الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 495
- بتاريخ: 28 - 12 - 1942
2 - التلباثي
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثر الذين حادثوني أو كتبوا إلي بصدد مقالي عن (التلباثي) الذي نشرته الرسالة في عدد مضى؛ وبدا لي من أحاديثهم ومن رسائلهم أن بعضهم فهم المقال كما أردت أن يفهم؛ وبعضهم تجاوز به إلى الحد الذي أريده. وقد استزادني أناس من الكتابة فيه، وسألني أناس غيرهم أسئلة يقترحون الإجابة عليها. واحسبني ألبي مقترحاتهم جميعاً بما آثرت من الإجابة عن خطاب كتبه إلى صديقنا الأستاذ محمد شاهين حمزة نائب الدر السابق ولخص ما قراه تعليلا لأمثال هذه الحوادث - حوادث التلباثي - فقال:
(. . . ذكر بعض العلماء أن الأجسام تصدر منها أثناء حركتها الآلية إشارات ورسائل تنطلق على أمواج الأثير كأنها محطات الإصدار في اللاسلكي، وهذه الرسائل التي تشير إلى شخصيات مصدريها وتحمل بعض أفكارهم تهز مراكز خاصة في أدمغة من لهم سابق معرفة بأصحابها أثناء انطلاقها، فتلتقطها هذه وكأنها محطات الاستقبال تقابل محطات الإصدار الأولى، وكان لكل إنسان محطتين أو جهازين للإصدار والاستقبال. ولما كانت هذه الرسائل متفاوتة القوى كانت هناك رسائل تصدر ميتة أو ضعيفة فلا تصل إلى أحد، وأخرى تصدر قوية لكن ضعفاً أو خللاً في محطة الاستقبال يحول دون تلقيها)
ثم سألني الأستاذ رأيي في هذا وختم خطابه قائلاً:
ونقطة أخرى أحسبها تحتاج إلى جلاء علمي هي: كيف بلغ صوت عمر بن الخطاب سارية وصحبه حين ناداهم بقوله: (يا سارية بن حصن. الجبل الجبل! فاستجابوا له؟)
ومن اللازم فيما أرى أن أبداً بتقرير الحد الذي يكفينا أن نقف عنده فيما يرجع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وملكة التلباثي أو التلفزيون
فقد أردنا أن نذكر علامات العبقرية عند بعض النفسانيين المحدثين، ومنها (الحساسية) الخاصة التي تلاحظ على بعضهم فيشتهرون بالغرابة في إيحاء الأفكار واستيحائها، وقلنا إن عمر بن الخطاب قد لوحظت عليه من ذلك علامات كثيرة كالفراسة وصدق الظن وسرعة التنبه إلى الفوارق الدقيقة بين المذوقات كما تنبه إلى الفارق بين لبن ناقة ولبن ناقة أخرى، وكلتاهما في مكان واحد ومرعى واحد
ومما روي عنه حديث سارية الذي أشرنا إليه. وقد لخصناه وقلنا بعد تلخيصه: (لا داعي للجزم بنفي هذه القصة استناداً إلى العقل والى العلم أو إلى التجربة الشائعة. فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها ونفي أمثالها)
ثم عقبنا على ذلك قائلين: (إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهوراً بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية أما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة وراقبوها)
فسواه صحت قصة سارية أو صح جزء منها أو لم يصح شئ منها على الإطلاق، فيكفي أن تروى عن عمر بين معاصريه، ليثبت لنا أمر محقق لا شك فيه، وهو أن (الحساسية الخاصة) كانت ملحوظة فيه حتى تنس إليه الناس ما نسبوا من رؤيته جيش سارية على البعد وندائه عليه. فهو قبل أن تقع هذه القصة كان من أصحاب (الحساسية الخاصة) التي يلحظها من حوله وينسبون إليها الحوادث التي تناسيها
وهذه وحدها علامة كافية من علامات العبقرية، ولا حاجة معها إلى تحقيق ندائه على سارية واستماع سارية له كما جاء في القصة المروية أو على نحو يقاربها
فهو في رأي من حوله رجل يحس الأشياء التي لا يحسونها، ويملك القوى النفسية التي لا يملكونها، وهذا كاف لا تصافه بعلامة بارزة من علامات العبقرية في رأي النفسانيين المحدثين
وهنا نحن على (بر الأمان) الذي لا مجازفة فيه، ولا يكلفنا كثيراً ولا قليلاً في التعرض للتلباثي بالنفي والإثبات
ولكننا إذا تجاوزنا هذا وتعرضنا لتحقيق التلباثي للحكم بإمكانها أو استحالتها، ففي وسعنا أن ننتقل من بر أمان إلى بر أمان مثله لا مجازفة فيه، وهو مطالبة الذين يجزمون باستحالتها بالدليل على ما يقولون
لأن الجزم باستحالة شئ بغير دليل كالجزم بوقوعه عياناً بغير دليل، كلاهما خرافة لا يقبلها العقل، وإن جاء أحدهما من ناحية الإثبات
وإنما الموقف السليم بين الإنكار والقبول أنك تترك الباب مفتوحاً لمن يثبت وينفي على
السواء، فيجوز أن يأتي غداً من يثبتها ثبوتاً قاطعاً شك فيه؛ ويجوز كذلك أن يأتي غداً من ينفيها نفياً قاطعا لا شك فيه، ولا يجوز - حتى ذلك اليوم - أن تقطع باستحالتها على وجه من الوجوه. وكل ما امتنع القول باستحالته فهو معلق بالممكنات، ولا سيما إذا كثرت بيننا مشبهاته وشاع بيننا على درجات دون درجته القصوى، باتفاق الشعور بين ألوف من الناس
يسألني الأستاذ شاهين: (كيف بلغ صوت عمر سارية وصحبه فاستجابوا له؟)
فالجواب المأمون هنا أنني لا أعلم ولا أجزم بأن الصوت وصل واستجيب، ولا أجزم كذلك بأنه ممتنع الوصول والاستجابة
ولكننا إذا قلنا بوصوله واستجابته فإنما يتصور العقل وقوع ذلك على صورة من صور ثلاث:
الأولى: أن الصوت الذي سمعه سارية كان صوتاً مادياً يبلغ الأسماع كما يبلغها اليوم صوت المتكلم في المذياع على مسافات بعيدة
والصورة الثانية: أن الصوت وصل بالإيحاء النفسي إلى الجيش كله فاتفقت نفوسهم جميعاً في لحظة واحدة على الاتجاه والاستيحاء والسماع
والصورة الثالثة: أن الصوت وصل بالإيحاء النفسي إلى سارية وحده أو إلى سارية ومن شاركه في هموم القيادة، فشعر به فرد واحد أو أفراد قليلون
