المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 49 - بتاريخ: 11 - 06 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٤٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 49

- بتاريخ: 11 - 06 - 1934

ص: -1

‌الامتيازات والدين

. . . حتى على حرم الدين، وموئل علومه، ومعقل آدابه، تعتدي الامتيازات الأجنبية المشئومة!! فقد حدثني من لا يجهل ولا يكذب، أن طالباً من جنوب أفريقية، يطلب العلم في أحد المعاهد الدينية، دهمه الامتحان وهو في سكرة النعيم المصري الخالص من الأذى والمن، فلم يجد في رأسه غير وساوس الشباب وغماغم الهوى، ففزع إلى الكتاب ينقل منه نص الجواب، فأخذته عين المراقب! ثم كان ما يقتضيه القانون والخلق والنظام في مثل هذه الحال من طرد التلميذ وإلغاء امتحانه.

ولكن جنوب أفريقية - وأرجو أن تتذكر - له على شمالها امتيازات بالواسطة، يُدل بها على مصر ادلال الخادم بسطوة سيده، ويصول بسيفها صولة العبد بسيف مولاه! حملها أبو الغلام على ظهره عشية الحادث، وراح يهدج بها في فناء الدار المشرفة على النيل وعلى أمة النيل، فاهتزت الدار لشكواهِ حفاظاً وأنفة، وأقبلت حجرات الحراس على حجرات الخدم يتساءلن: أين إذن الامتياز إذا تساوى الأجنبي والوطني في قانون عام؟ وأين إذن الامتياز إذا جرى المحمى والمصري في الأمر على منهاج واحد؟!

وفي الصباح الباكر كان مدير المعهد جالساً إلى مكتبه يذكر الله على إيقاع المسبحة، وذِكْر الله تطمئن به القلوب وتشجع به الأنفس، ولكن جرس التليفون كان اليوم على ما خيل إلى المدير أحدّ رنيناً، وأشد صلصلة، فزعزع القلب المطمئن، وضعضع النفس القوية!

- ألو! ألو! مَن؟

- الإدارة العليا! أعد إلى الامتحان الطالب الذي أخرجته منه أمس

- كيف وقد غش في الإجابة، وضبطت معه أداة الغش، وضاع من أيام امتحانه يوم، وذهب من هذا النهار حصة، وأعلن إلى الملأ أمر رفضه؟؟

- أعد هذا الطالب من غير مناقشة!!

وكانت اللهجة حاسمة، والإجابة مفحمة، فخرس التليفون، وخشع المدير، وتقاصر المكتب، وخزى القانون، وبُهت الخلق، وعجب المدرسون والطلاب إذ رأوا التلميذ الذي طرد بالأمس، يعود إلى مكانه اليوم وهو أضخم مما كان جثة وانضر طلعة وأطول رقبة!!

تخالست العيون نظرات العجب، وتبادلت الشفاه بسمات السؤال، ولكن المكاتب الرسمية ظلت واجمة، والأسباب السحرية الرهيبة بقيت محجوبة، حتى أذن الله لها أن تظهر،

ص: 1

فسكنت طبيعة المعهد، وركدت ريح الفناء، وثقلت حرارة الجو، وأخذ الدارَ ما يأخذ الأرضَ قبيل هبوب العاصفة!

وهنالك اقتحم الدار ذلك الأفريقي الذي رأيناه بالأمس يقرع الباب الأحمر، والامتيازات تجأر بالشكوى على ظهره، ثم أثار من حلقه عاصفة هوجاء ترمي بالسباب والسفه، فلم تدع كرامة على منصة، ولا مهابة على مكتب، ولا جلالة في الإدارة، حتى تناولتها بالعيب والزراية

من الذي جرؤ على أن يطرد ابني يا. . . . . أين ذهبت أوامركم بالأمس؟ ما حال قوانينكم اليوم؟ كيف ترفعون رءوسكم غداً؟ ثم تربد وجه الرجل وتزبد فوه فأرسل على القوم من فحش البذاء ما نحمد الله على الجهل برسمه حتى نكتبه!

برح الخفاء واستعلن السر، فسكن القوم سكون الطير في ثورة الطبيعة! فلما هدأت زمجرة الأسود الممتاز، وانصرف عنهم انصراف الليل المرعد عن الصباح الوديع، أفاقت الطير من دوُار الزوبعة، وفزعت إلىالإدارة العليا تستصرخها للكرامة، وتستعديها على الرجل، وتسألها أن تعارض شكاية بشكاية، وتقول في حرارة الموتور ومرارة النادم: لقد قال الرجل فأسرف، وسكتنا فأسرفنا!

وتشاء المصادفات العجيبة أن يكون بين يدي الإدارة آنئذ دلَو من الماء النمير البارد فتلقيه على ثورة الغضاب فتقر! ثم قالت لهم بتلك اللهجة الحاسمة والإشارة الحازمة:

نعما فعلتم! الحلم سيد الأخلاق

كان رجال الدين في العهود العزيزة مفزع الفضيلة المروعة، وملجأ الفضل المضطهد. يبغي الحاكم، ويجحف السلطان، ويطغى المستبد، حتى إذابلغوهم شدوا الشكيمة، وردوا الجماح، واستقاموا على الطريقة. ثم كانوا في حضرتهم يستكينون لسلطان الدين، وسيطرة الضمير، وعزة القناعة، وصراحة الخلق، وشجاعة القلب، وإعلان الحق في وجه الباطل وإن ذهبت عليه الدنيا، وأريقت في سبيله النفس

وكان من ورع رجال الدين في الأزمان الصالحة سياج على حمى الشريعة، يرد عنها خبائث الطمع، ونقائص المادة، فلا تُسخر للظلم، ولا تُستخدم للحكم، ولا تُستغل للهوى، وكانت كلمة العالم هي كلمة الله، يقولها فتعنو لها الجباه، وتجمد لها الشفاه، ويستقيم بها

ص: 2

ميزان العدل.

فلما ابتلى المؤمنون بنفاق الحياة، وفُتن المتقون بزهرة الدنيا، وذل العلماء لشهوة الترف، فرغبوا في وجاهة المظهر، وفراهة المركب، ورفاهة العيش، سلبهم الله ميراث النبوة، وحرمهم جلالة الدين، فأصبحوا كسائر الناس، يجري عليهم ما يجري على غيرهم من ذل الامتيازات، وغل الحزازات، وعنت السياسة

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظموه في النفوس لعظما

احمد حسن الزيات

ص: 3

(النيل)

تعيد مجدنا البحري

لكاتب كبير

بعد أيام قلائل - في يوم الجمعة 15 يونيه - تسير الباخرة المصرية (النيل) من ثغر الإسكندرية إلىنابل (نابولي) ثم إلى مرسيليا. وهذه الرحلة الأولى لباخرة مصرية كبيرة في عباب البحر الأبيض المتوسط، يجب أن تثير في نفوسنا كثيراً من الذكريات المجيدة. ذلك أن (النيل) تصل بهذا الفتح البحري الميمون ما انقطع من عصور السيادة البحرية المصرية في لجة هذا البحر الخالد؛ فمنذ قرون بعيدة كانت مصر تتبوأ في التجارة البحرية، كما تتبوأ في القوى البحرية مركزاً ممتازا، وكانت السفن المصرية تتردد بين الإسكندرية ودمياط وبين ثغور الشرق حتى قاصية البحر الأسود، والثغور الإيطالية، ثم ثغور المغرب والأندلس في الطرف الأخير من البحر الأبيض المتوسط، وكانت تساهم بأعظم قسط في النقل البحري ما بين أوربا والشرق، وتمر بثغورها معظم تجارة الشرق الأقصى. وكانت بين الإسكندرية وقسطنطينية، وبينها وبين البندقية وجنوة خطوط بحرية منظمة، والسفن المصرية تقطع لجة هذه المياة ذهاباً وإياباً، وعلم مصر الإسلامية دائم الخفوق في هذا العباب

ولقد تبوأت مصر الإسلامية مركزاً ممتازاً في السيادة البحرية منذ القرن الأول للهجرة؛ وكانت السفن المصرية والبحارة المصريون عماد الفتوحات الإسلامية البحرية الأولى في شرق البحر الأبيض: في رودس وقبرس واقريطش؛ وكان العرب قبل فتح مصر يخشون البحر وأهواله، فلما فتحوا مصر، وأدركوا أهمية مركزها البحري، اتخذوا من الإسكندرية قاعدة لحشد الأساطيل، والفتوحات البحرية؛ وكان لبحارة الإسكندرية شهرة خاصة؛ وكانت تدرب بينهم خيرة الضباط والجنود البحريين. ولما سار العرب لحصار قسطنطينية للمرة الرابعة سنة 99هـ (717م)، وحل بهم الضيق تحت أسوار المدينة المحصورة، حشدت سفن المدد في الإسكندرية، وسيرها البحارة المصريون إلى مياه المرمرة. وكان للسفن المصرية والبحارة المصريين دائماً أكبر نصيب في الفتوحات البحرية التي كانت تسير إلى ثغور الدولة البيزنطية وجزائر بحر إيجه. وظهرت براعة المصريين البحرية في عشرات

ص: 4

المعارك أثناء الحروب والحملات الصليبية التي كانت تهبط دائماً على الشواطئ المصرية، في الإسكندرية ودمياط، ثم في يافا وعسقلان وعكا، وقد كانت يومئذ ثغوراً مصرية. وتاريخ مصر الإسلامية حافل بهذه الصفحات المجيدة من تاريخنا البحري.

أما عن الملاحة التجارية فقد كانت مصر إلى جانب البندقية تتبوأ مركز الزعامة والسيادة في البحر الأبيض المتوسط، وكانت البندقية تسيطر على الطرق الشمالية والشرقية إلى ثغور المرمرة والبحر إلاسود، بينما كانت مصر تسيطر على الطرق الجنوبية، والجنوبية الشرقية؛ وكانت العلائق بين الثغور المصرية، والثغور الإيطالية ولاسيما البندقية وبارى ونابل وجنوه في منتهى الانتظام، وكانت المعاهدات التجارية والبحرية تعقد بين مصر والدول الإيطالية في كل العصور والدول. ولم تفقد مصر أهميتها البحرية والتجارية إلا بعد اكتشاف طريق الهند في أواخر القرن الخامس عشر، ثم الفتح العثماني الذي انتهى بالقضاء على جميع قواها ومواردها وحضارتها الزاهرة.

وفي عصر محمد علي استعادت مصر شيئاً من نشاطها البحري، فأنشئ الأسطول المصري، واستأنف البحارة المصريون جهادهم المجيد في المياه اليونانية. ولكن أوربا النصرانية لم تشأ أن تعود مصر الإسلامية فتساهم بقسط في السيادة البحرية في شرق البحر الأبيض، فائتمرت بالأسطول المصري فحطموه في (نافارين)؛ وكان محمد علي أكثر عناية بإنشاء السفن الحربية، فلم تتقدم الملاحة التجارية يومئذ تقدماً يذكر. وكان القضاء على الأسطول المصري في نافارين خاتمة عصر قصير من الإحياء البحري.

وهاهي ذي مصر تستأنف اليوم بعد مائة عام أخرى، نشاطها البحري؛ وتعود البواخر المصرية، فتشق لجة البحر الأبيض جيئة وذهاباً. والفضل في ذلك يرجع إلى نشاط ذلك الصرح القومي العزيز - بنك مص -؛ وهاهي (النيل) تعود فتحمل علم مصر الإسلامية خفاقاً في ذلك العباب الذي بقيت السفن المصرية قروناً تمتطي صهوته، وتجوس خلاله في عزة وفخار.

إن مصر تستأنف نشاطها البحري في ميدان السلم، لا في ميدان الحرب؛ وليس غريباً أن يكون لها بواخر تشق العباب، ولكن الغريب أن لا يكون لها بواخر، وثغورها محط البواخر الأجنبية من أقاصي العالم. . . .

ص: 5

‌في مدينة بروسة

للدكتور عبد الوهاب عزام

هذه بروسة الجميلة تشرف العين على سهلها المشجر، تلوح سقوفها المسنّمة من خلال أشجارها منثورة في سفح الجبل وحضيضه. وهذا (يشيل جامع) الذي شاده السلطان العظيم (مجدّد الدولة) محمد بن بايزيد، وهو الذي اختاره القدر، بعد أن تقسمت اخوته الخطوب، ليجمع شتات الدولة بعد أن انفرط عقدها في موقعة أنقرة، وثوت الصاعقة رهن المحبس والقيد وبعد أن تنازع أشبال بايزيد ميراث أبيهم، وتمادى بهم الخلاف بضعة عشر عاماً. لقد قدر لمحمد أن يستأنف المسير في سبيل المجد الذي سلكه آباؤه. أين محمد ومجد محمد؟ تجيبك هذه القبة الخضراء وراء المسجد. فهناك رفات السلطان وبعض أبنائه.

وانظر إلى اليمن فهذا المسجد المشرف بين الأشجار على السفح، والذي يحاول السرو الباسق حوله أن يطاول منارتيه، هو مسجد الأمير محمد البخاري وهذه قبة ضريحه. وكم تحت هذه الأشجار من قبور عاذت بقبر هذا الرجل الصالح. ولله هذا الرجل العظيم، فما ينسى له التاريخ صرامته في الحق، ومجابهة السلطان بالنصح واللوم.

كان السلطان بايزيد يتهم بالخمر، فلما بنى مسجده الكبير دعا الأمير البخاري ليراه، وبيناهما يقلبان النظر في المسجد قال السلطان للشيخ: ما ترى في هذا المسجد العظيم؟ قال: حسن، ولكن لابد أن تقام في كل زاوية من زواياه حانة ليأتي السلطان إليه!

وأرى ذات اليمين جامع بايزيد تلوح قبتاه ومنارته، وبجانبه قبة تحنو على قبر السلطان العظيم. سطور من الخطوب والعبر لا تجد العين منها مهرباً.

ألا ترى إلى اليسار (أدلو جامع) ذا العشرين قبة؟ هذه قبته الكبيرة التي تنفذ الأضواء منها إلى الحوض الكبير، فيسيل عليه النور في ماء النافورة المنبجس ليل نهار؛ وكأن خريرها دعوة إلى الصلاة لا تفتر، وتسبيح مع المسبحين لا يصمت. وماذا على جدران هذا المسجد من بدائع الخط وسطور الجمال؟ لقد افتن الكتاب على مر العصور في تزيينها بكل آية من الخط الجميل، وإنها لحجة قائمة على الذين يريدون هجر الخط العربي إلى الكتابة اللاتينية. وكلما أدرت عيني في هذا المسرح الرائع عادت إلى هاتين المنارتين البيضاويتين المشرفتين على الجامع كأنهما شمعتان. وكل مآذن بروسة تشبه الشمعات، وما

ص: 7

أشبه المآذن بالمصابيح: تهدي في ظلمات الضلال، وبحق سميت منارات.

وانظر هذا البرج البعيد على سفح الجبل في مكان من القلعة القديمة حيث قبرا الرجلين العظيمين عثمان وأورخان.

لست أرى جامع مراد الثاني وضريحه والقبور التي أطافت به وبينها قبر جم الأمير التعيس، ولا أبصر جامع مراد خداوند كار شهيد قوصوه، ولا قبر مشرفا على السهل منطوياً على سره وجلاله، ولا ينابيع المياه الحارة والباردة منبجسة بفنائه. وما أجمل ينابيع الماء في بروسة مساجدها وطرقها تلقى السائر حيثما توجه متدفقة بالحياة ليلا ونهارا.

وأين مسجد أورخان أقدم مساجد بروسة؟ غيبه عن عيني الجبل والشجر، ولكنه لم يغب عن القلب وجه المتواضع

وليت شعري ما خطب هذه المآذن الصغيرة، والقباب الخاملة المنثورة في المدينة؟ بناها قوم لم يبلغوا من حظ الدنيا ونباهة الذكر ما بلغ هؤلاء. ولعلهم كانوا أسعد حياة، وأعظم عند الله شأناً. وإن الجاه والمجد والسلطان وما يحيط بها من ضوضاء هذه الحياة لأسوأ ما يكافأ به الرجل الطيب ذو النفس الزكية في هذا العالم. فلا تأس على ما فات الصالحين من جلبة هذه السوق.

لا تقع عيني في مجلسي هذا إلا على أكداس من العبر، وأسطار من حظوظ البشر. وما أشقى هذه النفوس التي لا تقلب بصرها في هذا العالم إلا لتقرأ ما وراء صوره من عظات وآلام، يا لها ذكريات تجيش لها النفس، وينطلق بها الفكر في مسالك يعيا بها جهد المفكر.

لله بروسة الجميلة سهلها وجبلها، ودورها وشجرها، ولله فيها هذا التاريخ العظيم يملأ أرجاءها، ولله هذه النفس، كلما خلت وطلبت للفراغ مجلساً انهال عليها من العَبر والفكَر ما يكدّرها ويحزنها، وينفر بها عن الناس، ويسمو بها في معارج من الحقائق والخيال تلتبس فيها السعادة والشقاء.

أيها القلم حسبك، فما يتركني الناس أبلغ من خلوتي غايتها. فهاهم قد أقبلوا يتحدثون، وها هي أصوات النرد تُطير عنّي أسراب الأفكار. وقديماً قال أبو العلاء:

حوربتُ في كل مطلوب هممت به

حتى زهدتُ فما خُلّيت والزهدا

إيه يا بروسة والدنيا غِيَر، والدهر قُلّب! ليت شعري، وأنا أحبك، وأود لو إنفسح الزمان

ص: 8

للإقامة فيك أياماً، لتبلغ النفس من جمالك وجلالك أمانيها - ليت شعري أأراك مرة أخرى، أم تلك جلسة التسليم والتوديع إلى الأبد؟!. إنما العلم عند الله، وما نحن إلا ظلال متنقلة ليس لها من الأمر شيء.

عبد الوهاب عزام

ص: 9

‌قصاصات الورق

خمسة عشر عاماً بعد فرساي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

مازالت الحرب الكبرى توصف بأنها أشنع وأروع مآسي التاريخ، ومازالت مصائبها وعبرها وآثارها المخربة ماثلة في أمم وشعوب كثيرة؛ وكنا إلى أعوام قلائل فقط نسمع أقطاب السياسة الدولية يؤكدون أن الدرس الأليم الذي ألقته الحرب على الدول والأمم العظمى لا يمكن أن يمر دون أن يحدث أثره؛ وأن الشعوب أشد ما يكون اليوم زهداً في خوض الحرب والتعرض لويلاتها المروعة؛ وكنا نشهد ابتهاج الساسة والحكومات كلما عقد ميثاق جديد بعدم الاعتداء بين دولتين أو أكثر، أو حلت مشكلة دولية صغيرة على يد عصبة الأمم بطريق التحكيم والحسنى، أو ظهرت بوادر تفاهم ووئام بين خصوم الأمس؛ كنا نشهد ذلك وأمثاله خلال الأعوام التي تلت الحرب، فيخيل إلينا أن نزعة الحرب والاعتداء قد ضعفت، وأن عقلية الشعوب قد تبدلت، وأن العالم مقبل على عصر جديد، تتبوأ فيه قضية السلام مكانها اللائق، وتغيض فيه الخصومات والأحقاد القومية القديمة، ويسود الوئام والحسنى بين الشعوب.

ولكنا نشهد اليوم منظراً آخر؛ فان الأفق الدولي يفيض بالتشاؤم، وعلائق الدول المختلفة في اضطراب دائم، وعبارات الوعيد والحرب والانتقام تتردد في بعض الدوائر، وأحياناً يلوح بها بعض الساسة المسئولين؛ وهنالك بعض المسائل الخطيرة التي خلفتها الحرب الكبرى مثل مشكلة نزع السلاح، ومسألة السار، ومسائل الحدود والأقليات، ومسألة المستعمران الألمانية وغيرها تزداد اليوم خطورة وتعقيدا، بل إنا لنشهد اليوم انتحار مؤتمر نزع السلاح في جنيف، وهو ذلك المؤتمر الذي علقت عليه قبل بضعة أعوام آمال كبيرة في تخفيض التسليح والتقريب بين الأمم، ونشهد عصبة الأمم تفقد هيبتها الدولية وتنحدر بسرعة إلى زاوية النسيان، وهي الصرح الذي هللت له الأمم يوم إنشائه، وقيل إنه سيكون منارة السلام العالمي والعدالة الدولية، وملاذ الأمم الضعيفة والمظلومة. والخلاصة أن تلك الآمال العريضة التي ساورت العالم حيناً عقب دروس الحرب الأليمة في أن تعتبر الأمم بتلك العبر القاسية وبتلك الضحايا الهائلة، وتغلب الروية والتفاهم في حسم مشاكلها، قد أخذت في

ص: 10

الأعوام الأخيرة تنهار تباعا، ولا نكاد نلمس اليوم من آثارها شيئاً.

لقد اختتمت الحرب الكبرى بعدة معاهدات للصلح بين الأمم المتحاربة، أعظمها وأهمها معاهدة فرساي، التي أريد أن تكون دستوراً جامعاً لتنظيم أوربا الجديدة سواء من الوجهة الجغرافية، أو العسكرية أو الاقتصادية. ولكن معاهدات الصلح، كأية معاهدة يعقدها الغالب مع المغلوب، أو بعبارة أخرى يمليها الغالب على المغلوب، لم تخل من المبالغة والاغراق، ولم تحرص على مراعاة الحقائق التاريخية الخالدة، ولم تراع العواطف القومية لأمم عظيمة، وإنما روعي فيها قبل كل شيء أن تحقق شهوات الظافرين ومطامعهم وخططهم في تمزيق الأمم المغلوبة وتحطيم قواها ومواردها. ففي معاهدة فرساي أرغمت ألمانيا على الإقرار بأنها مسئولة عن آثار الحرب الكبرى، وألزمت بناء على ذلك بدفع تعويضات الحرب الهائلة، ونص على تجريدها من السلاح، وتدمير أسطولها، وانتزعت منها الألزاس واللورين لترد إلى فرنسا، كما انتزعت سيليزيا العليا، ودانتزج، ووادي السار، وفرضت عليها غير ذلك قروض مرهقة كثيرة؛ وفي معاهدة سان جرمان حلت إمبراطورية النمسا والمجر القديمة لتقوم على أنقاضها عدة دول جديدة، انتزعت منها أراضي كثيرة لتعطي لإيطاليا ويوجوسلافيا ورومانيا؛ هكذا غيرت معاهدات الصلح حدود أوربا القديمة، وأثارت في كل مكان مشاكل الأقليلات القومية، ودفعت بالشعوب المغلوبة إلى غمار البؤس والفاقة، وأثارت بذلك مشاكل اجتماعية خطيرة. ولم يكن يدور بخلد الساسة الذين أملوا هذه المعاهدات المرهقة على الأمم المغلوبة، أنها ستغدو منذ يوم وضعها مثاراً لمشاكل لا نهاية لها، وأنها ستنقض غير بعيد في كثير من نصوصها، وأنها ستعتبر في النهاية أصل كل متاعب أوربا الجديدة، وأنها إذااستمرت على حالها فقد تثير ضرام الحرب مرة أخرى، ولكن هذا ما وقع بالفعل، وهذا ما نشهد اليوم، فقد عدل كثير من نصوص معاهدة الصلح في الأعوام الأخيرة، وهي اليوم مثار حملات شدية، لا من ألمانيا وباقي الدول التي أرهقت بنصوصها فقط، ولكن من إيطاليا إحدى دول الحلفاء التي اشتركت في إجتناء مغانم النصر، بل أنا لنرى مستر لويد جورج أحد الأقطاب الذين وضعوا المعاهدة وأشدهم وقت وضعها وطأة على ألمانيا ينادي اليوم بفداحة الشروط التي وضعت ويقترح مثل إيطاليا تعديل المعاهدة وأدمجه الحلفاء فيها كنتيجة لنزع سلاح ألمانيا؛ وفي أواسط أوربا وشرقها

ص: 11

تثار عشرات المشاكل التي ترتبت على إجحاف معاهدات الصلح بالحقوق الجغرافية والقومية لمختلف الدول. والخلاصة ان معاهدات الصلح تغدو اليوم كالثوب المهلهل. ويغدو الأفق الدولي مثقلاً بالسحب ومختلف الاحتمالات.

