفعم قلبه من أسف مصوباَ كله في قوله (شيئاَ) للتحقير؟ وقد قوى التنكير ما حملت كلمته من معنى التحقير في موضعها من سياق البيت تلو البيتين البليغين الأولين، وانتقل هذا المعنى بأداة التشبيه إلى كل الرجال. ثم أليس شجوه لتدهور المرأة معه، أو تدهوره معها، مركزاَ في الشطرة الثانية من البيت؟ ألم يصبح كلامه من السهل الممتنع؟ الحق أن ما فيه من مزية شعرية، وروعة معنى، وسحر بيان، هو شيء بليغ يعلى النفس ويعلو على كل تقدير. وهو شيء ليس يستطيع إنكاره سوى الذين لا يعرفون كنه الشعر فيظنون أن الشعر هو ما تزدان به ماهيته الخافية عنهم من التشبيه الجميل، والمجاز البارع، والكناية البديعة؛ وإنما أولئك زينة الأبواب، وقد يكون لؤلؤها بهرجا، وزواقها خادعا، فتكون معارض زائفة تنقص قيمة الشعر أو لا شعر تحتها.
وهل من قول في أسلوب علي طه بعد أن كتب إليه خليل بك مطران: (جئت بالطريف من
المعنى، في الصريح الشائق من المبنى. . . إن في مطالعة أرواح وأشباح لمتعة فكري ولذة فنية)؛ وبعد أن كتب صاحب الرسالة:(هي في الصياغة مشرقة البيان، منتقاة اللفظ. . . هزت نفسي هزاَ شديداَ، فكنت أطيل الوقوف عند كل رباعية، أديم النظر في كل بيت، أتذوق جمال صياغته برفق، وأستجلي سر بلاغته في أناة)
هزت نفسه، فأدام النظر في كل بيت ليتذوق ويستجلي. ذلك لأن اللذة التي يجدها الذوق يكشف التحليل سرها فيضاعفها في النفس
فأن الذوق ملكة مركبة من الشعور، أي الانفعال، لأن المحاسن والعيوب تؤثر فيها بالطبع؛ ومن الذكاء، لأنها تجلل تأثرها باحثة عن أسباب الاستحسان وأسباب الاستهجان، وتنظر فيها تجد من دواعي الإعجاب ودواعي الإنكار، وتوازن بينها. وأثر الانفعال، أي وقع الشيء، هو الحاكم الطبيعي أول وهلة، أما النظر فهو الحكم بعد ذلك. والمعتاد من هذا الحكم إذا اقترن عند صاحبه الانفعال السريع بالعقل الثاقب النير، ألا يجيء قضاؤه إلا مؤيداَ لقضاء الحاكم الأول. ولذلك كتب الأستاذ الزيات، بعد إدامة النظر:(إن أسلوب هذه الملحمة ليس بدعاَ من أسلوب علي طه، فإن الصفات الغالبة على أسلوبه كله، هي الوضوح والأناقة، والسهولة والسلامة)
أما بعد، فقد تبين من مزايا (أرواح وأشباح) أن إمعان النظر في هذا الصنيع - كما هو، يزيد الناظر إعجاباَ به في ذاته، وإعجابا على إعجاب بطبعته. وما أجمل ائتلاف الظرف والمظروف في مثل هذه التحفة!
فإن للمؤلفات النفيسة عند الغربيين في هذا العصر طبعات فاخرة، محلاة بصور يصنعها أبرع الفنانين؛ وهم في ذلك يتبعون عادة أسلافهم في كتبهم الخطية. وقديماَ كان هذا هو الشأن عند الشرقيين من فرس وعرب وغيرهم؛ وزين السلف الصالح مصحفنا الشريف - على جلال القران الكريم - بأجمل الخطوط والنقوش العربية، وموهوه بمختلف الألوان والمياه الفضية والذهبية، إجلالَا للكتاب المجيد. ثم ضاع منا العلم وضاعت الفنون والأذواق؛ ثم ظهرت عندنا تلك المطبوعات القبيحة التي تعمى الأبصار. ومنذ شرعت مصر تنهض أخذنا نجود الطبع، وونحلي المطبوعات أحياناَ. وفي ذلك وقاية للنظر، وتهذيب للذوق، وتحبيب في الإتقان، وخدمة للطابع وللفنان. لكننا ما زلنا في المرحلة
الأولى على هذا الطريق
من أجل ذلك، لا من أجل ما يعنى التلميح السخيف، لم يقنع صاحب هذه التحفة بنفاستها الأدبية، بل زين طبعتها بصور بارعة من ريشة الفنان محمد سليم شوقي، تروق في النواظر، وكأنها في البصائر عناوين فنية لمقاصد الشاعر وأغراضه في شعره.
وقد اختار لكتابه أحسن طبع بحبور مختلفة ألوانها، مؤتلفة كألوان الصور؛ بأحرف جميلة بينة في أسطر متباعدة بين حواش عريضة؛ وتجود من أصناف للكتابة وللغلاف المحلى بصورة لآخر مشاهد القصص
وليس يجمع أجمل الصفات الأدبية والمادية في وحدة محكمة البناء، متقنة التأليف، عظيمة الإشراق، فتانة الرونق، إلا روح فنان وذوق ممتاز.
محمد توحيد السلحدار
عقيدة البعث
للأستاذ محمد عرفه
عضو جماعة كبار العلماء
لا أعلم شيئاَ أعظم بركة على البشر من عقيدة البعث، وقيام الأموات من القبور، ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته
ولا أعلم شيئاَ أعظم شؤماَ على البشر من تحطم هذه العقيدة، واعتقاد الناس أنهم لا يجزون بخير يعلمونه، ولا بشر يقترفونه
ولا أعلم زماناَ كان الناس فيه أحوج إلى اعتقاد البعث من هذا الزمان.
إن روح الشر التي تسيطر على البشر الآن، ويشكو منها القادة والمصلحون هي من ضياع هذه العقيدة
خوت القلوب من عقيدة البعث والجزاء، فقادت الناس شهواتهم، وضاعت الشكائم التي كانت تكفهم، وأصبح المرء يرى أن لا حياة له إلا هذه الحياة، وأنه إن لم يمتع نفسه بكل الشهوات خسر خسراناَ مبيناَ، فاندفع يحصل هذه الشهوات من كل سبيل. فقد الإيمان بجزاء الأعمال فاستوت عنده الحسنة والسيئة، فاندفع إلى السيئات يقترفها، وكأنما يأتي حسنات.
تنبهت غرائزه الدنيئة، وفتحت فاها فلم يكفها شيء تلقمه؛ واختفت غرائزه العلوية، وأصبحت الحدود التي تفصل بينه وبين الحيوان الأعجم دقيقة وتكاد تمحي.
أقفر المستقبل من الجنات التي أعدت له جزاء فعل الخير فلم تتحرك فيه إرادة الخير، وأقفر أيضاَ من الجحيم الذي كان ينتظره جزاء فعل الشر فلم ينزجر عن شر، فهتك الحرمات، واستباح المعاصي، وسار في هذه الحياة لا دين يردعه، ولا فضيلة تزجره.
كانت مقاييس الخير والشر عنده رضا الله وغضبه، ونفع الناس وضرهم، فأصبحت مقاييس الخير والشر إتباع شهواته وإجاعتها، ورضا ميوله وغضبها.
كان الفقير والمريض والمبتلى يجد كل منهم في هذه الدنيا سلواه لأنه يعلم أن وراء هذا الفقر في الدنيا غنى الآخرة، ووراء هذا المرض صحة، ووراء هذه البلوى عافية، فكان في وسط هذه الشدائد والآلام راضي النفس، باسم الأمل، راجي الرحمة، فأوصدوا هذه البواب في وجهه، فلا أمل، ولا رحمة، ولا رضى، ولا رجاء.