وأسهل هذه الصور الثلاثة قبولاً في العقل، على ما نعتقد، هي الصورة الثالثة، وهي أن سارية توجه بنفسه إلى نفس عمر في مأزق شديد عليه وعلى عمر معاً فشهر به الخليفة وناداه وهما في لحظة التقابل بالوحي والاستيحاء
هذه الصورة اسهل قبولاً من الصورتين الأخريين
لأن الصورة الأولى وهي انتقال الصوت المادي مئات الأميال بغير الوسائل الصناعية التي نستخدمها في عصرنا يكلفنا أن نطبع العناصر المادية بطابع لم تعرف به قط فيما مضى وفيما حضر، ويقتضي أن يكون صوت سارية قد سمع في الجيش الذي معه وهو يستغيث، وقد سمع في المسجد الذي كان عمر يخطب فيه، وقد سمع الصوتان: صوت الاستغاثة وصوت الاستجابة على طول الطريق، ولم يذكر لنا رواة القصة شيئاً من ذلك، ولو ذكروه لتحدث به الألوف من جند سارية ومن المصلين مع عمر ولم يقتصر حديثه على بشير
واحد أو نفر قليلين
أما الصورتان الأخريان فكلتاهما تمثل لنا وصول الصوت أو وصول الخاطر على الأصح بطريق الإيحاء من نفس عمر إلى نفوس سامعيه، ولكن التقاء نفسين أيسر قبولاً من التقاء نفس واحدة من جانب، وألوف النفوس من جانب آخر، ولهذا قلنا أن التقاء الشعورين بين عمر وسارية أسهل الصور الثلاث قبولاً، متى قلنا بوقوع الاستغاثة ووقوع الاستجابة
والأستاذ شاهين قد سأل في خطابه سؤالاً يشتمل على بعض الجواب الذي أجبناه حيث قال:
(إذا كان الأمر أمر رؤية بعيدة فهل تقف الرؤية عند الماديات أو تتعداها إلى الافكار؟ فقد يحدث أن يذكر الإنسان شخصاً ويذكر معه أمراً معيناً، ولا يلبث أن يلقى الشخص الذي ذكره فيبادره هذا بحديث عن ذلك الأمر المعين بنفسه، كما حدث لي مراراً، وهذا مما يغري بالميل إلى الفكرة القائلة بحركة الأجسام والإشارات الصدارة منها والتي يلتقطها جانب ثان)
فالتمثيل بمحطات الإرسال ومحطات الاستقبال هنا تمثيل مقبول لتقريب التصور وسهولة التشبيه، ولا مانع من اتصال النفوس على البعد وهي تتصل على القرب اتصالاً لاشك فيه، فإذا اتفق أن نفسين توجهتا كلتاهما إلى الأخرى - في وقت واحد فذلك أحرى بتوافق الشعور وتوافق الخاطر، والجزم بإمكان هذا اصح من الجزم بامتناعه إذا لم يكن بد من أحد الأمرين
يحدث كثيراً - كثيراً جداً - بين الصديقين المتفاهمين أن يطيلا الجلوس معاً صامتين، ثم يعودا إلى الحديث فجأة فإذا هما يطرقان موضوعاً واحداً أو يسألان عن شئ واحد. ولو كان هذا الموضوع على اتصال بما كانا يتكلمان فيه قبل ذلك لقلت الغرابة في اتفاقها عليه بعد صمت طويل، ولكنه يكون أحياناً بمعزل عن كل موضوع طرقاه ذلك اليوم
فما تعليل ذلك؟
تعليله تقارب الشعور والتفكير، وهما لا يتقاربان هنا بأداة مادية حتى يقال بالفرق بين حصوله في حجرة واحدة وحصوله على مسافة أميال
فإنكار هذا الاتصال أصعب من إثباته، والقول بإمكانه قول تعززه احتمالات قوية
ومشابهات مألوفة وروايات متواترة، ولا يقف أمامها من ناحية النفي إلا مجرد الإنكار أو سوء فهم الواقعيات والماديات
وقد وصلنا في زماننا بالماديات إلى حدود الروحيات، فانتقلنا بها من هذه الأجسام التي تلمس وتدرك بالحس إلى الذرات، ثم إلى الطاقة، ثم إلى الإشعاع الذي يدركه الفكر ولا تمسكه الحواس؛ فمن الحيطة أن نقل من الإنكار بعد أن أسرفنا فيه، وقد جاء زمان كان الإنكار فيه حسنا بعد إفراط الناس في الإثبات، فهل تدور الآن دورة من تلك الدورات الفكرية المعهودة فنسرف في القبول بعد إسرافنا في الإنكار؟
لا هذا ولا ذاك بالحسن المأمون، وإنما الحسن المأمون أن نأخذ بدليل ونرفض بدليل، وإن نعلم أن العجائب في الدنيا لا تنتهي فلا نغلق على أنفسنا بابها مختارين.
عباس محمود العقاد
مسابقة الأدب العربي
1 -
ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - شاعر القصر وشاعر الشعب - دسائس أدبية - ميدان حافظ - هزيمة حافظ - عريضة اتهام - هزائم فظيعة - قصيدة قصر الزعفران
تمهيد:
المقرر لمسابقة هذا العام هو الجزء الثاني. ومن الخير أن يرجع المتسابقون إلى مجموعة السنة الماضية من مجلة الرسالة، ففيها تفاصيل عن شاعرية حافظ لا تملك تلخيصها في هذا الحديث، وفيها أيضاً تفاصيل عن شاعرية شوقي، تفاصيل تكمل الدراسات التي قدمناها في الأسابيع السوالف، وتوضح اتجاهات شوقي في طوائف من الأغراض
السياسيات
أهم أبواب الجزء الثاني من ديوان حافظ هو باب السياسيات، وسيسأل فيه المتسابقون بكل تأكيد، لأن الجانب السياسي من شعر حافظ هو أبرز الجوانب في حياته الشعرية، فمن الواجب أن يجعله المتسابقون أول ما يدرسون بعناية وتدقيق
شاعر القصر وشاعر الشعب
لم تكن الحياة المصرية قبل الحرب الماضية شبيهة بالحياة التي جدت بعد تلك الحرب، ومعنى هذا أن أيام الخديو عباس تختلف عن أيام الملك فؤاد؛ ففي عهد عباس كان للقصر شعراء وللشعب شعراء، ولا كذلك الحال في عهد فؤاد، فقد أراد القصر أن يحول الشعر إلى وجهة قومية، ولم يقبل الملك فؤاد أن يكون له شعراء بالمعنى المعروف لعهد الخديو عباس، وإن كان تغاضي عن دعوى الشاعر عبد الحليم المصري رعاية لما كان ليه من أدب وإخلاص
دسائس أدبية
أنا مقبل على تسجيل حقائق لم تسجل قبل اليوم، ولن يعرفها التاريخ الأدبي إلا عن طريق
هذه الأحاديث، وما يدعوني إلى تسجيلها إلا الخوف من أن تضيغ
شعر حافظ السياسي يبتدئ في سنة 1904، وشعر شوقي السياسي يبتدئ في سنة 1894، وقد انتهيا معاً في سنة 1932 عليهما أطيب الرحمات!
