الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 490
- بتاريخ: 23 - 11 - 1942
2 - دفاع عن البلاغة
البلاغة بين الطبع والصنعة
البلاغة كسائر الفنون طبيعة موهوبة لا صناعة مكسوبة. فمن حاول أن ينالها بإعداد الآلة وإدمان المزاولة وطول العلاج وهو لا يجد أصلها في فطرته، أضاع جهده ووقته فيما لا رجع منه ولا طائل فيه. قال أبو العباس المبرد:(إنه ليس أحد في الخافقين من يختلج في نفسه مسألة مشكلة إلا لقيني بها وأعدني لها؛ فأنا عالم ومتعلم وحافظ ودارس لا يخفى علي مشتبه من الشعر والنحو والخطب والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار عن فلتة، أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصده نصب عيني، ثم لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان. ولقد بلغني أن عبيد الله ابن سليمان ذكرني بجميل فحاولت أن أكتب إليه رقعة اشكره فيها، فأتعبت نفسي يوماً في ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها. وكنت أحاول الإفصاح عما في ضميري فينصرف لساني إلى غيره)
ذلك اعتراف صادق من أبي العباس يقصد به توجيه الحائر إلى التوفر على ما يحسن، وتنبيه المغرور إلى الانصراف عما يسيء
الناس كلهم يتكلمون ولكنهم ليسوا جميعاً خطباء؛ والمتعلمون كلهم يكتبون ولكنهم لا يستطيعون أن يكونوا كلهم بلغاء؛ والرسم مادة مقررة في مدارس الدنيا ولكنها لا تخرج في كل حقبة غير رفائيل واحد. والموسيقيون ألوف في كل أمة، ولكن الذين يستطيعون أن يؤلفوا رواية غنائية نفر قليل.
والمعضل من الأمر تعرف الطبع الأدبي في صاحبه إبان التنشئة، فقد تكمن العبقرية في الفنان حتى يبلغ الأربعين، كما حدث للنابغة الذبياني في الشعر، ولجان جاك روسو في الكتابة. وقد يجر كمون الطبع في سن التوجيه إلى الخطأ في استغلال المواهب، فيتعلم المرء علماً أو يعمل عملا وهو بطبعه مخلوق لغيره؛ فبيير لوتي خُلق أديباً كاتباً ولكنه دفع إلى البحارة؛ وعلي طه خلق أديباً شاعراً ولكنه دفع إلى الهندسة، وحافظ عفيفي خلق مصلحاً اجتماعياً ولكنه دفع إلى الطب؛ فلو أن هؤلاء العباقرة نشئوا على مقتضى الطبع والاستعداد منذ الحداثة لكان نبوغهم أتم ونفعهم أعم ونتاجهم أوفر
وقد يخدع المرء عن طبعه فيظن نفسه كاتباً وهو معلم، أو فيلسوفاً وهو صوفي، أو مؤرخاً
وهو صحفي، أو شاعراً وهو عروضي، أو ناقداً وهو هجاء، أو قصصياً وهو حكاء، أو وصافاً وهو محلل
وللخيال إذا امتد سراب يخدع الظمآن إلى المجد والشهرة؛ فقد يستهوي الناشئ وميض الهالة من حول العبقرية الفنانة فيسول له الغرور أن يقرض الشعر، أو يقص القصص، أو يدير الحوار، أو ينشئ المقالة، فينبهر في أول الشوط وينبت في بداية الطريق
قد تحب الأدب ككل إنسان؛ ولكن حبك الشيء ليس دليلا على قوة استعدادك له، فقد يكون ذلك من تأثير البيئة وتغرير الخلاط. وربما كانت نقائص المرء أحب خلاله إلى نفسه؛ فالإمام مالك بن أنس دفعته بيئة المدينة اللاهية إلى أن يتتبع في صباه المغنين يأخذ عنهم حتى صرفته أمه عن الغناء إلى الفقه فصار فيه إمام الأئمة
على أن الطبع والقريحة لا يغنيان في البلاغة عن الفن. وربما كان فيهما ذلك الغناء في العصر الجاهلي وصدر الإسلام حين كانت الأهواء صادقة والأخلاق صريحة والحياة بسيطة؛ أما وقد زيف الصادق وشيب الصريح وركب البسيط، فلابد من حذق الصناعة وهدى القواعد لمعالجة ذلك، كالمسايفة، كانت في أول أمرها سهلة يستعمل فيها السائف سيفه كما يستعمل الواكز يده؛ فلما كثرت فيها الحيل وتعددت الوجوه أصبحت فناً له قواعد وأصول لابد أن يراعيها المسايف وإلا هلك. وإذا كانت القواعد هي النتائج التي استنبطتها الأذهان القوية من وسائل الطبيعة وطرقها على طول القرون، فإن الشأن في البلاغة يجب أن يكون هو الشأن في سائر الفنون التي اخترعتها الغريزة وأصلحتها التجربة ورقاها المران
فعلم البيان إذن هو الجزء النظري من فن الإقناع والبلاغة هي الجزء العملي منه: هو ينهج الطرق وهي تسلكها، وهو يعين الوسائل وهي تملكها، وهو يرشد إلى الينبوع وهي تغترف منه
إن القواعد البيانية لم يضعها الواضعون إلا بعد أن رجعوا إلى أصول الأشياء ودرسوا علاقتها بالنفس والحس، وعرفوا نتائج هذه العلائق من الألم واللذة، ثم استخلصوا من تجارب العصور المستنيرة النتائج الصحيحة، ثم صاغوها قواعد وقالوا إنها أمثل الطرق لإحسان العمل دون أن يخضعوا قريحتك لها، ولا أن يسمحوا لهواك بالخروج عنها، فإن
بين الاستبداد والفوضى نظاماً هو أحق أن يؤثر ويتبع
كذلك الذوق - وهو أداة الجمال كما أن العقل أداة الحق - لا يمكن أن يكون بغير القواعد طريقاً مأمونة إلى عمل من أعمال الأدب؛ فأنه موهبة طبيعية تختلف في الناس وفي الأجناس، وتحتاج إلى المران بالدرس والعادة، وليس له ما للعقل من سلطان واطمئنان وثبوت. وإنك لتجد في الناس العقل المطلق المستقل الذي لا يختلف ولا يتغير، لأن هناك حقيقة مستقلة تتميز بالوضوح والخلوص، ولكنك لا تجد مهما استقصيت واستقريت ذلك الذوق المطلق المستقل الذي لا يختلف باختلاف الألوان والأزمان والأمكنة. وفي الأقوال المأثورة: لا جدال في الذوق. لذلك لا نستطيع أن نطلقه في الأدب حتى لا تكون الفوضى، ولا نقيده بالقواعد حتى لا يكون الجمود.
أحمد حسن الزيات
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
1 -
الشوقيات
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - تأريخ القصائد - من كل فاكهة زوجان: عواطف
فرنسية وتركية ومصرية ولبنانية وأموية - مصرية شوقي -
حكاية المستر روزفلت أول دكتور من الجامعة المصرية -
قصيدة أنس الوجود - دفاع شوقي عن الوثنية المصرية
تمهيد
المقرر من الشوقيات لهذا العام هو الجزء الثاني، وسنتحدث عنه في مقالين اثنين مراعاة للوقت، فأمامنا مؤلفات ستنتهب المدة التي تسبق ميعاد الامتحان.
من أهم أبواب هذا الجزء باب النسيب، ومن أهم قصائده قصيدة (يا نائح الطلح)، ولن أتكلم عن هذه القصيدة ولا عن ذلك الباب، لأني أكره أن أنشر في مجلة الرسالة بحثاً نشرته من قبل، وأنا تكلمت بالتفصيل عن نونية شوقي في الطبعة الثانية من كتاب (الموازنة بين الشعراء) وتكلمت عن غزليات شوقي بالتفصيل في الطبعة الثانية من كتاب (البدائع)، فليرجع المتسابقون إلى هذين الكتابين في هذين الغرضين
وهذا إعلان عن مؤلفاتي أنشره في (الرسالة) بالمجان!!
تأريخ القصائد
شوقي لم يؤرخ قصائده جميعاً، ولو أنه فعل لأعفى النقد الأدبي من التعب في تعقب أسباب الضعف والقوة في شاعريته العصماء. والظاهر أن وضوح التواريخ أمام عينيه أوهمه أن الناس لن يحتاجوا عند النظر في قصائده إلى تأريخ. والأمر كذلك بالفعل، فقد كنت أعرف المناسبات التي قيلت فيها تلك القصائد، ثم طغت الشواغل فأنستني ما لم أكن أحب أن أنساه. ولعل أبناء شوقي يلاحظون هذا المعنى فيذكروا جميع التواريخ في الطبعة الثانية
أقدم القصائد المؤرخة قصيدة (طابع البريد) في العاشر من سبتمبر سنة 1900، وتليها أبياته في وصف معرض الأزهار والثمار في باريس سنة 1901، ثم وصف المرقص الذي أقيم في قصر عابدين سنة 1903، والمرقص الذي تلاه في سنة 1904
وهذه القصائد لا ترتقي إلى منزلة القصائد التي نظمها بعد أن استحصدت قواه الشعرية، ولكنها مع ذلك تشهد بأن شوقي فُطر منذ البداية على إجادة الغناء.