كان الغنى يحسن إلى البائس الفقير لأنه يعلم أن ما يدفعه الآن سيأخذه أضعافاَ مضاعفة، وسيجزى بذلك النعيم المقيم، فأوصدوا باب الجزاء في وجهه، وأوصدوا بإيصاده باب الإحسان
كان يعمر قلبه الله والخير والفضيلة والعدل، ويخيفه الشيطان والشر والرذيلة والظلم، فشك في ذلك وأصبح يتساءل ما الله؟ وما الشيطان؟ ما الخير؟ وما الشر؟ وما الفضيلة والرذيلة؟ وما العدل وما الظلم؟ هذه كلها من أوهام الماضي، وخرافات الأجيال
أعلم أن الذي حول العالم إلى هذه الحال القلقة، وورطه في هذا الجحيم هو اندفاع فلاسفة القرن التاسع عشر والقرن العشرين في مقاومة الدين ونقصه - كان هؤلاء الفلاسفة يجهلون قيمة الدين في حياة الشعوب والأفراد، وكانوا يرونه يعيش على هامش الحياة، بل ربما رأوه كلا عليها، فاندفعوا يقاومونه وينقضونه حجراَ بعد حجر، ويشككون في مبادئه السامية، فضعفت قيمة الدين في النفوس بما ألقوا من شبهات وما أثاروا حوله من استهزاء، ولم يعلموا أنهم بذلك يفتحون باب المقبرة للعالم، وينقضون أخلاقه العلوية السامية.
أرجعوا إلى الناس إيمانهم إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجزاء بالأعمال ترجع إليهم عفتهم وطهارتهم وصيانتهم.
أرجعوا إلى الناس إيمانهم ترجع إليهم أمانتهم ووفاؤهم وعدالتهم.
أرجعوا إلى الناس إيمانهم يرجع إليهم أملهم الضائع، وأمانيهم المنشودة، ومستقبلهم الزاهر، وعزاؤهم على ما يلاقون من آلام الحياة.
أرجعوا إلى الناس إيمانهم ترجع إلى الأرض الرحمة، وإلى البشر العدل، ويهبط على الكون السلام.
محمد عرفه
في فن الحرب
من الخنادق إلى حرب الحركة
للأستاذ (ذ. ص)
قال برناردشو:
(إن صنعة الحرب تنحصر في الهجوم بقسوة المستضعف على من هو أقل منك عدداَ وعدة، وفي التهرب من لقاء الند. والسر في النجاح الحربي هو أن تتحايل على الخصم: تنصب له الفخاخ وتمد له الأحابيل؛ فإذا تعثر أو كبا، انقضضت عليه بلا شفقة انقضاض الغادر. ولكن إياك إياك من مجابهته وهو منتصب على قدم الاستعداد!) كلمات لاذعة ساخرة. . . ولكنها من صلب الحقيقة. القائد الناجح هو ذلك الذي يخادع ثم يقاتل، ويراوغ ويخاتل ثم ينقص بتلك الأساليب الملتوية، والحيل الماكرة، والطرق المتعرجة المنثنية، حيث الدهاء والفطنة متآلفان، والخبث والذكاء متعاونان
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، وانتقل ذلك الفن العريق من أفقه الشاسع الفسيح، أو قل من جحيمه العميق، إلى حيز ضيق محدود: فالتجنيد الإجباري قد أعطى الدول المقدرة على تغطية كل شبر من أراضيها المتاخمة لحدود الأعداء، فأصبحت الجيوش متجابهة، ولزم عليها صراع الخصم صراع الند للند، والقريع للقريع، كما حدث في الميدان الغربي أثناء الحرب الماضية.
تضاءل مجال مناورات الاستراتيك، ولم يجد القواد فرصة للالتفاف حول الأجناب، وليس هناك أجناب، وحاروا في كيفية الإغارة على المؤخرات، دون الاضطرار إلى اختراق الواجهات، بل وكيف يكون الاختراق وقد أعطت الأسلحة الآلية التفوق المطلق لمواقع الدفاع؟
إن الحرب بأساليبها وخططها ورجالها وعدتها ترتكز على ركنين أساسيين: قوة النيران، وسرعة الحركة. وما الهجوم إلا الحركة صوب العدو، وما الدفاع إلا محاولة وقف تلك الحركة بالنيران المحكمة التصويب. وهذه الأخيرة هي التي كانت أسبق إلى التحرر من قيود الطاقة البشرية، حين تحولت إلى قوى الطبيعة تستمد منها القدرة على الفتك، فلم تعد السواعد هي التي تلوح بالرماح أو تطعن بالسيوف، بل أصبحت المفرقعات هي قوتها
الدافعة، بل وزادت على ذلك وأدت إلى اختراع السلاح الآلي السريع الطلقات الذي طفر بمقدرة الدفاع إلى الأمام طفرات هائلة. فمنذ قرن مضى وقف ولنجتون أمام وترلو يصد هجمات نابليون العنيفة، وقد رص رجاله رصا، وتعلق مصير أوربا بمقدرته على وقف جيوش الإمبراطور، حتى يلحق به بلوخر، لحظات معدودات أطلقت خلالها الكتائب البريطانية النيران بمعدل ألفي رصاصة في الدقيقة الواحدة لكل كتيبة (أورطه)، ولو كان الزمان انتقل فجأة بولنجتون إلى عهد السلاح الآلي، لأمكنه استبدال كل كتيبة من كتائبه برجالها وبنادقها وقائدها وضباطها بثلاثة جنود خلف ثلاثة رشاشات، ليحصد نابليون حصداَ ويشتته تشتيتاَ
هذا في حين أن الهجوم ظليعتمد على الطاقتين: البشرية والحيوانية. وكانت تعبئة الجيوش تتم حقيقة بقوة البخار على خطوط الحديد، ولكنه أثناء تلك اللحظات الحاسمة التي ترفرف على الميدان خلال القتال، ظلت الحركة هي هي كما كانت أيام هنيبال: أدواتها أقدم بني الإنسان على الدوام، تعاونها ظهور الجياد في بعض الأحيان
زادت إذن قوة الدفاع أضعاف الأضعاف، فكانت النتيجة الحتمية شل كل هجوم، وتثبيت الخطوط، وتحويل الحروب من ميدان البراعة والفن، إلى التطاحن المنهك الممل، والحصر الاقتصادي الطويل
لم تعد المعركة موضع حسم النزاع ولا الجنود هي العامل الفعال، بل انتقل الزمام إلى مقدرة المدنيين على الاحتمال ومهارة ربات المنازل في الاقتصاد من مستلزمات الحياة - كان سيأتي الوقت الذي يحل فيه التدبير المنزلي محل التدريب العسكري، وتكتفي الدول بخطوط (ماجينوية) أو (سجفريدية) مجهزة بالمقاعد الوثيرة ولوحات التليفزيون، يضطجع بداخلها الجندي في دعة وتراخ، فإذا لمع مصباح من المصابيح وجه الرجل عينيه إلى شاشة مخصوصة، ثم ضغط على زر معلوم، فتنطلق من أعلى الحصن عدة طلقات، يكون فيها إسكات المهاجمين وعودة المدافعين إلى النوم الهنيء والسبات العميق؟
ذاك ما تخيلته بعض العقول العسكرية وخاصة الفرنسية منها فأقامت خط ماجينو، ولكن هناك آخرون كان في التفكير مذهب جد مختلف، فقد احتفظوا في ذاكرتهم ببعض تفاصيل الحرب الماضية، من تلك التي كان لها تأثيرات شديدة، ولو أنها لم تكن نسبياَ إلا نتائج
محدودة لمجهود محدود، حده أول مرة قلة الأدوات وصغر المكان، وفي الأخرى تخلف الزمان عن التفتح لاستثمار عبقرية ظهرت قبل الأوان
