المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 494 - بتاريخ: 21 - 12 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٩٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 494

- بتاريخ: 21 - 12 - 1942

ص: -1

‌4 - دفاع عن البلاغة

2 -

حد البلاغة

قلنا إن البلاغة توجه إلى العقل أو إلى القلب أو أليهما معاً تبعاً لما تقتضيه حالات المخاطبين من مقاومة الجهل والرأي والهوى منفردة أو مجتمعة. فإذا كان غرض البليغ نفي جهالة أو توضيح فكرة أو تقرير رأي، جزاه في إصابة غرضه الصحة والوضوح والمناسبة. فإذا أراد التعليم أو الإقناع وكان قوام الموضوع طائفة من الفكر أو الأدلة وجب عليه أن ينسقها ويسلسلها على مقتضى الأصول المقررة في المنهج العلمي الحديث. أما إذا قصد إلى التأثير والإمتاع لا إلى التعليم والإقناع، كان سبيله أن يتأنق في اختيار لفظه، ويتفنن في تحرير أسلوبه، ويستعين على اجتذاب الأذهان واختلاب الآذان بإبداع الملكة والهام الروح وتشويق المخيلة وتزويق الفن

والبلوغ إلى قرارة النفوس أخص صفات البليغ في كل ما يكتب. فلو أن كاتباً وقع على طائفة من الحقائق، أو حصل على مجموعة من الوثائق، ثم حققها ونسقها وأداها في اجمل لفظ وأجود صياغة؛ ولكنه لم يبلغ بها كنه القلوب كان حرياً أن ينعت بما شاء من النعوت إلا البلاغة

والسر في ذلك أن ضروب المعرفة إنما تقوم على الملكات المحصلة، وتعتمد على العقل المجرد، وتثبت بالدليل القاطع. ولكن الإثبات ليس معناه الإقناع، فإن الإقناع لا يكون بغير السيطرة على النفس، والسيطرة على النفس لا تتم بغير البلاغة. هي وحدها التي تعد بالعقل في أدراك الحق، وبالشعور في أدراك الخير، وبالذوق في أدراك الجمال. وهي وحدها التي تنفذ إلى القلب بسلطان غير ملحوظ، وتؤثر في الذهن ببرهان غير ملفوظ، وتذهب في تصوير الواقع وتقرير الحق مذهب الوحي الإلهي الخالد

فالوظيفة الأولى للبلاغة هي الإقناع من طريق التأثير، والإمتاع من طريق التشويق، ولذلك كان اتجاهها إلى تحريك النفس اكثر، وعنايتها بتجويد الأسلوب اشد. وربما جعلوا سر البلاغة في جمال الصياغة

قال أبو هلال: (وليس الشأن في أيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة

ص: 1

السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت. . . ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها، ليدلوا على براعتهم. . . ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كداً كثيراً)

والحق أن اظهر الدلالات في مفهوم البلاغة هي أناقة الديباجة ووثاقة السرد ونصاعة الإيجاز وبراعة الصنعة؛ فإذا كان مع كل ذلك المعنى البكر والشعور الصادق كان الأعجاز. وليس أدل على أن الشان الأول في البلاغة إنما هو لرونق اللفظ وبراعة التركيب، أن المعنى المبذول أو المرذول أو التافه قد يتسم بالجمال ويظفر بالخلود إذا جاد سبكه وحسن معرضه. ولا باس أن اقدم إليك مثلاً من آلاف الأمثلة بلغ معناه الغاية في السوقية والفحش، ومع ذلك تحب أن تسمعه وتحفظه وتعيده لأنه بلغ من سر الصناعة غاية تظلع دونها أكثر الأقلام

قال أبو العيناء الأعمى لابن ثوابة: بلغني ما خاطبت به أبا الصقر؛ وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم ير عرضاً فيمضغه، ولا مجداً فيهدمه

فقال له ابن ثوابة: ما أنت والكلام يا مكدي؟

فقال أبو العيناء: لا ينكر على ابن ثمانين سنة قد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعول على إخوانه. . . ثم رماه بمعنى فاحش مكشوف. فقال له ابن ثوابة:(الساعة آمر أحد غلماني بك). فقال أبو العيناء: (أيهما؟ الذي إذا خلوت ركب، أم الذي إذا ركبت خلا؟)

فانظر في هذه الجملة الأخيرة تره رمي ابن ثوابة في نفسه وفي زوجه، وهما معنيان سوقين يترددان كل ساعة على السنة السبابين من أوشاب العامة، وانك مع ذلك تقف من هذه الجملة موقف المشدوه والمعجب، تحرك بها لسانك، وتعمل فيها فكرك، وتعرضها على مقاييس البلاغة وشروطها فتطول على كل قياس وتزيد على كل شرط. تأمل هذا الإيجاز البارع بحذف متعلقات الفعلين وفيها جوهر المعنى وإصابة الغرض، تجد سر البلاغة كله فيه؛ لأن هذا الحذف مع وضوح المعنى قد نزه الكلام عن صراحة الفحش، وصان المتكلم عن ذكر القبيح، فلو أنه قال خلوت بكذا وخلا بكذا، وركبت كذا وركب كذا، لانحط الكلام

ص: 2

عن مقام البلاغة وصار بهذر العامة أشبه. وكان بحسب البليغ هذا الإيجاز المشرق، ولكنه ضم إليه من أنواع البديع (العكس) و (أسلوب الحكيم) فعكس الفعلين، واستعملهما في معنيين مختلفين، وكل ذلك في غير تكلف ولا تعسف ولا غموض.

فأنت ترى أن الصياغة وحدها هي التي سمت بهذه المعاني الخسيسة إلى أفق البلاغة فتداولتها الألسن وتناقلتها الكتب. وليس حال المعنى في ذلك حال اللفظ؛ فإن اللفظ في ذاته كالموسيقى يخلب الأُذن ويلذ الشعور وإن لم يترجم؛ أما المعنى فالكهرباء، إذا لم يكن لفظه جيد التوصيل انقطع تياره فلا يعرب ولا يطرب. أقرأ قول القائل:

لما أطعناكمُ في سخط خالقنا

لاشك سلّ علينا سيف نقمته

ثم وازن معناه الشريف ونسجه السخيف، بما رويت لك من كلام أبي العيناء، فلا يسعك إلا أن تقول كما أقول: إن القذر يوضع في آنية الذهب فيقبل ويحمل؛ وإن المسك يوضع في نافجة الطين فيرفض ويهمل.

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌دار الهوى

في عيد القمر

للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات

هل تذكر أني وجهت إليك مقالاً من بغداد عن (القلب الغريب في ليلة عيد) منذ نحو أربع سنين؟ وهل تذكر أني تشوقت إلى دار تحب العيد وتحن إليه لأنها تراني مع العيد؟

ذلك مقال قبسته من نار قلبي، وأخذت مداده من دمي، وأرسلته تحية إلى دار عظمت ديونها على قلمي

وإنما وجهت إليك ذلك المقال لأثير في روحك التشوف إلى تعليل ما تعاني الأرواح من متاعب ليس لها في الظاهر سناد من مطالب المجد في هذا الوجود

فهل فكرت في تعليل هذا المعنى؟

وهل حاولت الدفاع عن الأعمار التي تضيع في تشريح نوازع الوجدان؟

أنا أطالبك بالرجوع إلى الوجدانيات، بجانب ما أقبلت عليه من الاجتماعيات، فقد كاد الأدب يخلو من الحديث عن أوطار الأرواح والقلوب ولا قيمة للأدب إن اغفل الحديث عن أوطار الأرواح والقلوب

واليك القصة آلاتية:

في حفلة من حفلات إحدى الطوائف المسيحية تسابق الحاضرون لتقبيل يد البطريرك، فرايته ينهض بقوة ليعانق من يسارعون إلى التسليم عليه، مع أنه فيما سمعت قد جاوز التسعين

وعندئذ غلبني الفكر الفلسفي فقلت لجاري في المحفل: إن راحة رجال الدين من هموم الحياة تمنحهم طول الصحة والعافية

فقال جاري بتحمس: كيف ترى ذلك وغبطة البطريرك يحمل هموم الطائفة كلها، ويعني نفسه بالدقائق الخفية لجميع البيوت؟

فقلت: المتاعب الفردية اعنف من المتاعب العمومية، فالرجل الذي يحمل هموم بيت يعد أهله بالآحاد أشقى من الرجل الذي يحمل هموم طائفة يعد أبناؤها بالألوف أو الملايين.

ص: 4

وهل يحزن وزير المعارف لسوء نتائج الامتحانات العمومية بقدر ما يحزن لو رسب ابنه في الامتحان؟

إحساسنا الصادق يصدر عن متاعبنا الذاتية أولاً وقبل كل شئ، ثم يتفرع فيتصل بالمجتمع القريب أو البعيد، وهل بكى النبي محمد لوفاة أي طفل كما بكى لوفاة ابنه إبراهيم؟

وإذن يكون من حقي أن أقول إن الأدب الذي يصور الذاتيات هو اصدق الآداب، وهو الآية الباقية على الصدق الأصيل، فمن الجناية على الأدب أن نشغل أقلامنا بهموم خارجية قبل أن نستوفي التعبير عن همومنا الداخلية

للمجتمع حقوق على القلم البليغ، يوم يتأثر الكاتب بتلك الحقوق، ويوم يرى أنه عن تأييدها مسؤول أمام الضمير الأدبي لا أمام الناس

وأنت ذلك الكاتب، يا صديقي، فاتجاهاتك الاجتماعية تشهد بأنك تحس آلام المجتمع اصدق إحساس، وسيكون لك في هذا الميدان مكان يحفظه التاريخ

وأنا ارتضي لنفسي ما ارتضي لك، لولا تلك الدار التي أسرت قلبي عدداً من السني، ولم استطع التحرر من أسرها بأي جهاد

إن تاب الله علي من الهيام بتلك الدار فسأجاريك في ميدانك، وسيطول بيني وبينك السجال، ولكني أرى الله اكرم من أن يجود بذلك المتاب، لأن نعمته علي في هذه الضلالة اعظم من نعمته بالهداية على من يغضون أبصارهم عن سحر الجمال

وهل كان من العبث أن يتفضل الله فينوع الخلائق بهذا الوجود؟

إنه نوع الخلائق لينوع العواطف

هل تذكر ما تصنع النسائم بالسحاب والرمال؟

رأيت بالأمس عجباً من العجب: رأيت سحباً مطرزة بسماء (مصر الجديدة) على اظرف ما يكون التطريز. وبدأ لي أن أجوب الصحراء في ذلك الوقت فرأيت النسائم صنعت بالرمال ذلك الصنيع

أيعجز قلم الكاتب الصوال عما يقدر عليه النسيم الجوال؟

النسيم يبعث، وما وصف النسيم بغير العبث، ثم تكون له القدرة على هذا الافتنان، فكيف نعجز في الجد عما استطاعه النسيم في الهزل؟

ص: 5

الدار التي أهوى تضلني وتغلي عقلي بأوثق الأغلال

الدار التي أهوى تصنع بقلبي فوق ما تصنع النسائم العوابث بالسحائب والرمال

الدار التي أهوى حرمت أضواء المصابيح أكثر من شهرين، إلى معاد، أو إلى غير معاد، فما أدري ما تضمر الأقدار لمصاير ذلك الهوى النبيل، ولا أعرف متى نلتقي طائعين أو كارهين

كلَّ يومٍ لنا عتابٌ جديدٌ

ينقضي دهرنا ونحنِ غضابُ

إن تلاقينا - ومتى التلاقي - فستكون لنا شؤون وشجون

إن عادت الدار إلى العهد الذي أعرف فساكون من الحجاج في العام المقبل، وسأنفق جميع أموالي على الفقراء والمساكين.