من كل فاكهة زوجان
في هذا الجزء ترى قصائد فرنسية وقصائد تركية وقصائد مصرية وقصائد سورية ولبنانية، قصائد وصف بها عواطفه الصحاح نحو فرنسا وتركيا ومصر وسورية ولبنان، قصائد تقيم أصح البراهين على أن شوقي أحب جميع ما عرف من البلاد، وأنس إلى أكثر من عرف من الناس
وهنالك ظاهرة يجب النص على تفسيرها الصحيح، وهي إفراط شوقي في أخريات أيامه على الإشادة بمحاسن الشام ولبنان
فما تفسير هذه الظاهرة النفسية؟
كان شوقي لا يحب إلا من يروي شعره، وكان هواه مقصوراً على من يؤمنون بأنه أشعر الناس. وقد وجد في سورية ولبنان جماعات كثيرة تعرف من سرائر شعره أكثر مما يعرف، وتذهب في تمجيده إلى آفاق لا يطيف بها الخيال
وهل أُسرفُ إذا قلت إن تلطف شوقي في الحديث عن المسيحية يرجع إلى مراعاة عشاق شعره من النصارى العرب؟
الإسلام يحكم بكفر من يتطاول على المسيح، ولكنه لا يفرض على المسلم أن يتغنى بمجد المسيح، فكيف جاز لشوقي أن يجعل الثناء على المسيحية من أغراضه الشعرية؟
السبب هو ما أقول، هو أن شوقي وجد في نصارى لبنان رجالا يؤمنون بأدبه الرفيع، فجازاهم وفاءً بوفاء، وقال في المسيح كلاماً يقره أدب القرآن، وهل وصف المسيح بأفضل مما وصفه القرآن؟
كان شوقي ينعطف من لبنان إلى سورية بروحانية قليلة الأمثال:
خلَّفتُ لبنان جنات النعيم وما
…
نُبئتُ أن طريق الخلد لبنانُ
حتى انحدرتُ إلى فيحاَء وارفةٍ
…
فيها الندى وبها (طيٌّ) و (شيبان)
نزلتُ بفتيان جحاجِحةٍ
…
آباؤهم في شباب الدهر غسانُ
بِيض الأسرة باقٍ فيهُم صَيَدٌ
…
من (عبد شمسٍ) وإن لم تَبق تيجانُ
يا فتية الشام شكراً لا انقضاَء له
…
لو أن إحسانكم يجزيه شكرانُ
ما فوق راحاتكم يوم السماح يدٌ
…
ولا كأوطانكم في البِشر أوطان
فما هو الكرم الذي أضفاه الشاميون على شوقي، وكان أغنى الناس عن سخاء الأسخياء؟
هو الكرم الذي وصفه في قصيدة ثانية حين قال:
رُواة قصائدي، فأعجَب لشعرٍ
…
بكل محلةٍ يرويه خَلقُ
والواضح مما قرأت وما سمعت أن شوقي لم يذق طعم النعيم
إلا في سورية ولبنان، فقد كان في أبناء تلك البلاد الجميلة من يُسمع شوقي آلاف الأبيات من شعره في اليوم الواحد، وكان فيهم من يُسمعه قصائد غابت عن وعيه الدقيق. وكان شوقي يتلقى تلك التحيات بالبكاء. ولبكائه هنالك صورة يتحدث عنها الشاعر أمين نخلة، إن صحت رواية الأستاذ صلاح الأمير
وحب شوقي للشام هو الذي جعل عواطفه أموية:
بنو أمية للأنباء ما فَتَحوا
…
وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
كانوا ملوكاً سريرُ الشرق تحتهمُ
…
فهل سألتَ سرير الغرب ما كانوا
عالين كالشمس في أطراف دولتها
…
في كل ناحية مُلكٌ وسلطانُ
يا ويحَ قلبيَ مهما انتاب أرسمهم
…
سرَى به الهمُّ أو عادته أشجان
بالأمس قمت على (الزهراء) أندبهم
…
واليوم دمعي على (الفيحاء) هتّان
في الأرض منهم سماواتٌ وألويةٌ
…
ونِّيراتٌ وأنواءٌ وعِقبان
معادن العزّ قد مال الرَّغام بهم
…
لو هان في تُربه الإبريزُ ما هانوا
لولا دمشقٌ لما كانت طُلَيْطلةٌ
…
ولا زهت ببني العباس بغدانُ
مررتُ بالمسجد المحزون أسألهُ
…
هل في المصلَّى أو المحراب (مروانُ)
تغيَّر المسجد المحزون واختلفت
…
على المنابر أحرارٌ وعبدان
فلا الأذان أذانٌ في منارتهِ
…
إذا تعالى ولا الآذان آذان
ومع هذا لم ينس شوقي حتى العلويين فتحدث عنهم في مواطن كثيرة، أشهرها الموطن الذي اختلقه اختلاقاً في مسرحية (مجنون ليلى)، إن صدقنا افتراض الدكتور طه حسين
وخلاصة القول أن عواطف شوقي منوعة الأصول والفروع فقد سما بنفسه عن الشعوبية، ورأى أن يكون شعره ميراث الشرق على ما فيه من اختلاف النوازع والميول:
كان شعري الغناء في فرح الشر
…
ق وكان العزاَء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجر
…
ح وأن نلتقي على أشجانه
كلما أنَّ بالعراق جريحٌ
…
لمس الشرق جنبه في عماته
وعلينا كما عليكم حديدٌ
…
تتنزَّى الليوثُ في قضبانه
نحن في الفكر بالديار سواءٌ
…
كلنا مشفقٌ على أوطانه
مصرية شوقي
وبرغم هذا التنوع في العواطف كان شوقي شاعر القومية المصرية، ولعله أول شاعر جعل من همه وصف مصر في أحلامها وأهوائها وأمانيها بما هي له أهل، وأول شاعر ذاق ما في مصر من قرارة النعيم والبؤس، وإن كان شفى ما في نفسه حين قال في غمز الحكومة التي سمحت بنفيه في أوائل الحرب الماضية:(وطن توالت عليه حكومات وحكومات، تقول فتجد وتعمل فتهزل، ولا تحسن من ضروب الإصلاح إلا أن تولي وتعزل)
حكاية المستر روزفلت
هو الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، لا رئيسها الحاضر، وكان زار مصر في سنة 1911، أو قريباً من ذلك، فما يتسع وقتي لتحديد التاريخ
والظاهر أن روزفلت السابق فاه عند زيارة السودان بكلام لا يرتضيه المصريون، فرد عليه الشيخ علي يوسف في جريدة المؤيد بمقال كان آية في البيان، ثم اندفع شوقي فحاوره بأسلوب غير ذلك الأسلوب، اندفع فحدثه عن عظمة مصر الممثلة في (قصر أنس الوجود)
أيها المنتحي بأُسوان داراً
…
كالثريا تريد أن تنقضَّا
اخلع النعل واخفض الطرف واخشعْ
…
لا تُحاولْ من آية الدهر غضَّا
وهي قصيدة نفيسة المعاني، وقد يُسأل عنها الطلبة في الامتحان لأنها من عيون الشرقيات
أول دكتور من الجامعة المصرية
هو المستر روزفلت، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، فقد مُنح الدكتوراه الفخرية، وكان ذلك أول لقب منحته الجامعة المصرية، فاعترض (الغزالي أباظة) على صفحات إحدى الجرائد، وكانت حجته أنه أولى بذلك اللقب، لأنه يستطيع أن يغضب المصريين بأكثر مما يستطيع أن يغضبهم أي مخلوق!
والغزالي أباظة هو الأستاذ دسوقي بك أباظة، الوزير السابق لوزارة الشؤون الاجتماعية، فهل يذكر ذلك التاريخ؟!
قصيدة النيل
هي قافية في 153 بيت، أرسلها إلى المستشرق مرجوليوت مع مقدمة نثرية قلقة الأسجاع، قصيدة يرجع عهدها فيما أفترض إلى أيام حرب البلقان، فهي إذاً من غرر شعره القديم. وليس من العدل أن نجاري الأستاذ المازني في القول بأن شاعرية شوقي لم تتفتح إلا بعد المنفى، فأنا أرى أن قصيدة (الأندلس الجديدة) التي قالها بمناسبة سقوط أدرنة في سنة 1912 لا تقل جودة عن أبرع ما جاد به خاطره في النفي وبعد النفي. . . والحق أن شوقي نضج في وقت مبكر، فقصيدته التي قالها في المؤتمر الشرقي بمدينة جنيف سنة 1894 تعد من القصائد الجياد، وهي الباكورة التي بشرت بأن سيكون له مقام بين شعراء القصص التاريخي
ونرجع إلى قصيدة النيل فنقول:
أراد شوقي بهذه القصيدة تمجيد العنصرية المصرية ممثلة في النيل السعيد، وقد رحب الشاعر بالألفاظ الجارية على ألسنة الفلاحين في أعمال السقي والغرس والحصاد. وطاف به الخيال حول عهود التاريخ، فشرح ما مر بهذه البلاد من عقائد وديانات، شرحها برفق، لأنه لم يرد النقد وإنما أراد التسجيل. ولو شئت لقلت إنه اعتذر عن ظلم الفراعين، فقد عد إرهاقهم للشعب في بناء الهياكل باباً من المجد المرموق
هي من بناء الظُّلم إلا أنهُ
…
يبيضُّ وجه الظلم منه ويشرق
لم يرهق الأممَ الملوكُ بمثلها
…
مجداً لهم يبقى وذِكراً يَعبَقُ
ويرى الشاعر أن الأرض والسماء لا تبيدان إلا برجفة (القيامة)، أما (قيامة) مصر فهي جفاف النيل الذي خاطبه الشاعر فقال:
من أي عهد في القُرى تتدفق
…
وبأي كف في المدائن تُغدقُ
ومن السماء نزلت أم فُجرت من
…
عُليا الجِنان جداولاًتترقرق
وبأيِّ عينٍ أم بأيَّة مُزنةٍ
…
أم أي طوفانٍ تفيض وتفهق
وبأي نَول أنت ناسجُ بردةٍ
…
للضَّفتين جديدُها لا يخلق
تسودُّ ديباجاً إذا فارقتها
…
فإذا حضرت اخضوضر الإستبرق
في كل آونةٍ تبدِّل صِبغةً
…
عجباً وأنت الصابغ المتأِّنقُ
أتت الدهور عليك مهدُك مترعٌ
…
وحياضك الشُّرقُ الشهية دُفق
تَسقى وتُطعم لا إناؤك ضائقٌ
…
بالواردين ولا خِوانك يَنفَق
والماءُ تسكبه فيسَبك عسجداً
…
والأرض تغرقها فيحيا المغرَق
ونظر الشاعر فرأى الوثنية المصرية تأمر بعبادة النيل، فشاء له الأدب أن يوجه تلك العبادة توجيهاً يرفع عنها أصر الشرك بواجب الوجود:
دينُ الأوائل فيك دينُ مُروءةٍ
…
لم لا يُؤَّله من يَقوت ويرزُق
لو أن مخلوقاً يُؤَّله لم تكن
…
لسواك مرتبة الألوهة تخلَق
جعلوا الهوى لك والوقار عبادة
…
إن العبادة خشيةٌ وتعلُّق
ثم نظر الشاعر فرأى أن المصريين القدماء كانوا يهتمون ببناء القبور أضعاف ما يهتمون ببناء البيوت، فاتخذ من ذلك دليلا على حبهم للخلود:
بلغوا الحقيقة من حياة عِلمُها
…
حُجُبٌ مكثَّفة وسرٌّ مغلق
وتبينوا معنى الوجود فلم يروا
…
دون الخلود سعادةً تتحقَّقُ
يبنون للدنيا كما تبني لهم
…
خرباً غرابُ البين فيها ينعق
فقصورهم كوخٌ وبيت بداوةٍ
…
وقبورهم صرحٌ أشمُّ وجوسق
ولم يفكر الشاعر في تفنيد خرافة (عروس النيل) وإنما جعلها حقيقة شعرية حين قال:
ونجيبةٍ بين الطفولة والصبا
…
عذراء تشربها القلوب وتعلَق
كان الزفاف إليك غاية حظها
…
والحظ إن بلغ النهاية موبِقُ
لاقيت أعراساً ولاقت مأتماً
…
كالشيخ ينعم بالفتاة وتزهق
إلى آخر ما قال في هذا المعنى الدقيق. وقد اعتذر عن أسطورة (أبيس) فجعلها نوعاً من الوفاء للدين:
قومٌ وقارُ الدين في أخلاقهم
…
والشعب ما يعتاد أو يتخَلقُ
ولم يفت الشاعر أن يسجل في أبيات كريمة أن مصر التي كانت موئلا للديانة الفرعونية هي مصر التي آوت الديانة الموسوية والديانة العيسوية والديانة المحمدية، ولم يفته أيضاً أن ينص على عدالة عمرو بن العاص الذي ضرب ابنه بالسوط حين سمع إنه أهان أحد الأقباط، وقال في ذلك كلمته التاريخية:(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)
ثم ماذا؟
ثم يختم شوقي قصيدة النيل بأبيات تفسر معنى الوطنية، فالناس عنده يحبون الوطن لأنه مصدر سعادتهم، ولأنه المستقر الأمين لأبنائهم:
مما يحمِّلنا الهوى لك أفرُخٌ
…
سنطير عنها وهي عندك ترزَقُ
تهفو إليهم في الترابِ قلوُبنا
…
وتكاد فيه بغير عرقٍ تخفُق
تُرَجى لهم، والله جل جلاله
…
منا ومنك وبهم أبرُّ وأرفق
زكي مبارك