قبل الحرب كانت السياسة القومية المغرقة والسلام المدجج بالسلاح، وإنشاء المحالفات العسكرية الدفاعية والهجومية، وعقد المعاهدات السرية، هي قواعد السياسة الدولية، وهي التي توجه علائق الدول بعضها ببعض. ولم تكن الفكرة في تنظيم علائق الأمم قد تقدمت يومئذ كثيراً عما كانت عليه قبل ذلك بقرون؛ فقد كانت هذه القواعد هي الغالبة في العلاقات الدولية في جميع عصور التاريخ الحديث مذ قامت أوربا الحديثة على أنقاض العصور الوسطى، بل كانت هي الغالبة في العصور الوسطى والقديمة مع فروق يسيرة في علائق السلام والحرب؛ وكانت الأطماع القومية في بسط النفوذ وإجتناء مغانم الاستعمار والتجارة هي التي تحرك الأمم بعضها ضد بعض، وكانت الحرب وسيلة فريدة لتحقيق هذه المثل؛ وقد كشفت لنا الحرب الكبرى عن المدى الذي وصلت إليه الدول العظمى ما قبل الحرب في الاعتماد على التسليح والمعاهدات السرية، وفي التنافس على اجتناء المغانم الاستعمارية واستعباد الأمم الضعيفة؛ ثم جاءت معاهدات الصلح بعد محنة الحرب دليلاً قوياً على أن هذه النزعات الخطرة لم تخمد بل أذكاها الظفر في نفوس الأمم الغالبة، على أن نزعة أخرى برزت من خلال هذه الغمار ترمى إلى العمل على التقريب بين الأمم، وتخفيف حدة الأحقاد القومية التي أثارت الحرب؛ وقد أريد أن تكون عصبة الأمم رمزاً لهذا الاتجاه الجديد؛ ولكن العصبة ولدت ميتة من هذه الناحية، واستطاعت العوامل السياسية الخفية أن تسيطر عليها منذ الساعة الأولى، وأن توجهها حيث شاءت، وأن تستغل نفوذها الدولي؛ ولما أن بدت بوادر التفاهم بين ألمانيا وخصومها بالأمس، وفازت سياسة التقرب والحسنى بعقد ميثاق لوكا رنو سنة 1925، هلل العالم مرة أخرى، واستقبل هذا الميثاق الذي يجمع بين أعداء الأمس ويقضي بتأمين منطقة الرين بين فرنسا وألمانيا، بوابل من الآمال الكبيرة، واعتقد أن الميثاق سيكون فاتحة لظفر السلام وقضيته؛ وساد في الأفق الدولي مدى حين نوع من التفاؤل، وحلت أثناء ذلك عدة مشاكل دولية خطيرة بالتفاهم والحسنى؛ ثم كانت الخطوة التالية بعقد ميثاق تحريم الحرب، أو ميثاق كيلوج سنة 1929، وهو الميثاق

ص: 12

الشهير الذي يقضي بتحريم الحرب كأساس للسياسة القومية ووسيلة لمعالجة المشاكل الدولية، ويقضي باستعمال التحكيم كوسيلة لحسم المنازعات بين الأمم، وقد جمع هذا الميثاق بين جميع الدول العظمى وبين أعداء الأمس، وانضم إليه عشرات من الدول في أوربا وأمريكا وآسيا، ووقعته مصر أيضاً، واعتبر يوم وضعه كأنه إنجيل جديد للسلام، واستقبل بأناشيد المديح والإعجاب في كل مكان؛ وكان عقد ميثاق تحريم الحرب في الواقع ذروة لظفر النزعة السلمية التي حملت الساسة والأمم في ذلك الحين؛ ولكنه كان ظفراً نظرياً فقط؛ ولم يمض سوى عام واحد حتى ظهر أن تطبيق الميثاق مستحيل من الوجهة العملية، وأنه ولد ميتاً كمشروع عصبة الأمم.

وهكذا ظهر عبث العهود والمواثيق الدولية مرة أخرى، وانهارت جميع الجهود التي بذلها أنصار السلام من الوجهة العملية؛ ولم يبق أمامنا من تراث هذا الماضي القريب سوى عصبة الأمم. ومأساة العصبة معروفة، فقد ظهر فشلها وعقمها في كل مسألة دولية خطيرة، وكل مسألة تقتضي العدالة والإنصاف، وظهر أنها أداة مسيرة في يد الدول الاستعمارية تتجاذب في داخلها النفوذ والوحي؛ وهذا مؤتمر نزع السلاح الذي أنشأته العصبة لتحقق على يده برنامجها السلمي يحتضر ويسير إلى الموت محقق. ولم يشهد العالم منذ نهاية الحرب ظرفاً أظلم فيه الأفق الدولي مثل الظرف الذي نشهد اليوم؛ فاليابان قد انسحبت من العصبة لتطلق العنان لمشاريعها الاستعمارية في الصين، وهي اليوم بتوغلها في الصين وتحديها جميع الدول الأخرى تثير خطر الحرب في الشرق الأقصى؛ وقد انسحبت ألمانيا الهتلرية أيضاً من العصبة، وهي اليوم تعود إلى تسليح نفسها متحدية خصومها بالأمس ولا سيما فرنسا، وتعمل بكل ما وسعت لإثارة الأحقاد القومية في الداخل والخارج، وفرنسا من جانبها تعود بمنتهى الشدة إلى سياستها القومية القديمة وتبذل جهوداً فادحة لتقوية جيشها وتسليحاتها، وإنكلترا وأمريكا تسيران في نفس الطريق وتعملان لتقوية التسليحات البحرية والجوية؛ وإيطاليا تقوي جيشها وتسليحاتها منذ أعوام وتلوح من آن لآخر بالحرب، ولا تخفى مطامعها الاستعمارية في آسيا وأفريقية، وروسيا السوفيتية تقف لليابان بالمرصاد في الشرق الأقصى، وتركيا تطالب بالعود إلى تحصين الدردنيل بعد أن قضت معاهدة لوزان بنزع سلاحه؛ وتجري في القارة من أقصاها إلى أقصاها حركة انزعاج وتوجس، وتجري

ص: 13

مختلف المفاوضات بين دول البلقان وأوربا الوسطى ودول البلطيق، وتعقد المواثيق هنا وهناك لتنظيم الجباه السياسية والعسكرية وأحكام المحالفات، وتتنافس دول القارة العظمى أعني فرنسا وألمانيا وإيطاليا في تنظيم هذه الحركات وتسييرها.

والواقع أن التاريخ القريب يتكرر ويتصل؛ وما يجري اليوم في العالم من الأحداث السياسية والمنازعات الدولية يشبه من وجوه كثيرة ما كان يجري قبل الحرب بأعوام قلائل فقط، من تسابق الدول العظمى في التسليح والاستعداد الحربي، ومن تنافسها وتنازعها في إجتناء المغانم الاستعمارية والتجارية، ومن توتر أعصاب الحكومات والساسة، ومن العمل على إذكاء الأحقاد القومية؛ وقد ثارت في الأعوام القلائل التي سبقت الحرب بعض مشاكل دولية خطيرة كانت مقدمة لانقضاض العاصفة؛ والأفق الدولي مثقل اليوم بكثير من هذه المشاكل؛ ويكفي أن مسألة كمسألة السار قد تضرم الشرارة الأولى، كما أن مسألة أغادير كادت قبل الحرب بعامين تضرم هذه الشرارة؛ ونستطيع أن نشبه رحلة مسيو هريو رئيس وزارة فرنسا الأسبق إلى روسيا منذ عام، أو رحلة مسيو بارتو وزير خارجيتها إلى بولونيا ودول الاتفاق الصغير، برحلة مسيو بوانكاريه إلىروسيا قبيل الحرب الكبرى بأسابيع قلائل. ولقد وصفت المعاهدات الدولية في فاتحة الحرب على لسان بعض الساسة الألمان بأنها قصاصات ورق والتاريخ يؤيد هذا القول في كثير من المواطن؛ ولكن هذا القول اعتبر أثناء الحرب من الكبائر وسجل على ألمانيا ضمن الأخطار الفادحة التي بنيت عليها مسئوليتها في إثارة الحرب. أما اليوم، ونحن نشهد عقم المواثيق والعهود الدولية الكثيرة التي وضعت لتسوية المشاكل والعلائق الدولية؛ ونشهد انهيار عصبة الأمم ومؤتمر نزع السلاح، وميثاق تحريم الحرب، ومعاهدة واشنطون التي تعهدت الدول العظمى فيها بتحديد التسليح البحري، ونقض معاهدات الصلح سواء من جانب الغالب أو المغلوب، فانه يسمح لنا أن نكرر القول القديم بأن العهود والمواثيق الدولية تغدو دائماً قصاصات من الورق كلما شاءت السياسة والاعتبارات القومية.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 14

‌الأثر اليوناني في الأدب العربي

للأستاذ فخري أبو السعود

كانت الثقافة اليونانية خلاصة ثقافات البحر الأبيض القديمة: لأنها إلى جانب ما استوعبته من الحضارات الشرقية تمثل نتاج العقل اليوناني الذي كان أخصب عقل ظهر في العصر القديم. فلما مضى ذلك العصر

ودالت دولة اليونان وكان العصر الوسيط كان العرب هم السابقين إلى التعرف بالثقافة اليونانية فأخذوا من علوم اليونان وفلسفتهم، ثم تعرف الأوربيون بعدهم بتلك الثقافة في عهد النهضة، وأوسعوا علوم اليونان وفنونهم دراسة ونقلا ومحاكاة. فأغنوا بذلك علومهم وفنونهم الناشئة وشادوا على ثقافة اليونان صرح حضارتهم الحديثة.

بيد أن الذي يسترعي النظر أن العرب حين اتصلوا بثقافة اليونان اقتصروا على اقتباس بعض علومهم وفلسفتهم دون الآداب والفنون، فدرسوا أر سطو وأفلاطون، وعرفوا أبقراط وفيثاغورس، ولكنهم أهملوا هوميروس وسوفوكليس وأوربيدس، على حين لم يفرق الأوربيون بين ناحية من نواحي الحضارة اليونانية وناحية أخرى، بل أكبو على دراسة الجميع، وبينما تقدمت علومهم على مر العصور عن علوم اليونان أشواطاً بعيدة واستغنت عن معينها ظلت الآداب والفنون اليونانية مرجعاً دائماً للآداب والفنون الأوربية ومهبط وحي لا يفنى، ولم ينفك كتاب الغرب وشعراؤه إلى اليوم عن تمجيد الثقافة اليونانية والحث على الرجوع إليها دائماً، فما السر في اختلاف موقف العرب عن موقف الأوربيين حيال تراث اليونان؟

السر راجع إلى سليقة العرب المطبوعة على البيان، المفطورة على فصاحة اللسان، فان العرب نظراً لبيئتهم البدوية وحياتهم المتنقلة لم يكن لهم سوى السان أداة للتعبير عن شعورهم الفياض، فلم يكن التصوير ولا النحت ولا غيرها من الفنون ليزكو في بيئتهم تلك، ومن ثم تأصلت في العرب سجية البلاغة وارتقت بينهم مرتبة البلغاء وتوطدت لغتهم ونضج أدبهم وهم على بداوتهم وقلة حظهم من الحضارة، وكان لهم بعصبيتهم ولغتهم اعتداد شديد، فلما نهضت دولتهم بظهور الإسلام ودخلت الأمم في طاعتهم ودينهم أفواجاً ازدادوا اعتداداً بعربيتهم ولغتهم وشعرهم وقرآنهم المبين، فلم يكن في نفوسهم حافظ إلى

ص: 15

الاطلاع على آداب غيرهم ولا لديهم رغبة في التتلمذ لسواهم، بل كانوا يرون أنفسهم هم الأجدر أن يحبذوا ويؤخذ عنهم، ولقد أخذ كثير من الأمم المفتوحة لغتهم واصطنعوا أدبهم بالفعل، وأصبح الناشئون في الأدب من أبناء الأجيال التالية لا يرون أن شيئاً يوصل إلىنيل الفصاحة والحكمة وحذق الأدب وراء دراسة القرآن واستيعاب شعر فحول المتقدمين، وإنما كان العرب أميل إلى الاعتراف بالقصور وإظهار الرغبة في الأمور التي لم يكن لهم فيها إلى ذلك الوقت باع ولا يد كالعلوم والفلسفة، فلم يروا ضيراً في أخذها على أساتذة اليونان.

ولم يقتصر أثر اعتداد العرب بأدبهم وشعرهم على ذود الأدب اليوناني عنهم، بل ذاد عنهم غير الأدب من الفنون: فلقد اطلعوا في أطراف دولتهم وبلاد جيرانهم على ما كان لدى اليونان والرومان والفرس والمصريين من تصوير ونحت، فما خطر لهم أن يحاكوا شيئاً من ذلك، وكان كل ما يساور شاعرهم حين يشاهد أثراً من هاتيك الآثار أن يتمثل بطش الدهر وحلول الفناء وسقوط الجبابرة فيقول:

أين الذي الهرمان من بنيانه؟

ما قومه؟ وما يومه؟ ما المصرع؟

تتخلف الآثار عن أصحابها

حيناً ويدركها الفناء فتتبع

وما ذاك إلا لانصراف كل قوى العرب الفنية إلى ضرب واحد من الفنون هو الأدب واستغراقها فيه. فهي لا تحاول وسيلة أخرى سواه للتعبير عن نفسها، ومن ثم ظل العرب طوال عصورهم لا يعرفون من الفنون سوى الأدب والموسيقى المعتمدة عليه المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً، فلا تصوير ولا نحت ولا تمثيل، اللهم إلا ذلك الضرب الوحيد من الزخرفة ذات الأغراض العملية المحضة، ومن الخطأ نسبة انعدام تلك الفنون بين العرب إلىالدين: ففضلا عن أن الدين لا ينافي شيئاً منها فانه لم يحل دون استمتاع العرب بالموسيقى وغيرها حين أرادوا.

فالعرب إذن اتصلوا بالثقافة اليونانية في غير الوقت الملائم: في وقت متأخر، كان أدبهم فيه قد نضج وقوى، وصار له من الاعتداد بنفسه ما يثنيه عن التتلمذ لغيره، أما الآداب الغربية فعرفت تلك الثقافة في عهد طفولتها ونشأتها، وهي لما تزل عاجزة تعترف بعجزها وتتلهف إلى المعرفة حيث وجدتها، فلم تتردد في الانتفاع بتراث اليونان إلى أبعد حد،

ص: 16

فأثرت أيما إثراء بما أخذت عن اليونان من المواضيع والأشكال الأدبية، ومد الأدب اليوناني أمامها آفاق التفكير الواسعة وآماد المثل العليا وصور الجمال المختلفة، ووجدت في تاريخ اليونان وأدبهم وأساطيرهم ومنتجات فنونهم من صور وتماثيل وآثار منادح للكتابة والدرس والنظم، ومنابع للوحي لا تنضب.

فلا غرو أن طفرت تلك الآداب الغربية التي لم تكد في عهد النهضة تكون شيئاً مذكوراً، والتي كانت لغاتها ذاتها ما تزال في طور التكوين، فإذا هي بعد قرون ثلاثة أو أربعة تسبق الأدب العربي وهو أعرق منها محتداً وتفوقه اتساع آفاق وتعدد مواضيع، لأن الأدب العربي الذي م يكد يستفيد بأدب أمة أخرى ظل في مكانه جامدا يكرر نفسه ويعيد على نفسه الأبواب عينها التي جال فيها المتقدمون من فخر ورثاء ومدح وهجاء، حتى إذاكان العصر الحديث إذاهو يقف من الآداب الغربية موقف التتلمذ والتلقن.

ان تمكن ملكة البيان من العرب - مما جعلهم لا يدينون إلا لنبي يأتيهم بكتاب معجز، وجعل خلفاءهم يتخذون وزراءهم من أئمة البيان - واعتدادهم بأدبهم واستغراق مجهودهم الفني فيه وحده، هذا كله في مجموعة كان عاملا شامل الأثر بعيده في تاريخهم وأدبهم، ولقد كان أثره فيما يتعلق بالتراث اليوناني بليغ الضرر، فخسر العرب خسارة كبيرة بإغفال الأدب اليوناني الحي على توالي العصور، الشديد الإيحاء القوي التأثير، الذي كان بلا ريب أغنى من أدبهم. ولو لقح به الأدب العربي لاتسعت جوانبه وانصرف عن تلك الأغراض العلمية التي احتبس فيها إلى عوالم الفن الخالص وتغير مجرى تاريخه وأفاد العرب بذلك أضعاف ما أفادتهم دراسة الفلسفة اليونانية.

ونحن اليوم بدراسة الآداب الغربية والأخذ عنها بطريق غير مباشرة عن تلك الثقافة اليونانية، وندخل في أدبنا ذلك العنصر اليوناني الذي لابد منه لكل أدب يريد له مكاناً بين الآداب العالية، وإذا وقف شاعرنا العصري أمام الأهرام فلم ينصرف ذهنه إلى بطش الدهر بالجبارين الذين أعلوها ولم يتنبأ لها باللحاق بهم، بل حيا فيها الفن وعظم قدرة الإنسان وقال:

أهرامهم تلك حي الفن متخذاً

من الصخور بروجا فوق كيوان

لم يأخذ الليل منها والنهار سوى

ما يأخذ النمل من أركان ثهلان

ص: 17

فما ذاك إلا لأننا قد تأثرنا بتلك الروح اليونانية التي تعظم الفن الخالص في مختلف صوره وتمجد قدرة الإنسان في مصارعتها للفناء، تلك الروح التي كان أغفلها أجدادنا العرب.

فخري أبو السعود

ص: 18

‌إنما يرثها المؤمنون

أحلاف الأمل

للأستاذ أديب عباسي

الحياة كالسفينة: قلعها الأمل، ودفتها الفكر، والرابط لأجزائها واللاّم لشعثها هو الأيمان. والعقل يرسم الخطة، ويبين الاتجاه، ويدل على الطريق. والأمل شراع الحياة الذي يدفعها في أوقيانوس هذا العالم المضطرب وفوق لجه المصطخب، والذي يتلقى القوى من أين جاءته وأني واجهته ليحيلها في النهاية قوى

للدفع والانتظام في السير. أما الإيمان فهو هذا الذي يشد أضلاعها ويوثق أجزاءها، فلا يوهنها العاصف الشديد ولا يمزقها، أباد يد. وهو الذي يعدل انحناءها ويقوّم استواءها، فلا توهيها الصدمة ولا تزعزعها الزحمة. وبالقدر الذي تظفر به الحياة من توازن وائتلاف بين هذه القوى الثلاث يكون الخير والنجاح، وبالقدر الذي تتنافر وتضطرب يكون الفشل والخيبة. انظر إلى المتشائمين الصارخين في وجه الحياة الدافعين لها في الصدر، ترهم من أولئك النفر الذين كبرت عقولهم ونضبت آمالهم وتزعزع أيمانهم، فاضوا كالقارب قد تخرق قلعه، وحطمت دفته. يقابلهم المتهورون الذين لا ينزلون للعقل على حكم، ولا للمنطق على قاعدة، فتراهم يسيرون في هذه الحياة على غير توجيه يوجهونه، أو هدى يتوخونه، فلا يلبثون أن يرتطموا بصخورها الناشزة، فتتحطم آمالهم وتبخر الحقيقة أمانيهم كما تبخر الشمس أحلام النائم.

هذه هي صلة الأمل والأيمان بالفكر. وإذافإذا نحن ذكرنا أحدهما بعدئذ فإنما نذكره ونحن نضمر ونقدر الفكر. ذلك أن الأمل دون الفكر يضحى تهوراً ورعونة، والأيمان بلا عقل ملهم يمسي عناداً واشتطاطاً.

وماذا نقول بعد هذا الإجمال في دعامتي الحياة هاتين؟

نقول إن الأمل هو القوة الدافعة الكامنة في صدور الشباب، وهو النور الذي يبدد ظلام النفوس ويزيل حلكها عندما تتوالى النكبات وتتعاقب المصائب. هو ذلك المعبود الذي نصب له الرومان تمثالاً يجثون حواليه ويخشعون. وهو الإله الذي هجر رومة عندما عكفت على المادة تعبدها فسقطت سقوط شمشون في يد الشهوة. وهو الذي وقف في مضيق

ص: 19

ترموبيلي يهزأ بالقوى المادية ويفخر بالتضحية الخالدة. هو ذلك الفيض العلوي الذي كان يخوض صفوف المسلمين مردداً: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين، فكان ملء الصدور في بدر، وكان ملء الصدور في اليرموق، وكان ملء الصدور في القادسية. هو الذي يحيل الشيخ الهرم شاباً إذا حل في صدره، والشاب شيخاً إذا زايله. وان شيخاً كبرت عدته من الأمل لا تنصفه إذ تحشره في زمرة الشيوخ وان بلغ عتياً. وان شاباً هزل أمله وفتر عمله هو والشيخ الفاني سواء. فالفتوة والشباب ليسا في السنين، إنما هما في القوى الروحية السليمة. والمهزومون في معركة الحياة الهاربون من وجهها هم الدليل. هذا شيخ مرفوع الرأس مسنود الظهر، قوي الأمل كبير الثقة بالنفس، يسير بقية الطريق في غير التواء، فيصل آخر مرحلة من مراحل الجهاد لا هو بالخائر العزيمة ولا بالخالي من الزاد. وذلك شاب (بحسب السنين فقط) خاوي الأمل فاتر الهمة، يدب كما تدب السلحفاة. . . أعياه نيل الشمس واصطياد النجوم، فلم يمدد يداً إلى ما هو في متناول اليد، وتملكه اليأس، وبث له من ترقب الخيبة نطاق، فلم يحفل كثيراً بالجني القريب، ففاته كثير من الجواهر واللآلئ التي يمر بها مرّ المجانب

إذاً فمعركة الحياة الصارمة تتطلب منك يا صاح الأمل القوي تسنده العزيمة المسددة، وتفرض عليك الاندفاع والسعي، ينير سبيلهما الاستبشار والثقة. وفي الوقت الذي يكف المرء فيه عن الحركة والدؤوب يدخل في ثبت الأموات الفانين. إن خير ما تشبه به الحياة هو الدوّامة التي ما تزال تدافع فعل الجاذبية وتقاومه بقوة الاندفاع وسرعة الحركة، ولكنها إذ تبطئ وتكف عن الحركة تسقط بعد إذ كانت مستوية على قدم قائمة على ساق.

وتفرض عليك معركة الحياة أيضاً أن يكون لك هدف تسعى إليه، لا هو بالوضيع الذي لا يستثير كل ما في النفس من استعداد ولا يستنفر كل ما فيها من قوة، ولا هو بالبعيد المنبت الذي تتقطع دونه جميع الأسباب وتفشل جميع الجهود.

ثم ليكن هدفك كالأفق العريض يتجدد على السير ويتسع مع الحياة ويغري على البذل. ولا يهمنك بعدها أنجحت أم فشلت. فالفشل ليس جرماً، إنما الجرم هي الآمال المحدودة والأهداف الوضيعة. ولا تغبطنّ من هو أحط منك هدفاً وأسعد حالاً. فقد تكون أنت بحرمانك وسمو هدفك أعظم منه في نجاحه وحطة هدفه الذي إذاوصل إليه لا يلاقي وراءه

ص: 20

إلا ظلام القبر وقيد الفناء وأنت فوق هذا وذاك مكتسب من فشلك الآني منعة ضد مكروب اليأس الذي يقتل النفوس ويعصف بالرجولة.

وأخيراً - الإيمان - ماذا تقول فيه؟

نقول موجزين: إنه صفة العظماء الغالبة، ومزيتهم التي يمتازون بها عن الأوساط، ومن هم دون الأوساط. فيوليوس قيصر كان كبير الإيمان حينما قطع نهر الروبيكون واستولى على رومة بشراذم جنوده. وقد كان ضعيف الإيمان في الوصول إلى تاج الملك فذبح. وكولمب كان عظيم الإيمان، لذلك لم يفتّ في عضده كل ما قام في سبيله من صعاب، ولم يثنه أن يجد نصف العالم الذي كان مفقودا. ونابليون كان له نجم يراه في النهار ويسير بهديه. والمسيح كان كبير الإيمان، فكان يشفي المفلوجين ويقيم المقعدين. والنبي العربي كان وطيد الإيمان، فعمل لقومه في حقبة قصيرة من الزمن ما يُعجز أجيالاً ويفني آجالا.

