المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 496 - بتاريخ: 04 - 01 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٤٩٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 496

- بتاريخ: 04 - 01 - 1943

ص: -1

‌الرسالة في عامها الحادي عشر

أقبل العام الميلادي تسعى بين يديه الشمس، ومن ورائه يقبل العام الهجري يسعى بين يديه القمر؛ وبين هذين النيرين الإلهيين تبلغ (الرسالة) مرحلتها الحادية عشرة في سبيلها الشاقة، إلى غايتها الحاقة، ومنهما معرفتها ورشادها، وفيهما تضحيتها وجهادها؛ ومن نور القمرين نور الدنيا، ومن هدى التاريخيين هدى الناس؛ فإذا تعسر الخطو وتعثر الخطاة فذلك لأن النور الإلهي احتجب، والبصر الإنساني كلّ. على أن نور الله تدركه البصائر لا الأبصار؛ فإذا عميت القلوب تخبط الناس في ظلام جهنمي تموج فيه تهاويل الشر، فأفسدوا كل صالح، وبددوا كل منتظم، وهددوا كل حي. وما محنة العالم اليوم إلا ضلال عن الطريق. والضال إذا لم يهتد هالك لا محالة. ومن يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً

كلما عاد عيد الهجرة أو عيد الميلاد صاح بالضالين المتفانين شيخ الإسلام أو حبر النصرانية: أن تعالوا إلى الطريق! ولكن كلا الدليلين - وا أسفاه! - يقف على رأس الجادة المهجورة داعياً ولا سميع، وراعياً ولا قطيع!

فمتى يا إله الناس تنحسر عن العيون السادرة أغشية الضلالة فيعود الجائر إلى القصد، ويرجع الشارد إلى الحظيرة؟

لقد طغي الفناء على الكون، وأرسل على ملكوت الله سمائمه السود تعصف في كل مكان بالخوف والجوع والدمار والموت لا تكف ولا تخف حتى لا يدري الممسي كيف يصبح، ولا الغادي كيف يروح!

هذا هو الشتاء الرابع يقبل على هذه الرجفة الآدمية العالمية وهي راعدة لا ينقطع لها دوي ولا حمم ولا نار ولا ضحايا؛ وبنو آدم المتمدنون لا يفتئون يسخرون العلم الذليل الخاضع في تأريث براكينها المزمجرة، فتقذف الردى شهباً في السماء، وتصحبه حميماً في الماء، وتشعله جحيماً في الأرض، وأولادهم هم أشلاء هذه المقتلة، وحضارتهم هي أنقاض هذه الزلزلة. وكل أولئك في سبيل الرغيف. ورزق الله موفور ميسور ما دامت السماء تمطر والأرض تنبت؛ ولكن الإنسان مهما تعلم وتقدم لا يزال في سياسة معدته على الفطرة الأولى من حب الاستئثار والاحتكار، فلا يعرف القناعة في الرزق، ولا يقبل العدالة في القسمة، ولا يحسم الخلاف على القوت إلا بالقوة إذا تأسد، وبالمراوغة إذا تثعلب. وقد

ص: 1

تتفانى الدول وتبقى الأرض، كما يتفانى الأسود وتبقى الفريسة

والخاسرون في معركة الحياة هم عبيد الطمع من الأفراد والأمم. يبذلون دماءهم في سبيل الحياة لا لينعموا بها، ولكن ليحافظوا عليها. وهم مادة الغذاء في يد الطبيعة: ترعاهم ليأمنوا، وتدر عليهم ليسمنوا؛ فإذا ما تكاثروا وامتلئوا قدمتهم إلى الحياة العامة فكانوا سماد الزرع ليخصب، وقلامة الشجر ليغلظ!

كان الشأن في الحرب القديمة أن يخرس اللسان والقلم إذا نطق السيف والرمح. وكانت نيرانها المحصورة لا يصلاها إلا المتحاربون، رجلاً لرجل، أو فئة لفئة؛ ولكن هذه الحرب الجديدة في خططها وعددها، جندت كل قوة وأوعدت كل حياة: جندت العلم والأدب والفن والصحافة والإذاعة والتمثيل والسينما، وعبأت الزراع والصناع والتجار والمدنيين والعسكريين والمحايدين والمحاربين والأطفال والشيوخ، فلم تدع أحداً في العالم كله يفكر إلا فيها، ولا يشغل إلا بها، ولا يعمل إلا لها، ولا يألم إلا منها؛ فكأنها أصبحت المحرك الأول لآلة العيش، استولت عليه الشياطين فأنتجوا به من أداة الشر ما لم يقع في سماع التاريخ ولم يخطر ببال الناس ليهلكوا ما ادخرته القرون، ويهدموا ما شاده الله!

لذلك نما وطما كل ما يمت إلى هذه الحرب بسبب من الإنتاج المادي والفكري، وذبل وضؤل منهما مالا يحارب ولا يدعوا. والأدب في الحرب القديمة كان تشجيعاً، ولكنه في هذه الحرب أصبح دعاية. وقد نفق هذا النوع من الأدب نفوقاً عجيباً في كل أمه، لأن الحكومات على اختلافها وائتلافها تتملقه وتتعهده وتنفق عليه. والأدب كالحرب عصبة المال: بفضله يخصب ويزدهر، وبحوله يتسع وينتشر. أما الأدب الذي لا يحارب ولا يدعو، فقد ظل كالشعب المحايد، يعاني الحرمان ولا يد له فيه، ويقاسي الغلاء ولا ربح له منه

والصحافة الأدبية من هذا النوع، ألحّ عليها فحش الغلاء وحرمان العوز حتى نحل بدنها وشحب لونها، وكادت تنبت من فرط الضنى في وسط الطريق

أصبحت لا تجد الورق إذا وجدت المال، ولا تملك زيادة العرض إذا ملكت زيادة الطلب، ولا تضمن بقاء الغد إذا اطمأنت على بقاء اليوم. فإذا قدر الله لها أن تخرج من محنة هذه الحرب وفيها حشاشة نفس، كانت حرية بعد ذلك أن تستهين بكل صعب، وتثبت على كل

ص: 2

خطب. ورجاء الرسالة في الله أن يرزقها من الجلد ما تتماسك به على عرك هذه الشدائد. وحسبها من صدق الأماني أن تعيش حتى ترى الطريق قد استبصر، والسلام قد استقر، والأمر قد استقام. ويومئذ يتسع لها المجال فتشارك جاهدة مخلصة في رأب ما تصدع وتجديد ما تهدم

وإذا كانت للرسالة في مستهل هذا العام ما تغتبط به من فوز جهادها ونجاح دعوتها، فذلك توفيقها في معالجة الإصلاح الاجتماعي توفيقاً لمست أثره في منهاج وزارة الشؤون الاجتماعية في عهد وزيرها القائم بأمرها اليوم. فلقد آتاه الله حزم الحكماء وعزم المصلحين فطوى فؤاده الشهم على نية الإصلاح بالفعل لا بالقول، فرفع شأن العربية في دواوين الحكومة، ومهد السبل المؤدية إلى تنظيم الإحسان وجباية الزكاة ومحاربة الأمية ومطاردة الفقر على نحو يشبه ما نحته الرسالة في معالجة هذه الشؤون

وأمنية أخرى طالما تمنتها ورددتها الرسالة توشك أن تكون من مقاصد الحكم في هذا العهد: تلك الأمنية هي الاتحاد العربي على أي صورة يكون. وفي كلام الزعماء ومنطق الحوادث ما يعزز الرجاء في تحقيق هذا الأمل؛ وفي توفيق الله وجهاد الصادقين ما يحقق النفع المرجو من هذا العمل

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌خواطر ليلة الميلاد

للدكتور زكي مبارك

كان لي مع هذه الليلة تواريخ في القاهرة وباريس، تواريخ أبدعها الجو الطروب أو الجو العبوس، فقد كان يتفق في أحيان كثيرة أن تحمل ليلة الميلاد أكداراً ومنغصات، لأن الغالب في البيوت الفرنسية أن يكون الزوجان عاشقين، وأن تكون نيران الغيرة مما يشب في ليلة العيد حول (شجرة الميلاد)، وما أسعد من يعيش وهو معذب بلواذع الوجدان!

ما أذكر مرة أن تلك الليلة مضت بدون عواصف، إلا أن تكون في بيوت فرغ أهلها من مصارعة الأهواء، وهي فيما عدا ذلك ليلة متاعب وكروب

وهذه الظاهرة هي سر جمال هذه الليلة، فاصطراع العواطف ميلادٌ جديد، وقد يفعل فعل السحر في إحياء المشاعر والقلوب

كنت أقضي هذه الليلة في بيوت أعرف من أحوالها أشياء، فكنت أفهم الرموز والتلاميح، وكنت أجد التفاسير لبعض دقائق الأدب الفرنسي، وهو أدبٌ قام على أساس الفهم للسريرة الإنسانية، وسيعيش إلى أزمان وأزمان، ما دام في الدنيا ناس يحبون الأدب الصادق الصريح

ثم جاءت هذه الحرب فقضت في مصير فرنسا بما قضيت، ولم يبق لأصدقائي الفرنسيين من زاد غير الحزن الوجيع، فأنا لا أزورهم في ليلة الميلاد كما كنت أصنع، ولا ألقاهم إلا في الحين بعد الحين، فهناك أحزان تؤرثها المؤاساة وتزيدها اشتعالاً إلى اشتعال

وهنا أذكر أني عرفت أخيراً أن سقوط باريس لم يحزن أهل باريس بقدر ما نتصور، ولم يشعرهم بمعاني الامتهان. وتفسير ذلك عند الأستاذ توفيق وهبة أنهم قوم تعودوا الهزائم والانتصارات، ولم تكن الدنيا في أنظارهم غير مواسم للانخفاض والارتفاع

ولكني مع هذا أقرر أن حال الفرنسيين المقيمين بمصر يختلف عن حال مواطنيهم هناك، لأن المغترب يتعلق بوطنه تعلقاً لا يحسه المقيم، وقد تأكد عندي هذا المعنى في الأعوام التي قضيتها في باريس وفي بغداد، فقد كان الخبر السيئ يؤرق نومي مهما صغر وهان، وكان أي حرف يكتب ضد مصر يؤذيني، فأرد عليه في الحال

أكتب هذه السطور في ليلة الميلاد، وفي خيالي بيوت عزيزة كنت أحب أن أراها وكانت

ص: 4

تحب أن تراني. وسيقول قومٌ كلاماً كالذي قالوه يوم نشرت (الرسالة) مقالي في التفجع لسقوط باريس!

كانت فرنسا أمةً استعمارية فشمت بانهزامها من يؤذيهم بغيُ المستعمرين، وفاتهم أن فرنسا أعطت جميع الشعوب درساً سينتفعون به حامدين أو جاحدين

كانت فرنسا ترى أن اللغة هي عنوان الأمة، وكانت ترى أن الوطن الذي لا يسيطر بالفكر على خصومه ومنافسيه وطن ضعيف. ومن أجل هذا أنفقت فرنسا ما أنفقت من الأموال ليكون لها مدارس في جميع البلاد، وبفضل هذه العناية صارت اللغة الفرنسية لغة دولية، وصار من حق الفرنسي أن يعفي نفسه من العناء في تعلم اللغات، لأنه سيجد من يتفاهم معهم بلغته في أي بلد يتوجه إليه، ولو في الصين!

