الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 499
- بتاريخ: 25 - 01 - 1943
ضحك كالبكي
للأستاذ عباس محمود العقاد
الضحك في صورته الجسدية تنفيس عن الجسد المكظوم
ذلك معناه الحرفي كما نراه رأى العين. فالضحك في صورته الجسدية حركة متتابعة في الصدر والحلق والفم يكثر بها تجدد الهواء في الجسم المكظوم، فيشعر على أثر هذه الحركة بطلاقة بعد حبس، وفرج بعد ضيق
وخليق بهذه الحقيقة المحسوسة أن تقودنا إلى عرفان معنى الضحك من الوجهة النفسية، أو من الوجهة الفكرية
فهو أيضاً تنفيس عن النفس المكظومة، أو الفكر المكظوم، وهو تعويض للحرية الضائعة، والطلاقة المحدودة
ولهذا تكثر الحاجة إليه في أيام الاستبداد
ولهذا تشتهر الأمم التي طالت فيها عهود الاستبداد بكثرة التنكيت، وشيوع النوادر المضحكة بين أبنائها
وربما كان هذا مرجع الشهرة التي اشتهر بها المصريون في طوال العصور الغابرة، حين كانوا يُبتلون بالدولة الطاغية بعد الدولة الطاغية، تنالهم بالعسف والجور، وينالونها بالنكات والنوادر، فإذا هم يلوذون من الضحك بدرع تعينهم على الصبر وسلاح يعينهم على الانتقام.
وللاستبداد موقفان متناقضان من الضحك والضاحكين
فالمستبد المسيطر على الناس بالجبروت والطغيان يريد أن يهولهم وينزل منهم منزلة القداسة والتنزيه، فلا يحب أن يصبح بينهم عرضة للضحك، ولا أن يجترئوا عليه بالعبث والاستهزاء، ولو من وراء ظهره
ولكنه بعلم أنه يضيق عليهم الخناق، وأنه يلجئهم إلى التنفيس عن صدرهم بوسيلة من الوسائل، ولو على حسابه كما يقولون إن لم تكن ثمة وسيلة أخرى. ولهذا قيل إن الزعماء النازيين - وفي مقدمتهم هتلر - يقربون إليهم فئة من المضحكين والمتندرين يسمعون منهم نكات الجماهير وفكاهات العامة والخاصة، ويجتهدون مع هذا في تحويل النكات والفكاهات
عنهم ما استطاعوا، ليضحك الشعب ويحتفظ الحكام المستبدون بهالة الرهبة والوقار في وقت واحد
ولست أذكر أن أصحاب الدعوة النازية غضبوا لشيء قبل الحرب كغضبهم لقول الخصوم عن الشعب الألماني إنه شعب محروم من ملكة الفكاهة، وأنه لا يعرف الضحك والسخرية، وإلا لما طال صبره على المظاهر الحكومية التي هي أدعى الأشياء إلى الضحك والسخرية!
فقد أثارت هذه التهمة غضب جوبلز وتلاميذه فأوعزوا إلى الصحف الناقدة عندهم أن تقيم الدليل على بطلانها، وراحت هذه الصحف تعقد عندهم أن تقيم الدليل على بطلانها، وراحت هذه الصحف تعقد المباريات لأصحاب النوادر والتعليقات الفكاهية وتغريهم على الظهور تارة بالتنويه والثناء، وتارة بالجوائز والمكافآت. وكانت البدعة الشائعة في تلك الأيام بدعة تقصير الملابس والإفراط في التجرد بين النساء الأوربيات ومنهن الألمانيات، فانهال المتندرون على هذه البدعة بالتنكيت والتسخيف واتخذوها هدفاً للمباريات والمسابقات. وأذكر من نوادرهم في ذلك نادرة لا بأس بها فاز صاحبها بإحدى الجوائز الأولى، وهي أن رجلاً دخل المنزل فرأى امرأته في كساء جديد يشبه أكسية الحمام في القصر والخفة، فبادرته قائلة: ألا تعلم يا فلان أنني ظفرت بخائط يبيعني الكسوة التي أحتاج إليها بالتقسيط؟
فنظر إليها حانقاً وقال: (وأظن هذا هو القسط الأول من الكسوة؟. . .)
واعتقد الدعاة النازيون أنهم أبطلوا تهمة خصومهم بجملة هذه النكات، وأثبتوا للشعب الألماني ملكة الفكاهة التي ينكرها عليه المنكرون
على أن الواقع - بنجوة من المفاخرات القومية والخصومات السياسية - أن أبناء الحواضر في ألمانيا لا تفوتهم النكتة اللاذعة، ولا تخلوا تعليقاتهم على الحكام والنظم الحكومية من الفكاهة الصادقة، وإن لم يبلغوا فيها شأو أبناء العواصم الأخرى كفينا وموسكو ولندن وباريس
ويغلب على اعتقادنا أن الصرامة النازية قد شحذت هذه الملكة ولم تقتلها، لأن هذه الصرامة تلجئ الناس إلى التنفيس عن صدورهم بالنكات والفكاهات، وكل ما هنالك أنها لا
تنطلق على الألسنة ولا في الصحف كما تنطق في البلدان التي تملك القول والنشر ولا تبتلي فيهما بالحجر الشديد
وقلما خرج من برلين - أو من ألمانيا على العموم - صحفي أو ناشر أو مذيع من الذين أقاموا فيها أيام الحرب إلا جاء معه بجعبة حافلة بالنوادر والفكاهات التي يتهامس بها أبناء برلين وميونيخ وغيرهما من الحواضر الكبرى
أحد هؤلاء وليام شيرر الذي كان يذيع من ألمانيا لمحطات الإذاعة الأمريكية المعروفة باسم (اتحاد كولومبيا) وقضى في أواسط أوربا سبع سنوات ثم غادرها بعد أن ضاقت به الحال وتعذر عليه أن يبلغ سامعيه شيئاً يستحق عناء التبليغ
ضاقت به أسباب الإذاعة لأنهم كانوا يحذفون معظم كلامه أو يحذفون كلامه كله في بعض الأيام، وكانوا إذا حذفوا كلامه كله خشوا أن يعزو السامعون ذلك إلى شدة الرقابة على الأنباء فاعتذورا عنه بغير علمه قائلين: إنه لا يذيع الليلة لأنه تأخر عن الموعد! ولم يقولوا إنه لا يذيع لأن الكلام الذي أعده للإذاعة قد حذف كله، أو لم يبق منه ما يستغرق الوقت المقدور لأنبائه
وحاول في بداية الأمر أن يعالج ذلك بما في وسعه فأقلع عن الصراحة ما استطاع وتعرَّض منها بالتلميحات والإشارات وتحميل اللهجة شيئاً من معاني السخر أو التوكيد أو الإيحاء. فما راعه ذات يوم إلا رقيب يلازمه ويشير على بعض الكلمات بالمداد الأحمر، ويقيس الفواصل بين جملة وجملة في أثناء الإلقاء حذراً من أن يكون المتكلم قد أراد بطول السكوت أن يلفت السامعين إلى أطواء كلامه السابق أو المقبل. فلما استحال عليه أن يقول كل ما يريد، وأن يقول بعض ما يريد، وأن يقول بالإشارة والسكوت ما يستحق أن يقال، لم يجد بداً من الرحيل، فرحل وفي ذاكرته وأوراقه جعبة من الخواطر والحواشي والتعقيبات تنبئ العالم بأضعاف ما كان ينبئهم به في أحاديثه ورسائله، وضمنها جميعاً كتاباً من الكتب النادرة في تاريخ الحرب الحاضرة، فما انقضى على صدوره عام واحد حتى كان قد أعيد طبعه ثماني مرات
في هذا الكتاب طرَف من فكاهات أهل برلين وفكاهات الموقف هنالك على الإجمال، تدل على أن الإنسان في إبان الخطر يحتاج إلى منفس الفكاهة - إلى الضحك - حاجة لا يبالي
معها بالموت أو العذاب، لأنها حاجة فردية شعبية لا حيلة فيها للحرب وضروراتها ولا للسطوة وطغيانها. فلا بد من التنفيس أو الانفجار
قال فيما رواه من تلك النوادر إن مدير مصلحة الوقاية نصح إلى الناس أن يبكروا بالنوم أول الليل قبل موعد الطائرات المغيرة. فكان أناس منهم يستمعون نصحه وأناس يؤثرون السهر وانتظار الموعد وهم أيقاظ
فإذا انطلقت زمارات الإنذار أقبل اللاجئون إلى المخابئ يحي بعضهم بعضاً بمختلف التحيات
أسعد الله صباحكم!. . . تلك تحية الذين بكروا بالنوم فلما استيقظوا تبادلوا التحية التي تعودوا أن يتبادلوها عند اليقظة
أسعد الله مساءكم!. . . تلك تحية الذين لم يناموا بعد، فهم يتبادلون تحيات السامرين في المساء
هيل هتلر!. . . تلك تحية الذين ناموا من أول الحرب، ولا يزالون نائمين. . .
وقال إن أهل برلين يزعمون أن هتلر وجورنج وجوبلز ركبوا طيارة فسقطت وهلكوا. . . ومن الذي نجا؟. . . الشعب الألماني
وربما كانت فكاهة الموقف أدعي إلى السخر من الفكاهة التي يخترعها المخترعون
فمن ذلك ما سمعه المراسل من بعض أهل (كولون) وأكد صدقه، وهو عجيب لولا أن الحروب لا تخلوا من عجيب
قال: إن الكساوى الرسمية قد كثرت في البلاد الألمانية أثناء الحرب حتى تعذر التمييز بينها
فمن ذلك أن ضابطاً من سلاح الطيران البريطاني تلكأت به طيارته على مقربة من كولون فهبط على الأرض ودخل إلى المدينة يائساً من النجاة لتسليم نفسه، وتوقع أن يقبض عليه الشرطة أو من يصادفه من رجال الحكومة فلم يقبض عليه أحد ممن رأوه، بل كانوا يقفون له ويتلقونه بالتحية ويخلون له الطريق فاطمأن بعض الاطمئنان
وكانت معه ورقات من عملة النقد الألمانية يحملها الضباط الطيارون عادة كلما حلقوا فوق ألمانيا، فخطر له أن يمضي بعض الوقت في دار للصور المتحركة ريثما يتفق له ما هو
مقدور له من الاعتقال أو النجاة
فطلبت منه العاملة نصف الأجر المكتوب على التذكرة، لأنه يلبس الكسوة العسكرية
ثم خرج من دار الصور إلى حيث سلم نفسه إلى ديوان الحكومة، وذكر لهم أنه أمضى بعض الوقت في المدينة ولم يقبض عليه أحد. فلما سألوا عاملة التذاكر فيمن سألوه: هل بعتِ هذا الرجل تذكرة لحضور الصور المتحركة هذا المساء؟
قالت نعم. وبنصف الأجرة مع السرور، لأننا لا نظفر في كل ليلة برجل من سلاح هتلر الممتاز!
