الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 498
- بتاريخ: 18 - 01 - 1943
5 - دفاع عن البلاغ
آلة البلاغة
آفة الفن الكتابي أن يتعاطاه من لم يتهيأ له بطبعه ولم يستعن عليه بأداته. وأكثر المزاولين اليوم لصناعة القلم متطفلون عليها، أغراهم بها رخص المداد وسهولة النشر وإغضاء النقد، فأقبلوا يتملقون بها الشهرة، أو يُزَجون بها الفراغ، أو يطلبون من ورائها العيش، وكل جَهازهم لها ثقافة ضحْلة وقريحة مَحْلة ومحاكاة رقيعة؛ ومن هنا شاع المبتذل وندر الحر، ونفق الرخيص وكسد الغالي، وكثر الكَّتاب وقلت الكتابة
وادعاء الكتابة داء لا ينتشر إلى حين تضعف السلائق وتفسد الأذواق وتطغى العامية، فيصبح التفيهق علماً، والشعوذة فنّاً، والثرثرة بلاغة، واللحن تجديداً، والركاكة رقة. وفي مثل هذه الحال قال صاحب المثل السائر:(ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طامعاً في هذا الفن مدعياً له على خلوه من تحصيل آلاته وأسبابه. ولا أرى أحداً يطمع في فن من الفنون غيره ولا يدعيه. هذا وهو بحر لا ساحل له، يحتاج صاحبه إلى تحصيل علوم كثيرة حتى ينتهي إليه ويحتوي عليه. فسبحان الله! هل يدعي بعض هؤلاء أنه فقيه أو طبيب أو حاسب أو غير ذلك من غير أن يحصل آلات ذلك ويتقن معرفتها؟ فإذا كان العلم الواحد من هذه العلوم الذي يمكن تحصيله في سنة أو سنتين من الزمان لا يدعيه أحد من هؤلاء، فكيف يجيء إلى فن الكتابة وهو ما لا تحصل معرفته إلا في سنين كثيرة فيدعيه وهو جاهل؟)
وعجبُ ابن الأثير لن ينقضي حتى يعتدل الزمان بأهل العربية فتنضح الحدود، وتستقيم الموازين، وتصح الأقيسة، فلا يتدخل أعجمي في نسب آل البيت، ولا يجري حمارٌ في حَلبة الكميت!
أما بعد فإن آلة البلاغة الطبع الموهوب والعلم المكتسب. والمراد بالطبع ملّكات النفس الأربع التي لابد من وجودها في البليغ، ولا حيلة في إيجادها لغير الخالق. وهي الذهن الثاقب، والخيال الخصب، والعاطفة القوية، والأذن الموسيقية. فإن كنت على يقين جازم من وجود هذه الملكات في نفسك فامض على ضوئها في طلب هذا الفن فإنك لا محالة واصل.
وسألقي عليك بعض الأسئلة لتعلم من أجوبتك عنها إن كنت موهوباً أو غير موهوب:
هل يتأثر خيالك في يسر ويتحرك فؤادك في سهولة، ثم يكون بين الخيال والقلب تجاوب سريع؟ هل تجد لأذنك الحساسية الرهيفة لانسجام الألفاظ وازدواج الفِقر وإيقاع التراكيب؟ هل يملك مشاعرك جمال البلاغة في روائع الشعر والنثر؟ هل تحس في نفسك السمو إذا حَمَّسها الاطلاع على النماذج الرفيعة من البلاغة فتتحرك للمنافسة والمباراة؟ هل تشعر حين يتجه فكرك إلى موضوعٍ ما أن فكرته الجوهرية الأولية لا تلبث في ذهنك أن تحيا وتنمو، ثم تتشكل وتتلون، ثم تتوالد وتنتشر؟ هل تشعر بالحاجة الملحة والتوَقان الشديد إلى الإنتاج الناشئ عن فيض القريحة وحرارة الفكر؟ هل يسهل عليك إدراك العلاقة بين الأفكار المجردة والموضوعات المحسَّة فتخرجها في الصور المقبولة والألوان المناسبة؟ هل تتمثل المعاني في ذهنك من تلقاء نفسها على أفضل الوجوه الصالحة للتعبير والتصوير؟ هل تحس حين تفكر في موضوع شعري أن العواطف تنثال على نفسك ثم تتزاحم وتتدافع طالبة الانبثاق والتدفق؟
إن كانت أجوبتك عن هذه الأسئلة بنعم، فتعال ننظر معاً في الآلة الأخرى للبلاغة فإنه لا مندوحة لك عنها إذا شئت أن تستغل ما وهبك الله من قريحة خصبة وملكة مواتية
آلة البلاغة الأخرى هي العلم بمعناه الأعم، أو المعرفة بمدلولها الأشمل. فالكاتب، إذا كان ناقص العلم أو قليل الإطلاع، يدركه الجفاف والنضوب فلا يكون في آخر أمره إلا سارد ألفاظ ومقطّع جمل. ذلك أن معارف الكاتب هي منابع إنتاجه. وألوان المعرفة له كألوان التصوير للمصور يجب أن تكون كلها على اللوحة قبل أن يقبض على الريشة. والمعارف لا تستفاد إلا بمواصلة الدرس وإدمان القراءة.
وأقل ما يجب على طالب البلاغة درسه، هو اللغة والطبيعة، والنفس
أما اللغة فلأنها أداة القول والكتابة. وللثقافة العامة منها قدر مشترك يجب تحصيله على كل مثقف؛ ولكن الكاتب أو الشاعر محتوم عليه أن يدرسها دراسة خاصة: يتضلع من مادتها، ويتعمق في فقهها، ويتبسط في أدبها، ويحيط بعلومها، ويوغل ما استطاع في استبطان أسرارها، واستقراء أطوارها، حتى تكون للسانة وقلمه أطوع من الشمع ليد المثّال الماهر. ومن زعم أن النحو والعروض وسائر علوم اللسان لا ينبغي حذقها لغير الأزهريين فهو
هازل لا يريد أن يكون شيئاً مذكوراً في هذا الفن
ولكل لغة من اللغات المتمدنة عبقرية تستكنّ في طرق الأداء وتنوع الصور وتلاؤم الألفاظ؛ وهذه العبقرية لا تدرَك إلا بالذوق؛ والذوق لا يُعَلَّم، وإنما يكتسب بمخالطة الصفوة المختارة من رجال الأدب، ومطالعة الروائع العالمية لعباقرة الفن. واطلاع الكاتب على النماذج الرفيعة من البيان الخالد يرهف ذوقه، ويوسع أُفقه، ويريِه كيف تؤدى المعاني الدقيقة، وتحيي الكلمات الميتة
ولقد علمتَ أن الجاحظ والبديع والخوارزمي في الكتّاب، وأبا نواس وأبا تمام وأبا العلاء في الشعراء، كانوا مضرب المثل في كثرة القراءة وسعة الحفظ. وكان فلويير لا يقع في يده كتاب إلا استوعبه. ولم يعالج روسو الكتابة إلا بعد أن حفظ مونتيني وبلوتارك. وبوسويه كان يحمل على ظهر قلبه التوراة وأحاديث الرسل ومواعظ الأحبار. وقد اعترف شاتوبريان بأنه كان يدمن قراءة برنار دي سان بيير. فإذا كان هؤلاء العباقرة قد رأوا أن الاستمرار على دراسة الروائع الأدبية ضروري لضمان الخلود، فإنه ولا ريب يكون لذوي القرائح الناشئة ضرورياً لاستكمال الوجود
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
الثالوث الجامعي!
للدكتور زكي مبارك
هذا العنوان من ابتداع الأديب حسين فهمي صادق، وقد نَصّ في خطابه على أنه يَعني به الأزهر وجامعتي فؤاد وفاروق، وهو يسأل عن جوهر الحياة العلمية والأدبية في هذه الجامعات الثلاث، ويطلب أن (تُظهِر شيئاً يعلن عن نفسه على رءوس الأشهاد)
ومن قبل هذا الخطاب قرأت في مجلة الصباح مقالاً يسألني فيه الأستاذ عبد الحليم عبد البر عما صنع الأزهر وما صنعت دار العلوم في تخريج الأدباء، وكان من رأيه أن دار العلوم لم تخرج في ستين سنة ستين أديباً وأن الأزهر لم يخرج في ألف سنة ألف أديب (؟!)
وأقول إن الفكرة الجامعية لم تُشرح في مصر على الوجه الصحيح، ففي مصر أقوامٌ يتوهمون أن محصول الجامعة هو محصول مدرسيها في النواحي العلمية والأدبية، وهذا خطأ، لأن أساتذة الجامعات لهم صفةٌ غير صفة التأليف، هم يوجّهون ولا يُبدعون، إلا أن يكون فيهم رجالٌ مفطورون على الإبداع
الأستاذ في الجامعة لا يطاَلب بالمساهمة العلنية في نشر الثقافة العلمية والأدبية، وإنما يُسأل عن الصدق في توجيه الطلاب إلى فهم دقائق العلم الذي تخصص فيه، ومن حقه أن يتَسم بالخمول على أنه تشريف، ومن واجب الدولة أن تثيبه عليه، حين يصح عندها أنه خمول لا خمود
الأستاذ في الجامعة مسئول عن رعاية الأستاذية، والأستاذية نشأت في جوّ الرهبانية، فما يجوز له ما يجوز لسائر الرجال من مسايرة المجتمع في جميع الأحوال، إلا أن يكون فيلسوفاً يأخذ مادته الفلسفية من درس الأحلام والأهواء والأضاليل، وهذا نموذج لا يوجد في كل يوم، وإنما تُبدعه الأقدار من حين إلى أحايين
لأساتذة الجامعة واجبات نرجو أن يعرفها تلاميذهم على النحو الذي نريد، وتلك الواجبات ترجع في جملتها إلى خصيصة أساسية، هي الفناء المطلق في الدرس والبحث والتنقيب، ولو انتهى الأمر إلى أن يعيشوا مجهولين
فإن لم يكن بدٌّ من أن تتعرف الجامعة إلى الجمهور فذلك واجب الخِرّيجين، لا واجب المدرسين. وإليكم الشواهد الآتية:
1 -
نشاط كلية الحقوق لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من القضاة والمحامين، وهؤلاء هم البرهان على قوتها الذاتية
2 -
نشاط كلية الآداب لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من المؤلفين والمترجمين والمدرسين والمفكرين، وهؤلاء هم البرهان على قوتها الذاتية
3 -
نشاط كلية الهندسة لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من كبار المهندسين، وإليهم يرجع الفضل في شؤون تفوق الإحصاء
4 -
نشاط كلية الطب لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من أطباء لهم مركز ممتاز في مصر والشرق
5 -
نشاط كلية الزراعة لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل في خريجيها النوابغ، وقد أدوا خدمات جديرة بالثناء
6 -
نشاط الأزهر لا يمثله أساتذة الأزهر، وإنما تمثله تلك الجيوش التي أخرجها الأزهر من وّعاظ وأساتذة وقضاة وباحثين
7 -
نشاط دار العلوم لا يمثله أساتذة دار العلوم، وإنما يمثله المدرسون الذين أنجبتهم دار العلوم، ولهم في كل بلدة مصرية صوت
وعلى هذا يُقاس، فالأساتذة يوجّهون ولا يُبدعون، وأنا أرى أن المعاهد المصرية أدّت واجبها خير الأداء، فهي جديرة بالتبجيل.