ثم ماذا؟

ثم أقص على الأستاذ الزيات هذا الحديث:

في صباح اليوم وأنا في طريقي إلى الواجب قرأت في إحدى الجرائد أن المحكمة الشرعية أعلنت أن شهر ذي الحجة يبتدئ بيوم الأربعاء، فعرفت أنني حرمت رؤية الهلال ثلاث ليال. ثم خف حزني حين تذكرت أن القمر غاب عن تلك الدار أكثر من شهرين

ما هذه اللجاجة في الحب؟

وما الطمع في كرم الزمان البخيل؟

ارجعوا إلى الدار، دار الهوى، قبل أن تسمعوا من نذير الأقدار ما لا تحبون

ارجعوا إلى دار الهوى في عيد القمر غير مأمورين

ارجعوا، فللدار التي شهدت مولد هوانا حقوق

ارجعوا، فالفضيحة في غرامي تكريم وتشريف، لأني قيثارة الغرام في الحان الخلود

عيد القمر آت بعد ليال، فهل أراكم في غرة تلك الليال؟

القمر يفي، فهل تفون؟

القمر يساير الفصول من شتاء وربيع وصيف وخريف، فهل تسايرون أحوالي من نزق وطيش وقرار وجمود؟

أنا أنا، فهل انتم انتم؟

ص: 6

لقد صبرت وصابرت لتشهد أحجار تلك الدار أن لها بقايا من الوفاء التي تدخره كرام القلوب

سينطق الحجر قبل أن تنطقوا، ولقد نطق فحياني ألوف المرات وانتم في غيابة العقوق

وماذا تنتظر مني تلك الأحجار؟

أنها ترجو مني ما أرجو منكم، ترجو سلاماً من عابر سبيل، وانتم هددتم وتوعدتم بأن لا لقاء في غير الفضاء

عودوا إلى الدار، دار الهوى، عودوا إليها سالمين غانمين، فأني اعد لكم قتالاً الطف وارفق من السلام

عودوا إلى الدار في عيد القمر، وهو آت بعد ليال

عودوا إلي فما قلبي بمصطبر

على نواكم ولا في العمر متسعُ

إن متُّ قبل لقاكم أو فقدتكمُ

قبل الممات فحظي عاثرٌ ظَلِعُ

أنا في انتظار القمر بعيد القمر، فهل يعود مع العيد؟ وهل اشهد كلف جبينه وهو غضبان؟

عودوا إلى الدار لا إلي، فقد كادت أحجارها تذوب من نار الاشتياق

يا غاضبين علينا كيف حالكمُ

وكيف دارٌ بها للروح مرتَبَعُ

دارٌ جَلَوْنا بها حيناً سرائرنا

كأن أيامها في صَفْوها جُمَعُ

لمُ يغدق الله فضلاً فاق نعمتهُ

بوصل روحي بكم والشمل مجتمعُ

أما بعد فما رأي صديقي الزيات في هذا الحديث؟ وهل يراني في ضلال وأنا أناجيه بما لا يريد بعد أن هجر صديقه لامرتين؟

حال العين حال القلب، وللعيون والقلوب أحوال

وقد أشار طبيبي بنظارة تمنع التشرد من أضواء عيني، فمتى يشير طبيبي بنظارة تمنع التشرد من أضواء قلبي؟

لن يكون لقلبي حدود. لن تكون تلك الحدود ولن تكون، وسيعجز الطب عن جمع الأشعة من أنوار القلوب

متى نلتقي يا دار هواي؟ متى؟

عيد القمر آتٍ بعد ليال، فهل نتقاتل بعد ليال؟

ص: 7

زكي مبارك

ص: 8

‌العيد

للأستاذ محمد عرفة

- 1 -

لست مسرفاً إذا قلت إن كثيراً من الناس يعيدون ولا يدركون معنى العيد، ولا الغرض المقصود منه. لا يدركون من العيد إلا أنه يوم عطلة، يفرغ الناس فيه من أعمالهم، ويتفرغون إلى طعامهم وشرابهم ولعبهم ولهوهم

فعلينا أن نعمل لنفهم معنى العيد لنودعه على الوجه الأكمل. إن الناظر إلى أعيادنا الإسلامية التي شرعها الإسلام يرى أنها تكون عقب عبادة طويلة شاقة مضنية، فيها جهاد للنفس والشهوات. فعيد الفطر يأتي في أعقاب الصيام، والصيام عبادة شاقة، فيه منع النفس من شهواتها، وفيه الصبر عن الطعام والشراب، فإذا انتهى شهر الصوم حل عيد الفطر، فيفرح فيه المسلمون ويوسعون على أنفسهم وعيالهم وعلى فقرائهم. وعيد الأضحى يقبل بعد أن كادت تتم أعمال الحج، وفي الحج سفر طويل، ونفقة كثيرة، ومنع النفس من بعض الطيبات، فإذا جاء عيد الأضحى ذبح المسلمون ذبائحهم ووسعوا على أنفسهم وعيالهم وفقرائهم

ولعلكم بعد هذا قد أدركتم معنى العيد، وفهمتم سر فرح المسلمين فيه. لعلكم أدركتم انهم يفرحون في عيد الفطر بشيء سام، هو النصر: النصر على الشهوات، لأنهم مكثوا شهراً يمنعون أنفسهم في نهاره عن الطعام والشراب وبقية الشهوات الشهية إلى النفس والمحببة إليها فانتصروا؛ والنصر على الشيطان، فقد أراد إغواءهم وإضلالهم، واستعان على ذلك بالشهوات الممنوعة، والنوازع القوية، فانتصروا، لم تتغلب عليهم الشهوة، ولم يتغلب عليهم الشيطان، في هذا الكفاح. وما قلناه في عيد الفطر يقال في عيد لأضحى، فهو عيد النصر: النصر على النفس، والنصر على الشيطان؛ وسواء فيه الحاج وغير الحاج، فالحاج جاهد وصابر واحتمل الآلام واجتاز الأهوال وخرج من المعركة مظفراً منصوراً. وكذلك من لم يحج، العيد عيده، وهو به جد فرح مستبشر، وبشره بشر المسلم بالنعمة تتم على أخيه المسلم، ونصره وظفره لأن الله نصر إخوانه الحجاج، فوفقهم جميعاً لأداء الحج وإتمام عبادة من أسمى العبادات، ومسرته لأن الله اقدر المسلمين على إتمام موسم الحج، فلم

ص: 9

يمنعهم قاهر ولا متسلط عن أقامته، فهو مزهو فخور وفرح مستبشر بعزة الإسلام وتمكين الله له في الأرض

وفي العيد - فوق هذا النصر وذلكم التوفيق - تقوية للروابط الوثيقة بين المسلمين، لأنهم يشتركون جميعاً في استقباله والترحيب والسرور به؛ والاشتراك في العاطفة داع إلى المحبة، واشتراك الجماعة في أمر يعمهم ويشملهم مشعر لهم بأنهم وحدة، عواطفهم واحدة، وآمالهم واحدة، وآلامهم واحدة. ولست تجد ادعى إلى المحبة من الاشتراك، ولا ادعى إلى التنافر من الاختلاف. ثم هم يشتركون قبل ذلك كله في أيام أعيادهم في شؤون الحياة وأمور القوت اشتراكاً يظهرهم في أروع مظهر من مظاهر التضامن الاجتماعي الوثيق، ففي عيد الفطر يخرج المسلم صدقة الفطر قبل صلاة العيد، وفي عيد الأضحى يذبح أضحيته ضحى يوم العيد، ويأخذ الفقراء حقوقهم من الصدقة والأضحية، فيفرغون إلى العيد واستقباله والفرح به والشعور بجماله، لا يشغلهم عن ذلك طلب القوت ومشكلات المعيشة؛ ويعم البشر والسعادة الناس جميعاً، فالأغنياء يفيضون من سعادتهم وبشرهم على إخوانهم من الفقراء

وفي العيد معان كثيرة أروعها أنه عيد النصر وعيد الظفر على النفس والشيطان؛ والمسلمون يفرحون بالعيد، لأن الله امتحن عزائمهم فوجدها قوية، وصبرهم فألفاه ثابتاً، وأيمانهم فألفاه راسخاً، وخرجوا من الامتحان مؤمنين، أقوياء، راسخين، بل خرجوا منه اشد واعظم شعوراً بمعاني القوة والإيمان.

وهذا المعنى في العيد يجعل الفرح فيه عبادة، لأن الفرح بإتمام العبادة عبادة، والفرح بقهر الشهوات عبادة، والفرح بالتغلب على الشيطان وجنده عبادة.

هذا المعنى في العيد يسمو بالعيد عن العبث، ويجعله معنى سامياً يوحي إلى النفس معنى العزة بالنفس، ومعنى القوة والغلبة، ومعنى العظمة والانتصار، يوحي إلى النفس معنى قوة الإرادة، ويوحي إلى الناس معنى تثبيت إنسانيتهم، وانهم خرجوا عن الأفق الذي تملكهم فيه شهواتهم إلى الأفق الذي يملكون فيه شهواتهم. والنفوس إذا أوحي إليها بما فيها من معان سامية ازدادت فيها رسوخاً، وحفرها هذا إلى تحصيل غيرها من الخلق الفاضل الكريم

أرايتم كيف كان العيد معنى إنسانياً سامياً بعد أن كان أمراً حيوانياً ضئيلاً جافاً لا حياة فيه

ص: 10

ولا روح؟ أرايتم كيف صار شيئاً نافعاً مفيداً يوحي إلى النفوس معانيها من القوة والنصر على الأعداء، والارتفاع عن أفق الحيوانية المحدود، بعد أن كان شيئاً مغسولاً من النفع والسمو والخير والإفادة؟

إنما العيد عيد المجاهدين الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فانتصروا على النفس والشيطان؛ أما هؤلاء الذين غلبتهم أنفسهم وشهواتهم، واخلدوا إلى الأرض، فليس لهم منه إلا الهم والحسرة، لأن الناس خرجوا منه أقوياء منتصرين، من حيث منوا هم فيه بالضعف والهزيمة وبالارتكاس والخذلان.