اقترحتُ في سنة 1938 أن ننشئ مدرسة مصرية تنافس المدرسة الفرنسية في طهران، فلم أجد من يسمع كلامي. وأين من يعرف أن طهران جريدة إيرانية لغتها الفرنسية؟

فوجئت يوماً وأنا بدار المعلمين العالية في بغداد بمجموعات فخمة ضخمة من المؤلفات الفرنسية، وحين سألت عن مصدرها عرفت أنها هدية مرسلة من باريس

وقد استوحيت هذا الشاهد فاقترحت فيما بعد أن ترسل وزارة المعارف المصرية هدايا من الكتب المكدسة في المخازن إلى المدارس الأجنبية، فترددت الوزارة عامين، ثم تلطفت فأهدت مجموعات هزيلة، مع أن في مخازنها مجلدات مهجورة ستباع يوماً بلا ميزان، لأن حراستها وصيانتها تجشمان الوزارة ضروباً من التكاليف

كانت فرنسا تقول بمبادلة الأساتذة والتلاميذ، لتعطي وتأخذ، ولتفيد وتستفيد، وقد أقامت في إحدى ضواحي باريس مدينة تبني فيها أية أمة لأبنائها ما تشاء، ولقد استفادت أممٌ كثيرة من هذه المزية، إلا مصر، ولهذا تفضيلٌ قد يتأذى الشمسي باشا من تسجيله في هذا الحديث

ونحن اليوم في أوج صلاتنا مع الشرق، فعند الشرق مدرسون مصريون يعدون بالمئات، ومع هذا لم تفكر مصر في رد الجميل

ما الذي يمنع من أن تستقدم مصر بعض الأساتذة من الشرق ليدرسوا في معاهدها العالية بأساليبهم الخواص: فهذا في كلية الآداب، وذاك في دار العلوم، وذلك في كلية اللغة العربية، إلى آخر ما يصلح له علماء الشرق؟

ص: 5

ليس معنى هذا أن مصر في احتياج إلى مدرسين، وكيف وفي خريجي المعاهد العالية شبان أكفاء لا يجدون ما أعدوا له من المناصب التعليمية؟

إن لهذه المسألة وضعاً غير هذا الوضع، والمراد هو أن تفكير مصر في إتاحة الفرصة لبعض أساتذة الشرق، الفرصة التي تمكنهم من الوقوف على التيارات العلمية والأدبية في الديار المصرية؛ فمصر اليوم في ازدهار علمي وأدبي لم تشهد مثله من قبل، وهو ازدهار يوحي إلى الأساتذة أكثر مما يوحي إلى الطلاب، وقد يكون في وجود أولئك الأساتذة فرص لمنافسات علمية وأدبية تعود علينا بأجزل النفع، وقد يكون في وجودهم خير للطلبة الذين حضروا إلينا من بلادهم، فأنا ألاحظ أن أكثر الطلبة الشرقيين لا يجدون من يعاونهم على الاستفادة الصحيحة من الإقامة بهذه البلاد

خطر في بالي مرة أن أقترح على مشيخة الأزهر الشريف أن تنشئ كرسياً للفقه الجعفري، وكان هذا الخاطر لأني لاحظت أن النضال بين المذاهب الفقهية قد انعدم في مصر أو كاد، مع أن لمصر في التشريع الإسلامي تاريخاً من أمجد التواريخ

إن مناصب (شيوخ المذاهب) صارت مناصب شكلية بسبب السلام الذي ساد بين المذاهب، وهل نسمع اليوم خبراً عن شيخ الشافعية أو شيخ المالكية؟

إن النضال بين المذاهب أدى للتفكير الإسلامي خدمات تفوق الإحصاء، وله فضلٌ عظيم في مرونة اللغة العربية، وأكاد أجزم بأن الفقهاء خدموا اللغة أكثر مما خدمها الشعراء

لو استقدمنا عالما شرقياً لتدريس الفقه الجعفري بالأزهر لأثرنا النضال بين المذاهب من جديد، وأعطينا مصر فرصة عظيمة ليقظة فكرية نادرة المثال

إن مصر في عهدها الحاضر تنشئ تاريخاً جديداً في الشرق، وهي في طريق الوصول إلى عقد معاهدات ثقافية مع أكثر أمم الشرق، وهذا يوجب عليها أن تعرف الشرق أكثر مما تعرف، فيكون لها فيه سفراء روحيون، ويكون عندها منه سفراء روحيون

لو دعونا جماعة من أساتذة الشرق ليحدثونا عما في بلادهم من تقاليد وآراء وآداب لحمدوا لنا هذا الصنيع، وعدوه تلطفاً يستحق الثناء

ويظهر أنه لا بد من إنشاء قلم بوزارة الخارجية لمراجعة ما يكتب عن مصر في جرائد الشرق، وتكون مهمته المبادرة إلى تصحيح ما يستوجب التصحيح، وتكون مهمته أيضاً أن

ص: 6

يستصدر أعداداً خاصة من بعض جرائد الشرق للتعريف بمصر كالذي تصنع وزارة الخارجية في استصدار أعداد خاصة من بعض الجرائد الإنجليزية والأمريكية

وهنا أشير إلى حادث ما ذكرته إلا شعرت بالحزن يعصر قلبي

في سنة 1939 أصدرت مجلة (الحديث) ومجلة (العرفان) ومجلة (المكشوف) أعداداً خاصة بمصر، أعداداً نفسية جداً، ومع هذا لم أستطع إقناع وزارة المعارف بأن تشتري من تلك الأعداد مجموعات لمكتبات المدارس، ليعرف الذين فكروا في التنويه بمصر أن كرمهم لا يضيع

وفي تلك الأيام كنت أقترح على الأستاذ الزيات أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن الأمم العربية فرحب بالاقتراح وأجل تنفيذه إلى انقضاء الصيف، ثم بدا له بعد ذلك أن يواجه المشروع من جديد، فصدته أزمة الورق عما يريد

مالي ولهذا الكلام؟

هذه ليلة الميلاد، والأثير ينقل إلى سمعي بعض ما يثور في شوارع مصر الجديدة من عجيج وضجيج، فكيف آثرتُ الاعتكاف في هذه الليلة، وقد تفضل شهر ذي الحجة فجعلها قمراء؟

لعني أردت الخلوة إلى قلمي، وهو الأنس الأنيس عند اعتكار الظلمات في دياجي الزمان

لعني أردت بهذه الخطوات القومية أن أتجنب الخلوة إلى قلبي، وهو عدوٌ صديق

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدواٌ لهُ ما من صداقته بُدُ

قضيت ما قضيت من حياتي في دراسة الجمال، حيثما كان الجمال، فأنا لا أضيف حرفاً إلى حرف إلا بميزان، وأنا أصادق وأعادي بوحي الذوق لا بوحي النفع، وما الموجب لأن أكون نفعياً وقد أغناني الله عن جميع الخلائق، ولم أعرف ما الظمأ والجوع في أي يوم، ولا جاز في وهمي أن أتصور أن الله قد يتخلى عني؟

لي صداقات كثيرة مع أرواح تنطق بالأوراق لا بالألفاظ، وأقسم جهد اليمين أن بحديقة داري في سنتريس أشجاراً يعتريها الذبول إن صدقت عنها أسابيع

لي صديق هو اليوم أحد مدرسي الفلسفة بكلية الآداب، وهو الأستاذ محمود الخضيري، وكان لي معه حديث في (ايسكوار مونج) في نوفمبر سنة 1930، فما ذلك الحديث؟

ص: 7

كنت أجلس في بعض الضحوات (بذلك الإيكسوار)، وهو حديقة الحي في الإصلاح الفرنسي، كنت أجلس تحت شجرة يؤنسها أن ترى رجلاً بيده كتاب، وكان أصدقائي من بعثة الجامعة المصرية يعرفون كيف يلقونني هناك. وفي ذات يوم حضر الأستاذ محمود الخضيري فوجدني أجادل رجلاً يحاول تشذيب تلك الشجرة بعنف، فأنكر عليّ ما أصنع، فقلت إن الشجرة تصرخ، ومن واجب من استظل بظلها أن يدفع عنها العدوان. فقال: وهل يحس الشجر والنبات؟ فقلت: نعم، ويتألم الشجر والنبات كما يتألم الحيوان!

وبعد شهور حدثتنا جرائد باريس أن جلالة الملك فؤاد قد استقدم عالماً هندياً اسمه (بوز) ليلقي في الجمعية الجغرافية محاضرات عن نظريته في إحساس النبات!

إحساسي بالوجود هو سبب عنائي، ولو عرف الناس هذا العناء لقاتلوني عليه، فهو أطيب الأطايب في ثمرات الحياة

لم أدخل بلداً إلا أحببته أصدق الحب، لأني أرى بضميري وجه الله في كل مكان. وما صادقت إنساناً وغدرت به أبداً، لأني أرى الصداقة من أظهر الدلائل على صحة القول بوحدة الوجود

وأنا أترحم وأتحسر وأنفجع كلما رأيت إنساناً يكذب أو ينافق في سبيل العيش، فالموت الذي يخافه الناس لن يصل يوماً عن طريق الجوع. ولو نظر الناس في أسباب أمراضهم لوجودها ترجع إلى الإفراط في الطعام والشراب ولو كانوا من الفقراء

ثم ماذا؟ ثم يبقى جواب الخطاب الوارد من (الأرمان) فماذا يريد ذلك الخطاب؟

هو يريد أن تكون مقالاتي كلها على غرار (دار الهوى في عيد القمر)، فأين أنا مما يريد؟ وأين الأعصاب التي تستطيع تدبيج تلك الأحاسيس في كل أسبوع؟

أمام عيني وبين يدي أرواحٌ موقوذة هي المقالات التي سطرتها بدمي، ولا أستطيع نشرها بأي حال، لأنها تخالف المألوف من تقاليد هذا الزمان

ثم يحاسبني ذلك الخطاب على هفوات قلمي، كأنه يجهل أني أمتشق القلم في كل مساء، وأني أراود أبكار المعاني في يقظتي ومنامي

أما بعد فهذه ليلة الميلاد، وقد قضيتها وحيداً فريداً لأتقي الله في نفسي فلا أعرضها لشواجر الأرواح وعواطف القلوب

ص: 8

وقد بقيت ليلة ستأتي بعد ليال، وهي ليلة العام الجديد، وأغلب الظن أني سأحرم نعيمها على نفسي، لأني نذرت التبتل بعد فراق من تلقيت عنهم وحي الروح في اللحظة التي تفصِل بين العام الذاهب والعام الوليد

ما جزعي على ما مضى من أيامي، ولم يعيش أحد كما عشت، ولا استجاب الوجود لنداء شاعر كما استجاب لندائي؟

ماذا صنع الدهر بهم؟ ماذا صنع؟

إن دنياي بعدهم وهمٌ في وهم، وخيالٌ في خيال، ولن أتذوق طيب الحياة إلا بعد أن يصفحوا عني

إن ذنبي عندهم أني صيرت حياتهم أفانين من الارتياع والانزعاج. . . فهل يجهلون ما صنعوا بحياتي؟ وهل يجهلون أن الجروح قصاص؟

قد كان لي قبلكم حبٌ وكنت فتى

لظل سلطانهِ أهلُ الهوى تَبَعُ

فكيف أشقيتموني كيف لا رَضِيَتْ

ولا أرتني الليالي كيف أرتدعُ

هبوا فؤادي سلا واجتاز محنتهُ

فمن بسلوة قلب الصب ينتفع

يا غاضبين تعالَوْا تشهدوا كبداً

رجاؤها في خيال البرء منقطع

هوًى تهاوت أمانيه فليس لهُ

فيما تجود به الأوهامُ منتفَع

هوى خلقتم وأفنيتم، ولا عجبٌ

بعض الأحباء في قتل الهوى صَنَعُ

لا تحسبوا هجركم خطباً يروِّعني

إني بوأد بنات الدهر مضطلعُ

زكي مبارك

ص: 9

‌أيها الأصحاء.

. .