هذا هو الرأي في تقدير الذاتية الجامعية من ناحية الصلة الخارجية، ولكني مع ذلك أرى من الواجب أن أرجع إلى هذا الرأي بشيء من التعديل فأقول:
يبدو لي أن ابتعاد الأساتذة عن المشاركة في الجانب العلني من الحياة العلمية والأدبية يعرّضهم لخطرين، فهو أولاً يهوّن أقدارهم في أنفس الطلاب، وهو ثانياً يضيع عليهم فوائد كثيرة، فوائد تخلقها مواجهة المجتمع في موجاته النفسانية والروحانية
والذي يعرف شيئاً من أحوال الشبان يلاحظ أن استفادتهم مما يقرءون تفوق استفادتهم ما يسمعون، فهم تلاميذ للكتاب والمؤلفين قبل أن يكونوا تلاميذ لأساتذة الكليات. وهذه الظاهرة لا تحتاج إلى توضيح
وإذن يجب على أساتذة الجامعة أن يخلقوا لأنفسهم جواً خارجياً يساعد على تجديد الهواء
في جو الكليات، ويشعر الطلبة بأن لأساتذتهم قدرة على فهم ما في المجتمع من آلام وآمال، ويبدد الشبهة التي تزعم أن الأساتذة يعيشون في زمانهم غرباء
والحق أن الأدب الذي يقف عند درس الكتب وتحقيق الأسانيد هو (أدب الجماجم) لا أدب الأرواح
والنصوص القديمة لا تفهم جيداً إلا إذا عولجت بالروح الجديد، وقد كان أستاذنا برونو يوصينا بأن نتسمّع لما يدور من المحاورات في قهوات باريس، عسانا نستفيد شيئاً ن المرونة التي يبدعها الحوار الخالي من شوائب التكلف والافتعال
والحق أيضاً أن الرهبانية التي حاصرت حياة الأستاذية لم يبق لها في هذا العصر مكان، فهي تزمتٌ موروث عن عصور الرياء، وهي الثوب الذي يدارى الهزال عند بعض المهازيل
هل تعرفون السبب في ضعف الفكرة التشريعية عند مدرسي القوانين في هذا الجيل؟
يرجع السبب إلى أن أكثر أولئك المدرسين لم تكتو أيديهم بنيران المعاملات، فلم يعرفوا احتياج التشريع إلى التجديد الموصول
وسيأتي يومٌ نعرف فيه أن تدريس القوانين يجب أن يوكل إلى قدماء المحامين، لأن صلتهم بما في المجتمع من متاعب ومصاعب تبّصرهم بما يعتور الفكرة التشريعية من عقابيل
وما يقال في أساتذة الحقوق يقال في أساتذة الآداب
فأستاذ الأدب يجب أن يكون أديباً بالقول والفعل، أديباً مبدعاً لا أديباً مدرساً، أديباً من رجال الصناعتين: صناعة الشعر وصناعة الكتابة
بين الكلمة والكلمة صلات لا يدركها إلا من عانى المكاره التي يوجبها ضم كلمة في الحدود التي يوجبها روح البيان
الكلمة في المعجم غير الكلمة في الجملة؛ هي في المعجم سمكة محنَّطة، وهي في الجملة سمكة حية، وبين موت الكلمة وحياتها برزخٌ لا يَعبُره إلا من يملك إنقاذها من الموت، وهو الأديب الفنّان
ومن مقاتل الأستاذية في الأدب لهذا العهد أن بعض الأساتذة لا يلتفتون لا يلتفتون إلى الوشائج الأصيلة بين الأدب وسائر العلوم والفنون، مع أن أسلافنا نصوا على هذه الوشائج
منذ أجيال وأجيال
كل ما في الوجود مواد أساسية لعقل الأديب، وروح الأديب. هو مسئول عن فهم جميع الحقائق بقدر ما يستطيع، وفي حدود ما يطيق
فهل ترون أستاذ الأدب يقل في المسئولية عن الأديب؟
آفة الأستاذية في هذا العصر أنها صارت وظيفة، وجّو الوظائف عجيبٌ غريب. ألم تسمعوا أن رجالاً تركوا كراسّيهم في الجامعة ليظفروا بوظائف ضخمة الرواتب؟
الغرض من هذا الكلام هو توجيه أساتذة الأدب إلى فهم واجباتهم الحقيقية، وأنا أحذِّرهم عواقب ما اطمأنوا إليه من الرضا بزخرف الحياة الجامعية، فزمام التوجيه الأدبي كاد يضيع من أيديهم، إن لم يكن ضاع
كان في مصر قتال بين الأفندية والمشايخ، وكان المفهوم أن الأفندية رجال الدنيا وأن المشايخ رجال الدين
ثم دار الزمن دورته فأصبح كتاب المباحث الإسلامية رجالاً مطربشين، أشهرهم فريد وجدي ومحمد هيكل وعباس العقاد
وإن طال سبات رجال الأدب من أهل (الثالوث الجامعي) فستكون لهم مصاير لا يعلمها غير علام الغيوب
أذهان الطلاب في الجامعات الثلاث محتلة بأفكار وآراء لم تصدر عن تلك الجامعات، فمن يمنّ على هؤلاء الطلاب بنعمة الاستقلال؟
من يدري؟
لعل الخيرة فيما اختاره الله! ولعل الله أراد أن تكون وظيفة الأدب وظيفة روحية لا رسمية! ولعل الله أراد لطلبة الجامعات خيراً مما نريد، فأباحهم ما في الحدائق الخصوصية والعمومية من أزهار وثمرات
من يدري؟ من يدري؟
الهواء الطلق هو الأصل، وهل تنفَّس سقراط وأفلاطون في كلية لها جدران وأبواب؟
الحرية الروحية والعقلية هي أساس العبقرية، ولا حياة لأدب لا يتمتع بحرية العقل والروح
لم تقبل جامعة باريس أن يكون جوستاف لوبون أستاذاً للفلسفة بالسوربون، لأنه دكتور في
الطب لا في الآداب، فهل أنصفت جامعة باريس؟
وهل كان أستاذنا فلان الذي أضحكني مضغه للألفاظ اليونانية الميتة أعرف بدقائق الفلسفة من جوستاف لوبون؟
كان أستاذنا ذاك مقبول الرأي في أكثر ما يقول، إلا حين يمضغ الألفاظ اليونانية، وعند الدكتور مصطفى زيور نوادر لذلك الأستاذ الجليل!