محمد عرفة

ص: 11

‌نشأة النطق بالكلام

وعلاقته بأصل اللغة وتطورها ولهجاتها

للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف

مقدمة

أتى على موطن العربية حين من الدهر، خفي علينا ميقاته، تضافرت أبانه عصبة من العوامل الاجتماعية القاهرة، فقست على أبناء العربية قسوة كان من بعض شانها أن أخرجت فريقاً منهم من ديارهم، يضربون في الارض، يقتبلون مواطن جديدة ويسيرون في كل صوب زرافات ووحداناً مهاجرين ساعين في طلب الرزق. والرأي عندي أن تباعد هؤلاء وتنائيهم عن ديارهم، وتفرقهم وتشتتهم في أصقاع مختلفة، قد حفز الأكثرين نظراً في بواطن أمورهم إلى البحث في مآل الله التي يتفاهمون بها، فتبين لهم أن الدهر سوف ينال منها منالاً إذا ما تركوا أمرها للقدر، وأن لا عاصم لها من قسوته إذا ما تقاعسوا عن تحصين جزيئاتها وكلياتها، وأن لا مناص من أن تتستر معالمها، وتتنكر معارفها، وتتبلبل السن الناطقين بها يوم يخذلونها. وأكبر ظني أن كانت العربية لذلك العهد قد تبلورت وصارت أكثر ما تكون قرابة للغة الأدب التي ورثنا إياها التاريخ. فعزت على القوم أن تصاب لغتهم بذلك الذي توقعه أهل الرأي عندهم. ومن ثم قام أجلتهم يحتاطون للأمر؛ وذهب نفر من علمائهم إلى وجوب وضع دساتير للغة تحميها شر عدوان الزمن، وتحفظها على طول الأمد، وما إن استقر الرأي على هذا، حتى بدءوا العمل به. فكانت هذه فيما أرى، البداية المباركة في وضع علوم اللغة للسان العرب

وإذاً، فقد نشأت هذه العلوم في كنف من الغموض، يحجبها عنا عصر خفي علينا زمانه، واختفى معه كل اثر لمحاولات الأئمة الأول، تلك المحاولات التي انتهت بهذه الدساتير المسوقة إلينا من نحو وصرف وإعراب وغيره

وكان من الطبيعي أن يجر البحث في وضع دساتير اللغة إلى محاولة التفلسف فيها. وهكذا كان شأن علماء العربية، إذ نجد أن بعض الباحثين من علماء العصر الأول الإسلامي لهم فيها مسائل، ومن بينها مسألة النطق بالكلام. وهذه المسالة إذاً، ليست وليدة الأبحاث العلمية

ص: 12

في علوم اللغة لعصر من العصور الحديثة، كما يزعم الزاعمون من رجال العلم في الغرب، بل هي - على حد ما وصل إليه تحقيقنا - مسألة ترتقي عند أبناء العربية إلى أول عهدهم بالقران الكريم، حين اقبلوا على تفسيره ودراسته دراسة لغوية توطئة لفقه دقائق ما جاء به. بل ومن المحتمل غاية الاحتمال أن تكون هذه المسالة ابعد غوراً مما ذكرنا وذلك استناداً إلى ما وضح لنا من أن نشأة علوم اللغة قد سبقت العصر الإسلامي، وأن التفلسف فيها كان ملازما لنشأتها. وقد يصبح هذا الاحتمال يقيناً لا مريه فيه. حين تتجه الأبحاث العلمية إلى تحقيق تاريخ وضع دساتير اللغة، وتنتهي إلى ما تظمئن إليه في هذه الناحية

وسواء أصحت هذه الدعوى الثانية أم لم تصح، فليس هذا الذي قام به أفاضل المسلمين الأول من تفلسف في الأبحاث اللغوية بالأمر اليسير الشأن، ولا هو بالمستكثر عليهم. فالعرب، ويشاركهم في ذلك أبناء الصين، يفضلون في رأي جمهرة اللغويين الحديثين، بقية الشعوب بنزعتهم إلى التفقه في اللغة. وهذه النزعة هي التي حملتهم على النهوض بالدراسات اللغوية نهوضاً مبكراً، تجلى أثره في وفرة ما صنفه العرب من كتب ورسائل في علوم اللغة، كما تبين خبره في كثير مما تفرق لهم من أبحاث في مختلف مسائلها جاءت ضمن عدد آخر من موسوع مؤلفاتهم. وليس بغريب - وهذه حالهم - أن نجد في بعض مصنفاتهم الخاصة بعلوم اللغة، وكذلك تلك التي لها بعلوم اللغة صلة، نزعة فلسفية واضحة

ويمكننا القول، استناداً إلى ما وسعته المكتبة العربية من مصنفات وصلت ألينا، أن الفخر الرازي كان أول من تقصى آراء المتقدمين، وذهب إلى نقد فريق ممن تفلسفوا في هذه المسائل. وأن السيوطي كان أول من عنى من المتأخرين بإيضاح هذه الناحية، وعمل على بسط آراء من تقدموه بسطاً مجملاً. وأن جولد تسهير كان أول من اهتدى من المستشرقين إلى هذا. فلما أن وقف الغربيون على مجرى تفكير العرب هذا، أكبروا فيهم تفقههم المبكر في اللغة، ودهشوا لعناية العرب بهذا الضرب من التفكير الفلسفي، قبل أن يتقدم إليه أساتذتهم اليونانيون في الفلسفة

ولعل الذي حدا بالعرب إلى هذا النوع من التفكير الفلسفي ما أثير من قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها). فذهب جماعة من أهل السنة إلى أن لغة العرب توقيف ووحي. واتفق

ص: 13

آخرون من أهل النظر، وأكثرهم من المعتزلة، على أن اصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، وجرهم هذا الخلاف في الرأي إلى النظر في أمر وضع اللغة وأوليتها ومنشئها. وسلكوا في ذلك مذاهب؛ فالتزمت فئة منهم التحقيق العلمي لا تميل عنه في أبحاثها، واستسلمت فئة أخرى إلى ظنون تعوزها الأدلة، فراحت تستجدي من الدين المعونة. وكان كلما اتسع الخلاف في الرأي على هذه المسائل، كان الاقتراب من الحقيقة أدنى. وكان هذا اقرب للوقوع كلما أحيطت حرية الرأي بسياج من الضمان يكفل ازدهارها. ثم صار ذلك الضمان دستوراً نافذ المفعول للدولة الإسلامية أبان سؤددها. وبقيت حرية الفكر قائمة، مدعمة من الجميع، مكفولة للجميع، فأينعت علوم الدين وعلوم الدنيا. وكانت علوم اللغة إذ ذاك مشاعة بين هذه وتلك. فعلماء الدين يعتبرونها من نصيبهم، إذ هي دعامة تفهم الديانة. وعلماء الدنيا يعدونها حقاً من حقوقهم، إذ هي مفتاح سائر العلوم. وهكذا فازت اللغة بما لم تحظ به بقية العلوم، إذ ارتشفت عصارة فكر الفريقين جميعاً

إلا أن هذا التهافت على خدمة اللغة اصبح لا وجود له، بعد أن فشا استبداد الرأي في الحكم والعلم، وضاق النطاق على حرية القول والفكر. فكان ذلك إيذاناً بانتهاء العصر الذهبي للغة العربية. وما كان ذلك ليقع إلا ويختفي بوقوعه أعمال رهط من جهابذة علماء اللغة. فحيل بينها وبين الظهور أعماراً عديدة، أو هي اندثرت إلى غير بعث أو نشر. ومن ثم ضاع الكثير من الدرر الغوالي التي ازدانت بها مصنفات اللغة في العصور الإسلامية المتقدمة، كما ضاع غيرها للعصر الجاهلي. ولا عجب وقد تمثل لنا بعض ما أصاب لغتنا، أن يتفق الرأي، عند أهل التحقيق من أصحاب علم العربية، على أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل. وما كان هذا الحال ليقعد علماء العربية عن واجبهم، أو ليدفعهم إلى شيء من التفريط في أمانتهم التي تشرفوا بحملها. فظهر منهم في العصور المتأخرة عدد من المجتهدين أرادوا بعلوم اللغة خيراً، فعمدوا إلى ما ورثه لنا أسلافنا الأول يريدون تنميته وتعزيزه. ولكنهم أبوا أن يسايروا الزمن فيما تطورت إليه العلوم، وما استنبط من طرائق ووسائل للقيام بأبحاث علمية، اهتدى إليها المفكرون في الأمم النابهة، فأصابهم ما أعجزهم عن متابعة السير، وبقيت علوم اللغة حيث كانت.

ص: 14

والآن، وقد أصاب العربية الفصحى ما أصابها، وأدركها الركود، فباعد بينها وبين أن تفي بحاجات الحياة في العصر الحاضر، أو تفي بمطالب العلوم والفنون في تقدمها المطرد، فلا سبيل لإحيائها إلا بانتهاج نهج علمي غير الذي سار عليه المتأخرون من أبناء العربية إلى اليوم. وهو إن يكن في مجموعه جديداً بالنسبة لنا، فقد سبقتنا إليه أمم الغرب وبعض أمم الشرق، فجدت طلائع علمائهم في دراسة لغاتهم، وعكف نفر منهم على دراسة لغتنا على أساس من العلم صحيح. وكان أن وفقوا إلى استنباط علوم جديدة يستكملون بها علوم العربية؛ فافردوا لكل من اللهجات والأصوات والدلالات اللفظية والمفردات وتشكل الكلمات والأساليب علوماً قائمة برأسها، ثم ربطوا هذه العلوم بعضها ببعض. والتزموا فوق هذا وذاك دراسة جميع اللغات الشرقية وغيرها مما له بالعربية صلة، وذلك توطئة لدراسة النحو المقارن للغات السامية، وتوصلاً إلى معرفة اصل الكلمات ونسبها. وفي ذلك كله تيسير لمعرفة التطور التاريخي لمعاني الكلمات، وتذليل لمعرفة التطور العام للغة. وما كان لهؤلاء الآجلة من العلماء ليتجشموا كل ذلك الذي وجب علينا أن نتجشمه، إلا ابتغاء الكشف عن أسرار العربية والتشبع بروح هذه اللغة الشريفة. ولكن قد لا يتهيأ لنا ولهم الاستفادة من هذه العلوم، استفادة ترضي الوجه الصحيح من البحث العلمي، حتى يخرج لنا المحققون ثمين ما صنفه الأقدمون في علوم اللغة، وفي سائر العلوم التي لها بالعربية صلة، وذلك من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات، على أن تكون طبعات علمية صحيحة