ومن صفاته أن المؤمن يكون سريع العودة إلى ما اختطه لنفسه من طريق، ورسمه لها من مسير، بعد أن تحرفه عن ذلك رجات الحياة العنيفة وحوادثها الزاخرة. شأنه شأن الإبرة المغنطيسية - مهما بالغت الحياة في هزه، لا يلبث أن يعود سيرته الأولى ويتجه اتجاهه الأول. ذلك أن ثمة قوة حية مشبوبة فيه تتجاذب وقطب الحياة العام، قطب التقدم وارقي الذي تسير نحوه جميع الأحياء عامدة، لا تلفّ ولا تدور إلا مرغمة.

ومن صفات الإيمان أيضاً أنه لا يحتقر الأحلام، لأنها عنده أساس الحقائق وعدة الحياة. لهذا فهو رفيق جد الرفق بالصغار وما يحلمون، مؤمن جد الإيمان بما يكمن فيهم من قوى غير محدودة، واستعداد غير مُستغلّ، واندفاع غير مكبوت، ونقاء غير مرنق. وهو يقيم الدليل بعد الدليل على صدق متجهة بما أثبت التاريخ والحوادث من أن أحلام الطفولة وعبث الصبى كانت في غالبية العظماء حقائق الرجولة وعدتها إلى الحياة.

شرق الأردن

أديب عباسي

ص: 21

‌ابن الهائم المصري المقدسي

للأستاذ قدري حافظ طوقان

كنت في القدس مع بعض الإخوان في زيارة المعرض العربي الثاني، وبينما نحن على مقربة من مقبرة مأمن الله سمعت أحدهم يقول: ان هذه المقبرة تضم عدداً كبيراً من فحول العلماء، وكبار الفقهاء ورجال الدين، ممن ظهروا في أيام الحروب الصليبية وقبلها. وقد سرد بعضهم أسماء بعض هؤلاء العلماء فلم يلفت نظري إلا اسم ابن الهائم، إذ تذكرت ان هذا الاسم مرّ بي أثناء مطالعتي لبعض الكتب الإنكليزية التي تبحث في تاريخ الرياضيات، وأصبح لديّ رغبة شديدة في الكتابة عنه. رجعت إلى مكتبتي لأبحث عنه فوجدت إن ابن الهائم من الذين لم يعطوا حقهم من البحث والاستقصاء، وحياته لا تزال غامضة في تاريخ المدنية الإسلامية، وهي في أشد الحاجة إلى من يتعهد جلاءها، ويقضي على غموضها. بحثت في الكتب الصفراء وغير الصفراء، قديمها وحديثها، من عربية وتركية وإنكليزية فلم أجد إلا جملاً هنا وهناك متناثرة لا يفهم منها إلا تاريخ الولادة والوفاة، وأشياء أخرى من الصعب جمعها وتكوين جملة تفي بالغرض وتشفي غلة الباحث المنقب. على كلٍّ، وبعد بحث في كتب متنوعة أمكننا أن نحصل على ترجمة متواضعة لهذا العالم من ناحية مآثره في العلوم الرياضية آملين أن نوفق في المستقبل للكتابة عنه بصورة أوسع وأوفى للمرام.

ولنرجع إلى صاحب الترجمة فنقول إن اسمه هو: شرف الدين أبو العباس (احمد بن محمد عماد) ابن الهائم المصري المقدسي، وقد اكتسب نسبته إلى مصر من ولادته فيها، وكان ذلك في المنتصف الثاني من القرن الرابع عشر للميلاد حوالي سنة 1352م - 753هـ أو 756هـ، وعرف بالمقدسي لاشتغاله في القدس ووفاته فيها. وكانت الوفاة في أوائل القرن الخامس عشر للميلاد حوالي سنة 1412م - 815هـ. وقد وجدت ثلاثة تواريخ وفاة لصاحب الترجمة في كتاب كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون، ففي ص 418 من الجزء الأول يقول إن ابن الهائم توفى في سنة 987هـ، وفي الجزء الثاني في ص 362 نجد أن الوفاة كانت في سنة 387هـ، وفي ص 417 من الجزء نفسه نجد ان تاريخ الوفاة كان في 815هـ. بينما المصادر الإفرنجية ككتاب تاريخ الرياضيات لسمث، والتركية ككتاب آثار باقية، وبعض العربية ككتاب الأنس الجليل كل هذه تقول وتتفق على أن الوفاة

ص: 22

حصلت سنة 815هـ - وهذا التاريخ (على ما أرجح) هو الصحيح. وقد يكون الاختلاف في الوفاة الموجود في كشف الظنون ناتجاً إما عن خلط في الأسماء أو في أغلاط مطبعية. والله أعلم.

وابن الهائم كما قلنا من الذين لم يعطهم التاريخ بعد حقهم من البحث والتنقيب، وقد يكون في كتاب الأنس الجليل عن حياته ما لا نجده في غيره من الكتب. ومن الكتاب المذكور يفهم ان ابن الهائم اشتغل في القاهرة، وانه لما ولى القمني تدريس الصلاحية أحضره إلى القدس، واستنابه في التدريس، وأصبح من شيوخ المقادسة. واستمر في وظيفته التدريسية إلىأن جاء الشيخ شمس الدين الهروي من هراة وكان حنفياً فرأى هذه الوظيفة فسعى اليها، واستطاع أن يأخذها من ابن الهائم. ولكن هذا لم يرق للأخير فسعى جهده لاستردادها، واستطاع أن يجعل ولاة الأمور يقسمون هذه الوظيفة بينهما. ونشأ لابن الهائم ولد نجيب اسمه محب الدين، كان نادرة دهره، ونابغة زمانه، ولكن المنية عاجلته فلم يعش طويلاً ومات صغيراً سنة 800هـ. ومحاسن ابن الهائم كثيرة أهمها تمسكه الشديد بالدين، وكان دائماً لا يترك فرصة دون وعظ أو إرشاد، فتراه في أكثر الأوقات يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وصار له مقام عند العامة وكان لكلامه وقع في القلوب، وتأثير على النفوس.

(وتوفى ابن الهائم في القدس الشريف في شهر رجب سنة 815هـ ودفن في مقبرة مأمن الله وقبره مشهور) وقد ذهبت بنفسي إلى القدس لأرى القبر فلم أتمكن من العثور عليه بسب أعمال الحفر التي قامت مؤخراً في المقبرة، واتصلت بالعارفين فقالوا إن قبر ابن الهائم كان يقع في الجهة الغربية على بعد بضعة أمتار من البركة وكان القبر مبنياً على شكل غطاء التابوت.

وابن الهائم من الذين درسوا على أبي الحسن علي بن عبد الصمد الجلابري المالكي ومن الذين ألفوا في الفرائض والحساب والجبر وله في ذلك كتب ورسائل قيمة منها:

كتاب شرح الأرجوزة لابن الياسمين في الجبر والمقابلة، ألفه في مكة سنة 789هـ. وهذه الأرجوزة لدينا وقد أتتنا من الوطني العامل الأديب السيد عبد الله بن مكنون من أعيان طنجة بالمغرب، وسيأتي الكلام عنها عند البحث في ابن الياسمين. وله أيضاً رسالة اللمع في الحساب، ولدينا نسخة منها وقد نسخناها عن مخطوطة قديمة موجودة في المكتبة

ص: 23

الخالدية بالقدس. ويقول المؤلف (ابن الهائم) في أولها: (. . وبعد فهذه لمع يسيرة من علم الحساب نافعة أن شاء الله تعالى. .) وهذه الرسالة تتكون من مقدمة وثلاثة أبواب يبحث الباب الأول في ضرب الصحيح في الصحيح ويتكون من أربعة فصول، الفصل الرابع منه طريف جداً ويحتوي على كثير من الملح الرياضية في الاختصار وفي ضرب أعداد خاصة في أعداد أخرى بدون إجراء عملية الضرب، ولا بأس من إعطاء مثال (من النسخة) على ذلك، ففي الفصل المذكور يقول المؤلف (. . وللضرب وجوه كثيرة وملح اختصاريه فمنها:. . إلى أن يقول. . ومنه أن كل عدد يضرب في خمسة عشر أو مائة وخمسين أو في ألف وخمسمائة فيزداد عليه مثل نصفه ويبسط المجتمع (أي يضرب حاصل الجمع) في الأول عشرات وفي الثاني مئات وفي الثالث ألوفاً، فلو قيل اضرب أربعة وعشرين في خمسة عشر فزد على الأربعة والعشرين مثل نصفها وابسط المجتمع وهو ستة وثلاثون عشرات فالجواب ثلاثمائة وستون، ولو قيل اضربها في مائة وخمسين فابسط الستة والثلاثين مئات، فالجواب ثلاثة آلاف وستمائة. . .) ويبحث الباب الثاني في القسمة ويتكون من مقدمة وفصل، والمقدمة تبحث في قسمة الكثير على القليل والفصل في قسمة القليل على الكثير، وأما الباب الثالث فيبحث في الكسور ويتكون من مقدمة وأربعة فصول. ولهذه الرسالة شرح لمحمد بن محمد بن احمد سبط المارديني وله أيضاً كتاب (حاوي) في الحساب وكتاب المعونة في الحساب الهوائي، ويتكون من مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة، وله مختصر اسمه الوسيلة وقد رأيته أيضاً على مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة. وقد قال المارديني في آخر شرح اللمع (ومن أراد الزيادة فعليه بالوسيلة لأنها من أحسن المصنفات في هذا الفن. .) وعليها أيضاً حاشية لمحمد بن أبي بكر الأزهري، ولها (أي الوسيلة) شرح للمارديني يسمى إرشاد الطلاب إلى وسيلة الحساب. ولابن الهائم كتاب مرشد الطالب إلى أسنى المطالب ويبحث في الحساب، ويتكون من مقدمة وخاتمة. وقد علم له مختصراً سماه كتاب النزهة. ومن مؤلفاته كتاب غاية السؤال في الإقرار في الدين المجهول، ويحتوي على أمثلة لحلول مسائل مختلفة في الحساب، والجبر، وكتاب المقنع هو قصيدة تتكون من 52 بيتاً من الشعر في الجبر، وقد شرحها في رسالة خاصة، وله رسالة التحفة القدسية، وهي منظومة أيضاً في حساب الفرائض. وكتاب المعونة في

ص: 24

السحاب. وقد شرحه المارديني واختصره ابن الهائم برسالة سماها أسنان المفتاح.

نابلس

قدري حافظ طوقان

ص: 25

‌مشروع القرى

وجوب العناية بالقرية المصرية

للدكتور محمد حسين هيكل بك

لا أظن شيئاً مهملاً في مصر إهمال القرية المصرية وإهمال أهلها. فبينما تغدق الوزارات المتتابعة على تجميل المدائن الأموال الطائلة، وبينما تقوم في سبيل شق الشوارع وإقامة العمائر الضخمة فيها، إذا بها تضن على القرى بكل إصلاح أو تنظيم، ولقد لاحظ أهل الريف هذا منذ زمان بعيد، فقامت ضجة كبيرة في البرلمان المصري سنة 1926 حين أريد توسيع شارع الهرم، ونال نواب الريف أغلبية في مجلس النواب لم يتيسر التغلب عليها إلا باجتماع مجلسي البرلمان في هيئة مؤتمر، ومع أن حاجات الريف إلى الإصلاح كثيرة جداً سواء من الجهة الصحية، أو من الجهة التعليمية، فان ما يبذل في سبيله من أموال وجهود يسير على سنة التطور البطيء جداً كأنما يجهل الذين يتبعون هذه السياسة أن ريف مصر يحتوي عوامل النشاط والقوى الحقيقية الحيوية في البلاد، وانه إذا حوربت الأمراض التي تفتك بأهل الريف، وإذانشر التعليم الأولي والابتدائي في ربوعه زاد الإنتاج الاقتصادي، والإنتاج الفكري، بما قدره بعض الأطباء بثلاثين في المائة من مجموع الإنتاج الحالي!!!

لذلك كان العمل الذي تقوم به جمعية مشروع القرى جديراً بأكبر التشجيع من كل إنسان، وكان ما يبذل الشباب من جهود في هذا الشأن حرياً بأن يلقى التشجيع والمعونة من جانب رجال هذه الأمة الرسميين وغير الرسميين، ونحسب الذين زاروا أوربا جميعاً ولم يكتفوا بالجلوس على مقاهي المدن الكبرى كباريس ولندن وكلفوا أنفسهم مؤونة التغلغل في أرياف فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية، وقارنوا بين حياة ريف أوربا وحياة ريف مصر أشد شعوراً باستحقاق جمعية مشروع القرى لكل تشجيع، ويحسون في قرارة نفوسهم بشيء كثير من الأسف بل الألم لهذه المقارنة. فالمنزل القروي في أوربا يحتوي من معاني الحياة الإنسانية ما لا نجد له قط نظيراً في أحسن منازل القرى المصرية، والأماكن العامة كالكنائس والمدارس والمستشفيات في قرى أوربا تشهد بأن أهل تلك البلاد يحرصون على هذا المعنى الإنساني وعلى ترقية الذوق الفني في نفوس أهل الريف

ص: 26

حرصاً كبيراً، ثم أن الشباب في أوربا يشعر هو الآخر بالواجب عليه إزاء أهل الريف فينظم نفسه جماعات تجول في مختلف أنحاء الدولة التي ينتمي إليها أثناء العطلة الدراسية لتستفيد هذه الجماعات معرفة بلادها معرفة دقيقة، وليستفيد أهل الريف من اختلاط الشباب بهم فتياناً وفتيات اتصالاً بالروح العلمية، والحياة الثقافية، يربط ما بين الريف والعواصم بخير الروابط.

وليس من ذلك شيء في مصر إلى الإطلاق، بل أن المشروعات الحيوية الأولية، كتعميم المياه الصالحة للشرب، وكجعل الأسمدة بعيدة عن القرى، وكتعميم التعليم الأولي إلاجباري، وما إلى ذلك من مثله من أمور تعتبر في الدرجة الأولى بالنسبة للحياة الإنسانية ما يزال مهملاً في مصر، بل ما يزال منظوراً إليه على انه أدنى إلى الكماليات، وتلك نظرة خاطئة جد الخطأ، فإذا أريد بمصر أن تصل إلى نشاط صحيح في حيويتها. فالخطوة الأولى يجب ألا تكون شق الشوارع وإقامة المباني الفخمة في المدن، بل يجب أن تكون العناية بأحوال الريف عناية صحيحة، والعناية في المدن بالتعليم الجامعي الصحيح قبل كل شيء.

فلتعمل جمعية مشروع القرى في حدود البرنامج الذي رسمت لنفسها تلق من غير ريب تشجيعاً صادقاً من كل من يعنيهم الأمر ومن كل من يدركون مصالح بلادهم الحقيقية.

ص: 27

‌مشروع القرى

الإصلاح الاجتماعي في مصر ونصيب طلبة الجامعة

والمدارس العالية منه

للأستاذ عبد الله أمين عضو مجلس إدارة المشروع

قد يخيل إلى المتعجل في الحكم على الأمور أن الشعب المصري قد خطا خطوات واسعات في سبيل التقدم والإصلاح إلاجتماعي، وذلك حين يرى ما في أمهات المدن المصرية لا سيما القاهرة الأم الكبرى، عروس الشرق، من مبان شاهقة فخمة، قد بنيت على أحدث مثال، وأثثت فأفخر الأثاث، ومن أزياء حديثة يختال في حللها القشيبة شبانها وشوابها، رجالها ونساؤها؛ ومن متاجر ودور للملاهي يُعرَض فيها من السلع والمناظر ما يُعرض في متاجر أوربا وملاهيها؛ ومن مصارف وبيوت مالية ومدارس ومستشفيات وأندية وإنزال، وغير ذلك من مظاهر المدنية الغربية الحديثة.

أما المتأمل البصير فلا يرى في شيء من هذه المظاهر دليلا على شيء ذي خطر من التقدم والإصلاح الاجتماعي في مصر، لأنها كلها مظاهر مستعارة من الغرب لا ترتكز في هذه البلاد على شيء من عناصر المدنية التي ترتكز عليها في الغرب، وهي العلوم والفنون والصناعات والذوق المصري والعادات والتقاليد والنظم الموروثة، ولذلك تعد في مصر مظاهر كاذبة. وقد تعاون على استعارتها ثلاث جماعات، هي:(1) النزلاء الأجانب (2) الوطنيون المفتونون بهم، الناسجون على منوالهم، وما أكثر هؤلاء وهؤلاء في أمهات المدن المصرية، لا سيما مصر والإسكندرية (3) والحكومات المصرية المتتابعة. وليس هؤلاء جميعاً هم الشعب المصري.

إنما الشعب المصري هو ملايين الفلاحين الكثيرة المقيمة في القرى المصرية. وإذاجردت أمهات المدن المصرية من مظاهر المدنية الكاذبة أصبحت كالقرى المصرية شبراً بشبر وذراعاً بذراع. وأي شيء في القرى المصرية لا يحتاج إلى إصلاح؟ أمظاهر المدنية أم العماد الذي لا تقوم إلا عليه وهو عناصر المدنية؟ أم أساس هذه العناصر؟

إن كل شيء في القرى المصرية بل في مصر كلها أم المدنية القديمة والحديثة ومطمع

ص: 28

أنظار الغرب، ومعقد آمال الشرق، فقير كل الفقر إلى إلاصلاح، فالأخلاق والعقائد وهي الأساس الذي تقوم عليه عناصر المدنية، والمنوال الذي تنسج عليه برودها قد أصيب بالخلل والفساد، فهي فقيرة إلى الإصلاح. والعلوم والفنون والصناعات والآداب والعادات والتقاليد والذوق واللغة والنظم المنزلية والمدرسية والاجتماعية والحكومية وغيرها من عناصر الحضارة لم يبق من محاسنها شيء، فهي أشد فقرا إلى الإصلاح. والأزياء والمساكن والأثاث والمتاجر والمصانع والمزارع والطرق والمتنزهات والأندية والمدارس وغيرها من مظاهر المدنية أصبحت ممقوتة بغيضة إلى النفوس لبقاء أكثرها على ما كان عليه منذ آلاف السنين، ولإنشاء أقلها على مثال غربي لا يلائم أخلاقنا وعقائدنا، فلابد من إصلاحها وإصلاح كل شيء إصلاحاً نحتذي فيه مثال الأمور الصالحة في الغرب، ثم نصبغها بصبغتنا ونجعلها ملائمة لأخلاقنا وعقائدنا ومزاجنا النفسي والعقلي.

وإذ كانت الأخلاق والعقائد هي الأساس الذي تبنى كل أمة عليه حضارتها، وكانت أخلاقنا وعقائدنا محتاجة إلى الاصطلاح كل إلاحتياج، فقد وجب أن نبدأ باصلاحها، فاذا صلحت صلح كل شيء، وان لم تصلح فلا رجاء في إصلاح. ألا تذكر قوله تعالى:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ولا ينبغي لنا أن يعوقنا على التصدر لإصلاح ما في نفوسنا من مفاسد، وما في عقائدنا من ضلال عِلْمَنا أن الأخلاق وهي الصفات النفسية ثابتة في الأمم ثبوت صبغاتها الجسدية، وأنها لذلك لا تتغير إلا بمضي آلاف السنين، وأن العقائد لا تقل عنها ثبوتاً، لأننا إذاأمسكنا عن التصدر للإصلاح لهذا العلم فلن نتقدم له أبداً ولن نبلغ ما نريد أبداً. ولا ينبغي لنا أن ننسى بجانب هذا أن للتغيير عوامل فعالة تجعله سهلاً سريعاً وهي الحروب والنهضات القومية، والثورات الفكرية، وأن النهضة المصرية الحديثة من عوامل التعجيل للإصلاح، وان قيام المتعلمين آباء وأبناء بإثارة الأفكار وتوجيهها في القرى إلى الإصلاح مما يكفل لنا بلوغ المراد منه، فيجب أن نتعاون على هذه الإثارة لنبلغ الأمر الذي نبتغيه.

فإذا نحن أيقظنا بصيحاتنا ودعوتنا النفوس النائمة، وأصلحنا العقائد والأخلاق وهذبناها بما لابد منه من العلم والمعرفة فلنعمد بعد ذلك إلى إصلاح كل شيء إصلاحاً يلائم أخلاقنا وعقائدنا، أو مزاجنا النفسي والعقلي، وإلا وضعنا بجانب كل حجر من أحجار الصرح الذي

ص: 29

نبنيه معولاً لهدمه، لأن الأمة التي تستعير مدنية لا تلائم مزاجها النفسي والعقلي لا تلبث أن تهدم ما بنت بثورة منها، وحسبك دليلا على ذلك الثورة البلشفية التي قوضت أركان المدنية الغربية في روسيا، فقد كانت روسيا شرقية في كل شيء، فلما ولى أمرها بطرس الأكبر حملها على تقليد الغرب بالقوة فجاءت هذه المدنية الغربية غير ملائمة لأخلاق الروسيا وعقائدها لذلك هدمتها أخيراً. وبمثل هذا يتنبأ إمام علم الاجتماع في العصر الحاضر (جوستاف لوبون) للمدنية اليابانية التي نقلت عن الغرب في خمسين سنة. وبمثل هذا يمكنك أن تتنبأ للمدنية التركية الحديثة لأنها من عمل الحكومة لا من عمل الشعب نفسه، وقد نقلتها كما هي بلا تهذيب، ولأنها نقلت طفرة لا بالتدريج.

