المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 497 - بتاريخ: 11 - 01 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٤٩٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 497

- بتاريخ: 11 - 01 - 1943

ص: -1

‌مستدركات

للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب الأديب (خالد عبد المنعم) في عدد ماضٍ من الرسالة كلمة طيبة عن كتابي (عبقرية عمر) ختمها بقوله:

(على أننا في قراءتنا لعبقرية عمر بالصفحة 319 استوقف نظرنا قول المؤلف في صدد النزاع الذي نجم عن الخلاف عقب موت الرسالة ما نصه:

(. . . فالأنصار يقولون إنهم أحق بالخلافة من المهاجرين لأنهم كثرة والمهاجرون قلة، ولأنهم في ديارهم والمهاجرون طارئون عليهم، ولأنهم جميعاً من قريش ولهم فضل التأييد والإيواء)

(والعبارة على هذه الصورة توهم أن الأنصار من قريش وهم بالطبع ليسوا كذلك)

وقد أصاب الأديب في قوله إن العبارة توهم أن الأنصار من قريش، وليسوا منها

ولكن المسألة - كما هو ظاهر - مسألة سهولا أكثر ولا أقل، إذ لا يطلع أحد على ما جرى في سقيفة بني ساعدة ثم يفوته أن الأنصار كانوا ينازعون قريشاً الخلافة، وأن قريشاً قبيلة والأنصار قبائل أخرى، وقد كان المتكلمون في السقيفة يجرون كلامهم على حق قريش في الخلافة وهل هم الأمراء دون غيرهم أو يجوز لغيرهم أن يشاركهم فيها. فتكلم في ذلك أبو بكر وعمر وتكلم فيه كل متكلم من الأنصار، من نقل عن زعيمهم ومن استقل يومئذ بالمقال

فليس بجائز أن يطلع أحد على كلام عمر يومئذ أو كلام أبي بكر أو كلام من خالفوهما ثم يفوته أن الأنصار من غير قريش وأنهم كانوا يقفون منها موقف المنازع الذي يطلب الاستبداد بالأمر دونها أو لا يقنع بما دون مشاركتها في الإمارة

وليس بجائز أن يعرف أحد ما هي مكة وما هي المدينة ومن هم الذين هاجروا ومن هم الذين نصروا ثم يفوته أن يفرق بين قريش وبين الأوس والخزرج ومن عاش معهم من أهل المدينة

فالسهو هنا - بالطبع - كما قال الأديب المستدرك، لأن الأنصار - بالطبع - لم يكونوا قرشيين

والذي يخطر ببالي الآن أنني أردت أن أكتب (من المسلمين) فسبق القلم بكتابة قريش لغلبة

ص: 1

ذكرها والخلاف عليها في الذهن وقيام الخلاف حولها في ذلك اليوم، وهو سهو يقع فيه القلم كما يقع فيه اللسان

فللأديب الشكر على تنبيهه، فإن ما توهم العبارة التي نقلها يحتاج إلى تصحيح وإن بدرت صحتها إلى البداهة بغير عناء

ذلك استدراك على كتاب

وهناك استدراك آخر على كتاب آخر، أو على كلمة في مقدمة ذلك الكتاب، وهو (أعاصير مغرب) ديوان شعري الجديد

والكلمة المستدرك عليها هي قولي في مقدمة الأعاصير: (يصح على هذا أن يكون الشباب عهد ابتداء العاطفة وافتتاحها على صورتها الأولى، أو هو العهد الذي تفاجأ فيه البنية بشعور جديد لم تكن لها خبرة من قبل، فيشاهد عليها ما يشاهد على كل بنية تفاجئها حالة طارئة. فإن المفاجأة إذا عرضت لإنسان بدا لك في حالة كحالة الشاب في أول عشقه: وجه ساهم، وفم مغفور، وطرف ذاهل، ولسان معقود، ونفس مطرود. . . وهذه هي الحالة التي يخيل إلى من يراها أنها العشق دون غيره.

مع أنها أحرى أن تدل على أن العشق مفاجأة لم تعهدها البنية ولم تألفها النفس، فلم تزل بها حاجة إلى التثبت منها والرياضة عليها. ثم تأتي هذه الرياضة شيئاً فشيئاً مع تعاقب الأيام وتعاقب ألوان الشعور. . .)

يقول الأديب المستدرك (حسن رياض) إنني قلت غريباً لم يسمع به من قبل، وهو أن الحب والغزل مستغربان في الشباب ولكنهما لا يستغربان فيما بعد الشباب في سن الشيخوخة. . . إلى آخر ما قال

وأنا أشهد الله والقراء أنني لم أقل ذلك، ولم أقل ما يوهم ذلك، ولو من بعيد

فإن القول بأن الحب مفاجأة في سن الشباب شيء، والقول بأنه غريب في تلك السن شيء آخر

لأن المفاجأة قد تتكرر ملايين المرات فلا تكون غريبة بعد هذا التكرار، وإن سميت مفاجأة في كل مرة من هذه المرات

فهذا الشاب تفاجئه العاطفة الغرامية في مطلع شبابه بعارض جديد في حياته، فهي مفاجأة لا

ص: 2

ريب فيها

ولكن هكذا كل شاب تعرض للعاطفة الغرامية منذ كان الإنسان كما نعرفه الآن إلى آخر الزمان

كل شاب يفاجأ هذه المفاجأة، فلا غرابة إذن في وقوعها ولا في ملازمتها لمطلع الشبيبة في ريعانها لأن هذا الواقع المتكرر الذي لا يصدمنا بغير ما عهدناه

إلا أنني لا أريد أن أكتفي بدفع هذا اللبس الذي لا يحتاج إلى مناقشة طويلة، فقد يغني في دفعه نقل الكلمة التي وقع عليها الاستدراك ثم الوقوف عند نقلها بغير تعقيب

وإنما أردت أن أتجاوز هذا اللبس العارض إلى الأساس الذي يقوم على كل لبس من هذا القبيل، وهو من جنايات اللغة أو من جنايات (التسمية) حيث كانت فيما أراه

تطلق اللغة كلمة واحدة على عاطفة أو شعور أو حالة نفسية تلم بجميع الناس، فيسبق إلى الوهم أننا أمام شيء واحد لأننا نعبر عنه بكلمة واحدة، ويطرأ التناقض واللبس والاستغراب من هذا الوهم الذي يصعب التنبه إليه في كثير من الأحيان

(فالحب) مثلاً كلمة واحدة بل كلمة واحدة مختصرة في حروف ثلاثة خفيفة على كل لسان

فهل هي شيء واحد مختصر هذا الاختصار، مجموع في هذه الحروف، سريع إلى الفهم كسرعة اللسان في النطق بحروف اسمه الصغير؟

أجهل الناس بالشعور الإنساني لا يقول (نعم) في جواب هذا السؤال

فالحب يتناول مئات من الأشياء التي لا تحدها أسماؤها لاختلافها هي أيضاً في الصفات والعوارض والعلاقات والمناسبات

الحب يتناول الغريزة النوعية، ويتناول ذوق الجمال، ويتناول الشعور الاجتماعي الذي يدعو إلى التآلف ويقال في تعليله إن الإنسان مدني بطبعه، ويتناول فهم الميول الإنسانية والإيمان بأخلاق الوفاء والصدق والمجاملة، ويتناول التقارب بالعقول والمدارك والنزاعات، ولا توجد في الإنسان واشجه من وشائج النفس والجسد لا تتناولها هذه الكلمة ذات الثلاثة الحروف

ثم ما هي الغريزة النوعية التي هي جزء مما تنتظم في الحب من بعض نواحيه؟

هي أيضاً شيء كثير الشعب كثير الأطوار كثير الأوصاف على حسب الأمزجة والأعمار

ص: 3

والعقول

وما هو ذوق الجمال؟ وما هو شعور المدنية الطبيعية؟ وما هي الأخلاق التي تفرض الصدق والوفاء؟ وما مبلغ سلطانها على أناس وانقطاعها عن آخرين؟

وما هو العقل؟ وكيف يتقارب ويتباعد؟ وإذا تقارب بين إنسانيين فهل يتقارب بينهما في جميع الأمور؟ وإذا تقارب بينهما في جميع الأمور فهل يتقارب في جميع الأوقات؟ وإذا تقارب حيناً بين إنسانيين ألا يجوز في ذلك الحين أن يتقارب بين إنسانيين آخرين؟

ثم ما هو الشعور نفسه إذا وصفنا الحب إجمالاً بأنه ضرب من الشعور؟ ما سلطانه على الإرادة أو ما سلطان الإرادة عليه؟ وما هي الإرادة بعد هذا وذاك؟ ولماذا تضعف في ساعة وتقوى في ساعة أخرى؟ ولماذا تكون في ساعة واحدة ضعيفة أمام أحد الناس وقوية أمام غيره!

كل أولئك حالات تقبل التنويع والتلوين والتدريج وكل أولئك تجمعه كلمة واحدة في ثلاثة حروف

فإذا حضرناه بمقدار حروفه إذن محدود يكون على حالة واحدة ولا يكون على غيرها. ويسهل أن نستغربه كلما رأيناه على غير ما تصورناه

وإذا نظرنا إلى شعابه وفروعه وألوانه ودرجاته جاز أن نراه في ألف حالة متناقضة ولا نستغربه في جميع هذه الحالات أقل استغراب.

جاز أن تسيطر عليه الغريزة النوعية، وجاز أن يسيطر عليه ذوق الجمال وفنون الجمال، وجاز أن يسيطر عليه التفاهم ورعاية الأخلاق، وجاز أن تسيطر عليه هذه البواعث مختلفات في المقادير والمظاهر والدرجات

كل أولئك جائز، وكل أولئك حب، وكل أولئك عارض من عوارض النفس الإنسانية في جميع الأعمار

ولكننا وضعنا اللغة فحبسنا تلك المردة أو تلك الأرواح أو تلك الأشباح في قمقم صغير من ثلاثة حروف خفاف على اللسان

قل (حب) فقد قلت كل شيء ولفظت بالطلسم الذي يحبس المردة في (القمقم) الصغير

ولكنك إذا جاوزت القول إلى الدخول في أعماقها والتفرقة بين شياطينها واللعب بأسرارها

ص: 4

ثارت بك والتوت عليك، وكسرت القمقم شر كسرة، فإذا هو يتطاير شعاعاً هنا وهناك ولا تجتمع منه هباءة على هباءة، ولو سلطت عليها ألف حرف وألف كلمة وألف لغة تضيق بها المعجميات

فما هو الحب الذي تستغربه ولا ترى أنه يكون في إبان الشباب؟ وما هو الحب الذي تستغربه ولا ترى أنه يكون بعد الشباب؟

هو على كل حال كلمة واحدة ولكنه ليس بشيء واحد.