ومن ذلك كله يتضح لنا إن هذا النهج رغم وفرته لا مفر من انتهاجه. وإنه وإن يكن نهجاً وعر المسالك كثير الشعب، إلا أنه كفيل بأحياء العربية والمد في عمرها ابد الآبدين. فإذا ما صحت عزيمتنا على السير فيه أدينا للعربية أجل خدمة ترتجي لها في وقفتها هذه. ولاشك أن حب اللغة، ذلك الحب الذي يفضل به الإنسان الحيوان، سوف ييسر لنا هذه المهمة الشاقة فيدفعنا إلى تحقيقها دفعاً في عزيمة صادقة ثابتة، وبنفس راضية مطمئنة. وحين يعمل علماؤنا على أداء هذه الرسالة يتبارون ضمناً في إشعال جذوة الثقافة بين أبناء العربية، ويساهمون فوراً في تفجر نهضة صحيحة. وقد ثبت أن لا قيام لنهضة فكرية ما لم تبدأ بإنهاض اللغة

وقد أدرك القدامى من أهل التحقيق ذلك، إذ قالوا: لا تعمر عراص الدين والعلم والأدب إلا

ص: 15

بطول عمر اللغة. نعم، ولكن لا يطول عمر اللغة حتى يحال بينها وبين اكتهالها فشيخوختها، ولا يقيها شر الشيخوخة إلا ضمان فتوتها، ولا بقاء لفتوة إلا مع التجديد، ولا يكون التجديد حتى يدرك تطورها، ولا تطور يرتجي حتى يتبين اصلها ونشاتها، ولا تعرف لها نشأة حتى نهتدي إلى نشأة النطق بالكلام. وهذا ما أرجو أن أحاول بحثه في غير إطالة متوخياً عقده في فصول متتابعة.

إبراهيم إبراهيم يوسف

مساعد الأستاذ أ. فيشر

بمجمع فؤاد الأول للغة العربية

ص: 16

‌من القصص الإسلامي

جارية البصرة

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كانت الجمال تميس ميساناً هادئاً، تحمل الخليفة الرشيد إلى الحج. وكان لابد لها، وقد بلغت البصرة، من الوقوف بها ليتمتع الركب بما فيها من جمال وجلال؛ فقد كانت هادئة انيقة، تستفيق على همس النخيل كأنه وسوسة القبل، وتنام على دغدغات دجلة كأنها مناغاة ألام، وزغردة الوليد. وكان أهلها، إلى ذلك، من أكثر الناس اقتناء للعاج والديباج، وكان نساؤها مشهورات بالدلال، وبيوتها ضاحكات بالفضة باسمات بالذهب. . . ونهرها يفيض متدفقاً صخوباً يتساقط في أوله الرطب، ويتمايل على حفافيه النخيل والقصب.

ونزل الخليفة، ومعه جعفر بن يحيى، ووراءهما حاشية عريضة من الملهين والمغنين والزهاد.

ولم ير الرشيد أن يتحول عن هذه المدينة قبل أن يعلم أحوال الناس فيها؛ فدفع جعفراً إلى الطواف بها، ليتحسس اخبارها ثم يعود فيخبره بما سمع وبما رأى.

فلما عاد عشية ذلك اليوم قال له الرشيد: (إيه يا جعفر! حدثني بعجيب ما رأيت. . .)

قال جعفر: (لقد طوفت في المدينة يا أمير المؤمنين، فسمعت من ناسها ما يشكون وما يرغبون. وكنت اعلم كل شيء من غير عناء لتنكري. فلما كنت في إحدى الأسواق، اقبل علي نخاس يبيع الجواري والقيان، وهمس في أذني أن لديه جارية مغنية تباع، وأن مولاها ممتنع من عرضها إلا في داره؛ فتطلعت نفسي إلى معرفة أمرها، وتاقت لرؤيتها، فمضيت معه. . . حتى وقف عند باب شاهق يدل على نعمة وثراء، فطرقه؛ وإذا شاب حسن الوجه، دقيق العود، عليه قميص ممزق، يفتح لنا. فدخلنا إلى دهليز طويل مظلم. . . وانتهينا إلى دار واسعة خراب. فاخرج لنا الفتى من غرفة قطعة متآكلة من حصير، ففرشها لنا، وجلسنا عليها، ثم مضى ليحضر المغنية، فأخذت أفكر في أمر هذه الجارية، وتساءلت لم تعيش في هذه الخرائب؟ ومن تكون. . .؟ وما شأن هذا الفتى معها؟. . . وإذا بها تخرج علينا، زهراء غيداء، وعليها القميص الممزق الذي كان يلبسه الفتى منذ لحظات. فرايتها صبيحة الوجه، مياسة القد، حلوة العينين، ناهدة الثديين، وأدهشتني ببراعة جمالها ونضارة

ص: 17

جسمها؛ فأمرتها بالجلوس وتقدمت إليها بالغناء. فضربت على عود ضرباً ما سمعت ارق ولا أحلى حلاوة منه، واندفعت تغني:

نمّتْ علينا زفرةٌ صاعدهْ

وملّني العائدُ والعائدْ

فلم اسمع يا أمير المؤمنين أشجى ولا افجع ولا اطرب من غنائها. ثم أخذت تبكي، وذرفت دمعاً هاج حزني ولكم قلبي، وأرسلت آهات ناعمات من صدر ملوع وقلب مفجع. ثم سمعنا فجأة بكاء الفتى من الغرفة المجاورة. فقامت الجارية إليه. وطرق آذاننا صوت بكاء محزن، وشهيق اليم؛ ثم سكنت الأصوات حتى حسبنا انهما ماتاً. فعجبنا من أمرهما، وقلت للنخاس:(ويحك! قم فانظر ماذا أصابهما. . .) وإذا بالفتى يخرج قائلاً: (عفواً يا سادتي. . .!) ثم غلبه البكاء فلم يستطع الكلام. فأشفقت عليه وقلت: (ما حالك يا فتى؟) فبكى. فأعدت عليه السؤال وألححت في الطلب، فتحرك وقال:

(نشأت نشأة فريدة مغمورة بالعطف والدلال. وكان أبي موسراً، أزهرت النعمة في دياره وتدفقت الدنانير عليه. وكنت ألهو في بستان يحيط بالقصر مع هذه الجارية التي ربتها أمي. فكنا نرتع فوق العشب، ونغوص في الماء، ونتسلق النخيل، ونطلق أنفسنا في لهو الطفولة الحلو. على أني كنت أحس بانقباض في صدري إذا ابتعدت مني؛ واشعر بالوحشة تغمرني كلما غابت عني، فلما بلغت السابعة وبلغتها، جيء لي بمؤدب يؤدبني، واتى لها بمغنية تتخرج عليها. أما أنا فتوفرت على الأدب التقط النوادر، واحفظ الفرائد، واروي الأشعار والأحاديث. وأما هي فقد انقطعت إلى الغناء لتمهر في طرائقه وتبرع في أصواته. فلما أورق غصني ورف صباي، ازداد حبها في قلبي؛ وخطبني وجوه أهل البصرة لبناتهم، وذاع صيتي في البيوتات، وأصبحت أمنية العذارى والفتيات، ورغبن فيّ لفصاحتي وأدبي ووفرة مالي. فأعرضت عنهن جميعاً وصبوت إلى هذه الجارية التي كان الجمال يرتع في جسمها، والفتنة تسجو في عينيها، فيتحرق قلبي ويتألم، ويضؤل جسمي ويرق

لقد كان صوتها، يا مولاي، مسكراً ناعماً حلواً. كنت انتشى فاغمر فمها الحلو الصغير بقبلي. . . أو اجثوا أمام قدميها فيزداد طربي. . . لقد كان في صوتها شيء يداعب الروح لا أدري كنه؛ شيء فيه نعومة وشهوة وحنين. فكانت إذا فرغت من الغناء جلست أمامي لأطربها بالأشعار، وأضحكها بالنوادر، وأطرفها بالأحاديث

ص: 18

فلم بلغ بها الغناء مبلغاً بعيداً، عزمت أمي على بيعها، وهي لا تدري ما في نفسي من وجد وشوق. فغامت الدنيا في عيني، ولجت نفسي في ألوان من الأفعال اقلها الانتحار. ثم قررت أن اصدق أمي خبري فأخبرتها. فأشفقت علي ووهبتها لي، وجهزها أبي كما يجهز أهل البيوتات بناتهن وجواريهن

ونعمت معها دهراً لهوت بها عن الدنيا وما فيها. وكنت احب سماع صوتها في ألاماسي والأصابيح تحت ظلال النخيل، وبين القصب؛ فكانت تغنيني فأتيه وأغيب. ولكني وا أسفاه! لم اصح من هدهدات الغناء إلا على نوح النائحات وبكاء الباكيات؛ فقد مات أبي، وأنا ما أزال في ريعان الصبا

وانتقل إليّ بوفاته ما لا أحصيه من الأموال. على أني لم أكد أسلو لوعة الفقد الأولى. حتى عاجل الموت أمي. فبكيت وحزنت، ثم أغواني الشيطان وقال: مالك وللحزن! إن شبابك يفنى وعمرك ينقضي، فانعم ولذ بجاريتك. فأسأت تدبير الأموال، وعكفت على اللهو والقيان، فتلفت نعمتي، وابتزت الحسان مالي، فعشت في هذه الخرائب كما ترى؛ بكاء على الماضي وحنين لأيام الهناءة والنعيم

وذرف دمعة، يا أمير المؤمنين، وصمت. فقلت له: ثم ماذا؟ أتمم. . . أتمم. . .! قال: (وبقيت على ذلك سنتين، لا نذوق طعم اللحم إلا لماماً. وكانت يا مولاي وفية، لا تستطيع مفارقتي رغم ما تلاقيه من ضنك العيش ومرارة الإقلال. وكانت تحبني حباً عنيفاً، فادركتني الشفقة عليها، وقلت لها: استمعي يا أختاه! لقد عبست لنا الأيام، فأصبحنا كما ترين، وأنت ما تزالين غضة الصبا، ريانة الشباب، وأنا آلم لما تكابدينه من البؤس والفقر، واعلم أني تالف متى فارقتك، ولكني أوثر أن أراك منعمة هانئة، فدعيني أعرضك على أصحاب الخليفة، فلعل واحداً يشتريك فتنعمي معه برغد العيش!

فبكت بكاء كله وله وحنين وقالت: (مالي وللطعام، مالي وللثياب، وأنت إلى جانبي. أنا أريدك أنت، أنت وحدك، لا أريد مالاً ولا ثياباً. . .!) فحزنت وقلقت، ولكني خرجت سراً إلى هذا النخاس فأطلعته طلع أمري، وأعلمته أني لا اعرضها إلا في داري لئلا تمتهن بالأسواق ويراها السوقة والعوام.