كنا ندخل عليه فيهولنا أن نراه يترجم ويبرجم بأسلوب فظيع، وهو يعرف أن اليونانية القديمة لن تبعث أبداً، وهل بعثها اليونان حتى يبعثها الفرنسيس؟
آلآن فهمت كيف احتلت برلين باريس؟
كان الأساتذة الذين يراجعون رسالتي المقدمة إلى السوربون يكرهون أن يقع فيها بيت من الشعر، لأن موضوعها هو النثر الفني
وشكوت هذا التحكم إلى المسيو ديبويه فقال: إن جامعة باريس محتلة بالفكر الألماني منذ انتصار الألمان في حرب السبعين، والألمان غاية في التدقيق والاستقصاء
ثم ماذا؟
ثم عرفت بعد لأي أن الألمان خدعوا الفرنسيس بزخرف الوسوسة البحثية، ليصرفوهم عن التفكير في إعداد وسائل الموت لمن يعادون
كانت فرنسا بعد انتصارها في الحرب الماضية تتوهم أن غاية المجد أن يكون لها معهد مثل السوربون، وكانت تصرّح بأن الشهادات التي تعطيها الجامعات الألمانية شهادات تجارية، وأنها بذلك تتودد إلى الأغنياء من الطلبة الغرباء
وكان الأمر كذلك بالفعل، وكانت النتيجة أن لا تقيم الحكومة المصرية وزناً للشهادات الألمانية، لأنها شهادات مبذولة بلا تعب ولا عناء، كالشهادات التي تعطيها أمة الطليان
ثم ظهر أن لألمانيا سريرة غير سريرة السوربون، وهي النية المستورة لأكابر الفلاسفة من الألمان
وهنا أشهد أني قرأت بالفرنسية نحو خمسين كتاباً تصور انحلال الألمان من الناحية المعنوية بسبب طغيان الشهوة الجنسية
فهل التفت الألمان إلى هذا الاتهام الخسيس؟
مضوا يعملون في السراديب الخفية ليلقوا خصومهم بعد حين أو أحايين
أما بعد فالأدب عندي هو أن تسبق زمانك، وأن تقتل خصومك. الأدب عندي أن تكون قوة تزلزل الزمان، ولا تقنع بشهادة التاريخ
لأساتذة الجامعات شواغل من العلاوات والترقيات والدرجات، فدعهم في غيهم يعمهون، واجعل همك الأول والأخير أن ترفع راية القلم البليغ
زكي مبارك
أطوار الوحدة العربية
المفوضات بين العرب والحلفاء
للأستاذ نسيب سعيد
قلت لك في حديثي الماضي أن الحالة بلغت أشدها من التوتر والجفاء بين العرب والترك، ما ينذر بشر مستطير، بل بثورة عربية كبرى، وغضبة مضربة جبارة. . . وأقول لك اليوم إن البريطانيين ما كانوا غافلين عن كل ذلك، وعما هنالك أيضاً من نضال داخلي، ومشادة سرية بين (الحسين) و (الاتحاديين) ذاع خبرها واشتهر أمرها
وكان اللورد (كتشنر) معتمد بريطانيا العظمى في مصر قبيل الحرب الماضية، ووزير حربيتها في أبانها، أول سياسي بريطاني عمل للتقرب بين العرب والحلفاء، وخاصة بين (آل الحسين) والإنجليز، وسعى لإنشاء صلات ودية منهم وبين حكومته، أملا في اجتذابهم واكتسابهم بعد ما اكتسب الألمان الترك
ففي أواخر شهر سبتمبر (أيلول) عام 1914 وصل إلى مكة تاجر مصري من حي الجمالية اسمه علي أفندي أصفر يحمل إلى الشريف عبد الله (أمير شرق الأردن اليوم) من المستر (ستورس) السكرتير الشرقي لدار الحماية كتاباً خاصاً عن الصداقة العربية - البريطانية، فلم يطلع الأمير عبد الله والده (الحسين) على الكتاب بل أكرم الضيف المصري وصرفه بسلام. غير أن الرسول عاد بعد أسبوعين يحمل كتاباً آخر من المستر (ستورس) نفسه كله وصداقة وإخلاص، فاطلع الأمير حينئذ والده على الكتابين، وبحثا في الأمر مليا
وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1914 عاد السيد علي المصري إلى الحجاز يحمل كتاباً ثالثاً من المستر (ستورس) كان السبب في ابتداء المفاوضات والمكاتبات بين العرب والحلفاء بصورة عامة، وبين الحسين والإنجليز بصورة خاصة
وفي شهر أكتوبر 0تشرين الأول) عام 1915 عقد (مؤتمر الطائف) بين الحسين وأنجاله، وفيه قرروا إعلان الثورة العربية بالاتفاق مع البريطانيين على أساس استقلال العرب وتحريرهم ووحدتهم. ومما قرروه في هذا المؤتمر أيضاً أن يعود الأمير فيصل (ملك العراق بعد ذلك رحمه الله إلى الشام فيتصل برجال العرب فيها، وكانوا يفكرون في أن تبدأ الثورة هنا في ديار الشام فيدرس التدابير ويضع الخطط لتكون عامة تشمل الحجاز
والشام والعراق، وأن يسافر الأمير علي إلى المدينة ويقيم فيها تحت ستار قيادة المتطوعين، فيتفق مع شيوخ القبائل وينظم أمرهم استعداداً ليوم الثورة، وأن يتولى الأمير عبد الله تنظيم قبائل الطائف والقبائل المجاورة لمكة، ويعد معدات العمل، وأن يشترك كذلك مع والده في المكاتبات والمفاوضات التي تدور مع البريطانيين. ولما رجعوا من الطائف انصرف كل منهم إلى إتمام ما اختص به من المهمات
وبينما كانت المفاوضات والمكاتبات السرية تدور بين دار الحماية البريطانية بمصر وشريف مكة بالحجاز، كان المستر (ستورس) يتصل بأقطاب حزب اللامركزية العربي في القاهرة، ويباحثهم في (القضية العربية)، ويدعوهم إلى زيارته في قصر الدوبارة ويسألهم عن خططهم وبرامجهم فيما لو دخلت تركيا الحرب، وماذا يكون موقفهم لو عمل الحلفاء على استقلال بلاد العرب، وهل يستطيع أبناء العروبة مؤازرتهم والنهوض بأعباء استقلالهم، فأجابوه:
(إن العرب يتمون استقلال وطنهم وإعادة غابر مجدهم وعزهم إذا كان لابد من انهيار دولة الترك. وهم على استعداد تام لتأييد كل سانحة وبارقة ترمى إلى استقلال العربي مهما كان شأنها. . .)
ولقد دارت مكاتبات سرية يومئذ بين الشريف حسين باسم العرب، والسر هنري مكماهون نائب جلالة الملك بمصر باسم بريطانيا العظمى لأجل إعلان الثورة أدت إلى الاتفاق على البنود الخمسة التالية التي تمت الموافقة عليها في الشهر الأول مع عام 1916 وهي:
أولاً: تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، حدودها شرقاً: خليج فارس، وغرباً: بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات ومجتمعه مع الدجلة إلى مصبهما في خليج فارس ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود بأنها تحل محلها في رعاية وصيانة حقوق تلك الاتفاقيات مع أربابها أمراء كانوا أو من الأفراد
ثانياً: تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي تدخل كان
وبأي صورة كانت في داخليتها، وبسلامة حدودها البرية والبحرية من كل تعد كان أياً كان الشكل، حتى ولو وقعت فتنة داخلية من دسائس الأعداد أو من حسد بعض الأمراء، تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع تل الفتنة، وهذه المساعدة في الفتن والثورات الداخلية تكون مدتها محدودة أي إلى حين تتم للحكومة العربية تنظيماتها المادية
ثالثاً: تكون ولاية البصرة تحت مشارفة بريطانيا العظمى إلى أن تتم للحكومة الجديدة المذكورة تنظيماتها المادية. ويعين من جانب بريطانيا العظمى في مقابل تلك المشارفة مبلغ من المال يراعى فيه حالة الحكومة العربية
رابعاً: تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاج إليه ربيبتها الحكومة العربية من الأسلحة والذخائر والمال مدة الحرب
خامساً: تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو من نقطة مناسبة في تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن بلاد ليست مستعدة لها)
وظل الشريف حسين حتى بعد هذا الاتفاق الذي تم في شهر يناير (كانون الثاني) من سنة 1916 يعد ويسوف البريطانيين، وبعد العدة سراً للعمل الخطير، ويتأهب للوثوب. . .
وكان قد كتب إلى المندوب السامي في مصر كتاباً يعلمه بذلك فأجابه السر (أرثور مكماهون) في كتاب مؤرخ في 10 مارس (آذار) عام 1916 (6 جمادى الأولى سنة 1334) يقول فيه: (قد تلقينا رقيمكم المؤرخ في 14 ربيع الآخر 1334 عن يد رسولكم الأمين. وسررنا لوقوفنا على التدابير الفعلية التي تنوون اتخاذها وترونها موافقة للأحوال الحاضرة. إن حكومة جلالة ملك بريطانية العظمى تجيزها. ويسرني أن أخبركم بأن حكومة جلالة الملك وافقت على جميع مطالبكم، وإن كل شيء رغبتُّم بالإسراع فيه وفي إرساله هو مرسل مع رسولكم حامل هذا. وستحضر الأشياء الباقية بكل سرعة ممكنة. فتبقى في بور سودان تحت أمركم إلى حين ابتداء الحركة وإعلامنا رسمياً بها. وقد انتهت إلينا إشاعات مؤداها أن أعداءنا باذلون الجهد في أعمال السفن ليبثوا بواسطتها الألغام في البحر الأحمر، لإلحاق الضرر بمصالحنا هناك. فنرجوكم أن تسرعوا بإخبارنا إذا تحقق ذلك لديكم)
ومرت أربعة أشهر على هذا الاتفاق العربي - البريطاني قبل أن يطلق الشريف حسين
بندقية من قصر الأمارة بمكة. وكان الحجاز كما قلنا يعاني من شدة الحرب وأهوالها أكثر من سواه من الأقطار العربية. فسدت أبواب البحر، وانقطع الحجيج، ونفذ القليل مما كان في البلاد من زاد، فضجت الناس، وهلك مئات من الجوع، وقد قال (الحسين) إنه ظل هو وأهل منزله سنتين يأكلون الدخن
مرت الأربعة أشهر وكان قد أصبح الأمير فيصل في مأمن من الأعداء، ولديه فوق ذلك من مالهم وسلاحهم ما لا يستهان به. وكانت الذخائر والسلاح والمال بدأت ترد عن طريق (بور سودان) من المصدر الذي أشار إليه المندوب السامي البريطاني في كتابه
فتوكل الشريف حسين علي الله، ونهض في صباح اليوم التاسع من شعبان سنة 1324 2يونيو (حزيران) عام 1916 قبل الفجر وبيده بندقية أطلقها طلقة واحدة كان لدويها صدى في جدة والطائف والمدينة، بل في سائر أنحاء العالم العربي
