المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 492 - بتاريخ: 07 - 12 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٩٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 492

- بتاريخ: 07 - 12 - 1942

ص: -1

‌3 - دفاع عن البلاغة

حد البلاغة

تسألني بعد ذلك عن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها: أهي بلاغة العقل العربي التي تجلت في نثر ابن المقفع والجاحظ والبديع، وارتسمت في منهج أبي هلال وعبد القاهر؛ أم هي بلاغة العقل اليوناني التي تمثلت في كلام الأصوليين والجدليين والمناطقة، واستسرت في قواعد السكاكي والسعد؟ أهي بلاغة المعنى أم بلاغة اللفظ؟ أهي بلاغة الفكر أم بلاغة الأسلوب؟

والجواب أن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها هي البلاغة التي تحدى بها القرآن أمراء القول في عهد كان الأدب فيه صورة الحياة وترجمة الشعور وعبارة العقل. هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل؛ إذ الكلام كائن حي، روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس

ومن العجيب أن كان في أمم البلاغة الثلاث: اليونان والرومان والعرب، من فصلوا بين القلب واللسان، وفرقوا بين المنطق والفن. ففي اليونان - وهي الأمة التي نشأت البلاغة في حضانة الفلسفة، وجعلت الشعر والخطابة قسمين من أقسام المنطق - كان للبلاغة مذهبان: مذهب الفلاسفة؛ ومن رجاله بركليس وديمستين؛ ومذهب البيانيين؛ ومن رجاله السوفسطائيون والمتشدقون من أمثال طراسيماك وجرجياس.

وفي العرب كان مذهب المعنويين ومذهب اللفظيين، أو مذهب أهل العراق، ومذهب أهل الشام. وكان هذان المذهبان أول الأمر يتماسان من شدة القرب كما تراهما بين أسلوب الجاحظ وأسلوب ابن العميد. فلما فسدت الطباع وأمحلت القرائح صار بينهما من البعد ما بين براعة ابن خلدون وغثاثة القاضي الفاضل

ولقد اختلفت التعريفات على مدلول البلاغة باختلاف تصور الناس لها وتأثرهم بها وغرضهم منها، ولكنها تعريفات مقتضبة لا تكاد تكشف عن جوهرها الفني لا من جهة النظر ولا من جهة العمل. ولعل أول من حاول شرح البلاغة على نحو يشبه الفن ابن المقفع إذ قال: (البلاغة اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة: منها ما يكون في السكوت،

ص: 1

ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون خطبا، وربما كانت رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب، فالوحي فيها والإشارة إلى المعنى ابلغ. والإيجاز هو البلاغة). ومن الأمثلة الأقوال المقتضبة قول ابن المعتز:(البلاغة هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل سفر الكلام). وقول الخليل: (البلاغة هي ما قرب طرفاه وبعد منتهاه)

ولبلغاء الغرب في البلاغة أقوال تشبه ما قال بلغاء العرب في إجمال المعنى وبعد الإشارة. قال لاهارب: (البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حق). وقال سورين: (هي الفكرة الصائبة، ثم الكلمة المناسبة). وقال لابرويير: (هي نعمة روحية تولينا السيطرة على النفوس). ولقد تخيلها (سنيك) إلهاً مجهولا في صدر الإنسان. ومثلها القدماء في صورة إله يتكلم فيخرج من فيه سلاسل من الذهب تسلك السامعين فلا يفلت منهم أحد. والتمثال على هذا الوضع لا يمثل غير بلاغة الخطيب

والناظر المتقصي في أقوال هؤلاء وأولئك يستطيع أن يستخلص من جملتها أن البلاغة هي بمعناها الشامل الكامل ملكة يؤثر بها صاحبها في عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة أو الكلام. فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة؛ والتأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة؛ وفي هاتين الموهبتين تنشأ موهبة الإقناع على أكمل صورة. وتحليل ذلك أن بلاغة الكلام هي تأثير نفس في نفس، وفكر في فكر. والأثر الحاصل من ذلك التأثير هو التغلب على مقاومة في هوى المخاطب أو في رأيه. وهذه المقاومة قد تكون فاعلة كسبق الإصرار أو الليل أو العزم؛ وقد تكون منفعلة كالجهل أو الشك أو التردد أو خلو الذهن. فإذا كانت منفعلة كانت ضعيفة لا يحتاج في قهرها إلى الوسائل البلاغية القوية؛ فالمرء يجهل أو يشك أو يتردد ريثما يتهيأ له أن يعلم أو يستيقن أو يجزم؛ وهو في مثل هذه الأحوال تكفيه الحقيقة البسيطة للاستفادة من (التعليم). وقد يكون مع الجهل زيف العلم، واعتساف الحكم، وخطل الرأي الثابت باستمرار العادة، وفساد الوهم القائم على قوة القرينة. وحينئذ لابد أن تتناصر قوى العقل جمعاء على كسر هذه المقاومة من طريق البرهان؛ وذلك عمل الجدل، والجدل عصب البلاغة. وربما حدث مع ذلك كله أو بدون ذلك كله، فتور في الطبع فلا ينشط الحديث ولا يرتاح إلى رأي. وهنا يجب على صاحب

ص: 2

البلاغة أن يدفع السأم ويحرك النشاط، فيوشي الحقيقة بخياله، ويحي الأسلوب بروحه، ويجذب القارئ بفنه. وفي هذه الحال يظهر فضل البلاغة على الفلسفة

وقد تكون المقاومة ضعيفة أو معدومة من جهة العقل؛ ولكنها تكون قوية عارمة من جهة النفس. فأنا لا أماري في أن هذا هو الحق ولكني أستثقله، أو هو الفضل ولكني استرذله، أو هو النفع ولكنه يجهد نفسي ويبهر قواي، أو هو العدل ولكنه يعارض نفعي ويصادم هواي. فجهد البلاغة هنا يجب أن يوجه إلى النفس من طريق التأثير، لا إلى العقل من طريق الإقناع

فإذا اجتمع على مقاومة البلاغة العقل والهوى: هذا بميله أو نفوره، وذاك بإصراره أو قصوره، كان هنا ميدانها الأول وجهادها الخطير. لقد حشد لها العدو جميع قواه فيجب أن تربع حجره وتستعد له. وهي على حسب ما تقتضيه الحال أما أن تهاجم الرأي فتخضع بخضوعه الإرادة كحالها مع القاضي، وإما أن تهاجم الإرادة فيخضع بخضوعها الرأي كحالها مع الجمهور

أما الغرض من تحليل هذا التعريف فهو تجلية المراد من قول البيانيين أن البلاغة هي مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال. فليست الأحوال المعروضة أو المفروضة إلا انفعالات العواطف في النفس، أو اتجاهات الخواطر في الذهن. وليست مقتضياتها إلا الصور البلاغية المناسبة التي يهتدي إليها البليغ بطبعه أو فنه فيؤثر بها في هذه العواطف أو في تلك الخواطر التأثير الذي يريد. . .

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الشباب والكهولة

بين توديع وترحيب

لصاحب العزة الأستاذ محمد كامل سليم بك

سكرتير عام مجلس النواب

إذا بلغ الإنسان الأربعين من عمره، وزحف منحدراً إلى الخمسين، شعر بتطور حاسم في مجرى حياته: هي فترة من العمر ظاهرة المعالم واضحة الحدود. قد يتجاهلها أناس فيمرون بها سراعاً ومن غير مبالاة. وقد يضطرب لها أناس فيحزنون أشد الحزن على شباب ولّى وأدبر بنضرته وروعته، وكهولة حلت بآثارها وأثقالها. وآخرون مثلي يقفون هنيهة، ويفكرون ثم يفكرون، ويودعون عهداً أدبر، ويستقبلون عهداً أقبل، ثم يبتسمون ويسيرون في الطريق المنحدر الذي يقاس بالأعوام، أو يقاس بالشهور والأيام. . . علم ذلك عند علام الغيوب

هي على كل حال فترة فاصلة حاسمة، تنطق بعبارة واضحة حازمة، لا لبس فيها ولا إبهام؛ إذ تقول:(أيها الرجل. قد انتهى شبابك. قد تضحك ساخراً؛ وقد تتحدى وتنكر، وتزعم أن رأسك لم يشتعل بعد شيباً، أو أن أسنانك سليمة، وقوتك عظيمة، وأنك في صحة الشباب وعافية الشباب. . . وإني لمصدقك؛ ولكن صدقني أنت كذلك: إنك لست الآن شاباً بل أنت كهل، فما رأيك؟)

والرأي هنا يتوقف على عوامل شتى أخص بالذكر منها اثنين أو ثلاثة:

(الأول) نظرة الإنسان إلى الحياة عامة

(الثاني) الحالة الباطنية أو الصحية

(الثالث) الحالة الظاهرة أو الشكلية

وما يعنيني الآن في هذا المقام أن أشرح هذه العوامل وأبين أثرها ومبلغ خطرها في تكوين الرأي؛ وإنما يعنيني (ونحن في زمن الحرب) أن أهجم على الموضوع هجوماً خاطفاً، فأقول: إني أحب الكهولة لأسباب أوجزها فيما يلي:

- لأني أصبحت بعد التجارب أعرف ما أريد وما لا أريد

ص: 4

- ولأني أصبحت أعرف نفسي وأعيش عيشة تتفق ومزاجها الخاص

- ولأني ما زلت والحمد سليم الصحة معافى البدن

- ولأني تعلمت ضبط النفس

- ولأني أقدر مما كنت على احتمال الآلام وصدمات الحياة

- ولأني أقدر على خدمة وطني وإسعاد من حولي

- ولأني أحمل كنوزاً من الأسرار والذكريات

- ولأني أصبحت أنعم بالهدوء والاستقرار والسلام

ذكرت رأيي هذا ذات يوم لصديق حميم فقال: هذا حسن. ولكن هل نسيت أن للشباب هزاته ولذاته، خفقاته وغزواته، أحلامه ومطامعه، قوته ونضرته؟ وهل الشباب إلا الحياة الحافلة؟ وهل الكهولة إلا الحياة الفاترة؟

فقلت له: مهلا. لم أنس شيئاً وإني بما ذكرته عليم خبير. بل من أعلم به مني وأخبر؟ ولكن مالك أنت قد ذكرت حسناته ونسيت سيئاته؟ فللشباب كما تعلم نقائصه وهفواته، كبواته وانفعالاته، حماقاته وجهالاته. فليس الشباب حلاوة صرفاً كما تزعم. ولقد عرفت أناساً كان شبابهم عذاباً وجحيماً، فجاءتهم الكهولة راحة ونعيما. وعرفت العكس مع أناس آخرين

أن السعادة ميسورة في الشباب وميسورة في الكهولة إذا عرف الإنسان كيف يعيش وفق طبائع العهدين ومميزات العمرين

فالشباب عواطف أولاً وعقل ثانياً، فهو حماسة وتدفق وإقدام

والكهولة عقل أولاً وعواطف ثانياً؛ فهي اتزان وحساب وسير إلى الأمام

والشباب طائرة في السماء، ودبابة في الأرض، وغواصة في البحار

والكهولة سيارة فخمة تطوي الأرض أو باخرة ضخمة تمخر البحار

والشباب فراشة هائمة على وجهها طلباً للنور الوهاج، أو نملة سابحة فوق أطباق العسل المصفى

والكهولة فراشة هدأت وسكنت بعد طول المطاف واحتراق الجناح، أو نملة شبعت وارتوت وما هي بحاجة إلى التكرار

دعني يا صديقي أنعم بالكهولة نعيماً هادئاً معتدلا لا أشعر فيه بالاكتئاب والضجر، ولا

ص: 5

بالتعب والملل، لأنه نعيم النفس والروح الخالدة، لا يتطرق إليها الاكتظاظ والسأم الكريه.