أول هذين الحدثين استعمال الطاقة الميكانيكية في ميدان المعركة، عند ما هجم البريطانيون في نوفمبر 1917 ببضع عشرة دبابة، فانكسر الخط الألماني؛ دهشة الإنجليز أنقسم أنفسهم وعدم وجود الاحتياطي الكافي عاقاهم عن استغلال ذلك النجاح المباغت
وثانيهما تفتحت عنه عبقرية لودندرف من طرائق للهجوم جديدة - وهو من أبناء المدرسة الألمانية المتشبعة بروح الهجوم - والهجوم الناجح يتطلب المناورة والالتفاف وكما ذكرنا آنفا: لم يكن هناك أجناب، فما العمل إذن؟ أيستسلم لودندرف ويرضى بالحال؟ كلا فهذا من المحال. إنه يريد الهجوم، يريد إحراز نتيجة إيجابية بأي ثمن كان، إذن. . . فلتخلق لجيوش الأعداء أجناب!. . . يبتكر لودندرف وينفذ نظريته الجديدة: نظرية التسلل؛ وهي إرسال بعض الجنود يتسللون مواطن الضعف في خطوط الأعداء حتى إذا وجدوها تسللوا خلالها وأحدثوا بها ثغرة أو ثغرات، فيها يجري الحشد الجديد، ومنها يكون الالتفاف والتطويق والهجوم وحسم النزاع
صادف لودندرف بعض النجاح، ولكن حركات الجنود في الميدان بطيئة، فيتنبه لها الدفاع قبل الاستفحال؛ ويسارع إليها بالنيران يصلها وبالفتك الذريع يرميها، فتنبطح للتستر وتعود إلى الثبات، أو ربما تذعر وتولى، فتكون الهزيمة والفرار ويجلس القائد الألماني بعد الحرب بسنين، وفي قلبه حسرة وبقلمه رعشة، ويقرر حزيناَ كئيبا:(إن مناوراتي الأستراتيكية خذلتها نقائض التكتيك)
ولكن نظرياته لا تنسى ولا تزول، بل تنزوي حية في بعض العقول، حتى يخلق لها الجو الملائم فتعود إلى الظهور؛ وتنشر هنا وهناك بعض المؤلفات تهيئ لها الجو، إن عفواَ وأن قصداَ، أهمها (نحو الجيوش المحترفة) للجنرال ديجول عام 1934، ثم (حرب الدبابات) للجنرال إيمنزبرج النمسوي. وأخيراَ كتاب جودريان الفذ:(حذار!. . . إنها الدراعات) عام 1938
تنبهت القيادة الألمانية لمميزات الدبابات، ورأت أنها هي، وهي وحدها، الكفيلة بمضاعفة سرعة الجيوش في ميادين القتال، بل وإلى جعلها قادرة على إدماج الضرب مع الحركة،
فمن قبل كان الجندي المهاجم يقف عن الحركة ليطلق النيران، ثم يكف عن إطلاقها إذ عاد إلى الحركة، وهذا مضيعة للوقت وأي مضيعة، وإعاقة للتقدم وأي إعاقة! وهكذا قدر للهجوم أن يعود إلى عرشه المفقود، فينقلب ثبات المدافعين إلى جمود الحائرين، ثم إلى خنوع المستسلمين.
(ذ. ص)
مشاركة الأدب الإنجليزي
في الدراسات العربية
نقل اعن (برنارد لويس)
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
4 -
القرن التاسع عشر وما بعده
لقد درسنا حتى الآن حياة رجال ذوي شخصيات أكاديمية، فلنقف قليلَا لننظر في حياة ثلاثة من رجال الإنجليز الذين كان اهتمامهم باللغة العربية وببلاد العرب ينبع من معين أخر، والذين يختلف عملهم الذي ملأ حياتهم كلها، عن عمل أولئك الذين سبق أن درسناهم
وأول هؤلاء وأشهرهم هو (سررجارد برتون)(1821 - 1892) فبالرغم من أنه بدأ دراسته للغة العربية مبكراَ وهو في أكسفورد فانه ترك الجامعة قبل أن يتمها، وذهب إلى الهند لكي يعمل في الجيش البريطاني. وعاش هناك بضع سنين، قضى أكثرها في المناطق الإسلامية، ودرس اللغتين العربية والفارسية، واللغات الإسلامية الأخرى على أيدي مدرسين من المسلمين، وعند عودته إلى إنجلترا نشر أربعة كتب عن الهند
وفي سنة 1853 زار مصر زيارته الأولى، وقام برحلة على ظهور الجمال من القاهرة إلى السويس. وبعد سفر ملئ بالحوادث غادر ذلك الميناء قاصداَ ينبع في باخرة حجاج؛ وتغلغل في الحجاز قاصداَ زيارة المدينة ومكة، ثم عاد إلى إنجلترا عن طريق جدة ومصر. ونشر بعد عودته وصفاَ لرحلاته هذه في ثلاثة مجلدات طبعت عدة طبعات، ولا تزال تعتبر مرجعاَ عن البلاد التي وصفها. ثم أعقب ذلك عدة سنين من أسفار متعاقبة
وفي إحدى المرات قام برحلة استكشاف في المناطق المتوحشة من شرقي أفريقيا والحبشة، متنكراَ في زي تاجر عربي. وقد عاد بمعلومات ثمينة عن المناطق التي تكاد تكون مجهولة. وفيها تلا ذلك من السنين ساح في وسط وغرب أفريقيا، والأقسام المغمورة من الأمريكتين. ونراه في سنة 1855 في الفرم يخدم مع القوات البريطانية. وفي خلال المدة ما بين سنة 1869 و1871 كان في دمشق وساح في سورية ومعه زوجته و (إدوارد هنري بالمر) ونشر هو وزوجته وصفاَ لتلك البلاد، وعاد بعد سنوات إلى مصر وأشرف
على أعمال جيولوجية كانت قائمة في مناطق من البلاد كانت في ذلك الحين أبعد أقسامها عن المدينة
وعلى هذا فقد كانت حياته كلها مغامرة وخطراَ متصلَا، ذهب أغلبها في السفر والسياحة في أقطار الأرض المتباعدة، ومع كل ذلك فقد وجد من وقته متسعاَ ينشر فيه عدة كتب تكلمنا عن بعضها، ويضم الباقي ترجمة كاملة لكتاب (آلف ليلة وليلة) وهي ترجمة فريدة بين الترجمات الأوربية بالنظر لتمسكها المخلص بالنص الأصلي: ذلك التمسك الذي أثار فضيحة ضئيلة بين معاصريه الشديدي التزمت
ومن بين الرحالين الإنجليز المشهورين في الشرق الأوسط (ولفريد سكادن بلنت)(1840 - 1922) وقد بدأ حياته بداية دبلوماسية، ومع ذلك فقد أخذ اهتمامه يطرد وينمو بقضايا الشعوب المظلومة في العالم، وكرس أخر أيامه للمطالبة بحقوقها. وكان اهتمامه منصرفاَ بصورة خاصة إلى الهند وأيرلندة ومصر. وكان من كبار السائحين وزار أقطاراَ عديدة. فقام - بصحبة زوجته - بزيارة البلاد العربية في الشرق الأدنى وفي شمالي أفريقيا. وفي سنة 1878 زار نجداَ حيث استقبله وزوجته أمير حائل استقبالَا حسناَ، وقدم لهما بعض الخيول المنتقاة، وقام بإبلاغهما مخفورين إلى بغداد. وقد اتصل في خلال زياراته لمصر والهند بالزعماء الوطنيين ويعرفه كل من جمال الدين الأفغاني وعرابي باشا معرفة تامة. وقد نشر عدة كتب في تأييد القضية المصرية. وفي سنة 1881 استقر في دار له قرب القاهرة حيث عاش عيشة المصريين: يرتدي الملابس المصرية ويتكلم اللغة العربية وكانت زوجته (الليدي آن بلنت) عالمة باللغة العربية بالإضافة إلى خبرتها بالفروسية والأسفار، تشتمل كتبها المطبوعة على كتاب عن العراق وآخر عن نجد، وترجمة للمعلقات نظمها زوجها بالإنكليزية شعراَ.