وعليك قبل استغرابه أن تميزه في جميع حالاته، فإذا ميزته فقد عددته وفرقته وجاز - بل وجب - أن تراه في جملة حالات ولا تقصره على حالة واحدة تستغربه فيما عداها

من فضائل اللغة أنها قيدت المردة في القماقم، ومن جناياتها أنها قليلة القماقم فوضعت في قمقم واحد ما من حقه أن يوضع في ألوف!! وعلينا نحن أن نحترس من جناياتها بحساب، ونستفيد من فضائلها بحساب

ونلحق بما تقدم استدراكاً قرأناه في العدد الأخير من الرسالة جاء فيه تعقيباً على مقالنا في التلباثي:

(لو كان المقاتلون قد سمعوا صوت عمر وهم مئات، ولو كان ذلك قد تم بواسطة التلباثي لاقتضى الأمر أن يكونوا كلهم موهوبين أو وسطاء، وهو ما لا يعقل. . .)

ثم جاء فيه: (كل مقال الأستاذ العقاد منصب على إثبات وجود التلباثي بأدلة منطقية قياسية، وقد فرغ العلماء من إثباته منذ 85 سنة، وتدرس هذه العلوم كدراسات عليا في جامعات إنجلترا الكبرى. ومحاولة الأستاذ إثباتها كمن يحاول إثبات وجود أشعة إكس بالاستنتاج الخ)

أما أن مقالي منصب على إثبات وجود التلباثي فغير صحيح، لأنني لم أتجاوز تخطئة الذين يجزمون بنفيه. وقلت:(يجوز أن يأتي غداً من يثبت - هذه الملكة - ثبوتاً قاطعاً لا شك فيه، ويجوز أن يأتي غداً من ينفيها نفياً قاطعاً لا شك فيه).

وأما أن وجود التلباثي ثابت كوجود أشعة إكس فذلك قول يدعيه المدعي وعليه إثباته. وقد نقنع منه بتقرير ثلاثة من المشتغلين بالعلم عندنا يؤيدونه فيما قال. وأول ما يقتضيه هذا الرأي أنه يبطل القول بالملكة النفسية ويجعلها خاصة من الخواص التي تتكرر في كل

ص: 5

جسم وفي كل معمل من معامل الطبيعة، وهذا كلام لا يقره النفسيون ولا الطبيعيون ولا المنطقيون

وأما ما قاله صاحب الاستدراك عن سماع الأصوات على البعد فما زاد فيه على ما رأيناه حيث قلنا في مقالنا السابق: (إن التقاء نفسين أيسر قبولاً من التقاء نفس واحدة من جانب وألوف النفوس من جانب آخر)

أو حيث قلنا: إن انتقال الصوت المادي مئات الأميال يقتضي أن يكون صوت سارية قد سُمع في الجيش الذي معه وهو يستغيث وقد سمع في المسجد الذي كان عمر يخطب فيه، وقد سمع الصوتان: صوت الاستغاثة وصوت الاستجابة على طول الطريق، ولم يذكر لنا رواة القصة شيئاً من ذلك)

وهذا ما نجيب به عن استدراك المستدرك ولا نجيب عن غيره من كلامه الذي لا نرى فيه ما يناقش أو يجاب.

عباس محمود العقاد

ص: 6

‌مسابقة الأدب العربي

2 -

ديوان حافظ إبراهيم

للدكتور زكي مبارك

مواساة طرابلس - مواساة بيروت - آمال مصرية

مواساة طرابلس

في شهر سبتمبر من سنة 1911 أغارت إيطاليا على طرابلس - وهي يومئذ ولاية تركية - فنهض المصريون لمعاونة طرابلس بالطب والشعر والمال والرجال، فمضى إلى الميدان أطباء مصريون لمعالجة الجرحى الطرابلسيين، منهم الدكاترة حافظ عفيفي وسيد شكري ونصر فريد؛ ومضى إلى الميدان مجاهدون مصريون أشهرهم عزيز باشا المصري، ومحمد بك القناشي؛ وجمعت أموال كثيرة لتموين الجيش الطرابلسي. وبفضل تلك الحرب أنشئت جمعية الهلال الأحمر المصري، وكان لقلم الشيخ علي يوسف تأثير في إنشاء تلك الجمعية، وهي لا تزال من كبريات جمعياتنا الخيرية.

وانطلق الشعراء فقالوا في تشجيع الطرابلسيين وتخذيل الإيطاليين عشرات القصائد الجياد

في تلك الحرب قال حافظ قصيدته الميمية:

طمع ألقي عن الغرب اللثاما

فأستفق يا شرق وأحذر أن تناما

وفيها قال عبد المطلب قصيدته البائية:

بني أمنا، أين الخميس المدرَّبُ

وأين العوالي والحسام المذرَّب

و (بنو أمنا) في قصيدة عبد المطلب هم الأتراك، وكانوا كذلك بحكم الأخوة الإسلامية، وهو معنى فسره شوقي أحسن تفسير حين قال في التوجع لسقوط (أدرنه) في الحرب البلقانية:

مقدونيا - والمسلمون عشيرة -

كيف الخئولة فيك والأعمام

وبمناسبة قصيدة عبد المطلب أذكر أنه قال في التمهيد إن نفسه جاشت حزنا حين لاحظ أن القوة المدافعة من الطرابلسيين وأن الأتراك لم يكونوا إلا مديرين

وقد فكرت في مراجعة الجرائد المصرية لذلك العهد عساني أعرف السبب في تخلف الجيش التركي عن معاونة الجيش الطرابلسي، ثم اتفق أن لقيت الأستاذ عبد الرحمن بك

ص: 7

عزام في قصر الزعفران يوم مضيت للتسليم على حضرة صاحب السمو الأمير عبد الإله، فسألته عن سبب ذلك التخلف، فأفهمني أن إنجلترا اعترضت على مرور الجيش التركي بالأرض المصرية بحجة أن مصر على الحياد، فلم تستطع تركيا إنجاد طرابلس بغير القواد من أمثال أنور وفتحي ومصطفى كمال

كانت تلك الحرب مثاراً لحركة فكرية وأدبية، ففيها أختصم المصريون حول الموجب لمعاونة الأمم الأسلامية، وكان ذلك الاختصام بمناسبة مقالة نشرها لطفي باشا السيد عن الأموال التي تجمع لمواساة الجرحى من المجاهدين المسلمين. فقد أعلن أن الأفضل أن تجمع تلك الأموال بأسم الإنسانية لا بأسم الدين، فثار الجدل هنا وهناك، لأن مثل هذا الرأي في ذلك الوقت كان يثير الجدال

وفي غمرة الكروب التي أثارتها تلك الحرب أعلن الشام أنه يريد الاستقلال، بتوجيهات خفية من خصوم الأتراك، فثارت الجرائد المصرية وعدت ذلك تأييداً لعدوان الطليان

شبكة بيروت

ولم تنتظر إيطاليا حتى تنجح الدسائس الخفية في تحريض البلاد الشامية على الدول التركية، فأرسلت أسطولها لضرب ميناء بيروت بمدافع الأسطول الثقال، انتقاماً من الأتراك، والأحمق يؤذي نفسه من حيث لا يريد

كان من السهل في تلك الأيام أن يميل نصارى لبنان إلى تأييد الطليان - فقد كانت بينهم الأتراك عداوات - ولكن ضرب بيروت بمدافع الأسطول الإيطالي أغضبت نصارى لبنان وملأت قلوبهم بالغيظ فثلبوها بما يملكون من أسلحة الهجاء في الجرائد والمجلات

وفي تلك النكبة ثار الشعراء المصريون على الطليان، ثاروا انتصاراً للأتراك وانتصاراً لأهل لبنان

وفي نكبة بيروت نظم شوقي قصيدةُ الرائع:

يا ربّ أمرُك في الممالك نافِذٌ

والحكم حكمك في الدم المسفوك

إن شئت أهرقه وإن شئت أحمه

هو لم يكن لسواك بالمملوك

واحكم بعد لك إن عدلك لم يكن

بالممترَي فيه ولا المشكوك

ألأجل آجالٍ دنت وتهيأت

قدّرت ضرب الشاطئ المتروك

ص: 8

بيروتُ مات الأُسد حتف أنوفهم

لم يشهروا سيفاً ولم يحموك

كلٌ يصيد الليث وهو مقيدٌ

ويعزُّ صيدُ الضَّيغم المفكوك

يا مَضربَ الِخَيم المنيفة للقِرى

ما أنصت العُجمُ الآلي ضربوك

ما كنتِ يوماً للقنابل موضعاً

ولو أنها من عسجدٍ مسبوك

بيروتُ يا راحَ النزيل وأُنسهُ

يمضي الزمان عليَّ لا أسلوك

الحسنُ لفظٌ في المدائن كلها

ووجدته لفظاً ومعنًى فيك

وفي نكبة بيروت نظم حافظ (رواية تمثيلية) جديرة بالإعجاب، وفيها أدار الحوار بين جريح من أهل بيروت وزوجة له اسمها (ليلى) وطبيب ورجل بدوي

وترجع أهمية هذه المنظومة إلى ما اشتملت عليه من الصدق في تصوير العاطفة الإنسانية، العاطفة التي تجمع بين قسوة الرجولة ورقة الوجدان؛ فالجريح فتى لبناني عجز عن مقاومة النار بالنار، فما كان لبلده أسطول يقاوم به أسطول الطليان، ولا أتيحت له فرصة يلتقي فيها سيفاً لسيف مع أحد جنود الأعداء، وإنما رمى وهو عاجز عن أن يرمي، فهو وقيذ الاغتيال. وفي تلك المحنة يتذكر مهد غرامه وهو بيروت، بيروت التي جمعت بينه وبين ليلاه في فجر الشباب

ولنترك حافظاً يصور آلام هذا الجريح بشعره الرقيق:

ليلايَ ما أنا حيٌّ

يُرجَى ولا أنا مَيْتُ

لم أَقضِ حقَّ بلادي

وها أنا قد قضيت

شفيت نفسي لو أني

لما رُميت رَميت

بيروت لو أن خصماً

مَشى إليَّ مشيت

أو داسَ أرضَك باغٍ

لدُستُه وبغيتُ

أو حلّ فيك عدوٌّ

منازلٌ ما اتقيتُ

لكنْ رماك جبان

لو بان لي لا شتفيتُ

ليلاي لا تحسبيني

عليَّ الحياة بكيتُ

ولا تظني شكاتي

من مصرعي إن شكوتُ

ولا يُخيفنْك ذِكرى

بيروتَ أني سلوتُ

ص: 9

بيروت عهد غرامي

فيها وفيك صَبْوتُ

جررت ذيل شبابي لهواً وفيها جريتُ

فيها عرفتُك طفلاً

ومن هواك انتشيتُ

ومن عيون رُباها

وعذب فيك ارتويتُ

فيها لليلى كِناسٌ

ولي من العز بيتُ

فيها بنَى ليَ مجداً

أوائلي وبنيتُ

ليَلى، سراج حياتي

خبَا فما فيه زيتُ

قد أطفأته كُرَاتٌ

ما من لظاهنّ فوت

رَمَى بهنّ بُغاةٌ

أصبنني فثويت

ثم يمضي الحوار بين الجريح وليلاه، ثم يتدخل البدوي والطبيب، فلا تنتهي المنظومة إلا بعد أن يستوفي حافظ تصوير ذلك المشهد الحزين