إن الشباب كلباس الحمام، ينفع للسباحة العنيفة في البحار. والكهولة كالمعطف ينفع للتدفئة عند مقدم الشتاء

فعلي بهذا المعطف المريح ألبسه في بر السلام، وقد أخذت نصيبي وأكثر من نصيبي في السباحة والتعرض لأخطار البحار

الآن أصبحت أعرف نفسي وما تريد. وكنت في الشباب أجهل نفسي وأسعى وراء ما لا أريد أو ما لا خير فيه. والآن أعرف ضبط النفس وجمال التسامح، وهما سر السعادة والإسعاد. وكنت في الشباب على النقيض: ثورة مشبوبة حينا أو سيارة من غير فرامل أحياناً أخرى

ولكن ما هذا؟ هل الكهولة خير كل الخير، لا عيب فيها، ولا غبار عليها؟ كلا فقد أراد الله أن يمزج الخير بالشر، والشر بالخير، ليخرج من المزيج مزاجاً معقولا، ونظاماً مقبولا. ففي الشباب كفة الجسم وجماله ترجح كفة العقل. وفي الكهولة كفة العقل وكماله ترجح كفة الجسم. فكل شيء بميزان وقدر

أن الرجل إذا جاوز الأربعين واقترب من الخمسين لا محالة شاعر بنوع من الحرمان ونوع من الإذلال. فهذه بعض أسنان تتزعزع فتتخلع؛ وهذا شعر يبيض أو يتساقط؛ وهذه عيون كانت قوية نافذة، أصبحت ضعيفة حاسرة: في حاجة إلى منظار للقراءة ومنظار للمسير. وهنا وهناك خطوط تنذر بتجاعيد وأخاديد. ثم هضم يضعف، وغذاء ينتقي وشراب يدرس وكل شيء وإلا وقع العقاب، فإذا مرضت يا صاحبي جاءك الطبيب المعالج، ولا يتركك إلا وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة جمة المعاني. إذ يقول لك:(يا عزيزي خفف من نشاطك وجهودك. واكثر من أسباب الراحة. ولا تنس أنك لست اليوم شاباً)

هذا وقد تشتهي نفسك أمراً فيه رياضة أو متاع أو غذاء، فلا يسعفك جسمك في همة ونشاط كما كان العهد في الشباب، وإنما يتباطأ أو يتخاذل بالإعياء. هذه هي الكهولة في أخف أعبائها. وقد تثقل وتقسو وتشتد حين تجعل من نفسها باباً تدخل منه العلل والأوصاب إلى الجسم، والحسرة والاكتئاب إلى النفس. على أني والحمد لله أسعد حالا من هذه الصورة، فما زلت كامل الصحة، معافى البدن، جم الحيوية والنشاط، ولهذا تراني أحب الكهولة لأني

ص: 6

أحب النضج، وأحب النضج لأني أصبحت أفضل حكم العقل على تحكم الغرائز، وأوثر الروحانيات على الماديات. والشباب في نظري حرب قائمة، والكهولة سلام مقيم. قد تقول ساخراً إن هذا السلام ركود، والركود من مظاهر الموت. وإني لا أقر هذا القول ولا أوافق عليه. فأنا لا أقول بالسلام العقيم ولا بالاستسلام وانعدام النشاط؛ إنما أقصد سلاماً كسلام الدولة القوية الغنية، لا تحب الحرب ولا تسرع إليها مختارة، بل تعمل في شتى مرافق الحياة بنشاط أي نشاط. أقصد السلام الذي يشعر به المجاهد الذي ناضل طويلا، وأدرك ما أراد، ثم هدأ واستقر ليستريح وينعم بمزايا السلام. هو سلام لا يعرفه الشاب بحال من الأحوال، لأن الشباب يسبح في غمرات متلاحقات. فهو يطمح ويطمع. وينهك نفسه ليكون في الحياة شيئاً مذكوراً، وليحصل على المال والمجد والشهرة. يطالع ويدرس في نهم شديد ليعرف كل شيء. ويظل ريشة في مهب العواطف العواصف: من حب وكره، ورضا وسخط، وأمل وألم. فيظل على الدوام مشرد القلب في فرح يمازجه اضطراب، أو في حزن يلازمه اكتئاب، إن أخطأ أو أصاب. ضع هذا كله في كفة الخسائر للشباب، وانظر ما يقابلها في كفة المكاسب للكهولة. ترى الكهل ينعم بمزية التحرر والخلاص: التحرر من قيود كانت في الشباب ثقيلة، والخلاص من جهود كانت مضنية. لأنه أدرك ما أراد، ويئس في الغالب من إدراك البعض الآخر. واليأس إحدى الراحتين. . .

لهذا أراني أشد ما أكون اغتباطاً بالكهولة. لأنها خلصتني من مطالب كانت على نفسي ثقيلة الوطأة شديدة الإلحاح. ولأنها منحتني القدرة على خدمة بلادي على وجه معين ظاهر الأثر معروف الدائرة. كما منحتني القدرة على إسعاد من حولي على وجه أدق وأشمل. وفي هذا كله أنس للروح وغبطة للنفس، ليس إلى وصفهما من سبيل.

وأخيراً ما هذا الهدوء النفسي الفريد الذي يملأ صدري في الكهولة؟ أهو وليد الثقة بالنفس بعد طول التجارب على مر الأعوام؟ قد تحدث الآن أمور مروعة فأتألم لها من غير هلع أو جزع. وأراني أتحمل الألم في جلد وصبر وإيمان. لماذا؟ لست أدري. وإنما أدري أن هذا سلاح للروح معدوم النظير، لا يعرفه الشباب الذي تراه من هول كل صدمة يطير.

هو هدوء أشبه بالهدوء الذي يلي العاصفة: هدوء يطلق النفس من عقالها، ويفتح أمام العقل آفاقاً لم يكن يراها. ويا له من هدوء مريح حين أخلو إلى نفسي في مقعدي الوثير، أطالع ما

ص: 7

أشاء كما أشاء، أو أفكر فيما أشاء عندما أشاء، أو أرجع إلى ذخائر الذاكرة أستثير منها ذكريات الماضي البعيد أو القريب، وأنها لمفعمة الأسرار، بعضها خاص لا يذاع، وبعضها عام سوف ينشر يوماً من الأيام. حينذاك يستقر رجل الأسرار مبتسماً هادئاً في مكانه المختار، ثم يتنفس في عمق واسترخاء وسكون. يا له من شعور لذيذ كامل الصفاء. هيهات هيهات للشباب أن يدرك مداه أو يفهم معناه؛ لأن الشباب كما قلت دائب الحركة، يعدو ويلهث وراء متع ليس فيها ري ولا شبع، ووراء فرص الحياة يطاردها في حماسة الصبا، وخلابة المطامع وسراب الغايات.

هذا هو الشباب. وهذه هي الكهولة.

فوداعاً يا شبابي فقد كانت سعادتي بك أضعاف أضعاف ألمي منك

ومرحباً بالكهولة فقد سعدت بمقدمها، واستبشرت بطلائع ثمارها، وأصبحت لا أقوى على فراقها الآن. ورحم الله المتنبي الذي قال:

خُلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا

لفارقت شيبي موجع القلب باكيا

محمد كامل سليم

ص: 8

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

3 -

الشوقيات

للدكتور زكي مبارك

توت عنخ آمون - لعنة الفراعنة - حقيقة أغرب من الخيال - بين حافظ وشوقي - بين الظلم والعدل - أحقاد العبقريين - ألاعيب الحظوظ - توضيح - النونية الآمونية - ثورة الجيل - خلاصة البحث

توت عنخ آمون

في الجزء الثاني من الشوقيات قصيدتان في توت عنخ آمون، ولهاتين القصيدتين قيمة عظيمة، فقد صرح شوقي نفسه أن أعظم قصائده هي النونية الآمونية:

درجتْ على الكنز القرون

وأتت على الدَّنَ السنون

أما حافظ إبراهيم فكان يرى أن أعظم قصيدة نظمها شوقي هي البائية الكازنارفونية:

في الموت ما أعيا وفي أسبابهِ

كل امرئ رهنٌ بطيّ كتابهِ

فما حديث هذه القصائد الجياد؟

كان اللورد كارنارفون من المولعين بالآثار المصرية، وقد سمح له غناه أن ينفق على الحفريات بسخاء، فكلف المستر كارتر أن يحفر في (وادي الملوك) بالأقصر عساه يهتدي إلى مقبرة لم يهتد إليها اللصوص في العصور الخوالي

وبعد متاعب كادت تودي بصبر اللورد كارنارفون عثر المستر كارتر على مقبرة توت عنخ آمون في سنة 1922

وقد التفت الباحثون من الأوربيين والأمريكيين إلى هذا الكشف أعظم التفات وقدمت التهاني إلى كارتر وكارنارفون من الهيئات العلمية في الغرب والشرق، ودعيت الصحافة إلى معاينة ذلك الكشف الخطير فذهب لمعاينته ثلاثة من الصحفيين: زكي مبارك مندوباً عن جريدة الأفكار، والدكتور هيكل مندوباً عن جريدة السياسة، والأستاذ المازني مندوبا عن جريدة الأخبار

ولن أنسى أن المستر كارتر حدثنا عن السبب في نقص بعض محتويات المقبرة، وكان

ص: 9

الرأي عنده أن أيدي اللصوص قد امتدت إليها في عهد (الأسرة العشرين) فكتبت في (الأفكار) أقول إني أرجح إنها سرقت في (القرن العشرين) ولم يفت مراسل (التيمس) أن يبرق إلى جريدته بهذا التلميح، فنشرته بدون تسويف، لتداعب به اللورد كارنارفون، وكانت النتيجة أن يمتنع المستر كارتر عن السماح للصحفيين بزيارة المقبرة، ولهذا الامتناع صدى في شعر شوقي سنشير إليه قبل ختام هذا الحديث.

لعنة الفراعنة

هنالك خرافة تقول بأن الفراعنة يلعنون من ينبش قبورهم بعد الموت. ولهذا الخرافة أصل، فقد وجد على كثير من القبور المصرية والكلدانية دعوات حرار على من ينبشون قبور الملوك. وفي القبور المصرية ما يسمى (الرصد) وهو تمثال يقام في مدخل القبر لتخويف اللصوص، وهو حقا مخيف، لأن القدماء كانوا يتوهمون إنه مزود بالروح وبالسلاح، وأنه يقتل من يدخل القبر بدون استئذان. وهل يستأذن اللصوص؟

فماذا صنعت لعنة الفراعنة باللورد كارنافون؟

أبرق إليه المستر كارتر فحضر على عجل ليشهد الكشف الجديد، وبعد أيام لسعته بعوضة وهو نائم في خيمة بجوار المقبرة فمات.