فأعلنت الثورة في مكة وجدة في اليوم الأول، وفي الطائف والمدينة في اليوم الثاني، وكان ما لدى العرب من القوات العسكرية موزعة متأهبة كلها، فحاصر الأمير زيد بجنوده قلعة (اجياد) بمكة وهجم الأمير عبد الله على الطائف، وكان الشريف محسن قائداً في جدة، والأميران علي وفيصل، وقد خرجا من المدينة يجمعان العربان ليحاصرا الترك فيها
وقد برهن أبناء الشريف على بسالة فيهم أظهرها القتال والصراع، وعززها الجلد في النضال والكفاح. ولم يمر شهر على حصار قلعة (أجياد) التي كانت تصب نارها على مكة، وخصوصاً على قصر الأمارة فيها، والشريف حسين في غرفته الخاصة في ذلك القصر يدير الحركة ولا يبالي بشظايا القنابل التي كانت تخترق السقوف والجدران؛ فلم يمر شهر كما قلنا حتى كلل الحصار بالنصر؛ فسلمت اجياد في 4 رمضان ثم استولى الأمير عبد الله على الطائف في 26 ي الحجة من تلك السنة
وفي 2 محرم عام 1335 الموافق يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1916 بويع الشريف حسين بالملك. وفي الشهر التالي اعترفت به دول الحلفاء الكبرى أي بريطانيا وفرنسا ملكاً على الحجاز، وجاء الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى جدة يحملان إلى جلالة الملك تهاني تلك الدول، فخطب في حضرته أميرال الأسطول الفرنسي ودعاه بأعظم أمراء العرب
ونختم حديثنا اليوم بكتاب صغير وجهّه إلى الشريف (حسين) خلف السر (أرثور مكماهون) في مصر المندوب السامي السر (ردجنلد ونجت) مؤرخ في 19 إبريل (نيسان عام 1927 و27 جمادى الثانية سنة 1335 وفيه ما يلي:
(فأؤمل ألا يبرح من بال جلالتكم أن الحكومة البريطانية هي التي تحترم المعاهدات، وهي حامية زمام الحق والعدل، والحليفة الوفية التي لا تخون العهود)
(دمشق)
نسيب سعيد
المحامي
إلى الأستاذ البشبيشي
للأب أنستاس ماري الكرملي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
5 -
نعم وكرامة
يا سيدي البشبيشي، إننا نستشهد دائماً بأقوال الفصحاء حينما نرد على أحد الأدباء. وقد بينا للقراء صحة قول أبناء مضر (حبا وكرامة) أما حضرتك فلم تذكر لنا أسم من قال:(نعم وكرامة) فننتظر استشهادك لنسلم لك بما تقوله، وإلى أن تفعل، نقول: إن قولهم: (حبا وكرامة) أصح من قولهم: (نعم وكرامة لكثرة ورود الأول في أقوالهم، وقلة ورود الثاني فيها
6 -
المسكن والمسكن
الذي قلناه في الرسالة (782: 10): مَسكن. مَسكِن بكسر الكاف هو الأفصح، ولم نخطئ الأول إذ قلنا الأفصح، فهذا معناه أن مسكناً بالفتح فصيح لكن الأفصح بالكسر. ففي غنية الطالب في ص24 من الطبعة الأولى:(وإذا كانت العين مكسورة، فأبقها على كسرتها نحو: مجلِس، ومضرِب. وشذَّ المسجد والمغرِب، والمطلع، والمجزِر، والمرفِق، والمفرِق و (المسكِن) والمنسك والمنبت، والمسقط، فإنها جاءت بكسر العين، مع أن مضارعها مضموم. و (أجيز) استعمالها على الأصل) اهـ
7 -
الجدُدُ أفصح من الجدُدَ
نعم، إن الجدُدَ بفتح العين واردة في كلام (بعضهم)، لكن أنسير على كلام (بعضهم) ونترك جمهورهم. أليس اتباع الجماعة أحسن وأسْلَم لنا من اتباع البعض؟ قال صاحب التاج في ترجمة آخر هذه اللفظة:(والأكثرون على الضم)
8 -
رواية الأشعار القديمة
من المشهور عند الأدباء المحققين، إن رواية الأشعار القديمة، يجب أن تنقل عن الأقدمين، لا عن المحدثين، ولا سيما المتأخرون منهم، لأنهم عبثوا بكل شيء قديم، ولهذا يجب أن
ننبذ نبذ النواة، ولو صحت روايتهم، أو وجهت توجيهاً حسناً، أو أُوْلت تأويلاً بديعاً، بل أبدع من رواية الأقدمين. والذي رويناه نحن نقلناه عن أصح كتاب رويت فيه أبيات أعشى باهلة، أي عن الديوان المروي عن أبي العباس ثعلب وشرحِهِ له، (المطبوع في مطبعة) دلف هلزهوسن في بيانه سنة 1927 بعناية رودلف جير ص266 وما يليها
وأما رواية الشيخ حمزة فتح الله فليست بشيء بالنسبة إلى قدم ثعلب وقد توفي سنة 297 للهجرة، وأما الشيخ حمزة ففي سنة 1336. فأين الثري من الثريا؟ وقد قيل في ثعلب إنه (كان راوية للشعر، مشهوراً بالحفظ، وصدق اللهجة، ثقةً حجة).
وأما الشيخ حمزة رحمه الله فما كان يعرف أن يوقع اسمه حينما كان مفتشاً بوزارة المعارف المصرية فقد كان يكتب (حمزة فتح الله مفتش أول اللغة العربية بنظارة المعارف العمومية) فكأن للعربية أولاً وأخراً، وكان هو مفتش أول اللغة تاركاً لغيره أن يكون مفتشاً لآخرها!
فإذا كان الشيخ حمزة فتح الله لا يحسن النطق بثلاث كلمات صغار فكيف نعتمد عليه وعلى روايته للشعر القديم؟ - فأين الطمطمانية من العربية المبينة؟ وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
فانصفنا يا سيدي البشبيشي، ولا تحد عن الصراط المستقيم، ذباً عن الصديق الحميم
9 -
جمع أفعل وفعلاء على فعل
ليس لنا رأي خاص في جمع أفعل فعلاء على فُعل، وإنما نحن تابعون لرأي الفصحاء الصميم من الأئمة الأعلام. فقد قال سيبويه في كتابه (2: 211 من طبعة بولاق): (وأما أفعل، إذا كان صفة فإنه يكسر على فُعل، كما كسروا فعولاً على فُعل، لأن أفعل من الثلاثة وفيه زائدة، كما أن في فعول زيادة، وعدة حروفه كعدة حروف فعول، إلا أنهم لا يثقلون في أفعل في الجمع العين، إلا أن يضطر شاعر، وذلك: أحمر وحمر، وأخضر وخضر، وأبيض وبيض، وأسود وسود؛ وهو مما يكسر على فُعْلان. وذلك كحمران، وسودان، وبيضان، وشمطان، وأدمان
(والمؤنث من هذا يجمع على فُعل. وذلك: حمراء وحُمر، وصفراء وصفر. وأما الأصفر والأكبر فإنه يكسر على أفاعل. ألا ترى أنك لا تصف به كما تصف بأحمر ونحوه. لا
تقول رجل أصفر ولا رجل أكبر. سمعنا العرب تقول الأصاغر كما تقول: القشاعمة والمصيارفة حيث خرج على هذا المثال. فلما لم يتمكن هذا في الصفة كتمكن أحرم، أجرى مجرى أجدل وأفكل، كما قالوا: الأباطح والأساود، حيث استعمل استعمال الأسماء. وإن شئت قلت: الأصغرون والأكبرون. فاجتمع الواو والنون والتكسير ههنا، كما اجتمع هنا الفعل والفعلان. وقالوا الآخرون ولم يقولوا غيره كراهية أن يلتبس بجماع آخر؛ ولأنه خالف إخوانه في الصفة فلم يتمكن تمكنها؛ كما لم يصرف في النكرة. ونظير الأصغرين قوله تعالى: بالأخسرين أعمالاً) اهـ
وفي مختار الصحاح: (الأسود: العظيم من الحيات، وفيه سواد والجمع الأساود، لأنه اسم، ولو كان صفه لجمع على فُعُل) اهـ
وفي لسان العرب في مادة (ج ح م): (الأجحم: الشديد حمرة العينين مع سعتهما. والأنثى جحماء، من نسوة جحم وجحمي). قلنا: وهو الصواب بخلاف ما جاء في القاموس، إذ قال: الأجحم. . . وهي جحماء والجمع جُحم ككتب وسكرى) اهـ
وكلام آثمة البصريين والكوفيين من صرفيين ونحاة ولغويين مبنى كله على الآيات القرآنية. ففي سورة الملائكة ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود). ولم يقل بيضاء ولا حمراء ولا سوداء.
وفي سورة الإنسان: (عاليهم ثياب سندس خضر)
وفي سورة يوسف: (وسبع سنبلات خضر)
وفي سورة الرحمن: (متكئين على رفرف خضر وعبقريّ حسان)
وفي سورة الكهف: (ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق). ولم يقل مرة واحدة خضراء
والآيات كثيرة ولم ترد فعلاء مرة واحدة صفة لجمع، أيّاً كان
وأما ما قاله سيدي وأستاذي البشبيشي: (نستطيع أن نحكم بجواز استعمال الوصف بهما مفرداً قياساً على قولهم: إن الجمع بمعنى الجماعة، فيجوز وصفه بالمفرد: ولذلك شواهد لا تحصى. . .) ومن هذه الشواهد التي لا تحصى كنا نود أن نرى واحداً، لنرى أهي من باب أفعل فعلاء، أم من غيره - ثم إن هذا الباب الذي يذكره يسمى باب التخريج، وهو
باب واسع يلجه الحيوان الأكبر والأصغر من الهوام والحشرات وأنواع العجماوات. أما الحيوان فيعدل عنه ولا يلجه، نظراً إلى شرفه وإجلالاً لقدره، وإعزازاً لشرفه وحبه، وخشية أن يقال عنه:(ولج العاقل باباً لا يلجه إلا الحيوان الأعجم) أعاذنا الله من أن نكون منه!
10 -
الأربعة الاستقصات لا الأربع
في جميع ما نكتب نتوخى الفصيح والأفصح من كلام السلف الصالح بقدر الطاقة. وأفصح كلام العرب يرى في الآيات القرآنية. وقد جاء في سورة النساء: (ولا تقولوا ثلثة) أي ثلاثة آلهة. ولم يقل ثلاثا
وفي سورة الطلاق: (فعدتهن ثلاثة أشهر
وفي سورة الكهف: (سيقولون ثلثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) إلى غيرها من الآيات وهي كثيرة لا حاجة لنا إلى ذكرها كلها فاجترأنا ما ذكر منها
وجميع ما ورد في تلك الآيات، مختوم بخاتم الإحكام المتقن، ومطبوع بطابع الصحة المنيعة، وفيه أقصى التحقيق والتدقيق إذ (لا نرى بينها عوجاً ولا أمْتا)، ولا يهمنا بعد الكلام خرفشة النحاة ولا حذلقة الصرفيين، إذ يسمع لها جعجعة ولا طِمن!
فالاستقص (بصاد مشددة في الآخر) والاصطقسّ بصاد وطاء وقاف وسين، مذكرة، ولا يقول الفصحاء والحذاق والبصراء من السلف إلا الاستقصات الأربعة لا الأربع. ونحن نتبع الآيات المحكمات وكتاب سيبويه وجماعة علماء البصرة والكوفة، وليتبع غيرنا ما شاء من المجوزين، والمخرجين، والمفسرين. وعلمه فوق كل ذي علم
11 -
الخلاصة
إننا نتبع الفصيح من كلام الناطقين بالضاد، ونترك الغير يتبع ما شاء من لغات العرب ولغيَّاتهم، أولئك الذين جاوروا الأعاجم فركت عبارتهم، وفسدت تراكيبهم وغمضت ألفاظهم وغلظت كلمتهم، فوقعوا في أوهام لا تعد
وهذا آخر ما نكتب في هذا الموضوع وقد أوصدنا بابه علينا، فلا نريد سماع ما يخالف أحكام اللغة المتينة ولا قواعدها المبنية، وإن فاض التنور وقامت القيامة، وكان اليوم
الأخير.