فكيف صار شوقي وحده شاعر القصر؟ وكيف اكتفى حافظ بأن يكون شاعر الشعب؟
يرجع السبب إلى أن شوقي كان مفطوراً على حاسة سميتها منذ سنين (حاسة المعاش) وهي حاسة ورثها عن أبويه، وكان لهما بالقصر اتصال، وشوقي نفسه قال كلاماً يؤيد هذا المعنى في مقدمة الطبعة الأولى من الشوقيات، وهي مقدمة تجاهلها شوقي فيها بعد، وتمنى أن تضيع من ذاكرة التاريخ، ولكن هيهات!
كانت في عيني شوقي علة شعرية هي النظر دائماً إلى السماء، علة تمنعه من أن يرى ما بين يديه، ثم اتفق أن زارت جدته الخديو إسماعيل وهو معها، وكان طفلاً رائع الجمال، فسألها الخديو عن أحوال ذلك الطفل الجميل، فقالت بتحسر وتوجع: أن في عينيه آفة تمنعه من رؤية الأرض؛ فنثر الخديو بدرة من النقود الذهبية على البساط، فاعتدلت عينا الطفل وأقبل على الذهب يجمعه بشراهة نادرة المثال!
قال إسماعيل: هذا دواء هاتين العينين العليلتين!
فأجابت الجدة: ولكنه دواء لا يوجد إلا في صيدلية إسماعيل!
وعرف أهل الطفل دواء عينيه فكانوا ينثرون ما يملكون من النقود لينظر إلى الأرض، عساه يستريح من إدمان النظر إلى السماء
وشب الطفل وصار له حمار يمتطيه في العصريات، يوم كان القاهريون يغنون:
(أحب مشي العصاري لاجل ما أشوفك)
وكانت (دار شوقي) في تلك الأيام تقري من (دار الرسالة) في هذه الأيام، ولم يكن له بد من عبور ميدان عابدين وهو على صهوة حماره في نزهة الأصيل
وغلبت شوقي علة عينيه فنظر إلى فوق، فلمح الخديو توفيق في إحدى الشرفات، فنزل عن حماره وعبر الميدان على قدميه. وراع الخديو أن يرى شاباً يراعي هذا المعنى، فقرر أن يدعوه إليه بلا تسويف، ليبشره بوظيفة في ديوان المعية
لا يعرف أحد كيف كان شوقي في لك الوقت، ولكني أعرف كيف رأيته بعد نحو ثلاثين
سنة من ذلك التاريخ، حين عاد من منفاه، وحين تفضل عبد اللطيف بك الصوفاني فجمع بيننا في حفلة عشاء بالدار التي أجهل ما صنعت بها الأيام!
هالني أن أرى شوقي الذي كان أمير الشعراء قبل أن تواجه عيناي نور الوجود قد احتفظ من أطلال صباه بنونتين تزينان خديه عند الابتسام، وأي ابتسام؟
وأقول بصراحة إني لم أر وجهاً أجمل من وجه شوقي، ولا روحاً الطف من روح شوقي
ولكن هذا الجمال الجسدي والروحي كانت له غدرات، منها حسب التفرد بالسيطرة والاستعلاء. . . وهنا بيت القصيد!
كان شوقي يحب أن يكون وحده شاعر القصر في عهد عباس. وقد تسبب للقصر في متاعب، فقد دخل لورد كرومر على الخديو عباس وهو غضبان، وحجته أنه علم أن أحمد شوقي وعلي فهمي كامل يدبران أموراً لا يجوز عليها السكوت، والخديو عنهما مسؤول مسؤول. وما أحب أن أزيد!
هل كان شوقي الذي يحارب إنجلترا في السر يهادن خصومه من الشعراء؟
وهل كان يسمح بأن يكون لخصومه ومنافسيه في قلب الخديو مكان؟
ارجعوا إلى ما كتب فضيلة الشيخ عبد القادر المغربي في مجلة الرسالة منذ سنين لتروا كيف استطاع شوقي أن يمنع كرم الخديو عباس عن الشيخ عبد المحسن الكاظمي، ثم ابحثوا بعد ذلك عن السر في عطف الشيخ محمد عبده على الشيخ الكاظمي، فأنا أفترض أن الفتور بين الخديو والمفتي كان له أثر في تقوية ذلك العطف الرفيق.
صيدان حافظ
لم يستطع حافظ مجاراة شوقي في الحياة الرسمية، فانحاز إلى ميدان الوطنية، وصار بعد قليل شاعر الشعب، الشاعر الأول المحبوب، وكان الاتجاه الشعبي صريحاً في مقاومة الاحتلال، وصريحاً في تقوية الأواصر الإسلامية، فكان لحافظ قصيدة في كل مناسبة وطنية، وقصيدة في كل مناسبة دينية. ولم يفته أن يتغنى في أشعاره بأكثر أمم الشرق، ولا سيما اليابان، وما كانت اليابان أقرب إلينا في الوجوه والأفكار من إيطاليا أو فرنسا، ولا كانت لنا باليابان صلات أدبية أو اقتصادية، وإنما كانت اليابان في الاصطلاح الجغرافي أمة شرقية، وكان المهم هو إفهام الشعب أن الشرق يستطيع مجاراة الغرب في جميع
الميادين أن تسلح بأسلحة هذا الزمان، ولهذا السبب سارع الزعيم الوطني مصطفى كامل فألف كتاباً عن نهضة اليابان ليضرب لقومه الأمثال
هزيمة حافظ
كان حافظ أطال القول في شكري البؤس، فعينه الوزير حشمت باشا في وظيفة بدار الكتب المصرية، فسكت عن اغاريده الوطنية، وعند ذلك كثرت فيه الأقاويل، وجالت في غمزه الألسنة والأقلام كل مجال
ثم جاءت فرصة مشؤومة عليه، هي ظهور ثلاث قصائد في يوم واحد بجريدة الأهرام عند اعتلاء السلطان حسين كامل أريكة العرش: قصيدة أحمد شوقي وقصيدة حافظ إبراهيم وقصيدة أحمد نسيم
كانت الحرب في تلك الأيام تجتاز مسالك شوائك، فخاف حافظ وخاف نسيم عواقب المشي على الشوك. أما شوقي فهتف بقصيدة رمزية شغلت الجماهير بالتفاسير والتآويل، فعده المصريون شاعرهم الأول، وزادوا إيماناً بعبقريته حين رأوا أن تلك القصيدة قضت عليه بالخروج من البلاد
وكان في مصر جريدة أسبوعية اسمها (عكاظ)، وقد رأى صاحبها الشيخ فهيم قنديل أن يتودد إلى الجمهور بنشر ما طوى من أشعار شوقي، ولم يكن يكتفي بتسميته (أمير الشعراء) وإنما كان يسميه (شاعر الدنيا والآخرة) فحفظ سمعته الشعرية في أعوام الحرب الماضية، وعطر باسمه جميع أندية الأدبية
وفي ثورة سنة 1919 تخاذل حافظ فلم ينطق بحرف
دخلت الأزهر ذات مساء فسمعت خطيباً يعيب عليه التخاذل، فعلوت المنبر وفندت اتهامات ذلك الخطيب
وفي اليوم التالي لقيت حافظاً بمنزل محمود باشا سليمان، فقال له حفني بك محمود: هل تعرف يا حافظ بك أن الأستاذ مبارك دافع عنك في الليلة الماضية؟
فأدار حافظ بصره إلي وقال: ماذا تريدون مني؟
قلت: نريد قصائد وطنية
قال: والاعتقال؟
قلت: وما خطر الاعتقال؟
فأيجاب في هدوء: لن أجد في المعتقل هذا السيجار (وكان في يده سيجار)
فقلت: لن تكون شاعر مصر الوطني وأنت أسير هذا السيجار البغيض!