وليس المسئول عن هذا الإصلاح الحكومة وحدها، فان الحكومات لا تقوى على كل شيء. وإن من الناس من يقصر عمل الحكومات على حماية الوطن من اعتداء بعض أبنائه على بعض، ومن اعتداء الأجانب عليه. أما ما عدا ذلك فهو عنده من علم الأمة وحدها، ولئن استطاعت الحكومات أن تعمل كل شيء وحدها فإنها لا تستطيع أن تقوم البتة بالمرافق الكبرى كالزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والتهذيب، فان هذا بلا شك من أعمال الشعوب، ولا بأس بمعونة الحكومة فيه

والمسئول من الأمة المصرية عن تحرير ملايين الفلاحين المصريين من مفاسد الأخلاق ومن البدع والخرافات والأوهام والضلالات وتزويدهم بشيء من مكارم الأخلاق ومن العقائد والمعارف الصحيحة التي لابد لهم منها في دينهم ودنياهم ليصبحوا كأمثالهم في البلاد الراقية وليستطيعوا أن يقوموا بإصلاح عناصر المدنية ومظاهرها إنما هم أهل المعرفة من البالغين الراشدين المصريين

لاشك أن العالم مسئول عن أخيه الجاهل، فلو أن رجلين اجتازا طريقاً خطيرة، وكان أحدهما علم بما فيها من خطر ولم يكن الآخر على شيء من العلم بما فيها من خطر، ثم أصابهما فيها صائب من الأذى كان العالم حينئذ هو المسئول عن الجاهل

وإذا كان أكثر طلبة الجامعة والمدارس العالية من الراشدين المكلفين شرعاً وعرفا، كانوا من المسئولين عن الإصلاح الاجتماعي ولا يرفع عنهم هذا التكليف أننا معاشر الآباء العارفين نحمل هذه التبعة لأن الأمر أكبر من أن يقوم به فريق دون فريق، فليس هو من

ص: 30

فروض الكفاية التي إذا قام بها بعض الناس سقط عن الباقين. وإنما هو في الوقت الحاضر من الفروض الوطنية العينية التي يجب على كل ذي معرفة القيام بنصيب منها، وقد تكون من الفروض الدينية. وأبناؤنا الطلبة مع ذلك أطهر قلوباً وأخلص نية وأشد غيرة وحمية وأقوى أبداناً ونفوساً، فإذا خلا منهم ميدان الإصلاح فقد خلا من كل شيء

وإنا لا نبغي من أبنائنا النجباء طلاب الجامعة والمدارس العليا أن ينصرفوا عن التزود من العلم وتكميل أنفسهم إلى معالجة الإصلاح في القرى، لأننا إن طلبنا ذلك منهم كنا خاسرين مسرفين نشتري إصلاح الفلاح بإفساد الطبقة الممتازة التي نعلق عليها كل الآمال، وإنما نريد من أبنائنا الطلبة النجباء عُدّة الوطن وأعظم كنوز ثورته أن يقسموا أوقاتهم وجهودهم على ثلاثة أمور لا رابع لها وهي:(1) طلب العلم. (2) الرياضة البدنية واللهو المباح اللذين لابد منهما لحفظ الصحة وتجديد القوى والنشاط (3) خدمة الوطن من أحسن الوجوه وهو نشر العلم والفضيلة بين سواده الأعظم في القرى

أما البطالة والكسل والخمول فقد آن أن يكون بين أبنائنا وبينها ما بين المشرقين من بعد في هذا الزمن العصيب الذي يستهدف فيه للفناء كل إنسان وكل جماعة لا يكون شعاره وشعارها الجد، الاجتهاد، اليقظة، الاستقامة، العمل، التقدم. وانه ليعز علينا أن ينصرف فريق من شبابنا في أيام الدراسة وفي أيام العطل إلى اللهو غير المباح والى الكسل والخمول ناسين أنفسهم ووطنهم. وان أخسر الناس صفقة وأعظمهم غبناً في رأيي شاب آتاه الله قوة الشباب وسلامة الأعضاء والصحة وفراغ البال ورزقه من يعلوه ويكلف أموره ومهدت له سبل الاستفادة والإفادة، ثم هو مع ذلك يضيع هذه الهبات الثمينة والمواهب العقليلة التي من بها الله عليه من اللهو والبطالة فلا هو ينفع نفسه ولا ينفع غيره. لا بل قد. قد يكون بلاء على نفسه وعلى غيره

وما أشبه المصريين الآن بركاب سفينة تسير بالمجاديف مع طائفة من سفن أخرى لا أقول تسير بالبخار، وإنما أقول إنها تسير بالمجاديف مثلها، تلك السفن هي دول الغرب. وتسعة أعشار من في السفينة المصرية نيام نوم أهل الكهف، والعشر المستيقظ هو الذي يسير السفينة وحده، على حين أن ركاب كل سفينة أخرى يتناوبون العمل بينهم، فلابد لسواعد المصريين من الكلال ولابد لعزائمهم في النهاية من الخور، ولابد لسفينتهم من الانقطاع

ص: 31

عن السفن الأخرى. وأنت عليم بما يصيب هذه السفينة المنقطعة من البلاء

ولو أن هذا العشر أيقظ تسعة الأعشار لاستغلّ جهودهم ولوصل بالسفينة وهي مصر إلى حيث تصل السفن الأخرى وأصبحت بنجوة من المهالك ونجا هو ونجوا هم معه. وليس ما يبذل من جهد ومال في تهذيب العامة وإصلاح شأنهم بكثير وان عظم. ولو علم الناس ما في تركهم أبناء وطنهم فريسة للجهل وللضلال وللفقر وللأمراض الجسدية والنفسية من الأخطار المحققة التي لا يمكن أن يسلم منها مجموع الأمة لافتدوا سلامتهم بأموالهم وأنفسهم، فما أشبه أبناء الوطن الواحد بأبناء أب واحد، عنى بتربية فريق من هؤلاء الأبناء فشبوا مهذبين قادرين على كسب قوتهم من أحسن الوجوه، ثم أدركته الوفاة قبل أن تشتد سواعد الفريق الآخر ويربيهم، ثم أهمل أخواتهم تربيتهم فشأوا جهلة مرضى النفوس عجزة عن كسب أقواتهم. فلا شك أن الفريق الأخير يصبح عالة على الأول مسئولا منه شرعاً وعرفا، فهو إما أن ينهض بأعبائهم، وإما أن يستهدف لخطرهم ويكون هو أول فريسة لهم يسلبونه ماله وراحته وربما سلبوا روحه، وما أكثر ما يمثل أمامنا من آن لآخر من هذه الحوادث

فيا أيها الشبان المتعلمون النجباء، يا رجال المستقبل القريب، اعملوا من الآن على إيقاظ تسعة أعشار المصريين إخوانكم لئلا يكونوا عالة عليكم غداً، بل ليكوا عوناً لكم على إحياء الحضارة وإصلاح كل فاسد، واحذروا أن تشتروا العاجل بالآجل بأن تؤثروا ساعات تقضونها في اللهو والكسل والخمول الآن على راحة المستقبل وسعادة المستقبل، وتعالوا إلى الميدان الذين فتحه لكم إخوانكم الأمجاد أعضاء اللجنة التنفيذية لمشروع القرى وجال فيه جولات صادقات في هذه العطلة الصيفية أبطال من ذوي العزائم هم إخوانكم المتطوعون لمشروع القرى فكان هؤلاء وهؤلاء من المجاهدين السابقين الأولين الموفقين. تعالوا واعملوا لوطنكم منذ الآن تحت العلم الخفاق الذي يحمله علم مصر وفخرها في القرن العشرين أبو الطب غير منازع ولا تدافع، الدكتور علي باشا إبراهيم واذكروا قول الشاعر

املأ الدنيا بما تسطيع من

عمل يبقى إذا العمر ذهب

إنما الأعمال تاريخ الفتى

تقرأ الأجيال فيه ما كتب

تعالوا واعملوا للخير، وفقكم الله لإسعاد أنفسا ولإسعاد وطنكم وأبقاكم ذخراً له.

ص: 32

عبد الله أمين

ص: 33

‌بين المعري ودانتي في رسالة الغفران والكوميدية

‌المقدسة

بقلم محمود احمد النشوي

الوطنية لدى الشاعرين

رأينا فيما عرضنا له من وطنية شاعر الطليان أنه كان يخلق المناسبات ليصدع بشعوره نحو بلاده ووطنه، فيحاور شخصيات وايته في جرائمهم الوطنية، ويتخيل لهم من صنوف العذاب ما تقشعر لهوله الأبدان، وفي الحق أن وطنية دانتي ملكت عليه كل نفسه، وسأقص عليك حديثاً طرز به كوميدتيه، فكان حليتها وزينتها، وسأعرض عليك تلك الأنشودة لتعلم أي حد بلغت به وطنيته، وأي مقدار بلغه النزاع والفشل بين الطليان في عهده، وكم برح بهم الظلم، وهدت من أركانهم الفوضى، ثم تقرن حالهم بالأمس بحالهم اليوم لتعلم أن الأمم تسقم وتبرأ، وتضعف وتقوى، فلا يخالج اليأس نفسك، ويمتد بك الأمل فتوقن باليوم الذي تتبوأ فيه بلادك مركزها تحت الشمس مستعيدة عصر صلاح الدين، وأيام رمسيس.

فبينا دانتي يجوب (الأعراف) مع فرجيل إذا بروح نبيل يرمقهما ملياً، ثم يسألهما قائلا: من أنتما أيها القادمان؟ فيكون تعارف يعقبه عناق، وإذابهذا الروح روح الشاعر سوردلو مواطن فرجيل، ولم يكد يعرفه حتى انتحى به قليلا يحدثه، وبقى دانتي منفرداً يفكر في لقاء المواطن للمواطن، ومحبة ابن الشعب لابن الشعب. فثارت شاعريته، وصدح بما خلدته الأجيال، فقال:

(لك الله يا إيطاليا، أيتها الأمة الذليلة المستعبدة، يا موطن الآلام وميدان المظالم، لقد أصبحت وكأنك سفينة بغير ربان ينقذك وسط هذه الزوبعة، ويقودك إلى شاطئ السلامة وبر الأمان، إن هذه الروح الكريمة قد وقفت تحتفل بمواطنها بمجرد أن سمعت باسم وطنها، بينما أنت لا يستطيع أبناؤك الأحياء أن يعيشوا دون أن يتقاتلوا ويحارب بعضهم بعضا، وحتى أبناء المدينة الواحدة قد أخذوا يتخاصمون ويتنازعون!

أنظري أيتها البلدة التعسة الذليلة، وابحثي في كل بحارك وجبالك ووديانك وفي كل ناحية من نواحيك، فهل ترين جزءاً واحداً يتمتع بالسكينة والراحة والسلام؟ آه. إنك لو قيض الله

ص: 34

لك حاكما أو رئيساً حازماً لحسنت حالك، وهدأ بالك، ولكن القياصرة يعيشون بعيدين عن أرضك التي سيئول أمرها لا محالة إلى الخراب والدمار. إن روما تبكي وتستغيث بالإمبراطور، وكل بلاد إيطاليا قد امتلأت بالظلمة قساة القلوب، وفي فلورنسا أصبحت الأحوال أسوأ منها في أي مكان آخر؛ فقد تسن فيها القوانين ولا تلبث أن تلغي بين عشية أو ضحاها، وأصبحت كالمريض الذي ألح عليه الداء، وأعوزه الدواء، وأخذ يتقلب من جنب إلى جنب لكي يخفف من آلامه وعذابه دون أن يشعر بالراحة أو يذوق لها طعما).

أفرأيت إذا كيف كان دانتي حدباً على وطنه يندبه ويبكي انقسامه واضطرابه، وضعف قوانينه وتذبذبها بين الإلغاء والوضع كل عشية وضحاها؟

فلو أنه بعث الآن من مرقده ورأى بلاده اليوم وهي تنعم بالقوة وبالمنعة لقرت عيناه، ولرفأ مدمع كان هتاناً على وطن ملكت فكرته عليه كل شعاب نفسه.

الانتحار في الروايتين

كلا الشاعرين ذم هذا المرض الفتاك، وثار على ذلك الداء الوبيل؛ وما كان شاعر المعرة بالذي لا يعرض للانتحار: يهجنه ويزري به؛ فقد افتن في الزراية به بعبارة احتفل بها، وأسرف في احتفاله، فكانت جد غامضة ومبهمة. وما نحسب أن كثيراً من الأدباء يستشف غرض أبي العلاء دون أن يلحق به كبير من عناء ومن جهد. على أن في تهذيب الأستاذ كامل كيلاني لرسالة الغفران، وفيما حلى به جيدها من شرح وعنوانات، ما يجعل الطريق أمام روادها معبداً شائقاً إلى حد كبير.

ورغماً من أغراب أبي العلاء هنا فانك تراه جانف الخيال، وسلك سبيل الفلاسفة والحكماء؛ فجعل يبرهن ويعلل متخذاً من جهالة الإنسان بمصيره بعد الموت، ومن تقلبات الأيام وابتسامها بعد العبوس أدلة يهجن بها الانتحار، ويقبحه. وإني ذاكر لك شيئاً من قوله في ذلك، فاستمع إليه حين يقول: (قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا الندم؛ ولكنما أرهب قدومي على الجبار، ولم أصلح بخلتي بأبار. وقيل لبعض الحكماء: إن فلاناً تلطف حتى قتل نفسه، وكره أن يمارس بدائع الشرور، وأحب النقلة إلى دار السرور. فقال الحكيم قولاً معناه: أخطأ ذلك الشاب المقتبل، له ولأمه يحق الهبل، هلا صبر على صروف الزمان، فانه لا يشعر علام يقدم، ولولا حكمة الله جلت قدرته، وأنه حجز الرجل عن

ص: 35

الموت بالخوف من العلز والفوت، لرغب كل من احتدم غضبه، وكل عن ضريبة مقضبه أن تترع له من الموت كؤوس)

أفرأيت في حديث أبي العلاء كيف سلك سبيل الحكماء، وكرر معنى ذكره في لزومايته، ذلك المعنى هو رهبة ما بعد الموت، وصدها عن ورود حوضه حين يقول:

لو لم تكن طرق هذا الموت موحشة

مخشية لاعتراها القوم أفواجا

وكان من ألقت الدنيا إليه أذى

يؤمها تاركاً للعيش أمواجا

فما هو سر ذلك وما سببه؟ أكبر الظن أن سر ذلك هو وقوع ذكر الانتحار في الرد على رسالة ابن القارح بعد أن انتهى حديث الفردوس والجحيم. ولقد نرى أبا العلاء يتطاحن خياله، بل يودعه خياله حين يودع الجنان والنيران، وحين يأخذ في الرد على ما جاء في رسالة ابن القارح وما فيها من أشخاص يساجله الحديث عنهم، ويزيد عليه بسطاً في القول، والمساجلة في الشخصيات وفي تواريخها، وفي المذاهب والعقائد أبعد شيء عن الخيال، وأحوج شيء للعبارة البينة في دلالتها، السافرة عن غرضها

ولكن دانتي يحدثنا عن الانتحار وهو في دوره الثاني من الطبقة السابعة في جهنم فأعمل خياله في تهجينه، ووصف عذاب المنتحرين وصفاً يبعث في الجلود قشعريرتها، وفي القلوب هلعها.

وموعدنا بالحديث عن ذلك العدد القادم.

محمود احمد النشوي

ص: 36

‌3 - أعيان القرن الرابع عشر

للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور

مصطفى باشا الخزينة دار

جركسي الأصل، اشتراه عزت باشا، أحد الصدور في زمن السلطان محمود الثاني، ورباه صغيراً في القسطنطينية، ثم أتى به إلى مصر سنة 1252، فاشتراه كتخداها عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا، وحظي عنده حظوة عظيمة، وقدمه إلى سائر مملوكيه، ولما تولى إبراهيم باشا بن محمد علي على مصر سنة 1264 استأذن منه عباس باشا في السفر إلى الحج فسافر إلى الحجاز وأقسم بأنه لا يعود لمصر ما دام عمه والياً عليها، لوحشة وقعت بينهما، وأخذ المترجم معه، فلما وصل إلى مكة وأدى فريضة الحج وصل إليه البشير بموت عمه إبراهيم باشا، وتوليته مكانه، وصادف ذلك موت خزينة داره راغب أغا الموره لي فأقام المترجم بدله وأعتقه، ولزمه من ذلك الحين لقب الخزينة دار، ثم جعله رئيساً لمملوكيه، وأنعم عليه برتبة أميرالاي، ووظف له ألف دينار مصري في السنة، وعاد معه إلى مصر، فكبر شأنه، وعظمت منزلته بين الأمراء، وأمر ونهى في الولاية، وحل عند سيده بمنزلة كبيرة، حتى أمر أن يكون أمر المترجم كأمره نافذاً لا يرد في كافة الدواوين، وكان يقول له أنت يا مصطفى مثل أولادي، والمترجم لا يقابل ذلك إلا بالصدق والاخلاص في الخدمة، والوالي يوالي بره، ويزيد في إعزازه، حتى أمر أن يركب مثل ركوبه في موكب بجند وحاشية، فاستعفى من ذلك وقال: عبدكم يكفيه ركوب جنديين يستخدمهما في خدمة أفندينا فقبل منه وأعفاه، وتسامع الناس بذلك فلامه بعض أخصائه على إبائه هذا الشرف العظيم، فقال له أنتم جهلاء لا تقرأون العواقب، أما تعلمون انه إذامات أو غضب عليّ أسلب هذا الشرف وينحط قدري بين الناس، أفليس الأولى لي أن أبقى على حالة واحدة لا أغيرها؟

وكان المترجم ميالاً لفعل الخير يسعى فيه جهده، ويروي انه أنقذ نحو ثلاثمائة شخص من القتل والنفي لنفاذ كلمته عند الوالي

ويروي أن عباساً باشا غضب مرة على احمد باشا المنكلي، وكان من جلة القواد، فجفاه الناس، وخصوصاً الأمراء على عادتهم مع من يغضب عليهم الولاة، حتى يبلغ بالواحد انه

ص: 37

لا يستطيع المرور أمام دورهم، واتفق ان المنكلي ذهب يوم العيد إلى العباسية لمقابلة الوالي وطلب العفو، فلقي إعراضاً من الحاشية ونفوراً، ورآه المترجم على هذا الحال فصعب عليه مكانه لما كان يعلمه عنه من علو المنزلة عند الولاة السابقين، فأسرع إليه وأكرمه وأمر له بالقهوة والدخان، وجلس بين يديه متأدباً، ونمى الخبر لعباس باشا فغضب واستدعى المترجم ووبخه على إكرامه رجلاً مغضوباً عليه منه، فتلطف معه وقال له: حلم أفندينا أكبر من كل ذنب، وهذا الرجل تعلمون حسن بلائه في الخدمة، وقد جرأني هذا الحلم بأن سكنت روعه وأخبرته برضاكم عنه، وإنكم دائماً تذكرونه بالخير وتقولون هذا رفيقنا بالشام يوم كنا مع عمنا في المحاربة، وأفندينا اكرم من ألا يقبل شفاعة عبده فيه، فضحك عباس باشا وقال لا بأس عليه قد عفوت عنه، ثم استدعاه فدخل وقبل الأرض من شدة فرحه، ودنا منه حتى قبل قدمه، فأجلسه وبش في وجهه وقال له أنت (أرقداش) ثم صرفه شاكراً مسروراً.

ثم لما مات عباس باشا بقى المترجم خزينة داراً لدائرته زمناً قليلا، وتولى محمد سعيد باشا على مصر وكان بالإسكندرية فتأخر بها خمسة أيام خوفاً من أن تغتاله شيعة عباس باشا إذاحضر إلى القاهرة، لما بلغه من أن الألفي يريد تولية الأمير الهامي باشا بن عباس باشا، فتأخر حتى كتب له الأعيان والأمراء بالطاعة وأرسلوا كتابهم اليه، وفيه توقيع المترجم، فاطمأن وحضر إلى القاهرة ونزل في قصر شبرا عند أخيه حليم باشا، فبات عنده ليلة لم يهنأ فيها بنوم، وأخبر أخاه انه بلغه عن المترجم ان عنده في العباسية خمسمائة فارس بسلاحهم، وانه يخشى من هجومه بهم على القصر قصد اغتياله، فصرف عنه أخوه هذا الوسواس، ثم طلب المترجم بعد ذلك إلى القلعة وخرج إليه حسن باشا المناسترلي، وقال له أفندينا يعلم انك رجل عاقل فما هذه الخمسمائة الفارس التي عندك بالعباسية؟ أتحاول أن تحدث بهم أمراً، أو تجدد لك ملكا؟ فقال معاذ الله من ذلك، إنما أنا عبد من عبيد أفندينا، وكل ما سمعه عني زور وبهتان من سعي المفسدين، وبعد، فهل هذه الفرسان في بطن الأرض أو فوق ظهرها، وكيف خفي عليكم أمرها، نحن ليس عندنا غير عشرين فارساً لحفظ قصور الحرم، فتبين لهم صدقه، ثم لما أراد سعيد باشا السفر إلى دار السلطنة لشكر السلطان على توليته على عادة ولاة مصر من بني محمد علي مع سلاطين آل عثمان وجد

ص: 38

خزانة مصر خالية من المال، فطلب من المترجم إقراضه خمسين ألف دينار من أموال عباس باشا التي بيده فأبى وتوقف وقال: إنما أنا أمين عليها، وصاحبها الهامي باشا باستنبول، ولا يجور لي التصرف في ماله بغير اذنه، فتداخل بعض الأمراء في الأمر، حتى رضى بإقراضه القدر المذكور بشرط أن يكتب صكاً به ويوقع عليه، ففعل وأخذ المال، ولما حضر الهامي باشا من دار السلطنة أعطاه المترجم الصك وقال له: هذا المال أخذه عم أبيك، فان شئت طالبته به، وان شئت تجاوزت له عنه، فعدت هذه الحادثة من مواقف المترجم المحمودة.

وبقى المترجم خزينة دارا لالهامي باشا حتى رآه ينفق أمواله في غير وجهها، فنصحه بأنه إذا دام على هذا الحال لا يبقى ولا يذر شيئاً مما تركه والده، وأوصاه بالحزم، وقال له في عرض كلامه يا سيدي أنا لا أنهاك عن الكرم والإحسان إلى الفقراء، ولكني أنهاك عن الإسراف والتبذير والإنعام على صغار الخدم بهذه الجواهر والنفائس الثمينة التي نراها في أيديهم كل يوم، ولما رأى إعراض الأمير عنه وتماديه فيما هو فيه استعفى من منصبه ولزم داره التي بالتبليطة. ثم بدا له السفر إلى دار السلطنة فسار إليها وعلم السلطان عبد المجيد بن محمود بمقدمه فطلبه إلى القصر، ولكنه لم يقابله بل أمر أولاده الأمراء مرادا وعبد الحميد ورشادا بإكرامه فقابلوه ولاطفوه، ثم قيل له إن في نية السلطان الإنعام عليه برتبة باشا وأشير عليه بعدم السفر فلم يوفق للإقامة بل سافر بغير إذن إلى الحجاز، فحج وعاد لمصر، وكان الوالي سعيد باشا أرسل إلى كامل باشا زوج أخته الأميرة زينب هانم أن يراقب المترجم مدة وجوده بدار السلطنة لأنه يوجس من سفره خيفة، فأعلمه أنه تحقق من أن الرجل ليس له مقصد سوى التنزه والسياحة فقط. وأراد سعيد باشا مرة استخدامه فشكر ولم يقبل، ولما تولى إسماعيل باشا على مصر أنعم عليه برتبة ميرميران وأمر باستخدامه عضواً في مجلس الأحكام فاعتذر عن إلاستخدام وقال للرسول ان كنتم تجبروني على الخدمة لأجل رتبتكم فهاك (فرمانها) أرده لأفندينا فاقره إسماعيل باشا على الرتبة وأعفاه من الخدمة.

وبقى بعد ذلك في داره وينتقل تارة إلى ضياعه يراقبها وينفق من غلتها حتى وافاه أجله فمات محمود السيرة عف السريرة قليل الشاكين كثير الشاكرين لا يقطع فرضاً ولا يقصر

ص: 39

عن نافلة مع إحسان للفقراء وسعة في النفقة من غير تقتير ولا اسراف، وخلف ثروة واسعة وأموالاً طائلة من غير عقب لأنه لم يتزوج في عمره إلا بنت راغب آغا سلفه في الخزينة دارية، وكان إلهامي باشا أراد أن يزوجها لشكيب باشا مدير ديوان الأراضي الأميرية فلم تقبله واختارت المترجم فتزوجها وانتقل إلى دارها فأقام معها نحو ثلاثة أعوام ثم فارقها بكرا لم يبن بها رحمه الله تعالى.

ص: 40

‌الشيخ محمد أكرم الأفغاني

هو الشيخ الأجل، والعالم العامل، القدوة الورع، نزيل القاهرة أصله من القبيلة الأفريدية النازلة في مضيق جبل حيدر المشهور الآن بجبل خيبر الفاصل بين الهند وبلاد الأفغان، ولد ونشأ به، ثم رحل إلى الهند لطلب العلم وهو في الحادية والعشرين، فورد لكنهوه وهي حافلة بالعلماء، فقرأ العربية والمنطق والحكمة والعقائد والتصوف والفقه الحنفي والطب والرياضيات على الطريقة القديمة حتى صار من الفحول المشار إليهم مع العفة والتقوى والتشدد في الدين. ثم ساح في أغلب بلاد الهند وجعل اكثر إقامته في لكنهوه، ثم بدا له السفر إلى الحجاز لقضاء فريضة الحج فسافر إليه حوالي سنة 1272 وقعد قضاء المناسك ورد على مصر ونزل بالأزهر برواق الأفغانية المشهور برواق السليمانية، فاجتمع به هناك جلة العلماء مثل الشيخ حسين المرصفي وغيره، وبلغ خبره محمداً أفندي الأفغاني المشهور بالكشميرجي تاجر المطارف الكشميرية بجوار خان الخليلي فاجتمع به وصوب له الانتقال إلى مكان فوق حانوته فاكترى به محلا وانتقل إليه وأقام به نحو تسعة أشهر، وتسامع به الأكابر مثل حسن باشا المنسترلي كتخدا مصر وإسماعيل باشا عاصم، فسعوا إليه وزاروه، وبلغ خبره الأمير احمد باشا رفعت ابن إبراهيم باشا والي مصر من محمد أفندي الأفغاني فاشتاق لرؤيته، إلا أنه كان على قدم السفر إلى ضيعة له فأرسل له خمسة وعشرين ديناراً حباه بها.