حقيقة أغرب من الخيال

كان اللورد كارنافون أهدى إلى بنت ملك الإنجليز عقدا من العقود القديمة، ففرحت به فرحاً عظيماً، وأثابت مهديه أجزل الثواب، فلما سمعت أن بعوضة لسعته فمات نزعت العقد من جيدها لئلا تلحقها لعنة الفراعين

وفي قصة البعوضة يقول شوقي:

صادت بقارعة (الصعيد) بعوضةٌ

في الجوّ صائدَ بازه وعقابهِ

وأصاب خرطوم الذبابة صفحةً

خُلقت لسيف الهند أو للذبابه

طارت بخافية القضاء ورأرأتْ

بكريمتيه ولامستْ بلعابه

ثم يعلل شوقي تلك الحادثة تعليلا علمياً فيذكر إنها من نتائج الوهم الذي يضعف الأعصاب:

لا تسمعنْ لعصبة الأرواح ما

قالوا بباطل علمهم وكذابهِ

ص: 10

الروح للرحمن جل جلاله

هي من ضغائن علمه وغيابه

غلبوا على أعصابهم فتوهموا

أوهام مغلوبٍ على أعصابه

بين حافظ وشوقي

كان التنافس بين حافظ وشوقي قد وصل إلى أبعد الحدود، وزاد في خطر ذلك التنافس أن حافظا كان رجلا عذب الروح، وكانت له مع الصحفيين صلات يؤرث بها أحقادهم على شوقي حين يشاء

وما أذكر غلبة شوقي على حافظ إلا تعجبت. فقد كان حافظ غاية في الذكاء واللوذعية، وكان علمه بتاريخ العرب وآدابهم علما يفوق الوصف، وكان فهمه لدقائق الحياة المصرية أعجوبة الأعاجيب، فكيف تفوق عليه شوقي وكان رجلا يدل مظهره وحديثه على إنه فرد من سواد الناس لا يمتاز بعبقرية ولا نبوغ؟

أكاد أجزم بأن (شهوة الحديث) هي التي أضعفت شاعرية حافظ، فقد كان كثير الحديث، وبالحديث وصل إلى ألوف القلوب، وبالحديث ضاع، لأن الحديث يأخذ من القوى النفسية طاقات لا تصلح بعدها للغناء

لو أن أحاديث حافظ دونت لكان فيها ثروة فكرية تفوق ما ترك شوقي من الثروة الشعرية، ولكان من الممكن أن يعد من أقطاب التاريخ الأدبي في هذا الباب، ولكن هذا الزمن لا تتسع تقاليده الأدبية لمثل ما كانت تحرص عليه عناية القدماء في أمثال هذه الشؤون

أما شوقي فكان يؤثر الصمت ليحتفظ بالمدخر من قواه النفسية، وليلقى الناس بالقصيد لا بالحديث، فظفرت جهوده بالخلود.

كان حافظ يحدث من يلقاه بإطناب وإسهاب، فلا يقتضي اليوم إلا وهو متهالك من فرط الإعياء، وكان شوقي يهرب من الناس حين يشرع في النظم، فلا تراه إلا هائماً على وجهه من طريق إلى طريق، وفي حال تنذر بالجنون

كان حافظ يطيل محاورتي حين كنت موظفا بدار الكتب المصرية في سنة 1925، فبدا للمرحوم أحمد نسيم أن يدلني على أحد مقاتله النفسية، فحدثني أن أعظم ما يغيظ حافظاً أن تخبره أنك رأيت شوقي ينتقل من ترام إلى ترام وفي يده سيجارة وعلى وجهه أمارات الذهول.

ص: 11

وحملني النزق على تجربة هذه الوصية، فأخبرت حافظا أني رأين شوقي كثير التنقل في الشوارع، وفي حال يغلب عليه الانفعال، فصرخ حافظ: في أي غرض يعالج الشعر هذا المخبول؟ إنه يكره أن يقترن اسمي باسمه، مع أن الناس ظلوا يقولون في أكثر من عشرين سنة: شوقي وحافظ كما يقولون: بيض وسميط

بين الظلم والعدل

كانت الأقدار سمحت بأن تنعقد بيني وبين شوقي مودة دامت نحو سنتين. وفي تلك الأيام عرفت من أحوال شوقي أشياء وأشياء. ومن المؤكد إنه من أعاظم الرجال الذين عرفتهم في حياتي، فقد كانت أستاذيته في نقد المجتمع مضرب الأمثال، وكان روحه من ألطف الأرواح، وفي لحظة من لحظات الحوار حول مقاصد الشعراء سألته عن قصيدة حافظ في مجاريته، وهو منفي بالأندلس، فأجاب وقد تربد وجهه بالغيظ، أنا لا أروي غير شعري

فقلت: ومن الوفاء للأدب أن تروي شعر من يناجيك وأنت غريب

وفي اليوم التالي لقيت حافظا فسألته برفق: أتحفظ شيئا من شعر شوقي؟ فأجاب: لقد قتلني شوقي حين قال في اللورد كارنارفون:

أفضى إلى ختم الزمان ففضهُ

وحبا إلى التاريخ في محرابهِ

وطوى القرون القهقرى حتى أني

فرعونَ بين طعامهِ وشرابه

أحقاد العبقريين

ومع هذا فأحقاد العبقريين كأحقاد الأطفال تذوب بعد ليال. ففي سنة 1927 أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقي، فأنشد حافظ قصيداً جاء فيه:

أميرَ القوافي قد أتيت مبايعاً

وهذى وفود الشرق قد بايعت معي

فدعاه شوقي وقبّل جبينه والدمع في عينيه. . . ثم شاء القدر أن يموت حافظ قبل شوقي بأسابيع، فقال شوقي يبكيه:

قد كنت أؤثر أن تقول رثائي

يا منصف الموتى من الأحياء

لكن سبقتَ وكل طول سلامة

قدرٌ، وكل منية بقضاء

ووددت لو أني فداك من الردى

والكاذبون المرجفون فدائي

ص: 12

الناطقون عن الضغينة والهوى

الموغرو الموتى على الأحياء

من كل هدّامٍ ويبني مجدهُ

بكرائم الأنقاض والأشلاء

ما حطّموك وإنما بك حُطّموا

من ذا يحطّم رفرفَ الجوزاء

أنظُر فأنت كأمس شأنك باذخٌ

في الشرق واسُمك أرفع الأسماء

بالأمس قد حلّيتني بقصيدة

غراء تُحفَظُ كاليد البيضاء

غِيظَ الحسود لها وقمت بشكرها

وكما علمتَ مودتي ووفائي

وهي أعظم قصيدة قالها شوقي قبيل الموت. ولعلها خير ما جاد به خاطره برفق وحنان

ألاعيب الحظوظ

مات حافظ وشوقي في موسمً واحد هو صيف سنة 1932 فارتجت الأقطار العربية لموت شاعرين كانت إليهما قيثارة الغناء في أعوام تزيد على الثلاثين

وفي خريف تلك السنة بدا لإحدى شركات السجائر أن تخرج علبة باسم شوقي وعلبة باسم حافظ، فجعلت ثمن العلبة الأولى خمسة قروش وثمن العلبة الثانية أربعة قروش

وسعيد الدنيا سعيد الآخرة، كما يقول المصريون

توضيح

لهذا الاستطراد غاية، هي خلق جو يفسر ما كان بين شوقي وحافظ، ولهما مجال في مسابقة الأدب العربي لهذا العام السعيد. وما يليق بأديب أن يجهل ما كان بين حافظ وشوقي من مصاولات عادت على الشعر بأطيب الثمرات

النونية الآمونية

مراجعة هذه القصيدة بتأمل وتدقيق ترينا كيف قال شوقي إنها أعظم ما خطته يمناه، فقد حاور الحياة وحاور الوجود بأسلوب الأديب الفيلسوف، وزعم خياله أن الموتى لو شعروا بما في قبر ذلك الملك لنبشوه بدون استحياء ثم مضى فصور حياة ذلك الفرعون في حدود التصاوير المرسومة بجدران قبره المطموس

والتلطف مع شوقي لا ينسيني واجب النقد الأدبي، وهذا الواجب يدعوني إلى النص على أن شوقي أسرف في وصف مقبرة توت عنخ آمون، فقد ذكر لها خصائص غير حقيقية،

ص: 13

خصائص لم ترها عيناي حين زرتها قبل عشرين عاماً، ولعل شوقي لم يرها بعينه قبل نظم هذا القصيد، وإنما تمثل ما رآه في بعض المقابر الفرعونية فقال ما قال بلا تحفظ ولا احتراس

ثورة الجيل

في هذه النونية تحدث شوقي عن عصر توت عنخ آمون وعده عهد (الفرد اللعين) ليجوز له في قصيدة ثانية أن يقول إن الدستور جعل عصره دون عصر (فؤاد)

والقصيدة الثانية تحفة أدبية تخيل فيها الشاعر أن توت عنخ آمون:

سافرَ أربعينَ قرناً وعدَّها

حتى أتى الدار فألفَي عندها

إنجلترا وجيشها ولُرْدها

مسلولة الهنديِّ تحمي هندها

قامت على السودان تحمي سدَّها

وركزت دون (القناة) بَندها

فقال والحسرةُ ما أشدَّها

ليت جدار القبر ما تدهدها

وليت عيني لم تفارق رَقْدها

قم نَبِّنِي يا بَنْتَئورُ ما دها

مصرُ فتاتي لم تُوقِّر جدها

دقت وراء مضجعي جزْبندها

وخلطتْ ظباءها وأُسدها

وسكب الساقي الطلا وبَدَّها

قد سحبتْ على جلالي بُردها

ليت جلال الموت كان صدها

وهذا شعر يفسده الشرح، وهو أيضاً شعر لا يقوله غير شوقي إمام الصياغة الشعرية، وأصدق من تغنى بأمجاد النيل وفي هذه القصيدة نص شوقي على أن:

مصر الفتاة بلغت أشدَّها

وأثبت الدم الزكيُّ رُشدها

فأرسلت دهاتها ولُدَّها

في الغرب سدوا عنده مسدَّها

وبعثتْ للبرلمان جندها

وحشدتْ للمهرجان حشدها

ثم أشار إلى معارضة المستر كارتر في زيارة المقبرة فقال يخاطب الفرعون:

لحدك ودَّتْه النجوم لحدها

أريتنا الدنيا به وجدها

سلطانَها وعزها ورغدها

وكيف يُعطَى المتقون خُلدها

أبوابك اللائى قصدنا قصدها

كارترُ في وجه الوفود ردَّها

لولا جهودٌ لا نريد جحدها

وحُرمةٌ من قربك استمدَّها

ص: 14

قلتُ لك اضربْ يده وقُدَّها

وابعث له من البعوض نُكدها

والقارئ يفهم إنه يشير إلى البعوض الذي صرع اللورد كارنارفون، وهو بعوض ظالم، فقد حدثنا شوقي في البائية أن اللورد كارنارفون أهدى إلى توت عنخ آمون هدية أعظم من الهرمين، لأنه عرف به أمماً لم يعرفها عصر الفراعين. ألم تكتب فيه عشرات البحوث في بلاد الأمريكان؟