ونرجع إلى القصيدة فنقول:

في تلك القصيد صور حافظ عدة مشاهد، صور انتفاع الطرابلسيين بالذخائر التي تركها الجيش الإيطالي عند انهزامه بإحدى المواقع فقال:

حاِتمَ الطليان قد قلدتنا

مِنةً نذكرها عاماً فعاما

أنت أهديت إلينا عُدّةً

ولباساً وشراباً وطَعاما

وسلاحاً كان في أيديكمُ

ذا كَلالٍ فغدا يَفْري العظاما

أكثروا النزهة في أحيائنا

ورُبانا إنها تشفي السقاما

وأقيموا كل عام موسما

يُشبع الأيتام منا والأيامى

وصور استخفاف الإيطاليين بالمعاهدات وبالدين فقال:

أحرقوا الدور، استحلوا كل ما

حرّمت (لاهاي) في العهد احتراما

بارك المطران في أعمالهم

فسَلُوه: بارك القوم علاما

أبهذا جاءهم إنجيلهم

آمراً يلقي على الأرض السلاما

كشفوا عن نية الغرب لنا

وجَلوا عن أفق الشرق الظلاما

فقرأناها سطوراً من دمٍ

أقسمت تلتهم الشرق التهاما

ص: 10

وخلاصة القول أن حافظاً صور عواطف المصريين في الثورة على الأمة الباغية التي عدت على إحدى البقاع الإسلامية، بحيث استطاع أن يسبق شوقي في هذا الميدان

آمال مصرية

وهناك تاريخ مجهول هو تاريخ جهاد المصريين لتحرير طرابلس من نير الطليان في أعوام الحرب الماضية، وذلك الجهاد يرجع إلى نزعة أصلية هي شوق مصر إلى التلاقي مع جميع الولايات التي تشرف على شواطئ البحر الأحمر وشواطئ البحر الأبيض، فقد كانت مصر في أكثر عهود التاريخ متصلة بتلك البلاد اتصال وداد وإخاء، وبلادنا كانت الملتقى لآمال الرجال في تلك البلاد، فأكابر الأغنياء من اليمن والحجاز وفلسطين والشام ولبنان وليبيا والجزائر وتونس ومراكش قد انتفعوا جميعاً بمركز مصر مفتاح الشرق

وكبار الوطنيين في مصر لهم أصول في تلك البلاد، فقد عير عبد الرحمن الرافعي بأنه شامي الأصل، وعير عبد العزيز جاويش بأنه مغربي، ونحن مع هذا نرى هذين الرجلين غاية في شرف الوطنية المصرية

ما معنى ذلك؟ معناه أن الوطن المصري هو الوطن الذي ينظم شواطئ البحر الأحمر وشواطئ البحر الأبيض، وقد حفظ التاريخ أن جنودنا استنزلوا في المعارك التي انتهت بفتح الأندلس وشهد التاريخ أيضاً أن عرب الأندلس لم يجدوا في محنتهم مأوى غير وادي النيل

متاعب الدنيا في هذه الأيام لن تنسينا ما يجب أن يحفظ، ولن ننسى أبداً أن لنا إخواناً هواهم من هوانا في جميع الشئون.

الحرب الحاضرة موجة عابرة، وميزان الوجود لا تزلزله قلقةٌ وقتية سيزول صداها بعد حين

مصر هي مصر، والشرق هو الشرق، ورجاؤه فيها هو رجاؤها فيه، ولن ينفصم ما بينها وبينه من مواثيق

سنكون فيما بعد أصدق مما كنا فيما قبل (والله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين)

زكي مبارك

ص: 11

‌من أظرف ما قرأت

كزينوقراط الفيلسوف

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كان في أثينا، أيام أرسطوفان، مائة وخمس وثلاثون حظية، كن زهوراً فواحة فيها، ونجوماً رفافة في سمائها؛ وقد أوتين الخلابة والظرافة والجمال. وكانت لاييس أخلبهن جمالاً وأبرعهن حسناً وأكثرهن دلاً وظرفاً

ويقولون إن فينوس، ربة الجمال والحب، تجلت لها في الحلم فأرتها ما ستحظها به من حظ، وما ستنعم به من نعيمات. . . ومسحت بكفها الصغيرة جسمها الغض، فجعلته مثار غوايات وينبوع شهوات

ولم يخلب الملوك، ولم يشرد نوم الكهان، ولم يُذهل أحلام الفلاسفة، غير لاييس؛ الطروب المدلة، ذات العين الضحوك والجسم الريان. فكان أهل أثينا يجتمعون في (الكورنث) مسرح اللهو واللذاذات، يتمتعون منها بمحاسن تتجدد وملاحات ليس تنفذ، فإذا مضت إلى معبد فينوس، فيا لسحر الجمال! هنالك ترى الشعب يتبعها كالخراف لا يدعون فينوس، ولا يبتهلون إلى آلهة الأولمب، ولكنهم ينظرون إلى لاييس

وفلك ثدياها فكانا شركاً وفتنة: غضوضة تأسر اللب ونعومة تشل الحس، واهتزاز يفتن الناظر. فكان المثالون يعطون فينوس، إذا نحتوا لها التماثيل، ثدي لاييس الحظية أو فرينه اللعوب

وكانت الدنانير تنثر تحت أقدامها كما تنثر الأزاهير لنظرة حنونٍ منها أو بسمة خلوب

ودوخت لاييس أثينا كلها، واشتد سلطان جمالها، وتيمت الأرواح وأذهلت الأحلام، إلا رجلاً واحداً، كان يتجلد ويصبر ولا يذعن لسلطانها. هو كزينوقراط الفيلسوف.

لقد طلبت منه مالاً من ماله. . . (فإذا أعطيتنيه، سكبت في فمك لذة الدنيا، وأذقتك هناءة العمر، في ليلة واحدة!)

ورفض الفيلسوف طلبة لاييس، فأقسمت لتغوينه، ولتجعلنه من عباد جمالها المخلصين، وتخاطرت على الهزء به مع أناس كثيرين.

وطرقت باب مأواه، وقد عبس الليل، مذعورة الجنان دامعة العينين. فقال لها: (ما ذعرك يا

ص: 13

لاييس. . . وما أصابك في هذا الليل البهيم. . .؟) قالت: (لقد تبعني قُطاع الطريق وأرعبني سُفاك الدماء، يريدون اختطافي. . . فأوني في دارك حتى يبرق لي النور. . .!)

وأدخلها الفيلسوف غرفته، وقدم إليها سريره.

يا عجباً! لقد اختفت تلك الدموع الغزار التي كانت تساقطها، منذ لحظات، كحبات المطر، فتنحدر على خدودها كالدرر.

وابتسمت لاييس. . . وابتدأت الفتنة!

لقد وقفت أمامه، فرأى ما يسحر وما يغري: فهذه البسمة الفاتنة كأنها وعد بلذة صخوب، وهاتة الشفاه المفترة التي تقطر الشهد والرحيق، وهاتان العينان اللتان ترسلان لهباً فاتر يوهن القوي، وينظران نظرات حالمة فيهن ظمأ وعتب وأسى. وهذان الذراعان البضان اللذان يمتدان للعناق. وهذه الحركة الرشيقة التي تثير الوجد، والضحكة البارعة التي تفلق الكبد، والغمزة الساحرة التي ينخلع لها الفؤاد. . . ثم هذا الغضب الجميل، والنفور اللطيف، وذاك الدلال الحلو والإقبال الظريف. . . ثم ما شئت من مراح ومزاح، ورقص وشدو، وبكاء وأنين. كل أولئك ما هز الفيلسوف وما أثر فيه.

لقد قطعت الليل تحاول إغراء كزينوقراط، فما خلبته فتنتها، ولا هاجه سحرها؛ لكنه لبث أمامها ينظر متجلداً، كأنه قطعة من حجر أو قدة من جليد.

ولملمت لاييس أثوابها، وخرجت من دار الفيلسوف مع الفجر وفي عينيها الحلوتين دموع الخيبة والفشل

وانتشر الخبر مع النور، فجاء صواحبها مسرعات، فابتسمت لاييس، وقالت:(لقد راهنت على إغواء إنسان. أما كزينوقراط فتمثال من جليد. . .!)

ونظر لداتها بعضهن إلى بعض دهشات، وقلن:(لك عذرك يا لاييس!)

هذا حديث أرسطوفان، ما أدري مبلغ التزويق أو التهويل فيه، ولكني ذكرت، وقد تمثلت في خاطري صورة الفيلسوف حديثاً طريفاً للجاحظ، عن نديم أسمه أبو المبارك الصابئ، كان أحلى خلق الله حلاوة وظرافة وفكراً، وابرعهن حديثاً ونادرة وعلماً، وألطفهن مذهباً وطريقة وفهماً. وكان قد خصي نفسه وأربى على المائة. وكان ينادم الخلفاء والوزراء ويغشي بيوت حرمهن، ويقضي الأوقات الطوال عندهن. وكان قلبه علوقاً بالجمال يتتبعه

ص: 14

ويهيم في أثره. فسئل عن ميله إلى النساء، وقد تخطى المائة؛ فزفر زفرة كادت تقصف ضلوعه وقال:(إني لأسمع نغمة المرأة، فأظن مرة أن كبدي قد ذابت، وأضن مرة أنها قد انصدعت، وأظن مرة أن عقلي قد اختلس، وربما اضطرب فؤادي عند ضحك إحداهن، حتى أظن أنه خرج من فمي. . . فكيف ألوم غيري عليهن؟)

فما أشد اختلاف الطباع!

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 15

‌رفيق الصبا

للأستاذ محمد مندور

ها أنا اليوم أتماسك فأستطيع أن أذكر رفيق صباي الدكتور محمد الشحات أيوب الذي نقلت إلى الصحف خبر وفاته. ولقد بكاه قلبي فكان البكاء رحمة من الله وقد أوشكت حياتي أن تختنق ضيقاً بوفاته.

أيوب رفيق صباي منذ مدرسة الألفي الابتدائية بمنيا القمح سنة 1917 إلى آخر عهدنا بتحصيل العلم سنة 1939 بباريس.