للأستاذ راشد رستم

ها أنتم أولاء تمرحون وتلعبون، تستنشقون عبير الأزاهير والرياحين من الرياض وبين الفياض، وتستبدلون كما تشاءون مكاناً بمكان، وتستلذون طيب العيش، وتسكنون بيوتاً جعلتموها كما تريدون، وتستطيبون ألوان الراحة ومباهج الحياة، وترقبون شؤون دنياكم في رغبة ونشاط ونظام، وقد تصعدون إلى السماء فتطيرون تقضون مآربكم عجالاً - وهكذا تروحون وتغدون، أحراراً صحاحاً خفافاً كراماً. . .

جعل الله أيامكم كلها هكذا دواماً

والآن. ألا تقفون قليلاً!

نعم قليلاً. سائلوا ذلك الذي يناديكم، فإنه لا يبغي منكم تغييراً وتبديلاً، وإنما يطلب لكم صحة وسلاماً، ثم يهمس في صوت خافت لين صريح ساذج. . .

أيها الأصحاء! زوروا عيادات الأطباء. . .

زوروها واجلسوا في ركن منها هادئين

اذهبوا إليها في ساعة تختارونها، ولتكن هي الساعة التي تحارون كيف تقضونها. . . تلك الساعة التي تتكرر كثيراً وكثيراً لذوي الوفرة في الجاه، والوفرة في الفراغ، والوفرة في المال

هنالك في تلك الساعة تعلمون أن المرض شيء من الحياة، وأن في العالم مرضى، وأنكم أنتم الأصحاء. . .

فإذا جاءكم الطبيب يسألكم عما تشكون وما تريدون، فقولوا له القول الصريح، القول الصحيح - (إنما نحن أصحاء، جئنا إلى هنا لكي نبقى أصحاء، وأنا لا نشكوا مرضاً ولا نريد شيئاً كما لا نريد أن نشكوا شيئاً أبداً)

ثم تحولوا قليلاً، وزوروا المستشفيات والمصحات، لا تسألوا المرضى عن أمراضهم، ولا الأطباء عن مرضاهم، ولا الممرضات عن أعمالهم، ولكن انظروا إلى المرضى في حالاتهم، ولاحظوا يقظاتهم ورقداتهم، واسمعوا في صبر آهاتهم وأناتهم. راقبوا في عطفٍ أهلهم وزوارهم. انظروا إلى طعامهم وشرابهم ولباسهم، ولا تنزعجوا خائفين، ولا تسرعوا

ص: 10

هاربين، إذ هناك تعلمون وتعلمون حقاً أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، وأنها هي الحياة، وأنكم أنتم الأصحاء. . .

ثم اخرجوا آمنين، واهدءوا مطمئنين، وجانبوا الناس قليلاً سالمين. ثم اسكنوا إلى أنفسكم خاشعين. كل ذلك وأنتم في يقظة عالية وإحساس رفيع. اجلسوا ساعة أو بعض ساعة في النجوى صامتين: ساعة صلاة وحمد وتسبيح، ثم اجعلوها كذلك ساعة ذكرى دائمة الذكرى، فإن نعمة الصحة قد لا تدوم، وهي كالشباب لا يعرف فضلها إلا من فقدها. فأحيوا تلك الساعة بمظهر من مظاهر العطف والعاطفة، إحساناً بإحسان، وزكاة عن الصحة والعافية

ثم عودوا إلى لهو الحياة إن شاء الله آمنين أصحاء دائمين. . .

إن العواطف لا يدركها إلا المنكوبون

والرحمة لا تدخل القلب إلا إذا كان القلب يرى

وإن أبصر الناس من يرى بقلبه

وأرحمهم من يبكي بقلبه

وأصحهم من سلم في قلبه

(لوكاندة بحيرة فاروق)

راشد رستم

ص: 11

‌خطرات شاعر

ليلة عيد الميلاد

للأستاذ علي محمود طه

اسمعي أيَّتُها الروحُ! أفي الكون غِناءُ

وانظري. . . هل في نواحي الأرض بالليل ضياءُ؟

لا تُرَاِعي إنْ يكنْ قَصَّر عنك البشراء

فالنواقيس التي حَّيْتكِ أشَجاها القضاء

الشَّجَي رَجْعَ صداها والأسَىِ والُبرَحاء

والتراتيلُ من البِيعَة نَوحٌ وبكاء

رددتهنَّ الثكالى واليتامى الشهداء

والمصابيحُ التي كان بها يُزْهَي المساء

خنقتها قبضةُ الشرِّ فما فيها ذَماء

صبغوها بسوادٍ فهيَ والليلُ سواءُ

مأتمٌ للنور قام الويلُ فيهُ والشقاء

تحت ليلٍ ما له بدءٌ، ولا منهُ انتهاء

أيها المبعوث، لا ضَنَّتْ بِرُجعاكَ السماء

أنظِر الأرضَ. . . فهل في الأرض حبٌّ وإخاء؟

نسىَ القوم وصاياك وضلوا وأساءوا!

وكما باعوك يا منقذُ بِيعَ الأبرياءُ!!

ليلةَ الميلاد، والدنيا دموعٌ ودماء

في ربوع كان فيها لك بالسلم ازدهاء

باسمه يشدو المغُّنون ويشدو الشعراء

أين ولَّت هذه الفرحة؟ أم أين الصفاء؟

لم تصافحك من الأطفال أحلامُ وِضاء

رقدوا غيرَ عيونٍ ريعَ منهن الفضاء

ص: 12

ترقب الآباء، هل عادوا؟ وهل حان اللقاء؟

بين أيدي أمهات، بِتنَ، والليل جفاء

في طوايا النفس وقد عز الرجاء!

ويحهم أين تُراهم، هؤلاء التعساء؟

هم وراء الليل أجسادٌ وأرواحٌ هباء

ووجوهٌ رسم الرعبُ عليها ما يشاء

خندقوا في مأزقِ الموتِ وما منه نجاء

بين موج من سعير يتوقَّاه الفناء

وجبالٍ من رُكام الثلج يُرسيها الشتاء

وحديدٍ طائر يحذر مسراه الهواء

وعجيبٌ! فيمَ للموت يساق الأشقياء؟

في سبيل الحقِّ؟ والحق لدى القوم طلاء!

في سبيل المجد؟ والمجد من البغي بَراء!

أوَ في المجزرة الكبرى تنال المجدَ شاء؟

كذب الباغي وللسيف بكفَّيه مَضاء

وخداعٌ كل ما قال، وزورُ وافتراء!!

أيها الشرق الذي خصَّته بالرٌّوح السماء

هذه الروح التي شِيدَ بكفيها البناء

والتي من نورها العالم يُجْلي ويُضاء

يا أبا الحكمة، لا هان عليك الحكماء!

ناد (أوربا) فقد ينفعها منك النداء:

دِنْتِ بالقوة حتى صَرَعَتْكِ الكبرياءُ

حانتِ الساعةُ يا أختاه أم حَقَّ الجزاء؟

أرقصي في النار، أنتِ اليوم للنار غذاء

وأشربي في حانة الشيطان ما فاض الإناء

ص: 13

حانة للموت فيها من دم القتلى انتشاء

نادمي من شئت فيها، فالمنايا الندماء

فارفعي الكأس وغّني وعلى الدنيا العناء!

يا قويا لم يَهُنْ يوماً عليه الضعفاءُ

وضعيفاً واسمه يُصرع منه الأقوياء

وأنا المسلم لا يُجحد عندي الأنبياء

أنت في القرآن حب وجمالٌ ونقاء

عَجبٌ فِدْيتُك المثلى! وفي القول عزاء!

ألهذا العالم الشرِّير؟ قد ضاع الفداء!

ص: 14

‌كلمة عن التلباثي

للدكتور رمزي مفتاح

كتب الأستاذ العقاد مقالاً عن التلباثي؛ وليس قصدنا أن نناقشه فيما كتب أو نوضح من هذا العلم الغامض. ولكننا نلخص الموضوع باختصار شديد فنقول:

1 -

ليس معنى التلباثي هو أو الرؤية عن بعد، وليس هو المكاشفة، ولكنه:(أ) انتقال إحساس قوي، أو انتقال فكرة واحدة مجردة؛ فقد تشعر الأم بوقوع ابنها في حريق وهي بعيدة عنه. وقد يحس الابن ضيقاً وكرباً وأبوه يناديه وهو على فراش الموت وبينهما بحار وأقطار.

(ب) تبادل الأفكار الذي يكون بين اثنين من المشتغلين بهذا العلم، ويتم بعد تدريب طويل بالطرق العلمية

(ج) إرسال فكرة أو أمر من فرد إلى آخر؛ وتقتضي أن يكون الأول عالماً بعلم النفس الحديث ومتدرباً على التأثير من بعد

2 -

يمكن الوسيط المغنطيسي أن يرى أو يسمع أو يقرأ عن بعد، وقد نجح وسيطنا في هذه التجارب. أما الحاصلون على هذه الموهبة وهم في حالتهم العادية فعددهم فرد واحد في كل أربعة ملايين

فلو كان المقاتلون قد سمعوا صوت عمر وهم مئات، ولو كان ذلك قد تم بواسطة التلباثي، لا قتضى الأمر أن يكونوا كلهم موهوبين أو وسطاء وهو ما لا يعقل. والحقيقة أنه هو الموهوب وحده، وأن هذه الظاهرة ليست تلباثي. أما في المثالين المذكورين في (أ) وما يشبهها فلا تسمع فيها الأصوات. ويلزم أن يكون بين الفردين صلة أبوة أو زواج ويكون مرسل الرسالة وقد انطلق عقله الباطن من عقاله في سكرة الموت أو في توقعه

3 -

أما الرؤية من بعد فنقسمها قسمين:

الأول: أن يراك غيرك وهو بعيد

والثاني: أن تنظر غيرك

فالأول كان يسمى قديماً إرسال المثال الكوكبي وهو من أعقد المباحث العلمية. وخلاصته أنه يمكن أحد الموهوبين - وهم بنسبة فرد في كل 100 مليون في المدن، وفرد

ص: 15

في كل مليون في البدو - أن يرسل طيفه المثالي إلى أي مكان حيث لا يرى في ضوء النهار، ولكن قد يسمع صوته؛ ويرى في الغبش أو الليل على صورة المرسل ضباباً متجمعاً. والهنود يسمون هذا الضباب ويسميه العلماء الأقدمون أطياف الأثير، وهم جميعاً يعتقدون أنها ذرات كونية تتجمع وتكون شكلاً خاصاً بتأثير قوة خاصة ليست مجهولة منا الآن. وقليل من علماء النفس الحديثين من يعرف أن هذا الضباب مكون من ذرات الأشعة الكونية ' وهي التي كان العالم مسمر الشهير يسميها السيال المغنطيسي الكوكبي. وإنه لمطلب عجيب نمسك الآن عن البحث فيه. وبالمقدرة على إظهار الطيف الكوكبي يمكن أن ترى رجلاً تعرفه يمشي على الماء وتسمع صوته

القسم الثاني يختص بالوسطاء المغنطيسيين أو الموهوبين كما بيننا.

والوسيط أو الموهوب يرى ولكن الآخر لا يراه ولا يشعر به.

