الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 489
- بتاريخ: 16 - 11 - 1942
الجامعة العالمية
للأستاذ عباس محمود العقاد
تستعد الأمم المقاتلة للحرب في المدرسة كما تستعد لها في مصانع الذخيرة والسلاح، فليس من النافع منع التسليح أو قصره على مقدار مرسوم إذا لم يكن مقترناً بمنع الأسلحة الفكرية والعدد الخلقية التي تتحفز أبداً للحرب ولا تستريح طويلا إلى عهد السلام
هكذا يقول الفيلسوف الرياضي الكبير (برتراند رسل) في مجلة (الفورتنتلي) من مقال عن الجامعة العالمية أو عن التعليم العالمي الذي يمحو العصبية ويهيئ العقول للسلم والمعاونة بين الأقوام والأجناس والأوطان
وبرتراند رسل كما يعرفه قراؤه رجل من أقدم دعاة السلم بين كبار الحكماء والعلماء، وكانت دعوته إلى السلم في إبان الحرب الماضية سبباً لحبسه وتغريمه وانقطاعه عن التعليم
فهو الآن يتأهب لدعوة جديدة من طريق جديد، وتلك هي طريق التربية العلمية التي ينبغي أن تعم جميع الطلاب في جميع الأوطان، وأن يكون لها غرضان مقترنان ولا تكتفي بغرض واحد ينحصر في العلم والمعرفة (الأكاديمية) كما يسميها. فإنما الغرض الأكبر أن يكون التعليم على نهج يؤدي إلى تعميم السلم وحسم بواعث القتال، خلافاً للنهج الذي سار عليه حتى الآن في معظم البلدان
قال: (من الواجب أن تكون للجامعة المنشودة وثيقة تشتمل على حقوق مرعية تقضي فيما يتعلق بالأساتذة والطلاب على السواء أن تفتح أبوابها لجميع الأجناس وجميع الأديان وجميع الآراء السياسية؛ ما عدا تلك التي ترفض المعاونة العالمية، إذ هي لن تفلح في دعوتها العالمية إن أخفقت في تحقيق هذه الشريطة، ولكل رجل أو امرأة على استعداد علمي أن يدخلها فلا يحول بينه وبين دخولها لونه الأصفر أو لونه الأسمر أو لونه الأسود، ولا إنه من بني إسرائيل أو من البوذيين أو المسلمين أو الهندوكيين، بل لا يجوز فوق هذا أن يحول بينه وبين دخولها إنه لا يؤمن ببعض العقائد والمقررات كائناً ما كان)
وعنده أن ما جرى عليه العرف حتى اليوم يناقض هذه المساواة العالمية حتى في تدوين تواريخ العلوم. فالقاعدة التي تعرف عند الإنجليز باسم قاعدة بويل تسمى قاعدة مارييت بين
الفرنسيين، ويذكر الكتاب الإنجليز أحياناً أن بريستلي هو كاشف الأوكسجين، وفي ذلك غبن للعالم لافوازييه. ويميل الرياضيون الألمان إلى اعتبار جاوس مؤسساً للهندسة (غير الإقليدسية)، وقد أسسها في الواقع لاباتشفسكي الروسي. وطالما اختلفت الكتب الإنجليزية والأمريكية في الكلام على اختراع زورق البخار، إلى اختلافات أخرى من هذا القبيل أشهرها الاختلاف بين نيوتن وليبنتز على اختراع حساب التفاضل والتكامل مما عاق جورج الأول عن اصطحاب ليبنتز عند قدومه إلى البلاد الإنجليزية وما جر إليه ذلك من تعطيل الرياضيات في هذه البلاد قرناً من الزمان أو يزيد
ويقول الفيلسوف: (إن الأمم الكبرى جميعاً على تفاوت في الدرجة تزيف التاريخ وتتعرض له بالتمويه والتعديل. فحركة العصيان الهندية يتعلمها الأطفال الإنجليز من وجهة نظر واحدة، والواجب في الجامعة العالمية أن تعطي وجهة النظر الهندية من الرجاحة ما تعطاه وجهة النظر الإنجليزية. وكذلك يجب عند شرح تاريخ الحرب الإسبانية الأمريكية أن تلاحظ الحيدة المستقلة بين أسبانيا والولايات المتحدة. وهذه وما شابهها نقائص لا تسلم منها أمة واحدة في العالم بأسره ولكنها أسوأ ما تكون في ألمانيا وإيطاليا واليابان)
إلى أن يقول: (إن هيجل في فلسفته التاريخية يرى أن (الروح) الذي يسيطر على عظائم الحوادث يتجسم تارة في هذه الأمة وتارة في تلك، وأن كبار الرجال الذين يختارهم ذلك الروح المسيطر على الحوادث لبلوغ غايته هم أناس مرفوعون فوق قوانين الأخلاق والآداب على مثال الإسكندر وقيصر. وقد اختار الروح أمة الجرمان لتحقيق ما يريد في عصرنا هذا)
وبعد أن شرح الفيلسوف الرياضي الكبير نظام الإدارة ونظام التعليم وتحضير الكتب للدراسة في الجامعة العالمية قال: (إن الدعوات الوطنية إنما نجحت في الأغلب الأعم لإحساسهم أنها تجري مع المصالح الوطنية في مجرى واحد. فإذا أريد للنظرة العالمية الجديدة أن تفلح وتؤتي ثمرها فمن الضروري أن تتمثل للناس موافقة للمصالح الوطنية على ذلك المنوال)
وهنا تتلاقى آراء كثيرة قد تتشعب وتتدابر في غير هذا الملتقى الواضح المأمون من جميع نواحيه
فليس المقصود بالتعليم العالمي أن يجور على المصالح الوطنية، وإنما المقصود به أن يبطل النزعات التي تجور على مصلحة العالم بأسره أو مصالح الأمم الأخرى في تعاونها على السلم والحضارة.
فالوطنية والعالمية لا تتناقضان، لأن خدمة العالم بأسره لن تضير وطناً من الأوطان، ولاسيما الأوطان التي لا تملك القوة ولا تتذرع بها أن ملكتها إلى الطغيان على الآخرين.
وقد رأينا بعض المفكرين الداعين إلى التآلف بين الشعوب على أساس العالمية أو أساس الحكومات المشتركة ينزعون إلى التشكيك في عناصر الوطنية لأنها شيء يصعب التعريف به وفهم معناه، فإذا قيل مثلاً إنها قائمة على الوحدة الجغرافية فالفاصل بين الأرض الفرنسية والأرض الجرمانية فاصل اتفاقي من معظم نواحيه، وإذا قيل إنها الوحدة الجنسية فليس في الأرض أمة تخلو من مزيج الأجناس، وإذا قيل إنها الوحدة اللغوية فليس باللازم أن تقترن المشاركة في الوطن الواحد والمشاركة في اللغة الواحدة، وإذا قيل إنها وحدة الدين فقد تجتمع في الأرض الواحدة عدة أديان وعدة مذاهب من دين واحد، وإذا قيل إنها وحدة الحكومة فقد يخضع الناس لحكومة واحدة مكرهين مستعبدين، وإذا قيل إنها التراث التاريخي فهذا ولاشك من أقوى عناصر القومية ولكنه لا يخلقها ولا يمنع التفاهم بين أصحاب التراث المختلف على حكم واحد أو صلة حكومية متكافلة.
إلى آخر ما يقول أولئك المفكرون الداعون إلى التآلف العالمي وهم مخطئون فيما نراه
وقد ناقشنا هذا الرأي في موقف كموقفنا الحاضر منذ سنين فقلنا: (إن كلاماً كهذا يمكن أن يساق لإضعاف المزايا الإنسانية وتقريب الفوارق بين الإنسان والحيوان، ثم هو لا يفضي إلى نتيجة ولا يدل على معنى مستقيم. . . قد تقول مثلاً ما هي معالم الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان؟ أهي اللغة؟ كلا! فإن أناساً كثيرين يولدون بكما لا ينطقون ولا يعقلون. أهي أعضاء الأجسام؟ كلا! فإنه ما من عضو في إنسان إلا يقابله عضو مثله أو يقوم مقامه في حيوان: أهي انتصاب القامة؟ كلا! فإن بعض الأحياء تمشي على قدمين وبعض الناس يزحفون على الأربع. أهي عناصر الدم؟ كلا! فإن التحليل قد يكشف فرقاً بين دم الرجل ودم المرأة وبين دم الشيخ ودم الصبي وكلهم من بني الإنسان؛ وزد على هذا أن الدم ليس بمزية الإنسانية العليا، فإن أناساً في ذروة العظمة قد يرجح عليهم في نقاوة
الدم وصحة تركيبه أناس في حضيض الذل والجهالة. أهي قابلية التناسل؟ كلا! فإن الخيل والحمير تتلاقح وهي من نوعين، والبغال لا تتناسل وهي من نوع واحد، وقد يعيش الرجل والمرأة معاً عيشة الأزواج ولا ينسلان)
فصعوبة التعريف والتفريق لا تنفي وجود الأشياء التي نريد أن نعرفها ونفرق بينها، والوطنية شيء موجود لاشك في وجوده وإن تعددت عناصره حتى تعذر الجمع بينها في وطن واحد
ومن الخطأ أن نناقض بين العالمية لأنهما في الواقع غير متناقضين، وإذا بنيت الدعوة إلى التعاون بين شعوب العالم على أن هذا التعاون يغض من الغيرة الوطنية فمصير تلك الدعوة معروف من الآن، وهو الإخفاق السريع
وإنما الصواب ما قال الفيلسوف الرياضي الكبير حيث رأى أن ضمان النجاح للدعوة العالمية مكفول بالتوفيق بينها وبين مصالح كل أمة تلبي تلك الدعوة وتشترك في المعونة
وهذا الذي نرجو أن يكون وأن يتوافى إليه شعور الأقوياء والضعفاء معاً بعد الحرب الحاضرة
ويبدو لنا أن تعدد الأقوياء سيلجئهم قسراً إلى التعاون بينهم على رعاية حقوق الضعفاء فينفتح من ثم باب التعاون بين هؤلاء وهؤلاء
فليس في الوسع أن يطغي قوي واحد على أنداده الأقوياء، وليس في الوسع أن يتفقوا على قسط متساو من المصلحة المشتركة يمنع التنافس ويحسم النزاع. فلا نغلو بالأمل إذا قلنا إن الطريق الأيسر لهم والأجدى عليهم هو الاتفاق على التعاون بينهم وبين الضعفاء، والتفاهم على معاملة وسطى فيها رعاية للحق ورعاية للمصلحة الجامعة ورعاية لمصلحة الأمم أمة أمة على حدة. فقلما يرجى فلاح لمطلب من مطالب بني الإنسان يبنى على الحق وتنسى فيه المصلحة، أو يبنى على المصلحة وينسى فيه الحق، وآية الرجاء في مصير الدعوة العالمية أن الحاسة الخلقية وأن الوجهة النفعية فيها تتقاربان وتتساندان
عباس محمود العقاد
محي الدين النووي
والسلطان بيبرس
للدكتور عبد الوهاب عزام
كان شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى النووي من أعلام العلماء في القرن السابع الهجري، ذا مكانة عالية بين علماء الفقه والحديث. وكان له في التقوى والورع والزهد سيرة محمودة، وفي نصرة الحق وتأييده مواقف مشهودة. ولا بأس أن نثبت هنا بعض سجعات ابن السبكي:(كان يحيى رحمه الله سيداً وحصورا، وليثا على نفسه هصورا، وزاهداً لم يبال بخراب الدنيا إذا صير ربع دينه معمورا. له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة. هذا مع التفنن في أصناف العلوم: متون أحاديث، وأسماء رجال، ولغة وصرفا، إلى غير ذلك).