ثم سافر المترجم إلى دار السلطنة واجتمع هناك بعارف حكمت بك الذي كان شيخاً للإسلام وبغيره من العلماء، فظن عارف بك أن مجيئه لطلب منصب علمي أو فتح (تكية) أو نوال صلة، وسأله عن ذلك ووعده بالمساعدة فعرفه المترجم حقيقة أمره، وانه ما ورد إلا للسياحة. وأقام بدار السلطنة نحو عشرة أشهر، ثم سافر منها إلى الشام، ومر بأزمير وتسامع به علماؤها فحضر له كبيرهم إلى السفينة، وسأله النزول وألح عليه فقبل، وأقام عندهم عشرة أشهر أخرى قرأ لهم فيها ديباجة الفتوحات المكية. ثم سافر على غير رغبتهم إلىالشام، فلقى من علمائها إكراماً زائداً واحتفالاً كبيراً لا سيما من كبيرهم الشيخ سليم العطار، وتلقوا عنه بعض رسائل منها تشريح الأفلاك في الهيئة، وفصوص الحكم لابن العربي، ثم أراد الشخوص إلى بغداد، ولكنه استصعب السفر إليها براً لكبر سنه وبدانة جسمه، فعول على السفر إليها بحراً، وأتى مصر بنية السفر منها في البحر الأحمر وخليج

ص: 41

فارس إلى البصرة ومنه إلى بغداد، فلما وردها أنزله السيد احمد الحسيني شيخ طائفة النحاسين بداره وقام بشؤونه أتم قيام، وتراخت عزيمة المترجم عن السفر، وبدا له أن يتخذ القاهرة دار إقامة ما شاء الله تعالى فانتقل إلى 012 مكان اكتراه بخان الخليلي وأقام به بضع سنوات منكمشاً عن العالم مقبلا على شأنه، مواظباً على الإقراء والتدريس، ولم يكن معه غير أحد تلاميذه، وعلى هذا التلميذ قرأ شيخنا العلامة الشيخ حسن الطويل خلاصة الحساب لبهاء الدين العاملي.

ثم لما كانت ولاية إسماعيل باشا على مصر أجرى على المترجم عشرة دنانير في الشهر تصرف له من الحكومة، واستصوب أبو بكر راتب باشا ناظر الأوقاف إذ ذاك انتقال الشيخ إلى مدرسة محمد بك أبي الذهب التي بجوار الأزهر فانتقل إليها وسكن بها في قاعة الشيخ الصبان الذي كان موقتاً لهذه المدرسة، وأقام المترجم بها نحو أربع سنوات، ثم وافاه أجله المحتوم في ربيع الثاني سنة 1287، وقد جاوز التسعين ودفن ببستان العلماء في مقبرة المجاورين ومات من غير عقب لأنه لم يتزوج في حياته.

وكان ربعة أبيض اللون واللحية كثهاً، كبير الهامة، بديناً مهيباً إذاسار في الطريق قام له الناس من يعرفه ومن لا يعرفه، حليماً متواضعاً عفيف النفس زاهداً، مع كمال عقل وحسن فراسة. وكانت له اليد الطولى في كافة العلوم، وكان الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر يعرف له قدره، ويزوره بمدرسة محمد بك. ولما مات الشيخ الباجوري وبقى الأزهر بلا شيخ اكتفاء بالوكلاء، ولهج الناس بضرورة إقامة الشيخ قال الشيخ الأشموني لو استشرت في ذلك ما رضيت بسوى الشيخ محمد أكرم، فانه رجل له جانب مع الله، وبلغ المترجم قوله فتبسم وقال مالي وأزهرهم، لو عرضوا عليّ ولاية مصر ما قبلتها، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

ص: 42

‌من طرائف الشعر

طيور الأماني

للشاعر الوجداني الرقيق احمد رامي

الاهداء

إلى محراب أفكاري

ومهبط وحي أشعاري

إلى القلب الذي حرّ

ك بالأشجان أوتاري

إلى جنة أحلامي

إلى نزهة أبصاري

إلى الروح التي أحيت

مُنى نفسي وأوطاري

إلى الفجر الذي رصع

بالأنداء نوّاري

إلى الطير الذي آنس

بالتغريد أسحاري

أقدم كأس أشعاري

وأهدي غضّ أزهاري

احمد رامي

ص: 43

‌طيور الأماني

هتفت في الدجى طيور الأماني

باكيات على النعيم الفاني

حائرات العيون رفّافة الأ

جنح مطرودة عن الأفنان

كلما أوشكت تقارب غصناً

ذادها حاصب عن الأغصان

أو أسفّت تريد نقع ظماها

حلأَتها الأيدي عن الغدران

فهي الدهرّ حائمات ترى الأ

ثمار والماء نائيات دوان

ولو ان الرياض خلو لعزّت

نفسها بالقنوط والسلوان

غير أن الغصون ناضجة الأ

ثمار والنهر طافح الفيضان

هكذا نحن في الحياة نريد ال

صفو فيها والصفو نائي المجاني

ونريد النعيم فيها ومن دو

ن منانا سدّ من الحرمان

ونشيد البنى من الأمل السا

مي وفأس الزمان في الجدران

ونبثُّ البذور في الأرض وال

دهر ضنين بالعارض الهتان

ومن الزرع باسق حفت الأ

ثمار فيه وماجنتها يدان

ومن الماء دافق جف فوق ال

أرض ما مس قطره شفتان

لهف نفسي على شباب ذوي قب

ل كمال واجتثّ قبل الأوان

وضياء خبا ولم يك هدياً

للذي ضلَّ في سبيل الزمان

لو نظرنا إلى الحياة بعين ال

حق راحت بالكره والشنآن

غير أنَّا نعيش فيها بآما

ل تسرّى لواعج الأشجان

وإذا أخطأت ظنون فيا رُ

بّ ظنون تريح قلب العاني

فلنعش بالمنى فكم صدع ال

بدر حجاب السحابة المِدجان

ولنعش بالمنى فكم سقت ال

أنواءُ ذاوي الثمار والأغصان

ولنعش بالمنى فكم جرت ال

أقدار بالعزّ بعد طول الهوان

فارفعي الصوت بالغناء قليلاً

بدل النوح يا طيور الأماني

احمد رامي

ص: 44

‌هند

للأستاذ محمود خيرت

ومخلْخَلاتٍ يستبِينَك كلما

يخطُرْنَ في روض الملاحة عِينا

وقدُودُهنَّ من الرماح وإِن تكن

في مثل عود الخيزرانة لِينا

كم خلّفت ألحاظُهنَّ نصبْنَها

شرك الهوى في الآمنين طعينا

يَمَّمْنَ نحو النهر ذات عشِيّة

بجرارهنَّ ورُحن يستَسقينا

والأرض ترقص تحتهن صبابةً

والنهر مرتقبٌ يحنُّ حنينا

والبدر يُرسل من سماء جلاله

نوراً كذرَّات اللجين خَفِينا

ويمُدُّ ظلاًّ خلفهنَّ كأنه

ذيلٌ فيمشي كلما يمشينا

قد كُنَّ يقطعْنَ الطريق وقد نأى

بالسير حيناً والتوقُّفِ حينا

والأُنس يكسو حسنهن بشاشةً

كان الشبابُ بها لهُنَّ مَدِينا

حتى اقتربْنَ فعندما أبصَرْنني

أجفلْنَ حتى كِدْنَ يستلقينا

وقد انتثرْن على الخميلة أنجماً

وشرَدْن مني يسرة ويمينا

إِلا فتاةً كالنعيم نضارة

والظبى جيداً والصباح جبينا

قالت عجيبٌ أن أراك على مَدى

ما بيننا وقد احتجبتَ سِنينا

فأجبتُها يا هند بُعْدُكِ شفَّني

ولقد ظللْتُ على هواكِ أمينا

أين الكناس نبثُّ في أركانه

وجداً بمشبُوبِ الضلوع دفينا

ونُعيد سيرةَ ذلك العهد الذي

غرسَتْ لياليه الصَّبَابةَ فينا

فتراجعَتْ جَزَاعاً تُكفكِفُ دمعَها

كالدرِّ فوق الوجنتين سخينا

وقرأْتُ في إطراقها وخُفُوقها

أن الكناس غدا يضمُّ عرينا

وكأنما خَشِيَتْ عليَّ فطوّقت

عُنُقي مُسارعةً تئنُّ أنينا

وجرَتْ علَى شفتيَّ منها قُبلةٌ

حرّاء كان بها السُّعُود ضنينا

إِنّي لأَذكرُها الزمانَ، فعندَها

نسِىَ الزمانُ وجوده، ونسينا

محمود خيرت

ص: 45

‌من الأدب الإنجليزي

الشعر عند ماكولي

للأستاذ محمود الخفيف

للكاتب الإنجليزي العظيم اللورد ماكولي طريقة انفرد بها في عرض آرائه والدفاع عنها، فقد أوتى بسطة في العلم، وامتاز إلى جانب عبقريته بقريحة وقادة، وذاكرة عجيبة، هذا إلى روعة في الأسلوب، وسلامة في المنطق، ولباقة في سوق المقدمات وضرب الأمثلة واستخلاص النتائج.

كتب رسالة عن الشاعر ملتن، وضح فيها آراءه في الشعر وتناول الموضوع من جميع نواحيه، ولقد أشار في رسالته إلى بعض المسائل التي يختلف فيها شعراؤنا وأدباؤنا اليوم.

كان ماكولي شديد الإعجاب بالشاعر الكبير، ولذلك أحفظه ما كتبه النقاد عنه وانبرى للرد عليهم في ماسة استثارت عبقريته وأيقظت قريحته. رأى هؤلاء النقاد يسلكون السبل الملتوية للحط من قيمة الشاعر، فبينما هم يسلمون في غير تحفظ بأن آثاره جديرة بأن تأخذ مكانها بين أعظم الآثار التي أنتجتها العقول البشرية، إذابهم يأبون على الشاعر أن يتبوأ مكاناً بين فحول الشعراء كهومير ودانتي وفرجيل وإضرابهم، وحجتهم في ذلك أن هؤلاء نشاؤا في عهد طفولة المدنية، فلم يكن لهم من المعارف مثل ما كان لملتن الذي نشأ في عهد مستنير وتلقى علماً منظماً، واطلع على كثير من آثار المتقدمين، ولكنهم على الرغم من ذلك قد تركوا للعالم آثاراً تجل على المحاكاة، فكانت شاعريتهم طبيعية تتجلى فيها الأصالة، وتشع منها العبقرية، ولا يمكننا على ذلك أن نضع ملتن في صفهم، بل إنه لينبغي علينا إذاأردنا الأنصاف أن نحسب على ملتن، عند قياس شاعريته، كل ما أتيح له من ظروف طيبة.

يسرد ماكولي آراء خصوم الشاعر ثم يعلن في حماس ويقين أنه على الرغم مما يقولون يقرر أنه ما من شاعر قد اضطر أن يغالب من الظروف أسوأ مما اضطر ملتن إلى مغالبته، حتى لقد كان يخيل إلى الشاعر أنه خلق متأخراً عما كان ينبغي له بأجيال، ذلك لأنه كان يحس أن شاعريته لم تستفد شيئاً من الثقافة التي تثقفها، بل إنه كان يتطلع بعين ملؤها الأسف إلى تلك العصور التي فاتته، عصور الكلمات البسيطة والتأثير العميق!

ص: 46

يأخذ ماكولي في الدفاع عن رأيه هذا فيجره الدفاع أولا إلى العلاقة بين العلم والمدنية. ما حال الشعر في عصور التقدم؟ وكيف كان حاله في العصور السابقة؟ وهل لتقدم المدنية تأثير مطرد فيه؟

يقرر ماكولي أنه كلما تقدمت الحضارة، انحط الشعر تبعاً لذلك التقدم، ولهذا فانه إذا أعجب بتلك الآثار الشعرية التي جادت بها الأخيلة في العصور المظلمة، فليس إعجابه بها قائماً على أنها وليدة تلك العصور، كلا. فانه يعتقد أن البرهان القاطع على العبقرية إنما هو قصيدة عظيمة تظهر في عصر من عصور المدنية والتقدم، في عصر من عصور الفلسفة والتفكير.

وان الذين ينكرون هذا المبدأ ليخدعون أنفهسم في رأيه، ذلك أنهم ينظرون إلى الفنون نظرتهم إلى العلوم التجريبية والعقلية، فيقيسون الجميع بمقياس واحد متخذين تقدم العلم والفلسفة دليلا على تقدم الشعر والتصوير مثلا، وفات هؤلاء أن الفرق شاسع بين الفن والعلم، بين الخيال والتفكير، بين الحلم والحقيقة،

نسى هؤلاء أن العلوم تتقدم بتقدم العصور لأن أهل كل عصر يبتدئون دراستهم في النقطة التي وقف عندها أسلافهم، ومن ثم كان التقدم العلمي تدريجياً، وكلما تقدمت العصور، كان من أيسر الأمور على من رزق حظاً من الذكاء تحصيل العلم، فان أي شخص عادي الآن ليستطيع أن يحصل من قوانين الرياضة في بضع سنين أضعاف ما استطاع نيوتن العظيم تحصيله في نصف قرن قضاه في الكد والتأمل.

ولكن الأمر على خلاف ذلك في الفنون كالموسيقى أو التصوير أو النحت، وعلى الأخص في الشعر، فان تقدم الإنسان في الاختراع، قد يساعد على تحسين الأدوات التي يستعملها كل من الموسيقار والنحات والمصور، ولكن اللغة وهي أداة الشاعر تكون أكثر ملاءمة لفنه وهي في حالتها الفطرية الساذجة.

هذه الآراء التي يعرضها ماكولي في تحديه العلاقة بين الشعر والمدنية، تسوقه إلى نقطة أخرى قريبة من هذه، أعني بها العلاقة بين الشعر والفلسفة، فالفلسفة من عمل العقل والتحليل والتمحيص والموازنة والاستقراء والاستنباط، وتلك كلها أشياء تتقدم بتقدم العصور، إذافما موقف الشعر من الفلسفة؟ يتساءل ماكولي هل هما شيء واحد، وبعبارة

ص: 47

أخرى هل يمكن أن يكون الشاعر فيلسوفاً والفيلسوف شاعراً؟ هي كما ترى نقطة ثار فيها الجدل بين كثير من الأدباء في الشرق والغرب، فبعضهم لا يجد غضاضة في الجمع بين الشعر والفلسفة في شخص واحد، بل وفي موضوع واحد تناوله النظم، ومن أجل ذلك تراهم يطلقون لقب الشاعر الفيلسوف على بعض الأشخاص.

ولكن ماكولي يرى أن الشعر والفلسفة شيئان، بل نقيضان، والجهل بهذه الحقيقة في زعمه جهل بمعنى الشعر وجهل بأغراضه

فهو لا يعني بالشعر كل كلام منظوم، لا ولا كل جيد من النظم، بل انه إذاأراد الشعر بمعناه الحقيقي، ليستبعد كثيراً من الكلام المنظوم، الذي ربما نال حظاً من الإعجاب في مجال آخر، وإنما يقصد ماكولي بالشعر، تلك القدرة على الوصول بواسطة الكلمات إلى ما يصل إليه المصور بواسطة الألوان، ثم ذلك الجو أو ذلك السحر الذي ينتزع الإنسان مما يحيط به ويطير به على أجنحة الخيال إلى وديان فسيحة مليئة بالرؤى والأطياف، ثم ذلك التأثير القوي، وتلك الحرارة أو ذلك الحماس المشبوب، الذي يجعل المرء طوع قلبه، وان هو خالف في ذلك منطقه وقواعد فكره.

ذلك هو الشعر في جوهره وطبيعته، وعلى ذلك فان كثيراً من النثر الذي تتحقق فيه هذه الصفات ليعد من روائع الشعر، فإذا - ما أردنا الشعر في الاصطلاح التزمنا النظم، وبواسطة الوزن والقافية والمهارة في التوقيع، نستطيع أن نجمع بين الشاعر والموسيقار، كما جمعنا بين الشاعر والمصور.

وشتان بين هذا وبين الفلسفة. نعم شتان بين عمل العقل في التفكير والتحليل، وبين اختلاج النفس بالأحاسيس وامتلاء المخيلة بالصور، وجيشان القلب بالعاطفة، وامتلاء المحاجر بالدموع، أو إشراق الوجوه بالفرح، واهتزاز الهيكل كله بالموسيقى.

وإذا كان الأمر كذلك فما أعجب الخلط بين الشاعر والفيلسوف في موضوع لا يمكن إلا أن يكون واحداً من اثنين: فإما إلى العقل وإما إلى القلب!!

يستخلص ماكولي من ذلك أن الرجل إذامال إلى التفكير والتحليل كان أقرب إلى الفلسفة منه إلى الشعر، وإذاأسلس العنان لخياله وأحلامه، كان إلى الشعر أقرب منه إلى الفلسفة، وقل في الأمم مثلما تقول في الإنفراد.

ص: 48

فالأمم كالأفراد، تبدأ أولاً بالإدراك الحسي، ثم بعد ذلك ترقى إلى الإدراك العقلي أو المعنوي، وبعبارة أخرى، تبدأ أولاً بفهم الصور الجزئية، ثم تتدرج منها إلى الحدود أو النصوص العامة، وعلى ذلك كانت لغة المجتمع الراقي لغة فلسفية، ولغة المجتمع نصف المتمدين لغة شعرية، وان التطور الذي يطرأ على اللغة من تذليلها وتوسيعها وإعدادها لمقابلة التقدم الفكري ليعد شديد الخطر على الشعر عظيم الفائدة للفلسفة.

وعلى ذلك فانه بقدر ما تتزايد معارف الناس وبقدر ما يتزايد تفكيرهم، بقدر ما ينصرفون عن الجزئيات ويقبلون على الأنواع، وحينئذ يصلون إلى نظريات راقية، بينما هم في الشعور لا ينتجون إلا آثاراً سقيمة قوامها العبارات الغامضة، بدل الصور الناطقة، والحجج الجافة بدل الأخلية الرائعة، أو بعبارة أخرى يكون قوام عملهم في الشعر الصفت المجردة بدل الأشخاص والأرواح الحية.

نعم إن هؤلاء المفكرين قد يكونون أكثر ممن سبقوهم مقدرة على تحليل وفهم الطبيعة البشرية، ولكن التحليل ليس من عمل الشاعر، فعمل الشاعر أن يصور وليس من عمله أن يحلل أو يشرح، والتحليل في الفنون يذهب روعتها، ويبطل سحرها، وموقف الشاعر من الفيلسوف موقف المصور في صالته من الطبيب أمام مشرحته، كلاهما يعرف أجزاء الجسم ولكنهما لا يقصدان غرضاً واحداً، بل ولا يركبان في زورق واحد، ولقد يفهم الشاعر الفضائل العامة والطبيعة البشرية كما يفهمها الفيلسوف، ولكنه في تلك الحالة لا تؤثر عقيدته في شعره إلا كما يؤثر علم المصور بنظام الدورة الدموية في فنه إذاهو حاول أن يرسم تساقط دموع (نيوبا) أو توقد خد (أورورا)

ولو أن شكسبير مثلا قد وضع كتاباً في الدوافع التي تسيطر على سلوك الإنسان لما كان من المحتمل بأي حال أن يجيء كتابه جيداً، ولما كان من المحتمل أن يحوي من التحليل ومتانة الحجج مثل ما يحويه كتاب يخرجه عالم من العلماء المعاصرين، ولكن أي عالم لعمري يستطيع أن يخلق (اياجو) نعم! أي عالم يستطيع مع قدرته على تحليل الشخصيات إلى عناصرها أن يضم من هذه العناصر ما يريد ليخرج لنا في النهاية رجلا مثل (اياجو) له خلق خاص وطبيعة خاصة وسلوك خاص؟

ولا يكتفي ماكولي بهذه البراهين التي ساقها للتفرقة بين الشعر والفلسفة، بل انه ليخطو إلى

ص: 49

أبعد من ذلك فيقول انه ربما كان من المستحيل على أي امرئ أن يكون شاعراً لا ولا أن يفهم الشعر ما لم يتجرد بعض الشيء من حدة عقله، أو بعبارة أخرى ما لم يكن له نصيب من خمود الذهن، إذا صح هذا التعبير وجاز لنا أن نسمي تلك القوة العجيبة التي تملأ قلوبنا بهجة خموداً ذهنياً.

نعم ان الصدق في الشعر أمر جوهري ولكنه (صدق الجنون) ذلك لأننا في الشعر نقيم الجدل الصحيح على المقدمات الزائفة، فبعد أن نضع الفروض الأولى، يسير كل ما بعده في توافق واتزان، ولكن قبول تلك الفروض يحتاج إلى نوع من التصديق قد لا يتسنى لنا إلا إذا ألغينا عقولنا مؤقتاً، ومن ثم كان الأطفال أكثر الناس خيالاً، فانهم يستسلمون إلى الوهم، فإذا ما عرضت أية صورة خيالية أمام أذهانهم عرضاً قوياً فأنها تفعل بنفوسهم ما تفعله الحقيقة. وليس ثمة من رجل مهما بلغت قوة إحساسه يتأثر بقراءة (هملت) أو (لير) كما تتأثر فتاة صغيرة بقصة الذئب والجدة العجوز، إن تلك الفتاة تعلم حق العلم أنه ما من ذئب في إنجلترا، وأن الذئاب لا تتكلم، ولكنها على الرغم من يقينها هذا تصدق فتبكي فترتعد، وذلك هو سلطان الخيال على العقول التي لم يصقلها العلم أو على الأمم في عهد طفولتها.

ولن يترك ماكولي أدلته دون أن يتوجها بتشبيه بديع، فهو يشبه الشعر بالفانوس السحري؛ فالشعر يرسم أطيافه في مخيلة المرء، أو كما يسميها ماكولي (عين العقل) كما يرسم الفانوس السحري لا يؤدي عمله إلى الوجه الأكمل إلا في الحجرات المظلمة، فكذلك الشعر لا يؤثر تأثيره القوي إلا في العصور المظلمة، عصور العقول الساذجة الفطرية التي لم تغيرها الفلسفة والعلوم. وكلما انتشر نور العلم وتمكنت العقول من استنباط الأصول وتقرير القواعد وكشف النقاب عن حقائق الحياة، تضاءل تبعاً لذلك عمل الخيال وتزايل تأثير الشعر، وحالت ألوانه، وتلاشت أطيافه، وهكذا نرى الفلسفة والشعر على طرفي نقيض.

تلك هي خلاصة آراء ماكولي في العلاقة بين الشعر والمدنية وبين الشعر والفلسفة. ولعلي أعرض على القارئ في القريب رأيه في شاعرية ملتن، فقد تعرض في ذلك إلى كثير من الأفكار التي تدور حول الشعر ولغته ومحسناته ومراميه.