وتسمى هذه الظاهرة وهو موضوع آخر بالمرة غير التلباثي الذي ذكره الأستاذ. ومن أمثلته عند العرب زرقاء اليمامة

4 -

سماع الأصوات عن بُعد ويسمى وهو موضوع آخر غير التلباثي وهو الذي يقال فيه إن فلاناً يسمع الهاتف. وكل هذه الظاهرات من قوى الوسيط المغنطيسي أو الروحاني الموهوب - وكذلك لا يسمعه الطرف الآخر

5 -

كل مقال الأستاذ العقاد منصب على إثبات وجود التلباثي بأدلة منطقية قياسية. وقد فرغ العلماء من إثباته منذ أكثر من 85 سنة. وتدرس هذه العلوم كدراسات عليا في جامعات إنجلترا الكبرى. ومحاولة الأستاذ إثباتها كمن يحاول إثبات وجود أشعة إكس بالاستنتاج. وقد صدر في أمريكا وأوربا في السنوات العشر الأخيرة نحو ألف كتاب فيها مباحث عن التلباثي والعقل الباطن

(مصر الجديدة)

رمزي مفتاح

ص: 16

(توبال فايين) أو:

معجزة الحديد

للشاعر الإنجليزي تشارلس ماكاي

للأستاذ محمود عزت عرفة

(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)

سورة الحديد: الآية 25

(وصلة أيضاً ولدت توبال فايين الضارب كل آلة من نحاس

وحديد)

سفر التكوين: 4: 22

تقدمة

كانت قصص الكتاب المقدس - وما تزال - مصدر وحي عميق لكتاب الغرب وشعرائه؛ فهي قد تركت بسهولة تعبيرها وبلاغة حكمتها ودقة تصويرها، أثراً بالغاً وسمةً واضحة الظهور في تفكير القوم وفي أسلوبهم؛ كما ترك القرآن الكريم أثره البالغ الخالد في مختلف علوم اللغة العربية وآدابها. . .

وهذه حقائق لا يتسع المقام هنا لشرحها. على أن في قصائد: مهلك جند سنحاريب، ورؤيا الملك بيلشاصر، ومرثية داود لأبنه أبشالوم وغيرها وغيرها من نفائس الأدب الإنجليزي، ما يعتبر دليلاً واضحاً على صحة ما أشرنا إليه آنفاً. . . والقصيدة التي نترجمها اليوم مما يدخل في هذا الباب.

وهي من نظم الشاعر الإنجليزي تشارلز ما كاي الذي عاش بين عامي 1814، و1889 م؛ وقد اشتهر بمقطوعاته الغنائية الرائعة، كما أنه ساهم في تحرير كثير من الصحف الصادرة على عهده، في إنجلترا واسكتلندا. وقد ورد في (معجم السير القومي: البريطاني أن هذه القصيدة نشرت لأول مرة في صحيفة (لندن المصورة) عام 1851 م.

ص: 17

ولكن المحقق الإنجليزي س. ب. هويكر يقول إنه لم يعثر عليها في هذا المصدر، وإنها نشرت لأول مرة عام 1856م ضمن ديوان للشاعر عنوانه: أغاني وأناشيد شعرية.

ترجمة القصيدة

عاش توبال قابين في بدء الحياة والكون طفل يحبو؛ وكان قيناً صَناعاً ذا أيدٍ وقوة، لا ينفك لمطرقته دويّ ولأتونه لهيب ولظى. . . كان يرفع مطرقته بساعده القوى المفتول ويهوي بها على الحديد الأحمر الوهاج، فيترامى من حوله الشرر كأنه شآبيب المطر الأرجواني. وما يزال حتى يستوي الحديد أمامه سيفاً قاطعاً أو سناناً لا معاً، وإذ ذاك يصيح من قلب جذلان:

ألا بورك في هذه من صنعة بورك في تلك الظُّبا وهاتيك الشَّبا! بورك لمن هزَّ مشرفياً أو اعتقل ردينيا فبهذين تمتلك النواصي، وتستدنى الآمال القواصي!

وكانت الرجال ما تنفك تهوى من كل فج إلى توبال قابين وهو على عمله عاكف يلتمس كلٌّ لنفسه سيفاً جزاراً أو نصلاً قاطعاً، ليحقق في الحياة مأرباً أو يحتاز رغبة. فكان يمدهم من السلاح فأنفذه ومن العدة بأقواها، حتى ليهتفون باسمه في نشوة من السرور، ويغمرونه بعطاياهم من نفائس النضار وكرائم الجوهر وهم يقولون: ألا بورك فيك يا توبال قابين؛ يا من تسبغ علينا من القوة لَبُوساً، ومن البأسِ سرابيل ودروعاً

بورك في القين وبورك في النار! بورك في الحديد ذي البأس الشديد!

على أن خاطراً فجائياً احتل موطنه - في إحدى الليالي - من قلب توبال قايين، فجاشت نفسه بالألم الممض، وامتلأ صدره من الكمد الموجع والهم المقعد المقيم على ما قدم من الشر وأسلف من سوء الصنيع!

رأى الناس قد اذكروا فيما بينهم نار حرب عوان، بدافع من نزوات الغضب ونفثات الحقد؛ وخضبوا وجه الأرض بمسفوح الدم، في لحظات من جنونهم ونشوات نفوسهم العوارم، فصاح من قلب مفجع منكوء:

وا أسفاه على ما قدمت يداي! وتعساً لتلك المهارة التي هيأت لهؤلاء القوم من آلات التخريب ومعدات الدمار ما تمادوا به في تقتيل أنفسهم؛ حتى اقتضبوا طويل أعمارهم، وخربوا معمور ديارهم!

ص: 18

وقضى توبال قايين أياماً طوالاً يقض مضجعه التفكير في محنته، وقد أمسكتا يداه عن العمل، فما إن تطرقان قضيباً أو تضرمان لهيباً

وإنه لكذلك، إذ نهض ذات يوم بوجه متهلل ضحوك، وعينين ملتمعتين ببريق الرجاء والأمل، وشمر عن ساعده المفتول ليستأنف عمله من جديد؛ بيننا ارتفع لهيب أتونه المضطرم في الجو عالياً، وترامى الهواء من حوله بشرر كالقصر

وراح توبال قايين يغني وهو يعمل قائلاً: ألا بورك في هذه من صنعة. . . فما للسيوف دون غيرها نصقل الحديد أو نطرق المعدن. وأتم في هذه اللحظة عمل أول سكة لمحراث!

وكان الناس قد لقنوا الحكمة من ماضيهم، فتصافحت أيمانهم على عهد من المودة وثيق؛ ثم أغمدوا سيوفهم وركزوا رماحهم وأقبلوا على الأرض المدرة المعطاء يفلحونها ويجنون يانع ثمراتها وهم يغنون:

لنشكر جميعاً صديقنا الطيب توبال قايين، هذا الذي حقن دماءنا وحفظ ذماءنا؛ ولنتقدم إليه من الحمد بأبلغه ومن الثناء بأجزله على ما أولانا من صنعة هذا المحراث النافع

على أنه ترفع الفتنة يوماً رأسها، أو يطمع في السيطرة علينا طاغية متجبر؛ فلنكن مع شكرنا له على الانتفاع بمحراثه، غير جاحدين له مزية الدفاع بسيفه.

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 19

‌علاقة شوقي باللبنانيين في نظر الدكتور مبارك

للأستاذ نجيب شاهين

قال شوقي في يوبيله إنه يهتدي بهدى المتنبي في أدبه واعترف له بالسبق اعتراف أبي العلاء به قبله

وشوقي في ملتي واعتقادي - كلمتي أبي العلاء - أعظم شاعر بعد أبي الطيب بغير استثناء، ولا يخرج من هذا الاستثناء أبو العلاء. وله مواقف لم يقفها المتنبي نفسه بل سائر من سبقه

هذا هو رأيي وقد أكون مغالياً، ويكون سبب هذه المغالاة لوثة باطنية مما اصطلحوا عليه بلفظة ذاتية، وأكون مخالفاً فيها لجمهرة غالبة من أهل الرأي في الأدب والشعر وما يشتق عنهما. وقد أكون مصيباً، وفوق كل ذي علم عليم

جالست حافظاً حقبة من العمر في القهوة المناوحة (لدار الكتب الملكية) في باب الخلق كنت أوافيه فيها أياماً من الأسبوع وكلانا يدخن فيها نرجيلته، وكان حافظ هو المتكلم في الغالب، وكنت أنا السامع كعادته مع أصحابه، وكان أثناء بساطته (مباسطته) يمزح ذاماً للمتنبي مفضلاً عليه البحتري ناسباً انتصار الشاميين له إلى كونه شامياً مثلهم. ولم يكن كذلك تماماً لأنه ولد في بادية الشام وطوف في الشام ومصر وعاد إلى الشمال فمدح سيف الدولة الحمداني هناك، ثم هبط إلى طرابلس (الشام طبعاً) في أواسط الشام وأنشد فيها بعض مدائحه، ورحل إلى دمشق فأنشد فيها قصيدته الشينية على ثقلها، وأنتقل إلى فلسطين فمدح بدر بن عمار وقال فيه قصائده ومنها القصيدة المشهورة التي وصف فيها قنصه للأسود على ضفاف الأردن وبحيرة طبرية. ومنها يستدل على وجود الأسود هناك حينئذ مع أنها انقرضت الآن. وتنقله الكثير هذا بين الشام ومصر جاء مصدقاً لبيته الذي يقول فيه:

بأي بلاد لم أجرَّ ذؤابتي

وأي مكان لم تطأهُ ركائبي

فإن كان الشام وطناً له فقد كان وطناً ثانياً، وهل أقول إنه كان دخيلاً فيه!

وكان يعرض لنا في مجلسنا ذكر شوقي طبعاً، فإذا ذكره بعض حساده بسوء ولغوا في ذمة تصريحاً أو تعريضاً لم يشاركهم حافظ ولم يردهم، بل كان يلقي لهم الحبل على الغارب تساهلاً وتهويناً لا تشجيعاً لأنه كان من أشد المعجبين بشوقي حقاً

ص: 20

أجيء الآن إلى تعليل قول الدكتور مبارك إن شوقي تغنى بالمسيح إيفاء لمتأخرات دين عليه للسوريين؛ وهو تعليل واهٍ، لأن أعظم إشادة لشوقي بالسيد المسيح احتوتها قصيدة الهمزية التي نظمها في أواخر القرن الماضي وألقاها في مؤتمر جنيف سنة 1894 أي منذ نحو نصف قرن وفيها:

ولد الرفق يوم مولد عبسى

والمروءات والهدى والحياءُ

وازدهي الكون بالوليد وضاءت

بسناه من الثرى الأرجاءُ

وسرت آية المسيح كما يسري

من البحر في الوجود الضياءُ

تملأ الأرض والعوالم نوراً

فالثرى مائج بها وضاءُ

لا وعيد، لا صولة، لا انتقام،

لا حسام، لا غزوة، لا دماءُ

لم يكن شوقي حينئذ قد اشتهر ولا عرف الشام أو عرفه أهله وسمع به أدباؤه وشعراؤه. وكانت بضاعته قليلة على سمو نوعها، ورأس ماله، صغيراً، ولا دين له أو عليه يوفي به دائنته.

فليس تعليل الدكتور بحاو شيئاً من حسن التعليل. وكنت قد عللت مدائحه للمسيح بقراءته للتوراة والإنجيل قراءة دارس لها شأن كل أديب شاعر بلغ من الأدب شأواً رفيعاً ولا سيما أن الأدباء الغربيين متفقون على القول أن سفر النبي أشعياء في التوراة قطعة راقية من النثر الشعري بالعبرية، فرأى شوقي من الغضاضة عليه كشاعر فحل ألا يلم بذلك السفر ويعرف ما يحويه كأدباء الغرب وكما يناسب مقامه كشاعر شوقي من الطراز المعلم

والظاهر أنه قرأ سفر أشعياء، وما ورد في قصيدته الأندلسية الميمية مقتبس منه. فقد جاء فيها قوله:

عيسى سبيلك رحمة ومحبة

في العالمين وعصمة وسلام

ما كنت سفاك الدماء ولا امرأ

هان الضِّعاف عليه والأيتام

يا حامل الآلام عن هذه الورى

كثرت عليه باسمك الآلام

فهذا البيت الأخير مقتبس من قول أشعياء في نبوته عن المسيح: (لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها. . . وعبدي البار يبر كثيرين وآثامهم هو يحملها. . . ولقد حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين)

ص: 21

ولست أذكر: أقال شوقي (يا حامل الآلام) أم (يا حامل الآثام) وكلا القولين واحد لأنه كُنى بالآلام على الصليب في اعتقاد المسيحيين عن آثامهم الموروثة عن آدم الأول. ويقول علماء المسيحية إن أشعياء تكلم عن المسيح بروح النبوة قبل مجيء المسيح بما يقرب من ألف سنة

بهذا الاتفاق في قول أشعياء وشوقي يبعد أن يكون توارد خواطر بينهما

وإذا تغنى لبناني بشعر شوقي فللسبب الذي يتغنى بشعر المتنبي اللبناني وشوقي، لا لجامعة جنسية أو دينية بين الثلاثة، بل بجامعة الأدب التي لا تميز بين الأديان والأوطان والتي من أجلها قدم امرؤ القيس النصراني على غيره من شعراء الجاهلية، وسوى بين الفرزدق وجرير المسلمين والأخطل النصراني في الدولة الأموية. وفتح لبنان أبوابه مرحباً بشوقي، وفتح أدباء مصر صدورهم لشبلي الملاط وللأخطل الصغير

نجيب شاهين

ص: 22

‌وحي العام الجديد

المصباح الأحمر

للأستاذ محمود الشرقاوي

هاأنذا أعود إليك. أيها المصباح الأحمر!

