المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 493 - بتاريخ: 14 - 12 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٩٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 493

- بتاريخ: 14 - 12 - 1942

ص: -1

‌التلباثي

للأستاذ عباس محمود العقاد

(. . . نطالع كتابكم الكبير عبقرية عمر الذي تجلت فيه عبقريتكم الفريدة. . . ونرجو منكم خدمة للعلم التكرم بشرح التلباثي على صفحات مجلة الرسالة الغراء. . .)

(سنهور المدينة)

محمد السيد علي بدر

والإشارة إلى التلباثي في كتاب (عبقرية عمر) قد جاءت في سياق الكلام على قصة سارية حيث روينا أنه (كان رضي الله عنه يخطب بالمدينة خطبة الجمعة فالتفت من الخطبة ونادى: يا سارية بن حصن. . . الجبل الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم

(فلم يفهم السامعون مراده، وقضى صلاته فسأله علي رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أو سمعته؟ قال: نعم، أنا وكل من في المسجد. فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا اكتافهم، وانهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا. فخرج مني هذا الكلام)

وأنه (جاء البشير بعد شهر فذكر انهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتاً يشبه صوت عمر يقول: يا سارية بن حصن! الجبل الجبل. فعدلنا إليه ففتح الله علينا)

ثم عقبنا على القصة قائلين: (إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهوراً بين معاصريه بمكاشفته الأسرار الغيبية أما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد)

وهذه - كما هو ظاهر - حالة من حالات التلباثي التي يسال عنها الأديب صاحب الكتاب الذي اقتبسنا منه ما تقدم.

ونحن نترجم التلباثي بالشعور عن بعد، أو (بالنظر البعيد) إذا أردنا تعميم النظر حتى يشمل الرؤية والمكاشفة، أو يشمل الـ في اصطلاح بعض العلماء النفسانيين

وهي حالة متكررة يحسها كثيرون ويسجل وقائعها أناس من المتدينين وغير المتدينين.

ص: 1

واشهر القائلين بها في عصرنا كاتب أمريكي ملحد هو ابتون سنكلير يقيم التجارب التي تثبت النظر على البعد أو الشعور على البعد، ويسجل فيها سجل تجاربه مع زوجته حيث كانا يجلسان في مدينتين بعيدتين ويحيط بكل منهما شهود كثيرون منهم المنكرون ومنهم المصدقون، فيطلب إليه بعضهم أن يرسم شكلاً هندسياً وأن يوجه شعره إلى امرأته لترسم مثله في تلك اللحظة، ويطوي الرسمان حتى يعلنا بعد ذلك فيتفق في كثير من الأحوال أن يتشابها في الخطوط، وإن اختلفا في الأبعاد كما يختلف المثلث الكبير والمثلث الصغير مع اتفاق الزوايا والنسب الهندسية

هذه التجارب يقول بها ويسجلها ويعلنها في الكتب السيارة رجل قلنا إنه ملحد لنقول إنه لا يقصد من كلامه تبشيراً بعقيدة أو خدمة لمذهب اجتماعي، لأن مذهبه الاجتماعي يقوم على (الفهم المادي) للتاريخ ولا يحوجه إلى التبشير بهذه الهبات النفسية، بل لعله ينفره منها ويحبب إليه السكوت عنها

واعتقادنا في (التلباثي) أنه هبة نفسية جائزة لا تناقص العقل ولا يمنعها العلم بدليل

لأنها تستند إلى الحس، ولا فرق بينها وبين هبات الحس التي نباشرها كل يوم إلا في طول المسافة، وهو فرق اعتباري غير قاطع بين حالة وحالة. إذ من ذا الذي يستطيع أن يقول إن الحس ينتهي عند هذه المسافة ولا يجوز عقلاً أن يتعداها ويذهب إلى ما وراءها!

أننا نرى كل يوم في العصر الحاضر أن صوتاً يصدر من أمريكا أو اليابان ويسمع كما يسمع فيها حديث الجلساء. ولولا المذياع لعددنا من يزعم هذا الزعم ممخرقاً يعبث بعقول سامعيه

فإذا جاز سماع الصوت على هذه المسافات الشاسعة بجهاز من الأجهزة المصنوعة فلماذا يمتنع على قوى الذهن أو قوى الشعور أن تحس على هذه المسافة أو تتصل بنفس أُخرى وذهن آخر متى تهيأت لها أسباب اتصال؟

فالتصديق بالتلباثي لا يدعونا إلى اختراع حس جديد أو ملكة غيبية من وراء الطبيعة، ولكنه يدعونا إلى تصديق هذا الحس الذي نباشره كل يوم في مختلف شؤون الحياة، مع السماح له بالامتداد والتكبير، وهما غير ممنوعين ولا مناقضين للمعقول أو المشهود

والحس نفسه لا يقل في غرابته عن (التلباثي) كما يقول بها اشد الغلاة المؤمنين بها من

ص: 2

النفسانيين

فأنت تفتح عينك فترى

شيء بسيط جدا في حسابنا، بل هو ابسط شيء يخطر على بالنا. . . افتح عينك تر!. . . أي شيء ابسط من ذلك وابعد من الغرابة؟

نعم هو كذلك لأننا نعالجه ونرى الألوف ممن يعالجونه كل لحظة، ولا يخطر لنا أننا نأتي بشيء غريب

ولكننا إذا رجعنا إلى أنفسنا فسألناها: ما هي الرؤية؟ وما هو معنى القوة العجيبة التي تحيط بشيء على مسافة منك وتعرف ما لونه وما شكله وما أثره وما حركاته وسكناته، ولا صلة بينك وبينه إلا الضياء؟

نسأل أنفسنا في هذا ونفكر ملياً في معناه فتستغرب النظر من قريب كما نستغرب النظر من بعيد، ونعلم أن معجزة الحس حاصلة قبل أن نسمع بالتلباثي والتلفزيون وما إليهما من وسائل الإحساس

وما قربنا المسالة حين نقول أنا ننقل الأشياء إلى حسنا بالنظر لأن بيننا وبينها الضياء

إذ ما هو الضياء؟

ولماذا يكون حتماً لزاماً متى وجد الضياء أن يكون هناك نظر وإن يكون النظر على نحو ما وعيناه؟

فالتلباثي غريبة جداً عند من تنسيه الألفة اليومية غرابة النظر والسمع والذوق وسائر المحسوسات

والتلباثي جائزة جدا عند من علم أن النظر جائز ثم سال نفسه في معنى هذا الجواز

واحسب أن الكثيرين من القراء قد جربوا هبة التلباثي كما جربتها ووقفوا منها على مبادئ تدل على نهايتها القصوى، إن لم يكتب لهم أن يملكوا هذه الهبة على أقصاها

فإنني لا أقول بجواز التلباثي معتمداً على العقل والقياس دون التجربة والمشاهدة، ولكنني أقول بذلك لأنني (جربت) بعض الوقائع التي تقربني من تصديق (التلباثي) وتنفي الغرابة عنه أو تنفي استحالته على ايسر تقدير

يحدث مرات أن اذكر إنساناً بعد سهو طويل عنه فإذا هو ماثل أمامي في اللحظة التي

ص: 3

ذكرته فيها

ولو كان هذا الإنسان صاحبها يعاودني التفكير فيه حيناً بعد حين لقلت الغرابة في تذكره ولو بعد السهو الطويل

ولو كان المكان الذي ذكرته فيه متصلاً بإقامته أو بالمقابلات بيني وبينه لقلت الغرابة كذلك في ثارة ذلك المكان لذكراه

ولكنه لا يكون أحياناً ممن طالت الصحبة بيني وبينه، ولا يكون الموضع الذي اذكرني به موضعا تقابلنا فيه قبل ذلك أو تحدثنا به يوماً من الأيام. وكل ما هنالك أنه إنسان جمعت بيني وبينه المصادفات فترة من الزمن ثم انطوت عني أخباره سنوات لا أراه ولا يعرض لي ما يدعوني أن اشتاق إلى رؤيته، ثم يمر بخاطري فما هو إلا أن أثبته واستعيد ذكره حتى أراه في عرض الطريق

ويحدث مرات أن يتولاني انقباض شديد تتخلله صورة إنسان عزيزي يكرثني جداً أن يصاب بمكروه، ويلج بي هذا الانقباض حتى كأنما الذي أخشاه قد وقع أو هو مرقوب الوقوع. فأبادر بالكتابة من طريق البرق أو البريد، ويحدث في هذه الحالة أن يجيئني خطاب قبل وصول سؤالي إلى وجهته يدعو إلى الطمأنينة، أو يرد ألي الجواب بعد قليل وفيه إشارة إلى خطر زال

واحسب أن هذه العوارض أشيع من أن تحصى في عداد النوادر والفلتات، فقد سمعت ما يشبهها من بعض الأصدقاء المصدقين. وقد اخبرني بعضهم بقلقه على غائب يعزه وهو لا يعرف سبباً واضحاً للقلق الذي يساوره حتى فاتح فيه غيره. ثم تبين أنه لم يقلق يومئذ بغير داع معقول

إلا أن النوادر والفلتات في التلباثي هي العوارض التي تشبه قصة سارية فيما روي عن عمر بن الخطاب

فالذين يشعرون على البعد بمثل هذه القوة والوضوح قليلون، ولكن المسالة - بعد - مسالة فرق في القوة والوضوح، وليست بفرق في أساس الشعور يماثل الفرق بين من يبصر ولا يبصر، وبين من يسمع ومن ليست له إذن للسمع، وبين من يحس ومن ليست له قابلية للإحساس

ص: 4

فالشعور على البعد كالشعور على القرب جائزان، ووسيلة الشعور على البعد ليست بأصعب من وسيلة الشعور على القرب بالعيون والاذان، وإن كنا لا نستغرب هذه كما نستغرب تلك لطول لالفة وتكرار المشاهدة بين جميع الأحياء

وحد التصديق عندي لهذه العوارض هو وجود الأساس الذي تعتمد عليه

فإذا كان كل ما في أمر أنه تكبير للحس الذي تعودناه أو مضاعفة له وتقريب لإبعاده ومسافاته فلا مانع من صدقه، وإذا كان في الدعوى ما يحوجنا إلى فروض لا أساس لها من المشاهدات والمعقولات فهنالك موضع للتردد والاشتباه

وعلى هذا اقبل دعوى التنويم المغناطيسي - مثلاً - إذا ادعى للنائم أنه يبصر شيئاً موجوداً على مسافات بعيدة، ولكني لا اقبل منه هذه الدعوى إذا تعدى ذلك بما سيكون بعد عام أو بعد شهر أو بعد يوم، وليس له وجود قائم الآن

وكذلك اقبل دعوى الشعور البعيد أو النظر البعيد إذا كان بمثابة السمع المضاعف أو البصر المضاعف، لأن امتناع ذلك يحتاج إلى مانع قاطع ولا سبيل إلى القطع فيه، ولان القول بجوازه لا يتعدى كثيراً أن نقول بجواز رؤية العيون وسماع الآذان