ولست أبغي هنا ترجمة النواوي، ولكن أذكر واقعة كانت بينه وبين الظاهر بيبرس، وهي واحدة لها أمثال في سيرة الشيخ، ولها نظائر كثيرة في تاريخ الإسلام:
كان بيبرس ملكاً مجاهداً أبلى في قتال التتار والصليبيين بلاء عظيما، وقد انتظمت شجاعته وعزيمته مع شجاعة أسلافه وأخلافه من الأيوبيين والمماليك، فكانت سراً من الجهاد والجلاد، وفي البلاد المصرية مصائب الغزاة، وخيب دونها آمال الصليبيين مائتي سنة. وكذلك كانت همته وإقدامه هو وجنوده في مصر والشام، كالطود ارتد عنه سيل التتار بعد أن جرف البلاد الإسلامية من سمرقند وخوارزم إلى حلب ودمشق؛ فعلموا جنود هولاكو في (موقعة عين جالوت) وما بعدها أن مصر أبعد من أن يطمعوا فيها، وأن الشام أعز من أن يسيطروا عليه
وكان بيبرس في جهاده المستمر، وحربه المتمادية، يتوسل إلى المال يستعين به على جهاده، وكان الشيخ النووي يكتب إليه ناصحاً كلما رأى في عمل السلطان شدة، أو جوراً، أو مخالفة للشرع، لا يني في هذا ولا يداهن، ولا تأخذه رغبة ولا رهبة
كتب مرة إلى السلطان هو وبعض العلماء، يطلبون رفع بعض المكوس، ويوصون بالعدل والشفقة، فكان في الجواب إنكار وتوبيخ وتهديد، فكتب الشيخ النووي يجادل فيما تضمنه جواب السلطان ويقول:
(وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة العلماء فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين في الناصحين نصيحة للسلطان ولهم ولا علم لهم به؟ وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟ وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري. وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى. (إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار). (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد). وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيثما كنا وألا نخاف في الله لومة لائم)
ولما ذهب السلطان إلى الشام لمحاربة التتار أراد أن يأخذ مالاً من الرعية يستظهر به على العدو واستفتى العلماء فأفتوه. ثم سأل عن الشيخ النووي أن يشارك العلماء في الفتوى. فلما حضر الشيخ قال السلطان: اكتب خطك مع الفقهاء. فامتنع. قال السلطان: لماذا لا تكتب؟ قال الشيخ: (أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال. ثم من الله عليك وجعلك ملكا. وسمعت أن عندك ألف مملوك كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حق من الحلي. فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت ممالكك بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي أفتيتك بأخذ المال من الرعية)
قال الظاهر للشيخ: أخرج من بلدي (يعني دمشق)
قال الشيخ: السمع والطاعة. وخرج إلى نوى
فأنكر الفقهاء أن يُخرج مثل النووي من المدينة، وسألوا السلطان أن يرجعه. فأمر السلطان بإرجاعه. فأبى الشيخ وقال: لا أدخلها والظاهر بها
لست ادري أكان السلطان محقا في فرض ما فرض من المال أم لا. ولست لذلك أعرف أكان الشيخ محقا في مجابهة السلطان بما جابهه به، ولكن لا ريب عندي أن السلطان أحسن حين التمس فتوى العلماء قبل أن يجمع المال، وأن الشيخ أدى واجبه حين صارح السلطان بما يعتقد، ولم يأخذه في الحق خوف ولا طمع، وأن محي الدين النووي قد فقه أحسن الفقه ما على العلماء من النصيحة لأولى الأمر، والجهر بالحق في غير مداهنة ولا خوف. رحم الله النووي؛ لقد كان من علماء المسلمين. ولله تاريخ المسلمين كم فيه من أمثال محي
الدين!
عبد الوهاب عزام
الهدف الأدبي
للدكتور زكي مبارك
(في الاحتفال الذي أقيم بدار الجمعية الجغرافية لافتتاح الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية ألقيت ثلاث خطب في تحديد أهداف الموسم: خطبة الدكتور منصور بك فهمي في الهدف الروحي، وخطبة الدكتور حسن إبراهيم في الهدف الاجتماعي، وخطبة الدكتور زكي مبارك في الهدف الأدبي. وحال مرض الدكتور عبد الوهاب عزام دون خطبته في الهدف العلمي)
هذه فاتحة الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية، والجامعة أول مظهر من إرادة الأمة في العصر الحديث، فقد أنشأتها الأمة قبل أن تفكر فيها الحكومة، والأمم لا تسبق الحكومات إلا حين تكتمل فيها الحيوية الروحية والعقلية. وقد كان من أثر ذلك أن صارت الجامعة منذ إنشائها إلى اليوم مثابة لحرية الفكر والرأي. ولعلكم تذكرون إنها لم تقبل الانضمام إلى الحكومة إلا بعد إعلان الاستقلال، وبعد أن صارت الفكرة القومية هي التي توجه مذاهب التعليم والتثقيف إلى خير البلاد
كان الموسم الثقافي لخريجي الجامعة حلماً يعتاد خاطري من حين إلى حين، وكان الرأي عندي أن ينهض به الخريجون المستقلون، وأعني بهم من لا يتصلون بالجامعة عن طريق التدريس، لأن الجامعة أعدت هؤلاء لتثقيف الطلبة، وأعفتهم من تثقيف الجماهير، ولأن لبث الثقافة الجامعية خارج أروقة الكليات أساليب يجيدها الجامعيون المستقلون بأقوى مما يجيدها الجامعيون الرسميون. . . وهل ننسى أن للتدريس قيوداً تحصر المدرس في آفاق لا تتسع في كل وقت لدرس ما يتصل بالمجتمع من معضلات لا يلتفت إليها الطلبة إلا بعد أن تكتوي أيديهم بنيران المجتمع؟
إن الجامعي المدرس يكون في أحسن أحواله يوم يصبح على رأي الفراء حين قال: سأموت وفي نفسي شيء من حتى!
ومعنى ذلك أن أفضل حياة للجامعي المدرس هي الحياة التي تفرض عليه أن يكون إماماً في تشريح الجزئيات، عساه يصل بتلاميذه إلى تصور الكليات، في تواضع محبوب ينسيه وجوده الذاتي، ويحبب إليه الرضا بحظ الجندي المجهول في تثقيف العقول
الجامعي المدرس لا يعاب عليه أن يجهل المجتمع الذي يعيش فيه، ما دام يعرف الدقائق من العلم الذي انقطع إليه. وقد رأيت من أساتذة السوربون من يجهلون زمانهم بعض الجهل، أو كل الجهل، لأنهم تخصصوا في دراسات سبقت زمانهم بأجيال.
أما الجامعي المفكر فله أسلوب غير هذا الأسلوب. الجامعي المفكر يتخذ من الدراسات الجامعية موازين يزن بها ما في المجتمع من أحلام وأوهام، وحقائق وأباطيل. الجامعي المفكر يرى جميع العلوم وسائل لا غايات، فالغاية الصحيحة عند الجامعي المفكر هي أن ينقل المجتمع من حال إلى أحوال في مذاهب الفكر والمعاش. الغاية عنده هي الإبداع لا التحصيل، الغاية عنده أن تكون آراؤه موضوعات الدرس في الجامعات، لا أن يكون شارحاً لآراء الناس. ومن اجل هذا اختلف المحصول الذي يصدر عن الجامعي المفكر والمحصول الذي يصدر عن الجامعي المدرس، فالأول يبدع والثاني يشرح، وهما في منزلة سواء في نظر العدل، لأن الغرض الأصيل هو خدمة الحق بأي أسلوب وفي أي موضوع.