ص: 50

محمود الخفيف

ص: 51

‌في الأدب الفرنسي

6 -

الدوق دي لاروشفوكو

للدكتور حسن صادق

فلسفته:

لما عجز لاروشفوكو عن تحقيق آماله ويئس من إرضاء طموحه، صدف عن حياة الاجتماع الصاخبة، وانطوى على نفسه وحللها، واستعرض في ذهنه حوادث الماضي وأخلاق الناس الذين عاشروهم ولاحظهم، ثم طلع عليهم بمواعظه القاسية الأليمة التي تظهر عواطفهم في صورة دميمة، وتجعل لجميع أعمالهم مصدراً واحداً هو الأثرة. وليس عجيباً أن يقسو هذا الرجل في الحكم على نفسه وعلى الناس، وأن يقوده التفكير إلى فلسفته اللاذعة، لأن التحليل لا ينتج التسامح، والغلو في الشك يؤدي إلى حب النفس. وأعتقد أن آراءه في معاصريه وبيئته، تنطبق على الإنسان في كل زمان، مع أن المصور الذي يرسم البحر أثناء العاصفة فقط، لا يعطينا عنه إلا فكرة ناقصة إلى حد بعيد. ولكي يكون الحكم على الجماعة صحيحاً، يجب ملاحظتها ودرسها في حالتي الهدوء والشغب، ولكن لاروشفوكو رأى الناس في عصره يعملون مدفوعين بمصلحتهم الذاتية، كما هو الحال دائماً أثناء الاضطراب الداخلي والحروب الأهلية، فاستخلص من ذلك أن المصلحة الذاتية التي يسميها عزة النفس أو الأثرة هي الباعث على جميع الأعمال الإنسانية، وينبوع العواطف البشرية. ولا شك في أن الإنسان يعمل دائماً طوعاً لمبدأ في دخليته يدفعه إلى البحث عن مصلحته الذاتية وسعادته. ولكن يعاب على هذا الفيلسوف أنه يضع لجميع الأعمال والعواطف على اختلاف أنواعها تفسيراً واحداً، على حين أن الطبيعة قد منحت الناس مواهب خاصة وغرائز متعددة وأذواقاً متباينة وملكات مختلفة تسبق الفكر في كثير من الأوقات والحالات الى الحركة والعمل، وجعلت لكل فرد طريقة يتبعها في الوصول إلى هدفه من الدنيا. وفي الحياة كثير من الناس يرثون عن أصولهم السذاجة الكريمة وصفاء القلب الجميل، فليس لهم مبتغى ولا متمني غير إسداء المعروف إلى إخوانهم في العاجلة مخلصين. وهم يلاقون في سبيل ذلك عناء كبيراً ويصادفون أخطارا جمة ويقدمون على

ص: 52

تضحية كثيرة يستعذبونها. وطريقتهم في الحياة هذه عزيزة عليهم، يجدون فيها مثلهم الأعلى في الشرف والسعادة. وليس من الحق والإنصاف أن يسمى الباعث إلى أعمالهم أثرة بالمعنى الذي يقصد إليه لاروشفوكو ويفهم عادة من هذه الكلمة وهذا الفيلسوف أبيقوري كمعاصره (هوبز) الإنجليزي الذي يرد بعض العواطف الهامة مثل الشفقة وحب البر والإحسان إلى مصدر واحد هو المصلحة الذاتية. ولكن الحكيم الفرنسي توغل أكثر منه في النفس الإنسانية. وقليل من علماء النفس ماثلوه في دقة التحليل، ولم يصل أحد منهم بمثل مهارته إلى هذا الجزء الخفي من النفس الذي تكمن فيه بعض الأفكار الأنانية العميقة. هذه الأفكار المبهمة ينفذ إليها لاروشفوكو بعقله ويخرجها إلى النور دون أن تستطيع الإفلات منه

ويرى هوبز أن في الحياة لذتين رئيستين: لذة البدن وهي الاستمتاع، ولذة النفس وهي الغرور، ويفضل الأولى على الثانية. أما لاروشفوكو فيعتقد أن اللذة النفسية هي الجديرة بالتفضيل على غيرها. ويقول، (اكبر مسرات النفس في اعتقادي هي المجد الصحيح والمعارف الجميلة. وأومن بأن الذين يجعلون للذة الجسدية قيمة كبرى لا يملكون من هذه المعارف إلا قليلا. وأرى أن اللذة الحسية خشنة مبتذلة تلهم الاشمئزاز، ولا تستحق البحث عنها والسعي وراءها إلا إذاكان للذة النفسية نصيب كبير فيها

ولم يقل ذلك إلا بعد أن مل العبث وكلف بالقراءة والتفكير العميق. وهو وهوبز يتفقان على أبيقور على أن الأعمال الإنسانية ليست نقية من الغرض. وقد اتبعا طريقتين مختلفتين في الوصول إلى آرائهما، ولكنهما التقيا في نقطة واحدة. أما هوبز فقد استعمل طريقة الاستنباط (أي استخراج قضية من قضية أعم منها) والتعقل. وأما لاروشفوكو فقد اتبع طريقة الاستقراء (أي الانتقال من الخاص إلى العام) والملاحظة. وكلاهما اتبع سبيلا واحدة في اتجاهين متضادين، ونجحا في قطعها إلى آخرها كل في اتجاهه

لما كف لاروشفكو عن حياة الخيال والدسيسة والشغب، بدأ حياة الفكر وتسلل بعقله إلى أبعد أغوار نفسه، ولاحظ في دقة ناردة نفوس أهل عصره. ثم وجد بأنه أينما ولى بصره لا يرى غير النفاق، يطل عليه الغرور، ويمكن خلفهما الأثرة. ودلته التجربة على أن هذه الأثرة كلما دقت واستخفت على الملاحظة، كانت قوية حادة، لأنه يجعل مقياسها مبلغ

ص: 53

المشقة التي يعانيها الإنسان في استكشافها.

ومن ملاحظاته التفصيلية الخاصة، استخلص فكرته العامة عن الإنسان، وهي تتلخص في أن المصلحة الذاتية تقوده في كل موطن، وحب النفس يدفعه إلى كل عمل. وصاغ هذه الفكرة العامة في تعبير دقيق:(تتلاشى الفضائل في المصلحة الذاتية كما تتلاشى الأنهار في البحر)(موعظة رقم 171). ولكي يكسبها الوضوح والجلاء رجع إلى ملاحظاته التفصيلية واختبرها ليثبت أن كل واحدة منها تدخل في حكمه العام. وهذا يدل على أن لاروشفوكو له أسلوب (مجموع المقدمات الصحيحة الموجزة الموصلة للحقائق) أو طريقة منظمة متناسقة متصلة الحلقات، ومن يلق على مواعظه نظرة سطحية يرها مفككة الأجزاء مبعثرة، ويعتقد أنها ملاحظات بسيطة دونها صاحبها مصادفة تبعاً للظروف دون أن يكترث لما سيكون لها من القيمة أو لما ستنتجه من الأثر ولكن القارئ الذي يمعن في التفكير يجدها متصلة بأقوى إيمان بالأثرة العامة الشاملة، وأشده ثباتاً وعنادا.

وهذه الطريقة تتلخص فيما يلي: الأهواء مصدر أعمالنا وأحكامنا وعواطفنا، وكل فضيلة تفنى في الأهواء التي تجاورها، كل فضيلة تقترب غاية القرب من رذيلة وتمتزج بها في ميدان العمل، وإننا نطلق عليها اسم فضيلة بدلاً من الرذيلة المجاورة خطأ أو إرضاء لكرامة غرورنا أو كبريائنا:(إن ما نعده فضائل، ليس في أغلب الأحيان إلا مجموعة من أعمال متعددة، ومصالح متنوعة يرتبها الحظ أو صناعتنا)(موعظة رقم 1). فالرحمة - مثلاً - التي نؤمن بوجودها يقول عنها: (الرحمة التي يحسبها الإنسان فضيلة، تستعمل أحياناً بدافع الغرور وأحياناً بدافع الكسل، وفي أغلب الأحيان بدافع الخوف، ودائماً بدافع هذه الصفات الثلاث مجتمعة)(موعظة رقم 16). ونرى من قوله أن كل عمل من أعمال الرحمة يتلاشى في إحدى الرذائل المجاورة أو يتلاشى فيها مجتمعة، كما يتلاشى النهر في البحر. وهذه الجملة (التي يحسبها الإنسان فضيلة) تدل على أن الرحمة ليست في ذاتها فضيلة، أو على الأقل على أن مصدرها الغرور والكسل والخوف وليس غير، مع أنها قد تصدر عن الشفقة وهي عاطفة عامة، أو عن الطيبة الكريمة التي تشعر بها النفوس العالية الكبيرة. ولنضرب مثلا: يوليوس قيصر الذي انتصر على بومبيوس في موقعة فإرسال (من أعمال اليونان الآن) في عام 48 قبل الميلاد، وأسر كثيراً من عظماء عدوه، فانه عفا

ص: 54

عنهم وكان في استطاعته قتلهم جميعاً. فهل يقول العقل إن هذا العفو مصدره الغرور، والغرور هو الكبرياء الذي تنشئه في النفس الأعمال التافهة الهزيلة، وانتصار قيصر على عدوه ليس من الأعمال التافهة، أو يقول إنه صدر عن كسل وهو في مقدوره أن يأمر بالقتل فيطاع، أو يقول إنه صدر عن خوف وهو منتصر قوي؟ ولكن لاروشفوكو لا يجد في الإنسان طيبة نقية، ويحرم علينا أن نؤمن بوجودها، وهو يبهر النظر بالضوء الذي يلقيه على رذائل الإنسانية، ويلقي بالفضيلة في ظلمة تحجبها عن الأبصار.

ولا شك في أن الرذيلة هي التي تسب شقاء الناس، وأن الفضيلة تهيئ لهم أسباب السعادة. فكل فكرة ترمي إلى هدم الفضيلة لتقيم على أنقاضها رذيلة، هي فكرة قاضية على سعادة البشر. والفكرة التي تقضي على سعادة البشر لا يمكن أن تشتمل على حقيقة، لأن صفة الحقيقة وعملها أن تسمو بالنفس لا أن تفسدها، وأن تشع الحياة في الجماعات الإنسانية لا أن تدمرها، وأن ترهب الطغاة لا أن تشجعهم. وقد سبق القول إن هذا الفيلسوف صور نفسه وعصره ومواعظه. ورأيه في الرحمة يدلنا على ذلك أفصح دلالة، لأنه ينطبق على سياسة الملكة آن دوتريش. فان هذه الملكة بعد أن ضحى لاروشفوكو في سبيلها كثيراً وشاكس ريشليو ورفض ما عرضه عليه من الرتب إرضاء لها، لم تحسن إليه بعد أن أقيمت وصية على العرش، بل أحسنت إلى الذين كانت تحقد عليهم. وهؤلاء كانوا أتباع ريشليو، فلما مات هذا الوزير وخلفه في الحكم صنيعته مازاران، بسط عليهم جناح حمايته كسلفه، فلم تجد الملكة بداً من مداراتهم بالرحمة التي ألهمت لاروشفوكو موعظته.

يتبع

حسن صادق

ص: 55

‌العُلوم

الفكرة الذاتية والفكرة الموحاة

للدكتور عبد الفتاح سلامه

قد يلعب الإنسان النرد مع صديقه للتسلية ولتمضية الوقت، ولكنه قد يغافل صديقه هذا فيغالطه في أثناء اللعب لأجل أن يكسبه. وقد يجلس الإنسان في المقهى فيرى غادة حسناء فيوسوس له الشيطان أن يتبعها، فيحول الضمير دون ذلك وينسى كل شيء عنها، ولكنه بعد قليل قد يجد نفسه سائراً في نفس الطريق وقد يلحق بها.

وقد يدخل الإنسان في بيت ما فيجد سلعة جميلة صغيرة فيود لو تكون له ثم ينسى أيضاً كل شيء عنها. ولكنه بعد خروجه من البيت يضع يده في جيبه ولدهشته ودهشة العالم معه قد يجد هذه السلعة فيه.

فالفكرة الذاتية اللاشعورية عن وجوب الكسب هي التي جعلته يغافل صديقه برغم وجود فكرة شعورية عنده عن وجوب اللعب لمجرد التسلية وبدون اهتمام للنتيجة. والفكرة اللاشعورية الخاصة باتبعاع الفتاة هي التي قادته للسير في هذا الطريق رغم احتجاج الضمير واستنكاره. والفكرة اللاشعورية الخاصة بامتلاك تلك السلعة هي التي دفعته إلى أخذها. وهكذا يبدوا أنه إذاكان اللاشعور ليس عليه إلا أن يرغب فان الشعور عليه أن ينفذ هذه الرغبة. وهذه هي القاعدة في الإنسان. ولكن كيف يتسنى لهذا الشيطان أن يملي رغبته على الشعور وكيف يتسنى للشعور أن ينفذ هذه الرغبة مع وجود الضمير القوي والعقل المميز الموزون؟

انه يلجأ في هذا السبيل إلى الحزن والتنغيص على الشعور فيضطره إلى تنفيذ ما يريد. والحزن سببه عدم التمكن من تنفيذ الرغبة أو تخيل عدم إمكان تنفيذها، والحزن يختلف من مجرد شعور بعدم السرور إلى انقباض مستمر، وفي نهايته العظمى يكون الحزن المرضي المسمى بالسوداء ففي مثلنا الأول يجلس الإنسان للعب وعنده رغبتان كما قدمنا ويبتدئ في تنفيذ الرغبة الشعورية أي اللعب لمجرد التسلية وعدم الاهتمام للنتيجة حتى إذا ما خانه الحظ وعرف أنه سيخسر الدور فان الرغبة اللاشعورية - حب الكسب - تجد نفسها على وشك عدم التنفيذ فيبتدئ مرح اللاعب يقل شيئاً فشيئاً، ثم يبتدئ أن يكون لعبه آليا أي

ص: 56

بدون تفكير منتظم فيشعر الإنسان بالضيق فيضطر بعد ذلك أن يجد له مخرجاً يقضي به الرغبة اللاشعورية التي سببت له هذا الضيق. وقد يكون هذا المخرج عن طريق النكتة والفكاهة وهذا من شأنه أن يقلب وضع الأمور فيخيل للمغلوب أنه غالب، وقد لا يكتفي المغلوب بهذا التخيل فيغالط إذن في اللعب عن قصد وغير قصد. هو إذ يغالط قد يعمل ذلك أيضاً على سبيل النكتة والفكاهة. والشعور في عمله لإزالة ما قعد يشعر به الإنسان من ضيق يرضي الرغبة اللاشعورية فيشعر الإنسان بالسرور والفرح. ويرضى كذلك الضمير لأنه إنما يغالط لأجل الضحك والسرور ولا حرج عليه في ذلك. فبالحزن إذن يسيطر اللاشعور على الشعور ويضطره إلى تنفيذ ما يريد. وهذه هي طريقة اللاشعور السحرية في إملائه لرغباته. أو هذا هو عمل الشيطان في وسوسته لما يبديه. ولعمري لو كان الشيطان جسماً مستقلاً عن جسم الإنسان ولم يكن ممثلاً في العقل الباطن فان هذا العقل هو صلة الاتصال بينه وبين الإنسان.

وفي مثلنا الثاني نجد أن صاحبه بعد أن أمره ضميره بالجلوس عاقلاً مؤدباً ما لبث أن شعر بالقلق في جلسته وسرعان ما فكر في مغادرة المكان، ولكنه لا يعلم سبب قلقه هذا، لأن الضمير قد طرد الفكرة اللاشعورية من الشعور، أو بمعنى آخر فان الضمير كان سبباً لنسيانه كل شيء عن هذه الفتاة. ولا يكون هناك بعد هذا النسيان ما يبرر منع المسير في هذا الطريق لو تذكر الإنسان لزوم قضاء حاجة معينة فيه. وهكذا تلجأ النفس إلى فكرة شراء شيء معين أو مقابلة شخص معين في هذا الطريق بالذات. فيقوم الإنسان من مكانه سائراً في الطريق الذي أراده اللاشعور ويزول القلق الذي سببه إذن هذا الأخير عندما منع عن تحقيق رغبته التي أبداها.

ومع أن اللاشعور يسبب للنفس المتاعب من جراء عدم تلبيتها لطلباتها فيضطرها إلى إجابتها. فانه كالطفل الذي قد يقنع من تحقيق رغبته بالأوهام دون الحقيقة الواقعة. وهكذا نرى في مثلنا الأول أن اللاشعور قد اكتفى بالنكتة والفكاهة دون تحقيق الكسب نفسه. وفي مثلنا الثاني ولو ان صاحبه سار في نفس الطريق الذي أراده اللاشعور إلا أن الغرض من السير قد التوى عليه.

ذلك هو اللاشعور، وقد رأيت أنه الطفل الذي يعيش في الأوهام أو هو الشيطان الذي

ص: 57

يحاول أن يخرج الإنسان من الحقائق إلى عالم الخيال. وقد نجح فعلاً في هذا الأمر أي نجاح سواء مع المرضى أو مع الأصحاء. وهل نرى في العالم شيئاً غير أخيال في كل مكان؟ فالمريض العصبي مريض لأنه تخيل المرض. ويقوم الإنسان من نومه معللاً الآمال على ما وجد في رؤياه من تحقيق أمل يرقبه أو النجاة من مكروه يرهبه. ويستمد الشعراء منه الخيال فتكون الاستعارة والتشبيه والتورية. ويستمد الروائيون منه والفنانون كل دقائق الفن ومعجزاته، فالمثال لم يعمل إلا أنه رغب فتخيل فجسم خياله. وحقق رغبته تحقيقاً رمزياً. وهذا مما يدل في ذاته على أن ذلك الطفل الذي يتذرع بالحزن للحصول على تنفيذ رغباته مع انه قد يقنع بالتحقق الجزئي أو الرمزي لهذه الرغبات، قادر كل القدرة على السيطرة على النفس لأنه تريد أن تتحاشى غضبهفتنفذ له ما يشاء. فهل يمكن بعد ما تقدم أن نستخدم هذه القوة لعلاج بعض الأمراض؟

في الإمكان الإجابة على هذا السؤال بالايجاب، وذلك بواسطة طريق الإيحاء المختلفة، وسنرى فيما يلي كيف يمكن التغلب على هذا الشيطان واستخدامه في أغراض علاجية كثيرة. وإننا نود أن نشير أولاً إلى إن قوة الإيحاء تتوقف على عوامل شتى. وأهم هذه العوامل ما كان بفعل المودة والمحبة والتقدير لأنه بسببها يعتقد اللاشعور بما يوحي إليه تمام الاعتقاد. ويرسله إلى الشعور ليتولى تنفيذه.

ولما كان الإيحاء لا يمكن أن يثمر إلا في وجود الاعتقاد، وكان الاعتقاد أيضاً متوقفاً على العوامل المختلفة السالفة الذكر فانه من الواجب أن تكون شخصية الموحى بعيدة كل البعد عما يسبب الريبة أو الشك، وأن يكون هو نزيهاً يزن كل كلمة يقولها، وأن يكون صالح المريض أول ما يرمي اليه، ونحن إذاأردنا سهولة التعبير وتوخينا إظهار ما نقصده على وجه عام فانه يمكن القول بأن الإيحاء هو وضع أفكار أمام العقل على أمل قبولها والاعتقاد في صحتها. وهي لذلك تأخذ مجرى عكسياً لمجرى الأفكار الذاتية لأنها تبدأ في الشعور أو التمييز ثم تذهب بعد ذلك إلى اللاشعور إذا لم تجد ما يمنع دون الوصول إليه.

وقد يكون الإيحاء من أشق الأمور إذا وجدت أفكار ذاتية تخالفه أو تشك فيه، ويكون من أسهل الأمور إذا وجد من الأفكار الذاتية ما يعززه أو ما لا ينقضه. والإيحاء موجود في الحياة العملية، وقد يكون الموحى أي إنسان مهما يكن مركزه أو عمره. فقد يجتمع اثنان

ص: 58

ويبدي أحدهما إعجابه بشيء معين وقد يكون على حق، ولكن سرعان ما يغير وجهة نظره بعد ملاحظة صغيرة من رفيقه فيبدو له قبح ما كان يعجب به، وقد ينقم إنسان على نفسه لتصرف يعتبره خاطئاً، ولكن سرعان ما يعد ذلك النوع من الإيحاء إيهاماً، لأن الأفكار الموحى بها كثيراً ما تكون مخطئة. وترك كلمة إيحاء للأفكار الصحيحة التي لا تحتمل الشك. وعلى كل حال فان الأفكار الموحى بها سواء أكانت صحيحة أم خاطئة فأنها تتبع نفس الطريق. أي إنها تسير من الشعور إلى اللاشعور حيث يحتويها ذلك الأخير فتصبح كالأفكار الذاتية ويعتقد بها الإنسان تمام الاعتقاد

والفكرة سواء أكانت ذاتية أم موحاة، تتحول في اللاشعور من مجرد تخيل إلى حقيقة متخيلة، وترسل على هذا الاعتبار الى الشعور فيتولى تحويلها من حقيقة متخيلة إلى حقيقة فعلية، أو بمعنى آخر من فكرة إلى فعل (من إلى وهكذا يكون التخيل من عمل اللاشعور، وتنفيذ التخيل من عمل الشعور. والشعور مع هذا ليس آلة ميكانيكية لتنفيذ تخيلات ورغبات اللاشعور، بل أنه قد يرد بعض هذه التخيلات إلى اللاشعور لعدم ملاءمة تنفيذها وهنا تحدث المشادة بينهما.

فإذا أمكن إقناع مريض عصبي بأن يده المشلولة قد شفيت تماماً فان فكرة الشفاء هذه تتحول في اللاشعور إلى حقيقة متخيلة أو بتعبير أدق إلى حقيقة نفسية. وترسل على هذا الاعتبار إلى الشعور حيث يتولى إثبات هذه الحقيقة بإخراجها من حيز التخيل إلى حيز الفعل فيأمر العضات أن تنقبض، وهكذا تتحرك اليد ويتحقق الشفاء الموحى به. والمريض العصبي لا يمرض إلا إذا تخيل المرض ولا يشفى إلا إذا تخيل الشفاء

وهناك قانون آخر كشف عنه كوويه وهو أنه إذا حدثت مشادة بين الإرادة والتخيل أو بين التمييز من جهة واللاشعور والشعور من جهة أخرى، فان الغلبة تكون دائماً للتخيل على الإرادة. فشارب الخمر أو الدخان عنده إرادة قوية تحاول منعه من تعاطيهما، ولكن تخيله احتياجه إلى الشرب أو التدخين يقهر الإرادة عنده ويستمر في التعاطي. وهكذا نرى كوويه يتحدث عن المشادة وهي تقرب من المشادة التي يتكلم عنها فرويد بين اللاشعور والشعور، ولو أن مشادة كوويه شعورية ومشادة فرويد لا شعورية أو تكاد. ولهذا أشار هذا الأخير بتحليلها ومعرفة أسبابها وعرض نتيجة ذلك على التمييز ليبت فيها بصورة معقولة، أما

ص: 59

كوويه فانه لما كانت المشادة التي يتحدث عنها شعورية فهو لا يحتاج إلى تحليل، بل يقول انه ما دامت الإرادة ضعيفة بالنسبة إلى التخيل فيجب وضع تخيل جديد أمام العقل يكون من شأنه أن يقلل من قيمة التخيل الأول الذي يتعارض مع الإرادة. وهكذا تبطل المشادة ويشفى المريض، وهو يضع التخيل الثاني بواسطة إيحاء لا يكون فيه ذكر للإرادة، فيطلب إلى مريضه أن يقول (لقد تحسنت صحتي وأنا في طريق الشفاء) لا أن يقول (أريد أن تتحسن صحتي وأريد أن أشفى)

وإذا قال أتباع نظرية فرويد بأن المرض يختفي بالإيحاء ليحل محله مرض أخف أو أشد منه. أجاب أتباع كوويه بأن من الممكن عمل إيحاء تام يشمل جميع الأمراض، والواقع أن هذا إذا نجح في كثير من الأمراض فانه يعجز عن شفاء الكثير منها أيضاً، لأن المشادة الشعورية ليست إلا أثراً أو دليلاً على وجود مشادة لا شعورية. والإيحاء إذا عمل قبل الكشف عن هذه المشادة الأخيرة قد يخفف من وطأة المرض العصبي مؤقتاً ولكنه يزيد من فعل الضمير في كبح الرغبات والأفكار الذاتية وضغطها، وذلك يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها. فمعرفة المشادة اللاشعورية في هذه الأحوال وتحليلها هو من أهم الأمور أولاً، ثم يأتي الإيحاء بعد ذلك بأفكار جديدة سامية وتخيلات ممكنة معقولة. ولهذا نرى فرويد في كتبه يقول إنه لا يميل إلى إيحاء أي فكرة إلى المريض بل يجب تركه ليكون لنفسه من الأفكار والتقدير ما يراه مناسباً لها، فهو بعد الكشف عن المشادة يكون قد شفى من مرضه. وإذاكان المريض لا يزال في حاجة إلى الإرشاد فقد يوحي إليه في بعض الأفكار والمثل العليا.

ولما كان كوويه يعتقد أن وجود الإرادة من شأنه أن يزيد في عناد التخيل وتشبثه بتنفيذ رغباته فإننا نجده يعمل لإزالة التمييز وهو محل الإرادة من مريضه قبل إيحاء أي فكرة إليه، وذلك بواسطة أربع تجارب تثبت للمريض مقدار تأثير التخيل على الإنسان في غياب التمييز. وهو بعد أن يقتنع بقوة التخيل هذه يطلب إليه أن يستخدمها في شفاء نفسه، وذلك بأن يتخيل الشفاء، ولكنه بالطبع لأي طلب إليه أن يقول إنه يتخيل الشفاء، بل انه شفى من مرضه وأن مرضه لن يعود.