وينبغي للعقل أن يتمهل في قول (لا) كما يتمهل في قول (نعم) كلما سمع بما يشككه ولا يوافق معهوده. فإن العقل ليكون خرافياً بقول (لا) في غير موضعها كما يكون خرافياً بقول (نعم) في غير موضعها؛ وإنما هذه خرافة تثبت بالباطل وتلك خرافة تنفي بالباطل، ولا فرق في الباطل بين نفي واثبات

الشعور على البعد جائز ما جازت الصلة بين الإنسان وموضوع شعوره وقد رأينا أن هذه الصلة لا تنقطع في طريق صوت كالهمس على مسافات الألوف من الفراسخ والأميال، فقبل أن ننفي الصلة بين نفسين يبتغي أن نتمهل طويلاً حتى نوقن من وجه الاستحالة والامتناع؛ ولن يكون هذا اليقين إلا ببرهان قاطع. والقول بهذا البرهان القاطع قبل أن يوجد ويتقرر هو أجرأ على العلم والعقل من التصديق بغير برهان اعتماداً على المروي والمشاع.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌راية الروحية الأدبية

للدكتور زكي مبارك

فيما كتب الأستاذ الزيات والدكتور عزام عن (البلايا التي تكابدها البلاغة في هذا العصر) تذكير بغضبات ابن قتيبة في القرن الثالث، والجرجاني في القرن الخامس. وقد جاء هذا التذكير في الوقت المطلوب، جاء بعد انحراف قد يزعزع مركز مصر الأدبي في الشرق، إن لم تسنده الأقلام المصرية بأسندة متينة من الحق والصدق واليقين

وأقول من جديد أنه لا حياة للأديب مصر إن لم تكن لأهله عقيدة أدبية، عقيدة يرحب صاحبها بجميع المتاعب في سبيل الأدب الصحيح، ولا يبالي أين يكون مصرعه ما دام على وفاق مع ملائكة الفكر وشياطين البيان

والعقيدة الأدبية توجب أن نكون صادقين فيما نكتب وفيما نقول، بحيث يطمئن القراء إلينا كل الاطمئنان، وبحيث لا تخفى عليهم خافية من سرائرنا الفكرية، ولو جنحنا في التعبير إلى الرموز والتلاميح

القارئ صديق - وإن لم يتعرف إلينا بصورة شخصية - وللصديق حقوق أهمها اطراح الرياء، فمن العبث أن يخطب قوم وداد القارئ وهم لا يلقونه إلا مرائين

والأصل في الأدب أنه تعبير طريف عن أغراض الحياة والأحياء. وإنما قلت (تعبير طريف) لابدد الشبهة التي تقول بأن الأدب هو تصوير المشاعر والعواطف بالصدق الذي يماثل صدق الصورة الشمسية، فالقارئ لا يفرح بأن الكاتب حدثه عما يجول في صدره بالحرف، وإنما يسره ويبهره أن يجد في تلك الصورة ألواناً لم يلتفت إلى مثلها من قبل، على شرط أن لا يزيغه التلوين عن الصدق، وعلى شرط أن يكون الجانب الطريف اظهر الجوانب في الأداء

فأين نحن من هذه المعاني في هذا الزمان؟

من المحقق أن الأدب عندنا في ازدهار، ولكني مع ذلك أعاني ضروباً من التخوف. فالجماهير في مصر لم تشعر إلى اليوم بأن الأدب صار قوتاً لا تطيب بدونه الحياة. ولم نسمع أن الجماهير مستعدة للمساعدة على نشر كتاب يعجز عن نشره أحد كبار المؤلفين. ولم نسمع أن كتاباً أعيد طبعه عشرين مرة في اشهر معدودات، كما يقع ذلك في بعض

ص: 6

الممالك التي تعاني شهوات العقول

فما أسباب هذا الخمود؟

أخشى أن أقول أننا لم نصر كتاباً ولا مؤلفين بالمعنى الصحيح للكتابة والتأليف

أخشى أن أقول أننا عجزنا عن خلق الجاذبية الادبية، وسيحكم علينا التاريخ بما لا نريد، فسيقول أقوام إن مصر عانت زمناً لم يعرف أدباؤه كيف يرفعون البراقع عن الاقلام، ولم يفكروا في رفع الأمية الفكرية عن عقول القراء

أعوذ بالله من بعض ما أرى وبعض ما أقرأ وبعض ما اسمع!

وبالله استعيذ من زمن تضعف فيه الأبوة الروحية، أبوة الباحثين والمفكرين!

ومع هذا فالأمة المصرية هي هي لم تتغير ولم تتبدل، الأمة التي تستمع كل قول، وتستجيب لكل نداء، ولم يفتر نشاطها الذهني في أي وقت، ولكن أين من ينتفع بالحيوية المكنونة في ضمير الأمة المصرية؟

انتفع السياسيون من أمثال: مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، لأنهم جاهدوا وناضلوا وكافحوا، ولأنهم جددوا أهدافهم تحديداً لا يتطرق إليه الارتياب، ثم رحبوا بجميع المتاعب في سبيل تلك الأهداف

فماذا صنع الأدباء ليسيطروا بالقوة الروحية، كما سيطر أولئك بالقوة السياسية؟

قد يقال إن الوطنية وتر حساس، فهي السر في نجاح أولئك الرجال

وأقول إن النزعة الإنسانية اقدم واعمق من النزعة الوطنية، فلو جاهد الأدباء جهاد الصدق لكان لهم في أمتهم تأثير لا يصل إليه كبار الوطنيين، ولكان من السهل أن تكون مبادئهم شرائع يعتصم بها السياسيون

واعجب العجب أن يكون في الأدباء من يطلبون الاستقلال لامتهم ولا يطلبونه لأنفسهم، كالأدباء الذين يعيشون تحت وصاية الأحزاب السياسية راضين وادعين ناعمين، كيانهم ظفروا بكنوز قارون، وكأن آلهة الفن هي التي ألهمتهم ذلك المذهب من مذاهب المعاش، مع أن القلم أكبر واعظم واشرف من أن يتشوف صاحبه إلى الاستظلال بظلال الأحزاب

لا عيب في أن يكون للأديب حزب ينتمي إليه إذا اقتنع بالتحزب في سبيل القومية. ولا عيب في أن تكون للأديب مطامع سياسية، ولكن العيب كل العيب أن يكون الأدباء ذيولاً

ص: 7

تجرجرهم التقلبات الحزبية، وتدوسهم سنابك الأهواء

إن جهاد مصر الأدبي لا يقل عن جهادها السياسي، فقد استطاع فريق من أدباء مصر أن يرفعوا اسم وطنهم في الشرق، ولكنهم مع الأسف عجزوا عن رفع اسم الأدب في وطنهم، لأنهم غفلوا عن واجب المصابرة تحت الراية الأدبية، واكتفوا بالتغني تحت الراية الوطنية

ألم اقل لكم إن الأديب ليس أجيراً للوطن ولا أسيراً للمجتمع؟

وما قيمة الوطن إن لم يفرح بأن ينبغ فيه المفترعون لأبكار المعاني؟

في القسم المصري بمتحف اللوفر في باريس تمثالان ناطقان: تمثال الفلاح المتربع تحت الشمس وهو يتذوق السكون والخمود، وتمثال الكاتب المتربع وهو مهموم يستعد للإنشاء. وتلك صورة مصر في القديم والحديث، فمن أبنائها من يفرح بالنعيم البليد، ومن أبنائها من يفرح بالشقاء السعيد. والأشقياء بالمعاني هم السعداء، يوم يوضع للسعادة تعريف صحيح

ألم يأن للأدباء أن يعرفوا واجبهم نحو الأدب؟

ألم يان للزمن أن يسمح بأن تقوم في مصر دولة أدبية لا تعرف غير الصدق في البيان عن أوهام الأهواء وأحلام القلوب واوطار العقول؟

أمن المستحيل أن يقول أديب (أنا) في هذه البلاد؟

ألا يوجد فينا من يتوكل على الله وحده ليملك الغنى عن الناس فيكتب ما يكتب ويقول ما يقول في صراحة وإخلاص؟

عذرت من عاشوا في زمان الظلم، فما عذر من يعيشون في هذا الزمان؟

إن حرية التفكير مكفولة للجميع، على شرط السلامة الفكرية، فما الذي يوجب أن يكون الأديب إمعة لا ينطق أو يصمت إلا وفقاً لبعض الموحيات الأجنبية عن جو العقل والروح؟

وما الموجب لأن يتفاضل الأدباء بالقدرة على الرياء، وهو سناد المهازيل، وعماد المعاليل، ودعام المناخيب؟

لقد وضع الورق في التسعيرة الجبرية قبل أن يوضع الفول، ومع هذا لا يفهم ناس أن قوت العقول يسبق قوت البطون!

إن الأدب الكاذب ينفع، فكيف يضر الأدب الصادق؟

والأدباء المستعبدون يفلحون، فكيف يخيب الأدباء المستقلون؟

ص: 8

جربوا الصدق مرة واحدة، يا أدباء هذا الزمان، وحاولوا مرة واحدة أن يكون لكم وجود منزه عن التبعية، ولو كانت في اشرف الأوضاع، ليصح لكم القول بأنكم من دعاة الحرية والاستقلال

إن محنة الأدب في هذا العصر محنة عاتية، وهل توجد محنة أقسى من محنة العبودية؟ ولأي سبب؟ للقوت الذي لا يبخل الله به على ضعاف النمال!

إن الأديب المصري لم يخلق بعد، الأديب الذي يستوحي نجوم السماء لا نجوم الأرض، الأديب الذي لا يخاف الجوع، لأن له زاداً من الحب والنسيم، الأديب الذي لا يخشى التوحد، لأن التوحد هو انس الأسود

التصوف خلق أول مرة في مصر، في عهود سبقت عهود الفراعين. عنا اخذ الناس معاني الروحية، فهل يعاب علينا أن ندعو إلى الصوفية الأدبية؟

ولكن أين الأديب؟ أين لا أين، فقد طوقت المنافع الباب الأدباء في هذا الزمان؟!

أن وجد الأديب المصري المنشود فسيكون المرجع لأقطاب السياسة واعيان المال، لأن الأدب هو الميزان لفهم مطالب الحياة وحقائق الوجود

وهنا تظهر إحدى الدقائق الروحية: فالميزان لا يستفيد مما يزن، وإنما يستفيد الوزان، فيا أدباء مصر كونوا موازين لا وزانين

آه ثم آه!!