ومن آفات الحياة في مصر أن يتوهم أهلها أن الفكرة الجامعية لا تتمثل إلا في الجامعي المدرس، وكان ذلك لأن مصر طال عهدها باحترام الوظيفة الرسمية، فلم تعد تدرك أي قيمة للوظيفة الروحية
وقد انساق الجامعيون هذا المساق، فلم نسمع أن فيهم من يحمل راية الجامعة، وهو غير مدرس بالجامعة، فكانت النتيجة أن يحبس صوت الجامعة في حدائق الأورمان، وأن تشعر الحواضر والأقاليم بأن الجامعة صورة من صنع الخيال
والحق أن الجامعة أرادت لأبنائها ما لم يريدوا لأنفسهم، هي أرادت أن يكونوا مفكرين، وهم أرادوا أن يكونوا موظفين، وبين الإرادتين فرق بعيد
ومن أجل هذه الأسباب ضاعت محاولاتي في خلق الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية، وهو موسم دعوت إليه منذ أعوام ولم أجد من يستجيب، إلى أن لاحت فرصة لا يجود بها الزمان، إلا في أندر الأحيان
فما تلك الفرصة الذهبية؟
رأيت جماعة من خريجي الجامعة يتشكون على صفحات الجرائد من قلة الرواتب،
فأسرعت إلى نهيهم عن هذا التشكي، وأفهمتهم أن للجامعة رسالة غير رسالة القوت، وأن مبدأنا أن نجوع لتشبع الأمة، وأن نتعب لتستريح. . . وهل تعرفنا الجامعة إن صرنا طلاب أموال، لا عشاق آمال؟
وسمع خريجو الجامعة صوتاً لم يسمعوه من قبل، فدعوني لأشرح لهم رأيي، فقلت: إني لا أثق إلا بمن يحلفون على المصحف، فقالوا: إن اليمين لا تطلب إلا من المرتابين، وسترى كيف نصدق بدون يمين
كان ذلك في يوم جمعة من شهر رمضان، فهل تكون الأقدار أرادت أن توقظ المعاني الروحية في أنفس الجامعيين، بلمحة كريمة من لمحات شهر الصيام عن الآثام؟
أؤكد لكم أني لم أكن أنتظر أن يتقبل أولئك الشبان هذا الصوت بمثل ذلك القبول، فقد ابتلتهم الأيام بعصر منحرف عن المعاني. وهل فينا من ينكر أن الموظف الذي يزيد مرتبه عن زميله خمسة قروش يعتقد إنه أرقى من ذلك الزميل؟
البحث عن الدرجات المالية ليس من عيوب الفكرة الجامعية، ولكنه من عيوب الحياة الديوانية. وسيذكر أبناء الجامعة واجبهم، سيذكرون أن إنشاء الجامعة كان في الأصل غضبة على سياسة التعليم للتوظيف، وصاحب الوظيف وصيف، كما يقول أهل تونس الخضراء
ما الذي يوجب أن يبحث الشاب المتخرج في كلية التجارة أو كلية الزراعة عن وظيفة كتابية؟
إن هذه الظاهرة تشهد بأن بعض الكليات تعجز من رياضة أبنائها على الإيمان بما تخصصوا فيه، إيماناً يجعلهم أقطاباً فيما تخصصوا فيه، ويفرض عليهم أن يعينوا الدولة على تحقيق ما تريد من كرائم الأغراض
إني أتمنى أن يقترب اليوم الذي تفرض فيه الدولة على خريجي الجامعة ضرائب فكرية، اليوم الذي يقال فيه إن خريجي الجامعة يملكون ثروات لا يملكها أصحاب الملايين، وإن من الواجب أن تفرض عليهم الضرائب، لتستطيع الدولة أن تقيم أود المنكوبين بالزهد في كرائم المعاني
يجب أن يكون من أغراض الجامعيين أن يطمئنوا الدولة على أن أملها فيهم لم يضع ولن
يضيع
إن هذا اليوم قريب قريب، وسنخلقه خلقاً إن تأبى وامتنع، وسيعلم الذين آمنوا بجهادنا فمنحونا ألقاب الجامعة أن إيمانهم كان الإيمان، وأنهم سلموا راية الجامعة إلى جنود هم الرجال
لقد استضعفنا حيناً أو أحايين، والله قد يمن على الذين استضعفوا فيجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين
ولكن الله على كرمه لا يجود إلا بميزان، ليعلم عباده معنى النظام ومعنى العدل؛ فإن جاز في وهمنا أن الألقاب الجامعية تغني عن الجهاد الموصول في سبيل المجد، فقد ضللنا سواء السبيل
هل تفهمون معنى كلمة (ليسانس) وهي أول درجة من الدرجات الجامعية؟
الليسانس كلمة فرنسية معناها الحرية، وحرية الجسم لا تتم إلا بسلامة جميع الأعضاء، وكذلك حرية العقل وحرية الروح، فلا حرية لعقل تعوزه المواهب، ولا حرية لروح يعوزه الصفاء.
وأشرح كلمة الليسانس من ثانية فأقول:
الغرض من هذه الكلمة هو إعطاء الطالب راية الحرية، الحرية من جميع ما قرأ وما سمع، ليكون من المبدعين
فأين حَمَلة الليسانس من هذا الغرض؟
إن أعفتهم الدولة من تحقيق هذا الغرض فلن يعفيهم الوطن، ولن يرحمهم الله الذي علم آدم في الفردوس ليكون رسوله إلى ممالك الأرض
إن للجامعة المصرية رسالة ندور حولها من وقت إلى وقت، وإن كان لها في أنفسنا صورة لا يتمثلها أبرع فنان، ولو استوحى نجوم السماء
وتلك الصورة هي سبب شقائي، وأنا الجامعي المخضرم الذي ظفر بألقاب الجامعة القديمة والجامعة الجديدة، فماذا صنعت في دنياي؟
إن قصائدي ومؤلفاتي ومقالاتي لا توحي إلى نفسي شيئاً من الازدهاء، لأني أفهم جيداً أن للنبوغ والعبقرية غاية إنسانية لا غاية محلية، فأنا لا أقنع بأن يكون الجامعي هو المصري
الأول، وإنما أسمو إلى أن يكون الإنسان الأول، فاستعدوا للنضال في ميدان تكونون فيه أوائل الأبطال
لا قيمة للأرقام في حياة الوجود، ولن يكون من أسباب ازدهاء الجامعيين أنهم بلغوا بضع ألوف، فالشمس واحدة والقمر واحد، وهما عندنا أنفع من النجوم التي تفوق الإحصاء
وأنا من أجل هذا المعنى لا أقيم وزناً للتضامن الجامعي، لأن التضامن سناد الضعفاء، أعاذني الله وأعاذكم من وباء الضعف. وهل تتجمع في الأرض أمة كما تتجمع أمة النمل؟
الجامعي الحق هو الذي يسير في كل ارض وفي عقله فكرة الجامعة، كما يسير المسلم في كل ارض وفي روحه هدى المصحف
كونوا آحادا، ولا تكونوا جماعات، فالوحدانية هي العقيدة التي ارتفع بها الشرق، وبها ارتفع الغرب، إن كنتم تذكرون طلائع النهضات في التاريخ
إن الأدب الإسلامي أوصاكم بالتخلق بأخلاق الله، وأعظم صفات الله هي صفة الوحدانية. ولن يكون للتضامن قيمة إلا أن كان أرقاماً صحاحاً تضاف إلى أرقام صحاح، وأعيذكم أن تكونوا أصفاراً تزيد قيمة الرقم الصحيح
الصفر وحده عدم، ثم تكون له قيمة إن تضامن مع الرقم الموجود، فماذا تريدون بأنفسكم، يا أبناء الجامعة في هذا الجيل؟
أنا أحب لكم ما أحب لنفسي، وأنا أكره أن يكون لأي مخلوق عليّ سلطان، فتحرروا من بوارق الدنيا كما تحررت، ليسبغ الله عليكم نعمة الأدب الرفيع
لا تنشروا بعد اليوم على صفحات الجرائد شكايتكم من قلة الرواتب، فإن سطراً تكتبونه صادقين هو الرزق النبيل. وذكاء المرء محسوب عليه، كما قال الأسلاف
العقيدة الادبية والعلمية هي الأبوة الكريمة للرجل الحصيف، فلا تعرضوا مواهبكم لليتم الدميم. . . وفي الناس أيتام آباؤهم أحياء!
يجب أن يكون للجامعة في كل ميدان جنود. يجب أن يكون إليها الرأي في جميع المعضلات الأدبية والفلسفية والتشريعية والهندسية والطبية والعلمية
ويجب أن يكون الجوع أشرف قوت يقتات به الجامعيون الأصلاء
أترونني أسرف في الأماني؟
إن قلتم هذا القول فإني أجيب بأن ليس في الخير إسراف
لقد كانت بلادنا أول مشرق للعلوم والآداب والفنون، وكانت وثباتها العلمية والأدبية والفنية موكولة إلى رجال لا يقيمون وزناً للأقوات، فكيف نيأس وتأخرنا المادي هو الشاهد على صدق بنوتنا لأولئك الآباء؟
أما بعد فماذا أريد أن أقول؟
لم أقل شيئاً، لأني قلت أشياء، وبعض الإيجاز أبلغ من الإطناب
الهدف الأدبي لهذا الموسم هو أن نخلق للقاهرة شواغل جدية، بعد أن طال عهدها باستصغار قيمة الوقت، وبعد أن كان غذاؤها لا يزيد عن اجترار القيل والقال
الهدف الأدبي لهذا الموسم هو أن ننطق بعض الكليات التي لا تنطق!
الهدف الأدبي لهذا الموسم أن ننقل القاهريين من الاختصام في التوافه، إلى الاختصام في الحقائق
باسم الله نفتتح هذا الموسم، ولن يتخلى الله عن بناء كان اسمه أول ما سطر على حجر الأساس (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
زكي مبارك
في الغاب
للأستاذ عبد الحليم عباس
قلت لصاحبي، ونحن نعتسف الغاب، نطامن من رأسينا لنتقي أذرع الشجر المتشابكة والممتدة في غير استواء، ونراوغ في السير مخافة أن نصطدم في فرع شائك، أو تزل بنا القدم في هذه الأرض الوعثاء. يشبه السير في الغاب، السير في الحياة. أعني، لابد من المراوغة. فعقب وهو ينحى فرع شجرة، ولابد من أن يطامن المرء من رأسه - كما أفعل الآن - لينجو من الصدمة. . .
- حسن، فنحن في هذه الغاب، نمثل قصة الأحياء، أعني أن كل حي يطامن من رأسه - في حال من الحالات - ويراوغ في مشيته، في شوطه المقدور، في دروب الحياة، كما نفعل الآن، حذوك النعل بالنعل، هذا إن أراد أن يستقيم معه الأمر. وإن ركبه الغرور فمشى رافع الرأس، مستقيم الخطوة، فلابد من صدمة يبين أثرها في وجهه، أو في جسده أو. . . يخر صريعاً إن كانت الصدمة قوية بالغة. . . ولكن قل لي هاهنا الشجر والحجر يصدم السائر، وفي الحياة. ماذا؟
- إرادة الأحياء العنيدة الضاربة في النفس، كجذور هذه الشجرة، المستحكمة في باطن الأرض - وراح يهز شجرة سنديان استحكمت ساقها، ونفض من فعل الزمن، ويتطلع فيّ، فعل المفكر المتألم
- إرادة الأحياء لفظة شاملة، وفي الشمول غموض وإبهام. ولكن قل لي: نستطيع أن نجتث هذه الأشجار، فيصبح السير فيها - الغاب - بخطوات مستقيمة وخدود مصعرة، وقلوب أمنت أن يفاجئها من بين ملتف الشجر، وخفي الأحجار حيوان مؤذ مفترس، فكيف نجعل الدرب في الحياة كهذه؟ أتنفي منها إرادة الأحياء؟ ومعنى هذا أن ننفي منها الأحياء. وقد قال بهذا كثير من المفكرين، ولكن قولتهم هذه لم تتحقق في الواقع، لأن الحياة أقدر على المحافظة على ذاتها من أن تذهب وتمحوها كلمة من يائس
- فماذا تمحو من الحياة؟
- شيئاً واحداً ليصبح السير فيها كالغاب بعد أن تجتث جذور أشجارها
فزم ما بين عينيه، وقال: أمحو منها القوة، فيصبح الإنسان آمناً، والأمن هو الحياة. . .
وتابع قوله: ولكن من القوة ما هو جميل، وللخلق والإنشاء. . . أريد القوة الظالمة. . .
- اسمع يا صاحبي. أقوى ما في الغاب الأسد، وليس هو شر ما فيها، يأتي الفريسة، فيدلها على نفسه، بفضل قوته المرعدة فتتقيه، وقد تنجو. ومن الضعف ما هو ظالم، أنسيت النفاق؟ وما قولك في الكذب؟ أليس ضعفاً؟ وما نلقى منه شر البلاء
فأطرق صاحبي، وفي إطراقه قفز من بين يديه (ابن آوى) فجفل من المفاجأة، ولما تحققه يستن في عدوه، صاح: لقد وجدتها! أمحو منها هذا؟ جنس الثعالب؛ الثعلبة، بربك ألا تراني مصيبا؟. . .