أعود إليك يا مصباحي الأحمر ولكني إنسان جديد.

ها أنت ذا كما كنت. يسطع نورك على قرطاسي ويغمر وجهي وأشعر بدفئك الرقيق يلمس جبيني في برد هذا الليل.

هذا هو الليل الساكن والدهر يحبو إلى عام جديد. وهذا نورك في غرفتي وبهجة لونك، هذا كل شيء كما كان، ولكني أنا إنسان جديد.

إني أكاد أشعر منك بالحياة يا مصباحي الأحمر ويخيل لي أنك تهمس وأنك تناجي وتذكر، لا بل إنك تنبض وتخفق أو تكاد تنطق.

إني أحس ما تريد أن تهمس وأن تقول، وإني أناجيك به وحدك وقد سكن الليل كأنما الليل وظلامه قد سكنا إلى النوم كما نام السعداء من الناس؛ لم يبق سواك وسواي يقظان.

لا تسلني أيها المصباح الأحمر فسأحدثك، وحديثي لك وحدك. لم يبق من يستمع حديثي ويصغي. لقد كنت منذ سنين شاهدي وسميري حين أكتب إلى من أعزهم، وكنت تبهج مكاني ويغمر جبيني دفئك في برد هذا الليل، كما يغمر قلبي ويشمل كياني الفرح الشامل السعيد حين أكتب لمن أحب. وحين يغمر قلبي ويغمر كياني ذلك الفرح الهادئ البهيج والنشوة التي تكاد تحملني فأخف معها وأنا أتلو رسائل من أحب، أسترجعها وأتلوها وأقف عند كل حرف فيها أستوحيه وأشعر منه بالسعادة وباللذة لا تساوي عندي الدنيا كلها رسالةً منها.

كنت شاهدي وسميري أكاد أحس فرحتك معي وبهجة نورك من بهجتي ومن نور قلبي، والآن أنت وحدك الذي أخاطب وأنت الشاهد والغائب، فقد ذهب العزيزان ولم يبق لي سواكَ من يصغي.

لا تسلني أيها المصباح الأحمر عن رسائل الثلاثاء من كل أسبوع، ولا عن رسائل الأحد من كل أسبوعين، ولا عن رسائل الغائب البعيد من وراء البحار

ص: 23

إنك تعرف وتذكر من أمسياتي ومن ليالي هذه الساعات الطويلة يتبع بعضها بعضاً وأنت تفيض بالدفء على جبيني وبالنور على وجهي وقرطاسي وأنا مستغرق كما يستغرق الصوفي غيبوبة السعادة والمناجاة والتوجه، وهذه السطور والكلمات تلتوي وتنحدر ولا أشعر كيف تكتب ولا كيف يجري بها قلمي، ولكني أعرف كيف يمتلئ بها كياني وكيف يفيض بها قلبي وكيف يتحرق بها دمي. والليل ساج وليس من ساهر سواك وسواي، وأنا بالغيبوبة سعيد وبالليل سعيد

لقد ذهب العزيزان أيها المصباح فماذا أبقيا لقلبي؟

فرحت بهما حيناً من الدهر وأحببتهما الدهر كله وأقمت منهما وبهما القصور الشوامخ من الرجاء ومن بهيج الأمل، وكنت شاهدي وسميري حين أكتب إليهما في سكون الليل فأشد من عزم أحدهما وأهون له الأمور الصعاب أمنية بالرجاء والأمل، وأضع حياتي وقوتي وكدح نهاري وسهد ليلي له وحده، إنه أخي

وكنت شاهدي وسميري حين أكتب إلى أحدهما أقويه وأحييه وأبثه، وأرقب معه الحياة والصفو، وأجعل ما بقي من قوتي، وأجعل شبابي ومنامي ومقبل أيامي وهنيء عيشي بعد الكفاح المبذول والجهد الموصول، أجعل هذا كله منه وله؛ إنه حبيبي

كان سندي وكان محرابي وكان الواحة الهنيئة الحلوة المظلة في جدب أيامي، فانهار منه سندي وانهدم المحراب على العابد، وما خلته الواحة الهنيئة الحلوة كان السراب، وكان بردُ مائها العلقم. . .

قال لي وقلت: أصبر. فصبرت، حتى أفناني الصبر. وما صبر هو

أنت تعرف أيها المصباح الأحمر، إنهما كانا أخي وحبيبي.

أما أحدهما فقد خبطه الموت عشواء، وأما الآخر فقد خبطته الحياة، وللحياة خبط أشد مما يخبط الموت

لم أعد أكتب على ضوئك ودفئك أيها المصباح الأحمر رسائل الثلاثاء، ولا رسائل الأحد، ولا أكتب للغائب البعيد.

الذين أحببتهم ورجوتهم، والذين أناجيهم وأريدهم، وأناديهم وأفتقدهم، والذين قضيت عمري كله أرتقب قربهم ذهبوا لا يعودون، أحدهما بين التراب، والأخر أبعد من رفيع السحاب

ص: 24

والذين لا أريدهم ولا أرجوهم ولا أفتقد بعدهم يعودون فأذكر بهم من لا يعودون فهم لقلبي حرقة

والذين أجدهم وقد أرجوهم. . . أيها المصباح الأحمر. . . إنك في زعمي تحس وتعرف فلن أبوح إليك

ماذا أقول يا مصباحي الأحمر؟ هذا لونك البهيج فيه الحياة والدم والفتوة؛ وهذا هو الزمن يحبو إلى عام جديد، وهذا دفئك يلمس جبيني ويغمر وجهي وقرطاسي. . . أكاد أسمع وقع إشعاعك وأسمع لمس دفئك في سكون الليل وأنا أكتب

أكتب عن عزيزي لا لهما، ويا بعد ما أكتب وما كنت أكتب! وما كل طلٍ طل، أكتب على ضوئك أبكيهم لا أناديهم وهيهات. . .! ما مضى لن يعود

هذا عام جديد كنت سوالفه أكتب لهما بالأمل والنجوى عن مقبل الأيام

والآن كلما حل عام جديد كتب وقد أغلقت قلبي وأغمضت عن مقبل أيامي، أنطوي على سالف الذي كان

هذا ضوءك أيها المصباح وهذه غرفتي، غرفة باردة، طقسها بارد، ولكنها حارة الذكريات

كل شيء كما كان، لم يتغير سواي. هل تقول أيها المصباح إني ما تغيرت، بل تلاشيت وانتهيت؟ لعني أيها المصباح الأحمر!

لقد ذهب العزيزان فماذا أبقيا لقلبي؟ إنها الحسرات

وقد أحسست من قلبي أيها المصباح كيف كان قلبي يعرف السعادة، ويشعر بالحب، ويبتهج بالرجاء، ويرتقب الأمل، ويصبر على الأيام. أحسست من قلبي حبه الصارم العارم الفاتك قوياً كالإعصار، راسخاً كالجبل، ثابتاً كسواد هذا الليل، بهيجاً كصحبه أحسست من قلبي أيها المصباح الأحمر حبه عزيزية كيف كان، فاعرف الآن أيها المصباح كيف يحس هذا القلب ما أبقيا من الحسرات!

محمود الشرقاوي

ص: 25

‌لا تثوروا على المدينة الحاضرة

للأستاذ محمد أيوب مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب

إذا عجبت فإنما أعجب لكل من يفكر في التمرد أو الثورة على المدينة الحاضرة. وإني أنظر حولي فأجد أناساً كثيرون يحملون حملة شديدة على هذه المدينة ويودون إلغاءها بجرة قلم حتى تعود الإنسانية إلى الحياة البدائية الأولى، حياة البساطة والسذاجة لأنها في نظرهم خالية من التعقيد، قريبة من الطبيعة، وكل شيء قريب من الطبيعة جميل. وإني أسائل نفسي لماذا يريد هؤلاء الناس العودة بنا إلى الوراء حتى نعيش تلك الحياة التي يسمونها حياة بسيطة وما هي إلا حياة بدائية تقرب الإنسان من الحيوان، فقد كان الإنسان في القرون الخوالي كالحيوان يهيم على وجهه في القفار لا يعرف إذا كان يعيش أو لا يعيش.

فالمدينة الحاضرة أسمى ما وصل إليه العقل البشري، وهي عبارة عن تطور العقل البشري في مختلف القرون الماضية، بل هي التراث المجيد الذي تركه لنا العقل منذ حياة الإنسان الأولى، فكل المدنيات متصلة بل ومتمم بعضها للبعض الآخر، بحيث لا نستطيع أن نقيم حاجزاً بين مدنية ومدنية. فنقول إن هنا حدود المدنية المصرية، وأن تلك حدود المدنية اليونانية، بل ونحن لا نستطيع أن نوجد حلقة فاصلة بين المدنية الحاضرة وبين مدنية أخرى أجنبية عنها، إذ لا بد من التطور. وليس هناك من شك في أن هذه المدنية ستتطور في الأجيال القادمة كما سبق لها أن تطورت في الأجيال الماضية، فالمدنية الحاضرة وهي التي ابتدأت بإحياء العلوم ونهضة الآداب، متممة للحضارات القديمة، حضارات اليونان والرومان. وليس منا من يستطيع أن ينكر فضل تلك العقول الجبارة، عقول اليونان والرومان فيما أنتجته لنا في ميادين الفلسفة والعلم والآداب والقانون

ويخطئ من يظن أن المدنية الحاضرة عبارة عن الناحية المادية فحسب، وهي التي نتج عنها ما نراه اليوم من تحسين في أمورنا العامة وفي أمورنا الخاصة. كلا! هي لا تقتصر على هذه المخترعات العظيمة كالسكك الحديدية، والطيارات والسيارات التي قربت المسافات بين الأمم، وكالتلفون والتلغراف والراديو، وهي التي جعلت أنحاء العالم كلها تشعر بأنها عالم واحد، تربط بين أجزائها رابطة قوية؛ أقول ليست تقتصر هذه المدينة على هذه النواحي التي جعلت الإنسان يتحكم إلى حد كبير، في نظام هذا العالم الذي نعيش

ص: 26

فيه، إنما المدينة الحاضرة تشمل أيضاً الناحية المعنوية التي شأنها أن حررت الفكر وأبطلت الرق وضمنت حقوق الإنسان. تشمل ناحية العلوم التي كشفت عن أسرار الطبيعة، وناحية الآداب التي سمت بالعالم إلى جو من الخيال جعله يبهج مشاعر النفس، وناحية الفنون التي أخذت بالذوق إلى أسمى درجة من درجات الرقي