فلما جئتنا الساعة، بقيت في الغرفة، وألبستها ثوبي الممزق فما عندي ولا عندها غيره.

ص: 19

وجلست ابكي. ولما دخلت عليّ بعد غنائها قالت لي: (الست مللتني، وآثرت فراقي؟ فلم تبكي؟ بعد هذا علي!) فقلت لها: (إن فراق نفسي اسهل علي من فراقك، وإنما أردت أن أخلصك من هذا الشقاء!) قالت: (الست أنا راضية بهذا الشقاء؟) فاضطربت، وخرجت إليك يا مولاي لأخبرك أني عدلت عن البيع!)

واهتز الرشيد لطرافة الأحدوثة وحلاوة الكلام وقال: (إلا فليكن هكذا المتحابون. . .! فماذا حدث بعد ذلك يا جعفر؟)

قال: (تركتهما يبكيان، وأرسلت صاحب الشرطة ليبتاعها لي غصباً!) قال الرشيد: (ويحك! أهكذا تكون المروءة؟ كيف تفرق بينهما وتشتت شملهما؟ تعال يا غلام، قم يا حماد ثم يا جعفر، ردوا هذين المحبين إلى رغادة عيشهما وهناءة حبهما. اجمعوهما بالوئام، وأفرحوهما باللقاء والسلام، وانثروا هذه الآلاف الثلاثة من الدنانير أمامهما؛ فليس أثوب من جمع المتحابين! وإن شاءا فاحملوهما إلينا واخلطوهما بحاشيتنا، فانهما يستحقان معاشرة الملوك

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 20

‌5 - خزانة الرؤوس

في دار الخلافة العباسية ببغداد

للأستاذ ميخائيل عواد

(ج) رأس صالح بن مدرك، رأس جمبش بن ذبال، رأس غلام

لصالح بن مدرك

لا تخلوا أخبار الحاج في كل سنة من أحداث خطيرة تلم بهم يتعمدها قطاع الطرق والفساق ومن خرج على الدولة يومذاك؛ فتسلب أموالهم، ويقتل اكثرهم، ويتيه بعضهم في بطن الصحراء فيهلك من العطش والجوع والحر. ولا يسلم منهم إلا نفر قليل

فمن تلك الأحداث ما وقع في سنة 286هـ، والخليفة يومذاك المعتضد. ذكر المسعودي أن في هذه السنة (ظفر أبو الأغر خليفة بن المبارك السلمي بصالح بن مدرك الطائي بناحية فيد مكراً في ذهابهم إلى مكة، وقد كانت الأعراب جمعت لأبي الأغر ليستنقذوا صالحاً من يديه، فواقعهم فقتل رئيسهم جحيش ابن ذيال وجماعة معه واخذ رأسه، فلما علم صالح بن مدرك بقتل جحيش بن ذيال يئس من الخلاص من يد أبي الأغر؛ فلما نزل المنزل المعروف بمنزل القرشي أتاهم غلام بطعام فاستلب منه سكيناً وقتل نفسه، فاخذ أبو الأغر رأسه وأظهره بالمدينة فتباشر الحاج. وكان لأبي الأغر في رجوعه وقعة عظيمة اجتمع هو وتحرير وغيرهما من أمراء قوافل الحاج من الأعراب؛ وكانت الأعراب قد اجتمعت وتحشدت من طي وأحلافها، فكانت رجالتها نحواً من ثلاثة آلاف راجل، والخيل نحو من ذلك، فكانت الحرب بينهم ثلاثاً وذلك بين معدن القرشي والحاجر، ثم انهزمت الأعراب وسلم الناس. وكان ممن تولى بابي الأغر الحيلة على صالح بن مدرك سعيد بن عبد الأعلى، ودخل أبو الأغر مدينة السلام وقدامه رأس صالح وجحيش، ورأس غلام لصالح اسود، وأربعة أسارى وهم بنو عم صالح بن مدرك. فخلع السلطان في ذلك اليوم علي أبي الأغر وطوقه بطوق من ذهب، ونصبت الرؤوس على الجسر من الجانب الغربي، وادخل الاسارى المطبق)

(د) رأس ابن الرضا:

ص: 21

وابن الرضا هذا، هو محسن بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد، ظهر (في أعمال دمشق في سنة ثلاثمائة، وكانت له مع أبي العباس أحمد بن كيغلغ وقعة، فقتل صبراً، وقيل قتل في المعركة وحمل رأسه إلى مدينة السلام، فنصب على الجسر الجديد بالجانب الغربي)

5 -

تعليق الرؤوس بازاء دار الخلافة العباسية ببغداد:

(ا) رأس بزبه

روى خبره ابن الجوزي في حوادث سنة 542هـ قائلا: (. . . وورد الخبر أن بزبه راسل سحنة اصبهان فاستماله ورحل إليها ومعه محمد شاه. وكان السلطان مسعود مقيماً بهمذان وعساكره قليلة؛ فأرسل إلى عساكر اذربيجان فتأخروا عنه، فسار بزبه من اصبهان سيراً يمهل فيه، فلما قاربها وصلت عساكر أذربيجان إلى السلطان، وكان بزبه قد جاء جريدة في خمسة آلاف فارس، فضرب على عسكر السلطان فكسر الميمنة والميسرة، وكان مسعود قد تأخر عن المصاف في ألف فارس، وكان عسكره عشرة آلاف، فاشتغل عسكر بزبه بالنهب والقتل، فجاء مسعود فحمل عليهم، فالتقى هو وبزبه، فكبت الفرس ببزبه فوقع، فجيء به إلى مسعود فقطع نصفين، وجيء برأسه فعلق بازاء دار الخلافة. . .)

6 -

تعليق الرؤوس فوق باب النوبي

(ا) رأس ابن سنكا:

من الأخبار الواردة إلى بغداد في شعبان من سنة 569هـ: (أن ابن أخي شملة التركماني ويعرف بابي سنكا قد استحدث قلعة في ولاية باذرايا بقرب من قلعة الماهكي، ليتخذها ذريعة إلى الإغارة على البلاد، ونقل إليها الميرة؛ فبعث السلطان إليه الجيوش فالتقوا، فحمل بنفسه عليهم، فطحن الميمنة، فتقدم قيماز العميدي إلى الأمراء فحثهم على خوض الماء، وكان قد فتح البثوق يحتج بها، فخاض قيماز ومعه جماعة فغرقوا ثم اقتتلوا، واسر ابن سنكا، ثم قتل وجيء برأسه فعلق بباب النوبة (كذا والصواب: النوبي). . .)

(ب) رأس طغرلبك السلجوقي

ص: 22

هو السلطان طغرلبك شاه بن أرسلان شاه بن طغر شاه ابن محمد بن ملكشاه بن ألب ارسلان بن داود بن ميكائيل ابن سلجوق السلجوقي آخر ملوك السلجوقية بالعراق كان سفاكاً للدماء وقد هابته الملوك. قتل وزيره رضي الدين الغزنوي وفخر الدين العلوي رئيس همذان. وكان مصرعه في سنة 590هـ قال ابن كثير في حوادث هذه السنة: (وفيها ملك السلطان خوارزم شاه تكش - ويقال له ابن الاصباعي - بلاد الري وغيرها؛ واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي، وكان قد تسلم بلاد الري وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وعظم شانه. ثم التقى هو والسلطان طغرلبك في شهر ربيع الأول من هذه السنة، فقتل السلطان طغرلبك، وارسل رأسه إلى الخليفة فعلق على باب النوبة (كذا والصواب: النوبي) عدة أيام. . .)

7 -

نصب الرؤوس على باب العامة

(ا) رأس هرون بن غريب الخال، رؤوس جماعة من قواده

وهرون هذا هو ابن خال المقتدر بالله. كان ذا شان كبير في أيام المقتدر والقاهر، ولما بلغه خلع القاهر وتقليد الراضي الخلافة؛ وكان يقيم بالدينور - وهي قصبة أعمال ماه الكوفة - متقلداً أعمال المعاون بها، وبمسبذان ومهرجا نقذق وحلوان؛ رأى أنه أحق بالدولة من غيره لقرابته من الراضي، فغلظ ذلك على ابن مقلة الوزير، وعلى محمد بن ياقوت صاحب الشرطة، وعلى الحجرية والساجية والمؤنسية، فسار إلى بغداد حتى وافى خانقين فخاطبوا بأجمعهم الراضي؛ فقال: أنا كاره له فامنعوه من دخول الحضرة وحاربوه إن أحوج إلى ذلك

وهكذا اشتعلت الحرب بين هؤلاء، وبين هرون وأصحابه حتى كان فيها هلاكه. قال مسكويه في رواية مقتله: (ولم تزل الحرب غليظة إلى أن قارب انتصاف النهار، وركب هرون بن غريب مبادران وسار متفرداً عن أصحابه على شاطئ نهر بين يريد قنطرته لما بلغه أن ابن ياقوت قد عبر القنطرة، وقدر أنه يقتله أو يأسره، فتقطر به فرسه فسقط منه في ساقية، فلحقه يمن غلامه فضربه حتى أثخنه بالطبرزينات، ثم سل سيقه ليذبحه فقال له هرون: يا عبد السوء أنت تفعل هذا وتتولى بيدك قتلي أي شيء أذنبت به إليك؟ فقال له: نعم أنا افعل بك هذا وحز رأسه ورفعه وكبر فتبدد رجال هرون. . . وسار محمد بن

ص: 23

ياقوت إلى موضع جثة هرون فأمر بحملها إلى مضربه فحملت وأمر بتكفينه ودفنه. ودخل بغداد وبين يديه رأس هرون وعدة من قواده فأمر الراضي بنصب الرؤوس على باب العامة)

8 -

نصب الرؤوس على أسوار السجون ببغداد

(ا) رأس أبى يزيد خالد بن محمد الشعراني

ذكر قصته الطريفة عريب بن سعد القرطبي في مدار كلامه على أخبار بني العباس في سنة 304هـ، فقال:(وفي المحرم من هذه السنة ورد كتاب صاحب البريد بكرمان يذكر أن خالد بن محمد الشعراني المعروف بابي يزيد؛ وكان علي بن عيسى الوزير ولاه الخراج بكرمان وسجستان، خالف علي السلطان، ودعي أميراً وجمع الناس إلى نفسه. . . فكتب المقتدر إلى بدر الحمامي في إنفاذ جيش إليه ومعاجلته، فوجه إليه بدر قائداً من قواده يعرف بدرك، وكتب بدر قبل إنفاذ الجيش إلى أبى يزيد الشعراني يرغبه في الطاعة، ويتضمن له العافية مع الإنهاض في المنزلة وخوفه وبال المعصية فجاوبه أبو يزيد: والله ما اخافك، لاني فتحت المصحف فبدر إلي منه قول الله عز وجل (لا تخاف دركا ولا تخشى) ومع ذلك ففي طالعي كوكب بياني لابد أن يبلغني غاية ما أريد. فانفذ بدر الجيش إليه، وحوصر حتى اخذ أسيراً فقيلت فيه أشعار منها:

يَابَا يَزيد قاتل البُهتان

لا تَغترر بالكوكب البَيْباني

واعلم بأن القتل غاية جاهلٍ

باع الهدى بالغي والعصيانِ

قد كنت بالسلطان عَالي رتبةٍ

من ذا الذي أغراك بالسلطانِ

ثم آتى الخبر بأن أبا يزيد هذا مات في طريقه، فحمل رأسه إلى مدينة السلام، ونصب على سور السجن الجديد)

(ب) رؤوس ثلاثة رجال من أصحاب الحلاج:

بعد مقتل الحلاج تفرق أصحابه أيدي سبا: فمنهم من ذهب إلى خراسان، ومنهم من بقي في العراق متوارياً عن الأنظار، بينا رجال الشرطة وأصحاب الأخبار لا يألون جهداً في البحث عنهم. فمن أخبارهم في سنة 312هـ أن نازوك، وكان يومذاك صاحب الشرطة

ص: 24

(جلس في مجلس الشرطة ببغداد، فاحضر له ثلاثة نفر من أصحاب الحلاج، وهم حيدرة والشعراني، وابن منصور. فطالبهم بالرجوع عن مذهب الحلاج فأبوا؛ فضرب أعناقهم ثم صلبهم في الجانب الشرقي من بغداد، ووضع رؤوسهم على سور السجن في الجانب الغربي

(يتبع)

ميخائيل عواد

ص: 25

‌46 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

الفصل الرابع

الصناعة

من المحزن أن يوازن المرء بين فقر مصر الآن، وبين رخائها قديماً حينما كان اختلاف الصناعات وأناقتها وإتقانها تثير إعجاب الأمم المجاورة. وكان المصريون في غنى عن التجارة الخارجية لتنمية الثروة أو زيادة الرفاهية. وقد دل الكشف عن الآثار على أن المصريين انفردوا إلى حد كبير في السمو بالفنون في عهد موسى وقبل ذلك أيضاً. ولم يكن الفراعنة والكهنة وقواد الجيش في تلك الأزمنة الغابرة يعيشون وحدهم في ترف رفيع ويلبسون ارق الأنسجة الكتانية ويجلسون على سرر وكراسي نستخدمها نماذج لأثاث ابهائنا الحديثة، بل كان لكثير من أغنياء المزارعين وغيرهم من الأفراد كأولئك. ولا تزال الطبيعة تجود بنعمها على سكان وادي النيل، كما كانت في قديم الزمن. غير أن المصريين لم يعودوا ينعمون لعدة أجيال بحكومة مستقرة، فكان كل من الولاة المتعاقبين في هذه المدة الطويلة يعمد إلى تنمية ثروته الخاصة، لعدم توطد ولايته. وهكذا هلك بالتدريج كثير من المصريين وقضي على الباقين أن يعيشوا في عوز اليم. وإذ كان الذكور من السكان يكاد عددهم يزيد على القدر اللازم لزراعة الأراضي التي يغمرها الفيضان أو يسهل ريها بالوسائل الصناعية، كان عدد هؤلاء الذين يجترفون الصناعة في هذا البلد شديد القلة نسبياً. ولا تتم أعمال المصريين عن براعة كبيرة لقلة التنافس وعدم تشجيع الأغنياء. غير أن انحطاط الصناعات اليدوية يرجع إلى حد بعيد إلى سبب آخر وهو أن السلطان سليم التركي بعد أن غزا مصر نقل على ما قال الجبرتي عدداً كبيراً من البارعين في الحرف

ص: 26

التي لا تمارس في تركيا فقضي بذلك على أكثر من خمسين صناعة يدوية في مصر

حرم الإسلام كما سبق أن بينت، استخدام التصوير والنحت في رسم الأحياء، غير أن بعض المسلمين المصريين يحاول رسم الرجال والأسود والجمال وغيرها من الحيوان والزهور والقوارب وذلك على الأخص لزخرفة واجهات الحوانيت وأبواب الحجاج كما يقولون، وإن كانت محاولاتهم هذه تفوقها رسوم صغار الأطفال عندنا. ولكن الدين الإسلامي يسر الصناعة خاصة باستلزامه أن يعرف كل امرئ فناً أو عملاً يمكنه وقت الضرورة من سد حاجته وإعالة من يتولى أمرهم والقيام بواجباته الدينية والأدبية. ويبرع المصريون على الأكثر في فن العمارة، فتجد اجمل نماذج العمارة العربية في العاصمة المصرية وضواحيها. وليست المساجد والأبنية العامة الأخرى وحدها هي التي تستحق الاعتبار لعظمتها وجمالها، ولكن الكثير من المساكن الخاصة أيضاً تثير الإعجاب ولاسيما هيئتها الداخلية وزخرفتها. على أن هذا الفن كأغلب الفنون الأخرى انحط كثيراً في السنوات الأخيرة؛ فقد اخذ المصريون عن الأتراك طرازاً جديداً ساذج الشكل بعضه شرقي وبعضه أوربي وفضلوه على العربي. وتنم الأبنية ذات الطراز القديم، أبوابها وسقوفها وبلاطها، التي سبق وصفها، عن ذوق فريد. وكذلك أكثر الصناعات المصرية تنم عن الذوق وإن كان الكثير منها ينقصه الإتقان. وكان الخراطون، وشغلهم الأول عمل الشبابيك، كثيري العدد، وكان عملهم حينذاك أكثر اتقاناً؛ أما الآن فقد قلت أعمالهم، لأن نوافذ المنازل الحديثة تصنع من الزجاج. ولا يظهر المصريون المحدثون في صناعة الزجاج التي اشتهروا بها قديماً مهارة كبيرة، فقد انحط عندهم فن الزجاج الملون؛ غير انهم لا يزالون موضع الإعجاب في صناعة النوافذ الزجاجية وإن لم يكن ذلك بقدر ما كان في السنوات الماضية قبل أن ينقص تفضيل الطرز الجديد من أعمالهم. والصناعة الخزفية في مصر غليظة، وهي تشمل عمل القلل والجرار لحفظ المياه وتبريدها. ويستحق المصريون الشهرة التي نالوها في مهارة أعدادهم السختيان. ويستعمل المصريون السعف وأوراق النخيل في صناعات مختلفة فيصنعون من السعف الأقفاص والكراسي والصناديق والسرر الخ. . . ومن الأوراق السلال والقفف والحصر والمكانس والمذبات، وغير ذلك من الآلات. ويفتلون من ألياف النخيل أكثر الحبال المصرية. ويصنعون احسن الحصر التي يستخدمونها صيفاَ

ص: 27

بدل البسط، من البردي. وقد فقدت مصر الشهرة الني نعمت بها قديماً في صناعة الكتان الرقيق؛ فالملابس الكتانية والقطنية والصوفية التي تغزل في هذا البلد غليظة الصنف حقيرته

اشتهر المصريون طويلاً في صناعة التفريخ. ويبدو أن هذه الصناعة كانت شائعة في مصر في سالف الأزمنة وإن وصفها الكتاب الأولون وصفاً غامضاً. وهم يطلقون في الوجه البحري على البناء الذي يتم فيه التفريخ (معمل الفراخ) وفي الصعيد (معمل الفروج). وفي الوجه البحري أكثر من مائة معمل، وفي الصعيد أكثر من نصف ذلك العدد. ويعين اغلب مراقبي هذه المعامل إن لم يكن جميعهم من الأقباط. وتفرض الحكومة على هذه المعامل ضريبة. ويبنى المعمل بالأجر أو اللبن ويتكون من أفراد ومواقد صغيرة للنار على صفين متوازيين يفصل بينهما دهليز معقود ضيق. ويبلغ حجم كل من الأفران تسع أقدام أو عشرا طولاً تقريباً، وثماني أقدام عرضاً، وخمسا أو ستا ارتفاعاً. ويعلو كلا منها موقد مقبولا يختلف عنها حجماً والأفضل أن يكون اقل ارتفاعاً. ويتصل الفرن بالدهليز بواسطة فتحة تسمح للإنسان بالدخول كما يتصل الموقد بفتحة مماثلة. وتتصل المواقد في الصف نفسه بعضها ببعض أيضاً لكل كوة في قبوه لمرور الدخان ولا تفتح إلا عرضاً. وكذلك الدهليز يوجد به عدد كوى كالسابقة في سقفه المعقود. ويوضع البيض في الأفران، فوق الحصر أو على القش عادة، على طبقات ثلاث يعلو بعضها بعضاً. ويحرقون السرقين (الجلة) في المواقد التي تعلو الأفران ثم يقفلون مدخل المعمل بأحكام. ويتقدم المعمل حجرتان أو ثلاث حجرات صغيرة للمراقب والوقود والفراخ الناقفة حديثاً. ويجري هذا المعمل شهرين أو ثلاثة في صيف كل عام. ويبدأ التفريخ مبكراً في الصعيد. ويشمل كل معمل بين اثني عشر وأربعة وعشرين فرناً، ويتلقى حوالي مائة وخمسين ألف بيضة في الموسم السنوي، يخيب منها ربعها أو ثلثها. ويورد الفلاح البيض فيفحصه المراقب ويناول الفلاح عادة مقابل كل بيضتين فرخة صغيرة. ويستعمل نصف الأفران في الأيام العشرة الأولى، وتوقد النار في المواقد العشرة التي تعلوها، ثم تطفأ في اليوم الحادي عشر. وتوقد المواقد الأخرى ويوضع البيض الطازج في اسفل الأفران. وفي اليوم التالي ينقل بعض البيض من الأفران السابقة ويوضع في رماد مواقدها. وتظل الحرارة أثناء العملية بين مائة ومائة وثلاث

ص: 28

درجات بقياس فارنيهايت. ويعرف القائم بهذا العمل من تجاربه الطويلة الحرارة اللازمة لنجاح العملية دون الاستعانة بالة ترشده لتعوده هذا العمل من صغره. وفي اليوم العشرين ينقف بعض البيض الموضوع أولاً. ولكن اغلبه يفرخ في اليوم الحادي والعشرين. وتوضع الفراريج الضعيفة في الدهليز وما بقي يوضع في أقصى الغرف الداخلية حيث تبقى يوماً أو اثنين قبل أن تسلم مستحقيها. وعندما تنقف البيضات الأولى ونصف الثانية تتلقى الأفران التي كانت فيها دفعة ثالثة، ثم توضع دفعة رابعة بالطريقة نفسها عندما تفرخ الدفعة الثانية. ولا يقل الدجاج الذي نقف بهذه الطريقة طعماً عن دجاج البيض الذي يحتضن طبيعياً. ويقل دجاج مصر وبيضه في كلتا الحالتين حجما وطعماً عن دجاج بلادنا وبيضه. وقد وجدت في إحدى الجرائد المصرية التي تنشر بأمر الحكومة (العدد 248: 18 رمضان سنة 1346، 3 مارس سنة 1831) الإحصاء التالي:

الوجه البحري

الوجه القبلي

عدد معامل التفريخ في العام الحالي

105

59

عدد البيض المستخدم

19 ، 325 ، 600

6 ، 878 ، 900

عدد البيض المعطوب

6 ، 255 ، 867

2 ، 529 ، 360

عدد البيض المفقس

3 ، 069 ، 733

4 ، 349 ، 240

لا تزال تارة مصر عظيمة وإن انحط شانها كثيراً منذ اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح

ص: 29

بين أوربا والهند، ونتيجة لسياسة محمد علي وخلفائه باحتكار التجارة والاستيلاء على البضائع. وقد تقدمت التجارة كثيراً في السنوات القليلة الأخيرة لاستخدام البواخر الكثيرة بين الإسكندرية وإنكلترا وفرنسا والنمسا من ناحية، وبين السويس والهند من ناحية أخرى، وبإنشاء السكك الحديدية في الوجه البحري.