إن الذي يملك بعض المنافع في هذه البلاد يعتز ويستطيل، فكيف يجوز لحامل القلم أن ينسى نعمة الله عليه فيتمسح بهذا الركن أو ذاك؟

وما الذي يمنع من أن نجرب حظنا مع الله، وقد جربنا الحظوظ مع الخلائق؟

لقد عفا الله عن سفهاء الأدب فأورثهم الخلود، برغم ترديهم في هوة التزلف إلى الوزراء والأمراء والخلفاء

قال أبو نواس في مدح الأمين:

عقتُ بحبل من حبال محمد

أمِنتُ به من طارق الحدثانِ

فغضب الله عليه وعلى اللامين وأوردهما موارد البلاء

واعتر البحتري بصحبة المتوكل فضاع الأول وهلك الثاني

ص: 9

أنا أدعو الأدباء إلى التخلق بأخلاق الصوفية. . . هل تذكرون بعض مذاهب الصوفية؟

اسمعوا هذا الحديث:

انتفع الصوفية بسماحة الإسلام، وهو دين إيابي أن يكون بين المسلم وربه وسيط، فقرروا انهم ارفع من الانبياء، وهذا كفر بظاهر القول، ولكنه في الجوهر غاية الإيمان، لأن المهم أن تصح الصلة بصاحب العزة والجبروت، والإنباء عباد الله قبل أن يكونوا مرسلين وبعد أن كانوا مرسلين، وهم اشرف من أن يدعوا مشاركة الخالق في طاعة المخلوق

ومشكلة الأدباء أيهون من مشكلة الصوفية، فنحن لا ندعوهم إلى الترفع على الأنبياء، وإنما ندعوهم إلى الترفع على الناس. ندعوهم إلى أن يعرفوا أنفسهم. ندعوهم إلى أن يعرفوا نعمة الله عليهم. ندعوهم إلى التنسك في سبيل المبادئ الروحية. ندعوهم إلى إنقاذ الأدب من مزالق الرياء

فلان الذي يكتب في المجلة الفلانية عن الدين والأخلاق لا يستبيح المرور بشارع فؤاد ولا عبور جسر قصر النيل، مخافة أن يقول الناس انهم راوغه يسير هنا أو هناك

فكيف تعبدون الله يا عبيد الناس، وهل يعبد الله من يخاف الناس؟

اطرحوا هذه البراقع. اطرحوها، اطرحوها، والله المسؤول عن أقواتكم، أن ضاعت بسبب الصدق، فبينكم وبين الله عهد وثيق، عهد يقضي بأن لا تكون العزة لغير الصادقين، والله لا ينقض الميثاق

في كل ميدان فرص ينفع فيها التمرين والتدريب، إلا الأدب، فهو موهبة ربانية لا تنال بجهاد الأنفس والاموال، ولا يظفر بها الملوك، إلا إن كانوا موهوبين

تستطيع الشعوب أن تجلس على عرش الملك من تشاء، ولكنها تعجز عن خلق الأديب، لأن الأديب من إبداع المبدع الوهاب، ومن كرم الله على الإنباء أن جعلهم فصحاء. وهل فات موسى أن يسال الله تأييده بلسان هارون؟

الأدب سلطنة لا يجوز عليها الذل

والكفر بالأدب كفر بحق الله في اصطفاء من يشاء

ثم ماذا؟

ثم يبقى القول بأن إيمان الأدباء بالله ضعيف ضعيف، فما زالوا يتوهمون أن لهم حوائج مع

ص: 10

الخلائق، وهذا شرك لا يرضاه الله ولا نرضاه

أنا أعرف السر في انهيار دولة الأدب في جميع الأجيال، فقد كان الأدباء يجافون الله ويصافون الناس

فيا أيها المبدع الأول والأخير لأنوار القلوب وأضواء العقول، تفضل فاجذبنا اليك، حتى لا نرى روحاً سواك، ولا نشهد إلا اياك، ولا نستجير بغير حماك، ولا نعتمد إلا عليك فما يعتمد على الخلائق غير الأذلاء

الأدب خير ما أبدعت، فهو منك واليك، ولك الحمد وعليك الثناء.

زكي مبارك

ص: 11

‌في الأدب المقارن

الندوات الأدبية الخاصة

في الغرب

للأستاذ صلاح الدين المنجد

عني مؤرخو آداب الأمم الغربية بتصوير المجالس الأدبية التي كانت تعقد في أوربا في القرون الخوالي. فقد لاحظوا أن أبهاء الأمراء والنبلاء، وانداء الفلاسفة والعلماء، ومجامع الشعراء والادباء، كان لها في أحايين كثيرة اثر بالغ في توجيه الأدب وجهة معينة، وإكسابه لوناً لا عهد له به من قبل، وتوشيته بصور طريفات فيها جمال وحياة

كانت وحدة الأذواق والميول، تدفع في الغالب إلى عقد هذه المجامع، وربما كان السبب في بعض الأحايين، نبل أميرة، أو ذكاء سيدة، أو عبقرية أديب، أو الطمع في غرض نبيل والسعي وراء غاية مثلى. وقد بدأت هذه المجامع تظهر منذ القرن السادس عشر؛ ففي إسبانيا أسس أول مجمع أدبي حوالي سنة (1530) وكان يرأسه (دلافيرجا وكان ينهج هو وصديقه نهج الشعراء الإيطاليين ويقلدون أثارهم تقليداً شديداً

وجعل فريق من المعجبين بالشاعر الإيطالي (بترارك) في فرنسة، مدرسة خاصة به في (ليون)، في منتصف القرن السادس عشر. وكان أفراد هذه المدرسة يتتبعون أثار ذلك الشاعر، ويسلكون نهجه، وينشرون مبادئه لأخلاقية، ويرون أن شعره احسن وارفع شعر ينبغي للشعراء أن يغترفوا من معينه دائماً

وفي هذه الحقبة، اعني في منتصف القرن السادس عشر، أسس في باريس مجمع سموه (بلياد (1550). وكان يرأسه (رونسار الشاعر، وفيه ستة آخرون، وقد كان هذا الاسم يطلق في القرون الخالية على بنات أطلس وبليون السبع اللواتي قتلن أنفسهن من الخيبة، ثم انقلبن إلى نجوم تسطع في السماء، كما تروي الأساطير. وقد اتخذ هذا الاسم سبعة من الشعراء اليونانيين لمجمع لهم؛ ثم أطلقه رونسار على مجمعه بعدهم. وكان رونسار وأصدقاؤه ينشرون الشعر الإيطالي وينقلونه إلى الفرنسية. وقد بينا هذا في مقالنا عن اثر الآداب الأجنبية في الأدب الفرنسي في هذه المجلة، فليرجع إليه

ص: 12

وفي إنجلترا جمعت (الكونتس دوبمروك حولها فئة من الشعراء الذين كانوا يقلدون ماسي الشاعر الفرنسي (كهيبوليت و (اليهود وغيرهما، وكانوا يحاولون الوقوف دون انتشار الدرام الحرة التي قامت قبل شكسبير

وفي سنة (1770) قام فريق من الأدباء في غوتنجن فأسسوا مجمعاً سموه (مجمع الاتحاد وكان هدفهم تمجيد (فولتير الشاعر الفرنسي و (ويلند الشاعر الألماني، الذي أطلقوا عليه اسم (فولتير ألمانية) وكانوا معجبين أيضاً بالشعراء الإنجليز

وفي الوقت نفسه أسس في ألمانية المجمع المسمى: وكان يمجد (اوسيان) و (شكسبير) الإنجليزي، وروسو الفرنسي

وفي أواخر القرن الثامن عشر، كانت المدرسة الابتداعية الألمانية التي كان يرأسها (شلجل تتعطش لآثار شكسبير و (سيرفانتس الإسباني، وأدباء الماسي في إسبانية والبرتغال

وقامت في السويد، في أوائل القرن التاسع عشر، جمعية العصبة السويدية المسماة لتنقل إلى شعرها محاسن الشعر الابتداعي الألماني والإنجليزي.

أما في فرنسة، فقد قامت في القرن التاسع عشر عدة ندوات أدبية؛ فقد كان (ستاندال) الروائي، و (آمبير الأديب المؤرخ، و (جاكومونت الرحالة، و (ميريمه الكاتب الروائي، يجتمعون في دار (دليكلوز المصور الشهير والنقاد اللاذع، ليقروا أثار اوسيان الايقوسي، وروائع شكسبير، ويمجدوا آياتهما

وكان هناك عصبة هوغو المسماة (سيناكل ومعنى هذا الاسم، صومعات صغار أدبية. وكان يطلق في الزمن الغابر على الغرفة التي كان المسيح عليه السلام يجمع فيها تلاميذه ثم أصبحت تطلق على كل اجتماع، وخصت أخيراً بمجمع هوغو في فرنسة. وكان من أفراد هذا المجمع (دفيني الشاعر المتشائم، و (نودييه القصصي، وديشامب الروائي، ودموسيه صاحب الليالي، وغيرهم. وكانوا مأخوذين بروائع شكسبير و (بيرون و (سكوت يتتبعون أثارهم ويستوحونها في كثير من الأحايين

وقد نجد في بعض الأحايين مجامع أدبية كانت تقوم حول مجلة أفرادها هم مؤسسوها والمحررون فيها. كالمجمع الذي قام حول مجلة وفي فرنسة، ومجلة (? في إسبانية، ومجلة في السويد، ومجلة (? في ألمانية، ومجلة في إيطالية.

ص: 13

والى جانب هذه المجامع، كانت تقوم أبهاء الأدب وصالوناته. وقد كان لها اثر في نمو الأدب ونهضته وبعثه. واقدم بهو هو بهو اوتيل درامبويه (? وكان لصالونات باريس في القرن الثامن عشر أثر وصدى بعيد، وساعدت على انتشار ألوان طريفة من الآداب الأجنبية. كصالون مدام ديفاند، والآنسة دلسبيناس. . . وكان رجال هذه الأبهاء متأثرين بالأدب الإنجليزي. وفي ستوكهولم كانت سيدتان مركزين للأدب فتحا قصريهما لاهله، وهما: السيدة نوردينفلخت والسيدة لينوجرن ووفي لوندرة قام صالون الدوقة دمازاران في القرن السابع عشر، وصالون اللادي هولاند في القرن الثالث عشر. وكانت هذه الأبهاء وسيطة لنقل الأدب الأجنبي إلى إنجلترا، ومن إنجلترا إلى فرنسة.