على أن المدنية الحاضرة، وهي التي ظهرت في أوربا، تختلف عن غيرها من المدنيات القديمة التي ظهرت في الشرق عامة وفي حوض البحر الأبيض المتوسط خاصة؛ فالمدنية في الشرق خاضعة للدين متأثرة بالطبيعة، بينما هي في الغرب خاضعة للعقل مؤثرة في الطبيعة. ففي الشرق الجو حار والشمس ساطعة تغذي الجسم بأشعتها، والأرض خصبة تنتج المحصول الكثير والخير الوفير، مما جعلنا نحن الشرقيين نميل إلى التراخي والكسل لكثرة ما نرى أمامنا من المحاصيل التي تكفي لغذائنا دون مشقة كبيرة. وكان من أثر هذا الفتور والتراخي أن ركن الإنسان إلى الطبيعة وأخذ ينظر إليها ويتأمل فيها، فرآها تجود عليه بالمياه لري أراضيه، وبالشمس لإنضاج محصوله، فأكبرها ومجدها وأخذ يعبدها ويعبد مظاهرها كالشمس والقمر وخلافهما. من هذا كان خيال الشرقيين خصباً، فتخيلوا أدياناً مختلفة، وتصوروا مظاهر مختلفة للعبادات وهذا آت من الفراغ وقلة النشاط الذي يسد هذا الفراغ. فالشرقي بوجه عام، عابد للطبيعة متأمل فيها خاضع للدين ناظر فيه، فأثر الخيال عليه عظيم، وأثر الدين عليه عظيم، وكذلك أثر الطبيعة عليه عظيم. أما في أوربا فإن الجو بارد لا تظهر الشمس إلا في أحوال نادرة؛ لذلك احتاج الفرد إلى الكد والجهد لاستغلال الأرض حتى تنتج أكثر ما يمكنها إنتاجاً، ولاستغلال مظاهر الطبيعة ما يفيد منها أكبر إفادة، فهو مضطر لأن يأكل كثيراً ليتقي بذلك برودة الجو، وهو مضطر لأن يتدثر بالملابس الثقيلة لكي تبعد عنه أثر البرد القارس؛ من أجل هذا كان عقله كثير الاختراع وافر الإنتاج، وقد وجه هذا العقل نشاطه لتسخير قوى الطبيعة، ونجح في هذا الميدان إلى حد بعيد إذ أصبح هو المسيطر على هذه الطبيعة بدل أن تكون هي المسيطرة عليه

فكيف يجوز لنا أن نثور على المدنية الحاضرة وهي التي حكمت العقل في أمور كثيرة، أخذت ما يأخذ به ورفضت ما يرفظه، وقد غلبت الناحية العقلية على هذه المدنية، حتى كان لهذا أثر عظيم في تاريخ التطور البشري، فأول نتائج تحكيم العقل في كل شيء أن قل

ص: 27

تعصب الناس للدين، فأصحاب المدنية الحاضرة لا يشنون الحرب على غيرهم بسبب اختلاف في الدين كما كان يحدث في القرون الوسطى مثلاً. ضعف إذن التعصب الديني إلى حد كبير، وليس معنى ذلك أن هذا التعصب القديم لم يصبح له أثر، كلا! بل أقول إن الدين لم يعد له تأثير كبير في سياسة الدولة وتوجيه الحكومات حتى تشن الحروب على غيرها بسببه، فهذا التعصب أصبح ضعيفاً جداً وهو إن وجد فإنما يوجد بين الطبقات الجاهلة من الشعب وهي التي لا تحكم العقل في قليل ولا كثير وإنما تخضع للعاطفة والوجدان والخيال أكثر من أن تخضع للعقل

ونحن لا نستطيع أن نبين مزايا المدنية الحاضرة إلا إذا وازنا بين الشعوب المتمدينة والشعوب غير المتمدينة، أما الأولى فيحكمها القانون وتسيطر عليها هيئة منظمة تحقق فيها التوازن بين مختلف الفرق والطوائف والطبقات، ويسود مجتمعها الهدوء والسكينة، فإذا طغت سلطة على سلطة فإنما الهيئة العليا هي التي تحد من هذا الطغيان. وهي فضلاً عن هذا النظام الذي نتمتع به لها جميع وسائل الراحة التي أنتجها العقل البشري. والثانية في فوضى لا ضابط لها، لا تخضع إلا للغريزة، وفيها يحاول الإنسان أن يأكل أخاه الإنسان، وفيها يعيش الإنسان وكأنه لا يعيش، لا يعرف من أحوال هذا العالم شيئاً. ينتقل من مكان إلى مكان كالحيوان حينما ينتقل من شجرة إلى شجرة، لا يدري ما أحدث العلم من تقدم ولا يعرف ما قدمه العقل من وسائل الرفاهية والسعادة. فالفرق عظيم بين الشعوب الأولى والشعوب الأخرى، كالفرق بين الإنسان المثقف والغير مثقف، الأول يحاول أن ينفذ ببصره إلى أعماق الأشياء فيعمل على تفهم أسرار الطبيعة، أما الآخر فإن العالم مغلق في وجهه، أسراره محجوبة عليه لا يستطيع لها كشفاً

فالمدنية الحاضرة تعمل أن يسود النظام المجتمع، وعلى أن يطيع الإنسان القانون، وعلى أن تكون العلاقة بين الأفراد علاقة منظمة أساسها الاحترام والود، ورائدها المنفعة العامة للدولة وللناس جميعاً. وتعمل أيضاً على تنظيم العلاقات بين الدول بحيث تكون خاضعة لعادات وتقاليد وقوانين، وبحيث تشرف على هذا هيئة عليا كجمعية أو عصبة عامة أو محكمة عليا. وليس منا من يفضل الفوضى على النظام أو التمرد على الطاعة

وكيف يجوز لنا إذن أن نثور على المدنية الحاضرة وهي التي أشعرت الفرد بكرامته وقوة

ص: 28

شخصيته وجعلته يعرف حقوقه وواجباته، بل وذهبت إلى أبعد من هذا فحققت المساواة بين أفراد البشر جميعاً. وقديماً كانت المدنيات القديمة تعمل على تحقيق المساواة بين أفرادها الخاضعين لها: أي أن المدنية اليونانية مثلاً تنظر بعين المساواة إلى اليونان فقط، أما غيرهم من الشعوب الأجنبية فهي تلفظها وتحتقرها وتبعدها عن ميدانها. تحققت إذن المساواة بين أفراد الدولة في الداخل، فالكل سواء أمام القانون، لا عبد هناك ولا سيد، ولا فرق بين الصغير والكبير أو الغني والفقير أو المواطن ورئيس الدولة، فالكل متساوون أمام القانون. وهي لم تقتصر على تحقيق المساواة فقط، بل عملت على تحقيق الحرية لبني الإنسان، فألغت الرق وحررت العبيد، وقد كان الرق شيئاً عادياً طبيعياً تقول وتأخذ به المدنيات القديمة. ونحن نعجب كيف أن عقولاً جبارة كعقول سقراط وأفلاطون وأرسطو كانت توافق على استخدام فرد لفرد آخر، وإخضاع هذا الفرد لاستغلال فرد آخر يكبره من حيث الثروة أو الجنس أو المولد

بل وتعدت المدنية الحاضرة حدود الفرد وذهبت إلى ميدان الشعوب فعملت على رفع الظلم عن كاهله. حررت الشعب وضمنت له حقوقه وحددت له واجباته بهذه النظم الديمقراطية التي تعتبر أرقى ما وصل إليه العقل البشري من تصور لتنظيم الجماعة وحكمها فقضت على النظم الطاغية، نظم الظلم والاستعباد؛ فقد كان الفرد فيما مضى يخشى السلطان، وكان السلطان إذا تكلم كان هذا الكلام قانوناً مقدساً وإرادة لا نقض لها. كانت سلطة السلطان مطلقة مستبدة، ورغبته هي النافذة، وإرادته هي القانون والقانون هو إرادته. فجاءت المدنية الحاضرة وقضت على هذا كله، وأصبحت الهيئة الحاكمة تعترف بأنها تحكم لا لتستبد بل لتخدم الشعب ولتقوم على مصالحه. وقد سرت هذه المبادئ الحديثة بين الأمم سريان الكهرباء وانتشرت انتشار الهواء، لما عرف القوم من مزايا هذه الديمقراطية التي ترتكز على المبادئ الشعبية الخالدة، وهي التي تقدس الحقوق والحريات العامة. فالديمقراطية أثر من آثار هذه المدنية، وهي التي جعلت الإنسان يشعر بشخصيته ويحافظ على حقوقه، ويقوم بواجباته بدافع من نفسه. ولهذه الديمقراطية مزايا ومنافع، فهي التي تعمل على تساوي الحظوظ بين أفراد المجتمع فلا تقصر الفوائد كنشر الثقافة والتعليم على طبقة دون طبقة. إنما الجميع في نظرها سواء، لكل فرد الحق في أن يتعلم، ولكل فرد

ص: 29

الحق في أن يشترك في إدارة شؤون الدولة

وللمدنية الحاضرة فضل آخر هو الخاص بتحرير المرأة من عقالها، إذ جعلتها تشعر بأنها عضو نافع من أعضاء المجتمع، فقد سوت بين المرأة والرجل، وقضت على هوة الخلاف بين النوعين وأصبح للمرأة ما للرجل من حقوق وعليها ما عليه من واجبات، وأشعرت المرأة أنها تستطيع أن تعطي رأيها في المسائل، وأن تشارك الرجل في إدارة شؤون بيته وأعماله، بل وتعاونه معاونة تامة سواء أكان ذلك في الحياة الخاصة أو الحياة العامة. وهي التي أعطتها هذا الغذاء العقلي غذاء العلم والثقافة، فأصبحت تتعلم في المدارس على قدم المساواة مع النوع الآخر، وبذلك أصبحت تحس بأنها تعيش حقاً، تهنأ لسعادة المجموع وتبأس لشقائه

وقد يقول بعض المكارين إن هذا صحيح، ولكن أنظر إلى هذا الاستعمار الأوربي وليد الحضارة الحالية، ألم يعتد هذا الاستعمار على مصير الشعوب وحريات الأمم؟ وقد يكون هذا صحيحاً إذا كان الاستعمار ظهر في عهد هذه المدنية ولم يظهر في عهد غيرها من المدنيات الأخرى؛ فالاستعمار عرفه قدماء المصريين واليونان والرومان وكذلك العرب، فهو يرجع إلى طبيعة الإنسان لا إلى طبيعة المدنية، والإنسان بطبعه تواق إلى التحكم والسيطرة، فإذا وجد أمامه إنساناً ضعيفاً فرض عليه سلطانه وسيادته، وكذلك الدولة الضعيفة، وهذا من طبيعة الناموس البشري، فلا بد للضعيف من أن يخضع للقوي، ولا بد للقوي من أن يسود الضعيف؛ فللقوي البقاء، وللضعيف الفناء

وقد يقول هذا النفر أيضاً: أنظر إلى هذه الحرب التي تفتك بالناس فتكاً ذريعاً، والتي تأتي على اليابس فتأكله، وعلى العامر فتخربه؛ وانظر إلى هذه المخترعات الفتاكة، وهذه القنابل التي لا تفرق بين المحارب وغير المحارب؛ وانظر إلى هذه الوحشية التي تتطاير من أبراج الطائرات، أفبعد هذا تقول إنه خير لنا أن نؤيد المدنية الحاضرة وهي التي أنتجت كل هذه الأشياء الفتاكة؟ أما عن الحرب فإنها قد وجدت في كل زمان وفي كل مكان. والحرب لا تتصف بالوداعة ولا الهدوء، وإنما تصحبها الوحشية؛ فالمحارب يبغي من الحرب القضاء على قوة خصمه بأي وسيلة، سواء أكانت هذه الوسيلة مشروعة أم غير مشروعة. ففي كل حرب وقعت كانت الجيوش لا ترتدع عن إتيان كل أعمال الوحشية