ذلك أن الضابط كان يحمل على كتفه هذه الحروف الثلاثة: (س. هـ. م) أي سلاح هوائي ملكي. . . ففهمت العاملة وفهم السابلة معها أن الحروف اختصار لسلاح هتلر الممتاز، وهو أحق الأسلحة عندهم بالتوقير، وأندرها في أطراف البلاد!
إن صحت هذه القصة فهي من فكاهات القدر، وعندما تجب الفكاهة على الناس لا تندر بينهم فكاهة الأقدار
ولكنه ضحك كالبكي
وصدق ابن الرومي حيث قال:
إن من نابه الزمان بخطب
…
لأَحق امرئ بأن يتسلى
ومن كان في وسعه تسلية الفكاهة، ففي وسعه من التسلية كثير.
عباس محمود العقاد
مسابقة الأدبي العربي
3 -
ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
فن جديد ابتكره حافظ - هجريات حافظ - الشعر السياسي قبل الاستقلال - عبقرية حافظ في مقاومة الاحتلال - الشاعر المظلوم - بقية القول
فن جديد ابتكره حافظ
لم تكن المواسم الدينية ملحوظة في الشعر العربي على نحو ما نرى في هذا العهد؛ فقد كان يتفق أن يهنئ الشعراء ممدوحيهم بقدوم شهر الصيام وحلول العيدين. وتفرد الشيعة بإقامة المآتم يوم عاشوراء بكاء على الحسين
وما أذكر أن الشعراء كانوا يهتمون بالعام الهجري فينظمون القصائد في استقباله، كما كانوا يصنعون في استقبال النيروز، وإنما هي سنة حسنة نشأت في مصر منذ ثلاثين عاماً. سنةٌ دعا إليها فريق من شباب الحزب الوطني وعلى رأسهم (إمام واكد)، وقد استطاع أولئك الشباب أن يحملوا الحكومة على جعل اليوم الأول عطلة رسمية، وهي الفرصة التي أتاحت لحافظ أن يبتكر هذا الفن الجديد
وإنما أعد هذا ابتكاراً من ناحية الالتزام، وأعني أن حافظاً جعل هذا الفن من الفنون الموسمية، فكان يستقبل هلال المحرم بقصيد جديد. ثم عصفت الحوادث فشغلت مصر عن الاحتفال بعيد الهجرة عدداً من السنين، وتناسى حافظ واجبه فلم يقل في عيد الهجرة شيئاً يذكر بالعهد الذي انتفع به في صباه يوم كان قيثارة الحزب الوطني
ثم كان التوجيه الجميل الذي صدر من قلب الملك الشاب فاروق ابن فؤاد، التوجيه الذي يوجب أن تحتفل الحكومة المصرية احتفالاً عاماً تظهر آثاره في جميع البلاد، وتُطلَق فيه المدافع، وترن أصوات الموسيقى في الحدائق والبساتين، وتعد فيه دفاتر التشريف بقصر جلالة الملك، ويتبادل فيه الناس التهاني بأسلوب لم يألفوه قبل هذا العهد
المهم هو النص على هذه الظاهرة الجديدة في الحياة المصرية لنعرف متى ابتدأ الشعراء هذا الفن الجديد، راجين أن تكون لهم تحليقات يفوقون بها مبتكر هذا الفن الجديد
هجريات حافظ
ولكن ما طريقة حافظ في تلك الهجريات؟
لا تظنوها قصائد دينية يبين فيها الحكمة من هجرة الرسول - وإن ألمع إلى شيء من ذلك - وإنما هي قصائد يسجل بها حوادث العام الماضي ويسطر فيها ما يرجو في العام الجديد، ومن أجل هذا يستبيح الهجوم على هلال العام السابق إن أخلف الرجاء، كأن يقول في هلال سنة 1327
هللت حين لمحت نور جبينه
…
ورجوت فيه الخير حين تألقنا
وهززته بقصيدة لو أنها
…
تُليت على الصخر الأصم لأغدقا
فنأى بجانبه وخص بنحسه
…
مصراً وأسرف في النحوس وأغرقا
لو كنت أعلم ما يخبِّئه لنا
…
لسألت ربي ضارعاً أن يمُحقا
وبهذا تجرد هلال المحرم عند حافظ من حليته الدينية، واحتفظ بصبغته الزمانية، فهو بدء مرحلة جديدة من مراحل التاريخ يسعد بها قوم ويشقى بها أقوام
وهجريات حافظ تمثل اتجاهات الرأي العام المصري في الوقت التي قيلت فيه، وتدلنا على أن المصريين كانوا يسايرون الحوادث في الأقطار العربية والإسلامية، فهم يعرفون أشياء من أحوال الترك، وأشياء من أحوال الفرس، وأشياء من أحوال الأفغان، وعندهم أخبار عن الجزائر ومراكش وجاوة والهند، ويتأثرون بما يقع في تلك الأقطار من حوادث وخطوب. ومراجعة الرائية والقافية تؤيد ما نقول. ولنقرأ معاً هذه الأبيات في الموازنة بين حال الترك وحال الفرس عام 1908
سلو الترك عما أدركوا فيه من منىً
…
وما بدَّلوا في المشرقيْن وغيَّروا
وإن لم يقم إلا نيازي وأنورٌ
…
فقد ملأ الدنيا نيازي وأنور
تواصوا بصبر ثم سلوا من الحجا
…
سيوفاً وجدُّوا جدهم وتدبروا
سلو الفرس عن ماضي أياديه عندهم
…
فقد كان فيه الفرس عمياً فأبصروا
جلَا لهم وجهَ الحياة فشاقهم
…
فباتوا على أبوابها وتجمهروا
ينادون أن منِّى علينا بنظرةٍ
…
وأحيي قلوباً أوشكت تتفطر
والشاعر يطيل القول في فوز الترك بالدستور، وحرمان الفرس من الدستور. فإذا حال
الحول وجاءت تحية العام الجديد كانت الفرس ظفرت بالدستور، وكان على الشاعر أن يقول:
أولَى الأعاجم منَةً مذكورةً
…
وأعاد للأتراك ذاك الرونقا
وتغيرتْ فيه الخطوب بفارسٍ
…
حتى رأيت الشاه يخشى البيدقا
ثم يلتفت الشاعر فيرى مصر لم تظفر بشيء، لا بالدستور ولا بالاستقلال، وفي ذلك العام نُفِّذ قانون المطبوعات فقَصَّتْ أجنحة الجرائد المصرية، وجاز للشاعر أن يقول:
فتقيدت فيه الصحافة عنوةً
…
ومشى الهوى بين الرعية مطلقا
كانت تواسينا على آلامنا
…
صُحُفٌ إذا نزل البلاء وأطبقا
كانت لنا يوم الشدائد أسهماً
…
نرمي بها سوابقاً يوم اللقا
كانت صِماماً للنفوس إذا غلت
…
فيها الهموم وأوشكت أن تزهقا
كم نفّستْ عن صدر حرٍَّ واجدٍ
…
لولا الصمام من الأذى لتمزّقا
مالي أنوح على الصحافة جازعاً
…
ماذا ألمّ بها وماذا أحدقا
قصّوا حواشيها وظنوا أنهم
…
أمِنوا صواعقها فكانت اصعقا
ثم يتكلم عما وقع في ذلك العام من محاولة تجيد امتياز قناة السويس، وهي محاولة أثارت الجمهور المصري في سنة 1910، ثم يوجه القول إلى الشبان:
لا تيأسوا أن تستردّوا مجدكم
…
فلربّ مغلوبٍ هوَى ثم ارتقى
مدْت له الآمال من أفلاكها
…
خيط الرجاء إلى العُلا فتسلقا
فتجشَّموا للمجد كل عظيمة
…
إني رأيت المجد صعب المرتقَى
من رام وصل الشمس حاك خيوطها
…
سبباً إلى آماله وتعلقا
عارٌ على ابن النيل سّباق الورى
…
مهما تقلب دهره أن يُسبَقا
أوَ كلما قالوا تجمّع شملهم
…
لعب الشقاق بجمعنا فتفرقا
إلى آخر ما قال من هذا النصح الثمين.
الشعر السياسي قبل الاستقلال
سياسيات حافظ وقعت في عهد الاحتلال، السياسيات التي جعلته شاعر النيل، أما سياسياته بعد إعلان الاستقلال فهي مشوبة بالضعف، لأنه كان تعب من النضال، ولأنه كان استراح
إلى مطارحة الأحاديث في الأندية والبيوت والقهوات
فما سياسيات حافظ في عهده الأول؟
كان يشارك الجمهور المصري في مقاومة الاحتلال بعبارات هي الغاية في صدق الوطنية، ولكنه كان يقول كلاماً نَعدُّه اليوم من الكفر بالوطنية، فقد كان يطالب المحتلين بإصلاح البلاد، ويدعوهم إلى التحرز في اختيار الوزراء. . . أليس هو الذي يقول في مخاطبة السير جورست:
إذا ما شئت فاستوزر علينا
…
فتىً كالفضل أو كابن العميد
ولا تُثْقِل مطاه بمستشارٍ
…
يحيد به عن القصد الحميد
ولم يفت حافظاً أن يدعو جورست إلى إنشاء الجامعة المصرية فيقول:
وأسعدْنا بجامعةٍ وشيّدْ
…
لنا من مجد دولتك المشيد
وإن أنعمتَ بالإصلاح فابدأ
…
بتلك فإنها بيت القصيد
وقد أخطأ شارحو الديوان حين قالوا إن الجامعة المصرية لم تكن أُنشِئت بعدُ، فقصيدة حافظ في استقبال جورست نُشرت في وقت كانت فيه الأمة استعدت بقوتها الذاتية إلى إنشاء الجامعة المصرية، كما يشهد التاريخ الذي سنسطره بعد حين.