الأب انستاس ماري الكرمل
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
الحضارات القديمة
في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
ظهر الإسلام بين أمة وصلت في البداوة إلى أبعد حدودها، وكانت طبيعة بلادها تجعلها بداوة قاسية، يشتد فيها النزاع والخصام بين الأفراد والقبائل، ويكون السلب والنهب أظهر عمل فيها لكسب العيش، وفي هذا تنتصر القوة الغاشمة، ويظفر الباطل بالحق
وكان يحيط بهذه البداوة الغاشمة حضارتان مختلتان، حضارة الفرس بالمشرق، وحضارة الروم بالمغرب، قد سرى الفساد فيهما حتى أنهكهما، فلم يكونا أقل ضلالاً من تلك البداوة، ولم يكن أهلهما أقل شقاء من أهل تلك الصحراء
فكان من أهم أغراض الإسلام القضاء على تلك البداوة وآثارها في بلاد العرب، وإنشاء حضارة جديدة صالحة للبشر عامة، يرتفع فيها لواء العدل، وينتصر الحق على الباطل، وتنتشر المساواة بين الشعوب والأفراد، فلا يظلم قوي ضعيفاً، ولا يأكل غني فقيراً، وبذلك يسود السلام بين الشعوب بالمساواة بينهم، ويجعلهم جميعاً عناصر لأمة واحدة لا يمتاز فيها على شعب، ولا تفرق بينهم الفوارق أيا كان أمرها
ولا غرو في أن يكون مثل هذا من أغرض الإسلام، بل لا غرو في أن يكون هذا من أهم أغراضه، لأن الإسلام يمتاز على غيره من الأديان بأنه لم يشرع للآخرة وحدها، ولم يعمل لسعادة البشر فيها فقط، بل شرع لسعادة الدنيا والآخرة، وعمل على أن يكون البشر سعداء في دنياهم، قبل أن يكونوا سعداء في أخراهم
وقد صرح القرآن الكريم بذلك الغرض العظيم في بعض آياته، فقال تعالى في الآية (55) من سورة النور (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) وقد بين في آية أخرى أهم شيء تمتاز به هذه الأمة في حضارتها الجديدة، فقال في الآية (110) من سورة
آل عمران: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باله؛ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون)
ومما يتفق مع هذا كل الاتفاق ما جاء في القرآن الكريم عن البداوة العربية وأهلها، وما جاء فيه عن الحضارات القديمة وآثارها، فهو إذا ذكر الأعراب - وهم سكان البادية - يكون شديداً عليهم، ويجعل بداوتهم هي السبب في جهلهم وانحرافهم. وقد وصفهم الله بقلة الإيمان في الآية 14 من سورة الحجرات: قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً، إن الله غفور رحيم). وإنما سميت هذه السورة بذلك الاسم لأنها نزلت في نفر من الأعراب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائل في أهله، فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمد أخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه، فأنزل الله فيهم من هذه السورة:(إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم) وقد قيل إن هؤلاء الأعراب كانوا من بني تميم، وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعُيَيْنة بن حصن، والزبرقان بن بدر، فنادوا على باب الحجرات قالوا: يا محمد، اخرج إلينا، فإن مدحنا زين، وذمنا شين. فخرج رسول الله صلى الله عليه وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمه شين. فقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا، جئنا نشاعرك ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه: ما بالشعر بعثت، ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا. فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قم فأجبه. فقام فأجابه.
ثم قام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
…
منا الملوك وفينا تنصب البِيِع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم
…
عند النهاب وفضل العز يتََّبع
ونحن نطعم عند القحطُ مطعمنا
…
من الشواءِ إذا لم يؤنس القزَع
فننحر الكوم عبطاً في أرومتنا
…
للنازلين إذا ما أُنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حيٍّ نفاخرهم
…
إلا استقادوا فكانوا الرأس يٌقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه
…
فيرجع القوم والأخبار تُستمع
إنا أبينا ولا يأبَى أحدٌ
…
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: قم فأجبه. فقام فقال:
إن الذوائب منِ فِهرو اخوتهم
…
قد بينوا سُنة للناس تُتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته
…
تقوى الإله وكل الخير يُصطنع
قوم إذا حاربوا ضَرُّوا عدوهم
…
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدَّثةٍ
…
إن الخلائق فاعلم شرها البدع
أعِفة ذكرت في الوحي عفتهم
…
لا يَطبعون ولا يرديهم طمعُ
لا يبخلون على جار بفضلهم
…
ولا يمسهم من مَطمع طَبَعُ
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم
…
وإن أصيبوا فلا خور ولا هلعُ
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم
…
إذا تفاوتت الأهواء والشيع
وقد جاء ذكر أهل البادية أيضاً في سورة التوبة، فوصموا فيها هذه الوصمة التي جاءت في قوله تعالى (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم)
ولكن الله تعالى بعد أن أطلقها كلمة فيهم، لأن ذلك شأنهم وديدنهم، وهو الطبع الغالب، والحال الظاهر، عاد فذكر أن قليلاً منهم يخالفهم في هذه الطباع؛ فقال:(ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول إلا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم)
فهذا اجاء في القرآن الكريم عن البادية وأهلها، وهو حرب ظاهر عليها، وقد جاهد الإسلام حتى قضي على آثارها بين العرب، وجعل منهم أمة عالمة متحضرة متآلفة متحابة، وموعدنا بما جاء في القرآن الكريم عن الحضارات القديمة الأعداد الآتية.
عبد المتعال الصعيدي
عندما فاض النيل.
. .
للشاعر التركي إبراهيم صبري
بقلم الأستاذ عثمان علي عسل
بحثت عن شاطئ حصباؤه تلمع، شاطئ منحدر
رحب. وقد غطيت حصباؤه برمل ناعم كريش
الطيور. إن اشتياقي إليه كالحنين إلى الوطن.
فما وقع بصري على شاطئ إلا تعلقت به. هناك
أنعم النظر في الشمس. فما أجمل نزولها في اليم.
حينما يحجب نصف قرصها سحاب أسود. تغيب
عن الأنظار كأنما تخلع رداء أشعتها. فيخيل إلى
الناظر أن السحاب يستر وراءه قواماً جميلاً.
وإذا بألوان الأفق تمتد وتعانق سطح البحر.
وعلى هذا الجيد الفضي ترتجف أمواج هادئة تخالها
رعشات. . وبينما الألوان الوردية والبنفسجية
والحمراء. تنشئ في السماء قوساً شبيهاً بعالم
خرافي، يبدو البحر كأنما ارتفعت أعماقه.
فيتراءى كسماء مقلوبة غاصت في قراره. سماء
تتجلى فيها الأفلاك. ولكي تصعد الأنظار إلى
هذه القبة العميقة، تهبط كأنها تنزلق على سطح
زجاجي. ومن احتضان البحر للسموات يتجلى
في روع الناظر عالم آخر فيرى في ضفافه حدود
الأبدية. إن اتساع البحر يجعل الأنظار التي ترى
اللانهائي تبحث عن عالم مجهول. أما الآفاق فهي
ستار أزرق أسدل على الأفكار، يحول بين المتأمل
وبين النفاذ في محيط الكون. إن الثرى إزاء الماء
فانٍ. ففي كل قطرة من الماء قوة كامنة خالقة لا تحد.
وحكم التراب كالعدم فهو نهاية. عجباً لهذا التراب
إنه من أسباب الفناء، وإنه لمن أسباب الحياة!
ومصير المخلوقات إليه. وكأنما الأمواج حينما تتبخر
تهرب من الفناء. وهذا الإنسان اليائس الذي
يلقي بنفسه في اليم، يشتاق إلى حياة أبدية
في عبابه، ليعيش بعيداً عن التراب.
لاشك أن الشمس قد ذابت اليوم في أفق
مصر. هاهي أشعتها مادة سائلة، تنحدر من
السماء كأنها حمم تذيب الأرض معها. بحثت
كسائر الناس عن خميلة أتفيأ ظلها، فذهبت
إلى شاطئ النيل، وإذا بالنيل قد فاض وغمر.
فأين مني الآن قوافل الجمال ذات اللون الأغبر
التي ترسم على الشاطئ صورة الخمائل؟ أين تلك
الأشرعة التي ترفرف بين الأشجار كأجنحة
فراشة فضية؟ وأين هاتيك الكواعب الريفيات
اللائى يحملن على رءوسهن جرات ذات قوام له
دلال العرائس يباهي دلال من يحملنها، وقد
عكست ظلالها على سطح النيل. . . يا للعجب
إن هذا الماء كلما تدفق أسرع جريانه. أين
هذا النيل الذي رصع جِيد (أم الدنيا) بعقد
من الياقوت بمجراه الذي تسري في أمواجه
ثمار النخيل الحمراء؟ أين تلك المياه التي تفيض
بالأسرار كمقلة خضراء تزخر أعماقها بألوان
مباينة؟ أين هذا النيل الذي يتجلى في لونه
الزمر ذي إشراق الفجر. هذا النيل الذي تمس
أعماقُهُ الأهرامَ والسماءَ والكواكبَ. هيهات!
ليس أمامي الساعة غير نهر من اللهيب. بحثت
عن ضفافه فألفيتها قد سالت معه، وبدا لي
أن هذا الفيضان يندفع كالكارثة. لم يكن
هناك في هذا المحيط اللجي موطئ لقدم، كأن
الطوفان قد ابتلع الغبراء. هاهو النيل يجري
كنهر من الطين انطلق إلى الشمس، كأن
من أجراه يريد أن يبني أجراماً في السماء،
وهو يجيش بأمواج فوارة تكاد الشمس وهي
في مغربها تغرق في تيارها. كأن هناك عاصفة
هوجاء تكتسح هذه الأمواج، فلا يسمع
إلا زمجرة صاخبة. ربما كان في هذا الطين
أسرار، فهو لا يخرِّب بل يعمِّر. أما حقول
بلادي الظامئة فإنها تتلهف إلى قطرات تتساقط
من سماء الحظ، كأنما النيل سحر قد انساب
ماء، فهو يجعل الرمال أخصب من أي تراب
آخر. هو يتدفق إلى الحقول وإلى القرى وإلى
المساكن، فالنيل هو مصر، ومصر هي النيل.