عريضة اتهام
الغرض من هذه الدراسات هو إرشاد المسابقين إلى إدراك السرائر من الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، وأنا قلت أن حافظاً تخاذل عن الثورة فلم ينطق بحرف، ونحن في مقام التاريخ وهو مقام يوجب الصدق، فلينظر المتسابقون في ص87 بالجزء الثاني من ديوان حافظ، ليروا أن قصيدته التي نظمها عن مظاهرة السيدات في سنة 1919 لم تنشر إلا في سنة 1929، ومعنى ذلك أنها كتمت نحو عشر سنين!
أتريدون الحق؟
لقد نسيت تلك القصيدة في ذلك الوقت إلى جماعة من الشعراء منهم الأستاذ محمد الهراوي، ولم ير حافظ أن يصحح النسب، لئلا يقال أو يقال!!
هزائم فظيعة!
بعد عودة شوقي من منفاه حاول أن يتصل بالقصر من جديد، فحبر القصائد الطوال في مدح الملك فؤاد، ولكنه نسى أن الملوك لا يعرفون غير القلب البكر، فهم لا يأنسون بمن استأنسوا لسواهم في أحد العهود
كان الملك فؤاد غاية في الجبروت العقلي، وكانت عيناه أحد من عيني النسر الظامئ، وكان يحب أن يكون عرش مصر أعظم العروش، ولهذا بخل بالرتب والألقاب، إلا أن تكون جزاء على خدمة قومية تستحق التمجيد
وكان للشاعر شوقي تاريخ في شؤون الرتب والألقاب، فصد عنه الملك فؤاد، ولم يجد عليه بأي انعطاف
وهنا سنحت الفرصة للشاعر حافظ، فماذا صنع؟
أراد أن يؤلف جماعة من الشعراء يسميهم (شعراء القصر) فلم يظفر بغير الإخفاق
دعاني حافظ ذات يوم إلى موافاته بقهوة النيوبار ليحدثني في مسألة خصوصية، وكان
الغرض أن يدعوني للانضمام إلى تلك الجماعة الشعرية، فاعتذرت بأن شيطاني لا يوافيني إلا في ميدان الغزل والتشبيب، ومن الصعب على أن أنظم شعراً في غير هذا الميدان، وأنا تلميذ عمر بن أبي ربيعة، ولم يكن عمر يجيد مدح الملوك
قال حافظ: أنت أحمق يا مبارك!
فقلت: علمني يا معلمي كيف أداوي هذا الحمق
قال حافظ: ستمدح فؤاداً العظيم
فقلت: أمدحه أجزل المدح بالنثر لا بالشعر، فأقول فيه أعظم مما تقول، والآفة الوحيدة هي آفة شيطاني، وهو لا يوحي إلى من الشعر غير الغزل والتشبيب، ولو كان أمري بيدي لنظمت القصائد الطوال في مدح الملك فؤاد، فهو في نظري أعظم الملوك
قال حافظ: أتكون أصدق مني؟
فقلت: إني لا أجود بغير ما أملك، وطاقتي الشعرية لا تسمح بغير ذلك الفن الذي تعرف. فهل تريد أن تفضحني بين الشعراء؟
ثم؟ ثم؟
ثم غدر المتشاعرون بحافظ فورطوه في متاعب أفسدت ما بينه وبين القصر إفساداً ليس بعده صلاح، وسأتحدث عن هذه النقطة السوداء بعد حين!
قصيدة قصر الزعفران
هي قصيدة غابت عن الأستاذ أحمد بك أمين وهو يجمع ديوان حافظ إبراهيم، وهي بشهادة حافظ نفسه أروع ما صدر عن موهبته الشعرية
فما حديث تلك القصيدة؟
في سنة 1925 تحولت الجامعة المصرية إلى جامعة أميرية، واختير لها قصر الزعفران، وفكرت وزارة المعارف في إقامة حفلة رسمية لافتتاح الجامعة في عهدها الجديد، وكانت التقاليد أن يرجع إلى القصر قبل إعداد أية حفلة يشرفها المليك، فدعي حافظ إلى مقابلة نشأت باشا، وكلف إعداد قصيدة يلقيها في حضرة الملك فؤاد يوم الاحتفال
لن أنسى أبداً فرح شاعر النيل بذلك التكليف، ولن أنسى أنه غناني أجمل غناء في أيام لطاف لم تعد عليه بغير العذاب، كما سنرى بعد لمحات
كنت في ذلك العهد موظفاً بدار الكتب المصرية، وكان حافظ يشرف على القسم الذي أعمل فيه إشرافاً روحياً، فكان يدعوني كل يوم إلى سماع ما جد من القصيدة الجديدة، وكان يصرح بأنها الختام لحياته الشعرية، وأنه لن ينظم بعدها أي بيت
كان الخاطر جميلاً، ومن البر بحافظ أن نسجل ذلك الخاطر الجميل
الجامعة المصرية الحديثة في قصر الزعفران، وقصر الزعفران يجاوره (عين شمس) وفي (عين الشمس) كانت الجامعة المصرية القديمة التي تخرج فيها فلاسفة اليونان
وعلى هذا الوتر غنى حافظ وأجاد الغناء
ولكن الأقدار أرادت غير ما أراد حافظ، فثارت مشكلة حول قصر الزعفران، مشكلة قوى غبارها سعد باشا زغلول وهو رئيس مجلس النواب
قصر الزعفران من قصور إسماعيل، وهو يوم ذاك من أملاك الخاصة الملكية، فما الذي تقدم الحكومة من أملاك الدولة في المبادلة بذلك القصر الخاص؟
كانت الحكومة ترى أن تقدم حديقة الأرمان لتجعل منها الخاصة الملكية (مربط خيل)، فرأى فريق من رجال - الأمة أن هذا البدل غير مستساغ، وأن الأفضل أن تكون مباني الجامعة في حدائق الأرمان
وبهذا ضاعت قصيدة حافظ، وتهشم خاطره الجميل!