وفي القرن التاسع عشر نجد في فرنسة صالون (مدام موهل و (مس ماري كلارك). على أن اعظم هذه الصالونات أثرا، صالون (مدام دستال) في قصر (كوبه) الذي فتح أبوابه من سنة 1795 إلى سنة 1811. وكان مهبطاً للعلماء ومزاراً للأدباء

وتبيان اثر هذه المجامع والأبهاء في نشر الآداب وإحيائها، بصورة أكثر تفصيلاً يحتاج إلى صفحات مطولات. غير أن من المقرر أنها كانت وسيلة إحياء وتلقيح وازدهار، وأنها كانت سبباً في تقدم ونمو وانتشار

هذه لمح عن مجامع الأدب الخاصة في الغرب، ذكرت ما كان له منها شان واثر كبير. وهناك مجامع وأبهاء اقل شأناً أغفلتها. وليت أدباءنا يعنون بنشر ما يعرفونه عن المجامع الأدبية الخاصة في مصر والشام والعراق، في العصر الحالي أو العصر الحاضر، في هذه المجلة. فإن في ذلك طرافة ومتعة وتسجيلاً لصفحة من صفحات تاريخ أدبنا الذي نكتبه اليوم.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 14

‌الشعب الحبشي

للدكتور فؤاد حسنين

إذا تحدثت لقراء الرسالة عن الحبشة فإنما أتحدث عن بلاد تربطها بالشعوب العربية روابط عديدة اذكر منها على سبيل المثال إلى جانب الجنس واللغة، الدين والجوار. الشعب الحبشي في مجموعه سامي حامي، ولفظ حبشة إن دل على شيء، فإنما يدل على تلك القبائل التي استوطنت بلاد العرب الجنوبية ولعبت دوراً هاماً في التاريخ المعيني السبائي. والتاريخ يحدثنا أن هذه القبائل، اعني قبائل حبشة، هاجرت من بلاد العرب الجنوبية حوالي القرن العاشر قبل الميلاد واستوطنت الجزء الشمالي من بلاد الحبشة فأطلق على ذلك الجزء اسمها. ومن ثم عمم العرب هذه التسمية فأطلقوها على هذه البلاد الواقعة بين خطي عرض 4 و15 شمال خط الاستواء. فسكان البلاد الذين أطلق اسمهم على تلك البلاد عرب وعرب خلص نزحوا من بلاد معين وسبأ في عصر كان يطلق فيه بحق على بلاد اليمن بلاد العرب السعيدة حيث المدنية زاهرة والحضارة زاخرة. نزحت تلك القبائل إلى القارة السوداء فحملت معها كثيراً من معالم الحضارة العربية الجنوبية من دين وكتابة وعلم وأدب، فغزت العقول كما غزت البلاد، وأقامت هناك الدعائم الأولى للحضارة الأثيوبية وأزالت العقبات التي كانت تعترض تقدم العقل الإفريقي ومهدت للديانات السامية السماوية كاليهودية والمسيحية والإسلام بفتح تلك البلاد وتثبيت إقدامها. نزلت قبائل الحبشة ذلك الصقع الإفريقي فوجدت فيه عنصراً إفريقياً وأخر حامياً انفصل عن أرومته السامية الأصلية فامتزجت بهما وتكون من هذا المزيج الشعب الحبشي الحالي، فهو إذاً شعب مركب من عنصر إفريقي قديم، وأخر حامي أو كوشي، وثالث سامي. فنحن نرى من هذا أن سكان البلاد ينتمون إلى جنس هو جنسنا، ولسانهم، قديمه وحديثه، ينتمي إلى الأسرة السامية الحامية التي تضم كثيراً من اللغات كالعربية والمصرية القديمة. وقد عرضت لإثبات هذه العلاقة بين الأحباش والساميين أسطورة حبشية قديمة تتصل عناصرها بقصة من قصص الكتاب المقدس والقران الكريم اعني قصة ملكة سبأ وسليمان. فالأسطورة الحبشية ككثير من الأساطير تتحدث عن تنين عظيم كان يحكم البلاد قروناً عديدة وكان على جانب عظيم من البشاعة والشراهة إذ كان يفترس يومياً ما لا يقل عن عشرة بقرات

ص: 15

ومثلها من الثيران وألف رأس من المعز ومائة من الضان وكثيراً من طيور السماء إلى جانب ما يقدم له من العذارى، فضاق السكان به ذرعاً فلجئوا إلى شخص اشتهر بالقوة يسمى (انجابو) وفاوضوه في أن يقتل التنين ويتولى هو الملك عليهم، فقبل (انجابو) وقتل التنين وتولى الملك وانجب ابنة تسمى (ماكدا) وهي التي تعرف في التاريخ باسم ملكة سبأ ودخلت ملكة سبأ في حرم سليمان، وفي طريقها إلى بلادها وضعت غلاماً أسمته (ابن حكيم) أو ابن سليمان، وهو المعروف في التاريخ الحبشي باسم (منليك الأول) مؤسس الأسرة السليمانية التي جلست على عرش الحبشة من (950 ق. م إلى 1855 م.). فمن هذه الأسطورة تعرف العلاقة بين الفرعين الساميين من ناحية، ونفهم الحكمة في أن نجاشي الحبشة يعتبر نفسه أسد سبط يهوذا الذي رمز إليه في العلم الحبشي بأسد متوج شاهراً بيمينه صولجان القوة والجبروت.

وكما أن بلاد الحبشة هي الملتقى لهذه العناصر السامية الحامية، فهي الأرض التي نجد من بين سكانها الوثنيين واليهوديين والمسيحيين والمسلمين. فالوثنيين يدينون بوثنية تحمل إلى جانب طابعها الأفريقي طابعاً أسيوياً يمنياً، فإلى اليوم ما زلنا نقرأ في الكتب الحبشية والآثار الأدبية كثيراً من الألفاظ الوثنية القديمة مثل (محرم) اله الحرب، و (عستر) اله السماء، و (مدر) اله الأرض، و (بحر) اله البحر. والى اليوم أيضاً ما زال أصحاب هذه الديانة يلعبون دوراً هاماً في التنافس القائم بين المسيحية والاسلام، فمن بين العشرة ملايين نسمة التي يتكون منها الشعب الحبشي نجد نحو ثلاثة ملايين يدينون بالمسيحية التي ادخلها المبشرون البلاد في القرن الرابع الميلادي، وأصبحت دين الأسرة الحاكمة الرسمي عام 350 م عندما اعتنقها الملك (عزانا). أما البقية الباقية من السكان فكثرتها تدين بالإسلام ولا يقل معتنقوه عن خمسة ملايين نسمة. ومن الجدير بالذكر هنا أن قبائل كثيرة مسيحية ووثنية أخذت تسارع إلى الدخول في الإسلام في السنوات الأخيرة حتى أزعج ذلك كثيراً من الدول الأوربية فسارعت إلى مكافحته والوقوف في وجهه. وهذا التنافس بين الإسلام والمسيحية ليس حديث عهد في الحبشة. فالتاريخ الحبشي نفسه يحدثنا أن تاريخ المسيحية هناك عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح لتثبيت قدمها ومقاومة انتشار الإسلام. ولعل أهم عصر يتجلى لنا فيه هذا الصراع الديني هو الزمن الممتد ما بين عامي 1541

ص: 16

و1543؛ ففي ذلك الوقت ظهر قائد حبشي مسلم يسمى أحمد بن إبراهيم، اشتهر ببسالته ومهارته الحربية، فبعد أن كان جندياً بسيطاً اصبح أميراً على هرر. وفي عام 1527 هاجم بقية الولايات الحبشية واستولى عليها وأخضعها لسلطان المسلمين، وهرب الملك المسيحي (لبنا دنجل) واعتصم بالجبال، ولولا أنه استعان بالبرتغاليين الذين خفوا لمساعدته ما استطاعت المسيحية أن تعود ثانية إلى الحبشة. لكن هذا النفوذ الأوربي الذي استعانت به المسيحية في ذلك العصر عاد على الحبشة بأوخم العواقب؛ فمنذ النصف الثاني من القرن السادس عشر أخذت تعنى بعض الدول الأوربية بالحبشة وظهرت في عالم السياسة المسالة الحبشية التي كانت سبباً قوياً من أسباب انقسام أوربا إلى معسكرين عظيمين لن يحل السلام بلادهما إلا بعد أن تتقوض انظمة، ويعم الخراب، ويكثر الدمار. وبيان ذلك الاهتمام بالمسالة الحبشية أن أوربا منذ ذلك الحين أخذت تبعث الجمعيات التبشيرية إلى جانب بعض الرحالة والعلماء. وفي القرن السابع عشر اخذ المستشرقون الألمان يعنون بتاريخ الحبشة ولغتها. وفي القرن الثامن عشر نجد الرحالة والمستشرق الإنجليزي (بروس) يدخل الحبشة عن طريق مصر مكتشفاً منابع النيل. وفي عام 1855 نجد أحد قطاع الطريق من الأحباش الذي كان راهباً هرب من الدير يشن الغارات على سائر الأمراء وينتزع السلطان من أيديهم ويكلف (أبونا) أن يتوجه (نجوس نجست ذَ إيتيوبيا) أي ملك ملوك إيتيوبيا وتسمى باسم (تيودور الثاني) واخذ يقوم بإصلاحات داخلية كبيرة، فألغى الرق وحرم تعدد الزوجات وضم إليه إقليم (شوا) واصبح ذلك الملك الذي كان في صباه فقيراً مشرداً والذي كان يسمى (كسا) والذي كانت أمه تبيع في أسواق (جندار) غنياً قوياً وحد الحبشة واخذ يخلق من شعبه أمة قوية مهيبة الجانب، فاصطدم ببعض الأجانب المقيمين في بلاده، فأرسلت إنجلترا عام 1867 اللورد (نابيير) على رأس حملة تأديبية للحبشة استولت بدون كبير عناء على حصن (مجدلا)، ولما أيقن الملك بالهزيمة انتحر، فكان موته سبباً في تفكك الوحدة الحبشية أيام خلفه الملك (يوحنا الرابع) الذي توجه الإنجليز عام 1872. وفي أيامه قام ابن والي إقليم (شوا) وطالب بإعادة إقليمه إليه فمنحه واصبح ملكاً عليه وتسمى باسم (منليك)، ومن حسن حظه أن يوحنا قتل في حربه مع الدراويش عام 1889 فأعلن (منليك) نفسه ملك ملوك واخذ يعمل جهده لجمع صفوف أفراد شعبه فهاجمته إيطاليا فهزمها شر

ص: 17

هزيمة في موقعة عدوة عام 1896. وقد كان منليك هذا محبوباً من شعبه، حتى أنه يقسم به إلى اليوم، كما تم في أيامه الخط الحديدي من جيبوتي إلى اديس ابابا. وفي عام 1908 مرض مرضاً أقعده عن القيام بمهام الحكم، فتنازل عن الملك لامرأته (تيتو) وتوفي هو في 12 ديسمبر عام 1913، وتولى الملك بعد وفاته حفيدة (ليدو يسوع) وكان يميل إلى الإسلام فلما ظهرت ميوله إلى الإسلام والمسلمين اجتمعت عليه عوامل مختلفة خارجية وداخلية وخلعته وزجت به في السجن عام 1917، وتولت بعده الأميرة (زوديتو) ابنة (منليك) والى جانبها الرأس (تفاري) ابن عم (ليدو يسوع) حاكما على البلاد، وبقيت السلطة في يد (زوديتو) حتى 7 أكتوبر 1928 إذ نودي بالراس (تفاري) ملكاً فقط. وبعد وفاة القيصرة عام 1930 اصبح ملك ملوك في 2 نوفمبر 1930 ولقب بلقب (هيلا سلاسي) أي قوة الثالوث. وما كاد يجمع عزيمته للعمل على رفع مستوى شعبه علمياً وأدبياً وعسكرياً حتى انقضت عليه إيطاليا الفاشستية واغتصبت منه عرشه. لكن هذا النصر الإيطالي لم يكن في الحقيقة إلا انتصار الحديد ووسائل القتال الحديثة التي لم تكن متوفرة عند الحبش على الشجاعة والبطولة والإيمان بالقول المأثور (النصر مكتوب لأسد سبط يهوذا) الذي تحقق أخيراً بفضل تعاون الأسدين اليهوذي والسكسوني.