خلاصة البحث

قد فرغت من الكلام عن عيون الجزء الثاني من الشوقيات في الحدود التي يسمح بها الوقت، وإني لواثق بأن هذه الإشارات تكفي لهداية المتسابقين إلى اجتياز الامتحان بأمان

ولكن الواجب يحتم عليّ أن أشير على الطلبة بأن يسألوا أساتذتهم عما فاتني النص عليه، فقد يكون في أساتذتهم من هو أعرف بسرائر الشوقيات

وقد سكت عن سينية شوقي في معارضة سينية البحتري، لأني تحدثت عنها بإطناب في كتاب (الموازنة بين الشعراء) وأنا أكره الحديث المعاد

أما بعد خلاصة هذا البحث؟

هو إشارات ورموز لا ينتفع بها غير من يقرأ الشوقيات بإمعان. والنقد الأدبي توجيه لا تلخيص. والله وليّ التوفيق

زكي مبارك

ص: 15

‌مرسلات مع الريح

نعش وباب

للأستاذ إسماعيل مظهر

نحو الشمال. . . وسرنا في ليل معتم، والمطر ينهمر كأن السماء تحاول أن تدك بمائها الغمر ذلك الأديم الذي تنزلق من فوقه حوافر الجياد

مال ميزان النهار، واكتهل اليوم الخامس عشر من شهر يناير سنة 1931، قبل أن ندلف بجيادنا في قفر سبسبٍ في شمال الدقهلية وقصدنا بلدة يقال لها (غرور). وكان ثلاثتنا في صمت محزن، فلا ينبس أحدنا ببنت شفة. وكنا في حالة ترقب بعد أن انحدرت الشمس نحو المغيب، وأرسلت من خلال فجوة في السحب الدهم، غلالة حمراء من غلائلها التي تتيه بها في أشهر الشتاء

وهبّ ريح لافح تضرب وجوهنا بألسنة من الزمهرير، وتعصف بشجيرات من الطرفاء هنالك، فتسمع لها نواحاً أشبه بأنين البوم يتداعى ويتجاوب

وقد تراكب في السماء سحاب من فوقه سحاب، وانحدرت نحونا سحابة كأنها المداد، فخيل إليّ أنها قضاء الله في الظالمين، ينحدر إلينا متثاقلاً وفي تمهل العالم بأنه لابد من أن يصيب حيث يرمي. ولم تلبث أن رمتنا بذلك السيل المنهمر

مدت الجياد أعناقها نحو الأرض لتتقي بذلك انهمار المطر، وراحت تمشي حذرة متلكئة. فالأرض سبخة والطريق وعر، وقد استحال آلافاً من البرك الصغيرة، في كل منها منزلق، وفي كل منها مهواة؛ حتى لقد تذكرت في تلك الآونة جنة ذلك الرجل الذي كفر بربه، فأصبحت صعيداً زلقاً

وأين نحن من (غرور)؟ إنا منها على عشرة فراسخ، في ليل ممطر شديد السواد، قارس البرد، قر الرياح. وقد ابتلت ثيابنا وأخذ الماء يسري فيها، كما تسري الخمر في أعصاب المنتشين، حتى إذا بلغ جلودنا مضينا ننتفض ملتزمين ذلك الصمت الرهيب

ذلك القفر السبسب ملك لحكومتنا. وقد تبلغ مساحته آلافاً وآلافاً من الأفدنة، لا يؤنسه غير نبات البردي بنيت حيث تجتمع المياه، ونبات الطرفاء يحتل نبكاته المرتفعة، متشبثاً بها وكأن كل نبتة منه غريق في لج مائج

ص: 16

وكنت أعرف أن في جوف ذلك القفر مقاماً لولي من أولياء الله، شاده هنالك جماعة من مريديه، وأقاموا إلى جانبه مسجداً، فأخذت تتناثر من حوله القبور: قبور أولئك الذين يوصون بأن يدفنوا بمقربة من ولي الله زلفى إلى الآخرة. وكنت أعلم أن لذلك المسجد حارساً يضيء فيه، إذا جن الليل، مصباحاً يهتدي به في ذلك القفر من تدهمهم مثل تلك الليلة الليلاء

رميت بصري في جوانب ذلك القفر، وقد ضللنا طريقنا، وأخذت الجياد تضرب بنا في نواحيه ضرب المتخبط المذهول، أتطلع لعلي أقع على شعاع ذلك الولي الكريم. وأنّا للبصر أن يهتدي في تلك الظلمات الهابطة علينا كسفاً؟

ولكن الصمت الذي لزمناه قد انتهى أجله؛ فقد تحرك لسان كبيرنا بكلمات وسمعته يقول إنه يرى ومض مصباح إلى الشمال منا. إذن فألي الشمال

وانتحينا بجيادنا نحو الشمال، وحثثناها على المسير. ولكن أين الوميض؟ لقد أخفناه الليل أو عصف به عاصف من الريح. وخيل إلي أن ذلك الوميض الذي لاح لكبيرنا ليس إلا سراب الليل، أو إنه الوهم ضخمه الأمل في النجاة من الليل والماء والرياح. وثبت نظري نحو الشمال وحدقت تحديقاً تراءت معه لناظري أشباح غريبة، وطيوف تبدو وتخبو كأنها في صراع، وشعرت أني أميل وأترنح من فوق جوادي، وأن يداً خفية تأخذ بأطراف معطفي وتجذبني إلى الوراء، فأعتدل في سرجي وأتثبت من ركابي لأستوثق من محلي، وأني على ظهر الجواد، وما زلت مالكا حواسي. غير أن كل هذه الخيالات قد تبددت فجأة لما أن وقع بصري على لمع ذلك القبس الخافت المريض الذي تراءى لصاحبي من قبل، ثم اختفى في جوف ذلك البحر اللجي من الليل ومن الماء ومن الرياح. وكنا كلما ضربت بنا الجياد في جوف ذلك القفر الأملس المجرود، توالت ومضات ذلك القبس الذي علقنا عليه الأمل، وربطنا حياتنا بتراوحه بين الظهور والخفاء. حتى إذا كنا بمقربة منه عرفنا إنه مصباح وليّ الله يتلاعب به الريح العاصف فيتنوح رواحاً وجيئة، وقد علا جوانبه سواد كاد يخفي عن الأبصار ومضاته الضئيلة.

بلغنا عتبة المسجد القائم هنالك في فجوة من فجوات ذلك القضاء المترامي وحيداً كأنه الأمل الباسم العريض في وحشة الفراق. وكنت أول الواثبين إلى الباب أعالج اقتحامه إلى

ص: 17

الصحن فإذا بالباب مغلق، ومن دونه دريئة هي نعش من خشب يحمل الموتى إلى أول السفر وآخر المعاد.

جمدت هنالك ذا هلاً عن جوادي وعن صاحبي أتأمل النعش ومن ورائه الباب. فكل من يحمل في ذلك النعش، لابد له من إنه يجتاز ذلك الباب. فإذا جاوزه، فإلى سفر الأبد المديد.

الباب والنعش. ثم صلاة تقام تكفيراً واستغفاراً، فإذا دلف به الدالفون نحو الحفرة العميقة، فقد دلفوا به ليسلموه إلى الآخرة، ثم فلسفة في شعر:

تطوِّف ما نُطوِّف ثم نأوي

ذوو الأموال منَّا والعديم

إلى حفر أَسافلُهنَّ جرف

وأعلاهن سفاح مُقيم

ثم تأملات رهين المحبسين:

سأفعل خيراً ما استطعت فلا تقم

عليَّ صلاة يوم أصبح هالكاً

فما فيكم من خَيِّر يُدّعى به

يُفرِّج عني بالمضيق المسالكا

ومن ذا الذي أستنجد به هنالك ليفرح عني في ذلك المسلك الرهيب: النعش ومن ورائه الباب. ليس ثمة من شيء غير عزيمتي. وأنا حي بيني وبين النعش والباب شقة، بعدها بعد الشرق من الغرب:

والشرق نحو الغرب أقرب شقة

من بُعد تلك الخمسة الأشبار

فأزحت النعش جانباً، واقتحمت الباب، فإذا الظلام مخيم على صحن المسجد والرياح حيرى في جوانبه، تنهد منحدرة من منافذه العليا، فتدور متلوية، ثم تندفع نحو الباب، كأنها أسير أفلت من قيود الحديد:

تمشي الرياح به حْيرى مدلَّهة

حسرَى تلوذ بأكناف الجلاميد

خلعت معطفي وألقيت به جانباً، وجلست مسنداً ظهري إلى الجدار البارد المقرور، وما لبث كبيرنا أن انتحى موضعاً آخر، ثم التفت إليَّ وقال:

(إذا بزغت الشمس يممنا نحو (غرور)، فقابلنا عمدتها ووجهاءها، واستوثقنا من أنهم سوف يعضدوننا، ثم انحدرنا نحو (زفر) فنأخذ على أهلها المواثيق ونقيدهم بالعهود ثم. . .)

غير إنه لزم الصمت إذ بادرته بسؤال لم يكن يتوقعه من فتى ينتمي إليه بروابط الرحم: فصرخ مهتاجاً:

ص: 18

(ألم تر كيف صار فلان عضواً بمجلس النواب، وفلان عضواً بمجلس الشيوخ، وفلان وكيل وزارة، وليس منهم من يدانينا جاهاً وثروة. إنك ما تزال جاهلاً بأمور دنياك فاسكت وأطع)

قلت نعم إني أصغر منك سناً، وربما كنت أقل تجربة، ولكني سأصارحك برأيي فيمن ينبغي أن تكون لهم هذه المراكز العليا: هي يا سيدي لمن يقال له هي لك، لا لمن يقول هي لي. هذه هي الحقيقة برغم القوانين، وبرغم الشرائع. . .