الملك الظاهر
زيارة ضريحه بدمشق
للأستاذ أبي أسامة
وتضحك مني شيخة عبشمية
…
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً
قلت: مهلا فإني أنحدر من تاريخ طويل من المجد والبطولة؛ وليس في وسعنا نحن أبناء هذا الجيل الزاحف أن ننساه أو نغض الطرف عنه، بل إني لأشعر بالفخر يملأ نفسي، نعم لأني أشعر بالبطولة تملأ جوانب تاريخي
قالت: ومن هم أبطالك؟
قلت: كنجوم السماء لا تملك لهم عدا
قالت: حدثنا عن النفس القوية عندكم التي لا تربط حظها بما تؤمله من مساعدة الغير لها، ولا تعتمد على أهواء الناس وآرائهم وأحكامهم، وإنما تعتمد على عملها وحده الذي يخلق لها الحظ الذي تستحقه والذي هو جدير بها
قلت: اخترت الملك الظاهر بيبرس، إذ هو في نظري من أولئك الذين يعتمدون على القوة الكامنة في شخصيتهم، بل من الذين اتخذوا من أنفسهم قوة منظمة مدركة للعوامل المحيطة بهم، فوضع كل عامل في مركزه الخاص به، ثم جمعها وحشدها ووزعها، فاستعملها للوصول إلى الأهداف التي قصد تحقيقها، وكان النصر حليفه وطوع بنانه
قالت: آتنا من بعض أخباره
قلت: لست بمؤرخ، وإنما سأحاول أن أرسم التاريخ وأخرجه صورة حية:
نحن في سيارة من بيروت إلى دمشق ومعي صديقي، وكان ذلك في صيف 1942، فإذا أنا أرتل قول القائل:
لئن عاينت عيناي أعلام جلق
…
وبان من القصر المشيد قبابه
تيقنت أن البين قد بان والنوى
…
نأى شحطها والعيش عاد شبابه
هذه دمشق قد بدت تطل بوادرها عليك من وراء عقبة دمر، فإذا بالمرجة الخضراء تغمرك بروحها كما تغمر الأرض مياه بردى المندفعة، فتشعر بأنك تدخل عالماً لم يكن غريباً عنك في يوم من أيام حياتك
بدأت أستعرض ذكريات التاريخ الذي هو جزء منا، وأتحدث عنها، ودمشق عاصمة وثغر ورباط للعلم وموئل للعز التالد وللمجد القادم، كلما دخلتها شعرت بأن مصر تعيش في دمشق، كما أشعر في القاهرة بأن الشام تعيش بمصر. انظر إلى مساجد العاصمتين: تجد وحدة البناء والزخرفة، ووحدة التفكير والروح. أنظر إلى مئذنة الجامع الأموي الواقعة على يمين مدخله، ألا تذكرك بمآذن الأزهر بالقاهرة؟ وانظر إلى مئذنتي الغورى وقايتباي بمصر، ألا تذكرك بمآذن الشام؟
وأذكر أنني خرجت يوماً من الجامع الكبير فوقفت على قبر صلاح الدين وواصلت سيري إلى المجمع العلمي ومنه اتجهت إلى الظاهرية، فإذا أمام ما سطرته يد الزمن السالف الغابر لأقرأ ما يأتي:
(بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإنشاء هذه التربة المباركة والمدرستين المعمورتين المولى السلطان الملك السعيد أبو المعالي محمد بركة بن السلطان الشهيد الملك الظاهر والمجاهد ركن الدين أبو الفتوح بيبرس الصالحي أنشأها لدفن والده الشهيد وألحق به عن قريب فاحتوى الضريح على ملكين عظيمين ظاهر وسعيد. أمر بإتمام عملها السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قسيم أمير المؤمنين خلد الله سلطانه)
هذه دار العقيقي من رجال الدولة الفاطمية المصرية، بنيت منذ تسعة قرون ولا تزال حجارتها العتيقة ظاهرة وفاصل البناء تلمسه بين القديم وما استجد في أيام السعيد. ارجع إلى مدخل الظاهرية وانظر إلى جمال الباب وتناسقه والى المقرنصات بسقفه، إنه لتحفة من ريازة القرن السابع الهجري فإذا اخترقت الباب فاتجه يميناً إلى القبة
هنا ضريح الملكين الشهيدين تحت قبة قد ازدانت جدرانها بالفسيفساء قلد راسمها جدران المسجد الأموي ورسومه، فإذا اتجهت إلى المحراب تجده تحفة أخرى من زخرفة هذا العصر يمتاز بالصدف الملبس في أعلاه وجوانبه فجاء كإطار ركب حول العمودين. اقرأ الآية التي كتبت على اليمين:(إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) وعلى اليسار: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) أما ما تحت الفسيفساء من الجدران فقد ركب عليه الرخام المجزع، اختلف صديقان لي في أصله أهو من الشرق أم من الغرب.
ووقفت أمام هذا الضريح وقد غمرتني نفحة فانتبهت أمام رهبة الراقد كأني أتلقى الأمر
ممن كانت بيده مقاليد آلاف الرجال وأعنة آلاف الخيل، وأحنيت رأسي احتراماً وإجلالا إذ هنا الملك الظاهر من كان اسمه يدوي في أرجاء ممالك ثلاث قارات من العالم المعروف في عصره. ومرت أمامي أدوار البطولة والمجد التي أوحتها إلي هذه البقعة الطاهرة
قد مر بمخيلتي في تلك اللحظة لفتة من الدهر تملأها الثقة بالنفس وتمثل الإرادة القوية التي أنشرها لاعتقادي ووثوقي في أن الأمة التي تحترم نفسها هي التي تشيد بأبطالها، وحينئذ تستحق احترام العالم المتمدين وتقديره لها.
كان عصر الظاهر عصراً فذاً في التاريخ ماجت فيه الأمم والشعوب والجماعات، وتمخضت أيامه بالحوادث الجسام والمعارك الكبرى، وقذفت فيه الأقدار بقوات هائلة من الخير والشر معاً؛ وكان هذا الركن من العالم الذي نعيش فيه الآن، يواجه أشد الأخطار ويمتحن بأقوى المحن التي مرت في تاريخه - فهو لم يكن قد أفاق بعد من النكبة الكبرى والصدمة المروعة التي أصابته في بغداد يوم استباحها هولاكو سنة 656 وكان صدى استشهاد الخليفة العباسي لا يزال يهز النفوس ويدوي في الدنيا
كانت النكبات تتوالى من ذات اليمين وذات الشمال؛ وهذا العالم العربي يعاني الشدة أثر الشدة ويقارع ويكافح ضد الفناء أمام قوات تفوق طاقته وقد انسابت عليه من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، والناس في دهش يتساءلون أأذنت الساعة؟ لم استعجلهم ربهم بالعذاب؟ (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون)
(قرآن كريم: الأنعام)
إن ما أصاب الشرق العربي في ذلك العصر الرهيب كان من قبيل الانقلابات الأرضية التي تثيرها عوامل الطبيعة فتدك الأرض دكاً وتهبط على أثرها المحيطات وتظهر بعدها القارات، أو كأعاصير هائلة برق ورعد وظلمات، ثم يعقبها طوفان يأتي على الأخضر واليابس ويهدم أحسن ما بناه الإنسان وما أخرجه العقل البشري. كان هذا حال أجدادنا في القرن السابع الهجري حينما قذفت عليهم الأقدار بتيارات متعاقبة من جماعات البشر تهاجمهم في عقر ديارهم فتخرجهم منها، وتنتزع من أيديهم فلذة أكبادهم وتهدم وتحرق
وتخرب وهم لا يستطيعون لها دفعاً إلا بقدر ما في أيديهم من قوة وصبر
في وسط هذا الوقت العصيب والليل المدلهم سطع في السماء نجم الظاهر، وظهرت على مسرح شرقنا شخصيته الجبارة فقال عنه المؤرخون في عصره (هو الأسد الضاري كان شهماً شجاعاً أقامه الله للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والأمر العسير)
ولقد قامت قيامة الدنيا، وكشر إله المعارك عن أنيابه، ولعب الرجال والأبطال أدوارهم ثم انتهت القوى الجامحة التي أثارتها الطبيعة فألقت قيادها إلى رجل قد اختارته العناية من مصر وهيأته بمصر، فما أن رأته العناصر الهائجة حتى خفتت لدى طلعته، ثم خبت فسلمت إليه طائعة مختارة
وأطلت شخصية الملك الظاهر على القرن السابع الهجري، فإذا هي تكشف ما حولها وتظهر واضحة براقة قوية وكأن إرادة الملايين التي تمثلت في إرادته وآمال الناس التي تحققت على يديه وأكبرت عمله قد تجمعت في بقعة واحدة وأخذت تنشد بصوت واحد في مواجهة عالم بأكمله:
(إني أرفع يدي إلى السماء وأقول: حي أنا إلى الأبد)
(يتبع)
(أبو أسامة)
حديث عيسى بن هشام
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
كتب الدكتور (زكي مبارك) بحثاً قيماً في حديث عيسى بن هشام شرح فيه كثيراً من الحقائق التي تهم كل مطلع على هذا الكتاب، وكشف عن كثير من النواحي التي تهدي الطلاب إلى الصواب، وتأخذهم بأيديهم إلى طرق البحث المجدي والاطلاع المفيد؛ ولكن الدكتور لم يرد ببحثه الاستيعاب والاستقصاء وذلك ليترك للطالب مجالا للتفكير والتنقيب
هذا ما رآه الدكتور وهو رأي فيه صواب وفيه حكمة؛ ولكن الطالب في كثير من الأحيان يحتاج إلى شيء من البسط والإيضاح؛ ولهذا رأيت أن أكتب هذه الكلمة الموجزة تتميماً للفائدة في أسلوب الكتاب ومنزلته القصصية
1 -
المنزلة القصصية للكتاب
حديث عيسى بن هشام تصوير رائع للمجتمع المصري في فترة من الزمن، وعرض شائق للحياة المصرية وما فيها من أخلاق وعادات وأنظمة في أسلوب قصصي جميل
ولا يشك أحد في أن هذا الكتاب يعتبر بداية طيبة للقصة المصرية وفتحاً جديداً للون جديد من الأدب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ذلك لأن القصة المصرية منذ بداية العصر الحديث كانت مقصورة على المقامة والقصص العامية، وما خرج منها عن هذه الدائرة كان منقولا عن اللغات الأجنبية لا يمثل الحياة المصرية في قليل ولا كثير - ولقد كان إخواننا السوريون أسبق إلى النقل والتأليف في هذا الفن؛ فاهتموا به منذ منتصف القرن التاسع عشر ونقلوا كثيراً من القصص التي لا تمثل الحياة الشرقية، ثم ألفوا بعضاً منها يمثل الحياة العربية (كالمروءة والوفاء) للشيخ خليل اليازجي
ونحن حين نقول إن حديث عيسى بن هشام كان بداية طيبة للقصة لا ندعي أنه استوفى شروطها وأنه سلم من الأخطاء الفنية التي تخرج الكتاب عن الروح القصصي، فالقارئ يلحظ التقصير في كثير من المواقف التي عالجها الكتاب، ويحس أن المويلحي كان سارداً لمظاهر الحياة المصرية لا كاتباً قصصياً. ويكفي للبرهان على هذا الرأي أن يرجع القارئ إلى المجالس التي شهدها عيسى بن هشام مع الباشا، فهما يحضران مجلس التاجر وغيره بعد الاستئذان ويسمعان كل ما يقال، ثم يخرجان دون أن يشعر بهما أحد ودون أن يشتركا
في الحديث مع الجالسين، وهذا مناف للعادات المألوفة؛ فالزائر الغريب دائماً يكون موضع السؤال والاهتمام والعناية؛ وكثيراً ما يكون قدومه سبباً في تغيير سياق الحديث
ثم إن الكاتب بالغ إلى حد كبير في الاستقصاء وتتبع نواحي المجتمع وكان يتلمس المناسبات في كثير من الأبواب ليشرح موضوعاً من الموضوعات، وكان الاتصال بين الأفكار أحياناً لا يجري على المألوف المستساغ. والمعروف أن القصص لا تحتمل هذا التكلف، ويكفي أن يلم الكاتب في قصته ببعض هذه الموضوعات.