وهناك رحالة ثالث هو (جايس دوتي)(1843 - 1926) الذي يذكر بكتابه الخالد عن جزيرة العرب. فقد قام - بعد تحضير لمدة سنة كاملة في دمشق بدراسة متسعة للغة العربية - برحلة استكشافية في قلب بلاد العرب. وعلى عكس ما قام به من سبقه من الرحالين، فإنه كره أن يخفى قوميته ودينه، فساح في كل مكان كإنجليزي مسيحي ولم يقلل هذا الإصرار من جانبه من أخطار رحلاته. وزاد كتابه الذي نشر في إنجلترا بعد عودته في
سنة 1878في إنماء معلوماتنا عن بلاد العرب. ويحتوي سجل أسفاره على ثروة من المعلومات عن جغرافية تلك البلاد وطبيعة أرضها، كان أغلبها غير معروف قبل ذلك. وقد أعيد طبع كتابه قبل حوالي العشرين عاماَ وكتب له (لورنس) مقدمة
ولنعد الآن إلى علماء العربية في الجامعات. فقد أظهرت السنين الأولى من القرن العشرين أن مستوى الدراسات العربية لم يكن بأية حال أقل منه في أعظم أيام القرن التاسع عشر، فقد أنشئت الدوائر العربية في الجامعات الاسكتلندية والجامعات الفرعية. وأنشأت جامعة لندن في الحرب الماضية كلية جديدة مقتصرة على العلوم الشرقية هي (معهد الدراسات الشرقية).
أما العلماء الذين سنتطرق إليهم الآن، فهم من الجدة بحيث يذكرهم الطلاب والزملاء بعطف في إنجلترا والشرق. فقد كان السرتوماس أرنولد الذي توفي في سنة 1930، أول من شغل كرسي الدراسات العربية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية في لندن. وقد تثقف في اكسفورد، وأنفق عدة سنين في الهند أستاذا للفلسفة في الكلية الإسلامية في عليكرة. واشهر مؤلفاته هو (تعاليم الإسلام): وهو وصف لامتداد العقيدة الإسلامية أكسبه في التو منزلة ملحوظة، وترجم إلى اللغتين: التركية والأوربية. وفي كتابه الآخر (الخلافة) تعقب تاريخ هذا النظام، وناقشه من وجهتي النظر الفلسفية والفقهية. ونشر بالإضافة إلى ذلك عدة دراسات قيمة عن الرسم والتصوير الإسلاميين: ذلك الموضوع الذي كرس له عدة سنين من حياته. وذهب في سنة1930 إلى القاهرة فتوفي هناك على الأثر
وهناك مستشرق آخر ذو مكانه هو (لي سترانج) الذي توفي في سنة 1934، ويمكن أن يكون القول الآتي له مفتاحاَ لآثاره:(إذا كان المطلوب جعل تاريخ الإسلام شيقاَ، وإذا كان المقصود في الحقيقة فهمه على الوجه الصحيح، فمن الواجب إعداد الجغرافيا التاريخية للعصور الوسطى إعداداَ دقيقا). وقد كرس (لي سترانج) افضل سني عمره لدراسة الأدب العربي والفارسي الخاص بالجغرافيا. وتعتبر كتبه التالية: (بغداد في عهد الخلافة العباسية) و (فلسطين تحت حكم المسلمين) و (أراضي الخلافة الشرقية) خيرة الكتب في هذه الموضوعات. ونشر أيضا عدداَ من النصوص الجغرافية، وكثيراَ من الدراسات القصيرة. ومنذ سنة 1912 قد عمى تقريباَ. غير أن نقصا خطيرا كهذه في كيانه لم يعقه عن
الاستمرار في عمله
ومات عالم آخر في العربية مشهور في السنة التي توفي فيها (لي سترانج) هو (أ. أبيغان) تلميذ (وليم رايت) وكان أكبر همه منصباَ على الشعر العربي القديم. وقد نشر نقائض جرير والفرزدق على عهدته. والنادرة التالية تعطى فكرة عن دقته العظيمة: فقد روى زميله (ا. ج. براون) العالم المعروف بالفارسية أن بيغان زاره يوماَ، وكان شديد الحزن حتى لقد خيل له أن كارثة حاقت به، ولكن حقيقة ما كان قد وقع هو أن (بيغان) اكتشف خللَا في أحد الأبيات في طبعته للنقائض!
ولا يتسع المجال للكلام عن كثيرين من العلماء في هذا العهد كليال محرر (المفضليات) و (لين - بول) مؤلف عدة من الكتب عن تاريخ الإسلام، وعن المسكوكات، و (امبروز) محرر عدد كبير من النصوص العربية التاريخية المهمة وكثير غيرهم. غير أن هناك عالماَ واحداَ يستحق أكثر من الذكر العارض هو (د. س. مارجليوث) الذي كان أستاذ اللغة العربية في اكسفورد عدة سنين، والذي اعتبر الشخصية الأولى بين علماء العربية من الإنجليز مدة طويلة من الزمن؛ وكان عضواَ في المجمع العلمي العربي في دمشق. بالرغم من أنه نشر عدة دراسات باللغة الإنجليزية ذات قيمة عن التاريخ الإسلامي وعن الدين الإسلامي فأنه سيذكر بالخير لطبعاته العديدة وترجماته لأمهات الأدب العربي، وربما كان خير أولئك طبعته الفائقة لمعجم الأدباء لياقوت. وقد نشر أيضاَ رسائل أبي العلاء، ومحاضرات التنوخي ومختصر ابن مسكوبة
أما أولئك الذين لا يزالون بين ظهرانينا فلن نتكلم عنهم، لأن الكلام سابق لأوانه. وأعمال علماء كنكلسون وجب وستورى وكثيرين غيرهم ممن يخرجون آثاراَ مهمة لن يبت فيها من وجهة النقد إلا الأجيال المقبلة. وفي خلال ذلك يمكن القطع بالقول واثقين أن سيرة الدراسات العربية في إنجلترا - التي سبق أن تكلمنا عن تطورها في خلال العصور السابقة - لا تزال قوية الحيوية. ولعلها تستمر في الازدهار
عبد الوهاب الآمين
مرسلات مع الريح
ارسطوقراطية الوضاعة
للأستاذ إسماعيل مظهر
قال أرسطوقراطية الرومي: تكليف النفس ما ليس من طبعها، دخول على الناس بخدعة ما ينبغي المرء أن يسكن إليها. وإرسال النفس على سجيتها تقرير لواقع الطبع ومسايرة لحقيقة الأشياء. فاختر لنفسك أمراَ: فأما أن تعايش الناس صورة مزورة على الطبيعة، وإما أن تعايشهم صورة حقيقة لما بثت الطبيعة في تضاعيفك من عناصرها. فأذا اخترت الأولى فأنت منافق. وإذا اخترت الثانية فأنت صريح النسب إلى الفضيلة.