ثم لزمت الصمت ولزمه. حتى إذا تنفس الصبح وبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، عمدت إلى معطفي المبلل فوضعته فوق كتفي، وهممت بالخروج من المسجد، فنظر إلي صاحبي نظرة تساؤل فلم آبه به، ولم أحفل بما نمت عنه نظراته، بل ألقيت على الباب نظرة وعلى النعش أخرى، وكأنما يحدثهما قلبي هاجساً: عندكما يقف كل مغرور بدنياه

وامتطيت جوادي. وأدرت وجهه نحو الجنوب، ومضيت أضرب في ذلك القفر، ولكن إلى عشي، إلى زوجي وأولادي؛ إلى موضع حبي وحنيني. إلى من هم لعيني النور، ولقلبي الرجاء، ولحياتي الأمل، ولنفسي الطمأنينة. إلى وكري الصغير الذي أصبح لي في جنبات هذه الدنيا الصماء الغرور، بمثابة البيضة والعش، والسكن والوطن والكون

إسماعيل مظهر

ص: 19

‌من أطرف ما قرأت

ميليزاند الأميرة

للأستاذ صلاح الدين المنجد

تمثلتها في قصرها الضاحك، فوق صخور الشاطئ، رافعة يدها تومئ (أن هلموا إلي. . . أنا ميليزاند، أنا الأميرة الحسناء)

إنها أسطورة ملؤها الخيال والجمال، والمغامرة والشعر إنها حلم زاهٍ رفاف، ومعنى بعيد بعيد

في بلدة هادئة من (بلاي) كان (روديل) الفتى الجميل، ذو الجسم القوي، والوجه الصبيح، يرسل أشعاره الملأى بالشجو والحب والأنين. لقد كان يحب ميليزاند الحلوة كالصبح، المشرقة كالنور، الرفافة كالورد. فكان يتمثلها في خاطره، ويداعبها في خياله، ولا يستطيع أن يراها. ما أبعدها عنه. . . هي في الشرق المسحور القاصي، وهو في (بلاي)

ولم يطق صبراً عنها، فقد كانت نفسه ناعمة يهزها كل شيء ويؤثر فيها كل شيء. كانت كالقيثارة تمر عليها النسمة الخفيفة، فتترك وراءها نغمة مطربة أو هزجة ناعمة

وكان يرسل أشعاره في هدأة الليل، تحت القمر. وكان يحب تغريد العصافير، فإذا صمتت ذكرته حبه البعيد. يقول:

(عندما تطول أيام مايو، تلذ لي أغرودات العصافير. فإذا صمتت هاجت في قلبي ذكرى حب بعيد. فأعود مفكراً مطرقاً، فلا أناشيد الرفاق تفرح القلب الحزين، ولا رفيف الزهر يبهج النفس الكلوم

(أي فرح سيشرق في نفسي عندما أراها وأطلب أن تضيفني سأسألها الضيافة، بالله، وبالغربة. وعندئذ، يا ما ألذ أحاديث العاشق البعيد، بقرب الأميرة البعيدة. وهو ينعم بصفاء عينيها الحلوتين)

(ثم. . . ثم أتركها، وا حسرتاه، حزنان أو فرحان، راضياً أو كارهاً، فلا أراها أبداً

(لن أنعم بالحب إن لم أنعم بها، لأني ما رأيت سيدة أنبل ولا أحسن منها. . . آه، يا ليتني كنت عبداً لها

(اللهم يا من خلقت كل شيء. . . كل ما يموت ويحيا، صل أسبابي بأسبابها، في أي مكان

ص: 20

شئت)

تلك كانت أغانيه. إن فيها حنينا ولوعة، كأنها نغمات من نغمات مالارميه أو فيرلين

وما زال (روديل) يسعى حتى سافر مع أهل الصليب. وقطع طريقه يغني، ويمني نفسه بحلاوة اللقاء. وما كادت الباخرة تقرب من طرابلس حتى فاض سروره وزاد وجده. لقد كاد يرى ميليزاند وهاهو ذا قصرها ينادي الناس. فيغلب عليه الوجد، ويطغى عليه الفرح؛ فيعل ويمرض، ويحمل إلى المدينة، ويوضع في كوخ حقير، وهو يلفظ أنفاسه

وأسرعوا إلى الأميرة الحسناء فحدثوها عنه (لقد كان يغني مع الموج أغنيات حبه، وكان ما يفتأ يلهج باسمك ويسبح بجمالك. . .) فخفت إليه. ولما اقتربت منه، وأسندت إلى صدرها رأسه، دبت في جسمه الحياة ففتح عينيه، وأرهف أذنيه، وتدفق الدم في خديه، وجلس يسمعها أشعاره، ويؤنسها بأغانيه فتطرب ميليزاند، وتنحني فتيل بثغرها الريان فمه وشفتيه

وعجب الناس من الأميرة كيف تحيي الموتى، وعجبوا من العاشق الميت كيف يحيا. . .؟

وما أشبه ميليزاند، بمحبوبة الأعشى التي قال فيها:

لو أسندت ميتاً إلى صدرها

عاشَ ولم يُنقلْ إلى قابر

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجباً للميت الناشر

وأخذ (روديل) يحدثها عن تهيامه وتحنانه، وأخذت تطرفه بأعذب الأحاديث، حتى إذا قص عليها كل شيء وأسمعها كل شيء، عاد، فأغمض عينيه. . . ومات

وأعجب الناس بروديل، وجعلوا حبه أسطورة. فرنت في أوربة ودوت؛ وهام الناس بالشرق. وجعلوا الأميرة ميليزاند رمزا. . . وصوروها واقفة على شاطئ البحر، بين يدي الأمواج تنادي الأمراء، وتنادي الملوك، وتنادي الناس (تعالوا وانظروا إلى الأميرة البعيدة. . . تعالوا إلى البلاد المقدسة)

صلاح الدين المنجد

3 -

خزانة الرؤوس

في دار الخلافة العباسية ببغداد

للأستاذ ميخائيل عواد

ص: 21

(ز) رأس بدر مولى المعتضد:

كان سبب قتله على ما أجمعت عليه الروايات، أن الوزير (القاسم بن عبيد الله كان همّ بتصيير الخلافة من بعد المعتضد في غير ولد المعتضد، وأنه كان ناظر بدراً في ذلك، فامتنع بدر عليه قوال: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي الذي ولى نعمتي. فلما رأى القاسم ذلك وعلم إنه لا سبيل إلى مخالفة بدر؛ إذ كان بدل صاحب جيش المعتضد والمستولي على أمره والمطاع في خدمه وغلمانه، اضطغنها على بدر. وحدث بالمعتضد حدث الموت وبدر بفارس، فعقد للمكتفي عقد الخلافة وبايع له وهو بالرقة لما كان بين المكتفي وبين بدر من التباعد في حياة والده. . . فقدم بغداد المكتفي وبدر بفارس؛ فلما قدمها عمل القاسم في هلاك بدر. . .)

قال المسعودي: (. . . فلما امتنع عليه أحضر أبا عمر محمد ابن يوسف القاضي فأرسل به إلى بدر في شذاه (قلنا: الشذاء والشذاة والشذاوة؛ تجمع على الشذاءات والشذوات: ضرب من السفن النهرية الصغيرة في العصر العباسي) فأعطاه الأمان والعهود والمواثيق عن المكتفي، وضمن له إنه لا يسلمه عن يده إلا عن رؤية أمير المؤمنين؛ فخلى عسكره وجلس معه في الشذاء مصعدين، فلما انتهوا إلى ناحية المدائن والسيب تلقاه جماعة من الخدم، فأحاطوا بالشذاء، وتنحى أبو عمر إلى طيار فركب فيه، وقرب بدر إلى الشط وسألهم أن يصلي ركعتين وذلك في يوم الجمعة لست خلون من (شهر) رمضان سنة تسع وثمانين ومائتين وقت الزوال من ذلك اليوم؛ فأمهلوه للصلاة. فلما كان في الركعة الثانية قطعت عنقه وأخذ رأسه فحمل إلى المكتفي. فلما وضع الرأس بين يدي المكتفي سجد وقال: الآن ذقت طعم الحياة ولذة الخلافة. . .)

وزاد الطبري على ذلك قوله: (. . . وورد الخبر على المكتفي بما كان من قتل بدر. . . فرحل منصرفاً إلى مدينة السلام، ورحل معه من كان معه من الجند، وجيء برأس بدر إليه؛ فوصل إليه قبل ارتحاله من موضع معسكره، فأمر به فنظف ورفع في الخزانة)

(ح) رأس الوزير الحسين بن القاسم بن عبيد الابن سليمان ابن

وهب. بن أبي علي بن مقلد

ص: 22

قصة هذين الوزيرين إحدى عبر الدهر. قال ابن الطقطقي في الحسين بن القاسم إنه (لم يكن بارعاً في صناعته، ولا شكرت سيرته في وزارته، ولم تطل له المدة حتى عجز واختلت الأحوال عليه. . .، ولما ظهر للمقتدر نقصه وعجزه؛ قبض عليه وصادره، ثم بقى إلى أيام الراضي وأبعد عن العراق. فلما تولى ابن مقلة الوزارة؛ تقدم بقتله؛ وأرسل إليه من قطع رأسه، وحمل رأسه إلى دار الخلافة في سفط، فجعل السفط في الخزانة، وكانت لهم عادة بمثل ذلك. فحدث إنه لما وقعت الفتنة ببغداد في أيام المتقي؛ أخرج من الخزانة سفط فيه يد مقطوعة ورأس مقطوع؛ وعلى اليد رقعة ملصقة عليها مكتوب؛ هذه اليد يد أبي علي بن مقلة، وهذا الرأس راس الحسين بن القاسم، وهذه اليد هي التي وقعت بقطع هذا الرأس. فعجب الناس من ذلك)

2 -

حمل الرءوس إلى بغداد

كان حمل رءوس العصاة، والخارجين على الدولة، والفارين من وجه العدالة، ومن جرى مجراهم؛ إلى دار الخلافة العباسية ببغداد، أصدق شاهد على الفوز والانتصار، وكان هذا الأمر من الرسوم الجارية في تلك الأيام، فكانت بغداد تستقبل هذه الرؤوس بين حين واخر، فتدخلها مشهرة، ثم يؤتى بها فتوضع بين يدي الخليفة ليشاهدها هو ورجال دولته، وفي ذلك أمر يبتغيه الخليفة. ثم إنها تنصب على المواطن البارزة من البلد كالجسور، وأبواب دار الخلافة؛ ليشاهدها كافة الناس فيعتبرون بها ومن ثمة تستقر في خزانة الرءوس.

(ا) رأس خارجي ظهر ببلاد الحبشة

كان رأس هذا الخارجي من أوائل الرءوس التي حملت إلى بغداد، فقد ذكر المقريزي أن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب ابن أبي صفرة حج (في سنة سبع وأربعين (ومائة)، واستخلف عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج صاحب شرطته، وبعث جيشاً لغزو الحبشة من أجل خارجي ظهر هناك؛ فظفر به الجيش وقدم رأسه في عدة رءوس فحملت إلى بغداد. . .)