ما أعجب هذا السيل إنه قوام الحياة. ما أعجب
هذا السيل فهو أينما جرى وأينما طغي انبثق
النبات واستحال القفار عماراً. قد منح أهلَ
بلاده قدرة فوق طاقتهم. هل السحر جاء إلى
مصر مع النيل، فهو كبحر مطلسم غمر أرضاً
وجرى نحو محيط في أغوار الأساطير، وكأنما
الأهرام أحجار رسبت من مجراه في وادي
الشياطين. وإنه ليرد من أرض حزينة؛ فهو
يسيل أحياناً كالدم وأحياناً كدموع تنحدر
من عيون تلك الأرض التي حرموها نعمة
الأبصار. إنهم يروون أن غادة كانت في الزمان
الغابر تلقى في عبابه. إنني أعتقد أنها أسطورة،
غير أن هذا الفيضان الذي يدعو إلى الحيرة،
لابد له من سرّ خارق كهذه الأسطورة.
ترجمة
عثمان علي عسل
المنطق المنظور والمنطق المستور
للأستاذ عبد الله حسين
ألف الناس أن يطلقوا على ما يقع لهم أفراداً أو جماعات، من الأحداث، اسم الغرابة والمفاجأة والشذوذ، وأن يبدئوا ويعيدوا في وصف كل حدث من الأحداث، كأنه شيء لا يقع إلا في الخيال ولا مثيل له في حوادث التاريخ، أو كأنه قد وقع من غير مقدمات ولغير علل وأسباب!
ولعل مرجع هذا عندهم إلى أنهم يحرصون على حياة السلامة والدعة التي ألفوها قبل أن يتأوَّد مجرى حياتهم، ويزور مستقر شأنهم وقبل أن يشهدوا انحرافاً في ميزان حياتهم
ذلك، أن الناس كانوا ولا يزالون حريصين على ما يدعونه (الحقوق المكتسبة) ينعمون بثمارها. فإذا اعتاص عليهم أمر من الأمور، لعقبة أو نازلة أو عرضٍ من أعراض الحياة وأطوارها المتناقضة ظاهراً، نادوا بالويل والثبور، وحسبوا ما واجههم من عظائم الأمور، ومن المنطق المستور!
قال أحد فلاسفة فرنسا: (وليس يقع في الدنيا غير الشاذ)
أولم يقولوا في الحرب إنها حالة شاذة، كأن السلم هي الحال الدائمة الطويلة؟
أولم يتطير الناس من الحروب والثورات وما إليها من الفتن والاضطرابات وألوان الانقلابات حتى الاقتصادية منها؟
يذهب الناس إلى هذا مع إنهم لو عَمَدوا إلى الاستقراء وفتحوا عيونهم على العالم كله قديماً وحديثاً، لفقهوا أن الحياة الاعتيادية ليست دعةً وسكوناً وأمناً وسلاماً إلا في حيز محدود وزمان غير طويل؛ فإن الدنيا لا تعرف السكون الطويل، والحياة ليست بالمستقرة المطمئنة إلى قواعد ثابتة، وأسس لا يعفى عليها تقلب الحدثان
وقد تأثر الكتاب والأدباء يحسبان الحياة سلماً واطمئناناً وأمناً إلا في النادر وعند المفاجأة وشواهد الغرابة، فبالغوا في تصوير الأحداث التي تقع على غير ما كان يتوقع أصحاب (المنطق المنظور) ونعني به منطق الحوادث اليومية الاعتيادية المألوفة التي تكاد تجري على صورة واحدة، فإن الاستمساك بهذا المنطق السطحي الضيق، هو آفة النظر الفاحص البعيد، الذي يزن الأشياء بميزان (المنطق المستور) الذي يستطيع أن يبلغ حقائق، ويكشف
عن مقدماتها وعللها، ويتنبأ بنتائجها وآثارها؛ وأصحاب هذا المنطق هم أولئك الذين لم يخدعهم (المنطق المنظور) الضيق
كم من تقلبات شهدنا في خلال العشرين عاماً الأخيرة أو منذ شبت نار حرب 1914 أو منذ وضعت أوزارها وأعلنت الهدنة ووقعت شروط الصلح وبادت دول وظهرت أخرى. وكم عجبنا وأغربنا في الدهش والحيرة لأحداث وقعت بين ظهرانينا لأننا كنا ننظر إلى شئوننا بعين (المنطق المنظور)، فلما خلونا إلى أنفسنا قهرنا على مقابلة الخطوب، ورضنا أنفسنا على متابعة التقلبات، عرفنا بعين (المنطق المستور) أن ما وقع إنما جاء نتيجة منطقية لحوادث سابقة وأخطاء قائمة واستسلام (للمنطق المنظور)
وليس الأمر بمقصور على الشئون العامة، بل إن شئوننا الخاصة يجري عليها هذا المقياس، فالأمراض المستعصية ونكبات الأسرة والصداقة من طلاق وأزمات مالية وخصومات وانتقامات، كلها ترجع إلى مقدمات وحوادث وعلل، لا يقرأها ولا يدركها (المنطق المنظور) المنطق السطحي المستسلم، ولكن عين (المنطق المستور) تجلوها لنا سافرة طبيعية لا غرابة فيها ولا مفاجأة ولا شذوذ
عبد الله حسين
المحامي
ذكرى.
. .
للدكتور عزيز فهمي
الدكتور عزيز فهمي نجل صاحب السعادة الأستاذ عبد السلام
فهمي جمعة باشا في طليعة الشباب الجامعي المثقف، ومن
شعراء الشباب الموهوبين الذين أذكوا بأدبهم الذكي المشبوب
النهضة المصرية. وهذه من بواكير شعره بعد عودته من
باريس إلى وطنه منذ شهور قلائل:
يا لياليَّ طال فيكنَّ سهدي
…
مَن مُجِيرِي من الليالي ووجدي
قّدّرٌ صاح بالمنى فتداعتْ
…
وقضاءٌ، وما له من مردّ
أيها الليل يا نجييِّ وحسبي
…
أنتَ يا ليلُ، كم يَدٍ لك عندي
حال طعمُ الحياة بعد هناءٍ
…
وشرِبتُ الحميمَ من كل وِرْدِ
إنه يا ليلُ كم كتمتَ هوانا
…
يومَ كان الزمان طوعي وجندي
فانشر اليوم من زفيري نشيداً
…
يطرب الدهر بعد طول التحدي
كان ما كان، لا مردَّ لعهدٍ
…
غاله الدهر بعد سعيٍ وكدِّ
كان ما كان، كل حُلْمٍ لصحوٍ
…
وانتباهٍ، وكل سيفٍ لغمد
أيها الحِبُّ ليس لي منك إلا
…
ذكريات تُلحُّ في غير قصد
ذكرياتٌ أعيش فيها ومنها
…
ليتها ليتها تُلحُّ وتجدي
طائف كالفَراش حول شعاع
…
محرقٍ يبعثُ الحياةَ ويُردي
ذكرياتٌ تمرُّ حيناً وتحلو
…
بعد حين، وأول الخمر يُصدي
يوم كنَّا في ميعة العمر نلهو
…
لهوَ طفلين جاوزا سنَّ رشد
نتلاقى على صفاء قلوبٍ
…
لم تُدَنَّسْ على الزمان بحقد
وأناجيك في خشوع وصمت
…
وبودِّي لو استجبت بودي
وأناغيك يا حبيبي وتصغي
…
وأعيد الحديث فيك وأُبدي
وعلى وجهك المضيء تباش
…
ير كوشّيِ النَّدى على دوْح وَرْد
ويدي في يديك ترعَش حتى
…
تهدأ النفس بعد لهث وجَهد
وذراعايَ حول خصرك في عن
…
فٍ ورفق ما بين جَزْرٍ ومدِّ
وعلى صدرك الحنون همومي
…
غارقات ما بين نحر ونهد
والنسيمُ العليلُ يذكي عبيراً
…
من ثناياك شاع في كل برد
جَنَّةٌ أنتَ كنت فيها ملاكي
…
كيف منها جَزَيْتُ نفسي بطرد
أنتَ رَحَّبْتَ بي مُضيفاً وضيفاً
…
كسف لم أجْزك الوداد بودي
يعلم الله ما جحدتُ ولكن
…
ذادني عنك طالع جِدُّ نكد
ما أنا إلا آدمي وهل آثر
…
إِلا الهبوطَ آدمُ جَدي؟
نحن فيها مسيرون وكلُّ
…
مُجْبَرٌ لا خيار للمرءً عندي
أيها الغائب المقيم بأرض
…
عهدت مولدَ الغرام وسعدي
بالجنين الوليد ينمو ويقوي
…
في رفيق من الأمانيِّ رغد
كل شيء كما عهدت مقيم
…
وأنا النازح الوفي بعهد
فالتفت يَمْنةً وأخرى يساراً
…
واستمع عامداً وفي غير عمد
عزيز فهمي
الطيران بين أسلحة الحرب
للملازم الأول حسين ذو الفقار صبري
لم تعد الحرب في مختلف نواحيها بقادرة على الاستغناء عن سلاحها الجديد: (الطيران)، الذي لم يكن بالأمس إلا بدعة طارئة، وأصبح اليوم ضرورة أُقحمت على كل فكر وكل رأي، حتى ذهب الكثيرون، ممن قنعوا بعابر الملاحظة دون عميق البحث، إلى القطع بأن أهميته تفوق غيره من الأسلحة، فهو منها المحورُ والدولاب، وله عليها العرش والسلطان؛ وتمادوا في إغضاء الطرف عن نقائصه، مُعْلين من شأنه، رافعين من ذكره، حتى وُصف بما لا قدرة عليه، ونعت بما لا طاقة له به.