عبقرية حافظ في مقاومة الاحتلال
لن نعفر لحافظ أنه استنصر بجورست فقال:
تَداركْ أمةٍ بالشرق أمست
…
على الأيام عاثرة الجدودِ
وأيِّدْ مصر والسودان واغنمْ
…
ثناَء القوم من بيضٍ وسود
فهذا كلامٌ لا تقوله اليوم، ولن نقوله بعد اليوم، لأنه كلامُ لا يقاوم له ميزان
ولكنّ حافظاً له عبقرية في مقاومة الاحتلال لم نجدها عند غريمه شوقي، فما تلك العبقرية؟
إنها تتمثل في البيت الطريف:
لقد كان فينا الظلم فوضى فهُذِّبتْ
…
حواشيه حتى بات ظُلماً منظّما
وتتمثل في الأبيات التي نص فيها على تدريس العلوم باللغة الإنجليزية في المدارس الثانوية إضراراً باللغة العربية، وتتمثل في قصائده في وصف مأساة دنشواي، وهي مأساة لم تغب فجائعها عن الإنجليز أنفسهم، فسمعوا صوت الزعيم الوطني (مصطفى كامل)،
ونقلوا لورد كرومر إلى حيث لا يريد. وسيقول التاريخ إن صوت قَرَع سمع الاحتلال هو صوت المنوفية روضة البحرَيْن وزينة الوجود.
الشاعر المظلوم
هو حافظ إبراهيم الذي نحاكمه ظالمين، الشاعر الذي صرخَ فقال:
إلى من نشتكي عنَت الليالي
…
إلى (العباس) أم (عبد الحميد)
ودون حماها قامت رجالٌ
…
تهددنا بأصناف الوعيد
وكان هذا الأتهام ينشر بطريقة علنية في الجرائد المصرية، فكان شاهداً على خمود حاسة العدل هنا وهناك
ومما يُشرِّف الجيل الحديث أن نصرّح بأنه استطاع في عهد الشدة ما لم يستطع أسلافه في عهد الرخاء، فمصر التي كانت تقاوم الاحتلال وهي مؤيدة بالدولة العلية، لم تكن أقوى من مصر التي تقاوم جميع المكاره وهي مؤيدة بقوتها الذاتية
بقية القول
سياسيات حافظ ليس فيها كذبٌ ولا رياء، فقد عرفتُ من مسالك حافظ أنه لم يكن ينشر قصيداً إلا بعد أن يعرضه على جميع من يصادف من رجال السياسة والبيان، فشعره صورة صحيحة لزمانه، وهو زمان جمع بين الغرائب في الإفهام والأذواق، وكذلك تكون الأزمان التي تُعدُّ الأمم للنهوض والتحليق
مداراة حافظ للاحتلال لون من السياسية الوقتية، أما ضمير حافظ فهو ضمير الوطني الصادق، ضمير الشاعر الذي يدرك في سريره وطنه ما يدرك سائر الناس. أليس هو الذي أنبأنا أن مصر قالت:
وقف الخلقُ ينظرون جميعاً
…
كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام في سالف الده
…
ر كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشر
…
ق ودرَّاته فرائد عقدي
أي شيء في الغرب قد بَهَر النا
…
س جمالاً ولم يكنْ من عندي
فترابي تبرٌ، ونهري فراتٌ
…
وسمائي مصقولة كالفِرِند
أينما سرت جدول عند كرم،
…
عند زهر مدنَّرٍ، عند رند
ورجالي لو أنصفوهم لسادوا
…
عن كهول ملء العيون ومُرْد
لو أصابوا لهم مجالاً لأبدوا
…
معجزات الذكاء في كل قصد
إنهم كالظُّبا ألحّ عليها
…
صدأ الدهر من ثواء وغمد
فإذا صَيْقل القضاء جلاها
…
كن كالموت ما له من مردّ
أنا إن قدر الإله مماتي
…
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
ما رماني رامٍ سليماً
…
من قديمٍ عناية الله جُندي
كم بغَت دولةٌ عليّ وجارت
…
ثم زالت وتلك عٌقبَي التعدي
وتلك قصيدة نفيسة أحب أن يلتفت إليها من يستعدون لمسابقة الأدب العربي، فقد يسألون عنها يوم الامتحان
في تلك القصيدة قال حافظ أبياتاً في تصوير الأخلاق التي ترفع الشعوب، وفيها أبياتٌ صوّر بها حافظ ما بيننا وبين الغرب من صلات، فقد أنبأنا أن مصر أوصت أبناءها فقالت:
إن في الغرب أعيناً راصداتٍ
…
كحلتها الأطماع فيكم بسهد
فوقها مِجْهرٌ يريها خفايا
…
كمْ ويطوى شعاعه كل بُعد
فاتقوها بجُنةٍ من وئامٍ
…
غير رثّ العرا وسعيٍ وكدَ
وهذا القصيد موصول المعاني بالقصيدة الذي قال فيه:
- أبناؤنا وهمُ أحاديث الندى -
…
ليسوا على أوطانهم بِشِحاح
صبروا على مُرّ الخطوب فأدركوا
…
حُلو المُنَى معسولة الأقداح
شاكي سلاح الصبر ليس بأعزل
…
يغزوه ربُّ عواملٍ وصِفاح
الصبر إن فكرت أعظم عُدةٍ
…
والحق لو يدرون خير سلاح
وفي القصيدة السالف حدثنا حافظ أن الصبر هو عُدَّة من نطالبهم بالجلاء.
خُلُق الصبر وحده نصرَ القو
…
مَ وأغنَى عن اختراع وعَدّ
شهدوا حومة الوغى بنفوسٍ
…
صابراتٍ وأوجهٍ غير ربُد
فحما الصبرُ آيةَ العلم في الحر
…
ب وأنحى على القويِّ الأشد
وهذا أعظم ما قيل في الإنجليز، فما كانوا أذكي من الفرنسيس ولا أعلم من الألمان، وإنما اعتصموا بالصبر الجميل فظفروا بما ظفر به العرب القدماء
ثم ماذا؟ ثم بقي القول عما نظم حافظ في المراثي وفي شكوى الزمان، وأهمية هذين البابين أهمية ثانوية بالقياس إلى باب السياسيات.
ادرسوا سياسيات حافظ بعناية لتفوزوا، جعلكم الله جميعاً فائزين.
زكي مبارك
مطالعاتي حول المدفأة
الفنانون والمال
للأستاذ صلاح الدين المنجد
يذهب دافنيل ' في كتابه عن (تاريخ الملكية الاقتصادي. . .) أن العمل الفني الذي أخرجه أناس مجهولون أوتى، منذ القرن السابع عشر، ربحاً يعادل ثلاثة أضعاف الربح الذي قدر للآثار الفنية الرائعة التي أبدعها فنانون عباقرة عرفهم الناس فسار اسمهم، وشردت روائعهم في كل مكان
أفيكون للمال الذي يربحه الفنان، والرواج الذي يُقَدَّر لآثاره ورائعاته، أثر في قريحته ونبوغه؟ أيدب اليأس في نفسه عند رؤيته الغث يروج وينفق، والحسن يكسد ويهمل؟
هذا الأثر، كما أعتقد، يظهر في عدد المؤلفات، وفي شكل الآثار عند من يبتغي المال، ويتخذ الفن سبيلاً له، ويبدع، إن أبدع للسوقة لا للخواص
لا جرم أن هناك فنانين ذوي اقتصاد أو بخل أو تفتير، وأن هناك آخرين ذوي سرف وترف وتبذير، وأن فيهم جميعاً من يحب المال ويسعى إليه؛ ولكن ذلك كله لا يؤثر في عبقرية الفنان فيشلها أو يعلها. لقد كان من المقترين الموسيقي الإيطالي (باليسترينا وفيكتور هوغو، وميكيل آنج. . . وكان من المبذرين موزار، ولامرتين، ورامبراند. . . ولكن لم نر أن حبهم للمال أو تقتيرهم فيه أو حرصهم عليه، كان سبباً في خصب قرائحهم أو جديها؛ لأن الحقيقة هي أن هؤلاء، ونعني الفنانين الموهوبين، سواء أمبذرين كانوا أم مقترين، يجدون في الفن حاجة لا يتحولون عنها، لأن فيها متعة ولذة. فهم لا يعلمون، كل في فنه، ابتغاء المال، لكن إرضاء لأنفسهم. إذ ليس بهم سبيل إلى الصدوف عن الفن؛ فهم يعملون للفن، كما يعملون، بقدر، للحياة. ينظمون كما يبصرون، ويشعرون كما يأكلون؛ ويصورون كما ينامون. . . فإذا أشبعوا نفوسهم الجياع ورووا أرواحهم الظمآء بإبداع متع الفن الخالدات. . . تطلعوا إلى المال. فحاسة الفن، فما هي غير الرغبة في المال. لأن الرغبة في المال حاسة تساعد الفن، فما هي بالتي تبدع وتخلق، ولكنها تدفع وتهيج
وقد يكون من النزوع عن جدد العقل أن نقدر قيمة مؤلف من التواليف، أو أثر من الآثار، بما يقدم لصاحبه من الأموال. فقد يخرج الفنان آية من آيات الفن تتجلى فيها العبقرية
والنبوغ والسمو، فلا يقدِّر لها النجاح، ولا يقدِّم لصاحبها إلا فلوس غير كثار؛ وقد يخرج متأدب، من الأدب السوقي، ما يوافق عقل العامي ويطابق هواه. . . فينال النَّفاق والرواج. ولقد ربح كورنيل الكبير من مسرحيته (آتيلا و (تيت وبيرينيس ما لم يربحه من (السيد أو (هوراس فقد نال في كل منهما ما كان يعادل في القرن الخالي سبعة آلاف من الفرنكات. وهذا مبلغ في القرن السابع عشر، عظيم. رغم أن هاتين المسرحيتين لم تبلغا ذروة الفن. ونال (توماس كورنيل) من مسرحيته (تيموقراط ما يفوق هذا المبلغ، من أن توماس كان لا يجاري أخاه كورنيل الكبير في البراعة. وكانت الآثار التي جلبت لرسُّو الأموال، هي آثاره التي نسيها الناس في هذه الأيام. فلقد مهد معجمه السبيل للمال ليصل إلى جيبه. وربح هوغو من البائسين أربعمائة ألف فرنك؛ وما كانت بأروع آثاره. وقد أوتي الروائي الفرنسي (أوجين سو هذا المبلغ من كتابيه (خفايا باريس) و (اليهودي التائه وتخطاه ربح (بونسون داتيراي من كتابه (روكومبول
فمن أراد الفن لا يحفل المال. ويقول الدكتور لالو إذا أردت أن تعيش عيشة طيبة فاكتب وريقات، وميلدرامات وضع للتمثيل الموضوعات. . . أما إذا أردت أن تخدم الفن، وتخرج رائعات فاتنات، فاعزف عن العيش الناعم، والمال الكثير. فإذا كان عيشك الساذج آنئذ مترعاً بالفن والجمال، فإنه لعيش لا يقدر عليه من البشر غير أفراد قِلال.