ولكنا مع هذا لا نغض من قدر الكتاب فهو توجيه جديد إلى لون من الأدب ولا يسلم مثل هذا الانتقال من المآخذ والنقص
2 -
أسلوب الكتاب
لقد كتب الدكتور في هذا الموضوع كلمة قيمة وضح فيها أن أسلوب الكتاب نوعان: أسلوب فني أريد به الإمتاع، وأسلوب علمي توخيت فيه السهولة والبساطة.
وهنا يتساءل بعض القارئين: لم اختلف الأسلوب في كتاب واحد لمؤلف واحد؟
والمعهود أن لكل كاتب أسلوبه الخاص الذي يمتاز به ويحمل طابعه في كل كتابة له، ولم نعرف لكبار الكتاب الأقدمين والحديثين نوعين من الأساليب؛ فأسلوب الجاحظ له طابعه ولأسلوب الزيات مميزاته الخاصة.
وأقول في الإجابة عن هذا: إن السر في اختلاف الأسلوب في حديث عيسى بن هشام راجع إلى أن الكتاب وضع في عهد انتقال للأدب؛ فقد اضطرب الأدب والأدباء في نهاية القرن التاسع عشر، وكان الأدباء بين عاملين: عامل الحنين إلى القديم المملوء بالجمال الفني والمحسنات البديعية، وعامل النزوع إلى الطريقة الجديدة التي تعني بالمعنى والسهولة والوضوح قبل كل شيء. وقد جاء حديث عيسى بن هشام معبراً عن هاتين النزعتين أصدق تعبير؛ فهو حين يجد مجالا للجمال والإمتاع يستعير قلم من يعنون بالديباجة والصياغة اللفظية؛ وحينما يقف أمام موضوع علمي يتناوله بقلم المجددين الذين يعنون بالمعاني والبساطة في الأسلوب. وقد كان هذا التردد بين الأسلوبين ظاهراً في أسلوب كثير من الأدباء الذين ظهروا في هذه الفترة من الزمن ومنهم الشيخ محمد عبده وعبد الله فكري. وما زال الأدباء على هذا النحو من التردد حتى ظهر الأدب في ثوبه الجديد واستقر في
اتجاهه الذي نشهده الآن فصار لكل أديب أسلوبه الخاص الذي يعرف به.
ويلحظ القارئ في حديث عيسى بن هشام أن المويلحي لا يلجأ إلى تنميق العبارة والعناية بالأسلوب إلا إذا كان الحديث على لسان عيسى بن هشام أو الباشا؛ أما غيرهما من أشخاص الكتاب فيجري الحديث على ألسنتهم سهلاً لا أثر فيه للتنميق والتجميل. ولم يشذ عن هذه الطريقة إلا في الحوار، فهو يتوخى فيه السهولة ولو كان بين عيسى والباشا.
ونستطيع أن نلخص مميزات الأسلوب الفني في حديث عيسى بن هشام فيما يلي:
(أ) السجع ولم يظهر فيه التكلف إلا قليلاً لاقتدار المويلحي على تخير الألفاظ الملائمة
(ب) الاستشهاد بالشعر والتضمين في كثير من المناسبات، وقد أكثر من ذلك المويلحي وكان اختياره يدل على سعة اطلاعه وصفاء ذوقه
(جـ) الاقتباس من القرآن الكريم
(د) ومن المحسنات الكثيرة التي حسن بها كلامه الجناس وفي بعض ما أتي به مغالاة وإكثار ومن ذلك قوله: (وغيرها ترضع طفلين في حذاء وزوجها يضرب رأسها بالحذاء. وأخرى آخذة بضفيرة ضرتها ورضيعها يتلهف على ضرتها)
(هـ) وهو يأتي بالتورية في موضعها، ويعزب في بعض التعبيرات فتأتي عالية الأسلوب بين التعبيرات الأخرى السهلة
(و) يستعير خيال الشاعر في كثير من الأبواب وبخاصة في الوصف
وبعد فإن للكتاب نواحي كثيرة لا يتسع المقام لشرحها، ومن بينها النقد الأدبي في الكتاب والاتجاهات الأدبية التي يرمي إليها المؤلف، والإصلاح الاجتماعي الذي يبغيه. . . وهكذا. وعلى الطالب أن يستوعب كل هذا ويلم بأطرافه والله الموفق الهادي.
(الفيوم)
أحمد أبو بكر إبراهيم
الدبابات أمام المدن
للأستاذ (ذ. ص)
بعد أن تنتهي هذه الحرب تدخل في سجل التاريخ ونكون قد نسيناها أو تناسينا ما مر بنا من أهوال، سيقبل علينا أطفال الجيل الجديد يسألون ويلحفون في السؤال، فنحيلهم على كتبهم المدرسية حيث الأحداث قد صبت في كلمات وجمل تعجز عن تصوير ما خيم على العالم من خوف وهلع، ولا نقدم لهم إلا الأيام والشهور والأسماء والأرقام.
والأرقام والتواريخ كما كانت وكما ستكون، ثقيلة على الذاكرة، عسرة على اللسان، فلذلك ستبرز الأسماء إلى الأمام وتكون موضع التذاكر والنقاش، وخاصة ما دل منها على المعارك انتسبت حيناً إلى بقاع مترامية الأطراف كفرنسا والاطلنطي، ولم تحمل حيناً آخر إلا اسم مدينة أو بلدة، لا تحتل من خرائطهم إلا مقدار الثقب الصغير.
اتسعت رقعة المعارك قدماً مع نمو الجيوش، حتى إنها شغلت في الحرب الماضية مقاطعات شاسعة أو امتدت بطول بعض الأنهار، أما المدن فلم يكن لها كبير شأن إلا في أحوال خاصة، إذ كانت قلاعاً قوية منعزلة كلييج ونامور، أو نقط ارتكاز لخط دفاعي طويل كفردون.
وبدأت هذه الحرب وسمعنا بمعركة بولندا ثم النرويج، بل أن بلاداً فسيحة كالدنمرك ذهبت في ليلة لم يعقبها نهار، ثم البلاد الواطئة والفلندر وفرنسا. وفجأة ظهرت أسماء من نوع هو علينا جديد، احتلت مكانة خاصة، بل واعتبرها البعض من نقط التحول الهامة في تيار الحوادث، ومن هذه يكفيني أن أذكر على سبيل المثال: سمولنسك واستالنجراد.
كانت المدن في قديم الزمان حصوناً تصمد للأعداء شهوراً بل سنين، تغنى بحوادثها الشعراء وخلدت أسماؤها في تاريخ الحروب؛ فمن ذا الذي ينسى طروادة وحصانها الخشبي، وسقوط القسطنطينية أمام عبقرية محمد الفاتح، وارتداد نابليون تحت أسوار عكا وهو كظيم؛ ولكن الحروب ظلت تتطور ووسائلها تتعدد؛ حتى أصبحت مدافع الحصار أكملها استعداداً واشدها فتكاً، ولم تعد المدن - كما رأينا في الحرب الماضية - إلا مصايد للموت، فلم يرتد إليها المتقهقرون، بداخلها يحتمون، بل فضلوا الأرض الفضاء، ينبطحون خلف ثناياها، ويحتفرون في سطحها الخنادق ويمدون بجوفها السراديب
ولما قامت الحرب الإسبانية حولها الألمان إلى معمل تجارب لقيادتهم العسكرية، فيها يحللون ومنها يستنبطون، يلقون فيها بالسلاح الجديد يبلونه؛ ويقحمون نظرياتهم في تكتيكات فرنكو يختبرونها. واستمرت الحرب بين مد وجزر؛ وكان الجمهوريون كلما اكتسحتهم الدبابات ذعروا، وارتدوا إلى الوراء، والتجئوا إلى مدنهم يحتمون بها بعد أن كانوا حماتها؛ وكم دهشوا حين لم تخذلهم هذه كما خذلوها
لم تقف المدن في وجه الدبابات سداً منيعاً كما كانوا يأملون (وهم في قرارة نفوسهم من ذلك يائسون)، بل ظهرت لهم بمظهر جديد، لا تتمنع للداخلين بل تغريهم وترحب بهم، فإذا أصبحوا وسطها وخبروها، وجدوها الهوة التي ليس لها قرار، تجتذب الأجساد إلى الأعماق ولا تلفظ إلا الأرواح
استدعى ذلك الحال من الألمان لفتة أو لفتين، ولكنهم لم يعلقوا به كبير اهتمام، بل ظنوا الأمر طارئاً أسبابه ظرفية أكثر من أن تكون فطرية، فهذه حرب ليست ككل الحروب، هي حرب أهلية بين أفراد جنس واحد، انحدر من فرع لاتيني (وكم كان التتون يحتقرون اللاتين!)، وهذه الخطط هي من عصارة عقولهم، هم الجرمان، فهذا الأمر إذن لا يحتمل أدنى شك ولا يقبل أي جدال: كل نجاح هو إذن وليد خططهم ونظرياتهم، أما كل نقيصة أو كل خذلان فهو راجع لا محالة إلى طرق اللاتين في التنفيذ
اندلعت الحرب في سبتمبر سنة 1939، وتدفقت جيوش الألمان على بولندا، جارفة ما في طريقها من رجال وعتاد وحصون وقلاع، ولكن. . . ما هذا؟ رينهارت يصد؟. . . رينهارت الفذ يصل إلى غرضه ثم يرتد. . .؟، تخطى الجنرال رينهارت حدود بروسيا الشرقية على رأس جيشه المدرع أول أيام الحرب متجهاً صوب (وارسو)، ولكنه ما وصل إلى شوارع العاصمة البولندية حتى دفع إلى الخلف، وهجم الألمان ثانية ثم ثالثة، ولكنه في كل مرة كان على أعقابه يُرد.