فؤاد حسنين

مدرس بكلية الآداب - جامعة فؤاد الأول

ص: 18

‌أطوار الوحدة العربية

عوامل ثورة العرب

للأستاذ نسيب سعيد

أظنك لا تزال تذكر أني وعدتك في حديثي الماضي أن افصل لك ما أجملت من الأسباب المباشرة لثورة العرب الكبرى. وقد رددت هذه الأسباب إلى عوامل أربعة، وهي: العامل الشخصي، والإقليمي، والديني، والقومي. وهاأنا الآن - برا بالوعد الذي قطعته على نفسي - اشرع بالإسهاب والتفصيل فأقول:

1 -

العامل الشخصي

يذهب الباحثون إلى القول أن في مقدمة العوامل المباشرة للثورة العربية اعتقاد زعيمها (الحسين بن علي) بأن رجال الدولة العثمانية قد انتزعوا كل ثقة منه ومن انجاله، وانهم يتحينون الفرص للقبض عليه وإقصائه ونفيه إلى أقاصي البلاد. ولا يخفى عليك أن الغاية الأساسية للترك من إرسال وهيب باشا القائد التركي العام إلى الحجاز وتزويده بما زود به من سلطة واسعة، هو لأجل القضاء على كل ما (للحسين) من نفوذ وشوكة في البلاد العربية. ويعترف جمال السفاح في مذكراته أن وهيب باشا هذا طلب من الحكومة إرسال فرقة من الجند لتنفيذ مشروعه، ولولا مفاجأة الحرب العظمى - وقد جاءت على حين غرة - لنفذ ذلك المشروع الظالم، ولقضوا على (الحسين) قضاء أبدياً، بل لقضوا على كل حركة أو نهضة قومية في بلاد العرب

ويضاف إلى ذلك ما يردده البعض من المؤرخين وهو أنه كان (للحسين) عيون في ديوان حكومة مكة، وفي مكتب برقها، وفي الباب العالي أيضاً يوافونه بكل ما يدور بشأنه من مكاتبات بين الأستانة ومكة، ويطلعونه على جميع الخطط والتدابير. وما كان باستطاعة الاتحاديين الترك معرفة شيء من إسراره وخططه لأنه كان حذراً، شديد التكتم؛ وقد ظل يجاملهم ويلاطفهم، حتى اضطرهم إلى استبدال وهيب باشا بغالب باشا في أوائل زمن الحرب الماضية، فارتاح من خصم شديد المراس، وخلا له الجو في العاصمة العربية فتصرف كما أراد وتسنى له أن يستأثر بمقادير كبيرة من السلاح في خلال سنتي الحرب

ص: 19

الأوليتين، كما استطاع الحصول على مبلغ كبير من المال لا يقل عن 60 ألف ليرة عثمانية ذهب من جمال السفاح. ولعل خوفه من الانتقام هو الذي جعله يشترط على الترك في خلال المفاوضات التي دارت بينه وبينهم جعل الأمارة العربية وراثة في أنجاله لأنه كان يخشى إقصاءه في أول فرصة تسنح، فأراد لذلك أن ينال من الدولة العثمانية عهداً باستبقاء الأمارة في بيته وذريته فيطمئن ويرتاح، فأبى عليه رجال الترك ذلك

2 -

العامل الإقليمي

ويأتي العامل الإقليمي أو الاقتصادي بعد العامل الشخصي، ويجب أن يحسب حسابه أيضاً؛ وقد نشأ عن مركز الحجاز الاقتصادي وعن حالته الاستثنائية. فالحجاز قطر مجدب أو واد غير ذي زرع كما وصفه التنزيل العزيز. وقد اعتاد سكانه أن يعيشوا مما يدره عليهم موسم الحجيج. ولا يخفى أن الحرب العظمى أعلنت في شهر رمضان عام 1332 أي قبل موسم الحجيج بثلاثة اشهر تقريباً، فضرب الحصار البحري على سواحل الحجاز في البحر الأحمر فتعطل بذلك موسم الحج، وشعر سكان الحجاز بالضائقة الاقتصادية الخانقة، وشعروا كذلك بألم الجوع، فكاتب الشريف (حسين) الحكومة وبسط لها الموقف الاقتصادي في القطر المقدس بسبب تعطيل موسم الحجيج فاعتذرت بسوء الحالة، وبحاجة الجيش إلى القوت، ولم ترسل شيئاً يهون على العرب هناك أمرهم وما هم فيه من ضنك وضيق فجاءوا الحسين يتوسلون إليه أن يعمل لإنقاذهم، والوسيلة الوحيدة للخلاص من تلك الضائقة المستحكمة الحلقات كانت بمحالفة البريطانيين، والاتفاق معهم على إلغاء الحصار البحري فتعود السفن والبواخر إلى زيارة الحجاج حاملة الميرة والحجاج والأموال والخيرات

3 -

العامل القومي

وخلاصة ما يقال فيه أن الحسين، وقد كان العرب ينظرون إليه كأكبر زعيم عربي في ذلك العهد كبر عليه أن تساق الحرائر من أبناء أمته إلى الأناضول سبايا تحت ستار النفي والإبعاد، وإن يقتل كبار قومه، ويقبلوا ويمحوا من الأرض ويشتت شملهم لا لذنب جنوه ولا لاثم اقترفوه، وإنما لأنهم طالبوا الدولة العثمانية بإصلاح بلادهم العربية خوفاً من أن يؤدي الإهمال فيها إلى تدخل الدول الأجنبية في شؤونها باسم الإصلاح - كما جره من قبل

ص: 20

في البلقان - ولذلك لم يجد الأمير العربي بداً حينما وقعت الواقعة، واصم الترك آذانهم، من إجابة ملتمسة بالعفو عن زعماء العرب وأحرارهم من إعلان الثورة الكبرى انتقاماً لهم من الترك، وطلباً للثار، ولإنقاذ بقايا السيوف من أبناء العروبة الأحرار، وقد كانوا مهددين بالفناء والموت المحتم.

وهنالك شبه إجماع بين الباحثين في القضية العربية على أن إسراع (الحسين) في إعلان ثورة العرب بعد الفتك بالرعيل الأول والثاني من الشهداء الأبرار، ونفي الأسر الكبيرة العربية إلى أقاصي الأناضول، حمل الترك على تغيير سياستهم وأساليبهم كما اضطرهم إلى استقدام جمال باشا وتنحيته عن العمل في بلاد الشام، فعاد إلى عاصمة الترك يجر أذيال الخيبة والانكسار بعدما فشلت مساعيه، وخابت أماله في إنشاء عرش له في دمشق يتبواه ويورثه لأبنائه من بعده وعلى الباغي تدور الدوائر

هذا من ناحية واحدة، أما من الناحية الأُخرى فقد كان الاعتقاد سائداً بين العقلاء أن النصر في ختام الحرب سيكون للإنكليز وحلفائهم، فتدور الدائرة على الألمان وأنصارهم ومنهم الترك فتنقرض الدولة العثمانية، ويموت الرجل المريض، ويستولي بالتالي - الحلفاء على أراضي تلك الإمبراطورية الواسعة، وبلاد العرب من جملتها، وهكذا يقع العرب في أيدي الدول الغربية الكبرى؛ ولذلك كان لابد للحسين بصفته زعيم العرب الأكبر يومئذ من الاتصال بخصوم الترك والألمان، وعقد المواثيق معهم لإنقاذ دنيا العرب من أيدي الظلم والاستعباد، وإنشاء الدولة العربية الكبرى الموحدة، فتحل في الشرق مكان الدولة العثمانية المنقرضة، وتجدد مجد العرب الخالد، تبعث عزهم الطريف التالد، وتحيي دولتهم العظيمة

4 -

العامل الديني

وأخيراً يجب إلا ننسى العامل الديني أيضاً، فقد كان الحسين، وهو صلب في دينه، شديد التمسك بأحكام الشريعة السمحاء، مغرقاً في المحافظة على التقاليد الإسلامية الحنيفة، يعتقد بكفر الاتحاديين الترك وخروجهم على الإسلام لإعمال بسطها بسطاً وافياً في المنشور الذي أذاعه على العالم الإسلامي يوم إعلان ثورة العرب، وقد تنتهي من هذه المقدمة السلبية إلى نتيجة إيجابية وهي فرض قتالهم على كل مسلم، والجهاد فيهم إنقاذاً للامة من شرورهم. وقد قام بهذا الواجب حين أعلن الثورة عليهم وقاتلهم قتالاً رهيباً. . .

ص: 21

تلك هي خلاصة العوامل التي عجلت في إعلان ثورة العرب الكبرى، ودفعت أميرهم (الحسين) إلى الصراع مع الترك وأنصارهم، والانضمام إلى البريطانيين وحلفائهم.

والباحث المدقق في هذه الثورة التي نشبت في الحجاز أولاً ثم امتدت إلى بلاد الشام وغيرها من أقطار العروبة يجد أنها تمتاز عن الثورات والحركات العربية القومية الأخرى، بكونها أول حركة استقلالية قام بها العرب مطالبين بالحرية والاستقلال، والانفصال عن الترك والإفلات من نير الدولة العثمانية الجائر لتأسيس ملك عربي مجيد، وتقلدوا السلاح لأجل ذلك. كما أنها كانت اعم ثوراتهم وأوسعها نطاقاً فقد اشترك فيها أبناء الحجاز، ومصر والشام والعراق واليمن ونجد والشمال الأفريقي فوقفوا جنباً إلى جنب يقاتلون الترك تحت راية العروبة الخفاقة، فأنقذوا الحجاز وحرروه من كل نفوذ أجنبي، ثم واصلوا السير نحو الشام فاستولوا على جنوب القطر الشامي ثم اخترقوه وبلغوا أقصى حدوده الشمالية، ولو ساعدتهم الظروف لواصلوا التقدم إلى العراق، ولاستولوا عليه أيضاً. على أن ما فاتهم في عام 1918 أدركوه في سنة 1920 فقد انشئوا حينئذ حكومة عربية برئاسة أحد أبناء (الحسين) في تلك الربوع

فهذا الطابع الخاص الذي طبعت به ثورة (الحسين) جعل لها مقاماً ممتازاً في نفوس العرب على اختلاف أقطارهم، وتباعد ديارهم، وجعلهم يكبرون شانها، ويحتفلون بذكراها، يضاف إلى ذلك أنها أنقذت الكثيرين من رجال سوريا والعراق من موت محتم أو من شقاء دائم، فقد كانت الخطة التي سار عليها الاتحاديون الترك في ذلك العهد المظلم تقضي بنفي الأسر العربية الكبرى إلى أقاصي الأناضول لتتريكها وإفنائها، واحتلال الأرمن محلها فيصبح الناس في الشام بلا سراة، كما أنها اضطرت الترك لإطلاق سراح كثيرين من الذين كانوا معتقلين في غياهب السجون، وكانوا ينتظرون صدور الأمر بإعدامهم من آن لآخر شان إخوانهم الشهداء الذين سبقوهم.