جاب الإنسان الأرض شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، وسبح في الماء وارتقى الجبال، وحاول ثم حاول محاكاة الطيور بالتحليق في الفضاء، ولكنه هنا فشل مرراً، وارتد عن أحلامه تكراراً، حتى ظن أن التصاقه بالأرض قانون لا يُخْرق، وأن تحليقه في الهواء أمنية لن تُحقّق. فلما حلّق أول من حلق، انبهر البشر وتلمسوا طريق التأويل والتعليل، فرموا الطائرة بصفات تخيلوها، وحبوها بأحوال ليست لها. وقد انساقوا في ذلك السبيل وراء ما أحرزه الطيران من تقدم حثيث ملموس، نتيجة طبيعية لما زامل زمانه من اطراد مستمر في شؤون الآلات والكهرباء وصناعة المعادن، مما خف وزنه واشتدت صلابته. كل تلك الأشياء وغيرها تضافرت فأغدقت على الطيران من عندها، ودفعت به إلى الأمام عدة مرات؛ ولكنا إذا تأملنا الأمر قليلاً وجدنا الطائرة جسماً كسائر الأجسام، يخضع لقوانين الطبيعة كل الخضوع. هي جسم ساير تلك القوانين، وتحايل عليها واسترضاها فانقادت له تساعده وتحابيه وتزينه للناظرين
سرُّ الطائرة في استخدامها فراغاً لا نراه ولا نلمسه، سرُّها في استمدادها القوة من انضغاط هواء تحت سطح جناح انطلق انطلاق الشهاب، سرها في التفاتها إلى عنصر أحاط بنا منذ الأزل فألفناه، حتى انقلبت الألفة إلى عدم اهتمام بل إلى إهمال
استمدت الطائرة قدرتها على الارتفاع من الهواء المضغوط تحت الجناح، فغالبت جاذبية الأرض وقهرتها، قهرت تلك القوة التي ألصقتنا بالأرض دواماً، والتي لم نتفهمها جيداً حتى ترجم العلم مفعولها إلى لغة قريبة من مداركنا، لغة الكتل والأثقال والأوزان. الجاذبية
مقدارها ثابت لا يتغير، أما جسم الطائرة - أو بالأحرى ثقلها - فهو العامل المتقلب، المتزايد أو المتناقص. هو الخصم الذي يهاجمه المهندس على أوراقه أولاً، وفي المصانع ثانياً، ليستخلص من عنصر الهواء أكبر غنم، ويستخلص لطائراته أنْفَذَ الخواص، ولصفاتها أعلى منسوب.
تتباين خواص الطائرات المختلفة تبعاً لتباين طرق توزيع وزنها على مختلف أجزائها. وطائرات الحرب أغراضها كثيرة متنافرة: هذه تحتاج لسرعة فائقة، وتلك لسعة في النقل عظيمة، وهذا يطالب بطائرة مدافعها فتاكة، وذلك بأخرى قنابلها كثيرة. هذه الأمور وغيرها تعرض للمهندس فيوازن بينه، ويقارن ويعادل، حتى يصل آخر الأمر - بعد مجهود طويل وتجاريب عديدة - إلى أحسن الحلول، أو على الأقل إلى أقرب من الغرض المطلوب
يتكون ثقل الطائرة من وزن أشياء شتى: أهمها المحرك. والهيكل بما فيه الأجنحة، والوقود، والمدافع، وذخيرتها، والقنابل وصفائح الفولاذ الواقية. يختص المحرك منها بأكبر نصيب، كيف لا وهو القوة الدافعة، تزيد سرعة الطائرة بزيادته، وتنمو مقدرتها التسلقية بنموه
ولكن هذه المهارة في المناورة، يلزمها علاوة على القوة الدافعة أجنحة سميكة، معدنها متين، أقدر من غيرها على احتمال الضغط العنيف، الطارئ من حركات انقلاب حادة فجائية. ومدى التسلق يحتاج، علاوة على المحرك القوي، إلى أجنحة طويلة عريضة تعترف من الهواء كثيراً. أما السرعة، فهي وحدها التي تقنع بتركيز الوزن كله في المحرك
ويا ليت الأمر يقف بالمحرك عند هذا الحد، فهو لا يكتفي باستحواذه على نصيب الأسد، بل يتطاول أيضاً إلى ما بقى من ثقل يحتجز منه لملحقاته. الزيت والوقود؛ تلك السوائل الثقيلة الوزن التي لا غنى له عنها، تغذيه بحيويتها، وتخلق منه قلباً نابضاً لجسم كان هامداً. لم يبق إذن من ثقل الطائرة إلا جزء ضئيل تتنازعه المدافع وذخيرتها، والقنابل وأدوات تصويبها، والدروع الواقية لأرواح الطيارين. تنازع عظيم لا يفصل فيه المهندسون ولا يبتون فيه بقرار، إلا على ضوء نسب مخصوصة ترتفع وتنخفض تبعاً لما تقوم به الطائرة من واجبات سواء أكانت متعددة النوع أم محدودة
فإذا تأملنا المقاتلات مثلاً وجدناها تحتاج إلى سرعة فائقة تلاحق بها ما تتخطى الحدود من
قاذفات، أي أنها - بلغة النسب - تحتاج لضآلة في الجسم إزاء قوة المحرك؛ ولكنها ضآلة تقف عند حده، إذ ما قيمة تلك الطائرة دون مدافع عديدة وكمية من الذخيرة كبير: مدافع قد تبلغ الثمانية عداً، وذخيرة قد يتعدى معدل إطلاقها الخمسة آلاف رصاصة في الدقيقة الواحدة. هذه الضآلة إذن يجب أن تتسع لتلك المدافع وهذا الرصاص، ولمقدار ضخم من الوقود فرضه علينا محرك قوي، مقدرته على الالتهام عظيمة
هذه أخيراً طائراتنا، توصلنا إلى اصطناعها سريعة ما وسعنا الاصطناع، وأوجزنا من طول أجنحتها ما أوجزنا، وضمَّرنا من خصرها حتى ضمرت ما وسعها الضمور. ولكن تلك السرعة اللعينة تعلق بها علوقاً حتى عند الهبوط، فترى الطائرة تنهب الأرض نهباً، ولا تستطيع الوقوف إلا إذا انفسح لها المجال في المطارات. والمطارات الفسيحة لا تتسع لها كل أرض، ولا تتسع لتكاليفها حتى الميزانيات، فنضطر إلى إلحاق بعض القلابات بسطوح الأجنحة السفلى لتحد من سرعة الطائرة عند الهبوط. وهذه القلابات تعني زيادة في الحجم، وزيادة في الوزن
وأحياناً لا نشعر بالقاذفات إلا وهي قريبة منا على أهبة الهجوم، فنطلق المقاتلات من معاقلها. ولكن هذه الطائرات القصيرة الأجنحة، السريعة كل السرعة في الاتجاه الأفقي، تعجز عن الارتفاع إليها في مدى الزمن المطلوب، فنعود إلى المهندسين يطيلون أجنحتها، ويزيدون من مساحتها، ليعينوها على التسلق العاجل، مضطرين إلى التنازل عن قليل من سرعة الانطلاق، مقابل بعض الربح في سرعة التصاعد
وإذا انتقلنا إلى القاذفات، وهي أداة التحطيم الاستراتيكي وجدناها في حاجة إلى كثير من الوقود، وكثير من القنابل، وبعض الرشاشات تذود عنها فتك المقاتلات، كما هي طائرات كبيرة الحجم ضخمة الجسم، وهذا يحد من سرعتها كثيراً، ورشاشاتها تلك لا تحميها كل الحماية، فتعمد إلى تغليف مواطنها الحساسة بالصفائح السميكة، وهذا أيضاً عبء كبير يزيد تباطؤها أن لم نعوضه بالتقتير عليها في إحدى وديعتها الأساسيتين: أو القنابل. فإن شح وقودها عجزت القاذفة عن إدراك بعيد الأهداف ولزمت دائرة القريب منها، وإن ضُنَّ عليها بالقنابل قنعت بإغارة ضعيفة عجفاء على الأهداف القاصية. وقد تتدرج الحالات من هذه إلى تلك. على أن يظل مجموع ما حمِّلت به الطائرة من أثقال داخل النطاق المسموح.
ولكنا أحياناً نواجه ضرورات قاسية تحتم علينا تحطيم بعض مرافق العدو النائية تحطيماً فعالاً. فنود لو تمكنا من الارتفاع بالزاخر من الوقود والوافر من القنابل، فلا تسعفنا عندئذ إلا (القلاع الطائرة) البطيئة الحركة، المعرضة كل التعرض لهجمات المقاتلات، نراوغ هذه إما بالتسلسل تحت جنح الظلام، وإما بالتصاعد إلى طبقات عليا: هبط فيها ضغط الهواء إلى ما تحت الحدود اللازمة لاستيفاء أسباب الحياة. نتحايل على تلك الحال بإحكام منافذ غلاف الطائرة على جوف اصطنع فيه ضغط جوي يقارب الضغط العادي، بواسطة آلات ضخمة تعجز طائرات المطاردة الخفيفة الوزن عن حملها والصعود بها إلى هذه السموات البعاد
(البقية في العدد القادم)
حسين ذو الفقار صبري
البريد الأدبي
أول احتفال بالعام الهجري
ذكرتُ بحسن احتفال الأمة والحكومة بالعام الهجري في هذه السنة حقيقة تاريخية قد لا يعرفها الكثيرون: وهي أن الحكومة المصرية إلى سنة 1327هـ لم تكن تعترف به كعيد من الأعياد، حتى نبهها إلى ذلك قادة الحركة القومية، برآسة المرحوم محمد بك فريد، فأصدرت وزارة المرحوم بطرس غالي باشا قراراً بجعله يوم عيد رسمي تعطل فيه مصالح الحكومة. وقد صدر هذا القرار في ملحق لعدد 20 يناير سنة 1909 من الوقائع المصرية وهذا نصه.
(بمناسبة أول السنة الهجرية الجديدة ستقفل نظارات الحكومة ومصالحها في يوم السبت أول محرم سنة 1327هـ - 23 يناير 1909م)
وقد كان أروع احتفال أقيم في هذه السنة، هو الذي أقامه رجال الحزب الوطني في دار التمثيل العربي برآسة المرحوم أحمد بك لطفي المحامي، وكان من خطبائه الأساتذة: أحمد وجدي المحامي، ومحمد توفيق العطار، ومحمد راضي، وإمام واكد، وعبد المجيد إبراهيم صالح (باشا) الطالب بمدرسة الحقوق، وألقى حافظ قصيدته المشهورة:
أطلّ على الأكوان والخلق تنظر
…
هلال رآه المسلمون فكبروا
تجلى لهم في صورة زاد حسنها
…
على الدهر حسناً أنها تتكرر
وقد أشار إلى هذا الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك، مؤرخ الحركة الوطنية، في كتابه عن المرحوم فريد بك، فليراجعه من أراد التفصيل.