وقد يخشى أن يسفل الفن إذا سعى وراء المال. ويقول (برودون في كتابه (ليس لدينا في مكان الأدب والفن، غير صناعة مقدّرة لخدمة الترف العامل على الفساد والخراب) ولقد احتج على الملكية الفنية وحقوق الفنانين في القرن الخالي، وقال إنه ليس من يكتب للفن، وليس من يبدع للفن، فهم جميعاً يبتغون التجارة؛ ويساعدون بما يكتبون على فساد البلاغة. . . وخراب الروح. وكان (شارل نوديير الروائي المعروف، يحسب عندما يكتب، أن كل ثماني كلمات تؤلف سطراً، وأن السطر ثمنه فرنك واحد. . . وقد عللوا وفرة حروف الاستفهام والتعجب. عند أبطال (دوماس الكبير) في رواياته كقولهم (أوه!) أو (آه!. . .) أو (آية!) بأن ثمن السطر كان فرنكاً ونصف فرنك؛ وهذه الحروف كانت تحسب في السطر من الكلمات التسع.
وقد لاحظ النقّادة الفرنسي (سانت بوف) هذا فقال: (إذا كنت تجد عند مؤلِّف بارع كهذا
(يعني دوماس الأب) جملاً فارغة جوفاً، فذلك لأنه قد اعتاد منذ الصبا، أن يشوه جمله، فيضع أقلَّ ما يكون من الفِكَر في أكثر ما يكون من الكلمات. . .) وما ذلك الإسهاب إلا لإكثار عدد السطور، وإكثار عدد الفرنكات.
فبرودون يغضب ويثور، لأن الفن لا ينبغي أن يصبح سلعة يلتمس من ورائها المال فتبتذل، ولكن يجب أن يبقي متعة يلتمس فيها الجمال والخلود.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
أهمية دراسة التاريخ
للدكتور محمد مصطفى صفوت
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
(أنشودة الزمن خلدت في ذاكرة الناس) هذا ما ألفاه شاعر في التاريخ. وما يجده الشاعر في قراءة التاريخ لا يختلف كثيراً عما يجده الفيلسوف أو المؤرخ. فالفيلسوف يجد التاريخ طرائق متعددة للحياة الإنسانية، ويسمع فيه صوتاً خالداً يردد قوانين الحق وأصداء الباطل، ويدرس فيه الفلسفة دراسة الواقع. وأما المؤرخ فيجد متعته في الوصول إلى الحقيقة، وذلك بدراسة الآثار والوثائق التي خلفتها الإنسانية في مناحيها المادية والروحية.
ويتساءل المؤرخون فيما بينهم عن موضوع علم التاريخ. هل التاريخ سيرة الملوك والأمراء، أم هو سيرة الشخصيات الكبيرة والأبطال الذين قادوا الأمم وغيروا مجرى حياة الشعوب؟ هل التاريخ قصة لحياة طبقة دون سواها؟ هل التاريخ دراسة للناحية السياسية فحسب، أم هو شامل للنواحي الاقتصادية والاجتماعية والعقلية والفنية للحياة الإنسانية؟ ولعل الرأي الذي يقول بأن التاريخ يبحث في حياة الإنسان في الماضي من كل نواحيها وفي تطورها ونموها أقرب إلى الحقيقة. ولكنا نرجع فنجدد دراستنا للحياة الإنسانية بالمدة التاريخية، وهي المدة التي وجدنا لها آثاراً ومخلفات نستطيع الاعتماد عليها والوثوق بها. فالتاريخ يعرض أمامنا ثمرات العقل الإنساني والعاطفة الإنسانية من أدب وعلم وقوة ودين، يرينا ما مرت به الدول والشعوب والطبقات والأفراد من محن ومصاعب وما سمت إليه من مجد وعظمة: هو يوضح لنا التطور السياسي والاجتماعي والفني.
شعر الناس منذ القدم بما للتاريخ من قيمة، فعنوا بدراسته وسارعوا إلى تدوين أخبار الإنسانية على صفحات الذاكرة، ثم على مبانيهم ومنشآتهم، ثم سجلوها في كتبهم، وهم يحسون بضرورة صيانة تراث الآباء والأجداد. على أن قيمة هذه الأخبار تتباين في أنظارهم بتباين الزمان والمكان، فحينما كان التاريخ قصصاً يختار الرواة من حوادثه ما يبهرهم ويثير إعجاب الجمهور كانت قيمته في التسلية وكسب الرزق. وحينما تغلبت فكرة السياسة أو الأخلاق، أو الدين أو الاقتصاد أصبح التاريخ يخدم غرضاً سياسياً، دينياً أو اجتماعياً. ثم لما اهتم المؤرخون بتنظيم حقائقه وترتيب وقائعه، ونقدها، كانت قيمة التاريخ
في ذاته، في السعي إلى الوصول إلى الحقيقة
ولننظر إلى أهمية التاريخ في تربية الدارسين وتثقيف عقولهم. ما قيمة التاريخ في ذلك النوع من التربية الذي يرمى إلى إعداد الأفراد للقيام بحرفة بنجاح وكفاية؟ رمى التعليم في القديم إلى غرض مهني، فكان مرمى من توافروا على معرفة التاريخ كسب العيش. فمنذ أزمنة سحيقة من عهد هوميروس، وجد قوم انهمكوا في دراسة القصص القومي وما يحويه من سير الأبطال، وساروا به خلال الديار اليونانية ينشدونه أمام الناس ويتقبلون ما يمنحونهم من هبات. وفي التاريخ الإسلامي كانت طائفة من الناس تعمل على حفظ أخبار العرب وأيامها وآدابها للتقرب من الخلفاء ونيل عطاياهم. ولم تكن طريقة الدراسة تعتمد على الأخذ من أفواه الرواة فحسب، بل كثيراً ما كانت تلجأ هذه الطائفة إلى الرحلة إلى الأقاليم التي يراد دراستها والوقوف على عجائبها وطبقات أهلها. ومثل هذه الطائفة كان يطوف في أوربا في العصور الوسطى
عرف المسلمون للتاريخ فوائد أخلاقية (دنيوية وأخروية) فكان عند الدول الإسلامية مادة حرفية تعد لمهنة الكتابة والإنشاء. وفي أوربا في العصور الحديثة كان التاريخ يدرس لأولاد النبلاء والأمراء كوسيلة من وسائل تدريبهم على ممارسة أمور الحكم. وهو الآن يدرس في بعض المعاهد العليا والجامعات لإعداد مُدرسي التاريخ والخُبراء السياسيين. أما في المدارس الثانوية والابتدائية فتتغلب الفكرة الثقافية التي ترمي إلى تكوين الدارس عقلاً وروحاً وإعداده لتذوق الفن والجمال
مركز التاريخ مهم بين العلوم الثقافية، فالاهتمام به إنما هو اهتمام بتركة الإنسان وآثار لجهد الإنساني. قد يشك بعض الناس في قيمة تثقيف الطلبة بمعلومات عن أشخاص أو حضارات أصبحت الآن طي الفناء كما يحاولون. هؤلاء الأشخاص وهذه الحضارات لم تعف آثارها فما زالت مقيمة بيننا مؤثرة فينا ملهمة لنا؛ وما قيمة المعلومات الأخرى للإنسان إذا لم يعرف نفسه وماضي حياته وتفكيره في أطواره المختلفة؟ فدراسة الإنسان ينبغي أن يكون محور كل دراسة ومركز كل بحث
أما مركز التاريخ في التربية الخلقية الاجتماعية فلا يقل أهمية. يرمي ذلك النوع من التربية إلى تكوين الأخلاق الشخصية. ولقد ولد الإنسان في مجتمع يعد أفراده للحياة فيه
وفق عاداته ونظمه ومثله العليا. ولا ريب في أن التاريخ يكاد يكون من ألزم العلوم لهذا النوع من التربية، لأن التاريخ يدرس ماضي الإنسانية وتراثها الاجتماعي
وهناك اعتراضات قد تثور في ذهن بعض المفكرين؛ فيرى فريق أن التاريخ لا يعرض أمامنا أمثلة حسنة للسلوك المرضي فحسب، بل كثيراً ما يضرب أمثلة للقسوة والغدر والأنانية. ولو أن المؤرخ أو المعلم أراد استبعاد ذلك الجانب من التاريخ لجعل من شخصياته أبطالاً خياليين لا يدأبون وراء شيء غير الفضيلة، وهذا في ذاته مخالف للأمانة العلمية. ويقول فريق آخر (لقد أصبحنا لا نرجع للتاريخ لنجد دروساً في الأخلاق أو مثلاً عليا للسلوك أو مواقف باهرة. نحن نفهم أن القصة الخيالية لتحقيق ذلك المتفقة مع آرائنا في العدالة). ويرى فريق ثالث أن ليس ثمة فائدة أخلاقية نافعة من دراسة التاريخ، فهل دراستنا لتاريخ روما التي هوى بها الانهماك في اللذات والترف منذرة لعصرنا الحاضر بالاضمحلال؟ ويؤيد ذلك الفريق فكرته بأنه لم توجد فترتان متشابهتين من كل الوجوه في حياة الأفراد، فكيف في حياة الشعوب. وفريق رابع يندد بأن الماضي قد سيطر على عقولنا وتفكيرنا، فنحن نفكر بتفكير الماضي، ونحن منغمسون دائماً في الماضي، مع أن ظروف الحياة قد تغيرت وتبدلت، ولابد من زيادة الاهتمام بالحاضر والنظر إلى المستقبل