وهناك طريقة أخرى للإيحاء وهي أن يكرر المريض جملة معينة في أوقات مختلفة من

ص: 60

النهار ولمدة طويلة، وهذه هي الطريقة التي يتبعها في أمريكا وهي كثيرا ما تفيد في بعض الأحوال، لأن التمييز إذا عارض الفكرة الموحى بها في أول الأمر لا يلبث أن يتعرض لها بنقض أو شك فيما بعد فتصل في النهاية إلى اللاشعور وهو مركز التخيل كما قدمنا حيث تخرج منه حقيقة واجبة التنفيذ.

أما الإيحاء بالتنويم فلا شك أن الفكرة الموحى بها تصل إلى اللاشعور دون أن يقف في طريقها أي حائل. ذلك لأن النائم يعتقد في المنّوِم القدرة الفائقة والإرادة القوية، وهو لذلك يأخذ منه الأفكار دون أي مناقشة أو شك فينفذها الشعور بعد قيامه من النوم في الوقت المناسب. وهذه الطريقة ينطبق عليها ما سبق أن تكلمنا عنه بصدد الإيحاء بطريقة كوويه. أي أن الأعراض تختفي لأجل أن يظهر غيرها، وأن الضمير يشتد في الضغط على رغبات الإنسان اللاشعورية بدل أن يسمح لها بالمثول أمام الشعور والتمييز لمناقشتها. هذا إلى أن شخصية النائم تصبح ضعيفة تتأثر بأي فكرة يوحيها أي إنسان، لأن اللاشعور عنده قد كبر على حساب عقله المميز.

أما قيمة الإيحاء العلاجية فإنها تظهر من استعراض بعض حالات تمكن كوويه من شفائها شفاء تاماً. ومن الغريب أن بعض هذه الأمراض لا يمت إلى الأمراض العصبية بصلة ما. مثال ذلك أنه تمكن من شفاء صبي عنده التهاب في عضلات القلب وهبوط قلبي يئس أطباء مشهورون من شفائه. وقد تمكن أيضاً من شفاء النزلة الرحمية والنزيف بالإيحاء، ولنذكر القصة الآتية التي تكلم عنها البروفسور بودوان. فقد حدث أن مريضاً يشكو من نوبات ضيق التنفس بات ليلة في فندق وانتابته النوبة ليلا فقام فزعاً يريد فتح النافذة يلتمس منها هواء نقياً ولكنه بسب الظلام وللحالة النفسية التي كان بها إذ ذاك لم يتمكن من العثور إلا على لوح زجاجي تخيله جزءاً من النافذة فضربه بيده وكسره، وعند ذلك ذهبت عنه النوبة ونام مستريحاً. وعندما تيقظ في الصباح وجد أن خادم الفندق كتب له ورقة بأن عليه أن يدفع ثمن زجاجة ساعة الحائط التي كسرها. إذن فالذي أنقذه من نوبته ليس دخول الهواء النقي بل هو مجرد تخيل دخول هذا الهواء، لأنه كسر زجاج الساعة بدلا من أن يكسر زجاج النافذة. وقد ذكر الأستاذ بودوان أيضاً أن زوجة رأت وهي حام إصبعاً قبيحة الشكل فاستاءت منها وأصبحت صورتها لا تفارق مخيلتها فوضعت هذه الزوجة طفلا

ص: 61

بإصبع مماثلة لتلك الإصبع القبيحة تماماً، وفوق ذلك فإننا نرى كوويه يقول إن المرأة يمكنها أن تلد ما تشاء من ذكر أو أنثى وما تشاء من محاسن وصفات إذا تخيلت رغبتها طول مدة الحمل

وليس هذا الأمر بغريب علينا نحن الشرقيين فإننا كثيراً ما نسمع عما يسمونه (الوحم) هذا فيما يتعلق بتأثير الإيحاء على الجنين، أما تأثيره على الشفاء من المرض فليس هذا بغريب علينا أيضاً لأننا كثيراً ما نقرأ في الكتب القديمة عن شفاء بعض الأمراض بالطلاسم والرقي والبخور، وهذه هي الأشياء التي نسميها الآن شعوذة وتدجيلا، مع أنها مدرسة قائمة بذاتها بتعاليمها وتلامذتها وأساتذتها الخ. . والواقع أنها كانت في العصر القديم لها من الأهمية بالنسبة إليه ما للإيحاء في العصر الحاضر من أهمية بالنسبة إلينا. والفرق بين طريقة اليوم وطريقة الأمس هو أن الشخص الذي يقوم بالإيحاء الآن رجل متعلم يعمل بوازع من ضميره الإنساني النبيل ويوحي إلى مرضى مثقفين أيضاً يعرفون قيمة ذلك الإيحاء ويعرفون أن قوة الشفاء موجودة في أنفسهم إذا أمكنهم أن يتخيلوا الشفاء أو إذا أمكنهم أن يتحكموا في مخيلتهم. وهكذا نرى أننا بعد أن وصلنا إلى هذه الدرجة من المدنية والعلم قد رجعنا إلى الطرق التي كان يعالج بها في الأزمنة القديمة والتي لا نزال نرى بقاياها. والتاريخ يعيد نفسه، فالمريض يشفى في العصر الحاضر إذا أوحى إليه بالشفاء بأذن الله على شرط أن يحمل حجاباً أو يحرق بخوراً. وهو بعد أن ينفذ هذه الشروط يتخيل الشفاء فيتم له. وقد تكون هذه الطريقة القديمة أجدى وأنفع للإنسان لأنها تجعله يضع ثقته في خالقه تعالى فيستمد من هذه الثقة كل معاني القوة والاطمئنان والراحة والمواساة. بدل أن يضعها في نفسه وهو كثيرا ما يشعر بضعفها.

وقد يساعد الإيحاء أو الإيهام على استفحال الداء، وذلك إذا كانت الفكرة الموحاة مخطئة كما يحدث في بعض حالات السل. ذلك لأن لفظة (سل) مخيفة عند الكثيرين الذين يعتقدون أنه لا سبيل إلى شفاء المريض به، وبمجرد معرفة أحدهم بأن هناك شكاً في تشخيص مرضه من هذه الناحية لا يلبث أن يعتقد بأنه مريض بهذا المرض فيتحقق له اعتقاده ويستفحل الداء ويسير به إلى الهلاك بخطى سريعة واسعة. ومع ذلك فمن منا سلمت رئتاه من هذا المرض؟ وكم رئة إذا شرحت وجدت خالية من التدرن أو من آثاره؟ فالسل مرض قابل

ص: 62

للشفاء ما لم يعتقد المريض بخلاف ذلك.

عبد الفتاح سلامه

ص: 63

‌بين الدين والعلم

كتاب عن فساد الداروينية

كان من نتائج الحرب العالمية الماضية طغيان موجة الكفر والالحاد، والمذهب الدهري الذي شعار أنصاره:(نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)؛ وزوال فكرة الألوهية من بعض الرءوس الصغيرة والأحلام الضعيفة. ذلك بأن الناس تناحروا وتطاحنوا في الحرب، ثم لما رأوا أهوالها جعلوا يضرعون إلى الله سبحانه وتعالى أن يحقن دماء الباقين منهم وينجيهم من شر المخبأ لهم في عالم الغيب كما يقول شحاذونا. فلما لم يسمع لهم نادوا بالكفر، وطلقوا البقية الباقية في صدورهم من الإيمان، فكان هذا الاستهتار وكانت هذه (الكلبية) التي رانت على القلوب وبلغت أقصاها في روسيا البلشفية

لكن يظهر إن رد الفعل هذا سيعقبه رد فعل آخر من الجهة المقابلة،

ويعيد الناس إلى صوابهم مرة أخرى. ففي كل بلد من بلاد أوربا يقظة

دينية، وفي كل قلب ندامة، وفي كل ضمير شيء من الوخز يبشر

بانتعاش الإيمان من إغماء كان يخشى أن يكون طويل الأمد، وأن

ينتهي بموت الأبد، وبيقظته من سبات كان يخشى أن يكون دائماً، وأن

يليه مرض خبيث كمرض النوم لا يخلّص صاحبه منه إلا الموت

لكن أغرب من هذا كله أن يقوم من يقول لنا إن أعظم حوادث القرن العشرين فقد الناس إيمانهم بالعلم بعد عودة إيمانهم بالدين، وكما أن العلم هد أركان الدين في بعض البلدان وفي خلال القرن الماضي، كذلك نرى الأديان الآن تنتقم من العلم بتقويض أركانه، والبناء على أطلاله. فقد أعطانا العلم الحرب العالمية بفظائعها وأهوالها، فضربت أركان الديانة ضربة شديدة، ولكنها ضربت العلم ضربة أشد منها

قال أحد الكتاب: لما أعلن اينشتين مذهب النسبية الذي قلب به مذهب نيوتن، قلت في نفسي ومن يدرينا متى يقوم مذهب من نوع سوبر اينشتين يقضي على مذهب اينشتين؟

ظهر بالأمس كتاب جديد عنوانه (هذا التقدم - مأساة مذهب النشوء) أي مذهب داروين الذي ينكر الخلق الفجائي، ويقول إن أنوْاع الحيوان والنبات حتى الإنسان متسلسل بعضها

ص: 64

من بعض، وان بيننا وبين القرود لذلك لحمة نسب وصلة قرابة. ولا يزال مذهب داروين ناقصاً ما يسمونها (الحلقة المفقودة) التي تثبت قرابة الإنسان للقرد، ومادامت مفقودة يبقى مذهباً، ويبقى لذلك خارجاً عن دائرة اليقينيات المثبتة إذ يعوزه البرهان

ومؤلف هذا الكتاب عالم إنجليزي اسمه الكبتن اكوارت، وهو يقول فيه: إن الداروينية كذبة كانت السبب الأول في تدهور الحضارة الغربية، بانياً حكمه هذا على اكتشاف اكتشفه وبرهن فيه على أن نشوء الطيور خرافة لا كما يقول المذهب الدارويني

وقد عرض المؤلف فكرته التي بنى عليها مؤلفه على بعض أصحابه النشوئيين فأقروه عليها، ولم يستطع أحد منهم أن يبين وجه الخطأ فيها وهزأ في كتابه ببعض الآراء الشائعة بين علماء الطبيعة عن النور ونهاية الفضاء والأثير والفراغ والسدام

وأبان في كتابه أن النشوئيين لم يهتدوا بعد إلى الحلقة المفقودة التي تصل الإنسان بالقرد كما يزعمون، مع انهم قلبوا بطن الأرض يبحثون عنها، ولكن الجيولوجيا تضحك من بحثهم عن شيء لا وجود له. وقد اعترف داروين نفسه في زمانه بأن (الجيولوجيا لا تؤيد وجود تلك السلسلة الدقيقة المتدرجة التي يتطلبها ناموس النشوء نفسه) بل بالضد من ذلك تثبت ان الداروينية غير صحيحة، لأن وجود بقايا الحيوانات في الصخور لا يمكن تعليله بأي مذهب من المذاهب، فان عظام الفرس مثلاً كانت موجودة في قلب الصخور قبل ظهور ما زعموا أنها أسلافه لا بعد ظهورها

وقد هدم مندل بناموسه عن الوراثة ناموس الانتخاب الطبيعي الذي هو أساس الداروينية. ويقول المؤلف إن الداروينية زعزعت أسس الدين، فلو أمكننا التخلص منها لمهدنا الطريق إلى إحياء الإيمان بالخالق. وان من الغربة بمكان ان يبنى الناس تزعزع إيمانهم بالله مدة قرن كامل أو نحو ذلك على مذهب لم يثبت بالبرهان ولا يمكن إثباته.

فالأيمان بالله أسهل كثيراً من الإيمان بخدع العلم وأوهامه.

ق. س

ص: 65

‌القصص

النفس الرقيق. . .

لايفان بونين

ترجمة ع. الحمدي

في المقبرة فوق أكمة نضرة مخضرة صليب جديد مصنوع من خشب البلوط، قوي ثقيل، ثابت راسخ، ناعم الملمس، بهيج المنظر. وكان الشهر أبريل ولكن الأيام غائمة كالحة. فكنت ترى من مراحل شاسعة خلال الأشجار الجرداء شواهد الأجداث قائمة في المقبرة - مقبرة رحبة ريفية أو اكبر من الريفية بعض الشيء - والريح الباردة القاصفة تصفر صفيراً مخيفاً كلما مرت من تجاويف الإكليل المصنوع من الخزف الصيني عند قاعدة الصليب. وفي الصليب نفسه ركب إطار مستدير من النحاس الأصفر. وفي الإطار صورة لفتاة حسناء فاتنة من طالبات المدارس، مهندمة الملبس، لها عينان فرحتان براقتان تنمان على الحياة والغضارة

هذه الصورة هي صورة (أولجا مسجرسكي)

لما كانت بنتاً صغيرة لم يكن لها ما يميزها في ذلك الجمع الصاخب من ذوي الأثواب السمراء الذين كان لغطهم المتنافر يدوي في ابهاء المدرسة وصفوفها. وكل ما كان يستطيع الإنسان ان يقوله عنها هو أنها ليست إلا واحدة من هؤلاء الفتيات الكثيرات الجميلات السعيدات، وإنها ذكية، لكنها لعوب كثيرة الحركة، لا تصغي لما يلقيه عليها العلم في الصف من دروس. ثم صارت إلى النمو، وأخذت تتفتح أكمامها لا بالأيام بل بالساعات. وفي سن الرابعة عشرة، وقد أصبح لها خصر أهيف، وساقان جميلتان متسقتان، برز نهداها ولاحت عليها تلك الرسوم والملامح الدالة على النضوج، ولم تستطع لغة البشر بعدُ أن تصف فتنتها وسحرها. وفي سن الخامسة عشرة قيل عنها إنها حسناء. . . وكم كان أترابها ورفيقاتها في المدرسة شديدات العناية بتنظيم شعورهن، وكم كن نظيفات محترسات في حركاتهن! ولكنها ما كانت لتخشى شيئاً فهي دائماً نظيفة الثياب حسنة الهندام، متوردة الوجه من غير قصد فمنها ولا عناء من جانبها، اجتمع لها في سنتيها الأخيرتين كل ما

ص: 66

يميزها من باقي المدرسة، اجتمع لها الظرف والأناقة وخفة الروح وإشراق الطلعة وبريق الذكاء. . . ذلك إلى أن أحدا لا يستطيع الرقص مثل (أولجا مسجرسكي)! ولا يستطيع العدو أو الانزلاق مثلها! ولسبب ما لم تكن لأحد تلك الألفة التي كانت لها مع صفوف الصغار والأحداث في المدرسة. ومن غير أن تشعر أصبحت فتاة، ومن غير أن تشعر ذاعت شهرتها في المدرسة. ولم يمض قليل حتى أخذت الألسن تلوك عنها الأحاديث بأنها نزقة متقلبة لا تستطيع أن تحيا بغير عشاق، وأن التلميذ (شنسين) مدله في حبها مأخوذ بجمالها، وأنها هي أيضاً لعلها تحبه ولكنها لكثرة تقلبها وسوء معاملتها جعلته يحاول الانتحار غيرة مرة. .

في خلال شتائها الأخير جن جنونها بذلك الفيض من السعادة الذي غمرها. . . كذلك قالوا عنها في المدرسة. . . وكان هذا الشتاء مثلجا قارساً تنزل الشمس فيه مبكرة وراء الأيكة الكثيفة من أشجار الشربين الباسقات خلف بستان المدرسة المكسوة بحلل من الثلج الناصع. ولكن الجو كان رائعاً بساماً على الدوام. اليوم ثلج وغدا شمس. نزهة قصيرة في شارع الكنيسة. انزلاقة في متنزه المدينة. غروب وردي دافئ؛ موسيقى. . . ثم ذلك الجمع الدائم الحركة الذي كانت (أولجا) تلوح من بينه أخفه روحاً وأشده نزقاً وأوفره سعادة. وفي ذات يوم بينما كانت مندفعة كالإعصار في غرفة الألعاب تعدو في أثرها الفتيات الصغار يصرخن ويهتفن مبتهجات استدعتها رئيسة المدرسة على حين غرة. فوقفت بغتة وتنفست نفساً عميقاً ثم رتبت شعرها وسحبت أطراف مئزرها كي توصله إلى كتفيها. وبعينين مضيئتين هرعت إلى فوق. كانت الرئيسة صغيرة السن، لكن شعرها كان أبيض، وكانت جالسة بهدوء إلى الطاولة تحت صورة القيصر وفي يديها تطريز قد انكبت عليه واستغرقت فيه.

قالت الرئيسة بالفرنسية دون أن ترفع عينيها عن التطريز (عمى صباحاً يا (مس. مسجرسكي) - إنني آسفة لأن هذه ليست المرة الأولى التي اضطررت فيها لاستدعائك إلى هنا لأكلمك في سلوكك) فأجابت (اولجا) - لقد أخذت بإرشادك أيتها السيدة - قالت ذلك وهي تقترب من المنضدة تنظر إليها بإشراق باد وسرور ظاهر، وفكر شارد، ولم تؤد إليها من التحية إلا طرفاً ضئيلاً ظريفاً هو كل ما تستطيع تأديته من التحيات.

ص: 67

فقالت الرئيسة (انك لم تسمعي ما أقول - وقد اقتنعت وا أسفاه بهذا) قالت ذلك وسحبت الخيط سحبة تدحرجت لها كرة الخيوط على البلاط الصقيل اللامع، وتبعتها أولجا بنظرة مستطلعة. ثم رفعت الرئيسة عينيها إليها وقالت (سوف لا أكرر ما أقول. سوف لا أكثر من القول).

راق (اولجا) غرفة المطالعة هذه، وراقتها نظافتها الغريبة واتساعها غير المألوف. وأعجبتها زنابق الورد الجنية الزاهية التي كانت موضوعة في زهرية فوق المكتب. جلت بنظرها إلى القيصر الشاب وقد صور بكامل جسمه في بهو فاخر، ولبثت ساكتة لا تنبس ببنت شفة.

قالت الرئيسة في لهجة تدل على معنى مقصود منها. وقد شعرت في نفسها بسورة من الغضب: (انك لم تعودي الآن بنتاً صغيرة)

فأجابت أولجا في سذاجة يغلب عليها الحبور. (نعم. سيدتي!)

قالت الرئيسة ولا يزال في لهجتها معنى تقصده، وتتعمد الإلماع إليه (لكنك لم تصبحي امرأة بعد) واحمر وجهها الشاحب بعض الحمرة وقالت (خبريني أولاً: لماذا تصففين شعرك بهذا الشكل؟ انك لتصففينه كالمرأة).

فأجابت أولجا (ليس من ذنبي يا سيدتي أن يكون شعري جميلاً) وأمسكت شعرها المنظم الجميل بكلتا يديها وبشكل لا يخلو من دلال.

فقالت الرئيسة (أحقاً ما تقولين؟ أصحيح أنه لا لوم عليك؟ - ألا تلامين على الطريقة التي تنظمين بها شعرك؟ ألا تلامين على هذه الأمشاط الغالية؟ ألا تلامين إذا أفقرت أبويك باقتناء حذاء بعشرين روبلا؟ ولكني أكرر القول بأنه قد غاب عن بالك انك لا تزالين طالبة ليس إلا). وهنا قاطعتها أولجا فجأة بأدب ومن غير أن تفقد شيئاً من بساطتها وهدوئها قائلة (عفواً يا سيدتي انك خاطئة، إنني في الواقع امرأة، وهل تعلمين من يلام على ذلك؟ انه صديق أبي وجاره أخوك (الكسي ميكالوفتش). . . وقد وقع ذلك في الريف في الصيف الماضي).

بعد هذا الحوار بشهر أطلق ضابط من أجلاف القوزاق سمج أخرق، في هيئة السفلة من الرعاع والأفاقين، على أولجا عياراً نارياً أرداها قتيلة وهي في جمع من الناس على

ص: 68

رصيف المحطة وقد وصلوا تواً بالقطار. وهكذا تحقق بهذا الحادث اعتراف (أولجا) الذي صعق الرئيسة. فقد قال الضابط للمحقق إن (مسجرسكي) قد أخرجته عن وعيه، وإنها فيما مضى كانت لها به صلة من صلات العشق الخفي، وإنها وعدته بالزواج منه، وفي محطة القطار في يوم مقتلها عند ما رأته يغادر المدينة إلى (نوفوجركاسك) أخبرته بغتة بأنها لن تفكر في الزواج منه، وان كل ما قالته له من أمر الزواج لا يتعدى السخرية منه والهزء به، وإنها ناولته مذكرتها ليقرأ فيها تلك الصفحات التي كانت قد كتبتها عنه.

قال الضابط (ألقيت نظرة عجلى على تلك الصفحات - وذهبت إلى الرصيف حيث كانت تخطر جيئة وذهاباً تنتظرني ريثما أفرغ من قراءتها وسددت إليها مسدسي فقتلتها. وتلك هي المذكرة في جيب معطفي، انظر تحت تاريخ 10 يوليو من السنة الماضية. . .). وهذا ما قرأه المحقق:

(الساعة الآن الثانية صباحاً، استغرقت في نوم عميق لكنني ما لبثت أن استيقظت مرة أخرى. . . أصبحت اليوم امرأة. أبي وأمي و (توليا) كلهم سافروا إلى المدينة وبقيت وحدي. ما أسعد الإنسان أن يكون وحده. آه لو أستطيع أن أصف مبلغ سعادتي بوحدتي هذا اليوم. في الصباح أخذت أتمشى في البستان بالمزرعة. دخلت في الأيكة الوارفة الظل. خيل إليّ أنني وحدي في هذا العالم كله. ليس فيه غيري. لم تلم بي قبل اليوم أمثال هذه الخواطر والأفكار اللذيذة. . . ما أحلاها. . . تناولت طعام الغداء وحدي، ثم لعبت ساعة من الزمن. . . وألقت الموسيقى في روعي بأنني يجب أن أعيش أبداً وأن أكون أسعد مخلوق على وجه الأرض! ثم أخذتني سنة من الكرى في غرفة الاستقبال الخاصة بأبي. وفي الساعة الرابعة أيقظتني (كيت) وقالت لي إن (الكس ميكالوفتش) قد حضر إلى هنا. كم سررت بلقائه. كم كان جميلا أن استقبله وأكرم مثواه. جاء ومعه جوادان مطهمان. ما أجملهما؟ ظلا طيلة لبثه واقفين عند الباب الأمامي. لكنه لبث هنا لأن المطر كان ينهمر كأفواه القرب وأنه يرجو انقطاعه وجفاف الطريق عند المساء. أسف أشد الأسف لعدم لقائه أبي في البيت، كان مبتهجاً خفيف الروح مترعاً بالحياة، عاملني بكل لطف وأدب. وصار يتنادر معي ويذكر في دعابه وفكاهة أنه وقع في شراك حبي من زمن بعيد. وقبيل تناول الشاي أخذنا نخطر في البستان بين الرياحين والأغصان المتمايلة وكان الجو رائعاً فاتناً،

ص: 69

ولكن الرد طفق يشتد، وظللنا نمشي معاً ذراعاً بذراع، وقال كأنه معي فاوست مع مرجريت!. هو في السادسة والخمسين، إلا أنه لم يزل وسيماً جذاباً. حسن الهندام دائماً - والشيء الذي أنكرته عليه هو أنه جاء اليوم متلفعاً بملفعة تفوح منها رائحة عطر انكليزي ولا تزال عيناه عيني شاب يافع. . لحيته طويلة مسترسلة. مفروقة في وسطها فرقاً جميلا - هي فضية لامعة. - تناولنا الشاي في الشرفة الزجاجية، وشعرت بغتة أن وعكاً خفيفاً عراني فاستلقيت على السرير وظل هو يدخن. ثم جلس بقربي وشرع يقول أقوالاً لذيذة، فيها متعة، وفيها ما يستثير كامن الوجد ومكبوت الهيام. ثم تناول يدي فطبع عليها قبلة حارة. . . فجعلت من منديلي الحريري الكبير ستراً أسدلته على وجهي، وجع ينهال بالقبلات إثر القبلات من فوق المنديل على شفتي. . . لا أدري كيف وقعت الواقعة!. لا أستطيع أن أقول كيف حدثت، قد جن جنوني!. . ما كنت لأحلم يوماً أنني أكون كتلك اللحظة. . والآن لا أشعر نحوه بغير شيء واحد: الاشمئزاز الذي لا قبل لي بحمله. أواه! ما أشد ما ثار في نفسي بعد ذلك من المقت له!!