وهو زميلي في دراستي، كان يحب كما أحب حضارة اليونان لأنها تسمو بالروح إلى أفق لا يمكن أن يدركه إلا من يصل إليه بنفسه بعد جهد طويل. ولقد علقت روحه بمثل اليونان: الخير والحق والجمال، فأبغض الظلم والشر والقبح. من لي اليوم برفيق سواه؟ كنت ألقاه فنرفع من قلوبنا بذكر من نحب من كتاب تلك الحضارة المشرقة. ولقد عرف أيوب كما عرفناه مرارة الظلم الذي ينزله الجهل بالنفوس الخيرة. ولقد تعزى أيوب كما تعزينا بالقيم الروحية. ولقد جاهد أيوب معنا لأننا عقدنا العزم على أن نكسب النفوس بأيماننا. وهاهو أيوب يغادرنا ونحن لم نكد نبدأ الشوط. أيها الأخ الراحل: لقد كنا بحاجة إليك. ها أشعة الأمل تشرق في الأفق البعيد. عزيز على نفسي أن نستأثر بنصيبك فيها. اللهم أملأ قبره ضوءاً. اللهم اهد إليه ضوء قلوبنا.

قد يجهل الناس أيوباً، فهل لي أن يصدقوني إن قلت إنه أمل خبا، أمل قوي لا أعرف أملاً يساويه. لقد كان أيوب (مدرس) التاريخ القديم بجامعة فؤاد الأول (أستاذاً) منقطع النظير. كانت له قدرة عجيبة على البناء التاريخي. كنت تراه يجمع مواده لا من ملخصات التاريخ بل من مصادر التاريخ. وكان رحمه الله يعلم ويحس أن التاريخ قصة نفاذ الروح البشرية إلى العالم والكائنات، ولهذا كان يتتبع مسارب تلك الروح في مظانها. مصادر التاريخ عنده كانت تماثيل فدياس وبراكستيل، خطب بركليس وديموستين، مسرحيات سوفكليس وأربيدس، ملاحم هوميروس، وأغاني بنداروس، قصص هيرودوت، وتحليل توكيديدس. التاريخ عنده كان شيئاً واحداً: الروح البشرية في مظاهرها المتعددة. جاءني يوماً يطلب إلى رواية الفُرس لأيسكيلوس ليتخذها مصدراً من مصادر المعرفة الحقة. المعرفة الإنسانية

ص: 16

بمعركة سلامين.

درس أيوب التاريخ بمصر فكان الأول بين أقرانه؛ وأرسل أيوب في بعثة إلى باريس ثماني سنوات حيث أخذ العلم عن جلوتز وجنبير وسينوبوس وأمثالهم ممن تتطأطأ لهم الهامات في العالم أجمع. ولم يكتف بتحصيل المعرفة من بطون الكتب وأفواه الأساتذة بل ذهب عاماً كاملاً إلى بلاد اليونان يقلب آثار الماضي المجيد ويستنطق الحجارة. وعاد أيوب إلى مصر بعد أن طوف بدلف وديلوس وفيليب وأولمبي وقد انصهرت المعرفة بنفسه فإذا بالتاريخ القديم عنده كذكريات حياته الخاصة يحدثك عنه في طلاقة وحرارة وقوة فيكسبك.

عجيب أن يموت أيوب! عجيب أن يجف هذا النبع قبل أن يتدفق! لقد حاضر أيوب بالجامعة ثلاث سنوات فقط. لكن سل زملاءه، سل تلاميذه وهم موضع أمله، سلهم يخبروك عن هذا العالم الثبت الذكي الفؤاد الفصيح اللسان. لقد أخصب أيوب نفوساً سيتذكره بالرحمة.

لم يتوان أيوب عن أداء رسالته. ولقد عقد العزم ونحن معه على أن نؤديها، تنكر الناس أو رضوا، ظلموا أو أنصفوا. ولقد أحس بالظلم تكوينا ناره فصمد له وشمر عن ساعده فترجم جزءاً هاماً من (تاريخ مصر) لهانوتو، ذلك الكتاب الضخم الذي وضعته جماعة من علماء فرنسا بتكليف من ملكنا العظيم فؤاد الأول رحمه، ورأت وزارة المعارف أن تنقله إلى لغتنا، فأدرك بعض رجالها أن أيوباً في طليعة من ينهضون بهذا العمل الجليل الشاق

وقالوا إن المرء لا يثبت علمه إلا إذا كان (دكتوراً)، وكان أيوب يعد رسالة أصيلة باللغة الفرنسية عن تاريخ طيبة اليونانية. وقسموا على أيوب فلم يرد أن ينتظر حتى تسكن الحرب، فيقدم رسالته إلى السوريون بل قدمها إلى جامعة فؤاد الأول، فإذا به يمنح أعلى درجة تعرفها جامعتنا. وهذا ليس موضع فخارنا بأيوب، وإنما نفخر بأنه استطاع أن يتمتع بصداقة أستاذنا جميعاً البروفسير جوجيه أستاذ التاريخ القديم بجامعات فرنسا سابقاً ومدير المعهد الفرنسي بالقاهرة في السنين الأخيرة، والذي كان من حظ جامعة فؤاد الأول أن تنتدبه للتدريس بها. لقد كان البروفسير جوجيه ولا يزال يعز أيوباً بل يحبه حب تقدير لعلمه وإخلاصه وتفتح نفسه، وكان يخصه دائماً بالثناء. وكانت محبة البروفسير لتلميذه

ص: 17

وزميله محبة فعالة لأنها قامت على أساس شريف: أساس العلم. فكنت تراه يعين أيوباً على كل أموره. صغيرها وكبيرها. عامها وخاصها. كم اهتزت نفسي لنبل هذا الأستاذ الكريم إذ حدثني أصدقاء القاهرة أن البروفسير جوجيه لم يتخل عن أيوب أثناء مرضه ولا نسيه بل تردد عليه في كل حين وأعانه على تلقي الموت بروح مطمئنة

وأحس أيوب أن ضعف المؤلفات العلمية من أكبر أسباب انحطاط التعليم ببلادنا لاشك فيه، فأخذ نفسه بوضع مؤلفين أحدهما عن النظم اليونانية والآخر عن النظم الرومانية. ولقد افترقنا منذ أشهر، فلم أدر إلى أي مرحلة وصل في كتابيه، ولكنني على ثقة من أنه قد خطا بهما خطوات واسعة، لأن أيوبا كان عقلاً نشيطاً، وكان إذا قال نفذ وإذا وعد صدق. ترى ما مصير هذه الكتب؟! إن كاتب هذه الأسطر يعتبرها نعمة من الله أن يستطيع ترتيب المواد وإتمام التفاصيل وإيضاح الغامض والإشراف على نشر تلك الأبحاث القيمة التي خلفها رفيق صباه؛ وكلي أمل أن الجامعة والوزارة ستقدران قيمة هذه الأشياء فترصد المال اللازم لإذاعتها بين الناس

يجب أن ننشر رسالة الدكتوراه لأيوب، والجزء الذي ترجمه أيوب من هانوتو، ومذكرات أيوب ومقالاته. هذه كنوز. وقد ذاق أيوب المر في حياته، فهل لنا أن نكفر عن ذلك بالإحسان إلى ذكراه؟

أما حزني على هذا الصديق فأعز من أن يحتويه لفظ. اللهم ارحمه!

أيها الصديق الراحل! سنجاهد كما جاهدت حتى نلحق بك. سنظل كما عهدتنا جنداً في خدمة الروح. إلى اللقاء.

(الإسكندرية)

محمد مندور

ص: 18

‌عيد الهجرة

للأستاذ علي محمود طه

غنِّ بالهجرة عاماً بعد عاِم

وادْعُ للحقِّ وبشِّرْ بالسلاِم

وترسَّلْ يا قصيدي نغماً

وتنقَّلْ بين موج وغمام

صوتُكَ الحقُّ فلا يأخذكَ ما

في نواحي الأرض من بغْيٍ وذْام

كنْ بشير الحبِّ والنور إلي

مُهَجٍ كلْمَي وأكبادٍ دوامي

هجرتْ أوطانها واغتربتْ

في مِثاليٍ من المبدأ سامي

أَنِفَتْ عيش الرقيق المُجتبَي

وأَبَتْ ذُلِّ الضمير المستضام

يا دُعاةَ الحقِّ هذي محنةٌ

تُشعلُ الرُّوح بمسعور الضرام

هذه حرب حياة أو حمام

وصراعُ الخير والشرِّ العقام

خاضَها الإسلامُ فرداً، وهدَى

بيراعٍ، وتحدَّي بحسام

هجرةً كانت إلى الله وفي

خطوها مولدُ أحداث جسام

أخطأ الشيطانُ مسراها، فيا

ضَلَّةَ الشيطانِ في تلك الموامي

آبَ بالخيبةِ من غايتهِ

وهو فوق الأرض ملعونُ المقام

صفحاتٌ من صراع خالدٍ

ضِّمنتْ كلَّ فخارٍ ووَسام

لم تُتَحْ يوَماً لجَّبارٍ طغَى

أو لباغِ فاتك السيفِ عُرام

بل لداعٍ أعزلٍ في قومهِ

مستباح الدَّمِ مهدورِ الذمام

زلزلَ العاَلم من أقطاره

بقُوّى الرُّوح على القوم الطغام

وبنى أوَّلَ دنيا حُرَّةٍ

بَرِئَتْ من كلِّ ظلم وأثام

تسعُ الناسَ على ألوانهم

لم تفرِّقْ بين آريٍ وسامي

حاطمَ الأصناِم هل منكَ يدُ

تَذَرمُ الظلمَ صعيداً من حُطام؟

لم تُطْقها حجراً أو خشباً

ويُطاقُ اليومَ أصنامُ الأنام!

وعجيبٌ صُنْعُهم في زمنٍ

أبصرَ الأعمى به والمتعامي

آدميُّون قَزَامى انتحلوا

منطقَ الآلهةِ الشمِّ العظام

وتراهم مثلما تسمعهم

صُوَرَ الوهم وأحلامَ النيام

ص: 19

بَشَّروا الناس بدنيا، ويحهم!

أيُّ دُنيا من دَمارٍ وَحِمام؟

تسلُبُ العالم حُرَّيِاتهِ

وترى الناسَ قطيعاً من سوام

قيل للحق، وما أعجبه

في مجال حيوي ونظام!