ويرد على هذه الآراء بالقول إن التاريخ مفسر للحياة الإنسانية الماضية، فهو موضح لناحيتي الخير والشر. والتربية الاجتماعية لا ترمى إلا لأعداد الفرد للحياة بما فيها من مفارقات. وهي تعمل دائماً على إيجاد التوازن بين الغرائز الاجتماعية للإنسان وغريزة حب الذات. لا ننكر أننا نرمي بمثلنا التاريخية إلى رفع مستوى الحياة وتطهيرها من أدرانها، ولكنا نعمل في نفس الوقت على إعداد شخصية حقيقية لا خيالية. ومن ناحية أخرى، كثير من الشرور التاريخية لا تستقر في أذهاننا، فقليل من الناس من إذا ذكر اسم شكسبير أو خالد بن الوليد يذكر هنأتهما الشخصية. ولا جدال في أن التاريخ ممتلئ بالشخصيات التي تتمثل فيها البطولة وبالمواقف الخلابة، وإذا وجد الأطفال في القصة الخيالية ما يشفي غليلهم، فلا يجد الدارسون ممن ارتقى بهم العمر في غير قصص التاريخ الحقيقية ما يهيج كوامن نفوسهم. وهل هناك ما يمنع من أن نضع لصغار التلاميذ قصصاً تاريخية في شكل جذاب تتجلى فيها الحقيقة، لهذه الأعمال أعمال حقيقية قام بها أناس
حقيقيون عاشوا على وجه الأرض. ثم هل من التعليم في شيء الإكثار من ملء عقول صغار الدارسين بخرافات وأوهام في مرحلة من العمر هم محتاجون فيها لضبط خيالهم، وفي وقت تناثر عقولهم بكل شيء، وأن هذه المعلومات المملوءة بالأوهام سوف تشكل ما يتلقونه من معلومات في المستقبل؟ وأخيراً لا نستطيع إنكار استفادة الإنسان من تجارب آبائه، واستفادة الأمم من تجارب من سبقها، فحياة الإنسان والأمم قصيرة ومعظم تجارب الإنسان ومعلوماته مستقى من الآخرين. ويمتاز الإنسان عن الحيوان بذكائه وقدرته الكبيرة على التعلم. وما نظم الحياة الحاضرة إلا تعديل لنظم الحياة الماضية. على أنه في دراستنا للماضي لا ينبغي نسيان الحاضر أو إهماله؛ فيجب دائماً ربط الماضي بالحاضر وتبين أثر الماضي في النظم الموجودة، كما يجب ألا تكون دراسة الماضي إعجاب فحسب، بل دراسة تفكير فيه ونقد له. ويلزم العناية بانتقاء الأمثلة التاريخية لأنها خير أثراً من كثير من النظريات الأخلاقية. وكلما كان المثل مأخوذاً من الحياة كان أكثر بقاء في النفس وأعمق قراراً فيها. وليست قيمة هذه الأمثلة مقصورة على عملها على استقرار الحياة وإنما في توجيهها لها. وفائدة هذه الأمثلة ليست في المبادئ التي تمثلها فحسب بل في الشعور والعواطف التي تستثيرها في نفس القارئ أو المتعلم. والتاريخ قصة لمحاولات الناس في سبيل الحياة، ولذا فدراسته ذات قيمة وفائدة لمن يتأهب للسير في هذا السبيل.
(البقية في العدد القادم)
محمد مصطفى صفوت
أطوار الوحدة العربية
العرب في ميادين الكفاح
للأستاذ نسيب سعيد
سأحدثك اليوم عن نزول العرب فعلاً إلى ميادين الصراع والنضال، وعن تأليف الجيش العربي واشتراكه بالمعارك والمواقع الحربية إلى جيوش الحلفاء فأقول:
لقد كان سفر الأميرين (علي) و (فيصل) من أبناء (الحسين) مع المتطوعين العرب، من معسكر (حمزة) في فجر أول يونيو (حزيران) عام 1916، أول نذير أنذر به الترك بخروج العرب عليهم، وانفضاضهم من حولهم. فاتجه الأميران العربيان بعد مغادرتهما الثكنة العسكرية إلى (الخانق) سالكين الطريق الشرقي، ثم عادا إلى (بيار علي) وهو موقع بقرب المدينة فخَّيما هنالك، وكاتبا القبائل العربية، وأخذ يجمعان القوى والجنود والأنصار
وفي صباح الثامن منه هاجما بستة آلاف مقاتل محطة (المحيط) مع حاميتها، ودارت أول معركة بين الترك والعرب؛ واستأنفا الغارة صباح 9 منه فهاجما الحسا، ودارت معركة عنيفة امتدت من الصباح حتى الظهر. وعلى هذا المنوال بدأت المعارك حول المدينة المنورة بين العرب والترك قبل أن تعلن الثورة رسمياً لأن الثورة الكبرى - كما قلت لك في حديثي السابق - بدأت في مكة صباح يوم السبت 9 شعبان سنة 1334 الموافق 10 يونيو (حزيران) عام 1916. وذلك أن الحسين أوعز إلى رجاله - وكان قد أعدهم من قبل - بأن يهاجموا الثكنة العسكرية في (جردل) - كما حصل في المدينة والطائف - وكان الترك غافلين عما يدبر لهم في الخفاء، وكان قادتهم وكبار ضباطهم في الطائف؛ ويتولى القيادة على الجيش التركي وقتئذ بكباشي اسمه (درويش) بك
وفي ذلك الصباح الأعز بدأ (الحسين) نفسه الثورة على الدامية بأن أطلق رصاصة من قصره على ثكنة الترك فكانت الإعلان الرسمي للثورة العربية الكبرى، كما كانت الإشارة التي اتفق عليها بينه وبين رجاله فشرعوا بالهجوم على أثرها. وكانوا قد احتشدوا في مكان مجاور قبيل الفجر
وأدرك درويش بك قائد الجند التركي حراج الموقف، وعرف أن مصير جنده إلى الفناء لأنهم كانوا يقومون بالتمرينات الرياضية المعتادة في خارج الثكنة، بلا سلاح ولا عتاد،
فعمد إلى الحيلة لإنقاذهم، فخاطب الشريف تليفونياً وسأله عن السبب فيما وقع فأجابه:
(إن العرب لا يرضونكم حكاماً عليهم بعد ما قتلتموهم، وأهنتموهم وعاديتموهم)
فقال له: (ما دام الأمر كذلك فأرسل من قبلك من تعتمد عليه لنسلمه السلاح والجند، فنحن لا نريد إراقة الدماء عبثاً) فقصد الشريف عبد المحسن البركاني على الفور لمقابلة درويش بك وأمر الثوار بالتفرق. فدخل الجند الثكنة فوراً وأخذوا السلاح وأخذوا أهبة النضال والقتال، ونبه أحد الضباط العرب الشريف إلى الحيلة والمكيدة، فنجا بنفسه
وهاجم الشريف محسن بن أحمد منصور جدة صباح الأحد في 11 يونيو (حزيران) على رأس أربعة آلاف مقاتل، فتحصنت حاميتها التركية في شمالها وجنوبها، وصمدت للكفاح. وقد اشتركت - لأول مرة - ثلاث بوارج بريطانية. في هذا الهجوم يوم 13 منه وأصلت أماكن الترك نيراناً حامية. وكذلك طارت الطائرات البحرية البريطانية في سماء جدة يوم 14 منه وألقت على معسكر الترك منشوراً يعلن ثورة العرب على أحقاد جنكيز. وفي يوم 16 يونيو (حزيران) رفعت حامية جدة راية التسليم، فأنذرت بعدم إتلاف مدافعها وأسلحتها. وبلغ عدد الجنود الترك الذين استسلموا للعرب يومئذ (1346) جندياً يقودهم (47) ضابطاً مع غنائم كثيرة جداً
وفي يوم 27 وصل إلى جدة (ولسن) باشا حاكم بور سودان يحمل كتباً إلى الشريف (حسين) يتضمن تهنئة العرب بالنصر والاستقلال ويعرب فيه عن الإعجاب والإكبار لهذه الأعمال المجيدة التي يقوم بها العرب، وقال انه من البريطانيين الذين يحبون الشرق ولا سيما العرب منذ نعومة أظفاره. وجاء في الكتاب أيضاً أن الحكومة البريطانية أرسلت مع هذه التهنئة والتحية قوة بسيطة من قبلها لمساعدة العرب في جهادهم الجبار. . .
وفي يوم 25 شعبان سنة 1334 و 26 يونيو (حزيران) تم طبع منشور الثورة، وقد وضعه الشريف (حسين) بنفسه وبسط فيه الأسباب التي أهابت به إلى مقاتلة الترك بسطاً وافياً
ولا ريب أن أقطاب العثمانيين ريعوا لإعلان الثورة العربية في الحجاز، وكان جمال باشا أشدهم حسرة وألماً، لأنه أدرك أنه كان مخدوعاً، وعرف أنه لم يحسن التصرف مع (الحسين) وأبنائه الذين أفلتوا من يده بعد ما أخذوا المال والسلاح. ولقد كان فخري باشا
محافظ المدينة المنورة أول من تنبه إلى هذه الحقيقة، كان يدعو إلى الفتك بالشريف وأبنائه، ويشير باتباع سياسة الشدة والحزم في الحجاز فقال كلمته المأثورة:(لقد انتصر الذكاء العربي في هذه المرة على الذكاء التركي وفاز عليه).