- أتمنى أن أراك مصيباً اليوم، ولكن لو محوتها لبقيت الغاب بعدها غاباً، تطامن لها رأسك، وتراوغ في مشيتك، وتقف عند حنية لتجمع نفسك، وتلم قوتك من حيوان متوثب، أو وحش غادر، كشأنك في الحياة؛ فالثعلب جنس من أجناس. وثعالب الأحياء كل خستها أنها تمشي إلى مطلبها بين مظاهر الجبن والتدليس، وهي تلقى جزاء خستها هذه. أنها تخشى افتضاح أمرها، وانكشاف مهارتها الحقيرة. وإن أحقر منها وأحقر، جنس الأفاعي: تطل برؤوسها وجلة، ثم تنساب ناعمة، لا يسمع لها حفيف، إلى الضحية الساهية اللاهية، ثم تنهشها لغير ما فائدة، إلا حب الأذى ولذة الإجرام. . . أرأيت الحية؟ أنتبه. إنها أخطر ما في الغاب
- وهل هي أخطر ما في الحياة؟ أو رأيتها أنت؟
- لقد رايتها كادت تنهشني؛ لولا أني فطنت لها، فركلتها فعادت تتغذى من التراب. ومن العجب أنها تضع على عينها دوماً منظاراً، ولها صوت موسيقي ناعم جذاب. وهكذا ترى انك كلما محوت جنساً نبتت لك أجناس، وكلما أردت أن تقضي على نحيزة نجمت لك نحائز ثم. . .؟
- لم يبق شيء عندي، أراك معنثاً اليوم. هات وخلني أنا السائل، وستراني لا أقل عنك إعناتاً. الهدم أسهل من البناء
- هكذا تقول، وليس هو عند الحق كذلك، ليس الهدم بأسهل من البناء
- كيف؟ سنتكلم في هذا مرة أخرى. والآن. أليس كل ما في الغاب يطلب أن يعيش وهو يصطنع لهذا مطالبه الخاصة: ثعلبة، مراوغة، قوة، إلى آخر هذه المسميات. . . وكذلك
الشأن في الحياة والأحياء. . . ما رأيك لو جعلنا العيش ميسوراً لكل طالب. . . ألا تمحي المنازعات وتذوب الشرور، ويمشي الإنسان ثابت القدم، مرفوع الرأس. كل ما أطلبه أن تمحى أنا، وتحل محلها نحن. ليتم كل شيء
- ولكن تبقى الغاب بعد هذا غاباً، وحيوان الغاب من طبعه الافتراس. إنه يعقل. أرأيت ثعلباً يفترس ثعلباً؟
- لا. . . وهذه نقطة الاختلاف عن بني الإنسان. فالناس جنس والغاب أجناس، هذه هي الطبيعة، ولكن (أنا) جعلت كل واحد جنساً متميزاً بذاته، منفصلاً عن بقية جنسه. فكل (أنا) لابد من أن يطامن من رأسه ويزحف على بطنه حذرا من (أنا) الثانية والثالثة. أما (نحن) فلا نمشي إلا مرفوعي الرؤوس. أمح قليلاً من (أنا) غير آسف. لو كان الغاب ملكاً لفصيلة واحدة، أكان يمشي أبناؤها وجلين مروعين، كما يمشي البشر في درب الحياة. . . أينا أعقل؟ إن جماع الرذائل في هذا الزائد في (أنا) عن حاجة المرء في الحياة. . .
- أو يكون ذلك؟
- سيكون في يوم ما، إنها الضرورة، أن الإنسانية لتعيش مروعة من الذل والخراب والجوع. وإنك لتعرف أن القلق حالة طارئة وأن الشيء الطبيعي هو حالة الاستقرار. وإلى أن يجيء هذا خلنا نضحك من زرادشت، ونردد قولته، ولكن على غير قصده وهواه. . . أهذه هي الحياة؟
هاتها إذن مرة ثانية وثالثة.
وأخيراً يا صاح هانحن أولاء أنسانا الحديث متاعب الطريق، واستحققنا متعة هذا المرج الضاحك النضير.
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس
أطوار الوحدة العربية
ثورة العرب الكبرى
للأستاذ نسيب سعيد
قلنا في حديثنا الماضي إن الطور الثالث (للقضية العربية) يبدأ بإعلان الثورة الكبرى رسمياً يوم 10 يونيو عام 1916، ونزول العرب إلى ميادين الصراع والكفاح، وينتهي بإرسال الحسين بلاغه ما أجملناه أمس، ونقول: إن (القضية العربية) كانت في خلال هذه المرحلة - وقد امتدت عامين ونيفا - عرضة لتيارات مختلفة، وعوامل متناقضة، لأنها أعظم الأطوار التي اجتازتها شأناً. وقد ظن بها الكثيرون من كبار السياسيين الظنون، واعتقدوا أنه قد لا يكتب لها التغلب على المصاعب التي أحدقت بها من كل جانب، فكان جمال السفاح يهاجمها من الداخل بكل قواه، ويبذل جهوده للقضاء عليها، والتخلص منها فيتم بذلك عمله الأصلي، ويقضي على كل حركة عربية، فينال إكليل الغار والظفر. ولا ريب أن فشله في احتلال مكة وفي إنقاذ الحجاز أفقده ما كان يتمتع به من نفوذ في دوائر الأستانة، وجعل حكومتها تقلص ظله، وتنقص سلطته تدريجياً حتى جردته من كل حول وطول، فطلب أن يقال، وكانت الحرب في عامها الثالث، فأقيل وعاد حزيناً مغموماً إلى الاستانة، يعض كفيه شجناً وأسى، وقبع في وزارة الحربية هناك ينتظر ما خبأه له القدر، ولم يطل به المقام حتى فرّ إلى روسية فعاش فيها شريداً طريداً، ومات قتيلاً منبوذاً، وتلك عقبى الطاغين
ويجب علينا أن نعترف في هذا المقام أن معظم الفضل في إنقاذ الثورة، بل في إنقاذ القضية العربية في هذا الدور يعود إلى الجهود الخاصة التي بذلها الحسين وأولاده في الأشهر الأولى للثورة الكبرى، ولولا ذلك لتم لفخري باشا القائد التركي العام بلوغ مكة، واحتلالها، والقضاء على الثورة في مهدها
وعلى كل حال لابد لنا قبل الحديث عن حوادث الثورة ووقائعها، من دراسة مقدمات هذه الثورة وأسبابها وعواملها فقد يساعد هذا الدرس - كما نعتقد - على استخراج نتائج إيجابية تنير السبيل، وتجلي الحقيقة عن ثورة العرب الجبارة
وإذا أردنا البحث عن أسباب الثورة ومقدماتها، يجب علينا قبل كل شيء، استعراض
علاقات العرب بالترك منذ اتحدا في ظل الهلال العثماني خلال القرون الوسطى، يوم كان للوازع الديني المقام الأول، وكان الشرق يعيش في عزلة تامة عن الغرب، ويدور في دائرة ضيقة من التقاليد والأساليب، تسللت إليه من أسلافه الأولين، وأجداده الأقدمين؛ فكل من يستعرض هذه العلاقات بين الأمتين المسلمتين، يسلم بأن العرب لم يجدوا غضاضة في الخضوع لسلطان العثمانيين حينما فرق يوم مرج دابق جيش السلطان (طومان باي خليفة الغوري) آخر المماليك المصريين، وتقدم إلى دمشق، فالقدس، فالقاهرة فاتحاً، فقد رحبوا به في كل بلد من بلدانهم، وقطر من أقطارهم، وبلغ من شريف مكة يومئذ وهو الأمير بركات أن أرسل إلى القاهرة من حمل إلى السلطان المنتصر كتاب بيعته ودخوله في طاعته، وبهذا الاعتراف اكتسب لقب خادم الحرمين الشريفين. والتعليل الصحيح لهذه الظاهرة الاجتماعية هو الفكرة الدينية ولاشك، فقد سرى في ذهن العرب من أبناء هذه الأقطار أن في تأييد السلطان الجديد تأييداً للإسلام وإعلاء لشأن الشريعة السمحاء فبايعوه سيداً وإماماً
وهبت على ديار الغرب بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ريح القومية، وتنشق العالم نسمات روح جديدة، حاملة معها حضارة الغرب الحديثة؛ وكانت بضاعة القومية في جملة صادرات الغرب الجديدة إلى الشرق القديم، فجاءت تجر ثوباً قشيباً فضفاضاً يغري ويفتن؛ إلا أن تأثيرها ظل محدوداً خلال القرن الماضي بسبب الجهل الذي كان مسيطراً وسائداً. حتى إذا بدت طلائع القرن الجديد شرع العرب ينتعشون تدريجاً، ويفتحون عيونهم لاستقبال نور الحياة المشرقة عليهم، المهيبة بهم إلى النهضة والعمل، لاحتلال المنزلة اللائقة بين الأمم. بدأت هذه الروح القومية الجديدة تهب عليهم نسمات خفيفة رقيقة، ثم أخذت تتابع وتقوى بتقدم الأيام والليالي، حتى كانت الحرب العظمى الماضية فإذا بتلك النسمات الرقيقة قد أصبحت ريحاً صرصراً عاتية، بل عاصفة هوجاء تتلاعب بالأمة العربية، وتقذف بها ذات اليمين وذات الشمال.
وما زال العرب اليوم يعيشون في وسط هذه العاصفة، وفي ملتقى التيارات المنصبة عليهم من كل صوب وناحية فإذا نحن تقصينا الأثر البارز للقوى العظيمة المتفاعلة وإياهم وجدناه في هذه الهبة القومية التي تدفعهم إلى استكشاف نفسهم، وتحرير أفرادهم ومجموعهم، واستعادة سالف مجدهم، وإثبات مكانتهم في المجتمع البشري. وما من أحد يلمس الحياة
العربية الحاضرة إلا ويشعر بهذه الهبة المرتفعة من صدور العرب في شتى أقطارهم، المبشرة بنهضة جديدة، يرجى لها ما كان لسابقتها في العصور الوسطى - من عز منيع، ومجد رفيع، ومساهمة ذات شأن في تقدم التمدن الإنساني، والحضارة العالمية
وكما هبت ريح القومية على العرب، كذلك هبت على الترك حتى أن بعضهم تشبع بفكرة القومية الطورانية، فكان ذلك مقدمة تحول عظيم في صلات الأمتين: العربية والتركية، وقد ختم هذا الدور (23 يوليو عام 1908 - 30 أكتوبر عام 1918) بانفصالهما عن بعض بعدما عاشا متحدين مدى أربعة قرون، يخضعان لنظام واحد، ولعلم واحد؛ فانهار بذلك الانفصال بناء الإمبراطورية العثمانية، وقام مقامه صرح جمهورية أنقرة الجديدة، كما قامت هذه الدول العربية المنبثة في بلاد العرب من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال
أما الخلاف العنصري الذي نشأ بين العرب والترك، فمقدمته كانت - ولاشك - قضية إبعاد العرب عن وظائف الدولة؛ وقد بلغ اشده عن طريق الصحافة، إذ كانت الصحف التركية الجديدة تدعو إلى تعزيز القومية الطورانية، والتحامل على القوميات الأخرى، وتحض الحكومة على مقاومتها والقضاء عليها. ولم تقصر صحافتا الترك والعرب في التراشق بالألفاظ والجمل، والغمز واللمز، كما لم يقصر شعراء الأمتين في نظم القصائد والمقطوعات التي تزكي نيران القومية في القلوب.