قيل للخبز، فهل أطعمهم

حلمَ الحرب سوى الموت الزؤام؟

أنت يا أيَّتُها الشمسُ أطلُعي

من وراء الليل والنعيمِ الرُّكامِ

سَدِّدِي بالنار قوساً واصرعي

ماردَ الشرِّ بمشبوب السهام

ضَلَّتَ الأرضُ بليلٍ داهمٍ

يَحَذرُ النجمُ دُجَاةُ المترامي

دَمِيَتْ أعينُنا في جنحه

واشتكت حتى خفافيشُ الظلام

يا شعوباً جَمَعَتْها أمةٌ

بين مصرٍ وعراقٍ وشآِم

وبطوناً من بقايا (طارقٍ)

في الجبال اُلْجْردِ واُلْخْضر النوامي

صاَغها الإسلام في إقليدهِ

خرزاتٍ من فريد وتُؤّام

ما شدا شعري بها إلا هفَتْ

بالقباب البيض أو حُمْر الخيام

كلُّ روحٍ بهدىً من حُبِّها

كلُّ قلبٍ بشعاع من غرام

تذكر القُرْبَى وتستدني بها

مشرقَ الآمال في مطلعِ عاِم

وتُرَجِّي عودةً المجد الذي

أعجز الباني وأعيا المتسامي

في بيوتٍ هاشميات البِنَي

وعروش أموّيات الدِّعام

ونتاجٍ من نُهىً جَّبارةٍ

وتراث من حضارات ضخام

قُلْ لها يا عامُ لا هُنْتِ ولا

كنتِ إلا مهد أحرار كرام

ذاك مجد لم ينله أهله

بالتمني والتغني والكلام

بل بالآم وصبري وضني

ودموعٍ ودم حُرٍ سِجَام

قُلْ لها إنَّ الرحى دائرة

والليالي بين كرٍ وصدام

فاستعدِّي لغدٍ إن غداً

نُهْزَةُ السبَّاق في هذا الزحام

وأجمعي أمركِ لليوم الذي

يحمل البشرى لعشَّاق السلام

علي محمود طه

ص: 20

‌إلى الأستاذ البشبيشي

للأب أنستاس ماري الكرملي

(تأخرت في البريد)

1 -

تمهيد

أشكرك، يا سيدي الشكر الجزيل الصادق، على مطالعتك لمقالتي التي نشرتها لي (الرسالة)، بخصوص كتاب (الإمتاع والمؤانسة)، وأشكرك شكراً أعظم، على أنك تنازلت فأبديت بعض ملاحظات تتعلق بكلمتي تلك. والآن أستأذنك في إبداء ما عندي من النظرات. وأول كل شيء، أود أن أقول كلمة في تاريخ رسم الحروف في مصر، وهي:

2 -

تاريخ رسم الحروف في ديار النيل

كان كتبة وادي النيل، قبل سنة 1275 للهجرة، يختلف بعضهم عن بعض، في رسم بعض الأحرف، ككتابة الأعلام المؤنثة المنتهية بالياء والهاء كأفريقية، أو بالياء والألف كبادوراية، أو بالألف القائمة كبخارا، أو بالألف الجالسة، وهي الألف المصورة بصورة الياء كبخاري أيضاً (على رأى من يكتبها بهذا الرسم)، وكالمهموز الآخر الوارد على وزن التفاعل كالتخاجؤ والتخاجئ، وكان أغلب اختلافهم في رسم الهمزة الواقعة في قلب الكلمة كرؤوس، وبدءوا، ومشؤوم

وسبب ذلك جميعه، أن كل واحد من أولئك الكتبة المصريين، اتخذ له إماماً نحوياً أو لغوياً، وحاول اقتفاء آثاره. ولما كان الأئمة الأقدمون كثيرين، ويختلف بعضهم عن بعض في هذه الأمور، اختلف أيضاً متتبعوهم ومقلدوهم في هذه الأزمان الأخيرة

أما بعد سنة 1275، فقد أخذ الاختلاف يزول شيئاً بعد شيء من بين ظهراني أبناء النيل، أو كاد يزول. وذلك لأن الشيخ العلامة نصر الهوريني وضع رسالة في ذلك العام (المطلع النصرية، للمطابع المصرية)، ووشاها بقواعد لم يتبع فيها إماماً واحداً من أئمة العربية ولغويها، بل جمع بينهم؛ لأن اختياره لهم لم يكن موفقاً ولا دائماً حسناً، فقد خالف أحياناً سيبوبه والحريري والخفاجي وغيرهم من أولئك الأساطين العظام الأقدمين، بل خالف أيضاً ثقات المتأخرين كجماعة الألوسيين: شهاب الدين ونعمان ومحمود شكري، فجاء تأليفه كفلك

ص: 21

نوح، الذي كان يحوي زوجين من أطايب الحيوان وخبائثه، أي أن كتابه حوى أطايب القواعد وخبائثها. ومع ذلك راج كتابه أي رواج ولا سيما لأنه تولى تصحيح كثير من أسفار مشاهير الأقدمين، وكانت تطبع في مطبعة بولاق للحكومة المصرية، منذ أن تولى تصحيح ما يصدر فيها، حتى شاع رسم الهمزة في تلك المطبوعات على ما أراد لا على ما كان رسمها المؤلف الأصيل في كتابه

ومما زاد الطين بلة، أن جماعة ممن جاء بعده من المؤلفين أصدروا كتباً للمدارس، فأشاعوا وأذاعوا تلك القواعد التي سورها الشيخ الهوريني بأسوار من فولاذ، بل أقوى وأصلب، فكانت الطامة الكبرى ولا سيما جاء الشيخ العلامة حسين والي وكان ينتظر أن يصلح ما أفسده سلفهُ، لكنه تابعه في جل قواعده، ألم نقل في كلها، وسمى تأليفه (كتاب الإملاء)(كذا)، مع أنه كتاب الرسم، إذ الإملاء بهذا المعنى من كلام الترك واصطلاحهم. لا من كلام العرب، كما كتب لي بذلك المؤلف نفسه في كتاب أحفظه، وكان جواباً على ما بينته له. فسارت تلك القواعد سير النار في هشيم التين بين جميع المعلمين والمتعلمين، وهي لا تزال سائرة إلى هذا اليوم الذي نكتب فيه هذه الكلمة

إلا أنه - والحمد لله - قام مناوئاً للعالمين أعظم لغوي فخالفهما، وهو الشيخ محمد بن أحمد بن محمود التركزي المشهور بابن التلاميد (بدال مهملة في الآخر)؛ الشنقيطي: المغربي الأصل، فإنه تولى طبع (المخصص) لابن سيده (بهاء محضة في الآخر)، وعلق عليه حواشي هي درر بل دراري، فزاد قدر المخصص في عيون الناس زيادة لا تضاهي في شيء، وقد رسم الهمزات في مواطنها، كما يجب أن ترسم على مذهب السادة الأئمة الفصحاء كسيبويه وابن الأنباري وابن جني والحريري والخفاجي وإضرابهم في هذا الأوان كأبناء الألوسي والزهاوي والرصافي

وقد اتفق للشنقيطي أن فند بعض الأحيان تفنيداً فلسفياً وبصريح العبارة، كلام الشيخ الهوريني وزيف أقواله، وبذات الوقت لم يوافق على رأى الشيخ العلامة حسين والي، ونحن نورد لك هنا نموذجاً مما قال، وقد عثرنا عليه نبهاً، وقد جاء ذلك في المخصص 178: 8

3 -

الآئب لا الآيب

ص: 22

(آئب، الصواب أن يكتب بالهمزة بعد المد على قاعدة إبدال عين فاعل، لمعتل فعله همزة، وهي قاعدة مطردة لم يستثن منها حرف واحد بالإجماع. وقد عد في المغنى من اللحن قول الفقهاء: (بايع) بالياء غير مهموز. ولا عبرة بما كتبه الشيخ نصر الهوريني في مطالعه، حيث ذكر في صحيفة 48 (من الطبعة الأولى وص 71 من الطبعة الثانية) حكم الهمزة المكسورة المصورة ياء، وقال هناك:(نعم، إذا كان قبلها ألف نحو آبل وآيس وآيب، تبدل ياء حقيقية بمقتضى القياس الصرفي في نظير ما قالوه في جمع ذؤابة على ذوائب، حيث لم يجمعوه على أصله ذائب. وقد ورد من حديث الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: آيبون تائبون عابدون. ولم يروه أحد بالهمزة) انتهى لفظه بحروفه وهذا كله خطأ مخالف للقياس والرواية، فلا يجوز التعويل عليه. ونحو ذوائب في جمع ذؤابة مما شذ عن القياس، والشاذ لا يقاس عليه. والدليل على صحة ما قلته من إثبات همزة آئب وتحقيقها قول النابغة:

تطاول حتى قلت ليس بمنقض

وليس الذي يرعى النجوم بآئب

وقول ابن زيابة:

يا لهف زيابة للحرث الصابح فالغانم فالآئب

وقول تأبط شراً:

فأبت إلى فهم وما كدتُ آئباً

وقول الأخنس بن شهاب:

تطير على أعجاز حوشٍ كأنها

جهام هراق ماؤهُ فهو آئب

ونحو هذا كثير مما أجمعوا على روايته بالهمزة فقط. وكتبه محققه محمد محمود لطف الله به. آمين.

إلى (آمين) هو كلام الشيخ الشنقيطي العلامة الأكبر، وهو في الوقت نفسه يرد على الشيخ حسين والي. وقد ورد كلامة مثل كلام الشيخ الهوريني في ص192 من الطبعة الثانية من كتاب الإملاء فلا حاجة لنا إلى نقله على غير جدوى.

4 -

رؤوس. يبدءوا. مشؤوم. شؤم. شأم

ص: 23

قال الحريري في درة الغوّاص، طبعة الجوائب في سنة 1299 في قسطنطينية في ص128

(فأما سؤول، ويؤوس، وشؤون، ومؤونة، وموؤودة، فالأحسن أن يكتبن بواوين، ومنهم من كتبها بواو واحد) اهـ ولم يقل وترسم مفردة أو على نبرة إذا لم يكن فصل ما بعدها عما قبلها كما في مشئوم، وكما قال حضرة أستاذي المحترم محمود البشبيشي

ومثل كلام الحريري، قال الشيخ الأجل الآلوسي في كتابه (كشف الطرة من الغرَّة في ص468)

فيؤخذ من كلام الحريري والآلوسي أن الهمزة إذا وقعت في قلب الكلمة، فإن كانت متحركة، كتبت على حرف علة يجانس حركة ما قبلها كما في رؤوس. وعليه تكتب (يبدءوا) على الألف لهذا السبب نفسه لأن حركة الدال فتحة.

أما مشؤوم فقد قال في التاج في مادة (ش أم): وشؤم عليهم ككرم ويَمن. . . ورجل مشؤوم، بالهمزة على مفعول، وكذلك يَمُنَ عليهم فهو ميمون. ومشؤم، كمقول والجمع مشائيم، نادر وحكمة السلامة. . .) والذي ورد مطبوعاً (مشؤم) وهي - ولاشك في النادر - من الناشر لا من المؤلف، لأن هذا يقول: بالهمزة على مفعول، وفي مفعول خمسة أحرف، فإذا كتبناها (مشؤم) كانت الأحرف أربعة، فظهر الخطأ من الطابع أو من الناشر، ولم يكتبها أحد من العلماء الثقات الإثبات (مشؤم على وزن مفعُل بضم العين، لأن هذا الوزن نادر في كلامهم وليس مشؤم منه.