وقبض فخري باشا على ناصية الحال في المدينة على الأثر، وأخذ يستعد لمنازلة العرب الذين نزلوا إلى ميدان النضال والصراع، وشرعوا يقاتلون الترك بلا هوادة ولا توقف ولا رحمة. . .
وكذلك نزل العرب إلى ميادين الكفاح لأول مرة بعد نزولهم الحرب أيام الجيش المصري، بقيادة البطل الخالد إبراهيم باشا من القاهرة إلى فلسطين عام 1831 لمقاتلة الجيش التركي ففتحها بدون صعوبة ولا عناء بفضل تأييد عرب فلسطين إياه وانضمامهم إليه، وأكثر من ذلك بفضل شجاعة الجندي المصري وقوة بأسه وشدة فراسته، وواصل التقدم إلى دمشق وإلى حلب فاحتلهما، وكان العرب يقاتلونه في كل مكان بالهتاف والتصفيق والاستبشار وينضمون إليه ويرون فيه محرراً ومنقذاً مما سنفصله تفصيلاً حين الحديث على فضل مصر على القضية العربية
على أن إقدام (الحسين) وأولاده على إعلان الثورة وهم مجردون من كل قوة منظمة، ولا يملكون سوى مقادير قليلة من البنادق، وهي التي أخذوها من الترك للمتطوعة، ولا يجهلون أنهم سيستهدفون لقتال قوات كبيرة تنزل في ديارهم، وتحيط بهم، وتسد عليهم المسالك، ومن ورائها جيوش جرارة، تسرع لنجدتها؛ وأن هذا الإقدام ينطوي ولاشك على كثير من الجرأة، وصدق العزيمة. ولو تسنى لفخري باشا بلوغ مكة كما تصور جمال باشا لقضي على الثورة وأبادها في مهدها، بيد أن ثبات رجال العرب في وجهه واستماتتهم في المقاومة والكفاح، جعله يعدل عن خطة الهجوم، ويكتفي بالدفاع، فاستصفى العرب بذلك مدن الحجاز الواحدة بعد الأخرى بعد أن نزل (الجيش العربي) إلى القتال، ثم اتجهوا نحو الشمال، لتحرير سورية وإنقاذ بلاد الشام
ولقد أظهر الجيش العربي في خلال الأدوار التي اجتازها أثناء الحرب الماضية من الشجاعة والإقدام - على حداثة عهده - ما نال إعجاب الأعداء قبل الأصدقاء، وجعل قادة الحلفاء وفي مقدمتهم اللورد (اللنبي) يعترفون بما أسداه من خدمات جلى. أما أهم المعارك
التي خاضها الجيش العربي فهي معركة جدة وهي أول معركة ربحها العرب في الحجاز، ثم معركة مكة والليثي وأوملج، والطائف، والمدينة، ورابغ، والوجه، والمويلح، وخبا، وحروب المحطات، والعقبة، ووادي موسى، والطفيلة، ومعان، والأزرق، وحوران، ومعركة الشام الكبرى، وغير ذلك من الحروب التي أظهر بها الجيش العربي الباسل كل ضروب القوة والشجاعة والعبر رغم حداثته وقلة أفراده، مما لا يتسع المقام لتفصيلها. ولقد انتصر هذا الجيش الفتي في جميع هذه المعارك والحروب انتصاراً مبيناً، وسجل آيات الظفر بأحرف من نور. وكذلك انتهت الحرب التي افتتحت بمعارك الحجاز واختتمت بحروب الشام بفوز العرب وكانت قوة الترك لا تقل عن عشرين ألف محارب مجهزة بأفضل الأسلحة الحديثة. وقد قطع العرب خط الرجعة على الجيش التركي المتقهقر من فلسطين ووادي الأردن، ومنطقتي معانة وعمان، وما كان يقل عن ثلاثين ألف محارب، فقد ارتد على جناح السرعة من دون أن يشتبك مع البريطانيين في قتال بسبب ظهور العرب وراء خطوطه، فانسحب بسرعة لكيلا يقع بين نارين، ولولا جهود العرب في الصحراء، وقطعهم الطريق على الجيش العثماني، وحاجتهم للمحطات على طول الطريق، لما وقع ما وقع ولارتد الجيش سالماً ولأنشأ خطوط دفاع جديدة في حوران وحول دمشق. ولقد سلم الترك والألمان بهذه الحقيقة الرائعة قبل الحلفاء، فقال المارشال (ليمان فون ساندرس) القائد العام للجيوش التركية في بلاد العرب في مذكراته التي نشرها بعد الحرب الماضية ما نصه:(لقد اتفق شريف مكة وأميرها مع الحلفاء في صيف عام 1912 على الاشتراك في الحرب، وأعلن استقلال العرب، فنشطت بذلك حركاتهم الثورية في بلاد الشام، وكان الحلفاء يحمونها، واتسع نطاقها، وخصوصاً بعد إفلاس سياسة الشدة التي سار عليها جمال باشا، في معاملة الشعب العربي. ولقد أراد أنور باشا إعداد حملة عسكرية كبيرة تزحف على مكة، وتنصب أميراً جديداً عليها، بيد أن عدم ملاءة الظروف الحربية، وعدم جواز اشتراك جنود مسيحيين في الحرب، حال دون إتمام ذلك فعدل عنه. ولقد أدت الثورة العربية خدمات جلى للجيش البريطاني، خلال تقدمه في شبه جزيرة سينا فكان الإنجليز آمنين مطمئنين يفعلون ما يشاءون كأنهم في داخل بلادهم، بعكس الترك الذين مقتهم أهل البلاد، وملوهم فكانوا يسوقون جيوشهم وكأنهم في بلاد معادية لهم). . .
(دمشق)
نسيب سعيد
المحامي
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
الحضارة المصرية القديمة
كان لقدماء المصريين حضارة رائعة يعتز بها الآن أبناء مصر، ويفد السائحون من سائر الأقطار لمشاهدة آثارها الباقية، والتمتع برؤية عجائبها التي تملأ النفس روعة، وتفعم القلب إعجاباً. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحضارة العظيمة فيما قصه من أخبار فرعون وموسى عليه السلام، ولكنه لم يمدح منها إلا ما يستحق المدح، ولم يطر منها إلا ما يستحق الإطراء، وذلك ما كان منها متجهاً إلى مصلحة الرعية، نم شق الأنهار، وتعمير الأرض، والعناية بتوفير خيراتها للناس، حتى تنمو بذلك ثروتهم، وتسعد به حياتهم، فلا يتمتع الملك وحده بالحياة السعيدة، بينما تعيش الرعية بجانبه في الذل والشقاء. وقد كان للحضارة المصرية عيوب بجانب هذه المحاسن فأشار القرآن الكريم إليها، وندد أشد تنديد بها، وذكر أنها هي التي قوضت بنيان هذه الحضارة، وجعلتها تنتقل إلى قوم آخرين، ساروا في الأرض سيرة صالحة، وأقاموا فيها موازين العدل، وتلك سنة الله في الخلق، كما قال تعالى في الآية - 150 - من سورة الأنبياء:(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) فالمراد بذلك الصالحون لعمارتها، وإقامة بنيان الحضارة فيها، وهذا هو الذي يشهد به التاريخ القديم والحديث، فأنا نرى فيه أن الحضارة الإنسانية لم تكن وقفاً على أمة من الأمم، ولم يستأثر بها شعب من الشعوب، وكم من شعوب ظهرت بهم الحضارة فأبطرتهم، وأخذوا ينظرون إلى أنفسهم نظرة إعجاب وإكبار، وينظرون إلى غيرهم نظرة استهزاء واحتقار، ويرون أنهم أوثروا بالتقدم على غيرهم إيثاراً، وقد بلغ من بعضهم أن زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فلم تكن إلا عشية وضحاها حتى سلبهم الله عزهم، وأورثه ثوماً آخرين صالحين متواضعين، ديدنهم العمل، ولا يأخذهم شيء من الغرور والكسل
وهذه هي الآيات التي وردت فيما يستحق المدح والإطراء من الحضارة المصرية القديمة،
وهي تصف ما تركه فرعون من آثار هذه الحضارة في مصر، حين غرق هو وجنوده في البحر، ففي هذا يقول الله تعالى في الآيات: 24، 25، 26، 27، 28، 29 - من سورة الدخان:(واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون، كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء وما كانوا منظرين)
ويقول أيضاً في الآيات - 57، 58، 59، 60 - من سورة الشعراء (فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين)
ولاشك أن القرآن بهذا المدح والإطراء لما كان في مصر على ذلك العهد، يتفق مع الغاية التي قلنا إن الإسلام جاء من أجلها، وينادي بأنه ليس ديناً يدعو إلى إقامة نساك وعباد في الأرض لا غير، ويزهد الناس في تعميرها بشق الأنهار، وإقامة الزروع والبساتين، وغير ذلك من معالم الحضارة، ووسائل السعادة في هذه الحياة، بل يدعو مع العبادة والنسك إلى ذلك كله، ويرى أنه لا تتم سعادة الآخرة، إلا بسعادة الدنيا
وقد ذكر المفسرون في تلك الجنات والعيون أن البساتين كانت ممتدة في حافتي النيل فيها عيون وأنهار جارية، وذكروا في ذلك المقام الكريم أنه أراد به مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم، وقيل إن فرعون كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلثماثة كرسي من ذهب، يجلس عليها الأمراء والأشراف من قومه، وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب
ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى خطأ المفسرين فيما ذكر الله من إرث بني إسرائيل في تلك الآيات، فقد ذكروا أن الله عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والأماكن الحسنة. ولاشك أن من يدرس تاريخ بني إسرائيل من عهد موسى إلى ظهور الإسلام، وكذلك تاريخ مصر في ذلك العهد، لا يجد شيئاً فيهما يثبت أن بني إسرائيل قام لهم فيه ملك في مصر، أو أنهم ردوا إليها فأعطوا ما كان لفرعون وقومه من الأموال والأماكن الحسنة. والحق أن الله تعالى يشير بذلك إلى بساتين وعيون كانت لبني إسرائيل في فلسطين، وذلك بعد أن قامت لهم فيها تلك الدولة العظيمة، وبلغت أوج عظمتها في عهد داود وسليمان عليهما السلام. فالضمير في (أورثناها) يعود إلى مطلق الجنات والعيون وما ذكر معها، ولا يعود إلى خصوص ما كان
منها في مصر على ذلك العهد، وهذا من أسلوب الاستخدام المألوف في لغة العرب، ويعتمد في بيان المراد منه على السياق وقرائن الأحوال
وأما الآيات الواردة فيما يستحق الذم من الحضارة المصرية القديمة، فهي التي وردت في قيام الحكم فيها على التفريق بين الشعوب، واستخدام الشعوب الضعيفة في مصلحة الشعوب القوية، وذلك قوله تعالى في الآيات - 4، 5، 6 - من سورة القصص، (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفدسين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)، وقد ذم القرآن الكريم من ذلك ما يستحق الذم، لأن الحكم الصالح يجب أن يقوم على التسوية بين الشعوب، وعلى الأخذ بيد الشعب الضعيف حتى يصل إلى ما وصل إليه الشعب القوي، فلا يرهق شعب في العمل لسعادة شعب أقوى منه، ولا يرى شعب أن يستأثر بأسباب السعادة لنفسه، لأن هذا مما يثير الأحقاد بين الشعوب ويعوقها عن التعاون في العمل لسعادة البشر في هذه الحياة، بما يقوم بينها من المنازعات والحروب، ولا سعادة لها إلا بالسلام، ولا سلام لها إلا بالعدل والمساواة.