أضف إلى ذلك عمل الكتاب العرب الذين نزحوا إلى وادي النيل السعيد، فقد أذكوا روح القومية العربية بما كتبوا ونظموا، فكان عملهم أشبه بعمل روسو وفولتير ومنتسكيو وديدرو في إذكاء ثورة فرنسا الكبرى سنة 1789
تلك هي إذن مقدمات الثورة العربية وأسبابها البعيدة، أضف إليها عمل الجمعيات العربية بصورة خاصة. أما الأسباب القريبة أو المباشرة لها، فهي تصرفات جمال السفاح ومظالمه التي ريعت لها دنيا العرب، وجزعت، فعجلت في إضرام ثورة لا تبقي ولا تذر، حتى قبل أن تعد معداتها وتهيئ أسبابها، بل وقبل أن يأتي أوانها؛ مما أثر في تطورها وحال بين العرب وبين اجتناء الثمرات التي كانوا يرجون اجتناءها في ختام جهادهم الأكبر، كما كانت سبباً في تنفير الرأي العام المتمدن من الاتحاديين الترك واحتقاره لحكومتهم
وكيف لا يجزع العالم العربي لتلك المظالم التي أقدم عليها جمال السفاح، وتلك الفظائع التي
ارتكبها رجل الظلم والإرهاب من شنق أحرار العرب والتنكيل بأسرهم والتقليل من أمجادهم، مما لم يعرف التاريخ في صفحاته له مثيلاً؛ وكذلك كان لبعض رجال العرب من الذين أفلتوا من قبضة الظلم والإرهاق فلجئوا إلى مصر والعراق والحجاز، يد كبيرة في إثارة (الرأي العام العربي) على الترك، وتنفيره منهم، وتفهيمه (القضية العربية) على وجهها الصحيح، وفي إعداده للثورة الكبرى والغضبة المضرية العظمى طلباً للثأر والانتقام، كما بكى شعراء العرب وكتابهم في مصر والعراق والحجاز وأمريكا الشهداء الأبرار، مستنزلين سخط العالم المتمدن على الطغاة الظالمين
ويجب علينا هنا قبل الحديث عن وقائع الثورة وحوادثها أيضاً درس العلاقات التي كانت قائمة بين زعيم الثورة شريف مكة، وبين الاتحاديين الترك قبل الحرب الماضية، فإن هذا الشريف لم يبق في استطاعته أن يتجنب الاصطدام بالترك، وأن يحجم عن مصارحتهم الشر والعدوان بعد ما وصلت الحالة في بلاد العرب إلى الدرجة القصوى من الانحطاط والعدوان، رغم اصطناع المودة بينهما، وقد ظل كل فريق يبديها للفريق الأخر حتى اللحظة الأخيرة لظهور نيات الترك واضحة جلية إزاء (الحسين) شريف مكة، وإزاء أولاده أولاً، وإزاء قومه العرب ثانياً، وما كان هؤلاء يضمرون شراً للدولة العثمانية؛ وما كانوا - علم الله - يتمنون زوالها أو الخروج عن طاعتها لولا إنها بادتهم الشر
والواقع إنه كانت هناك جملة عوامل بعضها شخصي، وبعضها قومي، وبعضها ديني ترغم (الحسين) على التفكير فيما فكر فيه قبله عزيز مصر الخالد (محمد علي الكبير) في العمل على وحدة العرب، وضم شملهم، ولم شعثهم، وتأسيس دولة عربية كبرى لهم، تعيد مجدهم التليد، وعزهم المجيد. وهذه العوامل نفسها هي التي أهابت (بالحسين) لركوب هذا المركب الخشن، الوعر المسالك، العويص المرامي واضطرته إلى أن ينقض عهده مع الدولة العثمانية، وساقته إلى محالفة بريطانيا العظمى بعدما عرضت عليه من الشروط الرائعة ما يغري كل عربي، وأعلنت استعدادها لتنفيذ كل ما يطلبه. فأهم العوامل المباشرة للثورة العربية الكبرى إذن هي:
1 -
العامل الشخصي
2 -
العامل الإقليمي
3 -
العامل القومي
4 -
العامل الديني
وسنتحدث في مقالنا المقبل عن هذه العوامل مفصلاً فإلى اللقاء
(دمشق)
نسيب سعيد المحامي
إلى المجمع الملكي للغة العربية
للأستاذ نجيب شاهين
أمنية ورجاء
تتناقل صحفنا كلمات ليست من كلام العرب، وأعلاماً لأمكنة تخالف في صورتها ما كان معروفاً عندهم وما نقله مؤرخوهم لنا، فإذا دام الحال على هذا المنوال لم تمض السنون حتى يرى الخلف لغة لم يعرفها السلف كما طرأ على لغات أوربا مع فرق. ذلك بأن ما طرأ عليها تجديد، وما يراد إدخاله على لغتنا مسخ وتشويه يذهبان بها بعيداً عن الصورة التي أنزل القرآن بها. وإليكم بعض الأمثلة فراراً من التطويل:
لا زالت
لا زالت لفظة للدعاء ومدرسو مدارسنا لا يفرقون بينها وبين ما زالت فينشأ الطلاب على هذا الخطأ. وهؤلاء الطلاب هم كتاب صحفنا اليوم. ومن الغريب أن الإذاعات العربية في الخارج تقع في هذا الخطأ مؤتمة بمعظم صحفنا وبإذاعتنا
قاصر بدل مقصور
في كتاب قواعد اللغة العربية الذي كان يدرس في المدارس ووقف عليه جهابذة اللغة، لفظة قاصر بدلاً من مقصور. ووقع في هذا الغلط ابن خلدون. ومن غلطاته جمع صناعة على صنائع، وعادة على عوائد دائماً لا يشذ عن هذا. وكلاهما غلط شائع
شؤون
ويكتبونها شئون بالنبرة أو كرسي الياء مع أن ما قبلها مضموم، ولا فرق بينها وبين رؤوس أو رءوس جمع رأس. أنظر كتابتها في لسان العرب مثلاً، فلماذا نكتب شئون ولا نكتب رؤوس. وكنت قد كلمت المرحوم الشيخ الإسكندراني في ذلك فوافقني وكتب شؤون بواوين في مجلة المجمع
جبهة
أي ميدان أو ساحة أو حلبة. وصحافيونا أو صحفيونا بحثوا عن كلمة ? فيما يسمونها
القواميس من إنجليزية وفرنسية فوجدوها جبهة، ومعنى جبهة هنا جبين أو مقدم الشيء. وقد استعار القوم الجبهة للميدان فلماذا نتابعهم وعندنا مترادفات كثيرة له
بواسل
كلمة شجعان ما لها؟ ولكن جميع الكتاب والمترجمين يقولون بواسل. وبواسل جمع باسلة أو باسل لغير العاقل ومعناه الأسد. وهي خطأ لباسل العاقل إذ لم يسمع جمع فواعل لفاعل العاقل غير ثلاث كلمات وهي فوارس وهوالك ونواكس. ورأيت في كتب اللغة عواجز جمع عاجز وتوابع جمع تابع أي خادم، ودوارس جمع دارس للعاقل. وفي ذلك تفصيل ليس هذا محله
سمى
لا تجد في أنباء المواليد في معظم الصحف سوى قولهم: (ولد لفلان ولد أسماه لا سماه)، وعند ذكر المصدر يعودون إلى مصدر سمى تسمية لا إلى مصدر أسمى إسماء. وليس في القرآن سوى سمى. نعم إن أسمى صحيحة، ولكنها مرجوحة مهجورة حتى صارت كالمماتة. وفي القرآن أسماء سميتموها
أفاد مكان استفاد
ومثلها أفاد بمعنى استفاد، فلماذا نلجأ إليها مكان استفاد وهي هي الصحيحة والغالبة والمسموعة في لغتنا السماعية. وفي أفاد بمعنى استفاد أقوال. جاء في المصباح:(وقالوا استفاد مالاً استفادة وكرهوا أن يقال أفاد الرجل مالاً أي استفاده، وبعض العرب يقوله) انتهى أي إنه لغة في استفاد ومعنى لغة هنا قليل
وفي الحق أن استعمال أفاد مكان استفاد فيه لبس لا لزوم له إلا إرادة الكاتب للبس وإيهام القارئ.
كبد وتكبد وتكبيد
وكم يقول لنا المترجمون والإذاعة من ورائهم بالطبع كبدنا العدد خسارة، وتكبد خسارة، وتكبيده الخسارة، يريدون حمل وتحمل وتحميل مصدر حمل. فإذا أرادوا تكبد فصحتها كابد. أما تكبد فمعناها نزل في الكبد كقولنا تكبدت الشمس السموات نزلت في كبدها أو
كبيداتها
تعريب وترجمة
إنما كانت لفظة تعريب بمعنى ترجمة أكثر الغلطات الحديثة شيوعاً حتى على أقلام أشهر الكتاب، فيقولون لك أنهم عربوا مكان ترجموا، وتعريب مكان ترجمة، وإنما يسمون ترجمتهم تعريباً ظناً منهم - وبعض الظن إثم - أن الترجمة (عرة) خلافاً للخليفة أبي جعفر المنصور الذي انتدب بعض أعلام عهده لترجمة بعض الكتب اليونانية فكان ذلك أعظم ما عمله من أعمال النهضة العربية أو (الرينسانس العربي)
غلطات النسبة
يقولون: الألمان بالرفع والنصب والجر ترجمة عن الفرنسية. ودرجت صحفنا إلا واحدة على ذلك بغير مراعاة لقواعد النسبة، ومع ذلك تراها تقول إيطاليون وإيطاليين لا إيطاليان ولا طليان، وبريطانيون لا بريطان، وأمريكيون لا أمريكان. وسمعت ألفاظ الروس والبلغار أو بلغر والترك والعرب والعجم والديلم ولكنها ألفاظ سماعية لا يقاس عليها
شخصية
وفي الإفرنجية لفظة برسوناج أو برسوندج وهي نسبة إلى الشخص، ويريدون بها شخصاً معروفاً ترجمتها كتب الترجمة التي نسميها قواميس شخصية فتلقف مترجمونا هذه اللفظة وجعلوها بمعنى شخص كبير. فقالوا وحضر الاحتفال كثيرون من الشخصيات البارزة يريدون الأشخاص والشخوص وقديماً قال عمر بن أبي ربيعه:
فكان مجني دون من كنت أتقي
…
ثلاث شخوص كاعبان ومُعصر
والصحيح أن يقال وحضر الاحتفال كثير من الشخوص البارزين أو كثير من الكبراء. أما الشخصية فنسبة إلى الشخص تقول فلان ذو شخصية بارزة مثلاً إذا كان لابد من هذا القول والا فقل كثير من أعلام الرجال
الأعلام
أكثرت الصحف هذه الأيام الكلام عن بحر قزوين، وهذا الاسم غير معروف لهذا البحر، بل إن قزوين مدينة في فارس أو إيران بعيدة عن البحر في الداخلية، وسمى الفرنجة البحر
كازبيان أو كاسبيان، ونقلته كتب الجغرافية الأولى في العربية قزيين. واسمه العربي بحر الخزر أو طبرستان. وفي الخرائط المدرسية هذان الاسمان، وهكذا ضبطا في خريطة بلاد العرب القديمة التي وضعها المرحوم أمين بك واصف ووقف عليها المرحوم أحمد زكي باشا.