فأين قصيدة قصر الزعفران؟ أين أين؟؟
قسمها حافظ إلى مقطوعات باختلاف ما دارت عليه من الموضوعات، ونشرت له جريدة البلاغ في الصفحة الأولى من صفحات سنة 1926 مقطوعة بعنوان (بني وطني)!
يرحمك الله يا حافظ، فقد حالفك الشقاء إلى آخر الزمان!
ثم ماذا؟
ثم كانت القصيدة التي ألقيت في الاحتفال بافتتاح الجامعة المصرية بعد أن قرت بحدائق الأورمان قصيدة شوقي لا قصيدة حافظ، ولهذه الشؤون تواريخ يضيق عنها هذا الحديث
أما بعد فقد يرى قوم أن هذا كلام لا يفيد، وهل اتفقنا على المراد من الكلام المفيد؟
احفظوا هذا الكلام المفيد؟
احفظوا هذا الكلام، فينفع يوم تفكرون في تأريخ الأدب لهذا الجيل
سيأتي يوم لا تعرفون فيه كيف استطاع شوقي أن يمدح الزعيم سعد زغلول فيقول:
فإن شئتَ فاوِضْ وإن شئت دَعْ
…
فأنت الحقوق وميزانُها
مع أن شوقي نفسه حدثني مرتين أن بينه وبين سعد أحقاداً وترات، ومع أن أهاجي في سعد زغلول، أهاجي لم تنشر، وفي الذاكرة منها أشياء
هادن شوقي سعداً لأسباب (انتخابية) يعرفها نسيبه حامد بك العلايلي
وتصافى حافظ مع سعد ليصرع غريمه شوقي
وخلاصة القول أن هذين الشاعرين كانا على جانب من فيض الحيوية، وبهذا الفيض سيطرا على الجيل الجديد
هل تعرفون قصيدة شوقي في عرابي؟
وهل تعرفون ما طوى حافظ وشوقي من القصائد السياسية؟
ستلوح فرصة قريبة لتسجيل تلك الطوائف قبل أن تضيع، فللتاريخ الأدبي حقوق، والجهل بالتاريخ الأدبي أخطر من الجهل بالتاريخ السياسي، لأن الأدب هو التعبير الصحيح عن ضمائر الشعوب
زكي مبارك
العيد
للأستاذ محمد عرفة
- 2 -
ماذا جرى للعيد، أو ماذا جرى لنا في العيد!
أتغير العيد، فلم يعد هذا الذي كان يبعث فينا السعادة: أم تغيرنا نحن، فلم نعد نصلح مهبطاً للسعادة؟
لقد كنا نحيا في العيد حياة أهل الجنة في الجنة؛ وكنا نفرح بالثوب الجديد فرح الفاتح المنتصر، ونرى في الدريهمات التي يمنحنا إياها أهلونا ثروة وأي ثروة؛ وكنا بامتلاكها كأنما نملك الدنيا، وكنا نرى في العيد كل شئ ضاحكاً زاهياً، وكنا نشعر أن الأنهار والوديان والنبات والحيوان والأرض والسماء تشاركنا كلها في سعادتنا وفرحنا؛ ثم أصبح العيد يقبل كما تقبل سائر الأيام، ويذهب كما تذهب، لا يهزمنا عاطفة ولا نرى فيه معنى جهيداً
لقد صرنا نملك الضياع والدور فلا تستخرج منا من السرور ما كان يستخرجه ثوب جديد، وصرنا نملك المال فلا يسعدنا إسعاد هذه الدريهمات التي كنا نأخذها يوم العيد؛ ولقد كان هذا الفرح بما نملك من ثوب ودريهمات فيه معنى الرضا والقناعة، فصار هذا الوجوم وهدم الشعور بما نملك فيه عدم الرضا وعدم القناعة
الحق أننا كنا نفرح بالعيد صغاراً، لأننا كنا على الفطرة الطيبة التي خلق الله الناس عليها، فلما انحرفنا عن هذه الفطرة أخطأنا الفرح بالعيد بقدر هذا الانحراف، وكان علينا أن نحافظ على روح الطفولة البريئة فينا، لنسعد بالأيام، ولا نشقى بالعيش والحياة. كان علينا أن نحتفظ بسرورنا، لنحتفظ بنشاطنا، وتقوى على ملاقاة أحداث الحياة. فالسرور استجمام واستعداد، والقلب المسرور المغتبط المستبشر أقوى على تحمل الحوادث من القلب الحزين المنقبض المكتئب. وإن الأمم التي تفرح كثيراً أقوى على تحمل الشدائد وعلى النجاح في الحياة من الأمم التي يقل نصيبها من الفرح والبشر والمسرة
وإنكم لتجدون في هذه الأيام أمماً تحمل من الشدائد ما تنوء به الجبال، ولا تتململ ولا تضجر، ولا تهن ولا تستكين، لأنها قوت أعصابها بالسرور، فجعلها أقوى على الاحتمال.