تمزقت بولندا شر ممزق وقُطعت أوصالها تقطيعاً، وهرست أرضها هرساً، ووارسو لا تزال صامدة. نحن في أول أيام الحرب وكل قائد ألماني متعطش إلى إحراز السبق في النصر، ليسمع من زعيمه كلمة الثناء الموعودة، وينجز لبلاده ما ألقت عليه من أعباء؛ هذا فون بوك قد هصر الممر البولندي هصراً وهبط كالصاعقة من الشمال الغربي، وهذا فون
رنشتيد قد اخترق حصون المنطقة الصناعية عند (كراكاو)، والتف هاجماً من الجنوب الغربي. يتململ رينهارت ويرغي ويزيد، وينقض على وارسو يدكها دكا، ويطلق طائراته عليها: بالقنابل تقذفها وبالأرض تسويها، ثم تعود دباباته إليها تقتحمها، وتنساب في أزقتها، وتنعطف في منحنياتها وتضرب يميناً وشمالا. ولكن قليلاً قليلاً يهبط عليها نفس الشعور القلق ويكتنفها نفس الإحساس المبهم اللذان حلا بها في الهجمات السابقة، فتشلها الحيرة ويخنقها الارتباك؛ عدوها لا يزال مراوغاً غير مرئي. أين هو وأين يختفي؟. . . تجحظ عيون الألمان من فتحات الفولاذ الضيقة باحثة منقبة، ولكنها لا ترى إلا طريقاً خلواً طويلاً، منثنياً متعرجاً بين ديار وإن تكن قد خربت، ومنازل وإن تكن أجنابها قد صدعت، إلا إنها، هذه وتلك، لا تزال تؤوي مئات الجنود وآلاف السكان - هؤلاء الزاحفون داخل الفولاذ، مجال الرؤية أمامهم محدود، في حين أنهم ظاهرون بكل جلاء، واضحون وضوح الشمس والنهار - ينصب المدفع خلف أحد الأبواب، وبمجرد ظهور الدبابة أول الشارع يعد المدفع ويجهز، بينما لا تراه هذه حتى تكون بحذائه، وفي لمح البصر تصيبها الصدمة، فتمزق أجنابها وتهشم أفرادها، وتقذف أشلاءهم متشابكة مع فولاذها المتناثرة، متعلقة بأجزائها المتطايرة هنا وهناك. وهذه أخرى أوقفتها المتاريس لحظة فتساقطت عليها فجأة زجاجات البترول المندلعة، تشعل فيها النار وتشوى رجالها شياً، فتتعالى صيحاتهم المروعة، متجاوبة في آذان زملائهم المتقدمين خلفهم. . . فبالله عليك ماذا تنتظر من هؤلاء وقد رأوا عدوهم الخفي لا يظهر إلا ليضرب الضربة الصائبة، وإذا قضوا عليه آخر الأمر، فهناك غيره مئات بل آلاف، الموت لهم بالمرصاد، جاثم متربص في كل منعطف وفي كل ركن، وفي كل نافذة وفي كل قبو
ولم يكتو أحد بهذه الحوادث مثلما اكتوت به الجيوش الألمانية، وصممت ألا تقع في مثلها ثانية، وساعدها على ذلك غفلة العدو عن التقاط خبرة الغير والانتفاع بدروسها، ولذا رأينا الألمان يقذفون المدن الهولندية قذفاً ويمحقونها محقاً، واختصت روتردام بأكبر نصيب، ثم أسقطوا عليها الآلاف من جنود المظلات، يئدون المقاومة في مهدها، ويستحوذون أول الأمر بثمن بخس ومجهود ضئيل على تلك المراكز التي ربما تحولت آخر الأمر - إن هم تركوها إلى أوكار للدفاع - تستنزف من المجهود ما ضخم، بل ما استعصى: من توتر في
أعصاب القواد شديد، وثمن في سوق الأرواح مرتفع
وفصلت جيوش الشمال فكانت (دنكرك)، ودار الهاجمون نحو الجنوب. . . صوب باريس، وكانت القيادة الألمانية تعلم بتفكك الروح المعنوية في فرنسا، وما وصل إليه الأفراد فيها من أثرة وأنانية، فقررت الامتناع عن ضرب باريس، ذلك الضرب الذي ربما أحيا ما مات فيهم من شعور، فلم يخب ظنهم بل فتحت لهم الأبواب دون قيد أو شرط
أما الروس فكانوا هم وحدهم الذين تفتحت أذهانهم لمقتضيات الظروف، وحولوا مدنهم إلى مراكز دفاع قوية، سلح فيها المدنيون قبل العسكريين، فأمسك الزاحفون عن دخولها خشية التعرض لاستنزاف قواهم في شوارعها، ولم يجسروا على تركها خلفهم خشية التعرض لتقطيع خطوط مواصلاتهم، حول ضواحيها، بل فضلوا على كره وقف زحفهم الدقيق التوقيت مترقبين بقلوب قلقة جازعة وصول مدفعيتهم الضخمة الجاهدة وسط الأوحال على طرق وعرة حفت بها عصابات الأعداء، ثم ينصبونها إما وصلت، لتقوم بالدك والتحطيم أمداً من الزمان، وأخيراً يتبعونها بجنودهم الراجلة لاقتحام المباني منزلا بعد منزل ثم غرفة بعد غرفة
أصبحت المدن العائق الأكبر للجيوش المدرعة، فهذه تعتمد على السرعة أكبر اعتماد، مزيتها الأولى هي سرعة الاندفاع من مكان إلى مكان، وتلك تعمل على العرقلة والتعطيل، واجتذاب العدو وربطه بالمكان
لم يصب الجيش الألماني في جميع معاركه بخسائر تذكر بجانب ما حاق به في سمولنسك وسبستبول وستالنجراد وسائر المدن الروسية الكبرى، بل أن أكواخ بيتر حكيم القليلة العدد ذات القوالب الطينية، كلفتهم ما يفوق خسارة اليابانيين أمام رنجون؛ فالأولى أحسن الحلفاء استعمالها، أما الثانية فقد بادروا فيها إلى الإخلاء، ولم تساعدهم روح أهاليها المعنوية على إعداد الدفاع.
(ذ. ص)
الأزهر والإصلاح
هل للأزهر فكرة إصلاحية. . .؟
للأستاذ محمود الشرقاوي
في سنة 1928 ونحن نطلب (العلم) في الدراسات الأخيرة للأزهر انتبهت نفوسنا وأذهاننا لأمر جديد اسمه الإصلاح، أقصد إصلاح الأزهر. وكان مثار هذا التنبه المفاجئ أن شيخاً مصلحاً عظيماً ولى مشيخة الأزهر عرفناه باسم الشيخ المراغي وبوصف الإمام المصلح خليفة الشيخ محمد عبده.
ثم انتهينا من طلب (العلم) ولم تنته نفوسنا ولا أذهاننا من الانتباه بل الاندفاع مع ما فاضت به قلوبنا من الرغبة ومن الاقتناع بضرورة الإصلاح للأزهر. ومن الرغبة والاقتناع بضرورة (تجديد الحياة الدينية) في مصر والشرق.
وبقي الشيخ المراغي في الأزهر فترة ثم تركه، ولكن الحديث عن الإصلاح والتجديد ظل مقروناً باسم الشيخ المراغي، وظل وصفه بالإمامة والإصلاح والخلافة للشيخ محمد عبده قائماً.
وسارت بنا الحياة هذه السنين الكثيرة العدد ما ننفك نكتب ونتحدث ونفكر في الإصلاح والتجديد. وسارت الحياة بالأزهر هذه السنين الكثيرة العدد فتقدم فيها نحو الإصلاح والتجديد خطوات ليس من حقي الآن وليس مقصودا إلى أن أبين عنها ولا أن أبدي رأياً فيها. بل من حقي ومن واجبي أن أعدل بما كنت فلا أقول إن الأزهر في هذه السنين الكثيرة العدد قد (تقدم) نحو الإصلاح والتجديد، بل أقول إنه قد (تغير) عما كانت عليه حاله قبل هذه السنين، ولك أنت - ولي أنا أيضاً - أن أفهم وأن أحكم وأن أصف هذا التغيير هل كان إلى حسن أو إلى غير حسن. وهل كان تقدما نحو الإصلاح والتجديد أم لم يكن. وهل كان الأزهر بهذا (التغيير) كاسباً أم خاسراً، والى أي مدى كان ربحه وكانت خسارته في الثانية أو في الأولى. أم أن هذا التغيير الذي صار إليه الأزهر في هذه السنين الكثيرة لم يكن تجديداً ولا رجعة ولا تقدماً ولا تخلفاً، وإنما هو تخبط وتخليط، وأن الأزهر صار به ومنه كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
من حقك ومن حقي أن نفكر وان نحكم وأن نصف ما فعل الأزهر أو فعل به في هذه
السنين. ففكر - إن لم تكن - واحكم وصف. أما أنا فقد فكرت وحكمت وليس من شأني اليوم ولا مقصوداً لي أن أصف، أما الذي هو من شأني اليوم ومقصود لي فهو أن أكتب هذا الفصل (للرسالة) عن:(فكرة الإصلاح) في الأزهر. ما هي. . .؟
فلنسلم جدلا أو اقتناعاً بأن الأزهر له فكرة إصلاحية. وبأن الكلام عن الإصلاح التعليمي في الأزهر وعن الإصلاح الخلقي فيه. والكلام عن إصلاح الحياة الدينية في مصر ليس مقصوداً بهما الدعاية ولا التظاهر ولا عرض من متاع الحياة أو جاهها، وليس لصوقاً بوصف معين فيه ربح أو فيه متاع لنفس أو إرضاء لشهوة
فلنسلم جدلا أو اقتناعاً بأن للأزهر فكرة الإصلاحية لتجديد الحياة العقلية والحياة التعليمية والحياة الخلقية بين أهله، وأن للأزهر فكرة إصلاحية لتجديد الحياة الدينية في مصر أو في الشرق. . . فما هي هذه الفكرة الإصلاحية التي وضع الأزهر أو وضع رجاله حدودها ورسموا معالمها وخطوطها وحددوا أهدافها القريبة أو البعيدة. . .؟
وهل استبان الأزهر واتضحت له الطريق التي يسلكها إلى أهدافه القريبة أو البعيدة، حتى يأخذ بأسبابها ويتلمس نهجها ويعرف أين هو مما كان وأين هو مما يريد أن يكون؟
نحن نعرف أن الأزهر - في هذه السنين الكثيرة العدد - قد وسع على طلبته في منهج الدراسة للعلوم الحديثة، وأنشأ لهم المعامل للكيمياء، ورحلهم الرحلات، وأنه أنشأ لهم الكليات خمساً أو ثلاثاً ولوى ألسنتهم أو ألسنة بعضهم بلغات الإنجليز والفرنسيين والألمان. بل - والله قادر علمهم أو مكن لهم أن يتعلموا لغات أهل الصين واليابانيين والفرس والترك إلى ما لست أدري من لغات أهل الأرض، وأنه أخرج طلبة العلم فيه من قباتهم القديمة والجديدة، ومن صحن أزهرهم وأروقتهم إلى حيث يجلسون على الكراسي في عمائر جديدة في سفح الجبل بين مقابر الموتى، وفي أحياء متباينة متباعدة في القاهرة بين مقابر الأحياء
ونحن نعرف أن الأزهر - في هذه السنين الكثيرة العدد - قد قدم إلى طلبته المذكرات والملخصات والمختصرات، واستعان عليهم بطائفة من الأساتذة في دار العلوم ومن المطربشين في مدارس الحكومة، وأنه حفظ لأهله كرامة المال أو بعض كرامته فزاد لهم في الأموال وضخم لهم الميزانية عاماً بعد عام