(ب) رأس أبي الليث الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف

انفرد أبو الليث بذبح نفسه بيده، دون قصد أو تعمد. فقد جاء في جملة حوادث سنة

ص: 23

284هـ أن فيها (ورد الخبر بقتل أبي الليث الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف بسيفه لنفسه في الحرب، وذلك أن سيفه كان على عاتقه مشهراً فكبا به فرسه فذبحه سيفه، فأخذ عيسى النوشري رأسه وأنفذه إلى بغداد)

(يتبع)

ميخائيل عواد

ص: 24

‌الكرملي في قبضة الحق

للأستاذ سعيد الأفغاني

1 -

كان الأب أنستاس ماري الكرملي قد تعرض لتصحيح بعض الخطأ في كتاب الإمتاع والمؤانسة الذي صححه الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين ولم يشركا الأب في التصحيح ولا الربح. وكان في جملة ما خطأ: قول القائل: (ويجعلها (أي الأحجار) ملساء) فقال حضرته مصححاً: (والصواب ملساً بضم الميم. . . الخ) فصححناً له فهمه في العدد (479)(من (الرسالة)، وكان قد استند إلى كلام لسيبويه فأوضحنا له - برفق وعطف - أن كلام سيبويه ليس فيه ما زعم حضرته. ثم شرحنا له القاعدة العامة (التي اعترف بصحتها واطرادها) في العدد (486) من هذه المجلة. وقلنا له:(إن نعت جمع التكسير يكون بالمفرد والمؤنث وبالجمع على السواء، فلك أن تقول: أشهر محرمة وأشهر محرمات، و (أياماً معدودة) و (أياماً معدودات) كما في القرآن الكريم وغيره، فما الذي يفرد صيغة واحدة بين جميع صيغ النعت بحكم خاص؟ هذا ما يحوج الأب الإبراه عليه. أما استقراؤه الشخصي وطلبه من مخالفه الإتيان بشاهد فلا يردان حجة، لأن المقيس لا يلزم له شاهد)

فلما ألجأه الحق إلى أضيق من جحر الضب، انبرى يرد علينا وعلى غيرنا ممن صححوا له تهافته في ثلاث مقالات طوال، نسي فيها الموضوع والزمان، وخلت من شيء واحد هو المطلوب كله وهو مدار البحث وحده، فلم يأتنا بالنص المطلوب ولن يأتينا به ولو دخل بعضه في بعض غيظاً وكداً

فعلى هذا يبقى قولهم: (صخور ملساء وكريات بيضاء) مما لا يجوز لصحيح الفهم أن يخطئه. وإن مما يعلمه بالضرورة من له أدنى إلمام بلغة العرب أن الموافق للقاعدة المطردة غير محتاج إلى شاهد وكل جائز له شاهد مدون

2 -

وقال حضرته: (ومن الأغلاط الشائعة في مصر وتستحق أن يشار إليها إشارة خصوصية (كذا) ما يأتي: ص23 س18 أصواب هو أم خطأ. . . أم خطاء وزان سحاب لضد الصواب على ما في كتب اللغة) أهـ

وهذا زعم غير صحيح؛ وقد نقلت له من الكتب نصوصاً لقفت كل ما أفك، وأفهمته أن الخطأ هنا هو الأفصح والأشهر. والغريب المضحك حقا أن يحتج الأب بما هو حجة عليه

ص: 25

واضحة وهو الكلام الذي نشرته الرسالة لأبي هلال العسكري وفيه (أن الخطأ هو أن تقصد الشيء فتصيب غيره. . . والخطاء تعمد الخطأ). وبعد أن عاب هذا الأب سيبويه والخليل. . . أنكر علينا احتجاجنا بمؤلف الصحاح، وذكر أن العسكري أعلى منه مقاماً!! فيا أيها الأب إن الجوهري والعسكري متفقان ولكنك لم تدرك لا كلام الجوهري ولا كلام العسكري. والبلاء الأكبر في أن يأتي متحذلق في آخر الزمان يوازن بين إمامين ثم لا يستطيع أن يفهم كلامهما

أما بعد أيها الأب أنستاس ماري الكرملي، إن فيما نسبت قوله إلى ما هو كذب وافتراء. فأنا لم أقل: سيبويه غير موثوق به. ولم أقل: نص جمع التكسير، إنما قلت: نعت جمع التكسير. ولم أقل. . . ولم أقل. . . مما يمل بيانه للقارئ

فإذا كان هذا شأنك مع حي يملك أن يدفع عن نفسه، فكيف نثق بما ننقل عن أولئك الأئمة المساكين الناعمين في عالم الخلود؟

وأدهى من ذلك أنك كنت ادعيت إنه لا يقال خطأ بل خطاء وامتلأت زهواً إذ زعمت أن هذا غلط شائع في مصر، فلما بينا لك أنك أنت المخطئ، تواريت خجلا ثم انبريت تدعي إنما أردت أن خطاء أحسن من خطأ موازنة لصواب؛ بين كلمتك الأولى المنشورة في العدد (475) من الرسالة، والثانية المنشورة في العدد (487) مدى قليل جداً، فما أسرع ما يفضح الباطل والادعاء الأجوف صاحبهما! وأمر آخر: متى عهدك، عافاك الله، بالذوق الموسيقي؟ أحين احتشدت فلم تجد أحلى وقعاً من (ليس المزكزك بأنيئهن) فإن يكن لك - وأنت عجوز - عذر من هرمك ومرض أذنك فاعلم أن الله لم يخلق رجلاً صحيح الذوق سليم الأذن يستسيغ (الخطاء والصواب) أكثر من (الخطأ والصواب)، ورحم الله امرأ صيرك - وأنت تريد الكلام في اللغة - إلى الجرس والموسيقى

ولست أوفى (الرسالة) ما يجب لها من شكري وشكر العلم والأدب على نشرها مقالاتك كما هي: فقد رأيتك يا سيدي تدعي - بعد كلامك في الموسيقى - أن نسبك ينتهي إلى بني مراد!! (تشرفنا)؛ ولقد تواضعت جداً إذ لم تنتسب في بني هاشم وأنت تشعر في صميمك شعوراً غالباً عليك بالحاجة الماسة إلى نسب ما بعد هذا التخبط

أتسمح لي بطلب متواضع جداً؟ إنك ستفعل مشكوراً

ص: 26

1 -

كن أمينا فيما تنقل عن الأحياء والأموات

2 -

احتط فيما تكتب في اللغة العربية، فإن عارفيها كثيرون، وليست كذلك السريانية والآشورية. فلك في هؤلاء الأخريات ميدان تصول فيه وحدك

3 -

إن أبيت إلا الخوض فاسلك من المسائل ما كان (آليا) بحتا وتجنب ما يحتاج إلى ذوق وعلم وحسن فهم، وإلا وقعت في مثل ما وقعت فيه حين زعمت أن قولك: لا يقال كريات بيضاء مستنداً إلى قول سيبويه

4 -

إنك لا تستطيع فقد كلام حتى تفهمه، ولن تفهمه حتى تحسن قراءته، ولن تحسن قراءته حتى تتخلق بأخلاق المتعلمين

5 -

لقد غبر زمان - لا رده الله - كانت الشهرة فيه عن طريق الدعوى والتحرش بمن لا يبلغ المتحرش أن يكون أصغر تلاميذهم، وأصبح يقاس فضل المرء بقوة حجته وحسن خلقه لا بسلاطته وتلبيسه. هذا وللب المفضال أنستاس ماري الكرملي جزيل احترامي.

(دمشق)

سعيد الأفغاني

ص: 27

‌45 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق

قد تعتمد المرأة أحياناً على الظروف المخففة أو على معونة أصدقاء أقوياء، لتنجو من عقوبة الإعدام إذا ضبطت في معاشرة أثيمة. وذلك كالحادث التالي: زوج الباشا إحدى جواريه من نخاس غني كان الباشا قد اشترى منه كثيراً من مماليكه وجواريه. ولم يكن الرجل يخون زوجه فحسب بل كان يهملها تماماً. فصاحبت تاجراً كانت تعامله صحبة غير لائقة. وجدث ذات يوم في غيبة الزوج أن رأى أحد عبيده السود رجلا في شباك الحريم. فذهب توا إلى غرفة الزوجة ليبحث عن الرجل. وسمعته الزوجة قادماً فأدخلت عشيقها في غرفة ملحقة وأغلقتها عليه. ففتح العبد الباب عنوة. فهجم عليه الرجل بخنجر كان يحمله في حزامه، ولكن العبد قبض على النصل بيده. وعاقته الزوجة حتى هرب عشيقها ثم قبلت يده وتوسلت إليه ألا يخبر زوجها فيسبب قتلها. غير أنها وجدته صلباً لا يلين. وذهب العبد في الحال إلى سيده وأراه يده الدامية وأخبره بالحادث. وهربت المرأة في أثناء ذلك تنشد الحماية في حريم الباشا. وطلب من الباشا أن يرد زوجته عليه ليقتلها. فاستدعاها الباشا وسألها عن جريمتها فرمت بنفسها عند قدميه وقبلت طرف ثوبه وأخبرته بسوء أخلاق زوجها وإهماله الشديد لها. فبصق الباشا في وجه النخاس لأنه اعتبر أن سلوكه إهانة له. وأعاد الزوجة إلى حريمه. ولم يعش عشيقها طويلاً بعد ذلك فقد خنق في منزل بعض البغايا ولم تعاقب البغي لعدم ثبوت التهمة عليها

يؤخذ على المصريين والمسلمين عامة القسوة الشديدة في معاملة النساء. حقاً إنهم لا يعتبرون استشارة الفتاة القاصر قبل زواجها ضرورياً. ولكن الغالب أن الرجل في الطبقتين

ص: 28

الوسطى والعليا يكاد يختار زوجه على السماع دون أن يراها، إذ لا حيلة له رؤيتها قبل أن يعقد العقد وتنقل إلى منزله. فيستحيل لذلك أن يكون هناك محبة متبادلة قبل الزواج. والحقيقة أن الجنسين معاً تثقل عليهما القوانين والعادات الجائرة، ولكنهما من حسن الحظ يعتبران هذه القيود ملائمة مشرفة. وقد يشعران بالعار في التخلص من هذه العادات. وقد لاحظت أن الحجاب الواقع على النساء يكون باختيارهن إلى حد كبير. وأعتقد إنه أقل صرامة في مصر منه في أي بلد آخر من بلاد الدولة العثمانية. ومن المؤكد إن هذا الحجاب اقل جداً مما صوره لي الكثيرون. وينظر النساء إلى هذا الاحتجاب بفخر من حيث إنه يدل على عناية الزوج بهن. كما أنهن يقدرن أنفسهن بقدر حجبهن كالكنوز ولا يليق في المجتمعات الطيبة أن يستفسر المرء بطريقة مباشرة عن حال زوجة الصديق أو امرأة ما في منزله إلا إذا كانت قريبة له. وسأل أحد معارفي المصريين آخر كان في باريس عن أغرب الأشياء التي رآها في بلاد الكفار فأجابه الآخر: إن كل ما شاهده حري أن يثير إعجاب العاقل البعيد عن التعصيب ولم أر شيئاً يستحق الاعتبار مثل هذه الحال: فقد جرت العادة في باريس وغيرها من مدن فرنسا أن يدعو كل من الأغنياء والعظماء أصدقاءهم ومعارفهم رجالا ونساء معاً إلى حفل في منزله. ويستقبل الضيوف في غرف تضاء بعدة شموع وقناديل. وهناك يختلط الرجال بالنساء، وأولئك كما تعلم سافرات. ويستطيع الرجل أن يجالس زوجة رجل آخر وهو لم يرها من قبل. ويستطيع أن يسايرها ويحادثها ويراقصها أيضاً في حضور زوجها الذي لا يغضب ولا يغير لمثل هذا السلوك المخزي)

يشتهر المصريون أيضاً بكرمهم وجشعهم على السواء. وإن اجتماع مثل هاتين الصفتين المتناقضتين في ضمير واحد قلما يدهش. ولكن هذا هو الحال مع هذا الشعب. ويعتبر الغش والمكر في التجارة، وذلك في جميع الشعوب، إحدى نقائص المصريين الذائعة. وقلما يتردد المصري في مثل هذه الأحوال عن الكذب ليكسب. ويميل الشعب الذي يئن تحت نير الجور والجشع، الذي امتازت به حكومات مصر طويلا، إلى الشح دائماً. لأن المرء بالطبع يتمسك بما هو أكثر عرضة للضياع. ولذلك يعمد المصري المضيم إذا ملك مبلغاً من المال لا يلزمه حالا إلى شراء مصاغ لامرأته أو لنسائه، إذ يسهل عليه تحويل المصاغ ثانية إلى

ص: 29

نقود. ومن ثم أيضاً جرت العادة في هذا البلد، وفي أكثر البلدان التي تخضع لهذه الظروف السياسية، أن يخبئ الرجل أمواله في منزله تحت البلاط أو في أي موضع آخر. ولما كان الكثيرون من هؤلاء يموتون فجأة دون أن يطلعوا أسرهم على مكان المخبأ فإن من المألوف أن تكتشف نقود عند هدم المنازل. وهناك رذيلة تقرب من الجشع وهي الحسد. وأعتقد أنها تكثر بين المصريين المحدثين والشعوب العربية بأجمعها على السواء. ويعترف الكثيرون مدفوعين بسلامة النية أن هذا الميل الكريه يكاد يتركز في أذهان شعوبهم تماماً.