تستورد مصر الأقمشة الصوفية من أوربا ومن فرنسا خاصة، والشيت والموصلي الساذج والمصور للعمائم من اسكتلندة، والحراير والمخمل والكريشة والشيلان المقلدة عن الكشميري من سكوتلندا وإنجلترا وفرنسا، وورق الكتابة من البندقية خاصة، والأسلحة النارية والنصال المستقيمة من ألمانيا وتستورد هذه للنوبيين الخ. والساعات والفناجين والأواني الخزفية والزجاجية المختلفة واغلبها من ألمانيا والخردة والألواح الخشبية والمعادن والخرز والنبيذ وغيره من المشربات. وكذلك يستوردون الرقيق الأبيض والحرير والمناديل والفوط المطرزة ومباسم الشبك والبوابيج وضروباً من السلع المصنوعة والأدوات النحاسية والبرنزية الخ. من الآستانة، ويستوردون من آسيا الصغرى البسط وسجاجيد الصلاة والتين الخ، ومن سوريا الدخان والحراير المخططة والعباءات والصابون، ومن جزيرة العرب البن والتوابل وعقاقير عديدة والسلع الهندية كالشيلان والحرير الموصلية الخ، ومن الحبشة وسنار أقراص التمر الهندي والصموغ والسنا المكي، ومن الغرب، أي شمال أفريقيا غرب مصر، الطرابيش والبرانس والاحرمة وأحذية الجلد السختيان الأصفر.

واهم ما يصدر إلى أوربا القمح والذرة والأرز والفول والقطن والعنب واللب والنيلج والبن والتوابل المختلفة والصموغ والسني والعاج وريش النعام، والى تركيا العبيد السود والأحباش ذكورا وإناثاً والاغاوات والأرز والبن والتوابل والحناء الخ، والى سوريا العبيد والأرز الخ، والى جزيرة العرب الحبوب خاصة والى سنار والبلدان المجاورة القطن والكتان والصوف وبعض الحراير المخططة السورية والمصرية والابسطة الصغيرة والخرز وحلي أخرى، والصابون والسيوف المستقيمة السابق ذكرها والأسلحة النارية والأدوات النحاسية وورق الكتابة.

(يتبع)

ص: 30

عدلي طاهر نور

ص: 31

‌بين الحب والحظ

سلْمَى

للأستاذ علي شرف الدين

حَنِينُ فُؤادٍ عادَ لي مِنْهُ مَا بَدَا

وَكم رَائحٍ يَأْتِي بِأَخْبَارٍ مَنْ غَدَا

بِقيَّةُ دَمْعٍ في جُفُونِي تنبَّهتْ

وَآثاَرُ جَمرٍ في ضُلُوعِي توَقَّدَا

وَقَدْ كُنْتُ وَدَّعْتُ الْهَوَى وَشُجُونَهُ

فلَمَّا رَأَتْ عَيْناَيَ (سَلْمَى) تَجَدَّدَا

قَصِيدَةُ شِعْرٍ صَاغَهَا اللهُ فِتْنَةً

سَماَوِيَّةُ الألحَانِ عُلويَّةُ الصدَا

يَطوفُ بِها في رَفرفِ الْخلدِ طَائرٌ

إِذَا لاحَ ضَوءُ الصَّبحِ رَاحَ مُغَردا

وَزَهرةَ رَوضٍ قَبلَ الْفجرُ ثَغرَهَا

وَألقَى لَهاَ فيِ جَيبَها العِطْر وَالنَّدا

أرَقُّ مِن الأطيافِ في قَلبٍ رَاهبٍ

تَبّتلَ حَتّىَ صَارَ روُحاً مُجَرَّدا

وَأجَملُ مِنْ عُرسِ الرَّبيعِ بِربَوةٍ

وَأروَعُ مِن فَخرٍ عَلَى الرِّيفِ قَدْ بَداَ

تَوَدَّ النُّجُومُ الزُّهْر لو كان نظمُها

عَلَى جِيدِهَا المَطلُولِ عِقداً مُنضَّدا

وَطَير مُروُجِ الرِّيفِ لَوْ سَال لَحنُهاَ

مَعَ الصُّبحِ منْ سَلمَى حَديِثاً مُرَددَا

فَيَا ظَبيَةَ الفْردَوسِ فَرتْ وَلَمْ تَعُد

عَجْبِتُ لَمن لا يَرتَضي الْخلدَ مَعْهَدا

وَيَا فَرحَةَ الدُّنياَ التَّي هَزَّ بِشرهُا

جَوَانِح قَلبٍ كانَ للحُزنِ مَعبَدا

وَيَا سَلوةَ المَحزُونِ ضَاعَ جِهادُهُ

حَوَى شَبحاً نضْراً وَفِكراً مُشردا

وَيَا أمَلَ المُظلومِ عُفِّرَ حَظَّهُ

فَعادَ كَسيرَ القَلبِ حَيرانَ مُجهدا

لئنْ حَجبتْ نَجميِ عَلى الأفْقِ غَيمةٌ

فَقدْ مَلأتْ سَلمَى سَمائيَ فَرقدَا

وَإِن صَيرتنْي كَبوةُ الحظِّ مُخفقاً

فحسبِي نَجاحاً أنْ أرَاهَا فأسْعدا

نسيتُ بِكِ الآلامَ وَهَي كثيرةٌ

وَبَدلتنيِ منهاَ السُّرور المُجددَّا

وَأبصرتُ جُنحَ الَّليل أزْهَر مُشرِقاً

وَكُنتُ أرَى قَبلاً سَناَ الصُّبح أرْبدَا

وَشاعَ الرِّضا في جَبهةٍ فاضَ نُورُها

وَقد كُنتُ عُمري سَاخطاً مُتمرِّدا

وَإنِّي عَلى حُبي الحَياةَ وَهدبهاَ

مَدينٌ لسَلمى بالحَياةِ وَبالهُدى

خَيالٌ لَها مثلُ الحقيقةَ طيفهُ

أكادُ مَع النَّجوى أمُدُّ لهُ يَدا

لَعمرُك مَا سَلمى سِوىَ أقحُوانةً

لَها صَورةَ الإنِسان جِسماً مُجسدا

ص: 32

علي شرف الدين

ص: 33

‌البريد الأدبي

من شاعر إلى شاعر

(أهدي الأستاذ الشاعر علي محمود طه نسخة من ملحمته

الرائعة (أرواح وأشباح) إلى صديقه الأستاذ محمد عبد الغني

حسن ولم يكن قد أتيحت له قراءتها إلا بعد أن سلم من ثورة

نفسية جامحة فأرسل إليه هذه الأبيات):

هذا كتابك أشباحٌ وأرواحُ

شعر من النغم العلويِّ لمَّاحُ

فيه من الفنِّ إشراقٌ وتجليةٌ

وفيه من ومضات الروح أوْضاح

فيه من السحر ما هاروتُ يصنعُه

وخمرِ بابلَ ما لا تصنعُ الراح

أقررتَ عيني وعين المعجبين به

بكل معنى إليه النفس ترتاح

الشعر ما الشعر إلا روضة عبقت

وأنت فيها طليق الصوت صدَّاح

سريتَ في الشعر مَسرى الملهمين كما

يسري نسيم على الأسحار فوَّاح

فأنتَ في جوِّه العلويِّ منطلق

وأنتَ في بحره اللجيِّ ملاَّح

محمد عبد الغني حسن

إنصاف الأب الكرملي

اطلعت في العدد الأخير من (الرسالة) على قطعة بعنوان (الكرملي في قبضة الحق) بقلم الأستاذ سعيد الأفغاني في دمشق. وإنصافاً للأب المحترم أقول:

خطأ الكاتب الأب، لأنه أنكر (أحجاراً ملساء) وصححها (بأحجار ملس) وقال:(لك أن تقول أشهر محرمة ومحرمات وأياماً معدودة ومعدودات) ولم يأتنا بمثل من القرآن أو الحديث أو كلام بليغ على مثل (مباسم فلجاء وعيون دعجاء وحواجب بلجاء)، بل الذي ورد من ذلك (لو رأيتم العيون الدعج تحت الحواجب البلج فوق المباسم الفلج لاتخذتموها اللات والعزى) ولم يرد غير ذلك على الإطلاق في كلام فصيح

ص: 34

وغريب قول الأفغاني (أما استقراؤه الشخصي أي الأب وطلبه من مخالفيه الآتيان بشاهد فلا يردان حجة، لأن المقيس لا يلزم له (يريد يلزمه) شاهد. يريد أن يقول إن عندنا قاعدة جميع شواهد اللغة شواذ منها

لكن مجمعنا اللغوي فهم ما لا يفهمه الكاتب ولا احسب الكاتب ينكر أن مجمعنا يحتج بكلامه. فقد جاء في الصفحة 204 من الجزء الرابع من مجلته قوله:

القاعدة: فعلاء مؤنث افعل كحمراء تجمع باطراد على فعل قال ابن يعيش: (فأما فعل فهو جمع فعلاء صفة إذا كانت مؤنثة افعل نحو حمراء وحمر وصفراء وصفر جمعوه على فعل جمع ما لا زائد فيه الخ. . .