(المنصورة)
علي عبد الله
تاريخ وفاة ياقوت
وبعد فقد قرأت الملاحظة الدقيقة التي أوردها الأستاذ الفاضل محمود عزت عرفة في الصفحة 1170 من مجلة (الرسالة) الغراء لسنة 1942 عن الشبهة التي تولدت لديه في تاريخ وفاة ياقوت الحموي بسبب ما جاء في الجزء (9) والصفحة (198) من معجم الأدباء
طبعة دار المأمون في ترجمة الحسن بن أبي المعالي من أن ياقوت الحموي لقيه ببغداد سنة 637 وهو يخالف المعروف عن وفاة الثاني التي كانت في سنة 626
وقد رجعت إلى كتاب معجم الأدباء طبعة مرجليوث على نفقة لجنة ذكرى جبّ فوجدته يذكر في الصفحة الأولى من الجزء الرابع في ترجمة الحسن المذكور ولقيته ببغداد سنة 603. ولذلك فإن نقل التاريخ المذكور إلى طبعة دار المأمون بزيادة 34 سنة وجعله 637 جدير بالاهتمام الذي أثارته في نفسي تلك الغلطة الغريبة
إلا أنه قد يكون الدكتور أحمد فريد رفاعي - كما قال في كلمة الإهداء التي بدأ بها الجزء الأول من طبعة دار المأمون - قد استفاد من نصيحة ناشر الكتاب الأول له أو من الصور الشمسية للصفحات التي تركت في الطبعة الأولى ووصلت إليه، وأدرك وقوع الخطأ في تاريخ لقاء ياقوت بالحسن بن أبي المعالي المذكور فصححها على الصورة المتقدمة، وهذا يعرفه هو، وعليه إن شاء أن يثبته بالبرهان؛ وإلا فإن تاريخ وفاة ياقوت ستظل كما هي مدونة في كتب التراجم سنة 626 ولا عبرة لتاريخ وفاة الحسن المذكور الواردة في كتاب السيوطي لأنها ليست حجة على وفاة ياقوت
عبد الله مخلص
تجديد اللغة
لغتنا العربية لغة عميقة تتميز بسعة ومرونة وحسن انقياد؛ ومن هذه الصفات استقامت لها قابلية المطاوعة، فكانت أكثر اللغات كفاية. وليس أدل على ذلك من كثرة مشتقاتها ووفرة تعبيراتها، مما لا يكاد المرء يعثر على نظير له في غيرها من اللغات. وحسبك أن ترجع إلى ما خلفه لنا أعلام الأدب العربي في ثنايا كتبهم وتضاعيف مصنفاتهم. من تعبيرات تترقرق فيها المعاني، وتركيبات تتألق خلالها الأفكار، لكي تتحقق من غناء هذه اللغة التي وصمت بالفقر وهي على قدر من الثراء كبير.
أجل إن لغتنا زاخرة بالمفردات والتعبيرات؛ ولكنها في حاجة إلى من يستخرج من تضاعيفها تلك الكنوز التي غبَّرها الزمن فانقطعت بنا صلتها، مع أنها إذا ما أزيح ما عليها من غبار، عادت إليها جِدتها، فانفتح لنا مغلقها، واتضح لنا غامضها. وليست هذه بمهمة
هينة، لأن القدرة على تصيد مثل هذه الألفاظ الشاردة، وردها إلى حظيرة الاستعمال اللغوي بعد أن طال عهدها، لا تتوافر لكل باحث لغوي، ولا تتهيأ لكل منقطع إلى المطالعة. وإنما هناك نفوس طبعت على تذوق المعاني، فلا تكاد تبدهها الجمل منثورة هنا وهناك، حتى تضع يدها على الألفاظ السهلة التي صيغت فيها المعاني الكبيرة؛ فإذا ما قصدت إلي الكتابة بادرت إليها تلك الألفاظ طائعة مختارة، فترد على قلمها وكأنها جديدة ما عرفت النور من قبل!
من ذلك ما ورد في مقال أستاذنا الأب أنستاس ماري الكرملي الأخير (الرسالة 11: 497) في العبارة التالية: (ونحن نورد لك نموذجاً مما قال، وقد عثرنا عليه نَبَهاً) إذ نجد في هذه العبارة كلمة سهلة سلسة، قلما تدور على أقلام كتابنا، على الرغم من أنها تعبر عن معنىً زعم قوم أنه لا سبيل إلى التعبير عنه إلا بالخروج على اللغة! ومعنى كلمة (نَبَه) - كما جاء في المخصص لابن سيده، ج13 ص73 - (الضالة توجد عن غفلة؛ وجدته نبهاً أي من غير طلب، وأضللته نبهاً أي لم أدر متى ضَلّ. . .) وقد وردت هذه الكلمة في بيت لذي الرمُة، يصف فيه ظبياً قد انحنى في نومه، وهو قوله:
كأنه دُمْلُج من فِضّة نَبَهٍ
…
في مَلْعب من عَذارى الحيّ مفصوم
وجاء في لسان العرب: (النَبَهُ الضالة توجد عن غفلة لا عن طلب، يقال وجدت الضالة نبهاً من غير طلب، وأضللته نبهاً لم تعلم متى ضل. وقول ذي الرمة كأنه دملج من فضة نَبَه وضعه في غير موضعه، كان ينبغي له أن يقول كأنه دملج فُقِدَ نَبَهاً. . .)
والذي عندي أن قولنا: عثرت على الشيء نبهاً، قول يؤدي معنى الوقوف على الشيء من غير طلب، خاصته وقد جاءت كلمة (نَبَه) فأكدت معنى الالتقاء الذي يفيده (العثور على الشيء). فعسى أن يلقى هذا التعبير موافقة وقبولاً.
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
إلى الأستاذ محمود عزت عرفة
نسبت إليَّ أيها الأستاذ أني زعمت أن الرسول عليه الصلوات كان ممن يبدلون في القرآن
لفظاً بلفظ آخر يغايره في معناه. ومثل هذا لا يصح مني أن أقوله أو أزعمه، ولكن كثيراً من الناس يقرؤون ما كتبت فيصدقونه، ولا يكلفون أنفسهم أن يرجعوا إلى ما كتبت أنا، ليعلموا أني لم أقصد إلا توجيه قراءات منزلة بسبب هداني الله إليه، وهو جدير بالتقدير من كل منصف. وقد قلت في ذلك - فقضت رأفة الله أن يقرأ القرآن بما يحتمله من ذك تيسيراً على المسلمين في عصر الوحي الخ - فجعلت مرجع ذلك إلى الله تعالى، لا إلى النبي ولا إلى أحد من خلقه، ثم ذكرت أن النبي كان يعين أمثال تلك المواضع ابتداء أو بعد رجوع أصحابه إليه، فقطعت بهذا كل ليس في رأيي، ولكن الناس يأبون إلا أن يحملوا كل جديد على خلاف ظاهر، وعلى أسوأ ما يمكن أن يحتمله ولو بتكليف، لأنهم يكرهون التجديد ويسيئون الظن بمن يدعوا إليه. وإنه لغريب أن تثير كلمتي في اختلاف القراءات ما أثارته، مع أني أردت فيها بخصوصها أن أعرضها قبل نشرها على أخ لي من العلماء لا يتهم بالتجديد مثلي، فأقرني على نشرها ولم ير شيئاً فيها. أما أنك أيها الأستاذ لم تزد في كلامك فيما رأيته من التصحيف على ما أورده السيوطي فهو التراجع بعينه، ولعلك تذكر أيضاً أنك أضفت إلى ذلك قراءة - فتثبتوا - وهي قراءة سبعية متواترة.
عبد المتعال الصعيدي
حديث الجهاد الأصغر والأكبر
جاء بالكلمة الثانية التي نشرها الأستاذ الفاضل محمد عرفه عن العيد في العدد 495 (أن رسول الله (ص) قال وقد رجع من غزوه، رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر يعني جهاد النفس)
وهذا الحديث قال عنه الحافظ بن حجر: (إنه مشهور على الألسنة ولكنه من كلام إبراهيم بن عيلة) اهـ
وقد رواه الغزالي في كتاب الأحياء ولكن كم في هذا الكتاب من ضعيف وموضوع.
محمود أبو ربه
من عجائب البريد
جناب السيد الجليل الأفخم صاحب مجلة (الرسالة) البهية طال بقاؤه:
أحمد الله إليكم. وبعد فإنكم في العدد 486 من السنة العاشرة لمجلتكم نشرتم مقالاً عنوانه (إلى المعترضين علينا) للأب (أنستاس ماري الكرملي، وأنا المقصود في قوله (المعترضين علينا) أو أنا أحدهم، ولم ترسلوا إليّ عدداً لأقف عليه. وعدم إرسالكم عدداً يفسح لي أن أرفع عليكم دعوى في محاكم مصر الجزائية وأطالبكم بما يعدُّه القضاء السوري (عطلاً وضرراً) والآن أرسل إليكم رداً بالبريد المسجل وأصبر شهراً عليكم لنشره، فإذا لم يكن منكم رضى بنشره سأقصد مصر وأداعيكم لدى قضاءه العادل. إني أعمل بمقتضى الشرع السوري وأحسب أنه شرع مصر أيضاً. وأنتظر شهراً لجوابكم على كتابي هذا وقد أعذر من أنذر.
دمشق24 كانون الأول سنة 1942
الداعي
أمين طاهر خير الله
(الرسالة): ألقى إلينا البريد هذا الكتاب فأحببنا أن يطلع قراؤنا
عليه ليتفقهوا أو يتفكهوا، فان للأساتذة اللغويين في بعض
الأحيان جداً يشبه الهزل. أما الرد المسجل فكله على هذا
النحو من المنطق؛ وأربعة أخماسه في شرح (النقطة القانونية)
التي سيبني عليها الأستاذ رفع دعواه. فرأينا من التكرمة
لرجال الأدب ألا ننشره.