والمصريون أمناء في الوفاء بديونهم. وقد بين الرسول صلعم أن لا شيء حتى الاستشهاد، يكفر عن دين لم يوف. وقل من المصريين من يقبل فائدة على قرض أقرضه إذ أن الشرع يشتد في تحريم ذلك.

إن دوام الصدق فضيلة نادرة للغاية في مصر الحديثة. وقد ترخص الرسول في الكذب إذا وفق بين الناس في منازعة أو أرضى زوجة أو أفاد في حرب على أعداء الدين. غير أن الكذب في أحوال أخرى محظور بشدة. ويبرر ذلك بعض التبرير عادة الكذب السائدة بين العرب المحدثين إذ أن السماح لشعب بالكذب في أحوال يعوده بالتدريج الكذب في غيرها. ومع أن أكثر المصريين يكذبون عمداً فقلما تسمعهم يرجعون عن تحريف غير مقصود دون أن يقولوا: (لا. أستغفر الله إنه كذا وكذا) كما يقولون عندما يقررون شيئاً لا يتأكدون منه تماماً: الله أعلم

ويمكنني أن أذكر هنا، وأنا أشعر بالفخر، الحادث التالي: كان في القاهرة صائغ أرمني اشتهر بالصدق إلى درجة أن عملاؤه قرروا تسميته اسماً يدل على تمتعه بفضيلة قلما توجد فيهم، فلقبوه بالإنجليزي وصار من بعد ذلك لقباً لعائلته. والمعتاد أن تسمع التجار هنا يقولون عندما يطلبون ثمناً لا ينوون إنقاصه: كلمة واحدة. (كلمة الإنجليز). وكثيراً ما يقولون أيضاً في هذا المعنى: كلمة (الإفرنج). ولكني لم أسمع أبدا بأمة كرمت هذا التكريم غير الإنجليز والمغاربة. وقد اشتهر هؤلاء دون أغلب العرب الآخرين بالصدق في القول

أشرت سابقاً إلى عادة القسم بالله السائدة بين المصريين. وينبغي أن أضيف هنا أن الكثيرين منهم لا يترددون عن القسم ليدرءوا عن أنفسهم تهمة الكذب. وقد يقولون في هذه الحالة أحياناً. والله (بكسر الهاء) أو عادة: والله. كأنهم يزعمون أن الصيغة الأخيرة يجوز

ص: 30

استعمالها في الدعاء. أما (والله (بالكسر) فهو قسم صريح والنطق به كذباً، إثم كبير. ويكفر عن هذه اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام. على أن هذه الكفارة رخص القرآن بها لقسم طائش فقط. ولكن المصريين المحدثين يراعونها أحياناً ليحرروا أنفسهم من وزر قسم كاذب مقصود. ويفضلون الصوم على الكفارات الأخرى. وهناك أيمان أعتقد أن بعض المسلمين لا يترددون في القسم بها كذباً مثل قولهم ثلاثاً:(والله العظيم) أو القسم على المصحف بقولهم: (بما يحتوي هذا من كلام الله)، ولكن القسم الذي لا يزال يعتمدون عليه هو قولهم:(عليّ الطلاق) أو (عليّ الحرام) أو (عليّ الطلاق بالثلاثة). فإذا كذب الرجل في أحد هذه الأقسام الثلاثة تصبح امرأته طالقاً إذا ثبت حنثه. وإذا كان للرجل أكثر من زوجة وجب حينئذ أن يختار إحداهن فيخصص بها الطلاق. غير أن هناك كاذبين فاسدين يقسمون زوراً بأشد الأيمان إلزاماً. وقد قال الشاعر يصف هذا الخلق.

وأكذب ما يكون أبو المعلَّى

إذا آلي يميناً بالطلاق

ويسهل تحريض المصريين إلى المشاجرة وخاصة السفلة الذين يتشاتمون في ثورتهم بسب الآباء والأمهات واللحى الخ. ويسرفون في نعت كل من الآخر بأحط النعوت كأن يقول: يا أبن الكلب، أو يا قواد، أو يا خنزير، وهناك تسمية أخرى يرونها أشد الشتائم على الدوام وهي قولهم: يا يهودي. وعندما يسب أحد المتخاصمين الآخر يجاوبه هذا بلعن أبيه وأمه وأحياناً بلعن العائلة جميعها. ويهدد كل منهما الآخر ولكن قلما يبادران إلى الضرب. غير أنني رأيت في أحوال قليلة بعض السفلة ثائرين إلى درجة أن كلا من المتشاجرين كان يعض الآخر ويقبض عليه من حلقه. وشاهدت أيضاً عدة مرات أفراداً من الطبقتين الوسطى والسفلى يتحملون السب الغليظ. وكثيراً ما سمعت المصري يقول عندما يضربه ندّ له: (الله يبارك فيك. الله يجازيك خيراً. اضربني مرة أخرى). وتنتهي المشاجرة عادة بأن يقول أحد الطرفين أو كليهما: (الحق علي) وكثيرا ما يقرأن الفاتحة بعد ذلك ثم يتعانقان ويقبل كل منهما الآخر أحياناً

ويميل المصريون خاصة إلى الهجاء. وكثيراً ما يظهرون ذكاء في تهكمهم ومرحهم. وتساعدهم اللغة العربية على استعمال التورية والحديث المبهم الذي يتهكمون فيه بكثرة.

ص: 31

وتهجو الطبقات السفلى أحياناً حكامها في الأغاني ويسخرون من هذه القوانين التي يقاسونها كثيراً. وقد تسليت مرة بأغنية شائعة في أسوان وإقليمها. وكانت هذه الأغنية دعاء صادقاً بأن يبيد الطاعون حاكمهم المستبد وكاتبه القبطي. وكانت في مصر كلها أغنية ذائعة أثناء زيارتي الأولى ألفت لزيادة ضريبة (الفردة) وكانت تبدأ هكذا: (يا للي عندك لبده، بعها وادفع الفردة) واللبدة كما ذكرت قبلا غطاء رأس من اللبد يلبس تحت العمامة أو بدلها. ويعتبر من ليس له غطاء رأس غير اللبدة فقيراً جداً.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 32

‌البريد الأدبي

آراء جديدة في السجع

1 -

في كتاب (النثر الفني) للدكتور زكي مبارك جزء أول ص25 ما يلي (أذكر أنني كنت أحاور المسيو مرسيه في تطور السجع فأخرج رسائل الجاحظ وفيها هذه العبارة: (إن معاوية مع تخلفه عن مراتب أهل السابقة أملى كتاباً إلى رجل فقال فيه (لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلاب الحرة)، ثم قال:(امح من كلاب الحرة واكتب من الكلاب) كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة، وما أشبه السجع، ورأى إنه ليس في موضعه) وكان المسيو مرسيه يظن أن في هذه العبارة دلالة على أنهم كانوا إذ ذاك لا يستحبون الكلام المسجوع، فوجهت نظره إلى أن لهذه العبارة معنى آخر، ذلك أن السجع فن رقيق لا يصلح في ذلك المقام، وهو مقام تهديد ووعيد)

إلى هنا انتهى كلام الدكتور. وقد قرأت في كتاب (عبقرية محمد) للأستاذ العقاد ما يلي: (أجاب الرسول أبا سفيان عندما خيره بين نصف نخل المدينة أو الخراب والدمار فقال: (وصل كتاب أهل الشرك والنفاق، والكفر والشقاق، وفهمت مقالتكم، فوالله ما عندي جواب إلا أطراف الرماح، وأشفار الصفاح!)

(فهذا السجع في هذا المقام أصلح لخطاب الجاهلين لأنهم يعرفون منه معنى التوثيق والتمكن، كما يعرفون منه معنى المناجزة والتخويف)

هذان رأيان في السجع متعارضان. أما الدكتور زكي مبارك فهو يرى أن السجع فن رقيق لا يصلح في مقام التهديد والوعيد، وأما الأستاذ فيرى في السجع ضخامة وفخامة وهما أصلح في المناجزة والتخويف. . . فما رأي الأستاذين؟

2 -

يخبرنا الدكتور زكي في كتابه (النثر الفني) ص64 أن المسيو مرسيه والدكتور طه حسين ومن شايعهما قرروا أن السجع لم يلتزم إلا في القرن الرابع، وأن المسيو مرسيه وجد كتاباً لمؤلف قديم اسمه الأخضري، وأنه منسوب إلى القرن الثالث، وأصر مرسيه على ضمه إلى كتّاب القرن الرابع ووافقه الدكتور طه لهذا السبب. وللأستاذ أحمد أمين حادثة مثل هذه؛ ففي كتاب ضحى الإسلام ص236ج1 أنكر نسبة كتاب (الرد على ابن المقفع) إلى القاسم بن إبراهيم وكانت حجته (أن القاسم عاش في النصف الأول من القرن

ص: 33

الثالث والكتاب مسجوع. ونحن نعلم أن هذا العصر (عصر الجاحظ) لم يتكلف فيه سجع، ولم تؤلف فيه كتب مسجوعة. . .)

ولكن ما رأيهم في كتاب (الحاسد والمحسود) الذي كتبه الجاحظ نفسه، ونظرة فيه تقنعهم بأن نظريتهم خاطئة، أو على الأقل مبالغ فيها إلى حد بعيد. فكتاب الجاحظ في الحسد أغلبه سجع متكلف. وإني أورد هنا بعض فقرات منه لأثبت ما أقول: (الحسد أبقاك الله داء ينهك الجسد، ويفسد الأود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر. . . قاطع كل رحم بين الأقرباء، وملقح الشر بين الخلطاء. . . والحسد هو الذي جعل (ابن آدم يلقى على أخيه الحجر شادخاً، فيصبح عليه نادماً صارخاً. . . وعبد الله بن أبي تبين للناس عقله، وافتقدوا منه جهله، ورأوه لذلك أهلا، لما أطاق حملا. . . والمحسود لولا عناية الله لأمسى وماله مسلوب، ودمه مصبوب، مهراق مسفوك، وعرضه بالضرب منهوك. . .

ثم ختم الرسالة بقوله: وما أرى السلامة إلا في قطع الحاسد، ولا السرور إلا في افتقاد وجهه، ولا الراحة إلا في مرم مداراته، ولا الربح إلا في ترك مصافاته، فإذا فعلت ذلك فكل هنيئاً، واشرب مريئاً، ونم رخياً، وعش في السرور ملياً. . .)