دهلي لا دلها
دلهي الإنجليزية هي دهلي العربية وضبطها ابن بطوطة بكسر الدال. وبقي الإنجليز يحرفون سواكن إلى سواكم حتى عهد قريب ثم عادوا إلى رشدهم. فلتعد صحفنا إلى رشدها في لفظة دهلي وقد كانت من أعاظم مدائنهم هناك في القرون الوسطى.
أفريقية لا أفريقا
هكذا وردت في التواريخ العربية ومنها ابن خلدون لا أفريقيا بالأف ولا أفريقا وزان أمريقا كما تخرج مضخمة من فم مذيعنا الفاضل. ومن شاء أن يكتب أمريكا أو أميركا كاملة، وأما أفرقية فهكذا كتبت منذ قرون. وعند المجمع العربي السوري أن تكتب الأعلام العربية التي على مثالها بالتاء كلها فيقول فرنسة وأنجلطرة وإسبانية وروسية إلى آخر ما هناك.
قبرس
جميع الأعلام اليونانية المعربة تعرب بحرف السين في آخرها لا الصاد مثل: قبرس ورودس وساموس وبطرس وغيرها إلا قبرس وبولس ومرقس فإن بعض الكتاب يحاول كتابتها بالصاد وهذا خطأ، فقد عربت بالسين في الأناجيل وفي التواريخ العربية القديمة ورأيت قبرس مرة بالصاد في ابن خلدون.
الأعلام المعربة بال التعريف
وحبذا لو عني المجمع فوق هذا كله بتوحيد كتابة الأعلام الإفرنجية المؤنثة المعرفة بأل التعريف وهي كثيرة مثل البرازيل والروسيا والبلجيك والمرتينيك والأرجنتين وغيرها مما لم يسمع في العربية القديمة
طبرق وليبيا
ومن الأعلام التي يصر مذيعنا على التلفظ بها خطأ طبرق فإنه يلفظها بفتح الطاء وكسر الراء وقد نقلها الفرنجة واللفظ بالضمتين، وضبطها أحمد حسنين باشا طبروق بالواو وضبط معها ليبيا بالياء في كتابه المشهور (في صحراء ليبيا) وفي ترجمة الإنجيل وردت (ليبيه) بالهاء
هذا بعض من كل أعوذ بالمجمع الكريم منه فلعله يدبج لنا رسالة فيه وينشرها لزيادة الفائدة؛ ولاسيما أن هذا العمل من اختصاصه وهو يقطع به قول كل خطيب ويحفظ للغة شخصيتها وينقيها من شوائب دخيل لا حاجة بنا إليه؛ وفيه فوق ذلك تشويه لها يبعدها عن شخصيتها النقية القديمة ويدنيها من شخصيات لغات لا تمت إليها بصلة وتفسد عليها شخصيتها
نجيب شاهين
خزانة الرءوس
في دار الخلافة العباسية ببغداد
للأستاذ ميخائيل عواد
تمهيد
اشتهرت دور الخلفاء بكثرة المرافق، كالغرف والصحون، والرواشن، والحدائق، والبرك، والأحيار لأصناف الحيوان، والبساتين لأنواع الطيور، ومواطن الأنس والتنزه، وغيرها
وكانت الخزائن في طليعة ما تضمه دار الخليفة. وقد كانت متعددة متباينة. فللكتب خزانة، وللسلاح خزانة، ومثل ذلك قل عن الكسوة والفرش والسروج والأدم والبنود والمال والطعام والشراب والتجمل والجوهر والطيب وغيرها. (وكان الخليفة يمضي إلى موضع من هذه الخزائن؛ وفي كل خزانة دكة عليها طراحة، ولها فرّاش يخدمها وينظفها طول السنة وله جارٍ في كل شهر فيطوفها كلها في السنة)
وأمر هذه الخزائن وما تحويه من مختلف الأشياء مشهور معروف في كتب التاريخ والأدب، ولكن هنالك خزانة ندر ذكرها بين الخزائن، أمرها عجيب غريب، لم نسمع بها إلا في دار الخلافة العباسية ببغداد. تلكم هي (خزانة الرءوس)!
فلا سلاح فيها، ولا طعام، ولا شراب، ولا لباس، ولا كتب، بل كل ما فيها رءوس بشر، بدرت منهم إعمال أدت إلى قطف رءوسهم حين أينعت وإيداعها في هذا المستقر
والظاهر أن هاتيك الخزانة كانت واسعة، وضعت فيها الرءوس في أسفاط من البردي والخيزران ونضدت في رفوف
فبعد أن يؤتى بالرءوس، توضع بين يدي الخليفة فيشاهدها هو ورجال دولته، ثم تنصب أياماً على بعض المواطن البارزة من البلد؛ فيراها الناس وتكون عبرة لمن اعتبر، وتحط بعد ذلك، وتسلم إلى الموكل بأمرها فيعمل على إصلاحها وتنظيفها وتفريغ أمخاخها، ورفع باقي أجزائها المعرضة للتلف والفساد، ثم طليها بالأدوية القابضة الماسكة لضمان بقائها كالصبر والكافور والصندل، وإلصاق رقعة صغيرة على كل رأس كتب عليها اسم صاحبه، وتاريخ قطافه، وما جدر ذكره. وقد أضيف إلى بعضهم العبارة التالية: (هذا جزاء من
يخون الإمام ويسعى في فساد دولته) أو (هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته)
وقد انفردت هذه الخزانة على ما بلغنا بوجود يد واحدة؛ هي اليد اليمنى لأبي علي بن مقلة الوزير، العلم المشار إليه في حسن الخط. وهو الذي قال فيها بعد قطعها:(قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبت بها القرآن دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص!). فليت شعري، ألا تكون هذه اليد قد كتبت أيضاً بعض رقاع هذه الرءوس! وهي الآن حبيسة هذه الخزانة، شريدة غريبة بين الرءوس؟
وقد رتب لهذه الخزانة غير موكل يقومون بأمرها ومداراتها، واستقبال الرءوس الجديدة
وما ورد في التاريخ بصدد الرءوس شيء كثير، نورد في مقالنا أهمه وأبرزه
1 -
حفظ الرءوس في خزانة الرءوس
(1)
رأس يلبق، رأس علي بن يلبق، رأس مؤنس، رأس يمن الخادم، رأس ابن زيرك:
كانت سنة 321 للهجرة مشحونة بالأحداث الجسام التي وقعت في دولة بني العباس. وكان بعض النفر من القواد الأعاجم والموالي قد استبدوا بالأمر، فاضطرب حال المملكة وأمست على شفا هول شديد، وشغب هؤلاء غير مرة وحركوا الجند، وقر رأيهم أخيراً على خلع القاهر بالله واستخلاف أبي أحمد بن المكتفي، فعقدوا له الأمر سراً. فلما سمع القاهر ذلك أخذ حذره، وبث لهم العيون حتى صاروا بقبضته، فاعتقلهم وغلهم بأغلال الحديد، ثم ذبحهم ذبح الشياه، وأودع رؤوسهم خزانة الرؤوس على الرسم المتبع. وإليك خبر هذه الرؤوس عن أوثق المصادر:
قال مسكويه (المتوفى سنة 421 للهجرة): (. . . ودخل القاهر إلى الموضع الذي كان فيه مؤنس، ويلبق، وابنه معتقلين، فذبح علي بن يلبق بحضرته ووجه برأسه إلى أبيه؛ فلما رآه جزع وبكى بكاءً عظيماً. ثم ذبح يلبق ووجه برأسه ورأس ابنه إلى مؤنس، فلما رآهما لعن قاتلهما، فأمر به فجر إلى البالوعة وذبح كما تذبح الشاة والقاهر يراه. وأخرجت الرؤوس الثلاثة في ثلاث طسات إلى الميدان حتى شاهدها الناس؛ وطيف برأس علي بن يلبق في جانبي بغداد، ثم رد إلى دار السلطان وجعل مع سائر الرؤوس في خزانة الرؤوس على الرسم)
وزاد الذهبي صاحب تاريخ الإسلام على ذلك بقوله (ثم ذبح يمن وابن زيرك، ثم أطلقت
أرزاق الجند فسكنوا واستقامت الأمور للقاهر. وعظم في القلوب، وزيد في ألقابه:(المنتقم من أعداء دين الله)، ونقش ذلك على السكة،. . . قال أبو بكر الصولي في كتاب الأوراق: حدثني الراضي، قال: لما قتل القاهر مؤنساً ويلبق وابن يلبق أنفذ رؤوسهم إلي مع الخدم يتهددني بذلك وأنا في حبسه لأني كنت في حجر مؤنس؛ ففطنت لما أراد وقلت: (ليس إلا مغالطته) فسجدت شكراً لله وأظهرت للخدم من السرور ما حملهم على أن جعلوا التهدد بشارة، وجعلت أشكره وأدعو له فرجعوا بذلك)
وروى ابن الأثير (المتوفى سنة 630هـ) قصة هؤلاء ثم أضاف إلى ذلك قوله: (. . . ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه، فلما رأى الرأسين تشاهد واسترجع ولعن قاتلهما. فقال القاهر جروا برجل الكلب الملعون؛ فجروه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت، وأمر وطيف بالرؤوس في جانبي بغداد ونودي عليها: هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته. ثم أعيدت ونظفت وجعلت في خزانة الرؤوس كما جرت العادة. . .)