قرأت هذه الكلمات. أقرنيها رجل أمي لم يفتح كتاباَ غير كتاب الدنيا؛ ولا عرف صحيفة إلا صحيفة الأيام. رمته الدنيا بالفقر. والفقر، كما يقول الإنجليز، إذا نقر على الباب قفز الحب من النافذة. ورمته مع الفقر بالبغضاء: يحملها له أهله وأبناؤه وذوو قرباه. ومع البغضاء رمته بالحقد. الحقد الذي يأكل صدره على كل من جادت عليه الدنيا بشيء من نعائمها رزأه أحد أقاربه الأغنياء في شيء من ماله القليل، أخذه وأنكره عليه. فراح يستنصر آخر منهم حمت نفسه بمرضين: كراهية البشر، وتكلف العظمة، ومعهما أنتحل الأرسطوقراطية؛ ولكنها أرسطوقراطية الوضاعة. وكان وقوعه على هذا العتل حلقة في سلسلة مصائبه
هو إنسان إذا طرق بابه إنسان امتقع وجهه، وابيضت خرطومته من النكد والهم؛ فجلس إليه يعلو صدره ثم يهبط كأنه كير حداد. وتكلف الأدب تكلفاَ ينم عن سوء أدبه؛ وتكلف الكلام، فتحس وهو يتكلم كأنما صدره مرجل يغلي، والكلمات تهدار ما في ذلك المرجل الثائر. قد يلتفت إليك إذا هو أراد أن يبالغ في إيلامك، وقد ينأى عنك بجانبه إذا هو أراد ملاطفتك. ذلك بأنه إذا التفت إليك فكي يريك الحقد مجسماَ في ملامحه، والكراهية مرسومة في محياة. وإذا نأى عنك فكي يخفى عنك هذه المعاني المرتسمة في وجهه. فكأنه بذلك يمن ويشفق بك. وقد يبدؤك الكلام؛ فإذا كان هو البادئ فطامتك عظمى، ومصيبتك سوادء، ويومك أنكد الأيام، وساعتك أنحس الساعات، وبرهتك القيامة، نصب ميزاتها وبدأ الحساب
هيه. . . كيف عرفت بيتي؟ تكلم. . .
ويحدجك بنظرة، تتمنى لو أن الأرض تغور بك، أو يفتح لك فوهة من فوهات جهنم تلقفك،
قبل أن تستقر معاني تلك النظرة في نفسك. فأن كل معنى من معانيها رمح يستقر في قلبك فينزفه، وفأس تنزل على عنقك فتفصله عن جسدك.
قد يجود عليك حرج الموقف بكلمة، ولكن الغالب أن تغص فلا تتكلم. فإما أن تبقى ساكنا والعرق يتصبب من جبينك، وأما أن تتحفز للقيام فراراَ من سوء ما أنت فيه. فإذا ارتج عليك وثبت في مكانك، انفتحت شفتاه العريضتان عن ابتسامة تترجم لك عن قوله: أكره البشر يا أبن (آدم)، فإليك بغضي) أما إذا ساعدك الحظ وحملتك رجلاك فقمت، فإن يدك معصورة في يده، وذراعك مهتزة كأنها القصبة المنخورة، ليشعرك أنه انتصر وآذى الإنسانية وانتقم منها في ذاتك، وفتك بأبناء (آدم) ومثل بهم في شخصك، ولكنه انتصار أشبه بانتصار الخراب على الفقر، كما يقول سير ولتر سكوت. غير أنه هنا خراب النفس، يستقوى ويستلئم، منهزاَ له فرصاَ من نكد الدنيا وسألته: ثم ماذا يا شيخ محمود؟ قال: لاشيء، إلا أن هذا الإنسان لدنو مكانته في الأولى ورفعته في الثانية، أصيب بمرضين هما ما ذكرت: إنسان نشأ في الحضيض، درج على التراب أول ما درج، ولبس الأسمال أول ما لبس، وعاشر السفهاء والذؤبان أول ما عاشر، ونام عنه القدر، فلف ودار، ثم تسلق حائط المجد، فأصبح شيئاَ ما في دنيا مجهولة، أشبه شيء بالبقعة الخراب في المصور الجغرافي، فحقد على البشر لأنه نشا من أدناهم مكاناَ وأرذلهم موضعا، ثم أراد أن يعمى على سوء منشئه، فتكلف أشياء ليست من طبعه، فطغى على الناس كبراَ والناس - يا أخي - لا يعاملون أمثاله بالحكمة النبوية الكريمة:(التكبر على أهلا الكبر صدقة)
واطرق الشيخ محمود هنيهة، ثم نظر إلي بعينيه الواسعتين وسأل: أليس الذي وضع مبدأ الأرستقراطية هو أرسطوقراطيس الرومي؟ قلت: كلا إنك واهم، وليس من الروم من هذا اسمه، وإنما هو مبدأ اعتنقه بعض مقاديم اللصوص في الأزمان القديمة، وكان منهم قتلة وقطاع طرق وقراصنة، ثم قلدهم فيه لصوص آخرون أشد منهم غباء، وأقل إقداماَ، فانحدر إلينا بعض المقلدين، ولكنهم بيننا كالأحياء البائدة التي حفظت الطبيعة هياكلها في طبقات الأرض، وليس لنا منها إلا الصورة؛ أما الحقيقة فقد انحدرت في جوف الزمان
فأطرق الشيخ محمود إطراقه ثانية يتأمل كلامي، وحبات مسبحته تتساقط، فتحدث ذلك النقر المنتظم الذي يمثل تتابع فكراته وتأملاته، ثم ما لبث أن فاضت عيناه مرسلتين دموعا
تترامى على يديه، كأنها الندى البارد على وريقات الخريف
إسماعيل مظهر
43 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق
يشتهر المصريون بفضيلة الحب البنوي. وقد سبق أن ذكرت الاحترام الظاهر الذي يؤديه الولد إلى والديه. ويظهر المصريون أيضاَ احتراماَ زائداَ للمسنين وبخاصة المشهورين بالتقي والعلم. ويعتبر حب المصرين لوطنهم وعلى الأخص مسكنهم صفة بارزة أخرى في طباعهم. ويخشى المصريون على العموم هجر مسقط رأسهم. وقد سمعت الكثيرين يقررون السفر إلى الخارج بغية كسب عظيم ولكن عزمهم يفتر عند ما يقترب موعد السفر. وقد خخف أخيرا من حدة هذا الشعور ما يعانيه البعض من شدة الظلم. ولا شك أن هذا الشعور نشأ إلى درجة عظيمة من جهل الناس لحالة البلاد الأجنبية وسكانها. وقد سمعت البعض يدلل على حب المصريين العجيب لمسقط رأسهم بأنه يندر أن ترضى امرأة أو فتاة، أو يسمح والدها، بالاقتران بمن لا يعد بالبقاء في مدينتها أو بلدتها. ولكني أظن أن الأحجام عن ترك المواطن في هذه الحالة ينتج من خوف المرأة أن تفتقر إلى حماية أهلها. ويتعلق البدو بصحراواتهم ويحتقرون الحضريين والفلاحين ولكن الكثيرين منهم يميلون إلى الاستقرار على شواطئ النيل الخصبة أيضاَ. ومع أن المصريين من نسل البدو إلى حد كبير فهم لا يشابهونهم في حب الصحراء وأن شابهوهم في حب الوطن. وتزود الرحلة إلى الصحراء من يقوم بها من المصريين بقصص مطنبة في المتاعب والمجازفات والعجائب التي يعرفون بروايتها إلى مواطنيهم ذوي الخبرة القليلة
يعم الكسل جميع طبقات المصريين ما عدا الذين يضطرون إلى كسب حياتهم بالأشغال اليدوية الشاقة. وهذا الكسل نتيجة المناخ وخصوبة الأرض. ويبذل العامل بالآلات أيضاَ بالرغم من شدة طمعه في الربح يومين في عمل يستطيع بسهولة إنجازه في يوم، ويهمل اكثر الأعمال ربحاَ ليصرف وقته في التدخين. غير أن البواب والسائس الذي يجري أمام
جواد سيده والنوتية الذين يستخدمون في جر المراكب صاعدين في النهر وقت سكون الجو واشتداد حرارته يقاسون، مثل الكثير من الفعلة الآخرين، تعبا شديداَ.