ص: 30

والهمجية من قتل وتدمير وتخريب، بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن هذه المدنية نفسها اخترعت وسائل أخرى تتقي بها شر الوسائل الفتاكة، وهذبت من طباع البشر فجعلت الدول تراعي في الحرب بعض القواعد الإنسانية والمبادئ السمحة الكريمة التي لم تكن تتبع في عهد المدنيات السابقة. وبعد هذا نستطيع أن نقول إن الحرب لازمة لرقي المجتمع الإنساني، فهي موافقة للطبيعة البشرية ولهذا القانون الخالد: البقاء للأصلح؛ فالسمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة، والفرد القوي يستغل الفرد الضعيف. وكذلك الحال بين الأمم، فالصراع بين الأمم القوية والأمم الضعيفة قديم قدم الإنسان. الصراع قديم بين القوة والضعف، فالقوي يسود الضعيف، وخليق بالأمم القوية أن تتزعم الأمم الضعيفة، وللأمم الضعيفة بعد ذلك أن تعمل، إذا أرادت أن تعيش، على تنظيم أمرها وتحسين حالها. فالحرب تحفز الأمم الضعيفة التي تخاف على نفسها فتدفعها إلى أن تتقوى وتشتد فتستيقظ من نومها وإلا طال عليها الرقاد، وخيم عليها حكم الاستعباد. فالنزاع إذن سيظل ما دام في الإنسان الضعيف والقوي. سيظل دائماً بين عامل الخير وعامل الشر. وما الحرب إلا عامل من عوامل الشر ولكنها عامل مطهر كالنار، فهي تقضي على العناصر الفاسدة. وما الحرب إلا محنة من المحن لا بد منها في أطوار التاريخ، لأن الشعوب تخرج منها نقية طاهرة كأقوى ما تكون. والشعوب التي لا تحارب، تخلد إلى الراحة وتقبل على الترف وترتوي من المتعة واللذة، فيدركها الضعف والوهن، وهي بعد ذلك تفقد أسس النضال وعوامل الكفاح، ويكون مصيرها آخر الأمر إلى الفناء. فالحرب وإن كانت عاملاً من عوامل التدمير، تعمل على إذاعة الأخلاق المتينة بين الأفراد وإشاعة الصفات القوية بين الأمم، فهي تمجد البطولة والشجاعة والصبر والاعتماد على النفس، فهي مفيدة إذن للإنسان والإنسانية.

ونحن نرى من تطور التاريخ في مختلف عصوره أن الحرب يعقبها طور رقي وتقدم، فالإنسانية سائرة أبداً في طريقها نحو التقدم. من أجل هذا يجدر بنا أن ننظر إلى المستقبل نظرة آمنة مطمئنة معتقدين أن النصر سيكون دائماً في جانب الخير.

يجب علينا أن ننظر إلى المستقبل لا إلى الماضي، وأن نطمئن إلى أن هذه المدنية ستتطور لا شك إلى مدنية أرقى. أما النظر إلى الماضي والتمسك به فهذا شأن الطاعنين في السن

ص: 31

الذين في عروقهم فقتل حيويتهم ويفتر نشاطهم، وهم لهذا السبب لا يستطيعون إلا البكاء على الماضي.

لذلك أومنبالمدنية الحاضرة إيماناً شديداً، لاعتقادي في الإنسان وفي قدرته على التطور. ونحن بدلاً من أن نحاول الرجوع إلى الماضي ونتعلل به، يجب أن ننظر إلى المستقبل وكلنا تفاؤل واطمئنان إلى قدرة الإنسانية على السير بالمدنية في طريق التطور حتى تصل إلى أسمى ما يعرف العقل البشري من تقدم ورقي. فيجب ألا نثور على المدنية الحاضرة، وألا نقيم العراقيل والصعاب في طريقها، بل نؤيدها بكل ما نملك فلا ندخر وسعاً إلا بذلناه حتى تسير هذه المدنية في طريقها الطبيعي، وهو طريق التطور والرقي.

محمد أيوب

ص: 32

‌ذكرى المغفور له

أمين الرافعي بك

للأستاذ علي عبد الله

كان اليوم التاسع والعشرون من ديسمبر الماضي موعد الذكرى الخامسة عشرة لوفاة فقيد الوطن المغفور له أمين الرافعي بك

وليس أحق بالتكريم ولا أولى بالوفاء من ذكرى هذا الرجل الذي عاش حياته كلها يدافع عن الحق ويدعو إلى الله على بصيرة، ويبذل من ماله ومن دمه في سبيل أمته ما ليس وراءه غاية لمريد، ولا زيادة لمستزيد. ولو عرفنا أقدار الرجال بالمعنى الذي تعرفه الأمم الأخرى، لجعلنا ذكرى وفاة هذا المجاهد الصادق يوماً من أيام القومية المصرية، ولاتخذنا حياته الحافلة بالعظائم والجلائل نموذجاً لكمال الأخلاق، وشرف التضحية، والنزاهة المطلقة، وجعلنا من سيرته العاطرة كتاباً في الوطنية يدرسه الناشئون، ويسير على قواعده العاملون!

ولكنا من سوء الحظ نؤمن بالمظاهر دون الحقائق، ولا نعرف قيم الرجال إلا بمقدار ما لهم من الحول والطول، وما حولهم من المتاع والحطام! ولست أدري كيف ترجو الخير أمة تنسى حقوق أبنائها الذين استشهدوا في ميدان التضحية، وكتبوا صحائف جهادها الوطني بمداد من دمائهم، وقطرات من ذوب نفوسهم! ومن المؤلم حقاً أن يوجد في الأمة المصرية من يجهل فضل أمين الرافعي عليها، وهو رجل يعتبر تاريخه تاريخاً للحركة الوطنية في جميع أدوارها؛ إذ كان له في كل ميدان جولة، وفي كل معترك صولة؛ وكان قلمه سيفاً في يد الحق، إذا تصدى للباطل زهق، وإذا انبرى للطغيان مرق؛ كأنما كانت تؤيده السماء بالتوفيق، وتمده القدرة بالإلهام، ويوجهه الإيمان إلى السداد. ما عالج موضوعاً إلا أصاب الهدف، ونفذ إلى الصميم، وانتهى منه إلى الغاية المرجوة، لا سلاح له غير الحجة البالغة، والدليل الواضح، وقواعد البحث الدقيق، وقضايا المنطق السليم!

ولقد كان أمين عليه رحمة الله الكاتب الوحيد الذي حفظ الله قلمه من العثار، وعصم لسانه من الفحش؛ فما جارت الخصومة في يوم من الأيام على أخلاقه ولا ورطته العداوة في الكتابة إلى كلمة نابية أو عبارة مؤذية لا يرضى عنها الخلق، ولا يطمئن إليها الضمير.

ص: 33

على أنه لم يكن يخاصم إلا في الله والوطن والحق. ولم تعرف له في حياته خصومة شخصية، لأنه كان ينظر إلى زخارف هذه الدنيا بعين الزهد والاحتقار. ولقد حاول الكثيرون أن يشتروا قلمه أو يخففوا من حدته بالكثير من المال والجاه فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وعرضت عليه وظائف الدولة الكبرى، فكان جوابه:(لا تفسدوا عليّ إيماني؛ فأنا لم أخلق لهذه الوظائف!) وكان نعم العون للمرحوم سعد باشا زغلول؛ وكان سعد يؤثره برسائله وهو مع الوفد في باريس ويبدأ كتبه إليه بقوله: أخي أمين!. . .

وحينما اختلف معه في مبدأ المفاوضات، كان سعد مع ذلك يثق به ويلقبه بالخصم الشريف، والرجل النزيه. وكان يستعير منه الوثائق الخاصة بتسجيل أعمال الوزارات. ولما نفي إلى سيشل كان أمين أول المدافعين عنه مع اختلافه معه في الرأي، كما كان أول من نقد طريقة وضع الدستور. وفي ذلك يقول سعد باشا: إن أميناً كأنما يستمليني ما يكتبه. . . ومن مفاخر أمين التي تدل على التضحية والشجاعة أنه في سنة 1914 حينما أعلنت إنجلترا الحماية على مصر وقضت الأحكام العرفية على الصحف بنشر البلاغات الرسمية ومنها بلاغ الحماية، لم يشأ أمين أن ينشر في جريدة الشعب - الذي كان يتولى تحريرها في ذلك الحين - بلاغ الحماية، وقرر تعطيلها من تلقاء نفسه لكيلا ينشر فيها هذا البلاغ، ورضى بما ترتب على ذلك من السجن والاعتقال؛ وقضى مدة السجن صابراً راضياً وخرج منه مؤمناً قوي النفس والقلب. ونستطيع أن ندرك مبلغ التضحية إذا عرفنا أن جريدة الشعب كانت كل شيء في البلد لأنها كانت جريدة الحركة الوطنية، وكان الشعب يتلقف أعدادها بشوق وشغف. ثم تستطيع أن تؤمن بالرجولة الكاملة حين تعرف أن أمين الرافعي كان الرجل الوحيد الذي احتج على بلاغ الحماية البريطانية بعدم نشره!!

ومن أعظم الأمثلة الدالة على عبقريته وسعة علمه بالشؤون الدستورية - أنه الصحفي الوحيد الذي نبه الأمة والزعماء والأحزاب إلى أن قرار حل مجلس النواب يعتبر باطلاً لأنه لم يحدد فيه موعد الانتخاب والتاريخ الذي يجتمع فيه المجلس. وما دام البرلمان لم يدع فإن من حقه أن يستأنف وجوده؛ لأن قرار الحل يعتبر ملغي. وأخذ الزعماء بهذا الرأي واجتمع البرلمان في فندق الكونتنيتال في يوم السبت الثالث من نوفمبر سنة 1925 واتحدت الأمة والأحزاب، وعادت الحياة النيابية إلى البلاد، وانتفع الجميع بفضل هذا

ص: 34

الرأي ما عدا أمين الرافعي فقد كان الشخص الوحيد الذي لم ينتفع بشيء من هذا، واكتفى من كل ذلك بقوله:(لقد سررت بإنقاذ الدستور وفوز الأمة وارتاح ضميري ارتياح من يشعر بأن الله قد وفقه إلى دعوة صالحة كتب لها التحقيق والنجاح!)

وفي وسعنا أن نعرف مبلغ إيمان أمين وثباته من قوله: (يرى المؤمن الثابت العقيدة أن عقيدته مقدسة لا تحتمل تفريطاً ولا زعزعة، وأن لها من ضميره حارساً قوياً، فإذا وسوس له الشيطان أن يهمل هذه العقيدة على أية صورة من الصور، كان صوت الضمير وحده كافياً لأن يقطع على الشيطان وسوسته ويرده مدحوراً. وإذا ما تقدم خصوم العقيدة الثابتة بأموالهم الوفيرة، وهباتهم العظيمة، ووعودهم الخلابة؛ كي يلعبوا بالعقول ويزعزعوا الإيمان، وجدوا من يقظة ضمير المؤمن أكبر مخيب لآمالهم؛ لأن هذا الضمير الخالص الذي لا يخضع للماديات ولا يتأثر بأثرها المفسد لا يلبث أن يصيح بصاحبه: إياك والانخداع بما يعرضون عليك مهما عظم شأنه، فإن كنوز الأرض لا تعدل شرف الإنسان. ومتى استطاع المرء أن يحتفظ بشرفه فكل ما يفقده بعد ذلك لا يقام له وزن. لأن الحياة الشريفة يمكن احتمالها مهما بلغت مرارتها، أما الحياة المجردة من الشرف فإنها لا تساوي قلامة ظفر. وليست أيام الجهود والتعب والألم أسوأ أيام الإنسان. ويكفي صاحب المبدأ تشجيعاً أن ينال شيئاً من المكافأة المعنوية بأن يرى مبدأه يصيب بعض الفوز. . .