ونحن نعرف أن الأزهر في هذه السنين قد جمع بين أهله عقولا تفكر في الإصلاح وقلوباً تشغل به وجهوداً تسعى إليه. وأن في الأزهر الحديث الشيخ المراغي والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ شلتوت ومن ورائهم جمع أو جموع من الشباب والطلبة يهتدون بدهيهم ويستجيبون لما يريدونه عليه للإصلاح والخير والتجديد
فهل الإصلاح للأزهر هو العلوم الحديثة ولو لم يكن لها أثر في الإفراج عن عقول أهل الأزهر وإخراجها من عبودية التقليد إلى حرية النقد والموازنة والرأي؟ أم هو معامل الكيمياء والرحلات والتواء ألسنتهم أو ألسنة بعضهم بكلمات قليلة، أو كثيرة من لغات أهل الأرض ولو لم يكن لها أثر في الإفراج عن عقول أهل الأزهر وإخراجها من ظلماتها إلى نور هذه اللغات وكنوزها وحرية التفكير فيها وبراعة النظم. . .؟ أم هو الفرار من القبلة القديمة والجديدة ومن الرواق العباسي إلى عمائر جديدة أو بالية بين مقابر الأحياء أو مقابر الموتى. . .؟ أم هو الملخصات والمذكرات والمطربشون من المدرسين وأن تضخم الأموال في العام بعد العام. . .؟
نحن نعرف أن الأزهر قد تغير في هذه السنين الكثيرة العدد، وأن الكلام عن تجديده وإصلاحه لم ينقطع يوماً، وأن فيه عقولا تفكر وقلوباً تشتغل وألسنة تتكلم وأقلاماً تكتب وخطباً تحرر وتحبر، وجموعاً من الشباب والطلبة ومن الغيورين المملوءة قلوبهم حماسة وإخلاصاً وصادق رغبة. ولكن الذي نريد أن نعرفه: هل فكرة الإصلاح للأزهر وللحياة الدينية في مصر والشرق واضحة الحدود عند الأزهريين مستبينة المعالم؟ وهل تجمع بين أصحاب العقول التي تفكر والقلوب التي تنشغل والجهود التي تسعى والألسنة التي تتحدث؟ هل بين هؤلاء جميعاً رباط من غرض أو غاية توحد بينهم في الفهم والسعي والكفاح في سبيل ما يؤمنون به. . .؟
من حقك ومن حقي أن نفكر وأن نحكم وأن نجيب، ففكر واحكم وأجب، أما أنا فقد فكرت وحكمت وليس من مقصودي اليوم أن أجيب، بل أن أعرض ما بنفسي أو بعض ما بنفسي وأن أسأل من يجيب. فهل من يجيب؟
محمود الشرقاوي
44 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق
يمكن أن نعزو ميل المصريات إلى الذات الشهوانية وفساد أخلاق الكثيرات منهن إلى عدة أسباب ينسب بعضها إلى المناخ والبعض الآخر إلى حاجتهن إلى التعليم المناسب والتسلية البريئة والاشتغال بعمل. ولكن ذلك يرجع على الأكثر إلى سلوك الأزواج أنفسهم، وهو سلوك أكثر خزيا لهم من الصرامة الشديدة التي يستعملونها في تنظيم الحريم. فجميع الأزواج في مصر يسعون إلى تحريك شهوة نسائهم بكافة الوسائل التي في قدرتهم، مع أنهم في الوقت ذاته يكدون ويثابرون لمنع زوجاتهم من إشباع هذه الشهوة بطريق يخالف الشرع. وهم يسمحون للنساء بالإصغاء من وراء الشبابيك إلى الأغاني الخليعة والروايات الفاحشة التي ينشدها في الشارع رجال يؤجرون لذلك، كما يسمحون لهن بمشاهدة رقص (الغوازي) الشهواني (والخولات) المخنثين. ويأذنون للغوازي، وحرفتهن الدعارة، بدخول حريم الأغنياء، لا لتسلية السيدات بالرقص فحسب بل لتعليمهن الفنون الشهوانية. وقد يجلب أحياناً لتسلية الحريم دمى لا حشمة فيها
روى لي عن كيد المصريات حكايات لا حصر لها. أذكر نموذجاً منها القصة التالية وقد حدثت أخيراً: تزوج نخاس شابة جميلة من هذه المدينة، وكان يملك مالاً يهيئ له عيشاً رغداً، ولكنه فقد أكثره، فكان له في ثروة امرأته عوض. ولم يلبث الرجل مع ذلك أن أهمل زوجه. ولكنه كان قد قضى عهد الشبان فلم تكترث زوجه لذلك، ومالت إلى رجل آخر يعمل زبالا وكان قد تعود الحضور إلى منزلها. فاشترت لهذا الزبال دكاناً بجانب المنزل ونفحته مبلغاً من المال يصلح من شأنه. ثم أخبرته أنها ابتكرت طريقة ليزورها في
اطمئنان تام. وكان لحريمها شباك بمصراعين قامت أمامه على قرب منه نخلة تعلو المنزل، فلاحظت أن الشجرة تقدم لعشيقها وسيلة للوصول إلى غرفتها والهرب منها وقت الخطر. وكان لها خادمة واحدة تعهدت بمساعدتها على تحقيق رغباتها. وفي اليوم السابق لأول زيارة لعشيقها أمرت خادمتها أن تخبر الزوج بما سيحدث في الليلة التالية. فعزم الزوج على مراقبة زوجه، وأخبرها أنه لن يعود إلى المنزل تلك الليلة، ثم اختبأ في غرفة سفلى. ولما جن الليل جاءته الخادمة تخبره بحضور الزائر إلى الحريم فصعد إلى أعلى ولكنه وجد باب الحريم مقفلاً. وعندما حاول فتحه صرخت زوجه، وحينئذ هرب عشيقها من الشباك عن طريق النخلة. واستغاثت الزوجة بجيرانها وأخبرتهم أن لصاً في دارها. ولم يلبث أن حضر كثيرون منهم فوجدوها قد أوصدت باب غرفتها على نفسها وزوجها في الخارج، فأخبروها أن ليس بالبيت غير زوجها وخادمتها، فقالت إن من يدعونه زوجها هو اللص لأن زوجها يبيت خارج المنزل. فأخبرهم الزوج حينئذ بما حدث وأكد أن رجلا معها، وكسر الباب وبحث في الغرفة ولكنه لم يجد أحداً. فلامه الجيران وشتمته زوجته لافترائه عليها. واصطحبت في اليوم التالي اثنين من جيرانها الذين حضروا على صراخها ليشهدا أن زوجها قذفها في عرضها واتهمته في المحكمة إنه رمى امرأة عفيفة دون رؤية أو شهود. فحكم عليه بثمانين جلدة تبعاً لشريعة (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة). وطلبت الزوجة بعد ذلك من زوجها أن يطلقها فرفض. وعاشا معاً ثلاثة أيام بعد هذا الحادث في سلام. وفي الليلة الثالثة دعت الزوجة عشيقها ليزورها وقيدت زوجها يديه ورجليه أثناء نومه وشدته إلى حشيته. وجاء عشيقها فأيقظ الزوج وهدده بالموت العاجل أن صاح. ومكث مع الزوجة ساعات في حضوره. ولما خرج المعتدي فكت الزوجة وثاق زوجها، فنادى الجيران وأخذ يضربها بقسوة وهي تستغيث. وحضر الجيران ورأوه هائجاً، فلم يشكوا في قولها أن الرجل مجنون. فخلصوها من قبضته وهم يحاولون تهدئته بالكلام اللطيف ويدعون الله أن يشفيه. وأسرعت الزوجة باستدعاء رسول القاضي وذهبت معه هي وزوجها وكثير من الجيران الذين شاهدوا الحادث إلى القاضي. وأجمع الجيران على أن الزوج مجنون فأمر القاضي بوجوب إرساله إلى المارستان. ولكن الزوجة تكلفت الشفقة والتمست السماح لها بتقييده في غرفة من
غرف منزلها حتى يمكنها أن تخفف من آلامه بالاعتناء به. فوافق القاضي مثنياً على عطف المرأة وداعياً الله أن يكافئها. وحصلت الزوجة بعد ذلك على طرق من حديد وسلسلة من المارستان. وقيدت زوجها في حجرة سفلى من المنزل. وجعل عشيقها يزورها كل ليلة في حضور الزوج. ثم تلح عليه بعد ذلك ليطلقها بلا جدوى. وكان الجيران يحضرون يومياً للسؤال عنه. فيشكو لهم من امرأته ويتهمها فلا يجيبونه بغير قولهم: (شفاك الله! شفاك الله!) واستمر هكذا شهراً فلما تبين للزوجة إصراره على الرفض أرسلت في طلب حارس من المارستان لينقله إليه. والتف الجيران حوله عند خروجه من المنزل وصاح أحدهم: (لا حول ولا قوة إلا بالله! شفاك الله!) وقال آخر: (يا خسارة. . . كان رجلا فاضلا حقا!) وقال ثالث ملاحظاً: (حقاً. . . إن الباذنجان كثير الآن!. . .) وأخذت الزوجة تزور زوجها كل يوم في المارستان ملحة في طلب الطلاق وهو يرفض. فتقول له: (ستظل إذن مقيداً حتى تموت، وسيأتي عشيقي عندي على الدوام!) وأخيراً رضى الزوج بالطلاق بعد حبس سبعة أشهر. فأخرجته من المارستان ونفذ وعده. وكان عشيق الزوجة من طبقة دون طبقتها فلا يمكن أن يكون زوجاً لها فبقيت عزبة وظلت تستقبله متى تشاء. غير أن الخادمة كشفت عن حقيقة الأمر. ولم يلبث الحادث أن أصبح حديث الناس.
تتعرض الزانية إذا كانت زوجة لثري أو لذي منصب، كما يتعرض عشيقها، لأهوال عظيمة. وقد حدثا أخيراً أن انتهزت زوجة أحد ضباط الجيش الكبار فرصة غياب زوجها عن العاصمة، فدعت لزيارتها تاجراً مسيحياً اعتادت أن تشتري منه الحرائر. فذهب التاجر إلى منزلها في الوقت المعين فوجد عند الباب أحد الأغوات قاده إلى منزل آخر وجعله يتنكر في ملابس سيدة. ثم عاد به وأدخله على سيدته. وقضى التاجر الليل كله تقريباً في بيت المرأة، ثم نهض قبل أن تستيقظ وأخذ في جيبه كيس نقود كان قد أعطاه إياها. ونزل إلى الأغا ليقوده مرة أخرى إلى المنزل الذي تنكر فيه.
فاسترد ملابسه وقصد دكانه. ولم تلبث السيدة التي افتقدت الكيس أن ذهبت إليه واتهمته بأخذه. ثم أخبرته إنها لا تريد نقوداً ولكنها تبغي رفقته فقط. ورجته أن يعود إليها في الليلة التالية، فوعد بالحضور. غير أن إحدى خادمات السيدة حضرت إلى دكان التاجر عصراً وأخبرته أن سيدتها مزجت بعض السم في الماء لتقدمه إليه. ويقال أن المرأة كثيراً ما
تختار هذه الطريقة لتنتقم من عشيقها لأقل إهانة.