هذه فقرات من كتاب (الحاسد والمحسود) والمطلع عليه يجد السجع فيه غالباً، فهل ننكر نسبته إلى الجاحظ؟ أم هل نزحزح الجاحظ إلى القرن الرابع؟؟

3 -

في الحق أن أصحاب هذا المذهب غالوا وبالغوا في تعنتهم وغلوهم وما كان ذلك منهم إلا ليثبتوا نظرية نادوا بها من قبل، وهو أن السجع من الزخرف الفني الذي اكتسبته العربية من اتصالها بالفارسية واليونانية. والواقع أن السجع كما يقول الدكتور مبارك (من مميزات البلاغة الفطرية)، وقد اعترف المسيو مرسيه بذلك عندما قال:(وكأنهم بدءوا يكرهون السجع في العصر الأموي) أي إنه اعترف بأن كان هناك سجع ثم بدأ الناس يكرهونه، والسجع من الزخرف الفني الذي زعموا أن العربية لم تعرفه إلا بعد اتصالها بالفارسية واليونانية.

محمود السيد أبو السعود

حول اختلاف القراءات أيضاً

ص: 34

ينكر الأستاذ الفاضل عبد المتعال الصعيدي ما ذكرته من أن: المسلمين على عهد الرسول كانوا يتلقون القرآن منه سماعاً ويطوون صدورهم عليه حفظاً وفهماً، دون ما حاجة منهم إلى النظر في شيء من آياته مخطوطاً. وهو ينعت هذا الكلام بالغرابة، وبأنه (لا يتفق مع المعروف عن المسلمين في ذلك العهد). ويلزمني الآن أن أنص على أن تلقي القرآن شيء، وحفظه كله أو بعضه أو عدم حفظه البتة، شيء آخر

فزعم الأستاذ أن جمهور المسلمين (لم يكن يأخذ نفسه بحفظ القرآن) - وحاشا أن يصح ذلك - لا يعتبر رداً على ما حاول نقضه من كلامي السابق. لأن موضوع الحديث هنا هو تلقي القرآن، أعني إجادة تلاوته على وجهه الصحيح، بطريق ما؛ كيف يكون هذا التلقي؟ وما مبلغ العلاقة فيه بين السماع شفاها والقرآن في مخطوط؟

لست أشك في أن الأستاذ يوافقني على أن الأساس في التلقي هو السماع من الرسول، ثم من صحابته الذين أجادوا النقل عنه. فذلك ما يقول به كل ملم بهذا الموضوع؛ ولكن الأستاذ يضيف من عنده إلى هذا قصة طريفة، فهو يتخيل - ويريدنا على أن نتخيل معه - أن المسلم من هؤلاء كان يمضي إلى بيته وفي يده أديم أو عظم فيه الآية والآيات، فيكب على قراءته في مشقة وصعوبة. وتلتبس عليه خلال ذلك حروف متشابهة، كالياء مع الباء (وعدها إياه، وعدها أباه) والثاء والتاء مع الباء والنون (فتثبتوا، فتبينوا). وينبهم عليه وجه الصواب في كل ذلك، فيرجع إلى الرسول يستفتيه، فيقول له: اقرأ بكلام الحرفين، فالباء أخت الياء، وغيرك قد استعصى عليه ذلك أيضاً. فذلك معنى الرجوع إلى الرسول وإقراره ما يراه للتخفيف عن المسلمين في مثل هذه الكلمات التي اشتهت حروفها، مما يشير إليه الأستاذ في كلمته الأولى (ع488) من (الرسالة)

والأستاذ عبد المتعال يعتنق بهذا الكلام - دون أن يشعر - مذهب القائلين إن القرآن نزل بمعانيه دون ألفاظه وتراكيبه، وهو مذهب لم يحيى إلا على ألسنة بعض ذوي المقاصد السيئة من المستشرقين؛ وإلا فما معنى أن يذكر لنا ما يؤدي إلى الاعتقاد بأن الرسول كان ممن يبدلون كلمة بكلمة أخرى تباينها في معناه، لمجرد الاشتباه بين حرفين متقاربين في رسمهما العربي؛ وقد يكون هذا الاشتباه راجعاً إلى ضعف بصر القارئ، أو رداءة الخط، أو رثاثة الأديم مثلا؟!

ص: 35

إن الضابط المشترط في القراءة الصحيحة معروف، وقد أشار إلى هذا بإيجاز الأستاذ الفاضل محمد غسان في كلمته. . . وإلى القارئ ما قاله ابن الجزري بصدد ذلك في كتابه (النشر)

(كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها؛ فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن)

ومن ذلك الوجه صحت هذه القراءات لدى أكثر المفسرين - وقد ذكرنا منهم فيما قبل صاحب الكشاف - ولم يكن لتشابه الحرف دخل في تصحيح هذه القراءات؛ بل أن هذا التشابه نفسه، قد أدى ببعضهم إلى اعتبارها تصحيفاً كالسيوطي صاحب المزهر والذين نقل عنهم. . .

هذا وإن إذن الرسول في كتابة القرآن وقراءته أمر معلوم لدى كل مسلم، وأسماء كتاب الوحي وسيرهم معروفة لنا جميعاً، فلم يأت الأستاذ بجديد في إشارته إلى ذلك؛ وهو لم يعد وجه الصواب في قوله أن من لا يحفظ القرآن كانت تعتريه الصعوبة في نطق بعض الكلمات، ولكنه أخطأ حين عقب على تلك الحقيقة فقال:(ومن هذا يجيء التيسير في قراءتها - يعني بعض الكلمات - على ما تحتمله من الوجوه!) فليس مجرد الصعوبة في القراءة هو علة هذا التيسير كما ذكرنا.

بقي أن نشير إلى أن الأستاذ عبد المتعال يبالغ في شأن الرقاع المخطوطة كثيراً، وما أشك في إنه يعلم ما فيه الكفاية عن حياة (الحفاظ) الذين كانوا يمضون بأمر الرسول إلى الجهات النائية لتحفيظ المسلمين آيات القرآن، وتلقينهم أوجه التلاوة الصحيحة؛ بل لعله يعلم أيضاً أن الرسول قبل الهجرة بعث إلى المدينة من يحفظ أهلها من المسلمين ما كان قد نزل من السور؛ فلم يكن يجزئ في كل هذا قراءة مخطوط دون الرجوع إلى تلاوة القراءة والحفاظ الموثقين والإثبات.

ومن الأمور المعروفة أيضاً أن عمر بن الخطاب لم يشعر بالحاجة إلى جمع الرقاع، وينصح للخليفة الصديق بذلك، إلا بعد أن تفرق هؤلاء الحفاظ في أطراف البلاد وفني كثير منهم في الوقائع والغزوات. إذ كان في هؤلاء - على حياة الرسول ومن بعده - الغناء كل

ص: 36

الغناء عن القراءة في صحيفة أو النظر في مخطوط. ومعلوم أن المرجع كان إلى هؤلاء أيضاً في توثيق ما ورد بهذه الرقاع، لما قد عرفوا به من جودة الحفظ وصحة السماع، مع إدمان التلاوة على نهجها الصحيح.

(جرجا)

محمود عزت عرفة

حفاظ القرآن في عصر النبوة

قال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في كلمته (حول اختلاف القراءات في القرآن) في العدد (490): (وكان القليل منهم - أي المسلمين في عهد النبوة - يحفظ الصورة أو الصورتين وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحفظ القرآن كله منهم إلا عدد لا يكاد يتجاوز عدد الأصابع)

وهذا غير صحيح لأن حفاظ القرآن كله في عصر النبوة لا يحصون بفضل تحضيض النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على حفظه، وتفانيهم في إطاعة أمره، حتى أن داراً للقراء كانت أنشئت بالمدينة المنورة قبل الهجرة، وندب القارئ المشهور مصعب بن عمير رضي الله عنه لتحفيظ القرآن فيها، وكانت صفة مسجد النبي عليه السلام مجمعاً له دوى بمدارسة القرآن وحفظه، وكان صلوات الله عليه يبعث من أصحاب هذه الصفة عشرات إلى القبائل التي يسلم أهلها لتعليمهم القرآن. وقد استشهد في وقعة بئر معونة زهاء سبعين من الحفظة، واستشهد في وقعة اليمامة نحو ذلك

وما يذكر في بعض الكتب من أسماء قراء الصحابة رضي الله عنهم إنما يذكر لمناسبات لا بقصد الاستقصاء، وقد سرد منهم ابن حجر في (فتح الباري) تسعة وعشرين حافظاً ممن يستظهرون القرآن جميعه (ج9 ص43). ولعل الأستاذ الصعيدي اشتبه عليه ما يروى عن أنس رضي الله عنه من أن حفاظ القرآن أربعه، فلم يفهم أن الظاهر من طرق الحديث أن هذا القصر إضافي لأن مورده في مفاخرة بين الأوس والخزرج، أي أن حفاظ القرآن هؤلاء هم من الخزرج لا من الأوس. ومن الجلي أن هذا القصر الإضافي إنما هو بالنظر إلى علم أنس ليس غير

ص: 37

وأما الذين كانوا يحفظون بعض القرآن فما أكثر عديدهم كذلك، فهذه كتب الصحاح والسنن والمسانيد تحدثنا بما كان يتلى في الصلوات الجهرية من السبع الطوال وغيرها مما يدل على كثرة من كان يحفظ شتى الصور من الصحابة رضي الله عنهم. وكان دأبهم في تعليم من لا يتيسر له حفظ القرآن كله أن يعلموه سوراً منه ولغيره سوراً آخر، فوجد بذلك كثيرون ممن يحفظون صور القرآن متفرقة، عدا حفاظ القرآن جميعه

وأما قول الأستاذ الصعيدي: (أما كتابة القرآن وقراءته فكان فيهما إذن عام من النبي صلى الله عليه وسلم. . . الخ) فأجتزئ في رده بما ورد في الأقوال المأثورة: (لا تأخذ القرآن من مصحفي لأن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول مشافهة

محمد غسان

نسبة شعر

كنت قرأت مقالا عنوانه (مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية) نقلا عن (برنارد لويس) للأستاذ عبد الوهاب الأمين في عدد الرسالة رقم (486). وقد ذكر الكاتب فيما ذكر بيتين نسبهما إلى المستشرق (بالمر) قائلا ما نصه بالحرف: (وتعتبر القطعة التالية نموذجاً لشعر بالمر العربي:

ليت شعري هل كفى ما قد جرى

مذ جرى ما قد كفى في مقلتي؟

قد برى أعظم حزن أعظمي

وفني جسمي حاشا أصغري)

وكنت قبل قراءتي للمقال أتصفح ديوان ابن الفارض وقد ورد هذان البيتان في قصيدته التي مطلعها:

سائق الأظعان يطوي البيد طي

منعماً عرج على كثبان طي

فهل من يتكرم بما يفيد عما إذا كان البيتان حقيقة من شعر بالمر وأنهما نسبا خطأ لابن الفارض، أم أنهما حقيقة لابن الفارض وأن الكاتب قد وقع في خطأ نسبتهما لبالمر

(السودان)

محمد بشير

ص: 38