وقد نقل إلينا شاهد عيان، أعني به ثابت بن سنان (المتوفى سنة 365هـ) خبراً طريفاً عن أحد هذه الرؤوس، فقال:(حدثنا سلامة الطوراني الحاجب إنه لما أخرج إليه رأس مؤنس ليصلحه؛ فرغ الدماغ منه ووزنه، فكان ستة أرطال، وسمعت أنا ذلك من الجفني وكان حاضره)
(ب) رأس نازوك، رأس أبي الهجاء بن حمدان
قام هذان القائدان بفتنة كبيرة أدت إلى خلع المقتدر بالله من الخلافة في يوم السبت النصف من المحرم من سنة 317هـ، وتقليد القاهر بالله، ثم رد المقتدر إليها ثانية في يوم الاثنين السابع عشر من المحرم، أي بعد ثلاثة أيام! فكان جزاء هذين القائدين القتل ودفع رأسيهما إلى خزانة الرؤوس. وقد تبسط في هذا الحادث التاريخي الخطير جملة من المؤرخين، منهم مسكويه، فمما قاله في هذا الشأن أن الرجالة (وصلوا إليه (إلى نازوك) وقتلوه، وقد كانوا قتلوا قبله عجيباً وصاحوا: مقتدر يا منصور. . .)، ثم قال:(وصلب الرجالة نازوك وعجيباً على خشب الستارة التي على شاطئ دجلة. . .)
وواصل كلامه حتى جاء على خبر أبي الهيجاء إذ قال (. . . فرماه خمار جويه بسهم
أصابه تحت ثديه، وأتبعه بسهم آخر فأصاب ترقوته، ورماه بسهم ثالث وقد اضطرب فشك فخذيه. قال بشرى: وهو الحاكي لهذه الصورة عن مشاهدة: فقد رأيت أبا الهيجاء وقد ضرب السهم الذي شك فخذيه فقطعه وجذب السهم الذي أصابه تحت ثديه فانتزعه ورمى به، ومضى نحو البيت فسقط قبل أن يصل إليه على وجهه، فأسرع إليه أحد الأسودين فضرب يده اليمنى فقطعها وفيها السيف، وأخذ السيف، وغشيه الأسود الآخر فخر رأسه، فأسرع بعض الخدم فانتزع الرأس من يد الأسود ومضى مبادراً به)
وكان المصير أن (أخرج رأس نازوك ورأس أبي الهيجاء وشهرا في الشوارع، ونودي عليهما: (هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته)، وسكن الهيج)، وردا إلى دار الخلافة وجعلا في خزانة الرؤوس
(يتبع)
ميخائيل عواد
كلمات.
. .
في يوم 29 أكتوبر الماضي أقامت تركيا الجمهورية احتفالات حكومتها ومهرجانات شعبها بعيد الجمهورية والتحرير قبل ثماني عشرة سنة.
وتركيا القديمة كانت (الرجل المريض) المحتضر الذي تتقاسم الدول كبراها وصغراها مخلفاته وأسلابه. وتتحيف حدودها وتهزم جيوشها دول كانت ولايات محكومة لها بحد السيف؛ تركيا القديمة التي كان شعبها جاهلاً فقيراً مريضاً منحل الخلق متلاشياً، والتي كانت حكومتها وتاجها وخلافتها شخوصاً لا حول لها ولا قوة؛ تركيا المهيضة الجناح قد استحالت في ثماني عشرة سنة إلى دولة، واستحال شعبها أمة لها عزة وكرامة ولها جيش تتحدث صحف العالم به، وأصبحت تركيا الجديدة لها صوت ولها اعتبار وأكثر من اعتبار في معركة السياسة والحرب القائمة، ونحن نعرف ما هي السياسة والحرب القائمة.
نحن كانت لنا نهضة قريبة الاتصال الزمني بالنهضة التركية، أو نستطيع مع التواضع أن نقول: كانت لنا هبة وانتباهة منذ ثلاث وعشرين سنة وكنا نستطيع أن نصل بهذه الهبة وبداية اليقظة إلى ما استطاعت تركيا أن تصل إليه.
والآن عندما نذكر نهضة تركيا ويتحدث الناس أو يكتبون عن تركيا الحديثة في هذه الحرب القائمة: حرب الحديد وحرب العقول والأذهان، نذكر زعماء تركيا وقادة جهادها في هذا السبيل، قادتها في بدء نهضتها وفي تسربها وفي بدء شبابها وشرف كفاحها
ونحن كان لنهضتنا زعماء وقادة سنذكرهم بالخير عندما نذكر النهضة المصرية، ولكن يجب علينا أن نتمم ما بدءوه لنصل إلى ما وصل إليه غيرنا من القوة والعظمة
(المعتز)
ذات المنظار الأسود
للأستاذ علي الجندي
أقبلت على موقف الترام تتخايل في ملابس الخريف كأنها طاووس!! وقد لاثت على رأسها عمامة رقيقة من لون معرضها زادتها فتنة!! وحجبت عينيها النجلاوين بمنظار أسود براق تختلج من تحته أهدابها الوطف فتمس وجنتيها!! فلما رأت العيون تكاد تلتهمها، ساورتها عزة الحسن وكبرياء الملاحة، فنصت جيدها وطمحت ببصرها إلى السماء كأنها تستشف الغيوب! فقال أحد الظرفاء هامساً:
مَا لِمَنْ تَمّتْ محاسنُه
…
أَنْ يعادي لحظَ من نظَرا
لكِ أن تُبدِي لنا حَسَناً
…
ولنا أن نُعمِل البصرا
فأجابه ظريف آخر:
وكنتَ إذا أرسلت طرفَك رائداً
…
لقلبك يوماً أتعبتْك المناظرُ
رأيتَ الذي لا كله أنتَ قادرٌ
…
عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
قال الظريفان ذلك وقال ثالث:
لَا يَحْجُبُ السِّحْرَ مِنْ عَيْنَيْكِ مِنْظاَرُ
…
كُلٌّ إليكِ - عَلَى الْمِنْظاَرِ - نَظَّارُ
مَا زَادَ عَيْنَيْكِ إِلاَّ فِتْنَةً، فَسَليِ
…
أَيُّ الْجَوَانَحِ لَمْ تَعْلَقْ بِهاَ النَّارُ
قَدْ رَفَّ مِنْ تَحِتْهِ خَدَّاكِ فيِ وَهَجٍ
…
كَماَ أَضاََءتْ خِلَالَ الْعُشْبِ أَزْهاَرُ
وَشَبَّ لَوْنَكِ حَتَّى قُلْتُ، بَعْضُ دُجىً
…
باَقٍ مِنَ الَّليْلِ قَدْ حَفَّتْهُ أَنْوَارُ
أَوْ بَدْرٌ ثِمٍ تَمَشَّتْ فَوْقَ صَفْحَتِهِ
…
غَمَامَةٌ بَرْقُهاَ الَّلَّماعُ غَرَّارُ
لَا تَحْسَبيِ جفَنَكِ الْمَكْحُولَ تَمْنعُهُ
…
مِنْ أَنْ يَصُولَ عَلَى الْعُشَّاقِ أَسْتاَرُ
السَّيْفُ فيِ الْغِمْدِ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ
…
وَسَيْفُ جَفْنِكِ فيِ الْحَاَلينِ بَتَّارُ
دَعِي عُيَوْنَكِ تَلْقاَناَ بِلَا حُجُبِ
…
فَلَلعْيُوُنِ مُناَجَاةٌ وَأَسْرارُ
وَلَا تَخَافيِ عَلَى الْمُضْنَي لَوَاحِظَهاَ
…
فَجُرْحُهُ مِنْ عُيُونِ الْعَيْنِ تَغَّارُ
لَوْ لَمْ أُحِلَّ لْمَنْ أَهْوَاهُ سَفْكَ دَمِي
…
لَمْ تَبْقَ حَسْناَء إِلاَّ وَهْيَ ليِ ثَارُ
تِلْكَ السِّهاَمُ - وَإنْ أَصْمَتْ - مُحَبَّبَةٌ
…
كَمْ مْنْ قَتِيلٍ لَهُ فيِ الْقَتْلِ أَوْطَارُ
أَغْرَي بِنَا السَّقْمَ أَنِّا فيِ صَباَبَتِناَ
…
تُخْفِي الْجَوَى وَالْمُعَنَّى الصَّبُّ صَبَّارُ
نَرَى الدَّوَاَء وَتَأْباَهُ مَكاَرِمُناَ
…
لَا خَيْرَ فيِ الْحُبِّ إِن شاَبَتْهُ أَوْزَارُ
علي الجندي
البريد الأدبي
إلى الأستاذ مندور
كتب الأستاذ محمد مندور تعقيباً، على كلمتي المنشورة بالعدد 486 من الرسالة، فراعني ما في تعقيبه من انحراف عن جادة الحق؛ ووقع في نفسي أن أبين له ما انساق إليه من تعسف واجتلاب للنقد. فقد التجأ الكاتب إلى أساليب ملتوية معقدة، يبرر بها نفسه، وينفي عنه الخطأ، كأنما عز عليه أن يسلم بخطاه؛ وهو لو أنصف لعلم أن ليس مما يحط من قدره أن يخطئ، وإنما يحط منه أن يصر على خطأه ويكابر فيه. ولا ريب أن الأستاذ يعرف المثل اللاتيني القائل: إن من طبيعة الإنسان أن يخطئ: والخطأ كثيراً ما يكون طريق الصواب كما يقول ليبنتز
بيد أن الأستاذ مندور - وقد أغرم بالسوفسطائية - شاء ألا ينهج نهج الميغاريين الذين نزعوا منزع السوفسطائيين، فكانوا في جدلهم لا يرمون إلى معرفة الحق والتوصل إليه، وإنما يهتم الواحد منهم بشيء واحد فقط؛ هو أن يجمل خصمه ينقطع. ومن أجل هذا رأيناه يتصدى للرد على كل معترض عليه، ولا يتوخى الحق في هذا الرد، وإنما يهتم بأن ينفي عنه الخطأ، مهما كان في ذلك من التجني على الحق!