فتكون القاعدة: إذا وقعت الهمزة متحركة في الوسط وسكن ما قبلها كتبت على حرف علة يجانس حركتها. ولما كانت حركة مشؤوم ضمة كتبت على الواو، وهي غير واو مفعول الملازمة له

أما إذا كانت الهمزة الواقعة في الوسط ساكنة فترسم على حرف علة يجانس حركة ما قبلها. فتكتب شؤم على الواو، وشأم على الألف، وبئس على الياء. وهذا كل ما يقال في رسم الهمزة الواقعة في الوسط

وقد تكلم الشيخ نصر الهوريني على الهمزة في كتابه المطالع النصرية في 44 صفحة، وبعد أن يتم القارئ الوقوف عليها، يقول في نفسه: هل عرفت كيفية رسم الهمزة؟ أما

ص: 24

الشيخ أحمد فارس الشدياق، فقد تكلم عليها وعلى مواطنها من الكلم في كتابه (غنية الطالب) المطبوع في قسطنطينية سنة 1289 في 13 سطراً لا غير. ونحن ننقل هنا نصه ليطلع عليه من لا يملك الكتاب. وهذه هي وقد جاءت في آخر ص31 وبلء 32:

(إن كانت الهمزة في الابتداء كتبت بصورة الألف دائماً نحو أنصر وأضرب وأكرم. وإن كانت متوسطة ساكنة كتبت بحرف يجانس حركة ما قبلها، نحو: يأس وبؤس وبئس. وإن كانت متحركة وما قبلها ساكن نحو: يسأل ويلؤم وييئس، لغة في ييأس بمعنى يقنط، أو كانت متحركة وما قبلها متحرك نحو سأل ولؤم وبئس

وإذا كانت متطرفة، فإن كان ما قبلها متحركاً كتبت بحرف حركته نحو: قرأ وقرئ وقمؤ. وإلا فتكتب من دون حرف، نحو وبلء وجزء

وإذا وقعت همزتان ثانيتهما ساكنة قلبت ألفاً لينة وكتبتا بصورة المد نحو: آمن أصله أأمن على وزن أفعل. وأهل الغرب يكتبون الهمزة منقطعة وبعدها ألف نحو ءامن. وكذلك إذا وقع بعد الهمزة ألف نحو: المآكل جمع مأكل

وإذا اجتمع همزتان متحركتان، جاز لك أن تفصل بينهما بألف نحو آأنت أم أُمْ سالم. أما ماضي مهموز اللام المثنى فيبقى كتبهُ بألفين نحو قرأا

وللهمزة أحكام كثيرة قد أختلف فيها أهل الرسم؛ ولو أنها رسمت من الأصل بصورة معلومة خاصة بها، لما نشأ من هذا الخلاف) انتهى كلام الشدياق

والسوريون المعاصرون، والعراقيون واللبنانيون جروا ويجرون على هذه القواعد المذكورة هنا، وهي أيضاً قواعد الحريري والخفاجي والآلوسي والشدياق، ولا يخالفونهم في شيء

وإذا كان ثم من يجاري كتاب وادي النيل، فهو لأنه تعلم في مدارس أبناء مضر من المصريين، وطالع أشعارهم فخالف بذلك أهالي وطنه وعلماءه، من عهد غير بعيد

والآن، وقد بسطنا كل ما يهم القارئ في هذا الموضوع فهل يستطيع الأستاذ البشبيشي أو غيره من العلماء أن يأتي لنا بنص صريح يرتقي إلى أربعمائة سنة أو تدوينها وفيه نلغي رسم الهمزة وحدها في حشو الكلمة في أي حال من الأحوال، ويكون النص لعالم ثبت ثقة يعتمد عليه. فإننا نتحداهم حاق التحدي!

يا سيدي الأستاذ البشبيشي، إننا نعلم العلم اليقين، أن أسلافنا العرب كانوا فلاسفة إجلاء في

ص: 25

سليقتهم، حتى في قواعدهم الصرفية، والنحوية واللغوية، فهي تتدفق منطقاً، وفلسفة، وحكمة؛ ونظن أن الذي حملهم على أن يرسموا الهمزة الواقعة في قلب الكلمة على حرف، هو أنهم شبهوها بحشو البطن، أو بقلب الإنسان. فكما أن الأحشاء لا تكون وحدها، بل تقع بين الصدر والطرفين، أي الرجلين، كذلك الهمزة لا تكون وحدها، بل تقع على ما يسندها بصدرها وطرفها

أفبعد هذه الفلسفة أو الحكمة العميقة، والواضحة لكل ذي عينين نيرتين من يدم أحكام العربية وقواعدها؟ - فإذا كان هناك من يفعل ذلك، فهو من الشعوبية وأعدى أعداء العرب كهتلر ومصوليني!

ونظن أن في هذا القدر في هذا الموضوع، مجزأة، بل مكرهة لكل قارئ. فالعفو يا سادتي الكرام، والمغفرة من شيم العرب الفخام!

(البقية في العدد القادم)

الأب أنستاس ماري الكرملي

من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ص: 26

‌المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الرابع عشر - الصناعة

ليتبين القارئ قيمة النقود في القاهرة أثناء السنوات الأخيرة أقدم فيما يلي قائمة أسعار بعض الأطعمة العادية أثناء زيارتي الثانية. ومنذ أن أصبحت مصر مرة ثانية طريق الهند ومجمع السائحين الذين زاد عددهم على السنوات السابقة، زادت أسعار السلع المختلفة زيادة عظيمة، وتقل الأسعار في مدن الأرياف وقراها عنها في العاصمة، فيكون سعر اللحم والطيور والحمام نصف الأسعار المذكورة هنا تقريباً، وسعر القمح والخبز يكون ثلثها أو نصفها:

فضة قرش

القمح: الأردب من 50 إلى. . 63

الأرز: (حوالي. . 240

الضأن: الرطل. . 1

لحم البقر: (35. .

الطيور: الواحد من قرش وعشرة فضة إلى20 1

الحمام: الزوج (((((20 1

البيض: الثلاث بيضات5. .

الزبد: الرطل. . 2

السمن: (من قرشين إلى 10 2

البن: (من ستة قروش إلى. . 7

ص: 27

التبغ الجبلي: الأقة من 15 قرشاً إلى. . 18

(السوري: من خمسة قروش إلى. . 10

السكر المصري المخروط: الرطل. . 2

السكر الأوربي: (10 2

العنب في موسمه: (10. .

العنب المتأخر: الرطل من 20 فضة إلى 30. .

البسكويت: القنطار. . 160

الماء: القربة من 10 فضة إلى 20. .

خشب الوقود: حمل الحمار. . 11

الفحم: الأقة من 20 فضة إلى 30. .

الصابون: الرطل30 1

الشمع المصنوع من الشحم: الأقة20 8

الشمع الجيد: (. . 25

وفي القاهرة أبنية عديدة تسمى الواحدة منها (وكالة) تخصص لإيواء التجار وخزن بضائعهم. والوكالة بناء يحيط بساحة مربعة أو مستطيلة، وتتكون طبقتها السفلى من مخازن مقببة للبضائع تواجه الساحة، وتستعمل أحياناً حوانيت. ويعلوا هذه المخازن مساكن يدخل إليها من رواق يمتد على طول جوانب الساحة الأربعة. وقد يعلو هذه المخازن بدلاً من المساكن مخازن أخرى. وتستعمل الغرف المعدة للسكنى في أكثر الوكالات مخازن ولا يكون للوكالة غير باب عام واحد يقفل ليلاً ويحرسه بواب، وفي القاهرة من هذا النوع حوالي مائتي وكالة. ويقع ثلاثة أرباعها في نطاق المدينة الأصلية

ذكرت قبلاً في مقدمة هذا الكتاب أن شوارع القاهرة الكبرى يقوم على جانبيها صفان من الدكاكين لا تتصل بالبناء الأعلى (شكل رقم 55) ويلاحظ ذلك في أكثر الشوارع الفرعية أيضاً. وتخصص الدكاكين عادة في الشارع الواحد بعضه أو كله لتجارة واحدة فيسمى السواق باسم هذه التجارة أو بأسم المسجد المقام هناك. ويطلقون على أقسام الشارع الرئيسي في هذه المدينة: (سوق النحاسين) أو (النحاسين) فقط لأنهم يسقطون عادة لفظة

ص: 28

(سوق) و (الجوهرية) و (الخردجية) و (الغورية) وهذا القسم الأخير بأسم المسجد المقام فيه؛ وهذه هي بعض أسواق المدينة المهمة. ويطلقون على السوق التركي الرئيسي: (خان الخليلي). ويغطون بعض الأسواق بحصر أو ألواح تحملها عوارض تمتد في الشارع أعلى الدكاكين قليلاً أو فوق المنازل

يتكون الدكان من كوة مربعة الشكل، أو حجرة صغيرة (شكل 56) ارتفاعها ست أقدام أو سبع تقريباً، وعرضها بين ثلاث أقدام وأربع. وقد يتألف الدكان من حجرتين تتقدم الواحدة الأخرى، وتستعمل الأخيرة مخزناً ويقام أمام الدكان مصطبة بالحجر أو الآجر يستوي سطحها بأرضية الدكان. وترتفع المصطبة عادة حوالي قدمين ونصف أو ثلاث أقدام، ويكون عرضها كارتفاعها. وتجهز واجهة الدكان بمصاريع ثلاثة سهلة الطي يعلو بعضها بعضاً، فيثني أعلاها إلى فوق ويطوي الآخران إلى أسفل فوق المصطبة، فتكون مقعداً مستوياً يفرش بالحصر أو بالبسط وبالوسائد أحياناً. وتستبدل بعض الدكاكين بالمصاريع السابق ذكرها أبواب منثنية. ويجلس التاجر غالباً على المصطبة ما لم يضطر إلى الانسحاب قليلاً داخل الدكان ليخلي المكان لمن يصعد إليه من حرفائه الذين يخلعون أحذيتهم قبل أن يطئوا الحصيرة أو البساط بأقدامهم. ويقدم التاجر الشبك إلى حرفائه الدائمين أو من يشتري بضاعة كثيرة إلا إذا كان هؤلاء يحملون شبكهم. ثم يرسل إلى أقرب مقهى في طلب القهوة التي تقدم في فناجين صغيرة من الخزف الصيني داخل ظروف من النحاس الأحمر. ولا يستطيع أكثر من شخصين أن يجلسوا براحة على مصطبة الدكان ما لم تكن هذه أوسع من المعتاد. غير أن بعض المصاطب تمتد إلى ثلاث أقدام أو أربع، فيكون عرض الدكان حينئذ خمس أقدام أو ستا، فيفسح المجال لأربعة أشخاص أو أكثر يجلسون الجلسة الشرقية. ويقيم التاجر صلاته على مصطبة على مرأى من المارة. وقد يترك التاجر دكانه وقتاً فيطلب من جاره أن يخفره له أو يعلق شبكة على بابه. ويندر أن يفكر التاجر في ضرورة إغلاق دكانه قبل الانصراف إلى منزله ليلاً أو الذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة. أما الغرف التي تعلو الدكاكين فقد وصفتها في مقدمة الكتاب

(يتبع)

ص: 29

عدلي طاهر نور

ص: 30

‌دفنتها بيدي!.