وسيقدر العرب الأبرار - كلما طال بهم الزمن وامتد - ثورة أجدادهم هذه حق قدرها ويكبرونها ويجلونها ويدركون أنها من أنبل الثورات وأشرفها، وإن الدعايات التي بثها الترك والألمان ضدها في أبان الحرب الماضية لتشويه سمعتها، ما كانت سوى أضاليل اقتضتها مصلحتهم السياسية؛ ورغم النقائص التي اقترنت بها أسدت للعرب يداً كبرى،

ص: 22

وفتحت لهم باب الحياة القومية، وعلمتهم كيف يثورون على الظلم والاستبداد، ويقاتلون الظلام والمستبدين، وكيف يطلبون الثار والانتقام لأحرارهم وزعمائهم ومفكريهم الذين غدر بهم الترك، وسقوهم كاس الردى لأنهم نشروا (الفكرة القومية) المقدسة ودعوا إليها. أما كيف أعلنت الثورة، وأين كانت ميادين الصراع، فهذا سيكون موضوع حديثنا المقبل، فإلى اللقاء.

(دمشق)

نسيب سعيد المحامي

ص: 23

‌4 - خزانة الرؤوس

في دار الخلافة العباسية ببغداد

للأستاذ ميخائيل عواد

(ج) رأس بن الحسن بن حمدان، رؤوس جماعة من أصحابه

ذكر مسكويه في حوادث سنة 304هـ أنه (قبض على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وجميع اخوته وحبسوا في دار السلطان. وكان هرب ابن الحسين بن حمدان في جماعة من أصحابه وبلغت هزيمته أمد، فأوقع بهم الجزري وقتل ابن الحسين وجماعة من أصحابه وحملت رؤوسهم إلى الحضرة)

(د) رأس ليلى بن النعمان الديلمي

كان من ماجريات سنة 309هـ، أنه (دخل رسول صاحب خراسان براس ليلى بن النعمان الديلمي الذي خرج بطبرستان

(هـ) رأس أحمد بن علي

ارتكب أحمد بن علي وهو من أمراء الأعاجم من الظلم والشر أمراً عظيما، وذاع خبر شره؛ فخافه الناس. ولكن أمد الظلم قصير، (فلما كان في ذي الحجة من سنة 311هـ، ورد الخبر على ابن الفرات بإيقاع ابن أبي الساج بأحمد بن علي أخي صعلوك، وقتله إياه، وأنه اخذ رأسه وهو على حمله إلى بغداد)

ثم قال مسكويه في أحداث سنة 312هـ، إن (في هذه السنة ورد الكتاب بشرح الخبر في مصير ابن أبي الساج من أذربيجان إلى الري ومحاربته أحمد بن علي، وحمل رأس أحمد ابن علي وجثته إلى مدينة السلام)

(و) رأس لصيدلاوي

لم تخل خزانة الرؤوس حتى من رؤوس العيارين، والشطار وقطاع الطرق: فهذا المعروف بالصيدلاوي كان (يقطع الطريق فاحتال عليه بعض الولاة فدس إليه جماعة من الصعاليك اظهروا الانحياز اليه، فلما خالطوه؛ قبضوا عليه وحملوه أسيراً إلى الكوفة، فقتل وحمل رأسه إلى بغداد)

ص: 24

(ز) رؤوس جماعة من الفرنج:

كان من أجل أنباء سنة 552هـ: الواقعة بين الإسلام وبين الفرنج. قال ابن الجوزي: (وكانت وقعة عظيمة بين محمود بن زنكي وبين الإفرنج، وفتح عسكر مصر غزة واستعادوها من الإفرنج، ووصل رسول محمود بتحف وهدايا ورؤوس الإفرنج وسلاحهم واتراسهم)

3 -

نصب الرؤوس في جانبي بغداد

(ا) رأس رافع بن هرثمة:

من الأنباء التي حفلت بها سنة 284هـ: (قدوم رسول عمرو بن الليث الصغار براس رافع بن هرثمة في يوم الخميس لأربع خلون من المحرم على المعتضد، فأمر بنصبه في المجلس بالجانب الشرقي إلى الظهر، ثم تحويله إلى الجانب الغربي ونصبه هنالك إلى الليل، ثم رده إلى دار السلطان. وخلع على الرسول وقت وصوله إلى المعتضد بالرأس)

4 -

نصب الرؤوس على جسور بغداد

(ا) رأس القرمطي، رؤوس جماعة من قواده وأصحابه:

والقرمطي هذا، هو الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، الذي اشتهر امره، وبالغ في الظلم والفساد، وهزم جيوش الخليفة غير مرة: وقد شرح أمره وأعماله جملة من المؤرخين، فإذا أردتها فارجع إلى سنة 291هـ وما قبلها تجد أخباره مفصلة. والذي يهمنا هاهنا رواية تعذيبه وقطع رأسه إذ كان قد حان قطافه. ودعنا نستل خبره من الطبري الذي قال في الوقعة بين القرمطي هذا وبين أصحاب الخليفة:(. . . ولما تقدمت (الكلام لمحمد بن سليمان الكاتب) في جمع الرؤوس، وجد رأس أبى الحمل، وراس أبي العذاب، وأبي البغل وقيل النعمان قد قتل؛ وقد تقدمت في طلبه واخذ رأسه وحمله مع الرؤوس إلى حضرة أمير المؤمنين أن شاء الله)

وهاهو ذا يحدثنا عن القرمطي وأصحابه يوم جيء بهم أسرى إلى بغداد لينالوا جزاء ظلمهم وعيشهم، ولا يبعد أنه رأى المشهد بعينه؛ فأمعن في الوصف وبالغ بذكر هذه الحقيقة.

ص: 25

ودونك ما قاله: (. . . ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الأول أمر المكتفي القواد والغلمان بحضور الدكة التي أمر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها فحضروها؛ وحضر أحمد بن محمد الواثقي وهو يومئذ يلي الشرطة بمدينة السلام، ومحمد بن سليمان كاتب الجيش، الدكة فقعدا عليها. وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفي معه من الرقة، والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة الذين جمعوا من الكوفة، وقوم من أهل بغداد كانوا على رأي القرامطة وقوم من الرفوغ من سائر البلدان من غير القرامطة، وكانوا قليلاً، فجيء بهم على جمال واحضروا الدكة ووقفوا على جمالهم، ووكل بكل رجل منهم عونان، فقيل انهم كانوا ثلاثمائة ونيفاً وعشرين وقيل ثلاثمائة وستين. وجيء بالقرمطي الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة ومعه ابن عمه المعروف بالمدثر على بغل في عمارية، وقد اسبل عليهما الغشاء ومعهما جماعة من الفرسان والرجالة، فصعد بهما إلى الدكة واقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنساناً من هؤلاء الأسارى؛ فقطعت أيديهم وأرجلهم، وضربت أعناقهم واحداً بعد واحد؛ كان يؤخذ الرجل فيبطح على وجهه فيتقطع يمنى يديه ويحلق بها إلى اسفل ليراها الناس؛ ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يسرى يديه، ثم يمنى رجليه، ويرمى بما قطع منه إلى اسفل، ثم يقعد فيمد رأسه فيضرب عنقه ويرمي برأسه وجثته إلى اسفل. فلما فرغ من قتل هؤلاء الأربعة والثلاثين نفساً، وكانوا من وجوه أصحاب القرمطي فيما ذكر وكابرائهم، قدم المدثر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه. ثم قدم القرمطي فضرب مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى فغشى عليه ثم اخذ خشب فأضرمت فيها النار ووضع في خواصره وبطنه، فجعل يفتح عينيه ثم يغمضها؛ فلما خافوا أن يموت ضربت عنقه، ورفع رأسه على خشبة. وأقام الواثقي في جماعة من أصحابه في ذلك الموضع إلى وقت العشاء الآخرة، حتى ضرب أعناق باقي الأسرى الذين احضروا الدكة، ثم انصرف، فلما كان من غد هذا اليوم حملت رؤوس القتلى من المصلى إلى الجسر، وصلب بدن القرمطي في طرف الجسر الأعلى ببغداد)

(ب) رؤوس جماعة من الاباضية

من الأحداث التي وقعت في سنة 280هـ؛ في خلافة المعتضد، على ما نقله المسعودي أن

ص: 26

(افتتح أحمد بن ثور عمان، وكان مسيره إليها من بلاد البحرين، فواقع الاباضية من الشراة وكانوا في نحو من مائتي ألف، وكان أمامهم الصلت بن ملك ببلاد يروى من ارض عمان، وكانت له عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وحمل كثيراً من رؤوسهم إلى بغداد فنصبت بالجسر)

(يتبع)

ميخائيل عواد

ص: 27

‌ليالي القاهرة

للدكتور إبراهيم ناجي

أليلايَ ما أبقى الهوى بيَ من رُشْد

فرُدِّي على المشتاق مهجته ردِّي

أينسى تلاقينا وأنتِ حزينة

ورأسك كابٍ من عَياء ومن سهد

أقول وقد وسدتُه راحتي كما

توسد طفلٌ مُتْعَبٌ راحة المهد

تعالي إِلى صدر رحيب وساعد

حبيب وركن في الهوى غير منهد

بنفسي هذا الشَّعر والْخُصَل التي

تهاوتْ على نحر من العاج منقدِّ

ترامتْ كما شاءتْ وشاَء لها الهوى

تميلُ على خدٍ وتصدفُ عن خَدِّ

وهذي الكرومُ الدانياتُ لقاطف

بياضَ الأماني من عناقيدها الرُّبدِ

فيالكَ عندي من ظلامٍ مُحَبَّبٍ

تَأَلَّقَ فيه الفرقُ كالزمن الرغد

ألا كلُّ حسنٍ في البرَّية خادمٌ

لسلطانة العينين والْجِيد والقدِّ

وكل جمال في الوجود حياله

به ذلة الشاكي ومرحمةُ العبدِ

وما راع قلبي منكِ إِلا فراشةٌ

من الدمع حامتْ فوق عرشٍ من الوَجد

مجنحةٌ صيغتْ من النور والندى

ترف على روض وتهفو إِلى وِرْد

بها مثلُ ما بي يا حبيبي وسيدي

من الشجن القتَّال والظمأ المردى

لقد أقفرَ المحرابٌ من صلواته

فليس به من عابد ساهر بعدي!