وما أظن هذا الإخفاق الذي يصيب بعض أمم الشرق في عصرنا الحديث إلا من هذه الكآبة المستولية على نفوس الشرقيين، والتي تعم وديانه الضاحكة، وربوعه الجميلة
نعم، إنك تجد القوة حيث تجد الفرح والسرور، والأمم العظيمة تشعر بالقوة لأنها أشعرت قلبها المرح والسرور
أيها الناس، افرحوا بالعيد، واعتدوه عيد النصر على النفس وشهواتها، وأعظم بذلك من نصر في ميدان الجهاد
روى أن رسول الله (ص) قال وقد رجع من غزوة: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)؛ يعني جهاد النفس، فإذا كان جهاد النفس أكبر الجهادين كان النصر عليها أكبر النصرين
ألا إن الإسلام يدعوكم إلى الفرح والسرور، ولذلك سن لكم الأعياد. إلا أن الإسلام يدعوكم إلى الفرح والسرور في يوم العيد بما يهديكم إليه نبي الإسلام من قول وعمل
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزأمير الشيطان في بيت رسول الله (ص) وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله: يا أبا بكر أن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا
نعم، فلتلتهموا السعادة التهاماً، ولتغتنموا المسرة البريئة اغتناماً، فلقد بينا لكم من معنى العيد ما يعينكم على جلب المسرة، وبينا لكم من تعاليم الإسلام ما ينفي عنكم الحرج في المسرة؛ ولتبتعدوا عن السرور بالإثم والباطل، فإنه مسرة تعقبها ندامة، وفرح تتلوه الكآبة، وبشر مصيره إلى يأس وقنوط وخذلان
إنما الفرح عنوان الأمل والرجاء، ومظهر الحياة والأقدام، ودليل الرجولة العاملة الفائزة
وما خلق الله النجوم المتلألئة بأنوارها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله الرياض الضاحكة بأزهارها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله الطيور المغردة بألحانها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله الأشجار الراقصة بأغصانها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله الأنهار المصفقة بأمواجها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله هذا الكون البديع الجميل لنشقى بل لنسعد
كل ما في الكون يوحي بالمسرة والسعادة فلماذا الكآبة والشقاء؟
محمد عرفة
خزانة الرءوس
في دار الخلافة العباسية ببغداد
للأستاذ ميخائيل عواد
(تتمة)
9 -
تغريق الرءوس في دجلة
رأس علي بن محمد بن الفرات، رأس المحسن بن علي بن محمد الفرات
كان بنو الفرات الوزراء، زينة الدولة العباسية خاصة في أيام المقتدر، فقد تقلد علي بن الفرات الوزارة ثلاث مرات، وكاد يتقلدها رابعة. وكان واسع الثروة حتى قال صولي في حقه وكان شاهداً ومشرقاً على أخباره:(ما سمعنا بوزير جلس في الوزارة، وهو يملك من العين والورق والضياع والأثاث ما يحيط بعشرة آلاف ألف عير ابن الفرات)؛ ومع ذلك كله لم يكن ليتحرج أو يتهيب من مد يده إلى خزانة الدولة، حتى أفرط في الأمر هو وابنه المحسن وأخوه العباس، فأضافوا كثيراً من ضياع السلطان إلى أملاكهم. وقد ساق هلال الصابئي خبراً غريباً مؤداه أن علي بن الفرات (سرق في عشر خطوات سبعمائة ألف دينار)، ففتحت هذه الأمور وغيرها عليه وعلى أهله وأصحابه باب الطن والضغينة من أعدائه وحساده، فحركوا قلب المقتدر عليه، حتى نكبه غير مرة، وفي النهاية قضى عليه وعلى ابنه المحسن، وشتت شمل عائلته، ونكب أصحابه وأعوانه. قال عريب في صفة مقتلهما:(. . . فأمر المقتدر بقتل ابن الفرات وابنه، وتقدم إلى نازوك بأن يضرب أعناقهما في الدار التي كانت لابن الفرات ويوجه إليه برأسيهما، فنفذ ذلك من وقته، وبعث بالرأسين في سفط، ثم رد السفط إلى شفيع اللؤلؤي، فوضع الرأسين في مخلاة وثقلهما بالرمل وغرقهما في دجلة)
10 -
صيانة الرءوس من التلف
كان الرسم عند إحضار الرأس إلى دار الخلافة، أن يسلم إلى الموكل، فيعمل هذا على غسله وتنظيفه وإصلاحه، فيفرغ منه المخ، ويستأصل كل الأعضاء القابلة للفساد، ثم يغسله ببعض الأدوية المعقمة المعروفة يومذاك، وكذلك بماء الطيب أو بماء الورد؛ حتى إذا فرغ
من هذا كله، يحشيه بالقطن المخلوط بمواد مختلفة من شأنها إطالة بقاء الرأس، ثم يطليه من خارجه ببعض الأطلية الماسكة لأجزائه.
ودنك رأي طبيب بهذا الشأن، كان عائشاً في حدود سنة 305هـ، وهو المعروف بابن حمدان الطبيب الذي حكى:(أدخلت على أبي الفضل، فوجدت بين يديه أطباقاً عليها رءوس جماعة؛ فسجدت له كعادتهم والناس حوله قيام وفيهم أبو طاهر، فقال لأبي طاهر: إن الملوك لم تزل تعد الرءوس في خزائنها فسلوه - وأشار إلي - كيف الحيلة في بقائها بغير تغيير، فسألني أبو طاهر فقلت: إلهنا أعلم ويعلم إن هذا الأمر ما علمته؛ ولكن أقول على التقدير إن جملة الإنسان إذا مات يحتاج إلى كذا وكذا صبر وكافور والرأس جزء من الإنسان فيؤخذ بحسابه فقال أبو الفضل ما أحسن ما قال)
وبهذه المواد والأطلية، كان طُلي جسم وصيف الخادم حيث بقي مدة طويلة دون أن يعتريه الفساد والبلى. قال المسعودي:(وفي أول يوم من المحرم وهو يوم الثلاثاء من سنة تسع وثمانين ومائتين توفي وصيف الخادم وأُخرج وصلب على الجسر بدناً بلا رأس. . . وطلي بدنه بالصبر وغيره من الأطلية القابضة الماسكة لأجزاء جسمه، فأقام مصلوباً على الجسر لا يبلى إلى سنة ثلاثمائة في خلافة المقتدر بالله أو نحو هذه السنة. . .)
الخاتمة
يبدو لنا من تتبع هذا الموضوع أن اتخاذ خزانة الرءوس في دار الخلافة ببغداد، كان في صدر الدولة العباسية، غير أننا لم نتحقق من السنة التي بدأوا فيها بحفظ الرءوس.
وما قلناه عن بدء أمر الخزانة؛ نقوله في تعيين زوال ظلها، فإن التاريخ يحيلنا إلى سقوط بغداد في سنة 656 للهجرة؛ أفلا تكون خزانة الرءوس هذه ذهبت بذهاب بغداد ودار خلافتها؟
(بغداد)
ميخائيل عواد
ألحان الشاطئ
(إلى ضفاف النوبة الساخرة)
أَيْنَ مِنَّا يا حبيبي أين منَّا
…
شَاطئٌ طاف به الحبُّ وغنَّى
أتراهُ في النوى يسألُ عنَّا
…
أم سَلَانا بعدَ ما كان وكنَّا؟
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضِي السَّعيدْ
وَنُغَنِّى الشَّطَّ أحلامَ اللَّيالِي
…
كُلَّمَا فَاضَ علينا بالجمالِ
آهِ من سحرٍ بواديهِ حَلالِ
…
بْينَ عَزْفِ النُّورِ أو صَمْتِ الظِّلَال
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
أينَ منَّا ذلك الأفْقُ الجميلْ
…
تَتَدَانَى في مجاليِه النَّخيلْ
راقصاتٍ طَوْعَ أَنْسَامِ الأصِيلْ
…
هامساتٍ بالهوى حيثُ تَمِيلْ
آهِ لو نسرِي عليه من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السعيدْ
ذلك الزورقُ ينسابُ وَيَجْرِي
…
فيهِ آمالِي وأحلامِي وفِكْرِي
كُلمَا أذكُرُ مَسْرَاهُ بِنَهْرِ
…
وَدَتْ الأشْجانُ أن تفضَحَ سِرِّي
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
يا شِراعاً وَدَّ تقبيلَ المِياهْ
…
أنت أغْريتَ شِفَاهاً بِشِفاَهْ
يا حبيبي، آه هل أظمأ آهْ
…
وعَلَى لمغرِك ينبُوعُ الْحَياةْ؟!