. .

للشاعر التركي عبد الحق حامد بك

أيتها العيون التي أمست ثقوباً! أيتها العظام الدائرة النخرة، انظري. . . انظري إلى جلال هذا التابوت الجميل المزهر. . . انظري ثم ارقدي بسكون حتى البعث. . . تحت لحافٍ من تراب في ظلمة القبر، وعدي هذا اليوم قيامةً صغرى!

الناس والدواب والطيور والأشجار والأحجار. . . كلها وشيكة البكاء من فرط الألم، والسحب القاتمة في حزنها العميق، تبكي تارة، وأخرى تتئر النظر الواله إلي في سكون موحش. إنها جميعاً تشاطرني لواعج الحزن بصمتٍ ناطقٍ مشوب بالذهول. . .!

يا ناشداً العبرة، كفكف العبر، وانظر في هذه الحفرة، تجد ثم جمال الوجود منظوماً في قصيدٍ من الحسن، تجده ممثلاً في صاحبة التابوت. . . لقد كانت أجمل من السماء الحالية بأملاكها. كانت أحلى من رحيق الأزاهر ورضابها، كانت أجمل من الطفولة في براءتها ونضارتها، ومن الملائكة في علائها وجلالها. كانت أجمل من الحور الكاسية بنور الإله في جنات النعيم.

يا لشعرها! كان أجمل من الشمس في شروقها، وهي ترسل شعاعها اللألاء من الورود والرياحين

يا لعيونها! كانت مرآة مجلوة للخيال الحالم.

يا لنظراتها الوادعة! كانت ينبوعاً للرحمة يتدفق منه ماء سائغ سلسبيل. . .

ولكنها الآن كأمواجٍ من جمد!

وبستان دلالها؟ لقد كان يموج بحلال من السحر والفتنة، ولكنه ذوي وتغشاه سكون رهيب ساخر!. . .

كان وجهها المزدان بهالة شعرها أجمل من البدر يتلمس السفور من فرج السحاب. . .

والأحزان التي تراءت على وجهها قبل أن تزهف نفسها إلى الموت، لكالشمس ساعة رؤيتنا لها تحتضر، في غروبها وراء أثباج من الموج. . .

كفى. . . . . .!

أرى القلم يئن من لذع الألم التأثر، وأحس المداد يبكيها وهو متشح بثوب الحداد. . .

ص: 31

مهلاً أيها القبر، هلا صنعتها بين أحضانك وأطبقت إطباق البحر المظلم على لؤلؤة بين أصدافه؟

وأنت يا أحجار القبر ويا أتربته، هل تَرَين الناس عليكٍ بُكاة كما بكوها؟. . .

ترى لمن كانت آمالُ مندثرة بين القبور، وآلام جمدت على صفحات الرموس. . .

حدثني بربك يا قبر، هل بكوا عليك بكاءهم عليها حين الممات؟. . .

ألا خبروني كيف انقلبَ البكاء الواله إلى سُكون وصمت، ثم إلى قبر مهجور، فأحجار بعثرها البلى وسط القبور. . . كم مكثت شريداً أيها القبر، يتراوح عليك صباح ومساء، بين هديل للحمام ونعيب للبوم؟!

احفظ العهد بإحسان ورفق

ألا فاشهدوا يا سكان القبور. . .

(حلوان)

ترجمة

محمد أمين نور الدين

المحامي

ص: 32

‌رسالة الشعر

يا ريح الشتاء!

(إلى الصديق الدكتور المبارك أهدي هذه العاصفة)

للأستاذ محمود الخفيف

اِعْصِفِي يَا رِيحَ الَّشتاءِ اعْصفِي

مِلَْء سَمْعِي وَنَاضِري

اِصْفِري يَا ريحُ اصْفرِي واعْنُفيِ

مَثِّلي مَا بخَاطِرِي

صَرْصِري، ثم صَرْصِري وَصفِي

بَيْنَ جَنْبَيَّ ثوَرَة الثَّاِئرِ!

اِعْصِفِي يَا رِيحَ لَا تَسْكنُي

أْرِعِشي كلَّ جَانِب

اِغضَبِي يَا رِيحَ اِغضَبِي إنَّني

عَاشِقٌ كلَّ غَاضِبِ

أمعنِي. . . هيه. . . أمْعنِي، أمْعنِي

عَلِّمينِي مِنْ لَحِنِك الصَّاخِبِ

عَفِّرِي، عَفِّرِي هنا، عَفِّرِي

وَعَلى الُبْعِد عَفِّرِي

غَبِّرِي الَجْوَّ غَبِّرِي

رَاقَ ليِ أنْ تُغَبِّري

كلَّ صفْوٍ ذَكَرْتُهُ عَكِّرِي

كلَّ ضَعْفٍ أوْدِي بِهِ أقْبِرِي

ياَ رِيَاَح الشِّتاءِ لَا تَهْدَئِي

إِيهِ يَا رِيحُ دَمْدِمِي

عَجِّليِ بالصَّفِير لَا تُبْطئِي

يَا لهُ مِنْ مُعَلمِ!

الأَهَازِيجُ عِفْتُها فَادْرَإِي

سأماً بَاتَ طُولهُ مُسْقِمي

أقْبِلي يَا رِيَاحَ ذَارَيةً

أينمَا سِرْتِ عَاصِفَةْ

أنسُ رُوحِي إِنْ لْحتِ آتيَةً

أنْ أرَى الأَرَضَ رَاجِفةْ

ليتَ رُوحاً ليِ مِنْكِ عَاِتَية

لَيْتَ صَوتاً كالرَّعْدَةِ القاَصِفةْ

زَلْزِلي كلَّ سَاكِنٍ ناَعسِ

وَاحْطِمِي كلَّ جَاِمِد

واكْنُسي كلَّ يَابسٍ دَارِسِ

عَاقِر العُودِ فاَسِدِ

واسْلُكي بَعْد مَسْلكَ الغاَرِسِ

لا يُبَالي أيَّ امرئ حَاصِدِ

دَوِّخي الدَّوْحَ دَوِّخي وَابْعَثي

بالأَعاصِيِر عَاتَيهْ

يَتَراقَصْنَ خِفيةً فاعبَثِي

بِعَمَاليقَ راسِيهْ

ص: 33

حَدِّثِيِني فِما أرَى حَدِّثي

عنْ مَعَانٍ في مُهْجِتي ثاَويهْ

كلَّ لاهٍ أوْ مُبْصرٍ ذكِّرى

كمْ لَهُ فِيكِ تذْكِرَهْ

سَيْطِري لَا تُغَادري سَيْطري

لكِ روَحٌ مُسَيْطرةْ

ألْهَمَتني في عَصْفِها أسْطُرِي

غْيَر مَعْنًى أمْسكْتُ أنْ أذْكُرَهْ

الخفيف

ص: 34

‌تحية (الرسالة)

للأديب عمر حافظ شريف

أشاهد من نور السنا ما أشاهدُ

فأسأل خلي ما عسى أنت واجد

أذاك شعاع للرسالة أم ترى

بدا للورى صرح من النور خالد

تمر بها الأيام يسمو مكانها

وتسعى إلى غاياتها وتجاهد

كحكم ابن يعقوب لها النصر مرشد

تطالعها الأعوام عشرٌ وواحد

كواكب سعد حالفتها وأقبلت

تناصرها والكل للنور ساجد

أضاءت محاريب البيان بسحرها

فحازت مكاناً تبتغيه الفراقد

هي السحر والنبراس تبدي لنا الهدى

بآياتها للقلب والعقل قائد

فسيري يواليك الكمال إلى العلا

لك الشعر وشيٌ والمعاني قلائد

عمر حافظ شريف

ص: 35

‌البريد الأدبي

التوأمان

قيض لي أن أزور توأمين ذكرين في العشرين من العمر متماثلين من جهة الصورة والأخلاق والوجدان والذكاء.

ومن طريف ما يذكر أن الأم تعرف أول من رأى منهما النور، وقد أخبرتني أن ولادتهما كانت يسيرة وأن الفرق بين عمريهما خمس دقائق.

مات أبوهما منذ بضع سنوات وقامت بأودهما أختهما التي تكبرهما بنحو خمس سنوات. وتحدب أمهما عليهما وتعاملهما على قدم المساواة. وقد علمت أنهما نشآ في بيئة واحدة وعاشا في ظل ظروف واحدة. وما زالا يتعلمان حرفة واحدة هي البرادة.

والعجيب أنهما يخطئان في نفس المسائل التي يطلب إليهما حلها. وقد اتفق أن رسب أحدهما في الامتحان لمرضه بينما نجح الآخر، ولعدم معرفة تميز أحدهما من الآخر في المدرسة أعيد امتحان الناجح منهما على اعتبار أنه الراسب فنجح للمرة الثانية في نفس السنة.

قالت لي أمهما: إنهما عندما كانا رضيعين كانا يستيقضان في نفس الوقت تقريباً أثناء الليل فترضعهما معاً.

ومما ذكرته لي أختهما: أن أحدهما حضر على عجل إلى المنزل فلم يجد أخاه فترك المنزل حالاً بحثاً عن أخيه، وفي هذه الأثناء حضر أخوه باحثاً عنه فلم يجده فترك المنزل على الفور، وتكرر هذا الأمر مرات عديدة إذ لم يملك أحدهما الصبر لينتظر أخاه ريثما يحضر.

وعلى الرغم من أن هذين التوأمين يحب أحدهما الآخر حباً جماً، فقد انتابت أحدهما نوبة هستيرية دلت على ما يخالج عقله الباطن من الغيرة الشديدة من أخيه. وفي هذه النوبة فقد قوة معرفته لأفراد العائلة، ولكن أول عمل قام به أثناء هذه النوبة ضربه أخاه ضرباً مبرحاً وهو لا يدري أنه أخوه، ولكن عقله الباطن كان بذلك بصيراً، على أن عقل أخيه الباطن لم يكن خالياً من هذه العقدة فكان لا بد لهذه العقدة من أن تعبر عن نفسها على الصورة التي عبرت بها عقدة الأخ المريض.

وقد أمكن بالتحليل النفسي شفاء المريض وإنقاذ الأخ من الاستسلام لنوبة هستيرية مماثلة.