وقفنا وقد حان النوىَ أي موقف

نحاول فيه الصبر والصبر لا يجدي

كأن طيوف الرعب والبيْن موشكٌ

ومزدحِم الآلام والدمع في حشْدي

ومضطرب الأنفاس والضيقُ جاثمٌ

ومشتبكُ النجوى ومعتنق الأيدي

مَواكبُ خرسٌ في جحيم مؤبَّد

بغير رجاء في سلام ولا برْد!!

فيا أيكةً مَدَّ الهوىَ من ظلالها

ربيعاً على قلبي، وفيْئاً من السَّعد

تقلَّصتِ إِلا طيفَ حب محيَّر

على درَجٍ خابي الجوانب مسودِّ

تردَّد واسْتأْنَى لوعد ومَوْثق

وأدبرَ مخنوقاً وقد غصَّ بالوعد

وأسلمني لليل والقبر باردا

يَهُبُّ على وجهي به نفَس اللَّحد

وأسلمني لليل والوحش راقدا

تمزقني أنيابه في الدجَى وحدي

ص: 28

كأن على مصر ظلامين: أعكرٌ،

وآخرُ من خافي المقادير مُرْبد

رُكودٌ، وَإبهْاَمٌ، وَصَمْتٌ، وَوَحْشَةٌ

وَقَدْ ضَمَّهَا الْغَيْبُ الْمُحَجَّبُ في بُرْدَ

كأن سماء النيل لم تلقَ حادثا

ولا قصفتْ فيها القواصفُ بالرعدَ

أحقا تولَّى ذلك الهولُ، وأمَّحتْ

خواطرُ ذاك الويلِ والرعب والحقد

فيا لَلْقُلوُبِ الصابرات وقد غفتْ

على نعمةِ الإيمانِ والشكرِ والحمدِّ

ويا للقلوب المؤمنات وأمنها

وضجعتها في رحمة الصمد الفرد

أهذا الربيعُ الفخم والروضةُ التي

تَزُفُّ إِلى المستاف رائحةَ الخلد

تصير إذا رانَ الظلامُ ولفها

بجنحٍ من الأحلام والصمت ممتدِّ

مباءةَ خمار وحانوتَ بائع

شقي الأماني يشتري الرزق بالسهد

وقد وقفَ المصباحُ وقفةَ حارسٍ

رقيبٍ على الأسرار داعٍ إلى الجد

كأن تقيّاً غارقاً في عبادة

يقوم الدجى أو يقطع الليل بالزهد

فيا عالَمِ الأسرار، في الحي نائم

قضى يومَه في حومة البؤس يستجدي

وسادتُه الأحجارُ والمضجعُ الثرى

ويفترشُ الإفريز في الحر والبرد

وسيارة تجري لأمر مغيَّب

محجبةَ الأسرار خافَيةَ القصد

إلى الهدف المستور تنتهب الثرى

وتلمعُ لمعَ البرق يومضُ عن بعُد

متى ينجلي هذا الدجى عن مسالك

مرنَّقة بالجوع والصبر والكد

ينقِّبُ كلبٌ في الحطام، وربما

رعى الليلِ هَرٌّ ساهر وغفا الْجُندي

أيا مصر ما فيك العشية سامرٌ

ولا فيك من مُصْغٍ لشاعرك الفَرد

أهاجرتي طال النوى فارحمي الذي

تركتِ بديدَ الشملِ منتثر العقدِ

فقدتُكِ فقدان الربيع وطيبه

وعدتُ إلى الإعياء والسقم والسهد

وليس الذي ضَّيعتُ فيك بهيِّنٍ

ولا أنتِ في الغُيَّابِ هينة الفقد

أتيتُك أستسقي فكيف تركتِني

لهذي الفيافي الصُّمِّ والكثُب الْجُرد

أتيتك أستعدي فكيف تركتِني

إلى هذه الدنيا وأحداثها اللدِّ

أتيتك أستهدي فكيف تركتِني

لهذا الظلام المطبق الجَهم أستهدي

أتيتُكِ أستشفي فكيف تركتِني

ولم يبق غير العظم والروح والجِلْد

ص: 29

وهذي المنايا الحمر ترقصُ في دمي

وهذي المنايا البيضُ تختالُ في فودي

وكنتُ إذا شاكيتُ خففتِ محمل

فهان الذي ألقاه في العيش من جَهد

وكنتُ إذا انهار البناءُ رفعتهِ

فلم تكنِ الأيامُ تقوىَ على هَدِّي

وكنتُ إذا ناديتُ لبَّيْتِ صرختي

فوا حَربَا كم بيننا اليوم من سدِّ!

وقد كان لي العطف والحب مسلك

فأغلقتِه دوني فبتُّ بلا رَدِّ!!

سلام على عينيك ماذا أجنتا

من العطف والتحنان والحب والود

إذا كان في لحظيك سيف ومصرع

فمنك الذي يحي ومنك الذي يردي

إذا جُرِّدا لم يفتكا عن تعمد

وإن اغمدا فالفتك أروع في الغمد

هنيئاً لقلبي ما صنعتِ ومرحباً

وأهلاً به لو كان فتكك عن عمد

فإنيِ إذا جن الظلام وعادني

هواك فأبديتُ الذي لم اكن ابدي

وملتُ برأسي كابياً أو مواسيا

وعندي من الأشجان والحب ما عندي

أقبِّلُ في قلبي مكاناًُ حَلّلْتهِ

وجرحاً أناجيه على القرب والبعد

ويا دارَ من أهوى، عليك تحية

على اكرم الذكرى، على اشرف العهد

على الأمسيات الساحرات ومجلس

كريم الهوى عَف المآرب والقصد

تنادِمنا فيه تباريحُ شاعر

على الدم والأشواك يمشي إلى الخلد

(فبودلير) محزونٌ و (فرلين) بائسٌ

(وميسيه) مجروح الهوى عاثر الجد

(وللمتنبي) غضبة مضرية

وثورةُ مظلومٍ وصيحة مستعدي

دموعٌ يذوب الصخر منها فإن مضوا

فقد نقشوا الأسماء في الحجر الصلد

وماذا عليهم أن بكوا وتعذبوا

فإن دموع البؤس من ثمن المجد

ناجي

ص: 30

‌من أغاني الجسد

ليتني زورق. . .

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

ظَمِئْتُ إِلَى الله يَوماً. . . فَلَمْ

أجِدْ خَمْرَتي غَيْرَ هذا الْجَسَد

عَلَى ثَغْرِهِ آيَةٌ أَفْلَتَتْ

بأَسْرَارِهاَ مِنْ نَبِيِّ الأَبَدْ

عَلَى شَعْرِهِ عَاَلمٌ فَوْقَهُ

وُعُودُ الُهَوَى مُبْهمَاتُ الأَمَدْ

عَلَى نَحْرِه هاَلَةٌ حَدَّثَتْ

برُِؤيَا مَلَاكٍ عَلَيْهاَ سَجَدْ

وَفيِ جَفْنِهِ نَبَأٌ تاَئِهٌ

لِغَيْرِ الْهَوَى فيِ دَميِ لَمْ يَردْ

وَفيِ هُدْبِهِ بَغْتَةٌ عَذْبَةٌ

كأَنِّي بِهاَ ساَحِرٌ مُسْتَبِدْ

وَفيِ قَدِّهِ. . . جلَّ بَارِي الصِّبَا

صَلَاةٌ مُقَيَّدَةٌ فيِ جَسَدْ

سَجَا نَهْرُهُ. . . لَيْتَنِي زَوْرَقٌ

مَدَى الْعُمْر فيِ لُجِّهِِ يَرْتَعِدْ!

وَقاَلَ: الْهَوَى! قُلْتُ: هَاتِ الْهَوَى

فَذَاتِي بِذَاتِكَ حُلْمٌ شَرَدْ

أَذِبْنيِ بِنارٍ تَعَبَّدْتُهاَ

وَلَمْ يُلْهِني عَنْ لَظَاهَا أحَدْ

ظَمِئْتُ لَهاَ وَالدُّجَى مَارِدٌ

يُفَرَقِّ مَا بَيْنَ كأسٍ وَيَدْ!

فَلَمْ تَسْقِنِي غَيْرَ هَذَا السِّرَابَ

وَهَذاَ الْعَذَابَ، وَهَذَا الْكَمَدْ

فَعُدْتُ بِأيَّامِيَ اللاَّهِثَاتِ

صَدَى آهَةٍ فيِ حَناَيا كَبِدْ

تَباَرَكْتَ يا رَبِّ! هذا الجَمَالُ

طَرِيقٌ إليْكَ انْتَهى وَاتَّحَدْ. . .

محمود حسن إسماعيل

ص: 31

‌البريد الأدبي

حقائق أدبية وذوقية

أخونا الزيات يخاف أن تصنع الصحافة بالكتاب ما صنعت السينما بالمسرح، وكان ذلك لأن السرعة السينمائية قضت على التؤدة المسرحية، وفي التؤدة والتروي فرص للتجويد والتجميل. وسرعة الصحافة قد تفسد الأقلام إفساداً لا تصلح بعده لإجادة التأليف، وبذلك ينقرض الكتاب، وهو المرجع الأصيل لتثقيف العقول

حول هذه القضية ثارت آخر معركة بيني وبين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في سنة 1937، وكان ميدانه مجلة الرسالة وميداني جريدة المصري، وهي معركة مشئومة فقد أنذرته بالموت فما قبل أن تنتهي أشواط الصيال.

ومع احترامي لأراء الرافعي والزيات في هذه القضية فأنا لا أخاف على الأدب من السرعة، ولا أراها من الجانيات على الإتقان، ما دامت أثراً من ثورة العقل، وفورة الطبع، وما دامت صورة من اصطخاب العواطف واضطرام الأحاسيس.