يعرف المصريون أيضاَ بصلابة الرأي إلى حد الإفراط. وقد ذكرت في فصل سابق أن المصريين اشتهروا منذ عصر الرومان، بامتناعهم عن دفع الضرائب حتى يضربوا ضرباَ موجعاَ. وبأنهم كثيراَ ما يفتخرون بمقدار الجلدات التي ينالونها قبل أن يتخلوا عن نقودهم. وهم لا يرون غرابة في مثل هذا التصرف. وقد حكي لي مرة فلاحاَ فرض عليه الحاكم ما قيمته خمسة شلنات تقريباَ ففضل أن يقاسى الجلد على أن يدفع هذا المبلغ الزهيد، وقرر أنه لا يملكه. فأمره الحاكم بالانصراف وقبل أن ينصرف لطمه على وجهه فسقطت من فمه قطعة ذهبية بقدر المبلغ المطلوب تماماَ، فكان الضرب مع قسوته عجز عن حمله عن الدفع. وتبدو هذه الحال غريبة في طباع المصريين ولكن يسهل تبريرها بأن المصريين يعلمون تماماَ أنه كلما دفعوا عن طيب خاطر طمع الحاكم في أموالهم. على أن المصريين بوجه آخر يمتازون بشدة العناد وصعوبة المقادة بالرغم من امتثالهم الشديد في طباعهم ومهنهم. ويندر أن يحمل المرء الصانع المصري على أن يصنع شيئاَ حسب الطلب تماماَ. فلا بد أن يفضل رأيه على رأي مستخدمه، ويصعب أبداَ أن ينجز عمله في الميعاد المضروب. ولا يعوز فلاحي مصر، مع خضوعهم الشديد لحكامهم، الشجاعة عند ما ينهضون لخصومة بينهم. وهم يبرعون في الجندية ولا شك أن المصريين مثل شعوب الأقاليم الحارة يفوقون الشعوب الشمالية في الاستسلام للشهوات. على أن هذا الإفراط لا ينسب إلى المناخ فقط، ولكن ينسب على الأخص إلى نظام تعدد الزوجات وسهولة الطلاق كلما اشتهى الرجل زوجه جديدة، وإلى عادة التسري. ويقال أيضاَ كما أعتقد حقا أن المصريين، فيما يختص ذلك، يسبقون الشعوب المجاورة التي تماثلهم في الدين والنظم الدينية، وان بلدهم لا يزال يستحق تسمية (دار الفاسقين) التي أطلقها القرآن على مصر القديمة طبقاَ لرأي خير المفسرين، وقد أشاع المماليك الفاحشة في مصر فاصبح الفسق هنا أكثر انتشاراَ منه في البلدان الشرقية، ولكنه على حد القول قل كثيراَ في السنوات الأخيرة
يستبيح المصريين من الجنسين وفي كل طبقة، البذاءة المفرطة في الحديث، حتى أعف النساء وأوقرهن عدا القليل منهن يستعملن الكلام الغليظ، ولكن دون بذاءة. وكثيراَ ما ينطق
المثقفون عبارات فاحشة لا تلائم غير أحط المواخير. ويذكر ارق النساء في حضرة الرجال أشياء وأحاديث. وقد تعف العاهرات بلادنا عن ذكرها دون أن يدركن مخالفة ذلك للآداب توصف نساء مصر بأنهن، في أهوائهن، أفسد النساء اللاتي ينتمين إلى أمة متحضرة. ويخلع مواطنيهن من الرجال هذه الصفة عليهن بسخاء حتى في أحاديثهم مع الأجانب. ولا شك أن في المصريات كثيرات يشذذن عن ذلك. ويسرني أن أسوق هنا تعليقاَ لصديقي الشيخ محمد عياد الطنطاوي على عبارة في ألف ليلة وليلة، قال: (يعد الكثيرون الزواج مرة ثانية من الأعمال الشائنة ويسود هذا لرأى مدن الريف وقراه. ويمتاز أخوالي بهذا، حتى أن المرأة عندهم إذا توفي زوجها أو طلقها في شبابها تترمل ما بقيت فلا تتزوج مرة أخرى أبداَ. ولكني أخشى انه ينبغي التسليم، نظراَ إلى غالبية المصريات بأنهن جد فاجرات. وقد اشتط أكثرهن كما يقال في استعمال الحرية. ولا يعتبر أغلبهن مصونات إلا إذا أغلقت عليهن الدار. وقل منهن من يخضعن لهذا القصر. ومن المعتقد أن المصريات يملكن شيئاَ من الدهاء في تدبير الحيل التي يعجز الزوج عن تجنبها مهما كانت فطنته وحرسه، وانه قلما تخيب لذلك حيلهم مهما عظم الخطر الظاهر لما يباشرنه. وقد يكون الزوج نفسه أحياناَ وسيلة لإشباع ميول زوجه الإجرامية بدون علمه. وتعرض لنا بعض قصص ألف ليلة وليلة في مكائد النساء صوراَ صادقة عن حوادث لا يندر وقوعها في عاصمة مصر الحديثة. ويرى كثيرون في القاهرة أن جميع النساء تقريباَ على استعداد أن يدبرون الدسائس متى استطعن ذلك بدون خطر، وأن الكثيرات يباشرن ذلك فعلا. ويؤلمني أن يكون الرأي السابق صحيحاَ، وأكاد أكون مقتنعاَ أن الحكم الأخير شديد القسوة، إذ يبدو من التقاليد السائدة المتعلقة بالمرأة أنه لا بد مكذوب. ويصعب على من لا يعرف العادات والطباع الشرقية معرفة كافية أن يدرك مشتقة الاختلاط بالمرأة في هذا البلد. فلا يصعب على المرأة من الطبقة الوسطى أو العليا إدخال عشيقها في مسكنها فحسب، بل يستحيل عليها تقريباَ أن تلقى رجلا ذا حريم على انفراد في منزله الخاص، أو تدخل منزل رجل أعزب دون أن تثير ملاحظات الجيران وتدخلهم المباشر. وإذا لم يكن بد من التسليم بأقدم الكثيرات من المصريات على المكائد مع وجود مثل هذه المخاطر، فقد يكون صحيحاَ أن الصعوبات التي تعترضهن هي العائق الرئيسي لكثير من المكائد. أما عند نساء الطبقة
السفلى، فالمكائد أكثر وقوعاَ وأسهل إنجاز.
(يتبع)
عدلي طاهر نور
البريد الأدبي
حول حديث (حديث عيسى بن هشام)
طالعت في العدد (486) من مجلة (الرسالة) الغراء ما دبجه يراع الدكتور زكي مبارك عن (حديث عيسى بن هشام) لمنشئه المرحوم عمي محمد بك المويلحي. وأني أعقب اليوم على مقال الدكتور بدافع الرغبة الصادقة في لفت نظره إلى بعض ملحوظات رأيت من واجبي أن أدلي بها خدمة للحقيقة وللتاريخ
يقول الأستاذ: إن عيسى بن هشام ينسب بالباطل أو بالحق إلى أبيه إبراهيم، تاركاَ القارئ بين الشك واليقين. والأدباء الذين تذوقوا أدب المويلحي الأب والمويلحي الابن يعرفون أن لكل منهما ميزات خاصة في الكتابة. ثم إن المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وأصحاب المقطم، والمرحوم شوقي بك، وحافظ بك إبراهيم، والشيخ محمد عبده، والبارودي، والشنقيطي، كانوا معاصرين له، فلو أن (عيسى) كان لغير (محمد) لأذاعوا به
والبرهان القاطع بأن عيسى هو من إنشاء محمد لا من إنشاء أبيه ما احتوته الديباجة التالية في العدد 109 من (مصباح الشرق)؛ وقد توقف المرحوم جدي عن متابعة رسالة (مرآة العالم) أو (موسى ابن عصام)، تاركاَ الكلام لعيسى بن هشام قال:(شغل حديث عيسى بن هشام، عن متابعة ما يحكيه موسى بن عصام، فمرت الأشهر والأيام، حتى انقضت مدة العام، وسافر إلى المعرض، وعاد موسى إلى ما انقطع من كلامه، وعدنا إلى ما يدور بينه وبين شيخه وإمامه)
هذا، وقد أشار المرحوم جدي في العدد (107) من (المصباح) عن سفر عمي إلى باريس بالعبارة التالية:
(يسافر محمد المويلحي إلى معرض باريس في يوم الأحد الآتي (10 يونيو سنة 1900)؛ وسينشر (المصباح) ما يوافيه به عيسى بن هشام من غرائب المعرض وعجائبه، بعد الوقوف على إجماله وتفصيله، كما يعلم ذلك من رسالته في صدر الجريدة اليوم:(يعنى حديث عيسى بن هشام)
وجاء في العدد (116) من (المصباح): (هذه الرسالة الأولى من حديث عيسى بن هشام عن زيارة معرض باريس، بعث بها إلينا السيد محمد المويلحي بعد رسالته التي نشرها في
أحد أعدادنا الماضية عن زيارة سمو الجناب العالي الخديوي لجلالة ملكة الإنجليز في بلادها)
كذلك نأخذ على الدكتور مبارك حكمه على محمد بك من أول جلسة جلسها معه عند المرحوم أحمد باشا شفيق، لأن الرجال أسرار، وقيمة الرجل لا تعرف إلا بعد طول المعاشرة.