ص: 36

محمد حسني ولاية

طبيب بصحة بلدية الإسكندرية

قصيدة حافظ النونية

. . . قال صديقنا الدكتور زكي مبارك في العدد السابق من الرسالة: (ونحن في مقام التأريخ وهو مقام يوجب الصدق. فلينظر المتسابقون في ص87 بالجزء الثاني من ديوان حافظ، ليروا أن قصيدته التي نظمها عن مظاهرة السيدات في سنة 1919 لم تنشر إلا في سنة 1929، ومعنى ذلك أنها كتمت نحو عشر سنوات) ثم قال مخاطباً الطلبة: (أتريدون الحق؟ لقد نسبت تلك القصيدة في ذلك الوقت إلى جماعة من الشعراء منهم الأستاذ محمد الهراوي، ولم ير حافظ أن يصحح النسب لئلا يقال أو يقال!)

والحقيقة التي أعرفها عن هذه القصيدة بالذات هي ما يأتي:

كنت في مجلس من مجالس السياسة والأدب، ولم تكن المجالس على أنواعها في ذلك العام السعيد سوى مجالس للثورة والحياة، وإذا بالمرحوم سليم سركيس مقبل علينا بوجه مشرق ولهفة بادية المعاني وقال: أخبار اليوم هي أخبار حافظ، ومد يده إلى جيبه فأخرج منها ورقات وأخذ يتلو علينا القصيدة النووية التي نحن في صددها، ومطلعها:

خرج الغواني يحتججن

ورحت أرقب جمعهن

نسخت القصيدة، وهي بخط المرحوم حافظ إبراهيم وبعثت بها إلى الصحف السورية التي كنت أراسلها آنذاك، وقد نشرها المرحوم سركيس بمجلته المعروفة باسمه

فلا يعقل والحالة كما ذكرت أن تنسب تلك القصيدة إلى غير ناظمها، وقد سمعته ينشدها في أحد المجالس، ولا أن يقال إنها كتمت عشر سنوات.

حبيب الزحلاوي

إجابة

الكيك والكيكة في اللسان العربي مثل البيض والبيضة وزناً ومعنىً، ولهذا أرى أن منه المأكول المعروف الذي يقال له (كيك)

ص: 37

طلاء - بالضم - الزكام

(وحيد)

أصدقاء. . .!

قيل إنني كتبت كلمة في مجلة الثقافة أحد بها من استطراد الباحثين في (لغوية) شغلت أذهان رهط من فضلاء الباحثين عدة أسابيع، متعلياً بهم أن يجرهم التحمس لآرائهم في هذه الهاجسة إلى المنابذة. وقيل إن الكلمة كانت غذاء متخماً لشهوة الخلاف، حين التهمها الاستغلال الصحفي (لقاف الثقافة) الأستاذ محمد سعيد العريان، فخدش أمانة القلم فيها. . . وعرضها بالطريقة التي كان من آثارها أن يرمد شعور الصداقة بيني وبين صديقي الكاتب البليغ الأستاذ (محمود شاكر) حتى خدزته شائعة الألم؛ فقال في كلمته بالعدد الماضي من الرسالة (عقل المرء مخبوء تحت لسانه) وأورد بيتاً من الشعر خانه ترويض غضبه به. . . وما لي بهذا شأن فهو انتقال من موضوع واضح إلى غبار مجرد لا أجيد التطارح به ولا سيما مع من له في رأيي ونفسي ما لمحمود شاكر

وأنا أقول إني عند رأيي في فكرة الموضوع، على غير قصد شائك لحضرات الأدباء الذين ورد ذكرهم. أما صداقتي بالأستاذ شاكر فهي اعتي من أن يوهنها نمل الصحافة، أو يسكر بصدعها (قاف الثقافة). . .!

محمود إسماعيل

إلى الأستاذ عبد المتعال الصعيدي

تعجبني أفكارك يا سيدي، ويسرني منهاجك المستقيم في البحث والنقاش؛ ولكني لم أستسغ أن تتهمني في كلمتك الأخيرة على غير أساس، بتهمة وجهتها إليك على أساس. . .

كنت قد قلتُ إنك تشايع بعض المستشرقين القائلين بنزول القرآن بمعانيه دون ألفاظه، حين تزعم أن الرسول عليه الصلوات كان ممن يبدلون لفظاً بلفظ آخر يغايره في معناه، لمجرد التشابه بين حروف اللفظيين والتباسهما على القارئ بطريق ما. وقد جعلت هذا دون غيره أساساً لتهمتي؛ ولم أضف إليه وقتذاك ما زعمته أيضاً في كلمتك من أن هذا التبديل كان من

ص: 38

حق كل مسلم عربي دون رجوع فيه إلى الرسول حين (يكون بعيداً عنه فيتعذر رجوعه إليه. . . ثقة بملكة العربي في ذلك الوقت)!

وهذا نص تعبيرٍ لك لم أرد أن ألح عليك بالإشارة إليه ثقةً مني بأن صدوره لم يكن إلا نتيجة سرعة تحريرك، وسبق قلمك لمجرى تفكيرك، ولكنك تأبى يا سيدي وقد تبرأت من تهمة الأخذ برأي أولئك المستشرقين - في غير حجاج مقنع - إلا أن تعود فتنسبها إلي، لأني كما تزعم (حملت كل مالا يدخل من القراءات في باب اختلاف اللهجات على التصحيف، ولم أفرق في ذلك بين قراءات شاذة ومتواترة). وأنت تعرف أني لم أزد في كلامي عن هذا التصحيف على ما أورده السيوطي؛ بل لقد أتيت بما يشكك في قوله حين ذكرت أن صاحب الكشاف مع أكثر المفسرين يعتبرون هذا النوع من الكلام قراءة صحيحة لا تصحيفاً

فما كان أجراك يا سيدي وقد نفيت التهمة عن نفسك ألا تعود فتلصقها بمن لوح إليك بها في تأدب مع إقناع، لأن من دأب الفضلاء وأنت أحدهم، أن يميطوا الأذى عن طريقهم - إذا شاءوا - لا ليطرحوه مرة أخرى في طريق الناس.

ولك أزكى تحياتي واحترامي

(جرجا)

محمود عزت عرفة

تاريخ وفاة ياقوت

أورد الأستاذ البحاث محمود عزت عرفة في العدد 494 من مجلة (الرسالة) شبهة في تاريخ وفاة ياقوت الرومي الحموي. والذي يبدو أن وفاته كانت سنة 626 كما أجمع عليه المترجمون له؛ وأما الجملة المقحمة في النسخ المطبوعة من معجمه أثناء كلامه عن الحسن بن الباقلاني، وهي (لقيته ببغداد سنة 637. . .) فالراجح أنها كانت مزيدة في الهامش من صاحب النسخة الأصلية المخطوطة، أو من أحد المطالعين فيها، ثم أدرجها النساخ في الكتاب، كما يقع كذلك كثيراً ولا سيما في كتب التاريخ، فترى نظائره في تاريخ بغداد للخطيب ووفيات الأعيان وفوات الوفيات وحسن المحاضرة وغيرها، فإن فيها وفيات أناس

ص: 39

ماتوا بعد المؤلف. وقد أصاب الأستاذ عرفة في الإشارة إلى ما يؤيد أن يكون ذلك مقحماً في المعجم بعد وفاة ياقوت

فنرجو الدكتور أحمد فريد بك رفاعي ناشر المعجم أن يكون محققاً فيما ينشره من آثار السلف.

محمد غسان

غلطة تاريخية

قال الدكتور زكي مبارك في مقالته عن الشوقيات أثناء الكلام عن قصيدة (النيل) ما نصه:

. . . ولم يفته أن ينص على عدالة عمرو بن العاص الذي ضرب ابنه بالسوط حين سمع أنه أهان أحد الأقباط وقال في ذلك كلمته التاريخية: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً

فعزا هذا الضرب إلى عمرو بن العاص مع أن الضارب هو مصري ضرب أبن عمرو بأمر الخليفة عمر، وأسند الكلمة التاريخية إليه مع أن المعروف أن القائل هو عمر الفاروق. أنظر الصفحة الثانية من الجزء الثاني من كتاب (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة)

وهبي الحاج إسماعيل حقي

مجلة الانتصار

استقبلت زميلتنا (الأنصار) عامها الهجري الثالث فصدرت في أول المحرم حافلة بالأبحاث القيمة والموضوعات الجديدة، متقدمة إلى القراء بأسلوبها الخاص في خدمة الفكرة العربية والثقافة الإسلامية، معتمدة في تناول الثقافة العصرية على أساس البحث العلمي. والعدد الجديد الذي قرأناه من الأنصار يدل على تقدمها خطوة واسعة في سبيل فكرتها فنتمنى لها النجاح والتوفيق.

المفضليات

تناولت كتاب المفضليات للرضى الذي خرج أخيراً للناس بتحقيق وشرح الأستاذين الشيخ

ص: 40

أحمد محمد شاكر والسيد عبد السلام محمد هارون، وكنت أظن أني سأجده لا يمتاز من طبعته الأولى إلا ببعض شروح وتحقيقات، ولن ما كدت أقرأه فاتحته حتى رأيتني أمام عمل جليل يستأهل النظر فيه، ويستوجب الإقبال عليه، ذلك أني وجدت الشارحين قد صحت نيتهما على نشر نفائس الشعر العربي في العصور الأولى وما بعدها، وذلك لأن هذا الشعر (ديوان العرب وترجمان أفكارهم وعنوان مفاخرهم ورافع ألوية عظمتهم، ثم هو المرآة الصادقة لحياتهم) ورأيا أن يبدأ بنشر كتب الأئمة المتقدمين التي اختاروا فيها عيون الشعر ومحاسنه

فهذه المفضليات التي ظهرت اليوم إن هي إلا حلقة من تلك السلسلة الذهبية التي سينشرونها من نفيس الشعر؛ وهذا ولا ريب عمل جليل طالما تمنيناه وعدنا إليه. ولو أنك قرأت هذا الكتاب لوجدت فيه بحثاُ قيماً عن أصل المفضليات وتاريخها لا تجد مثله في كتاب آخر

ومما انفرد به شرح هذا الكتاب أنه قد اشتمل على أمرين لم نجدهما في شروح كتب الأدب قبل اليوم أولهما (التخريج) وثانيهما (جو القصيدة) وهذان الأمران قد جاءا من طريقة المحدثين إذ التخريج عندهم هو بيان الكتب التي تخرج الحديث الديني يبين ما فيه من معنى وما كان له من سبب

ولا نطل الكلام عن هذا الشرح وما فيه من الفوائد الجزيلة في اللغة والصرف والنحو والبلاغة وما إلى ذلك، وبحسبنا أن نقول إنه بمثل هذا الشرح الذي أخذ نصيبه من التحميص والتحقيق والاستيعاب يجب أن ينشر تراثنا القديم، حتى يؤدي في هذا العصر ما كان يؤديه شيوخ الرواية من قبل بعد أن أصبحنا ولا سبيل لأخذ اللغة وآدابها إلا من الكتب

وأنا نرجو أن يوفق الله الشارحين في عملهما حتى يخرجاه في أجمل صورة وأكمل وجه.

(المنصورة)

محمود أبو ريه

ص: 41