المدينة في هذه الأيام من أبريل نظيفة نقية، قد ذهبت بأدرانها وأقذارها أمطار الشتاء، وبدت حجارتها بيضاء ناصعة، وأصبح السير فوقها محبباً شهيا. . . في كل يوم أحد بعد القدّاس ترى في شارع الكنيسة المؤدي إلى خارج المدينة امرأة قِمئة ضئيلة الجسم تلبس الحداد، في يديها قفازان من جلد المعز الأسود، تحمل مظلة مقبضها من الأبنوس، تراها تسير في الشارع وما تنتهي منه حتى تجوز ساحته، ثم تعبر السوق المتهدمة حثت الحدادون الكثيرون، وحيث النسيم يهب رقيقاً عليلاً من الحقول القريبة. وهناك على بعد كبير بين الدير والسجن ترى العين المنحدر الأبيض من القبة السماوية، والحقول المترامية تغتسل في تلك القتمة الرمادية. . . وبعد ذلك، بعد أن تجوز البركة الكدرة خلف الدير ترى ما يبدو لك كأنه حديقة فسيحة واطئة محاطة بسور أبيض كتب على بابه: (صعود سيدتنا إلى السماء هناك تقف المرأة وقفة قصيرة ترسم مسرعة بيديها صليباً على صدرها وتسير سالكة الطريق الأصلي؛ ومتى وصلت المقعد إزاء الصليب الجديد المصنوع من خشب البلوط، جلست في تلك الريح الشديدة وذلك الهواء القارس ولبثت كذلك ساعتين. . حتى تؤلمها قدماها من شدة البرد، وهما في ذلك الحذاء الخفيف، وحتى تكاد تجمد يداها من

ص: 70

قسوته ولذعته. وبينا هي تستمع لأطيار الربيع تصدح بالغناء العذب، والصوت الرخيمالرقيق حتى في ذلك البرد القارس. وبينا هي تصغي إلى صفير الريح تمر من تجاويف إكليل الخزف وتضاعيفه تبرق في رأسها فكرة أنها تقدم نصف حياتها لو أن ذلك الإكليل البارد الميت لا يكون أمام عينيها. ثم إن (أولجا مسجرسكي هي التي دفنت في ذلك القبر)، هذه الفكرة وحدها، تغمرها في لجة من الدهش البالغ والحيرة المتناهية، فيبدو عليها وجوم عميق وذهول غريب وجزع مروع: كيف يستطيع الإنسان أن يجمع بين طالبة غضة بضة لا تتجاوز سنها السادسة عشرة، كانت قبل شهرين أو ثلاثة تتفجر حياة، وتسطع فتنة، وترفل بأزهى حلل السعادة والهناء. كيف يستطيع الإنسان أن يوفق بينها وبين تلك الأكمة من التراب وذلك الصليب الخشبي؟ أممكن أن تكون هذه هي نفس هذه الفتاة التي تشع عيناها بالخلود الأزلي من هذا الإطار النحاسي؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يجمع بين هذه الطلعة المشرقة الوضاءة وتلك الحادثة الفظيعة التي توافق الآن اسم (اولجا مسجرسكي)؟ رحماك يا رب! إن هذا ليعجز الإفهام. . ولكن هذه المرأة القمئة الضئيلة الجسم سعيدة في قرارة نفسها، سعيدة كأولئك العاشقين الذين وقفوا حياتهم على حلم عاطفي جميل. .

هذه المرأة هي معلمة (أولجا) في المدرسة. فتاة أربت على الثلاثين، ظلت منذ زمن بعيد عائشة على هوس في قرارة روحها كان هذا الهوس أول الأمر ينتاب أخاها - وهو ملازم في الجيش ليس فيه ما هو جدير بالاهتمام أو قمين بالالتفات - كل روحها كانت معلقة به، متصلة بمستقبله بأمتن الصلات، اتصالا تتصور أنه لابد يوماً مود بها إلى أرض من أراضي عبقر. وبعد ذلك لما قتل أخوها في (موقدن) أقنعت نفسها بأنها - ويا للسعادة ولحسن الحظ - ليست كالأخريات، وإنها بدلاً من الجمال، وبدلاً من أن تكون امرأة حقيقية تتمتع بما للمرأة من أنوثة، بدلاً من ذلك لها عقل راجح، وفكر ثاقب، هو أسمى من هذه الدنيويات السافلة، هي عاملة من عمال المثل الأعلى.

وأولجا الآن محور أفكارها وخيالها ومبعث كل إعجابها وسرورها، في كل عيد أو عطلة أن تهرع إلى قبرها - وقد ألفت الذهاب إلى المقبرة بعد موت أخيها - تظل ساعات طوالا شاخصة إلى الصليب الخشبي. تذكر وجه (أولجا مسجرسكي) الشاحب المصفر وسط

ص: 71

الأزاهير في النعش وتذكر أيضاً ما سمعته ذات مرة: ذات مرة في فرصة الغداء بينما كانت (أولجا مسجرسكي) تتمشى في بستان المدرسة تقول مسرعة عجلي لصديقتها الحميمة (سبوتين) الطويلة البادنة: (كنت أقرأ في كتاب من كتب أبي - وأن لأبي لكتباً قديمة لا تحصى، أكثرها غريب نادر فيه الوفير من المتعة وفيه الجزيل من اللذة - قرأت عن الجمال الذي يجب أن تمتلكه المرأة، وما أكثر ما هو مسطور هناك، لست أذكره كله، لكنني أحفظ منه بعض الشيء؛ اسمعي: عينان سوداوان فاحمتان كالقار يغلي في جفنه، صدقيني، هكذا كان مكتوباً هناك. . . كالقار يغلي في جفنة!! حاجبان سوداوان كالليل البهيم، حمرة غضة تخضب الاهاب، قد اهيف، يدان أطول من المعتاد، قدمان صغيرتان، نهدان بارزان، ساقان مستديرتان متسقتان، ركبتان يحكى لون رضافهما لون داخل الأصداف. كتفان عاليان لكنهما منحدران - لقد كدت أحفظ أكثره غيباً، كله صحيح، ما أشده انطباقاً على الواقع، ولكن أتدرين ما هو أهم من كل هذا، هو النفس الرقيق الناعم اللين، وليس هو إلا هذا الذي أتنفسه أنا. . . . من الأعماق، أصغ إليّ، ألا تجدينه عندي!!. . أليس هو رقيقاً)

والآن قد تلاشى النفس الرقيق مرة أخرى في العالم، في ذلك اليوم الأشهب الغائم في ريح الربيع البادرة القارسة. . .

بغداد

ع. الحمدي

ص: 72

‌المارد الأناني

لأوسكار وايلد

ترجمة عبد القادر صالح

أوسكار وايلد من أبرز رجالاتِ الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، نعم في حياته يما لم ينعم به الكثيرون من مشاهير الأدب: شهرة واسعة وحسن تقدير مصحوب بالحب والإعجاب. ولكن الدهر الذي لا يستقر على حال قلب له ظهر المجن في الشطر الأخير من حياته، فقاسى من الهوان والفاقة ما حطم جناحيه، وطمس عبقريته، فمات شريداً طريداً في باريس.

ولد أوسكار وايلد من أبوين إرلنديين في سنة 1854 في دبلن حيث قضى سني دراسته الأولى، فورث عن أبيه الدكتور (ويليام وايلد) إفراطه في الميل الجنسي، وعن أمه ميلها للفن، فقد كانت شاعرة نائرة، لها مكانتها.

أتم دراسته في أوكسفورد؛ وهنالك أعجب بالآداب اليونانية والحياة اليونانية القديمة التي أوحت إليه مذهبه في الأدب، وهو: الفن للفن. وفي أوكسفورد نما فيه ميله الجنسي الشاذ، الذي كان الصخرة التي تحطم عليها مجده

اشتهر (أوسكار) منذ أيام دراسته الأولى بطلاوة الحديث ورقة المداعبة، يعبد الجمال ويمقت القبح؛ لم يتحدث إلى إنسان إلا وود المحدث إليه أن لو يعيد أوسكار الأحدوثة من أولها. فشهرته في الدرجة الأولى ترتكز على طلاوة حديثه وظرفه، ثم على أدبه، ولا سيما رواياته التمثيلية وقصصه البديعة.

ترجمت في (الرسالة) قطع من كتابات هذه الشخصية العجيبة التي كانت تفتخر البيوتات الأرستقراطية في إنجلترا بزيارته لها. وهأنذا أترجم لقراء الرسالة قطعة أخرى من غرر ما كتب، تتجلى فيها روح الكاتب بأجلى بيان. على أنني تصرفت في ترجمة بعضها تصرفاً قليلا:

حديقة غناء، مترامية الأطراف، يكسوها العشب الأخضر الغض، ويزيد في جمالها ما يبدو فوق الحشائش هنا وهنالك من الزهور الشبيهة بالنجوم. فيها اثنتا عشرة شجرة من الخوخ، تزهر في الربيع أزهارها البهية، وفي الخريف تنوء بحمل ثمرها اليانع.

ص: 73

تلك الحديقة هي جنينة المارد التي اعتاد الصبية أن يلعبوا فيها بعد ظهر كل يوم إثر انتهاء وقت المدرسة. وكثر ما كان أولئك الصبية يقفون ألعابهم ليصغوا إلى أغاريد الطيور العذبة التي كانت تنبعث من بين الأغصان. ولكم كان يخاطب بعضهم بعضاً: (ما أسعدنا هنا!)

عاد المارد من زيارته لصديقه عفريت (كورنول) التي استغرقت سبع سنوات تحدث فيها إليه بما طاب له من الحديث. فلما قدم إلى قصره ورأى الأطفال يلعبون في الحديقة انتهرهم قائلاً: (حديقتي! حديقتي! كل فرد يستطيع أن يفهم ذلك، ولن أسمح لأحد أن يلعب فيها). فلاذ الأطفال بأذيال الفرار.

وعلى أثر ذلك أحاط الحديقة بسور عال علق عليه لوحة أعلن فيها أن كل من ينتهك حرمة حديقته بدخوله إليها يحاكم. فكان بذلك مثال المارد الأناني.

لم يكن للصبية مكان يلعبون فيه. حاولوا أن يلعبوا في الطريق، ولكنها كانت مملوءة بالحجارة القاسية والتراب، فلم ترق لهم؛ فصاروا يطوفون بجدران الحديقة آسفين على تلك الأيام السعيدة التي قضوها فيها.

ورد الربيع وأخذت الأزهار تشقق عن أكمامها، والطيور تغرد على الأفنان في طول البلاد وعرضها. ولكن الشتاء ما زال ضارباً بجرانه فوق جنينة المارد الأناني. فقد أنفت الطيور أن تغرد على أشجارها والأطفال بعيدون عنها، ونسيت الأشجار أن تزهر.

نجمت زهرة من بين الأعشاب اتفاقاً، فلما رأت الإعلان أسفت لما حل بالصبية فعادت أدراجها الى بطن الأرض. ولم ينعم بتلك الجنينة في غياب الأطفال سوى الثلج والصقيع اللذين استبشرا قائلين:(هجر الربيع هذه الجنينة وسنتمتع بها طيلة السنة.)

غطى الثلج أعشابها ببساطه الأبيض، وصبغ الصقيع الأشجار بصبغة الفضة. وما لبثا أن دعوا (الريح الشمالية) لتشاطرهما الإقامة في تلك الحديقة فلبت الريح الدعوة مزملة بالفراء، وأخذت تزأر طيلة النهار فتقتلع المداخن وتطوح بها.

(هذه بقعة جميلة. فلندع البَرَد إلى زيارتنا.) وسرعان ما لبى (البرد) الدعوة فصار يقارع سطح القصر ثلاث ساعات متتاليات يومياً ثم يجري بعد تحطيم كثير من البلاط حول الجنينة مزبداً.

(لا أدري لماذا تأخر قدوم الربيع: على أين وطيد الأمل بأن الجو سيتغير). بمثل هذا كان

ص: 74

يتحدث المارد إلى نفسه لما طال انتظاره للربيع ولكن الربيع ظل على هجرانه وتمادى الصيف في صده.

قدم الخريف وأينع ثمر الأشجار في كل الجنائن المجاورة. لكن جنينة المارد ظلت خلواً من الثمر لأنانيته. ترقص خلال أشجارها الثلوج والأمطار، وتعبث بها الريح الشمالية والصقيع.

استيقظ المارد صباح يوم على موسيقى عذبة، خيل إليه من حسن وقعها في نفسه، أنها فرقة الملك تصدح مارة بقصره. ولم تكن في الواقع سوى ألحان طائر صغير يغرد خارج نافذته، حمله طول عهده بأغاريد الطيور في جنينته على الاعتقاد بأنها أعذب موسيقى في العالم.

وقفت الأمطار وسكنت الرياح الشمالية وأخذت النسائم تحمل إليه ريا عطرا خلال نافذته المفتوحة، فتمتم قائلاً:(ها هو الربيع قد قدم.) نهض من فراشه وأطل من النافذة. فماذا رأى؟ منظراً عجباً.

رأي الأطفال الذين قد تسللوا من ثغرة في الجدران جلوساً على أغصان الأشجار. كل شجرة تضم بين أغصانها طفلا. فكأنها اغتبطت بمرآهم فتفتحت أزهارها ومادت أغصانها فوق رؤوسهم، وكانت العصافير تحوم حولهم تشقشق شقشقة الفرح. وصارت الزهور تتسابق للظهور من بين الأعشاب ضاحكة. لكن الشتاء ما زال ماثلاً في أبعد نقطة من الجنينة حيث وقف طفل صغير لم يساعده قصره على تسلق أغصان الشجرة القريبة منه. فأخذ يدور حولها وهو يبكي أمر بكاء. عز على الشجرة أن تظل مغطاة بالثلج، وأن تظل الريح تصفر فوقها فأخذت أغصانها تدنو من الطفل وأفنانها تتدلى، ولكنه لم يستطع تسلقها لفرط قصره.

ملئ قلب المارد حناناً وهو ينظر إليه فثاب إليه رشده وأخذ يقول: (ما كان أشد أنانيتي!) الآن أدركت سبب تأخر الربيع. سأضع ذلك الصبي الصغير على قمة الشجرة وسأهدم السور (وستصبح حديقتي ملعباً دائماً للأطفال.)

هبط الدرج ودخل الحديقة بلطف، فلما رآه الصبية ذعروا وفروا. فعاد الشتاء إلى الجنينة. غير أن الطفل الصغير لم يفر. لان عينيه كانتا مغرورقتين بالدموع فلم يرد المارد عند

ص: 75

قدومه.

أتاه المارد من خلفه وأمسك به برفق ثم وضعه فوق الشجرة فاستحالت إلى أزاهير جميلة، وتهافتت العصافير لتغرد عليها، فتح الطفل ذراعيه من شدة الفرح وطوق بهما عنق المارد ثم قبّله، فلما رأى الأطفال الآخرون ان المارد فقد فظاظته عادوا إلي الحديقة سراعاً وعاد معهم الربيع، فهش المارد إليهم، وخاطبهم بقوله:(هذه جنتكم أيها الأطفال الصغار) ثم أخذ بمعوله الكبير يقوض الجدار.

ظل الأطفال يلعبون مع المارد في حديقته البديعة حتى المساء فأتوا يودعونه (ولكن أين رفيقكم الصغير الذي وضعته فوق الشجرة؟). فأجابه الأطفال: (لا نعرف. لقد ذهب)(احرصوا على مجيئه غداً). فأخبروه بأنهم لا يعرفون مسكنه وانهم لم يروه قبل ذلك اليوم، فحزن المارد حزناً شديداً لأنه أحب ذلك الطفل الذي قبّله حباً جماً.

صار الأطفال يأتون كل يوم بعد الظهر ويلعبون مع المارد، لكن الطفل المحبوب لم يُرَ ثانية، كان المارد لطيفاً معهم جميعاً ولكنه ما زال يحن الى صديقه الطفل الصغير، وكثيراً ما كان يذكره قائلاً:(ما أشد شوقي لرؤيته!)

تعاقبت السنون وشاخ المارد وضعف، فلم يقو على اللعب، ولذا كان يجلس في كرسيه يرقب الأطفال وهم يلعبون معجباً بهم وبجنينته:

(لدى زهور جميلة، ولكن لا ريب في أن هؤلاء الأطفال أجمل أنواع الزهور) أطل صباح يوم ماطر من نافذته وهو يرتدي ثيابه، فأخذ يمرس عينيه وينظر فيطيل النظر كأنما وقعت عيناه على شيء عجيب، ولقد كان عجيباً حقاً. رأى من طرف من أطراف الحديقة النائية شجرة مكتظة بالزهور، يتدلى من أغصانها الذهبية ثمرها الفضي، ورأى تحتها الطفل الذي أحبه.

هرول إلى الجنينة مسرعاً، فلما دنا من الطفل صعد الدم إلى وجهه، واحمرت عيناه غضباً، إذ رأى راحة الطفل دامية (من نجاسر أن يجرحك؟ اخبرني لكي أذبحه بسيفي الكبير.)

فأجابه الطفل (لا. هذه جراح الحب!) فاستولى على المارد خوف غريب، ثم جثا أمام الطفل قائلاً:(من أنت؟) فأجابه الطفل مبتسماً:

(سمحت لي أن ألعب مرة في جنينتك، والآن ستذهب معي الى جنينتي التي هي الفردوس)

ص: 76

تراكض الأطفال بعد الظهر كعادتهم فوجودا المارد الميت تحت الشجرة مكفناً بالزهور البيضاء.

نابلس

عبد القادر صالح

ص: 77

‌الكتب

مواقف حاسمة من تاريخ الإسلام

تأليف الأستاذ محمد عبد الله عنان

(الطبعة الثانية) نقحت وحققت وضمت إليها بحوث جديدة

لئن كان لهذا القلم الضعيف أن يطمح الى ما هو أبعد من غايته، فان مما يبهج نفسي أن أتحدث عن هذا الكتاب القيم، وقصاراي أن أتم هذا الحديث على خير ما أرجو من دقة، وعلى أحسن ما أحب من إنصاف.

الكتاب كما يتضح من عنوانه، يصور لك أدوار ذلك الصراع العظيم الذي قام بين الإسلام والنصرانية منذ أن وثب العرب من صحرائهم، وأثخنوا في أراضي الدولتين الفارسية والرومانية، والذي تجلى في عدة مواقف مشهورة كحصار العرب للقسطنطينية ولقائهم أعداءهم في الغرب في موقعة بلاط الشهداء، ثم ما كان من بسط العرب سيادتهم على البحر الأبيض المتوسط واحتلالهم اقر يطش، وصقلية، وروما، وجنوب إيطاليا، إلى أن تطور هذا النزاع إلى دور الحروب الصليبية وما تخللها من لقاءات هائلة بين قوى الإسلام والنصرانية، وأخيراً ما كان من أمر العرب في الأندلس، وتقوض دعائم ملكهم العريض هناك.

وتلك المواقف الحاسمة التي يتخذ منها المؤلف الفاضل عنواناً لكتباه هي في الواقع موضوع واحد، فهو وان اختلفت مظاهره وتعددت ميادينه، وتسلسلت عصوره، لا يخرج في جوهره عن الصراع بين الإسلام والنصرانية، ولقد أعجبني من المؤلف تنبيهه الأذهان إلى ذلك في مواطن كثيرة.

ولقد صور الأستاذ المؤلف كل هاتيك المواقف تصويراً دقيقاً رائعاً، مبيناً أثرها في مصاير كل من الطرفين في وضوح يؤيد ما اشتهر به من بسطة في فنه، وسعة في اطلاعه، وإلمام عجيب بالمواضيع التي يطربها؛ ولقد أضاف إلى تلك المواقف طائفة من الفصول سماها (بحوثاً مفردة) والواقع أنها ليست مفردة، وأن اتصالها بالموضوع وثيق، بل إنها لتعد ضرورية له، ومن أمثلة تلك البحوث الهامة (الدبلوماسية في الإسلام) و (الفروسية) و

ص: 78

(الرقي في العصور الوسطى) وغيرها مما يلقى ضوءاً على الموضوع الأصلي؛ ولا يفوتنا أن نذكر مع مزيد الإعجاب أن المؤلف مهد لكتابه بفصلين في غاية الأهمية هما (وثبة العرب) و (سياسة العرب الدينية)؛ فأرانا في الفصل الأول، في تعمق ودقة وقوة بيان، تلك الروح التي سيطرت على العرب في جزيرتهم، وأرانا في الفصل الثاني، روح الإسلام في معاملة الأمم التي كانت تدخل في حوزته مورداً في ذلك كثيراً من الأمثلة والاقتباسات، شارحاً الأحوال الاجتماعية والسياسية التي كانت تسود ذلك العصر.

فأنت ترى من هذا الوصف الموجز أن الكتاب يجمع بين الفائدة واللذة، أبو بعبارة أخرى فهو للثقافة والاستمتاع.

أما طريقة الأستاذ في كتابة التاريخ فجديرة بالإعجاب حقا، فهو لن يسرد عليك الحوادث سرداً مملا، بل ترى له طريقة انقادت له وسهلت في يديه وأصبحت وقفاً عليه، طريقة طالما تطلعنا إلى وجودها في كتابه التاريخ باللغة العربية، فهو يحلل ويدقق، ويمحص الحوادث في نظام علمي دقيق، دون أن يملك أو يطوح بك في مجاهل مطموسة الصوى، جائرة السبل، وإنك لتحس شخصيته في كل عبارة من عباراته، لأنه يفرغ على القرطاس صور ذهنه، وحماس قلبه، كما أنك تلمس آثار جهوده في كل فقرة من فقراته، فتراه يعرض عليك الروايات المختلفة، والآراء المتنوعة، ثم يقف منها موقت الناقد الذي يمكنه من الحكم والفصل، ذاكرة قوية، وقراءة واسعة، وصبر شديد؛ ولن تراه يتهرب من نقطة أو يتحيز إلى رأي؛ كل ذك في فطنة ونفاذ بصيرة، فإذا أضفت إلى هذا أن الأستاذ عناناً مشغوف بموضوعات التاريخ الإسلامي، وأنه لن يكتب إلا ما جاشت به نفسه ونبض به قلبه، أمكنك أن تفهم الروح التي يكتب بها الأستاذ التاريخ، والواقع أننا لا نعدو الحقيقة إذاقلنا إن طريقة الأستاذ عنان في كتابة التاريخ قد ثبتت عندنا ناحية من نواحي الحركة الفكرية، كما أن الأستاذ نفسه قد صار ركناً وعلماً نفاخر به أهل الغرب، فطريقته العلمية الدقيقة في كتابة التاريخ تضع آثاره في صف مثيلتها في لغة الغرب، مما يعد مفخرة للعربية وأهلها.

وهناك ناحية أخرى في كتابة الأستاذ عنان جديرة بالتنويه، تلك هي أسلوبه، فللأستاذ أسلوب خاص، تحار إن أردت شرحه؛ فعباراته قوية وسط بين المقبوضة والمبسوطة، لا

ص: 79

ترى فيها حشواً ولا تجد كلمة تستعمل في غير موضعها، أو تجد لفظاً يقصر عن أداء معنى، أو يتسع حتى يطغى على ذلك المعنى فيضيعه، كذلك لن تجد عبارة فاترة في موقف حماسي، أو جملة حماسية من غير داع، هذا إلى جمال ورونق في غير تكلف أو إسفاف.

أما عن مظهر الكتاب وطبعه وترتيبه، فحسبك منه أنه مطبوع في مطبعة دار الكتب، على ورق جيد من القطع الكبير، ولقد ختمه المؤلف الفاضل بثبت للمراجع العربية والإفرنجية، ثم بفهرس للأعلام التاريخية والجغرافية ومقابلها الإفرنجي، ثم بفهرس عام للكتاب.

ونحن لا يسعنا إلا أن نتقدم بعظيم الشكر للأستاذ المؤلف على مجهوداته التي ترفع رأس العربية، وتشرف أهل الضاد جميعاً.

محمود الخفيف

ص: 80