ولم يعتزل محمد بك الكتابة كلية بعد موت أبيه كما قال الدكتور، وإنما اعتزلها حيناَ من الدهر حين اشتغل مديراَ لإدارة الأوقاف العمومية بعد مديرها أحمد شفيق باشا. ومع كل فقد كان ينتشر في الصحف اليومية المقالات الضافيةفي المناسبات الهامة كما ذكر بنفسه ذلك في المؤيد بتاريخ 9 فبراير سنة 1908 تحت عنوان:(كلمة مفروضة)، وكان الكلام يدور حول منع نصب تمثال (دانتي الإيطالي) في مدينة الإسكندرية. ولا يفوتني ذكر مقالته (صوت من العزلة) التي افتتح بها الأهرام صحيفته في30 ديسمبر سنة 1921 وفيها يذكر محمد بك سبب عزلته ويرحب باتحاد الأحزاب في مصر وما في الاتحاد من عزة للشرق
وفي سنة 1925 طلب منه صاحب جزيرة مشهورة في مصر أن يكتب مقالين في الشهر مختاراَ له لونا معيناَ من السياسة ويأخذ عليهما ثمانين جنيهاَ؛ فأجابه المويلحي الصغير بكلمته المشهورة: (قلم المويلحي لا يباع)
أما سور بابل فلا مبالغة فيه إذا علم الأستاذ مبارك أن المهندس كان يعيش في القرن الثاني قبل المسيح هو أول من جمع في مؤلف واحد وصف عجائب الدنيا السبع بكل ما أوتي من دقة تكون أهلَا لمهندس. ولم يقصد محمد بك بقوله إن السور يتسع للإحاطة بسبع مدائن كمدينة باريس (في سنة 1900 طبعاً) إلا على الطريقة الحسابية التي سبقه بها في مثل هذه العمليات الحسابية المهندس الفرنسي (لينان باشا) حيث قال: إن حجارة الأهرام تكفي لبناء قناطر محمد علي.
إبراهيم المويلحي
اللغة والتعريب
تحركني كلمة الأستاذ زكريا إبراهيم إلى الرد لأنها تتناول مسألتين جوهرتين: أولاهما
مسألة الخطأ والصواب بمناسبة (عثرت به) و (عثرت عليه) وثانيتهما مسألة تعريب الأسماء الأعجمية.
فأما عن (عثرت به) فقد قلت إن المعنى الذي أريد التعبير عنه هو العثور بالشيء أي ملاقاته اتفاقاَ، ولم أرد (العثور عليه) أي الاطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبدة لا أدعيها.
والذي يدهشني هو تفضل هؤلاء العلماء بلفت نظري إلى مختار الصحاح ودوائر المعارف وتراكيب اللغة الإنجليزية وهذه كلها مراجع ما كنت أحلم بوجودها.
وآفة هذه المهازل هي قول بيكون: (العلم الصغير شيء خطر) وهذا طبعاَ لا علاقة له بالعلماء الكبار أمثال الكرملي وزكريا إبراهيم؛ وهما بلا ريب يعلمان أن لغات العالم كلها مجازاة ميتة وأن تلك المجازاة رغم موتها تحتفظ دائماَ بشيء من معناها الحقيقي.
فأنا عندما أقول (عثرت بالشيء) مفسراَ بقولي (وقعت عليه) يكون معنى ذلك أنني اطلعت عليه ولكن مصادقة كما يعثر حافر الجواد بأحد الكنوز. وبذلك أعبر عن المعنى الذي في قلبي تعبيراَ لا تحققه (علي) بما تفيده من إلى غاية وسعي لبلوغها.
ثم إن مسألة الصحة والخطأ في اللغات أصبحت مسألة تافهة لا يحرص عليها في غير مجال التعليم المدرسي. وأما العلم فقد تقدم وأصبحت المناهج تاريخية فترى العلماء اليوم لا يقررون الخطأ والصواب في اللغات وإنما يستقرون الاستعمالات عند كبار الكتاب ويفسرون ما يطرأ على اللغة من تطور. ومن الغريب أن نظل نحن متردين في طرق التفكير التي تخلص منها العالم المتحضر منذ أكثر من قرن. فاللغة العامية ذاتها ليست مجموعة أخطاء، وأنما هي تطور عادي مألوف في كل اللغات. واللغة الفرنسية والإيطالية كذلك ليستا أخطاء اللغة اللاتينية.
وإذن فكلام الكرملي وكلام زكريا إبراهيم حذلقة تافهة ومماحكات لا علاقة لها بمناهج البحث في اللغات التي لم تعد تقريرية في شيء.
وأما عنصر الثبات في اللغة وهو ما يطالب به الأستاذ زكريا حتى لا يصير الأمر فوضى، فذلك مالا أستطيع أنا أن أدخله في اللغة بل ولا المجمع اللغوي نفسه. عنصر الثبات هو استعمال كبار الكتاب لمفردات اللغة وتراكيبها، ثم قراءة مؤلفات كبار الكتاب في المدارس
والجامعات لتشيع تلك الاستعمالات. وكل محاولة في غير هذه السبيل لن تجدي شيئاَ.