فكريات بيضاء ليست صحيحة، وهذا ما كلت ألسنتنا وحفيت أقلامنا لإفهام أدبائنا إياه

نجيب شاهين

شبهة في تاريخ وفاة ياقوت

من المعروف أن صاحب معجم الأدباء (ياقوت بن عبد الله الرومي) توفي عام 626 من الهجرة. . وقد نص على هذا ابن خلكان في تاريخه؛ عندما ختم ترجمته لحياته بقوله: وتوفي يوم الأحد لعشرين من شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة في الخان، بظاهر مدينة حلب

وعن ابن خلكان نقل ابن العماد صاحب (شذرات الذهب في أخبار من ذهب)، وجرى على هذا جميع أصحاب التراجم من المتأخرين. . .

ولكني وجدت ياقوتاً في معجمه (ج2، ص 198، طبع دار المأمون) يتحدث عن الحسن بن أبي المعالي المعروف بابن الباقلاني النحوي. . . ثم يختم حديثه عنه بقوله: (لقيته ببغداد سنة سبع وثلاثين وستمائة، وكان آخر العهد به). ونفهم من هذا أن ياقوتاً كان يعيش في ذلك التاريخ، بل يمكن أن نستنبط من قوله (وكان آخر العهد به) أنه يشير إلى وفاة ابن الباقلاني، وحدوثها في تلك السنة. ويؤيد هذا ما أورده السيوطي في كتابة (بغية الوعاة في ذكر طبقات النحاة)؛ فقد نقل عن ابن النجار صاحب تاريخ بغداد أن وفاة الباقلاني كانت (يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وستمائة)

ص: 35

هذه حقائق تاريخية تصطدم في ذهن القارئ ولا يجد لواحدة منها مرجحا؛ فهل نشك في صحة ما اجمع عليه المؤرخون من تاريخ وفاة ياقوت، أم نخطئ ما ورد بمعجمه من تاريخ التقائه بابن الباقلاني؟ وإذا اخذنا بالرأي الأخير، فهل نحمل السهو في ذلك على ياقوت نفسه، أم نحمله على ناسخي معجمه والقائمين بطبعه من القدماء والمحدثين؟. . .

هذا شيء، والشيء الآخر أن مكان هذه المقابلة - فضلاً عن تاريخها - موضع (للتفكير. فياقوت، كما نفهم من كلام ابن خلكان، لم يطرق بغداد منذ حوالي سنة 600هـ، بل إنه (تحامى دخولها) وهو يقترب منها عند انتقاله متخفياً من إربل إلى خراسان عام 613هـ؛ لأن له غريماً (علويا) من أهلها كان قد ناظره في دمشق وألب عليه العامة حتى كادوا يقتلونه؛ وكان هذا سبب هروبه إلى خراسان، فكيف إذن يزعم ياقوت أنه لقي ابن الباقلاني في بغداد؟ وإذا قلنا إنه لقيه بها قبل عام ستمائة (أي تسع وتسعين وخمسمائة فما قبله) فكيف يتفق أن يقع الخطأ أو التحريف في ثلاثة أرقام كاملة، فنقرأ أن هذا اللقاء كان في سنة (سبع وثلاثين وستمائة)؟. . .

(جرجا)

محمود عزت عرفة

المكتب

قال الدكتور زكي مبارك وهو يدرس الشوقيات عندما تعرض لقصيدة (مصاير الأيام) ما يلي: (. . . ابتدأ الشاعر يريد شوقي) بحياة الطفل في المكتب، والمكتب كلمة جديدة يراد بها المدرسة الأولية، وهي كذلك في عرف وزارة المعارف فهي تقول المكاتب العامة بعد أن تقول المدارس الأولية)

وقد نفهم من ذلك أن المكتب بمعنى المدرسة الأولية وضع جديد والصحيح أنه استعمال قديم، ودليلي على ذلك ما يلي:

1 -

قال المبرد: (المكتب موضع التعليم والمكتب المعلم، والكتاب الصبيان، ومن جعل الموضع الكتاب فقد اخطأ) ويرى هذا الرأي صاحب القاموس ولكن صاحب تاج العروس رده.

ص: 36

2 -

قال ابن خلكان في ترجمة أبي مسلم الخراساني: (أنه نشأ عند عيسى بن معقل فلما ترعرع اختلف هو ووالده إلى المكتب) وغير خاف أنه في هذا الدرر من حياته يتعلم التعليم الأولي.

3 -

روي ابن قتيبة في كتاب المعارف: (أن من المعلمين علقمة بن أبي علقمة مولى عائشة. . . كان له مكتب يعلم فيه العربية)

4 -

وأوضح من هذا ما قاله الغزالي في كتاب الأحياء في باب رياضة النفس جـ ثالث: (ويشغل الطفل في المكتب بتعلم القرآن، وأحاديث الأخيار وحكايات الأبرار وأحوالهم. . . وينبغي أن يؤذن للطفل بعد الانصراف من المكتب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب التعلم).

محمود السيد أبو السعود

بني أمية والإسلام

قرأت ما كتبه الأستاذ محمود أبو رية حول كتاب (عبقرية عمر) للأستاذ عباس محمود العقاد. والحق يقال إن الأستاذ قد غالى كثيراً في قوله إن البناء الإسلامي قد تصدع، وإن اليأس اخذ يدب في جسم الدولة الإسلامية في عهد بني أمية، واستشهد على ذلك بقول الإمام علي:(إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا ترتق إلى يوم القيامة)

والباحث المنصف في تاريخ الإسلام لا يسعه إلا أن يقرر أن الدولة الإسلامية لم تصب حظاً من العظمة وامتداد السلطان مثل ما أصابته في عصر الدولة الأموية

وكيف يدب اليأس في قلوب المسلمين في عصر بني أمية وهم الذين ركبوا البحر في هذا العهد لأول مرة، وكان لهم فوق الخضم المتلاطم صولات وجولات هي صفحة بيضاء في كتاب الشجاعة الإسلامية؟! وهذا عقبة بن نافع يسير بكتائب المسلمين في محاذاة الشاطئ الأفريقي مخترقاً المجاهل والقفار حاملاً لواء الإسلام خفاقاً في بلاد كل ما يعرفه عنها أن أهلها همج متوحشون لم تصلهم مدنية ولا حضارة!

أما قول الإمام علي، فما أظن أن الإمام كان يقصد أن البناء الإسلامي قد تصدع بموت عمر، إنما كان قصده أن الإسلام قد خسر بموت عمر رجلاً من خيرة رجالاته ومن العسير

ص: 37

أن يجد الناس منه عوضاً.

أحمد البديني

فلسفة الأخلاق في الإسلام

الأستاذ محمد يوسف من العلماء الباحثين والكتاب المروين الذين عناهم الأستاذ الزيات في مقالته الغراء (دفاع عن البلاغة)

فهو يكتب عن دراسة مستفيضة وتحليل عميق، فيخرج الفكرة ناضجة، ويبدي الرأي خميراً، ويجلي البحث مكتملاً من جميع نواحيه

ولعل هذا هو السر في ظواهر ثلاث نلمسها لمساً في كتابه (فلسفة الأخلاق في الإسلام)

1 -

النشر والطي، والتفصيل والأجمال، والعرض والتلخيص؛ مما يبلغ حد التكرار أحياناً ويؤاخذ به من لم يقصد إلى الإيضاح والتحرير

2 -

الدقة البالغة في الشرح والموازنة، وتجلية الغامض من عبارات الفلاسفة ومصطلحات الصوفية، إلى أمانة في النقل نادرة؛ مما حداه إلى كثرة الاستدراك، وإيراد الجمل المعترضة التي لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة واثبات النصوص مسندة إلى مصادرها الكثيرة المتنوعة

3 -

السداد في النظر، والعدالة في الحكم بعد استقصاء وجوه الرأي، من غير ما سفه ولا شطط حتى لا تحوك في الصدر شبهة دون أن يذيبها بقول سديد أو رأي رشيد

غير أن إصابة الأستاذ للغرض، ومصاحبته للتوفيق، ونزاهته في الحكم - لا تحول بيننا وبين الإدلاء بهذه الملاحظات الخفيفة خدمة للعلم ووفاء للحق (والحق لا يصح أن نجامل على حسابه أحداً من الناس وإن كان زين الدين وحجة الإسلام والمسلمين)

(ا) كنا نود أن يقتصد المؤلف ولو صفحة واحدة مما كتب في ابن عربي الذي هو إلى فلاسفة التصوف اقرب منه إلى فلاسفة الأخلاق، فيضمها إلى الكتابة عن أبي الحسن البصري المارودي الذي أشار الأستاذ بحق إلى أن كتابه (أدب الدنيا والدين) مما يمثل الأخلاق الإسلامية اصدق تمثيل على حين لم يظفر من الكتاب إلا ببضعة اسطر. وإذا لم تكن ترجمة أبي الحسن من أغراض الكتاب فلا ريب أنها - على الأقل - من قبيل

ص: 38

الاستطراد المفيد

(ب) مما يثير العجب والأسف معاً أن بعض أئمة الأخلاق والتصوف - بله الأدب والفلسفة - ليسوا من أهل البصر في علم الحديث؛ ولقد روي عن الغزالي رحمه الله أنه قال: بضاعتي في هذا العلم مزجاة؛ وسبب ذلك عند علماء الحديث معروف؛ فكنا نأمل ألا يروي المؤلف حديثاً عن الأحياء أو غيره - وهو من أجلة المدرسين في كلية أصول الدين - إلا مع الإشارة إلى درجته على الأقل. ورحم الله الحافظ العراقي فقد كفانا المئونة في تخريج أحاديث الأحياء كتابه (المغنى) وقد جمع بينهما الحلبي في طبعته؛ ولكن الأستاذ اعتمد على نسخة مجردة. على أن المؤلف نقل تزييف الحفاظ للحديث الصوفي المشهور: (كنت كنزاً مخفيا. . .) وأبان اعتراف الصوفية أنفسهم بأنه لم يثبت نقلاً وإن ثبت كشفاً

وحبذا لو أشار إلى تزييف العراقي للحديث الذي ساقه الغزالي في الزهد (من أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا) وما أكثر أمثال هذا الحديث في كتب الغزالي.

(ج) في الكتاب أعلام وكلمات غربية، كان يحسن أن يضبطها الأستاذ فيكفي القارئ مئونة البحث والتنقير، ولكن عذره - ويظهر أنه لابد من الاستدراك دائما - أن الكتاب موضوع لطائفة مفروض عليها البحث والتنقيب.

وبعد فما قرأت كتاباً في الأخلاق أو الفلسفة وأحببت أن أعود إليه بشغف وعناية قبل هذا الكتاب. وهذا - فيما أعتقد - أمارة على إخلاص المؤلف وحبه للحق ودءوبه على البحث عنه والوصول إليه؛ في أدب جم وخلق كريم.

طه محمد الساكت

المدرس بمعهد القاهرة

ص: 39