يندر أن ترتكب الزوجة المسلمة الزنا دون أن تعاقب بالموت إذا شهد على الواقعة أربعة شهود. ويرفع الشهود أو الزوج دعوى الزنا. وقلما تنجو الزانية من العقاب إذا ضبطها أحد الضباط. فلا يلزم في الحالة الأخيرة شهود أربعة، وإنما تعدم المرأة سراً، إذا كانت من عائلة محترمة، تحت سلطة الحكومة الاستبدادية. غير أن الرشوة قد تخلصها أحياناً لأنها تقبل دائماً إذا لم يكن هناك خطر. وتكاد عقوبة إغراق الزانية تحل الآن محل الرجم في القاهرة وغيرها من مدن مصر الكبيرة.
ويحكى أن امرأة فقيرة من هذه المدينة تزوجت من بائع طيور؛ وبينما هي تعيش مع زوجها وأمها في سكن، اتخذت ثلاثة مساكن أخرى وتزوجت ثلاثة أزواج آخرين كانوا جميعاً يتغيبون عن القاهرة. وحسبت هكذا إنه يسهل عليها إذا جاء أحد الثلاثة إلى المدينة لبعض أيام أن تجد عذراً للذهاب إليه. ولكن حدث لسوء حظها أن قدم الثلاثة في اليوم نفسه وذهبوا في مساء ذلك اليوم يسألون عنها في منزل أمها. فارتبكت لحضورهم معاً ولوجود زوجها الأول أيضاً. فتظاهرت بالمرض وسريعاً ما تصنعت الإغماء، فحملتها أمها إلى غرفة داخلية. واقترح أحد الأزواج إعطاءها شيئاً يقويها. وأراد آخر تجربة دواء مختلف. وأخذ الجميع يتناقشون في أي الأدوية أفضل. وقال أحدهم:(سأعطيها ما يحلو لي. أليست امرأتي؟) فصاح الآخرون في صوت واحد: (امرأتك! إنها امرأتي) وأثبت كل منهم زواجه. فقدمت الزوجة إلى المحكمة وحكم بإدانتها وقذف بها في النيل. وقد حدث حادث مشابه لهذا أثناء زيارتي الأولى فقد تزوجت امرأة ثلاثة من جنود النظام، فدفنت في حفرة إلى صدرها وأعدمت بالرصاص
عدلي طاهر نور
من خمر الزوال.
. .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(إلى التي سقتني ولم تشرب معي خمر الزوال، والى الذين
يشربونها مثلي من يد الزمان!!)
لا تَترُكينِي في ضَلالْ
…
بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالخَياَلْ
إنِّي شَرِبتُ عَلَى يَدْي
…
كِ مَعَ الهَوَى خَمرَ الزَّوِالْ
أصْبَحتُ لا نَغَمٌ يُفجِّ
…
رُ لي السُّلوَّ وَلا رَبَابْ!
قَلْبي حُشاشةُ طائْرٍ
…
في الصَّيفِ أحْرقُهُ اليَباَبْ
عُمري بَقيةُ مَوجةٍ
…
حَيرَى تَخَطَّفَها العُبَابْ
في زَاخرً لَمْ يَدرِ ساَ
…
بحُهُ أَبحرٌ أَمْ سَرَابْ؟!
رُحماَكَ. . لَمْ أُصْبحْ سوَى
…
شَبَحٍ يَسيرُ عَلَى تُرابْ. .
لا تَترُكيِنيَ زَلةً
…
في الأرْضِ تاَئِهِة المَتاَبْ
إنِّي شَربْتُ عَلَى يَدَيْ
…
كِ مَعَ الهَوَى حَمْرَ الْعَذَابْ
أصْبحْتُ أشْوَاقاً مُعَذَّ
…
بةً تُضِيء مِنْ الْحنَانْ
وَأسًى يدُورُ فَلا تَقَ
…
رُّ لهُ عَلَى كبدٍ يَدَانْ
وَصَدى تَجَسَّدَ في الأثِيرِ
…
فَكادَ يُلْمَسُ بالْبنانْ
وَرُفاتَ أُغْنيةٍ لِحب
…
كِ لَمْ تَزَلْ تُشْجِي الزَّماَنْ
رُحْماكِ. . . مَا بيَدَيَّ إلاَّ
…
منْ - غَرَامكِ - دَمْعَتانْ
لا تتْرُكِينيَ فِيهمَا
…
لَهَباً يُذَوِّبهُ الْجَنانْ
إنِّي شَرِبْتُ عَلَى يَدَي
…
كِ مَعَ الهَوَى خَمْرَ الْهوانْ!
أصْبَحتُ لَمْ أُصْبِحْ! وَلَمْ
…
يُشرِقْ عَلَى خَلَدِي صَبَاحْ
أنا ظُلمةٌ سَكرَي بأق
…
دَاحٍ تطُوفُ بِهَا الرِّياحْ
في قَفرَةٍ نُسيتْ فَلَمْ
…
يَخْفِقُ لِطَائِرَها جَنَاحْ
وَبَكَى بِهَا الصَّمتُ الْغَرِي
…
بُ وَنَاحَ مِنْ فَمِهِ النُّوَاحْ
رُحماكِ! نُورُكِ فَوقهَا
…
قَدَرٌ لِغَيرِي لا يُتَاحْ!
لا تَترُكِينيَ ذَاهباً
…
كَخَريفَ لَحنٍ في صُدَاحْ
إنِّي شَربتُ عَلَى يَدَي
…
كِ مَعَ الهَوَى خَمرَ الْجِرَاحْ
الَّليلُ ياَ لَيْلايَ لَمْ
…
يَترُكْ عَلى كَبدِي أنيِنْ. . .
إِلا وَسَارَ بِهِ غِنَ
…
اءً في صَحَارَى العَاشِقينْ. . .
وَسَرَى بِلَوعَتِهِ شِرَا
…
عاً لا يَسيرُ بِهِ سَفِينْ. . .
يَجْرِي عَلَى مَوْجِ الْحَياَ
…
ةِ عُلالةً للِبَائِسينْ
أَرَأَيتِ حَيرْاناً يَلُو
…
ذُ بِهِ عَذَابُ الْحَائرينْ؟!
لَا تَترُكِينَي ياَ شَقِي
…
ةُ غُنْوةَ الزَّمَنِ الْحزِينْ
إِنِّي شَرِبتُ عَلَى يَدَي
…
كِ مَعَ الْهَوَى خَمرَ السِّنيِنْ. . .
بَكتْ الْجَزِيرةُ حِينَ قُ
…
لتُ لَهاَ وَداعاً لَنْ أَعُود!
وَتَأَوَّهَ العُشبُ الْحَبي
…
بُ وَوَلْوَلتْ فيِه الْعُهُودُ
وًالرِّيحُ رَوعَهَا الرَّحِ
…
يلُ كأنَّها فَزَعٌ شَرُود. . .
وَالمَوجُ إِعْصارٌ تَمَ
…
زَّقَ أَوْ تَباَريحُ النُّهُودْ
أَرَأَيتِ كَيفَ غَدَا الهَوَى
…
عَدَماً تَوَّهمهُ وُجُودْ!!
لا تَترُكِينَي بَعْدَهُ
…
حَسَرَاتِ لْحَنٍ فَوْقَ (عُودْ)
إِنِّي شَربتُ عَلَى يَدَي
…
كِ مَعَ الْهَوَى خَمْرَ الخُلُودْ. . .
مَرَّتْ لَياَليناَ كما الأوْ
…
هَامُ. . . عُودِي يَا لَياَلي!!
إِنِّي كَتَبتُكِ في الزَّمَا - نِ خُطُوطَ غَيبٍ في خَيالٍ
إِنِّي سَمِعتُكِ في الْحَياَ
…
ةِ أَنِينَ صَوتِ في رِمَالِ
إِنِّي رَاَيتُكِ أَدْمعُاً
…
سَودَاَء جَاثِمةً حِيالِي
أَرَأَيتِ كَيفَ طَوَتْ صِبَا
…
يَ، فمَاتَ، أَحزَانُ الْجَمالِ!؟
لَا تَترُكِينَي كالرَّدَى
…
أَرِدُ الْفَنَاَء وَلا أُبالِي
إِنِّي شَرِبتُ عَلَى يَدَيْ
…
كِ مَعَ الْهَوَى خَمرَ الضَّلالِ
أَذَكرتِ حينَ جَثَتْ لَدْي
…
كِ صَبَابةُ الليْلِ الجَميلْ؟
وَسَندتِ رَأْسكِ فَوقَ صَدْ
…
رٍ لا يفُارقُهُ الغليلْ
فَشَجَتكِ في الْقَفَصِ الْمُحط
…
مِ ذَبحةُ الطَّيرِ الْقَتيل. . .
وَسَمعتِ منهُ مَعَ الظَّلا
…
مِ تَفَجعَ الماضِي الطَّويلْ
وَرَأيتِ فِيهِ خُطَا غَرَا
…
مِك في ضَبَابِ المُستحيلْ
لا تترُكينَي عَاصفاً
…
في البيدِ يُزهقهُ العَويلْ
إِنِّي شرِبتُ عَلى يَدَي
…
كِ مَعَ الهَوَى لَهَبَ الرَّحِيلْ
أوَّاهُ. . . إِن وَلى هَوَا
…
كِ وَجَاَء يصرُخ لي هَوَاي!
وَدَعوتُ نُورَكِ للغَرَا
…
مِ فَرَدَّ جُرحٌ من صَدَاي!
وَمَددتُ كفِّي للسَّلا
…
مِ فَصَافحتك عَلَى حَشَايْ!
وَذَهبتُ مَلهُوفاً إلي
…
كِ فَلَم أجِدْ إِلا خُطايْ
وَبَقَّيةً مِمَّا وَعَى
…
طَيرُ الْجزِيرَةِ مِنْ بُكاي!
لا تَترُكيني عَارِفاً
…
أرِدُ الضِّفَافَ بِغيرِ نايْ
إِنِّي شَربتُ على يَدَي
…
كِ مَعَ الهَوَى بلْوَى صِباَيْ!
مَاذَا أَقُولُ إِذَا الهَوَى
…
أوْما إليَّ وَلَمْ يُنادِ؟!
وَإذَا الرَّحيقُ دَعَا فَكَي
…
فَ يُجيبُ خَمرَتهُ فُؤادِي؟!
وَإذا تألقَتِ الرُّؤى
…
وَمَضَت تَوَهَّجُ في وِسَادي؟!
وَرَنَا لي المَاضي بِطَي
…
فٍ مِنكِ مُرتعشِ الْحِدادِ
فَبأيِّ كأسٍ مِنْ دَمي
…
اسْقِيهِ أحْزانَ المَعادِ؟!
لا تَترُكِينَي ضَلةً
…
في الأرضِ ثاكلِةَ الرَّشادْ
إِنِّي شَربتُ عَلى يَدَي
…
كِ مَعَ الهَوَى نَدمَ الرَّمادْ. . .
لا تَسألِينْي بَعدَ يَو
…
مكِ كَيفَ أياَمي تَسيرْ!!