لقد قلنا له أن قوله (عثرت به) بمعنى ملاقاته اتفاقاً، ليس تعبيراً عربياً صحيحاً، إذ الصواب أن يقال:(عثرت عليه). فعاد الأستاذ يقول: (فأما عن (عثرت به) فقد قلت أن المعنى الذي أريد التعبير عنه هو العثور بالشيء أي ملاقاته اتفاقاً، ولم أرد (العثور عليه) أي الاطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبذة لا أدعيها). ولو إنه كلف نفسه عناء البحث في المعاجم اللغوية، لما اضطرنا إلى العودة إلى هذا الموضوع مرة أخرى. . . ولكنه يطلق أحكامه إطلاقاً، ولا يستقصي المصادر ليتحقق مما يقول، بل يكتفي بأن يقول في جرأة غريبة:(والذي يدهشني هو تفضل هؤلاء العلماء بلفت نظري إلى مختار الصحاح ودوائر المعارف وتراكيب اللغة الإنجليزية، وهذه كلها مراجع ما كنت أحلم بوجودها). فنحن لم نرتجل أحكامنا ارتجالاً، ولم نطلق أقوالنا اعتباطاً، بل استقصينا المراجع استقصاء شاملاً، ثم أعلنا من بعد نتيجة بحثنا واستقصائنا. وإذا كنا قد أشفقنا على الأستاذ مندور، فكفيناه مؤونة البحث، وعرضنا عليه النتيجة التي توصلنا إليها دون أن
نحشد له أقوال أصحاب المعاجم ورجال اللغة، فما ذلك إلا لأننا نعلم علم الواثق، أنه يدرك ذلك باعتباره باحثاً قد خبر الحياة العلمية وعرف ما يستلزمه البحث العلمي
ومع ذلك، فإننا نروي للأستاذ مندور فيما يلي ما جاء في المعاجم اللغوية تحت مادة (عثر): جاء في (لسان العرب): (عثر يعثر عثراً وعثاراً وتعثر كبا. . . والعثرة الزلة، ويقال عثر به فرسه فسقط، وتعثر لسانه تلعثم. . . وعثر على الأمر يعثر عثراً وعثوراً اطلع وأعثرته عليه أطلعته، وفي التنزيل العزيز: وكذلك أعثرنا عليهم، أي أعثرنا عليهم غيرهم فحذف المفعول، وقال تعالى فإن عثر على أنهما استحقا إثماً، معناه فإن اطلع على أنهما قد خانا. . . الخ)
وجاء في القاموس المحيط: (والعثور الاطلاع كالعثر، وأعثره أطلعه. . . الخ) وجاء في صحاح الجوهري: (العثرة الزلة، وقد عثر في ثوبه يعثر عثارا؛ يقال عثر به فرسه فسقط، وعثر عليه أيضاً يعثر عثراً وعثوراً، أي اطلع عليه. وأعثره عليه غيره أطلعه، ومنه قوله تعالى: وكذلك أعثرنا عليهم. . . الخ)
وجاء في أساس البلاغة للزمخشري: (. . . ومن المجاز: عثر في كلامه وتعثر. وأقال الله عثرتك. وعثر الزمان به. وجد عثور. . . وعثر على كذا: اطلع عليه. وأعثره على كذا: أطلعه. وأعثره على أصحابه: دله عليهم. . . الخ)
وفي أقرب الموارد للشرتوني: (عثر على السر وغيره: اطلع عليه وعلمه. وعثر به فرسه فسقط ومنه يقال عثر جده أي بخته تعس وذهب أمره وهلك. . . وعثر بهم الزمان: أخفى عليهم. . . وأعثر فلاناً على السر وغيره: أطلعه. . . الخ)
فكل هذه المعاجم إذن تتفق في القول بأن معنى (عثرت عليه) هو اطلعت عليه أو وقفت عليه. ولا يفيد الاطلاع معنى البحث والجهبذة - كما يتوهم الأستاذ مندور - وإنما معناه ملاقاة الشيء والوقوف عليه. لأن أصل الكلمة (اطلّع) مأخوذ من (طالع) بمعنى نظر كما يقال: أتيت قومي فطالعتهم، أي نظرت ما عندهم. . .
وزيادة في تأكيد المعنى وإيضاحه، أنقل للأستاذ مندور عن المعجم الذي وضعه المستشرق (وليم لين ' - ما جاء تحت مادة (عثر):
(. . . (عثر عليه). . . ; ;) ، ، ; ; ; ; ،
فمن هذا يتضح أن العثور على الشيء يفيد معنى ملاقاته اتفاقاً، حتى أن هناك تعبيراً مشتقاً من هذه الكلمة وهو (عثري) يوضح هذا المعنى بشكل أظهر، إذ ورد في لسان العرب:(هو من عثري النخل، سمى به لأنه لا يحتاج في سقيه إلى تعب بدالية وغيرها، كأنه عثر على الماء عثراً بلا عمل من صاحبه). فالعثور إذن لا يفيد معنى العلم والجهبذة؛ وهو المعنى الذي شاء تواضع الأستاذ مندور أن ينفيه عن نفسه، وإنما يفيد معنى الملاقاة العرضية التي تتم بغير قصد
وأما (عثر به) بهذا المعنى، فلم أجدها في أي معجم من المعاجم التي رجعت إليها، وأحسب أنها من اختراع الأستاذ الفاضل، وقد كان موفقاً في التمثيل لها بعبارة من صوغه فقال:(. . . كما يعثر حافر الجواد بأحد الكنوز. . .)!
بقيت مسألة أحب أن أقف عندها وقفة طويلة، وتلك هي مسألة الحرية اللغوية التي يدعو إليها الكاتب، وقد سبق لي أن أشرت إلى هذه المسألة إشارة غامضة، ولكني أحب أن أعود إليها فأسهب في الحديث عنها، حتى أعرف ماذا يقصد الأستاذ مندور بقوله:(إن مسألة الصحة والخطأ في اللغات أصبحت مسألة تافهة لا يحرص عليها في غير مجال التعليم المدرسي). وماذا يعني بقوله: (وإذن فكلام الكرملي وكلام زكريا إبراهيم حذلقة (كذا) تافهة، ومماحكات لا علاقة لها بمناهج البحث في اللغات التي لم تعد تقريرية في شيء)؟
ولما كان المجال لا يتسع هنا للحديث عن هذه المسألة الهامة، فإني أرجئ الكلام عنها إلى عدد قادم، كما أرجئ التعقيب على رأي الأستاذ مندور في تعريب الأسماء الأعجمية إلى حين يقرأ الأستاذ الفاضل البحث الذي وجهت نظره إليه، ولعلي يومئذ لا أكون بحاجة إلى التعقيب أصلاً
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
حول اختلاف القراءات في القرآن
من المعلوم أن المسلمين على عهد الرسول كانوا يتلقون القرآن منه سماعاً، ويطوون صدورهم عليه حفظاً وفهماً، دون ما حاجة منهم إلى النظر في شيء من آياته مخطوطاً. .
والقراءات التي من أمثالها (فتثبتوا) بدل (فتبينوا) و (وعدها أباه) بدل (وعدها إياه) لا ترجع في تعليلها إلى اختلاف لهجات العرب - كما يقول صادقاً الأستاذ عبد المتعال الصعيدي - وإنما هي إلى باب التصحيف أقرب؛ وقد نص على ذلك بعض العلماء كما سنذكره.
والتصحيف كما يجده اللغويون هو: (أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب)، راجع قول السيوطي في المزهر.
فالتصحيف إذن خطأ منشؤه الوهم؛ ولا ينبغي أن نتبعه إلا ريثما نهتدي إلى النطق الصحيح فنعدل إليه. . .
والآن يحق لنا أن نتساءل: كيف وقعت هذه التصحيفات على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تكن حاجة المسلمين يومئذ ماسة إلى القراءة في صحيفة، استغناء منهم بقراءة الرسول وقراءة أصحابه ممن أجادوا النقل عنه؟. . . وإذا كانت تلك التصحيفات قد وقعت بعد عهد الرسول، فكيف راجت وتداولتها ألسن القراء حتى أصبحت من القراءات المعروفة، مع أنها تصحيف كان ينبغي العدول عنه بمجرد الوقوف عليه؟. . . لا نستطيع أن نؤيد الأستاذ عبد المتعال في قوله:(لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يعين أمثال تلك المواضع، أو كانت ترد إليه فيقر ما يراه منها) لأن هذا إنما كان يحدث في المواضع التي تختلف فيها اللهجات؛ فتقرأ اللفظة بأكثر من لهجة واحدة تخفيفاً عن مسلمي العرب من مختلف القبائل، ولاسيما أن المعنى في كل ذلك واحد لا يتغير. أما أن يحدث هذا في مثل قوله: وعدها أباه معدولاً بها عن وعدها إياه، وقوله فتثبتوا بدل فتبينوا، مما لا يبدو فيه اختلاف في اللهجة مع ثبوت التغير في المعنى؛ فذلك أمر يحتاج إلى بحث دقيق وتمحيص واف حتى نعرف عن يقين مأتى هذه القراءات وأصل اعتمادها.
ويهمنا هنا أن نقول إنه إذا كان بعض المفسرين يعدون هذه الأمثلة من القراءات، كالزمخشري صاحب الكشاف، فإن آخرين من جلة العلماء يعتبرونها تصحيفاً، كجلال الدين السيوطي صاحب (المزهر) التي ادرج أمثلة منها ضمن الفصل الذي عقده بعنوان (التصحيف والتحريف) ص230 ج2 من كتابه. قال - نقلاً عن بعض المجاميع -:
(صحف حماد بن الزبرقان ثلاثة ألفاظ في القرآن لو قرء بها لكانت صواباً، وذلك أنه حفظ القرآن من مصحف ولم يقرأه على أحد. واللفظ الأول (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه) يريد إياه. والثاني (بل الذين كفروا في غِرة وشقاق) والثالث (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه)) انتهى ما أورده السيوطي - ويفهم من العبارة أن مثل هذه الأمثلة لم تكن تعتبر قراءة أصلاً عند عدد من العلماء. فلعل بعض أشياخنا من ذوي التثبت والإلمام بهذا الموضوع، يدلي لنا برأي يكون فيه الشفاء والاكتفاء. . .
(جرجا)
محمود عزت عرفة
رابطة العروبة
تكونت في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول رابطة باسم (رابطة العروبة) قوامها طلبة الأقطار العربية الملتحقين بالكلية وبعض من طلبتها المصريين العرب
أغراضها:
1 -
العمل بكل الطرق المجدية والوسائل الفعالة على تحقيق الوحدة العربية المنشودة
2 -
توثيق صلاة الأخوة والثقافة بين الطلبة المصريين وطلبة الأقطار العربية الشقيقة في مصر وخارجها
3 -
تنظيم رحلات سنوية إلى سائر البلاد العربية
4 -
الدعوة إلى عقد مؤتمرات دورية لطلبة الجامعات العربية في مختلف أقطارهم للبحث في توحيد الثقافة وشتى النواحي والشؤون العربية الهامة
5 -
تنظيم محاضرات يلقيها كبار رجال العروبة في مصر عن كيفية معالجة الأحوال الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد العربية تمهيداً لتحقيق وحدتها
6 -
تنظيم رحلات علمية أسبوعية إلى بلدان القطر المصري
فمن يود الاشتراك في هذه الرابطة من طلبة الكلية كأعضاء عاملين أو من غيرها كأعضاء فخريين عليه المبادرة إلى قيد اسمه في سجل الرابطة الموجود مع القائم بأعمالها الطالب (منيب الماضي) بكلية الحقوق