والحق أن الكاتب المجيد لا يفوته أبداً أن يدقق في الأسلوب ولو اشتهر بكثرة الإنتاج، والحق أيضاً أن البط ليس دائماً من الشواهد على أيثار التروي، فقد يكون من أثار البلادة الذهنية عند بعض الناس

وبأي حق يخرج الكاتب على روح العصر؟

العصر الحاضر عصر السرعة، فكيف نخرج عليه؟

وكيف نجهل فضل السرعة في تهذيب الأساليب من اوضار التكلف والافتعال؟

وهل عرفت مرونة التعبير إلا عند الأدباء الذين قهرتهم سرعة الصحافة على مواجهة القراء في كل يوم أو كل أسبوع؟

كان المازني جاحظي الأسلوب قبل أن يشتغل بالصحافة، ثم جرفته السرعة فصار المازني الذي نعرف، المازني الذي يكتب بلا تزين ولا تهويل، في حدود هي الغاية في البيان

وهل ينسى الزيات نفسه فضل الصحافة عليه؟

هل كان (وحي الرسالة) إلا دراسات فرضت عليه فرضاً بحكم السرعة التي يوجبها إصدار صحيفة أسبوعية؟ وهل كان من الممكن أن يجود ذهنه بذلك المحصول. لو ترك للظروف

ص: 32

التي توحي القول حين تريد؟

السرعة أدل على الحيوية من البط، إلا أن يكون البطء صورة نفسية أصيلة تشبه البطء الطبيعة في تكوين الجنين

على أني أنكر أن تكون سرعة الكاتب المبدع من ضروب الارتجال، فنحن نسرع في التعبير لا في التفكير، لأن محصولنا الذهني وليد لتاملات قضينا في ترجيعها شهوراً أو سنين، فما نكتبه اليوم ليس ابن اليوم إلا من حيث التدوين

ثم انتقل إلى مناقشة الدكتور عزام فيما سماه (السوقية في الأدب) وهو ما يسميه الفرنسيون بجامع الصلة بين الاتجار بالبضائع والاتجار بالأدب

والرأي عندي أن قلوب الجماهير أسواق نشتري فيها ونبيع، ومن واجبنا أن نكسب تلك القلوب قبل أن يكسبها الدجالون

يجب أن تكون لنا غاية صريحة هي غزو القلوب بالأدب الصحيح، وهذا الغزو لا يتيسر إلا إن كان للأدب جاذبية روحية تدخل على القلوب بدون استئذان

الأدب الحق هو الذي يضرم في القلوب والعقول نار الشوق إلى معرفة الحقائق الأدبية والذوقية والعقلية، وهو الذي يفرض على الجماهير أن تقيم أخلاقها على قواعد من المنطق السليم، وهو الذي يجعل للحياة غايات روحية لا يفطن إليها غير من يسايرون أقطاب البيان

التجارة لا تعاب وإنما يعاب الربح عن طريق التزييف، فمن استطاع أن يكسب قلوب الجماهير عن طريق الصدق فهو الأديب الحصيف أو التاجر الشريف

قلوب الناس تضيع من ايدينا، لأننا لا نفكر في رياضتهم على أيثار الصدق، ولأننا نترفع عليهم فلا ندعوهم إلى الحق إلا بتعابير محملة بالكبرياء

متى يصبح الأدب قوتاً لا تطيب بدونه الحياة في أنظار جميع الأحياء؟

يكون ذلك يوم يصير الأدب افصح معبر عن سريرة الوجود.

زكي مبارك

خطأ رواية حديث

ص: 33

زعم الأب انستاس ماري الكرملي في دفاعه أنه يتأثر احسن من نطق باللغة المصرية. . . الخ ثم قال:

(فقد قال: ارجعن مأجورات غير مازورات، مع ما في ماجورات من الغلط في نظر بعض حمقى اللغويين)

فيا أيها الأب انستاس ماري الكرملي عضو مجمع. . . الخ:

1 -

الحديث الذي نقلته خطأ، فقد قلبت المعنى واللفظ رأساً على عقب. ولفظه كما لا يخفى على أحد هو هذا:(ارجعن مازورات غير ماجورات).

2 -

ثم قلت: (مع ما في ماجورات من الغلط في نظر بعض حمقى اللغويين!!)

والعدول عن القياس - وحضرتك تسميه بالغلط - ليس في (ماجورات) كما زعمت إذ هي اسم مفعول من الاجر؛ ولكنه في (مازورات) لأنها من الوزر، فالقياس:(موزورات) فاقتضى الذوق والحرس الحسن العدول عن المقيس لاتباعها (ماجورات)

3 -

(لو كسرت يراعتك المرضوضة، والقيت بها في التنور. وبقيت ساكتاً إلى أن يفيض التنور، لكان ذلك احسن لك! وأنصحك نصيحة لله: إلا تكتب كلمة قبل أن تتدبرها كل التدبر ثم تعرضها على أصدقائك، ثم تتاملها ثانية، وتعرضها على أعدائك، وحينئذ ابعث بها إلى أصحاب الجرائد والمجلات. وإلا فمثل هذه الخربشة والخربقة لا ترفع قدرك ولا تبقي لك أثراً طيبا!)

قلنا ولم يصدق الأب إلا في هذه الكلمة بشرط أن يوجهها إلى من يتخبط في سطر واحد هذه التخبطات الشائنة الشوهاء.

وله فائق احتراماتي.

(دمشق)

سعيد الأفغاني

البيتان لابن الفارض

تساءل الأديب محمد بشير عن صاحب هذين البيتين:

ليت شعري هل كفى ما قد جرى

مذ جرى ما قد كفي من مقلتي

ص: 34

قد برى اعظم حزن أعظمي

وغنى جسمي حاشا اصغري

أهو ابن الفارض؛ لأن البيتين مذكوران في قصيدته البائية المشهورة التي أولها: (سائق الإظعان يطوي البيد طي)؟ أم هو المستشرق المعروف (بالمر) كما ذكر الأستاذ عبد الوهاب الأمين في الرسالة (486: 1004)؟

أقول: لاشك أن هذين البيتين من شعر ابن الفارض، وانهما من يائيته المعروفة. والدليل الذي لا يقبل الشك في ذلك هو انهما موجودان في نسخة الديوان التي حررت وصححت بقلم ابن بنت الشيخ عمر بن الفارض نقلاً عن الشيخ كمال الدين محمد ابن عمر بن الفارض. وعلى هذه النسخة كتب الشيخ حسن البوريني شرحاً طويلاً كثير الفوائد واثبت هذين البيتين وشرحهما. وقد فرغ من شرح القصيدة اليائية سنة 1010هـ (1601م). وكذلك أثبتهما الشيخ عبد الغني النابلسي في شرحه وكتب عليهما وقد فرغ النابلسي من شرحه لديوان ابن الفارض سنة 1123هـ - 1711م

فالبوريني شرح البيتين في ديوان ابن الفارض قبل مولد (بالمر) بنحو 339 سنة، والنابلسي شرحهما قبل أن يولد هذا المستشرق بنحو 129 سنة

برهان الدين الدغستاني

كلمة أخيرة في اختلاف القراءات

ما كنت أريد أن أعود إلى الكتابة في موضوع اختلاف القراءات بعد كلمة الأستاذ الفاضل عبد العليم عيسى، ولكني قرأت كلمة للأستاذ الفاضل محمود عرفة يحاول فيها أن يحرف رأيي تحريفاً آخر إلى مذهب القائلين أن القرآن نزل بمعانيه دون ألفاظه وحروفه، وهو مذهب لم يحيي إلا على السنة بعض ذوي المقاصد السيئة من المستشرقين، مع أنه هو الذي اعتنق مذهب أولئك المستشرقين في كلمته الاولى، إذ حمل كل ما لا يدخل من القراءات في باب اختلاف اللهجات على التصحيف، ولم يفرق في ذلك بين قراءات شاذة ومتواترة

ولست أدري كيف يحرف الأستاذ محمود عرفة رأيي هذا التحريف، مع أنه لا يراد منه إلا توجيه هذه القراءات توجيهاً تظهر به الحاجة إليها في عهد النبوة، ويقطع الطريق على من

ص: 35

يزعم أنها حصلت بتحريف بعدها، وإني بعد هذا لست أخالف الأستاذ عرفة في أن القرآن كان يؤخذ من النبي صلى الله عليه وسلم بالتلقي، ولكن كثيراً ممن كان يتلقاه لم يكن يحفظه، فإذا قراه بعد التلقي في مخطوط حصل له الاشتباه الذي ذكرته وقلت أن تلك القراءات والنسيان؛ وهذا هو غرضي من رأيي واضح لدى كل منصف

عبد المتعال الصعيدي

حول كتاب ديكارت للأستاذ عثمان أمين

لاحظت في كتاب (ديكارت) للأستاذ عثمان أمين مدرس تاريخ الفلسفة بكلية الآداب في الفصل الرابع (ص140) المعنون (بالشك المنهجي) فقرات مأخذوة من كتاب (آراء غربية في مسائل شرقية) تعريب الأستاذ عمر فاخوري، من الفصل الذي عنوانه:(الغزالي وديكارت) للكاتب الفرنسي شارل سومان (ص83) دون أن يشير الأستاذ الفاضل إلى هذا الكتاب سواء في مجموعة المصادر التي ذكرها أو في الحواشي التي أوردها واليك نمطاً من الفقرات المتشابهة في الكتابين:

يقول الأستاذ عثمان أمين في الصفحة (140) من كتابه (ديكارت): اختار ديكارت كما فعل الغزالي من قبل، أقوى الأسلحة والحجج الجدلية التي جمعها الشكاك اليونان من عهد (سكستوس أمير بقوس) وسائر أنصار (بيرون) وادخروها في معاقل المذهب الارتيابي، هي الأسلحة التي لجا إليها (منتيني) صاحب (المقالات) المشهورة وبعده (شرون) في كتابه (الحكمة)(1603)

وفي الصفحة 89 من كتاب (آراء غربية في مسائل شرقية) نجد الكلمات التالية (فإن الغزالي وديكارت كليهما اختارا أقوى الأسلحة الجدلية التي جمعتها البرونية الأفريقية من عهد سكسيوس واونسيدام وادخرتها في ثكنات الشكوكية وهي الأسلحة التي ضرب بها مونتاني وقبله شارون في مؤلفه (الحكمة))

وهناك فقرة في الصفحة (141) من كتاب (ديكارت) تقول: (استبعد ديكارت شهادة لأنها تخدعنا أحياناً، ومن الفطنة إلا نأمن أمنا تاماً لمن خدعنا مرة)

وترجمة الأستاذ عمر فاخوري تقول (ص87) ما يلي: (قال ديكارت لما كانت حواسنا

ص: 36

تخدعنا وتخوننا أحياناً أردت نفسي على الاعتقاد بأن لا شيء في حقيقته هو كما تخيله حواسنا، وقال أيضاً: لقد ثبت لي أكثر من مرة أن هذه الحوادث خادعة فمن الرشد إلا تأمن أمناً تاماً لمن خانك وخدعك مرة)

وقد اخذ الأستاذ عثمان أمين كذلك مقارنة بين فقرة من كتاب المنقذ من الضلال للغزالي، وفقرة من كتاب التاملات لديكارت وهما نفس الفقرتين اللتين أوردهما شارل سومان وترجمة الفقرة عن ديكارت هي نفس ترجمة الأستاذ فاخوري، وقد وقع الأستاذ عثمان أمين كل ذلك في حاشية (ص140) و (ص141). فلماذا اغفل الأستاذ اسم شارل سومان وعمر فاخوري من بين أسماء مراجعه؟

(بغداد)

صفاء خلوصي

ص: 37