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
أين يا ملاحُ ألحانُ الهوَى
…
تملأُ الشطَّ حَيَاةً وجَوَى
أتُرَى جَارَتْ عَلَى سَمْعِي النَّوَى
…
بعدما عبَّ الأغانِي وارتوَى؟
آه ِلو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
أترى تبسمُ حيناَ يا زَمَاني
…
فنرَى الشَّطَّ وهاتيك المغانِي
ونغني للهوى عذبَ الأغانِي
…
كلما هاجَ هَوانَا الشاطِئانِ
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديدْ
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
محمد عبد الرحيم أدريس
(شاعر النوبة)
البريد الأدبي
حول التلباثي
قرأت بإعجاب كبير مقال الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد عن (التلباثي) وأنا أورد هنا - تأييداً لما جاء في مقال لأستاذ الكبير - حادثة ذكرها المرحوم الشيخ رشيد رضا صاحب المنار في تعليقاته القيمة على رسالة التوحيد للإمام محمد عبده قال الشيخ: (. . . ثبت بتجارب الأطباء حتى الماديين منهم أن بعض هؤلاء المرضى - يعني المرضى بأمراض خاصة - يخبر ببعض المغيبات وبالأمور قبل وقوعها فيصدق. قال مريض منهم كثرت أخباره في ذلك وكان بمصر: إن فلاناً من أقربائه في الإسكندرية خرج من داره إلى محطتها قاصداً السفر إلى مصر لعيادتي. . . ثم أخبر أنه وصل إلى محطتها ودخل القطار؛ ثم شغله الطبيب بأمور تهمه، حتى إذا ما جاء موعد وصول قطار الإسكندرية إلى مصر قال المريض: قد وصل القطار ونزل فلان منه. هاهو ذا خرج من المحطة وركب مركبة تحمله إلى هنا. ثم قال: هاهو ذا قد وصل، فإذا هو بالباب وقد دخل، فالروح التي تدرك مثل هذا وهو غائب عنها تعطينا دليلاً حسياً على إمكان إدراك روح أكمل منها لعلوم من الغيب أعلى مما أدركته هي)
وللأستاذ الكبير إعجابي الكبير، وتحيتي الخالصة.
إبراهيم محمد نجا
حول كتاب ديكارت
1 -
أورد الأستاذ صفاء خلوصي في العدد 439 من (الرسالة) فقرات من كتابي (ديكارت) زعم أنها منقولة عن كتاب (آراء غربية في مسائل شرقية) تعريب الأستاذ عمر فاخوري. والحقيقة أنني لم أنقل شيئاً عن ذلك التعريب إذ لم يكن لي علم بوجوده - وإنما اقتبست عن الأصل وهو بحث كتبه شارل سومان، وكنت قرأته في باريس منذ عهد بعيد، فأعجبني واستنسخته واحتفظت به في لغته الأصلية التي كتب بها. وبقي في أوراقي، إلى أن عدت إلى ديكارت فتذكرته واقتبست منه، وأحببت الإشارة إليه في المراجع، تبعا للخطة التي رسمتها في كتابي كله. ولكن حال دون القيام بهذا الواجب، أنه كان قد فاتني حين احتفظت
بالبحث أن أقيد على وجه التدقيق عنوانه الكامل والموضع الذي نشر فيه وتاريخ نشره وترقيم صفحاته وما إلى ذلك مما ينبغي استيفاؤه في كل عمل من هذا القبيل يتم وفقاً للطريقة العلمية في سرد المظان وبيان المراجع. فكان لابد أذن من إغفال اسم ذلك المصدر والاكتفاء بإيراد النصوص والشواهد من الغزالي ومن ديكارت، مع ذكر مواقعها من مؤلفات هذين الفيلسوفين. ولم أشك في أن ما صنعت من الإحالة إلى الفيلسوفين مباشرة أقوى حجة وأجدى على القراء من الإشارة - دون تثبيت ويقين - إلى ذكرياتي عما كتب عنهما
هذا ولست أدري ما مراد الأستاذ خلوصي من قوله - بعد أن أورد بعض الفقرات المتشابهة في كتابي وفي البحث الذي كتبه سومان -: (وقد أخذ الأستاذ عثمان أمين كذلك مقارنة بين فقرة من كتاب المنقذ من الضلال للغزالي وفقرة من كتاب التأملات لديكارت). وإني أتساءل ما وجه الغرابة في هذا؟ وأي عيب فيه؟ أليس الأجدر بنا في مثل هذه الشؤون أن تعمد إلى النصوص الواضحة نستفتيها، بدلاً من الالتجاء إلى الأقوال المبهمة والفروض العامة؟
أما كون الفقرتين اللتين أوردتهما في كتابي (هما نفس الفقرتين اللتين أوردهما شرل سومان) فهذا أمر طبيعي، ما دمت - كما قلت - قد اقتبست من البحث المشار إليه ما احتجت إليه في المقارنة بين الغزالي وديكارت؛ ولقد كان بمقدوري أن أورد في المقارنة بينهما أقوالاً وفقرات أخرى كثيرة ذكرها سومان و (ليون جوتييه) وغيرهما من المستشرقين. ولكني لم أرد أن يتشعب البحث فيخرج عما كنت بسبيله، فاقتصرت على إيراد هاتين الفقرتين في الهامش مشيراً إلى موضعهما من (المنقذ) و (التأملات)
وأما قول الكاتب إن (ترجمة الفقرة عن ديكارت هي نفس ترجمة الأستاذ فاخوري) فهو قول لا يخلو من إسراف. ولو كان الكاتب الفاضل موقناً منه لأورد نص الترجمتين ليرى القراء مصداق ما قال. أما أنا فإن كنت لا استبعد مبدئيا أن يكون قد وقع بين الترجمتين بعض شبابه، إلا أنني أستطيع أن اجزم منذ الساعة (أي قبل الاطلاع على كتاب (آراء غريبة). . .) باستحالة انطباق الترجمتين انطباقاً تاماً بحيث تكون الواحدة منهما هي (نفس) الأخرى كما زعم الكاتب. ويحملني على الجزم بهذه الاستحالة ثقتي من أنني إنما
قرأت البحث الأصلي دون غيره، وأنني توخيت المنهج العلمي في كتابي، فلم أورد شيئاً إلا ذكرت مظانه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. ولعل الكاتب نفسه لا ينازع في هذا إن كان من المنصفين.
عثمان أمين
2 -
ومن كلمة في هذا الموضوع للفاضل زكريا إبراهيم هذه الفقرة:
الواقع أن الأستاذ (عثمان أمين) لم يأخذ هذه العبارة من ترجمة الأستاذ عمر فاخوري، وإنما أورد نصاً لديكارت نفسه، وهو نص معروف يجده قارئ كتاب (مبادئ الفلسفة) لديكارت. واليك هذا النص في الترجمة الفرنسية للكتاب:
. . .) ،. . ' ' ، ' '. .) ، 1 ، 4.)