اللغة كائن حي لا يقنن له وأكبر دليل على صحة ما أقول هو أن المجمع اللغوي لم يستطيع شيئاَ في هذا الباب ولن يستطيع. وأنا أشكر الأستاذ زكريا إبراهيم إذ نبهني ونبه زملائي أساتذة الجامعة إلى وجوب ترجمة أسماء الأعلام كما ينطق بها أهلها. فهذا لا ريب مبدأ سليم ولكن على شرط أن نعرف كيف كان ينطق بها أولئك الأهل. ونحن لسوء الحظ لا نعرف ذلك دائماَ. ولقد ثار الأستاذ زكريا على أساتذة الجامعة وثار الأب الكرملي لأننا نعرف أحياناَ عن الإنجليزية والفرنسية مع أنني أستطيع أن أؤكد لهذين العالمين أننا نعرف مبادئ اللغات الأندو أوربية وبخاصة اللاتينية واليونانية، ولكننا مع ذلك نؤثر أن نترجم عن اللغات الحديثة لأننا لسنا على ثقة من نطق هاتين اللغتين، وهما لغتان ميتتان، والعلماء مختلفون في نطقهما الآن أشد الاختلاف. وأنا وإن كنت لا أستطيع أن أدخل هنا في التفاصيل إلا أنني أضرب لذلك مثلَا باسم الخطيب الروماني الشهير فهذا الاسم ينطقه اليوم علماء الإنسانيات الإيطاليون (شيشرو) كأنه لفظ من ألفاظ اللغة الإيطالية الحديثة. والفرنسيون كذلك ينطقونه (شيشرو) والإنجليز (كيكرو) فأيها أصح؟
نعم لقد ماتت في السنين الأخيرة دعوة كان من أكبر زعمائهم العالم الفرنسي إلى محاولة النطق نطقاَ تاريخياَ أي نطقاَ يقارب النطق القديم يستنتجونه من بعض الكتابات الصوتية القديمة ومن العناصر الموسيقية في الشعر ومن نتائج علم الأصوات التاريخي وتطور نطق الحروف المختلفة كما يستعينون بآراء العالم إرزم ومحاولاته في هذه السبيل، أقول إن ذلك كله قد كان، ولكن هذه المحاولات لم تنجح. ولا يزال علماء كل بلد في أوربا ينطقون اللاتينية واليونانية كأنهما من لغاتهم. وإذن فنحن حتى في هاتين اللغتين مضطرون إلى أن نتخير نطقاَ نأخذه عن علماء أحد هذه البلاد. وذلك إلى أن يستقر النطق أسس ثابتة مقبولة من الجميع
ويزيد الأمر تعقيداَ أن مسألة تعريب الأسماء لا يمكن أن يكون وفقاَ لقرارا ت يصدرها المجمع اللغوي أو الأستاذان الكرملي وزكريا إبراهيم، وإنما الأمر أمر استعمال: استعمال كبار الكتاب الذين لهم من الشهرة ما يجعل تعريبهم يذيع بين الناس
خذ لذلك مثلَا ما استقر عليه العرف في فرنسا منذ القرن السابع عشر تجد أن أسماء
الأعلام الشهيرة التي تتداولها الألسن قد أعطيت صيغة فرنسية، ولذلك يقولون فرجيل وهومير وسوفوكل واوربيد وإشهل. وأما الأسماء التي لا ترد إلا على ألسنة الخواص من العلماء فقد تركت لها صيغتها اللاتينية واليونانية، ولذلك يقولون: كورينلوس نبوس وإبيكوس وبيوس ومورسكوس ومن إليهم
وإذن فالأمر أعقد مما ظن الأستاذ زكريا إبراهيم. وأساتذة الجامعة يؤلمهم أن يبلبلوا أذهان القراء. ولكن ما الحيلة والمسائل معقدة؟ أليس من الأجدى علينا وعليكم أن تتركونا نتحسس السبل ونجاهد حتى نصل إلى تعريب سهل قريب مستساغ نرجو معه أن تنتشر الألفاظ التي نفضلها فتنحل المشاكل ويرتفع اللبس؟ ثم أليس من الخير أن نعرب عن إحدى اللغات المنتشرة في بلادنا بدلاً من التعريب عن لغات قديمة لا يعدو من يعرفها من مواطنينا الذين نكتب لهم عدد الأصابع؟
محمد مندور
سبب مجهول من أسباب اختلاف القراءات
المعروف أن أقوى سبب لاختلاف القراءات يرجع إلى اختلاف اللهجات العربية، فجاء الأذن بقراءة القرآن على الفصيح من تلك اللهجات، ولم تتعين قراءته باللغة التي نزل بها وهي لغة قريش، تيسراَ على غيرها من القبائل العربية
ولكن هناك سبباَ آخر لم يذكروه في أسباب اختلاف القراءات، مع أن من هذه القراءات ما يظهر غاية الظهور أنه راجع إليه، ولا يظهر أنه راجع إلى اختلاف اللهجات، وذلك نحو قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ففي بعض القراءات (فتثبتوا) بدل (فتبينوا) ولاشك أن مثل هذا في القراءات وهو كثير لا يظهر إرجاعه إلى اختلاف اللهجات، وأنما يظهر إرجاعه إلى ما كانت عليه الكتابة العربية قبل اختراع النقط والشكل فيها، لأن مثل هذا يقف القارئ فيه متحيراَ، فلا بد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته، وقد يكون بعيداَ عنه فيتعذر رجوعه إليه، فقضت رأفة الله أن يقرأ القرآن بما يحتمله من ذلك تيسراَ على المسلمين في عصر الوحي، وثقة بملكة العربي في ذلك الوقت. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يعين أمثال تلك المواضع، أو كانت ترد إليه فيقر ما
يراه منها. ومما يظهر حمله على ذلك أيضاَ قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه) فقد قرأ الحسن وحماد الرواية (وعدها أباه) بالباء، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم، فإذا كنت أصبت في حملها على ذلك السبب فهو من فضل الله، وقد يكون الصواب في غير ما رأيت من ذلك، والعصمة لله وحده
عبد المتعال الصعيدي
(الرسالة): أشرنا إلى هذا الرأي بإيجاز في كتابنا (تاريخ
الأدب العربي)
الشاعر المظلوم
الأستاذ الدكتور زكي مبارك
عددت على شاعرنا (إسماعيل صبري باشا) أن اشترك في (عام الكف) مع أنه مدح الشيخ أحمد الزين!
كذلك جاء مقالك الأخير بالرسالة الذي تحلل به المويلحي في فقرة جعلت عنوانها (الأديب المضطهد) فأوحيت إلي بهذا العنوان
ومدح الشاعر صبري باشا للشيخ أحمد الزين له قصة رواها على ملأ من كرام العلماء والأدباء إمامٌ من أئمة الأدب والعلم والفضل هو شيخناَ مصطفى عبد الرازق باشا يجب إيرادها إنصافاَ للشاعر الغائب:
كان ذلك منذ عامين، وبيت عبد الرازق بعابدين على عهدك به في ليلة من ليا لي رمضان؛ ولم يكن الشيخ احمد الزين وطائفة من أصدقائه غائبين عن هذه الجلسة، وجرى ذكر الشعر والشعراء وصلتهم بالنحو واللغة فقال الدكتور هيكل باشا: لعل الشاعر إسماعيل صبري باشا لم يكن واسع المحصول اللغوي سعة تحميه من التورط أحياناَ في بعض الأخطاء. فالتقت الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا يدفع غيبة صديقه صبري باشا فقال له هيكل باشا: لقد أسمعني بعضهم شعراَ له جاء فيه كلمة (خلاق) بمعنى خلق وهي ليست كذلك فيما يقول الشيوخ!
فقال عبد الرازق باشا - والشيخ احمد الزين حاضر - إنني أنكرت ذلك أيضا، فلما لقيت صبري باشا لم أكتمها عنه فكان جوابه: إن الشيخ الزين رجل مثابر علي الود، فلما هم بطبع ديوانه سألني أبياتاَ فلم تسعفني القريحة. ولما تكرر منه الطلب لم يسعني إلا أن أقول له - وهو شاعر أيضا - اصنع أبياتا لنفسك على لساني. فلما أهدي إلي ديوانه قرأتها كما قرأتموها، وصبرت على ما لم تصبروا عليه
وأقول: إنك يا دكتور - وأنت ذواقة - حين تقرأ الأبيات لا ريب تنكر نسبتها إلى سائر شعر صبري باشا، أو تتردد طويلَا جداَ على الأقل. وهاهي ذي ليشترك معك ومعي قراء الرسالة في الحكم:
إذا كنت يا زين زين الأدب
…
فأن كتابك زين الكتب
قلائد طوقت جيد البيا
…
ن بهن وحليت جيد العرب
خلائق تزري بنفع الرياض
…
إذا ضحكت من بكاء السحب
وما المرء إلا (خلاق) كريم
…
وليس بما قد حوى من نشب
(المجمع اللغوي)
علي فوده