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي
الطيران بين أسلحة الحرب
الملازم الأول حسين ذو الفقار صبري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
سنجد إذا نظرنا في أمر (الناقلات) أن ما ذكرناه عن القاذفات ينطبق عليها تماماً، إذ أنهما نوعان متماثلان، لا يختلفان في شيء اللهم إلا في تصنيف الأحمال، وليس في تقدير الأحجام والأثقال؛ هذه ارتحلت بالقنابل والمقذوفات، وتلك نقلت الرجال والعتاد أو ربما نقلت جنود الهابطات
أما (المنقضات)، أدوات التحطيم التكتيكي، فهي طائرات تعمل ضد أهداف ضاقت مساحتها وإن عظمت أهميتها كمدافع الميدان، أو معاقل المقاومة، أهداف لا تميز إلا من ارتفاع بسيط، إصابتها عسيرة إلا إذا هوت عليها الطائرات كالعقبان. فهذه إذن طائرات مقدرتها على الاحتمال عظيمة: هياكلها متينة، تغالب ضغوطاً نشأت عن حركات اعتدال عنيفة إثر سقطات هاوية، وطائرات كهذه يجب أن يكون ثقلها محدوداً حتى لا تؤثر جاذبية الأرض عليها تأثيراً كبيراً، فيا حبذا لو تمكنا من اجتجاز ما تبقى من ثقلها هذا المحدود. لحساب محرك قوي يساعدها على الانطلاق سريعاً. ولكن هل ترانا نسينا أنه يجب عليه اقتسام ذلك الثقل الفائض مع قنابل ضخمة لولاها لما أنشئت تلك الطائرات ولا كان لها وجود؟ فلتقنع (المنقضات) إذن بمحرك ضعيف يتركها فريسة سهلة لطائرات الأعداء، إلا إذا أحطناها بالمقاتلات تحرسها وتحمي ظهرها، فتعينها ولو قليلاً على القيام بواجبها وتنفيذ مآربها
تلك هي أنواع الطائرات الرئيسية، وياليتها كانت مقسمة ذلك التقسيم البسيط! إن واجبات الطيران أصبحت عديدة متفرقة، لا تؤديها على الوجه الصحيح إلا أنواع من الطائرات تعددت بتعددها، وتخصص كل نوع منها كل التخصص، كل منها يخالف الآخر في خواصه بل يناقضه أحياناً وإن تضافروا جميعاً نحو الغاية وتكاتفوا على الهدف
وتعدد أنواع الطائرات هنا هو بالذات السبب الرئيسي الذي وقف في سبيل سيطرة الطيران سيطرة تامة على ميادين القتال؛ فإن السلاح الذي كتب له التحكم والسيطرة يجب أن يكون سلاحاً مرناً متعدد النواحي لا الأنواع، يقابل كل حالة طارئة بأسلوب جديد يناسبها، أو بحل
مبتدع يعالجها. وما الحرب إلا ظاهرة اجتماعية لبشر يعيشون على وجه الأرض، ولذا سيظل سلاحها الأساسي جيوشاً تعمل مثلهم على وجه الأرض
بعد الحرب الماضية بقليل، غمرنا الجنرال الإيطالي (دوهيه) بمقالات عديدة ومؤلفات كثيرة ما قرأها قارئ إلا انقاد لآرائه وسلم بصحتها. فوثق من أن حروب المستقبل القريب هي حروب الفناء، حين تبسط الطائرات أجنحتها من شرق السماء إلى غربها، وتنقض على البلاد تمحوها، وعلى معالمها تدرسها
ولم يكتف (دوهيه) بالوصف والتصوير، بل قدم برنامجاً مفصلاً شاملاً، لم يترك فيه صغيرة إلا ذاكرها، ولم يمنعه الإمعان الطويل في الزوايا والأركان، من الابتعاد بين الحين والحين ليرنوا إلى هيكل بنائه كاملاًن فيضع قواعده، ويرسم خطوطه، بحيث تتسق بداخله التفاصيل، وتتماسك لتكون وحدة لا تنفصم
ولكن ذاك البرنامج عسير التنفيذ إلا على دولة ملكت من الطائرات عدداً عديداً، وكان لها منها وفرة وفيرة. فيقوم الإيطالي يدعو بعدم (تبذير) الميزانيات على الجيوش والأساطيل، فهي في نظره أشياء لا نفع فيها، ويتشبث بوجوب إنفاق أموال الدولة كلها في سبيل بناء الطائرات، بل يذهب إلى أن يخص منها بالذكر القاذفات، ويهمل المقاتلات وطائرات الاستطلاع. ويجب علينا هنا الانتباه إلى إحساس (دوهيه) العميق: باستحالة ضمان السيطرة للطيران إلا إذا تمكنا من تركيز قوتنا في نوع واحد من الطائرات، ظنه قادراً على مجابهة جميع الطوارئ. وهذه لم تكن طوارئ بمعنى الكلمة، بل تيارات مرسومة يسيرها المهاجم كيفما شاء، (وهيهات أن تنعدم في هذا العالم المفاجئات)، فهو إذن مشروع جامد تنقصه المرونة اللازمة لكل أداة يريدها الإنسان لمجابهة مشاكل الكفاح في سبيل الحياة، تلك المشاكل التي لا تبرز مجسمة كل التجسم إلا أثناء الحروب التي هي أشد مظاهر كفاح الحياة تركيزاً وأعنفها صورة
ومع ذلك فقد أرتكن مشروع (دوهيه) هذا على كثير من الأسس الواهية
قسم (دوهيه) مراحل الهجوم إلى ثلاث؛ أولاها: مرحلة تحطيم مطارات الأعداء وتدمير قوتهم الجوية، فما يكاد يجهز عليها حتى ينتقل إلى مناطق الصناعة يدك أركانها ويقوض أساسها؛ ثم يلتفت أخيراً إلى مساكن المدنيين يصدّع أجنابها ويهدّم سُقفها. هي (الحرب
الكلية) لا تبقى على شيء ولا تذر؛ هي حرب سلاحها القاذفات تحمل أسباب الهلاك والفناء على دفعات ثلاث، دفعات متعاقبة متلاحقة؛ السابقة منها تمهد السبيل للاحقة، واللاحقة منها تباري السابقة في افتنان وسائل الدمار، أولاها قذائفها ثقيلة ضخمة، والأخيرة سلاحها أرق من النسيم، وأفتك من ألف قنبلة تدافعت نحو الهدف. هذه هي جراثيم أمراض وبائية حشرت في أنابيب صغيرة، ولكنها سلاح يعجز عن إلحاق الضرر الشامل إلا إذا سبقتها حالة عم فيها الفزع، واختلط خلالها الحابل بالنابل، وانقلب أثناءها العالي على السافل؛ حالة شُلت فيها وسائل الوقاية، وانعدمت أثناءها أسباب العلاج. حالة تخلقها القاذفات بإشعال الحرائق الكبيرة تستعر وتمتد حتى لا يعود إنسان يفكر في رفيق، ولا أخ في شقيق، ولا أم في وليد. ولكن هل يسعنا إشعال تلك الحرائق ما دام هناك على الأرض أفراد لها مترقبون. وبكامل الوسائل مستعدون؟ لا مناص إذن من إقصائهم عن مراكزهم أو تحويل رقابتهم بقنابل قاصفة شديدة الانفجار، تهز أعصابهم إن لم تنثر أشلاءهم.
تلك هي المراحل الثلاث، وهي كما ترى مرتبطة ببعضها، متسلسلة الترتيب، ممهدة لأخيرتها التي هي أصدقها إصابة، وأمضاها نتيجة
طبق الألمان نظريات (دوهيه) على عمليات بولندا فنجحت نجاحاً لا بأس به: فَقَدَ البولنديون سلاحهم الجوي إثر هجوم خاطف شنته قاذفات الألمان على المطارات، ووقفت جيوشهم مشلولة حيرى لا تدري عما حولها شيئاً. كيف لا؟ وقد فقدت طائراتها وأصبحت كالساري في ظلام دامس، يتحسس الطريق فيتعثر، ويتنسم الاتجاه فيتخبط! أما المصانع فلم تدمر تدميراً تاماً كما أمل الألمان؛ وأمام المدن عجز برنامج (دوهيه) عن شق طريقه إلى سُبُل التنفيذ والتحقيق. ولا داعي لتذكير القارئ أن ألمانيا أحجمت عن استعمال الجراثيم الوبائية حرصاً على موقفها إزاء الدول، وخوفاً من استفزاز الرأي العام.