ومن المقرر أن المرء لا يجوز أن يشغل نفسه بمستقبل نفسه متى كان ضميره مرتاحاً وروحه مطمئنة وشعاره القيام بالواجب، وفعل ما يأمر به الضمير. وما عدا ذلك فليدعه لله تعالى لأنه من خصائصه وشئونه. وإذا كان في تأدية الواجب ما يورث الألم، فيجب أن يتحمل الإنسان الألم بغير مضض. لأن الآلام موجودة في هذا العالم ولكل مخلوق نصيبه منها)

وكان أمين عليه رضوان الله يستفتح يومه بتلاوة القرآن ويدعو بدعاء الرسول عليه السلام: (اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حرباً لأعدائك. نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة. وهذا الجهد، وعليك التكلان) ثم يتلو هذه الآية الكريمة (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)

ص: 35

وبعد، فهذا قليل مما أعرف عن هذا الرجل العظيم أكتبه في مناسبة ذكراه الكريمة، وأبعث إلى روحه في مقاعد الصديقين والأبرار بأعطر التحيات وأطيب السلام

(المنصورة)

علي عبد الله

ص: 36

‌البريد الأدبي

أدباء. . .!

قرأت في مجلة الثقافة العدد (209) كلمة تحت عنوان (الصحافة والأدب في أسبوع)، فرأيت كتاباً من صديقي الشاعر الأستاذ محمود حسن إسماعيل إلى صديقي أيضاً. . . الأستاذ (ق). وفي هذا الكتاب ذكرُ بعض أصحابنا وذكرى، ويصفنا الصديق الأستاذ الشاعر بصفات جميلة محببة كاللجاج، والتهاتر، والكسل، والجبن، والغفلة، والتخلف عن سير الزمان، ويدعونا إلى ملازمة الصمت على رفوفنا الجامدة حتى يتحرك بنا أو ينسانا الزمان!. . . وهو كذلك

لا أدري! فقد سمعت أن الأوائل قالوا: (عقل المرء مخبوءٌ تحت

لسانه)، وأنهم قالوا:

إذا لم يكن للمرء عقْلٌ يَكفُّه

عن الجهل، لم يستحي وانتهَكَ السِّتر

وللصديقين مني تحية المخلص المعجب بأدبهما وبيانهما

محمود محمد شاكر

تجارب على التلباثي

كان لظاهرة التلباثي التي أثارها الكاتب العظيم الأستاذ العقاد في (عبقرية عمر) وعلى صفحات الرسالة نصيب كبير من الدراسة، ومن عناية علماء النفس في أوربا بها؛ ولكنها بالرغم من ذلك ظلت مستغلقة عليهم فلم تتضح تماماً. ومن أكبر الأوساط العلمية الأوربية التي تبحث في هذه الظاهرة جمعية في إنكلترا تسمى: شغلت بهذه الظاهرة منذ زمن طويل، وكتبت الكثير من النتائج التي وصل إليها أعضاؤها في مجلتها الخاصة. ولعل من الطريف أن نذكر أن هذه الجمعية لم تكتف بدراسة هذه الظاهرة دراسة نظرية فحسب، بل أجرت تجارب عديدة لتأييد هذه الظاهرة، وقد توصلت فعلاً إلى نتائج مدهشة وطريفة، وقد ذكر الأستاذ باريت الأستاذ بكلية العلوم الملكية بأيرلندة بعض هذه التجارب في كتابة: ومن أهم هذه التجارب، ما قامت به سيدتان من أعضاء الجمعية إحداهما تدعى المس هـ. رامسدن والأخرى المس ك. ميلز فكانت المس ميلز في وقت كل تجربة تسجل في مذكرة

ص: 37

خاصة ما تريد نقله إلى المس رامسدن من أفكار أو صور، بينما تكتب المس رامسدن التأثيرات التي يستقبلها مخها، وترسل تقريرها إلى ميلز قبل أن تعرف ما كتبته هذه الأخيرة من ناحيتها. قد نجح الكثير من تجاربهما وإن فشل البعض الآخر. ولنذكر الآن بعض هذه التجارب الناجحة التي ذكرها الأستاذ باريت في كتابه:

كانت المس ميلز تنتظر في عصر يوم 27 أكتوبر 1905 اجتماع الجمعية في لندن، فاسترعى انتباهها نظارة غريبة الشكل يضعها على أنفه رجل يجلس بجانبها، فرأت أن هذه الملاحظة قد تصلح موضوعاً لتجاربها مع مس رامسدن. وحين رجعت إلى منزلها كتبت في مذكرتها:(27 أكتوبر - نظارات - ك. م) وكانت المس رامسدن في ذلك الوقت في بكنجها مشير على بعد حوالي عشرين ميلاً من لندن، ولكنها كتبت هذا المساء: 27 أكتوبر - 7 - مساء. - نظارات هذه هي الفكرة الوحيدة التي جاءتني بعد انتظار وقت طويل - هـ. ر) ويقول باريت إن الأمر لا يمكن أن يكون مجرد تخمين لأن المس ميلز لا تضع نظارات

وتجربة ثانية. . . كتبت المس ميلز في كراستها الفكرة التي تريد إرسالها إلى المس رامسدن: (2 نوفمبر. - يد - ل. م) وكتبت المس رامسدن في نفس الوقت: (2 نوفمبر، 7 مساء، ابتدأت أن أرى يداً صغيرة سوداء. . .) وتفسير ذلك، كما يقول باريت، أن المس ميلز كانت في ذلك الوقت ترسم يدي صورة بالفحم، وكانت والدة المس رامسدن حاضرة عند ميلز في ذلك الوقت فذكرت أن ذلك صحيح

وقد أجريت تجارب عديدة، وكان البعد بينهما حوالي 400 ميل، وكانت الخطة المتبعة في تجاربهما أن رامسدن تبعد نفسها عن التفكير في أي شيء كان، وتحصر تفكيرها في ميلز كل يوم في وقت معين، ثم تكتب ما تستقبله من تأثيرات وترسل ذلك إلى ميلز، وتكتب ميلز في نفس الوقت ما كانت تفكر فيه وترسله إلى رامسدن بالبريد. ويذكر باريت أنه أطلع على الرسائل المتبادلة فوجد حالات كثيرة تتفق فيها النتائج اتفاقاً كبيراً جداً أو اتفاقاً كلياً

وفي ذات مرة كانت ميلز مع والدة رامسدن في إحدى الرحلات، وكانت رامسدن في اسكتلندة، وفي أثناء عودتهما من رحلتهما ذهبتا بنوبري في مقاطعة بركشير ونزلتا في

ص: 38

فندق هناك، وكان لصاحب الفندق فتاة صغيرة لطيفة أعجبت ميلز بها كثيراً. وأصبحت ميلز، وإذا بها تستلم من رامسدن خطاباً جاء فيه:(31 أكتوبر 1907، أظن أنك تريدين مني أن أرى فتاة صغيرة لها شعر كستنائي مسترسل وراءها، ومربوط بشريط على الطريقة المعتادة. وهي تجلس على منضدة وقد أدارت ظهرها، ويظهر أنها مشغولة. . . بقطع قصاصات بالمقص. وهي ترتدي (مريلة) بيضاء، وأظن أن عمرها بين الثامنة والثانية عشرة. - هـ. ر)، وقد وصفت صاحبة الفندق الفتاة بقولها:(عندي فتاة صغيرة في الحادية عشرة من عمرها، ذات شعر كستنائي مربوط بشريط وترتدي (مريلة). ولما كانت مريضة فإنها تستلي نفسها بقطع القصاصات. وقد تكلمت طويلاً (عنها؟) مع المس ميلز يوم 31 أكتوبر. - ل. لفجروف.)

هذه بعض التجارب على التلباثي. ويذكر باريت إلى جانبها حالات أخرى وحوادث جاءت عفواً، أي دون أن يقصد بها إلى التجربة، وهو تؤيد ظاهرة التلباثي، وقد استقاها من مصادر ثقة لا يمكن الشك فيها، ويذكر أن معظم هذه الحالات تحدث أثناء النوم.

من هذه الحوادث حادثة وقعت لسيدة تدعى لويزا. أ. هاريسون، فأرسلت يوم حدوثها تقريراً إلى الجمعية المذكورة آنفاً، ومع تقريرها خطاب من زوجها يؤمن على ما تقوله الزوجة التي تذكر أنها بينما كانت مستغرقة في النوم استيقظت فجأة على صوت زوجها وهو يتأوه من الألم، فنظرت حولها ولكنها لم تجده في الحجرة، فنظرت في الساعة فألفتها الثالثة والنصف مساء. وعاد زوجها من الخارج في الساعة السادسة وقد ظهرت بعض الكدمات على جبهته، نتجت عن وقوعه أثناء وجوده في (حمام تركي) واصطدام جبهته بدرجاته الحجرية فقالت له زوجه:(إنني أعرف متى حدث ذلك كان ذلك في الثالثة والنصف لأنني سمعتك تتأوه من الألم في ذلك الوقت) فأجابها: (نعم، ذلك هو الوقت بالضبط، لأنني أذكر أنني نظرت إلى الساعة بعد ذلك مباشرة.) وقد حضر هذه المناقشة بين الزوجين شاهد شهد بذلك!

كذلك أرسلت سيدة تدعى آرثر سيفرن كتاباً إلى الجمعية تقرر فيه أنها استيقظت يوماً من نومها فجأة إثر إحساسها بلطمة عنيفة تنزل على فمها وتجرح شفتها العليا جرحاً بليغاً، ولكنها حين رفعت منديلها إلى فمها لتوقف الدم لم تجد شيئاً، ونظرت إلى الساعة فوجدتها

ص: 39

السابعة صباحاً. وكان زوجها في الخارج، فعاد في التاسعة والنصف وقد وضع منديله على شفته، فأخبرها أنه بينما كان يتنزه في قاربه، هبت ريح عنيفة أزاحت (الدفة) فأصابته في شفته العليا؛ وسألته زوجه متى كان ذلك؟ فأجابها: حوالي الساعة السابعة!

وحادثة أخرى. . . استيقظت آنسة تدعى مس كينج من نومها في أحد أيام الأحد في الساعة الرابعة على صوت يناديها: (تعالي إلي يا تريكس، إنني مريضة جداً). وأرسلت الآنسة كينج إلى الجمعية كتاباً تذكر فيه أنها عرفت صاحبة الصوت وهي إحدى صديقاتها وتدعى المس ريد، وهي الوحيدة التي تناديها باسم (تريكس). فكتبت في نفس اليوم إلى المس ريد - على مبعدة مائتي ميل من صديقتها - تخبرها بما سمعت، فردت عليها المس ريد تخبرها بأنها في ذلك اليوم وفي تلك الساعة أحست بألم شديد، وظنت أنها سوف تموت، فمدت يدها إلى صورتها (صورة المس كينج) وقالت لها:(تعالي إلي يا تريكس إنني مريضة جداً، تعالي إلي)!

هذه التجارب والوقائع وغيرها تثبت ظاهرة التلباثي. ولكن كيف ينتقل التلباثي وينتشر؟ ذلك سؤال لم يجب عليه العلم جواباً شافياً. ويقول الأستاذ باريت: إنه ليس عندنا عنه أي فكرة، ولكنه يرى أنه لا ينتقل خلال أي وسط مادي أو أي عامل فيزيقي معروف، وقد يقربنا وجود اللاسلكي بأن نظن بأن الفكر ينتقل بنفس طريقة الرسائل اللاسلكية، أي بواسطة موجات أثيرية يمكن تسميتها (بالموجات المخية). ولا شك في أن حقيقة اللاسلكي تقرب إلى الأذهان ظاهرة التلباثي، ولكن ذلك لا يكفي.

أحمد أبو زيد

كلية الآداب - جامعة فاروق الأول

ص: 40