وترجمة هذا النص هي كما يلي:
(إن حواسنا قد خدعتنا في كثير من الأحيان، ومن قلة الحزم أن نثق تمام الثقة في أولئك الذين خدعونا ولو مرة واحدة)
فالأستاذ عثمان أمين لم يأخذ هذه العبارة إلا عن ديكارت نفسه، ولم يكن بوسعه أن يتصرف في النص الأصلي، لأن واحداً سبقه إلى ترجمته!
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
في أزهار الرياض
1 -
قصدت في مبحث لي إلى الجزءين المطبوعين حديثاً من (أزهار الرياض) الذي ينشره المعهد الخليفي للأبحاث المغربية فقرأت فيهما بضع صفحات فرأيت أخطاء يجدر بمصححي الكتاب أن ينبهوا عليها، منها في الجزء الأول ص2 في التعليق (وقد ذكر المؤلف هنا على سبيل التورية أسماء طائفة من الكتب للقاضي عياض وغيره وهي. . . الخ). والصواب أن يقولوا:(منها) بدل (وهي) لأنهم لم يذكروا جميع أسماء الكتب التي ذكرت في المقدمة كالإلماع بأصول الرواية والسماع للقاضي عياض، وغيره. وفي ص109:
سلامٌ على مولاي مِنْ دار ملكه
…
قُسنطينةٍ أكرم بها من مدينة
الصواب:
سلام على مولاي من دارُ ملكه
…
قُسنطينةٍ أكرم بها من مدينة
لأن السلام من الأندلس على السلطان أبي يزيد العثماني في القسطنطينة. وفي ص113 (وجنسهم المغلوب في حفظ ديننا) والصواب (وحبسهم المغلوب). وفي ص114:
وساقوا عقود الزور ممن أطاعهم
…
ووالله ما نرضى بتلك الشهادة
الصواب (وساقوا شهور الزور). وفي الجزء الثاني ص160: (مرثيته) بتشديد الياء. والصواب (مرثيته) بالتخفيف. وفي ص359: (ولا تعد عيناك عنهم) بضم الياء، وصوابها (عيناك). وفي ص414 في الفهرس (الديباج المذهب في علماء المذهب لابن فرون) الصواب (لابن فرجون) ولم يذكروا رقم الصفحة الموجود فيها اسم هذا الكتاب. وفي ص403 (السلفي 354) وفي ص399:(أبو الطاهر السلفي الأصبهاني 354، 372) وكلا الاسمين لرجل واحد. ولم يذكروا في الفهرس (تاريخ ابن حيان) وقد ورد في هذا الجزء في الصفحة 258 وغيرها
ابن الفتح
2 -
ومما أخذه على التصحيح الأديب عبد الله الصادق قوله:
(1)
في صفحة 16س9 (ومن تنديداته على أبي الحسن) الصواب (تنديراته) كما في نفح الطيب الذي يرجعون إليه ويصححون عليه وهو من قولهم: فلان يتنادر علينا (الأساس) ولو كان من التنديد لعديت بالباء إذ يقال ندد به، لا عليه (القاموس)
(2)
في ص39 س2
إن لوحقوا في المعلوات فإنهم
…
طلعوا بآفاق العلاء بدورا
قالوا في الهامش: المعلوات جمع معلوة كمكرمة يريد بها المعالي، ولم نجد المعلوة بوزن المكرمة في المعاجم التي بين أيدينا.
أقول: هي جمع معلاة وهي كسب الشرف كما في القاموس، وأصل المعلاة معلوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قبلت ألفاً. وقد أرجعها الشاعر إلى الأصل ضرورة. فعدم ورودها في المعاجم ليس تقصيراً لأنها من القواعد المشهورة
(3)
في ص207 س3 وكان المخترع لها - أي الموشحات - بجزيرة الأندلس مقدم بن معافى القبري). وأطالوا في الهامش ليصححوا تحريفاتهم فضلوا الصواب لأن (معافى) محرفة عن (معافر) أنظر مقدمة ابن خلدون ص305 طبع بولاق. و (القبري) محرفة أيضاً عن (الفريري) نسبة إلى فريرة قرية بالأندلس كما في معجم البلدان لياقوت. وقد غلط مصحح مقدمة ابن خلدون فرسمها (الفريري) بالباء، والصواب بالياء.
بنو أمية وحلم الشورى والعدل
كتب الأديب أحمد البديني سطوراً في العدد الماضي من الرسالة قال فيها عني: (إنه قد غالى كثيراً في قوله إن البناء الإسلامي قد تصدع، وإن اليأس اخذ يدب في جسم الدول الإسلامية في عهد بني أمية). وإني أنتهز هذه الفرصة لأصحح لفظة من كلمتي التي نشرتها عن كتاب (عبقرية عمر) قد حرفتها المطبعة فجاءت على غير حقيقتها وقراها الأديب البديني على تحريفها ثم كتب ما كتب على ما أخذه فهمه منها
ذكرت في هذه الكلمة، أنه لما استحوذ بنو أمية على الملك (قام الأمر منذ يومئذ على قوة العصبية والغلب وتصدع البناء الإسلامي الذي كان قد أقيم على (الشورى والعدل)، وكذلك أخذ داء التفرق الديني والسياسي (لا اليأس كما نشر خطأ) يدب في جسم الأمة الإسلامية حتى أنهك قواها وأذهب ريحها).
ولقد كنا سكتنا عن تصحيح هذه اللفظة لأن السياق كما ترى يدل عليها، وفطنة قارئ الرسالة المثقف لا تلبث أن تلمحها وتنفذ إليها
محمود أبو ريه
هل الأنصار من قريش؟
ستشغل المكتبة العربية حيناً من الدهر بالكتابين الكريمين اللذين أخرجهما أخيراً الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد. ففي كليهما اتجاهات فذة تفصح عن نواحي العظمة في أستاذنا الجليل
ولقد أجمع النقاد على إكبار عبقرية محمد، ولم يكن حظ عبقرية عمر من الإجلال والتقدير بأقل من حظ الأول
على أننا في قراءتنا لعبقرية عمر بالصفحة 319 استوقف نظرنا قول المؤلف في صدد النزاع الذي نجم على الخلافة عقب موت الرسول ما نصه:
(فالأنصار يقولون انهم أحق بالخلافة من المهاجرين لأنهم كثرة والمهاجرون قلة، ولأنهم في ديارهم والمهاجرون طارئون عليهم، ولأنهم جميعاً من قريش ولهم فضل التأييد والإيواء)
والعبارة على هذه الصورة توهم أن الأنصار من قريش وهم بالطبع ليسوا كذلك
(المنصورة)
خالد عبد المنعم