إِنِّي حُداءٌ سَاخرٌ
…
بِقوافلِ الَّزمنِ الكَبيرْ
لَكنْ سَأصبحُ آهةً
…
وَلهى مُضيَّعةَ الْمَصيرْ
في صَدرِ مَصلوبٍ شَ
…
قيِ الْموتِ مَظلُومِ الضَّميرْ
فإذَا سَمعتِ صَبابةً
…
غَنَّى بِها وَتَري الأخيرْ. . .
لا تَترُكينَي بَعدَها
…
أهْوَى الَّسماَء ولا أَطيرْ!
إِنِّي شَربتُ عَلَى يَدَي
…
كِ مَعَ الهَوَى جَزعَ الْهجيرْ
وَإذا تُسائلكِ المَغَا
…
ني: أيْنَ شاَعرُهَا الْحبِيبْ؟
قُولي لَهَا: بَل أيْنَ في
…
كِ خَيالهُ الغَردُ الرَّطيبْ؟
إنَّا وَهبناَ رُوحهَ
…
قبَساً لِعاَلمهِ الرَّهيب. . .
فَغَدا شُعاعاً هَائِماً
…
يَهتزُّ في فَلكٍ غَريبْ
ياَ فِتنةَ الْماضِي حَنا
…
نكِ وارَحمي نَغمِي الكَئيبْ
لا تَترُكينَي مَوجةً
…
تَفنى وَشاَطِئُها قَريبْ
إِنِّي شَربتُ عَلَى يَدَي
…
كِ مَعَ الهَوَى وَلَه الْمَغِيبْ!
مِنْ أيِّ نُورٍ بَعدَ نُو
…
ركِ يَستَقي زَمَني سَناهْ؟!
وَبأيِّ عِطرٍ بَعدَ عِطر
…
كِ يَحتَسِي قَلبِي شَذَاهْ؟!
وَبأَيِّ خَمرٍ بَعدَ خَم
…
ركِ خَافقِي يَنسى أسَاهْ؟!
وَبأَيَّ سِحرٍ بَعدَ سِح
…
ركِ أشتِهِي مَا لا أَرَاهْ؟!
وَبأَيَّ وَحيٍ بَعدَ وَح
…
يِ هَواكِ يُلهُمني الإلهْ؟!
لا تَترُكينَي دَمعةً
…
تَجرِي بأَجفانِ الحَياهْ
إِنِّي شَربتُ عَلَى يَدي
…
كِ مَعَ الهَوَى وا حَسرَتاهْ!
لا تَترُكينَي في ضَلالْ
…
بَينَ الْحَقيقةِ وَالخيَالْ
فَلرُبماَ أفْنىَ ولا
…
يَفنَى مَعي طيفُ الْجمالْ
وَلرُبمَا أَنسَى وَناَ
…
ركِ في رَمَاديَ لا تَزَالْ
إَنِّي تُرابٌ لا يُر
…
يدُ الْبعْثَ من فَرْط لْمَلال
شَربَ الهَوَى مِنْ رَاحَتي
…
كِ فَراحَ يَشربُهُ الزَّوَال
محمود حسن إسماعيل
البريد الأدبي
أرقام وأصفار
في خطبتي التي نشرت في (الرسالة) عن (الهدف الأدبي للموسم الثقافي) عبارات لم ألقها في حفلة الافتتاح لأنها لم تكن تناسب المقام، ولكل مقام مقال، وهي العبارات التي تشكك في قيمة التضامن وتجعله سناد الضعفاء
فأين وجه الحق فيما قلت؟
لقد وفقت إلى عبارة طريفة حين سألت: (وهل تتجمع في الدنيا أمة كما تتجمع أمة النمل؟) ولكن هل يكون معنى هذا الكلام أن النمل أمة ضعيفة، لأنها لا تبني المعاقل والحصون في حدود ما نتصور، ولا تزحم البحار بالغواصات والأجواء بالطيارات؟
لقد وقعت في خطأ فظيع، فأمة النمل في تكوينها المرسوم أمة على جانب من النظام، والنظام هو الذي حماها من الانقراض، ومن آيات النظام عند أمة النمل أنها لا تفرق بين النهار والليل، فهي تشتغل بالنهار والليل، وقد جربت ذلك بنفسي
أترك هذا وأنتقل إلى مسألة الأرقام والأصفار، وهي مسألة لم يخلُ كلامي فيها من اعتساف. فهل من الحق إنه يجب أن يكون الناس جميعاً أرقاماً لا أصفاراً؟ وكيف وأنا نفسي اعترفت بأن الصفر تكون له قيمة حين يضاف إلى الرقم الصحيح؟
إن المسألة المطلقة لم تتحقق ولن تتحقق، لأنها ضلال في ضلال، ولأنها لن تكون إلا باباً من الانحلال، فالناس يختلفون كما يختلف الشجر والنبات لغاية حقيقية هي الترابط بين أجزاء الوجود، وكما تختلف المسامير التي تربط أجزاء السفين
وإذن يكون الرأي أن نقرر أن للصفر قيمة، على شرط أن يتجنب الانحراف، فيكون على اليمين لا على الشمال
لو وقف كل مخلوق في الموقف الذي يأمر به العقل لظفر بالقيمة الحقيقية لوجوده الأصيل. وأين العقل الذي يأمر الصفر بأن يكون على الشمال؟
في مقدور الصفر أن يكون أكبر من بعض الأرقام إن راعى الواجب، ولهذه الكلمة الأخيرة تفسير أو تفاسير قد نتحدث عنها بعد حين.
زكي مبارك
في اللغة
كتب الأستاذ نجيب شاهين في العدد 489 تحت عنوان (إلى المجمع الملكي) ما رآه أنه الصواب لبعض الألفاظ والعبارات
غير إنه لم يكتب له التوفيق في بعض ما رآه فمن ذلك:
1 -
(لا زالت) يرى الأستاذ (أنها لفظة للدعاء وأن مدرسي مدارسنا لا يفرقون بينها وبين (ما زالت) فينشأ الطلاب على هذا الخطأ).
(ا) فما رأي الأستاذ في كتب اللغة التي أوجبت أن تعتمد أفعال الاستمرار على نفي أو نهي أو دعاء وذكرت من حروف النفي لا، ما (وقال علماء المعاني إن لكل مكانا) وقال النحاة: إن خروج (لا) من النفي إلى الدعاء لا يكون إلا بقرينة تعين الدعاء ومثلوا لذلك بـ (ولا زال منهلا بجرعائك القطر)
(ب) وما رأيه في أن القرآن الكريم استعمل زال معتمدة على النفي بلا في قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين) كما ورد في الأثر (لا تزال أمتي بخير ما فعلت كذا وكذا. . .)
2 -
(شئون) يرى الأستاذ أن تكتب هكذا (شؤون) لأن ما قبلها مضموم وقياساً على رؤوس، وما رأيه في أن جميع كتب الإملاء ذكرت القاعدة الآتية:
(كل همزة وليها حرف مد كصورتها ليس ألف اثنين ترسم مفردة. . .)
وليست كتابتها في قاموس ما حجة تلزم أن تنقص القاعدة لتكون كما يرى الأستاذ.
محمد عبد الفتاح المقدم
مدرس بمدرسة حلوان الثانوية للبنات
حول اختلاف القراءات في القرآن
قرأت ما كتبه الأستاذ محمود عرفة تعقيباً على ما رأيته في سبب بعض القراءات، فوجدته يتفق معي في أن هذه القراءات لا ترجع إلى اختلاف اللهجات، ويخالفني في إرجاعها إلى قصد التيسير على المسلمين في القراءة على عهد النبوة، لأن الحروف العربية في ذلك الوقت كانت كلها غير منقوطة، وهذا يدعو إلى ذلك التيسير كاختلاف اللهجات سواء
بسواء. وقد بنى الأستاذ إنكاره ما رأيت من ذلك على سبب غريب، هو أن المسلمين على عهد الرسول كانوا يتلقون القرآن منه سماعاً، ويطوون صدورهم عليه حفظاً وفهماً، دون ما حاجة منهم إلى النظر في شيء من آياته مخطوطاً، فهذا بلا شك أمر غريب لا يتفق مع المعروف عن المسلمين في ذلك العهد، فإن جمهورهم لم يكن يأخذ نفسه بحفظ القرآن، وكان القليل منهم يحفظ منه السورة أو السورتين، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحفظ القرآن كله منهم إلا عدد لا يكاد يتجاوز عدد الأصابع
أما كتابة القرآن وقراءته فكان فيهما إذن عام من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك إذن في كتابة الحديث لئلا يشتبه بالقرآن، فكانت كتابة القرآن وقراءته في ذلك العهد منتشرة بين المسلمين، وإذا كان كثير منهم لا يحفظه فإنه بلا شك تعتريه تلك الصعوبة في بعض الكلمات، ومن هذا يجيء التيسير في قراءتها على ما تحتمله من الوجوه
أما حمل مثل هذه القراءات على التصحيف فأمر لا يصح أن يقال وخصوصاً مع وجود هذا المحمل السائغ، وهو محمل يمكن أن يشمله ما ورد من نزول القرآن على سبعة أحرف، لأن هذه القراءات ورد كثير منها في قراءات سبعية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير منها روي عن بعض أصحاب النبي رضوان الله عليهم ولا تقتصر روايته على حماد وأمثاله
عبد المتعال الصعيدي
حول اختلاف القراءات
رداً على كلمة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي المنشورة في العدد 488 من مجلة الرسالة بعنوان (سبب مجهول من أسباب اختلاف القراءات) أقول: إن القراءات التي تعد أبعاضاً للقرآن يشترط فيها موافقتها للرسم المتواتر عن الصحابة، وتواتر سماعها، وموافقتها للعربية. فالمدار في كون القراءة بعضاً من القرآن على تواتر سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم على أنها قرآن مبلغ عن الله تعالى. فقراءة (فتثبتوا) وقراءة (فتبينوا) قراءتان متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناهما واحد، لا أن الخط يحتملهما فقرأها فريق على أحد الاحتمالين، وفريق على الاحتمال الاخر، فإنكار أحدهما إنكار لبعض
القرآن
وأما تجويز القراءة بما يحتمله الرسم وتظاهره العربية بدون نظر إلى الرواية فرأي شاذ لابن مقسم العطار وهو محمد بن الحسن المتوفى سنة 453 استثيب بسببه (انظر شذرات الذهب في أخبار من ذهب وتاريخ بغداد)
وقراءة (أباه) بدل (إياه) شاذة قرأ بها الحسن البصري وابن السميفع اليماني وغيرهما. والقراءة الشاذة تكون في الأكثر مفسرة للقراءة المشهورة. فقراءة أباه تعين رجوع ضمير (إياه) إلى الأب مع احتمال رجوعه إلى إبراهيم باعتبار أن الأب ربما كان هو الذي وعد ابنه بالإيمان، وفهم الحسن البصري عكس ذلك فقال إن الواعد هو إبراهيم حيث وعد أباه بالاستغفار.
ولو أن الأستاذ عبد المتعال اطلع على (تاريخ الأدب العربي للأستاذ الزيات) ص89، 90 أو على كتاب في الفن (كمسجد المقرئين لابن الجزري) لما ذهب إلى هذا الرأي
محمد غسان