وفي صيف 1940 حاول الألمان معاودة تطبيق تلك النظريات على مطارات بريطانيا ففشلوا فشلاً تاماً، إذ هبت المقاتلات في وجه القاذفات المغيرة تردها وتقصيها، حتى فاه تشر شل بكلمته المشهورة في الإشارة بأعمال رجال الطيران البريطاني:(لم يسبق قط في تاريخ الحروب أن علقت فئة قليلة كهذه على أعناق شعب مثلنا، جموعه زاخرة بالأفراد، مائجة بالأعداد، دّيْناً كهذا، قيمته تفوق كل قيمة)؛ وهكذا أصبح القسم الأول نفسه من
برنامج (دوهيه) عسير التحقيق، إلا في تلك الأحوال الخاصة التي أنقضَّت فيها دول كبرى على دول صغرى ضعيفة لا تملك من تلك المقاتلات كثيراً
انهار إذن صرح (دوهيه) وهو أحسن ما شيد في سبيل تحقيق سيادة الطيران على ميادين القتال. فدعونا إذن من تخيلات المتخيلين، ولنخضع لما لا محيد عنه وهو أن الجيوش الزاحفة على الأرض ستظل العامل المسيطر ما عش الإنسان مثلها على سطح الأرض، وأن الأساطيل البحرية ستظل أقوى ما يؤثر على نشاط الصناعة والاقتصاد ما شقت السفن التجارية عباب الماء بشحناتها الغذائية أو مواد الصناعة الأولية. أما الطيران فستحتل ولاشك مكاناً تزيد أهميته بمر السنين، ولكنه سيظل دائماً أبداً السلاح المعاون لا الركن والأساس
أظهر الطيران تفوقه على غيره من وسائل الحرب في شئون الاستطلاع، فعم استعماله هناك، وفضل المدفعية في المقدرة على المسارعة بنيران تساعد قوات شقت طريقها للأمام سريعاً، بواسطة منقضات بنيت لهذا الغرض خصيصاً. وتمكن من التوغل بالقاذفات داخل بلاد الأعداء، وهذا ما لم يتوصل إليه أحد من قبل، وقدم المقاتلات تمد من تلك القاذفات، بل تشتتها أحياناً قبل وصولها إلى الأهداف، وهذا ما لم تقو عليه المدافع المضادة للطائرات.
وهكذا أصبح الطيران من أهم الأسلحة المعاونة، لا يجوز الاستغناء عنه بأية حال، خصوصاً إذا ارتد جيش منهزم أمام عدو يلاحقه، أو ارتحلت فوق البحر قوات حوصرت من البر، أو انتقلت جنود أثقلها العتاد من سفن حملتها إلى شواطئ الأعداء؛ أحوال تكون فيها الجيوش أو السفن متعرضة أشد التعرض لهجمات الجو، وتكون طائرات الأعداء فيها متهالكة على الأهداف، لا يردعها إلا سلاح من نوعها أقدر على محاربتها في نفس ميدانها، ومنازلتها بنفس وسائلها.
حسين ذو الفقار صبري
أشواق.
. .!
إلَيكِ تَسَامَي هَائِماً رُوحُ شَاعِرِ
…
وَفِيكِ تَغَنَّى ضَارِعاً لَحْنُ سَاحِرِ!
عَلَىَ لَهَوَابِ الطَّيْرِ مِنَّي تَحِيَّةٌ
…
إِلَى كلِّ قَلْبٍ بالصَّبَاباتِ عَامِرِ
وَفِي صَبَوَاتِ الغِيِدِ عَنِّى رِوَايةٌ
…
تُرَدِّدْهَا الأَنْسَامُ في كلِّ سَامِرِ!
ضَرَاعًةَ مُشْتَاقٍ إِلى رُوحِ فَاتِنٍ
…
وَدَعْوةَ مهجورٍ إِلى قَلْبِ هَاجِرِ!
دَعًينًي أَرَى الدُّنْيَا كما يُبْصِرُ الْوَرَى
…
فَقَدْ كادَ نُورُ الْحُبِّ يُعشِي نَوَاظِرِي!
أَرَاكِ فما أَدْري إِلى أَيِّ سِدْرَةٍ
…
مِنَ الْمَلإ الأَعْلَى تَنَاهَتْ خَوَاطرِيِ
صبَابْةُ وَلْهَانٍ وَأَلْحَانُ ضَارِعٍ
…
وَأَوْهَامُ مُشْتَاقٍ وَأَحْلَامُ شِاعِر
فَلا تَتْرُكِينِي لِلأَسَى. . . أَنْتِ فَرْحَةٌ
…
مِنَ الْحُسْنِ تَهْدِي بِالْهَوَى كلَّ حَائِر
وَلَا تَجْحَديِنِي. . . إِنَّ لي قَلْبَ مُؤْمنٍ
…
وَلِي رُوحُ صَدَّاحٍ وَلِي نَفْسُ طَاهِر!
لِعَيْنَيِكِ أَحْيَا فِكْرَةً لَا يَحُدُّهَا
…
زَمَانٌ وَلَا يَرْقَى لَهَا وَهْمُ خَاطِر
إِذَا كانَ لِي فِي الْحُبِّ طَاعَةَ عَاجِزٍ
…
فَقَدْ كانَ لِي بِالْحُبِّ صَوْلةُ قَادِر
نَسِيتُ بكِ الْمَاضِي. . . وَلَوْلَا بَقِيَّةٌ
…
مِنَ الرُّشْدِ تَهْديِني لأُنْسِيتُ حَاضِرِي
إذَا سَئِمَتْ رُوحِي مِنَ الْعُمْرِ وَحْدَتِي
…
فَطَيْفُكِ أُنْسِى فِي حَيَاتِي وَسَامِرِي!
فَيَا أَيُّهَا الطَّيْفُ الْحَبِيِبُ بَعَثْتَنِي
…
فَغَنَّتْ بِأَلْحَانِ الأَمَانِي مَزَاهِري
وَأَنْسَيْتَنِي مَا كانَ مِنْ طُولِ شِقْوَتي
…
كأَنَّ الأَسَى مَا طَافَ يَوْماً بِخَاطِرِي!
فَهَبْنِي مَعَ الأَطْيَارِ بُلبلَ أَيْكةٍ
…
يَلَقِّنُ أَسْرَارَ الْهَوى كلِّ عَابِر
وَخُذْ كَبَدِي لِلنَّارِ زَاداً فَرُبَّمَا
…
هَدَى نُورُهَا حَيْرَانَ بَيْنَ الدَّياجِر
طَوَيْتُ عَلَى نَجَواكِ نَشْوَانَ أَضْلُعِي
…
فَكُنْ عِنْدَهَا يا طَيْفُ بالْحُبِّ ذَاكِري
تَرُومُ لِيَ السُّلْوانَ. . . يا مَنْ لِطَائِرٍ
…
جَريح غَريبَ الرُّوح في كَف آسِر!
هِجِيرُ الصَّحَارَى لَمْ يَزَلْ فِي جَوَانِحي
…
وَصَمْتُ الْحَيَارَى لَمْ يَزَلْ فِي نَوَاظِرِي
عَلَى شَفَتِي سِحرُ مِنَ اللهِ فَاطْرَبي
…
فَما كلُّ مَنْ غَنَّاكِ لحناً بِسَاحِر
بَدَأْتُ وُجُوِدِي مِنْكِ لَحْناً مِنَ الْهَوَى
…
لَهُ أَوَّلٌ يَسْعَى إِلَى غَيْرِ آخِر!
خَلَودُ عَلَى رَغْمِِ الْبِلَي لَا تَمُسُّهُ
…
مَعَ الزَّمَنِ الْفَاني حُتُوفُ المقَادِر
طَوَيْتُ عَلَى الصَّبْر الْجَمِيلِ جَوَانِحي
…
ومَا كَنْتُ عَنْ نَجْوَاك يَوْماً بِصَابرِ
وِكِدْتُّ أَرَى حُبِّي وَأَسْمَعُ هَمْسَهُ
…
هُنَا فِي دَمِي. فِي مَسْمَعِي. فِي خَوَاطِري!
وَقُلْتُ: وَدَاعاً!. . . فِي غَدٍ سَوْفَ نَلْتَقِي
…
فَكانَ الْغَدُ الْمَأْمُولُ أَوْهَامَ شَاعِر. . .!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان
البريد الأدبي
الرقص الخليع
أكتب هذه الكلمة على أثر مشاهدتي لفلم جديد من أفلامنا المصرية، أجمع النقّاد الفنيون على استحسانه، وفاتهم جميعاً أن يشيروا إلى ما أقحم فيه من الرقصات الخليعة التي انتقصت من قدره، وما كان أغناه عنها. وإنني لأعلم إذْ أكتب هذه الكلمة، أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية تحاول أن تطهر الفن من الخلاعة التي تسيء إليه، ولكنني أريد أن أسّجل ظاهرة مؤلمة، لشَدّ ما ترمض قلب كل وطني مخلص: تلك هي مجاراة أرباب الفن لشهوات سفلة القوم. وما يجب على الفنان أن ينزل بفنه إلى هذا المستوى الوضيع، فيقدم للعامة ما تتطلَّب ولو كان في ذلك ما ينتقض من قيمته؛ وإنما يجب عليه أن يرفع العامة إلى المستوى الرفيع، فيسمو بهم إلى قمة الفن، ولو كان في ذلك تضحية منه ببعض الشهرة العاجلة والربح الوفير
. . . إنهم يسيئون إلى الفنّ بهذه الرقصات الفاضحة التي لا يصحبها غير فوره الشهوة وطغيان الجسد، إذ ما كان الرقص أداة لإرضاء الشهوة، وما كانت الراقصة أمتوعةً لكل حيواني متهتك. فهلاّ عمل اهل الفنّ - دون تدخلٍ من رجال الحكم - على القضاء التام على الرقص الخليع الذي لا أثر فيه لمعنى الفن؟
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
خط المصاحف وقواعد الإملاء
من العقبات التي تعترض المعلمين في مدارس التعليم الأولي - حين يقومون بتعليم القرآن الكريم لتلاميذهم - اختلاف خط المصاحف التي بأيدي هؤلاء التلاميذ، مع ما تعلموه من قواعد القراءة والكتابة، ويؤدي هذا الاختلاف دائماً إلى اللحن والتحريف في الآيات القرآنية، بالرغم من الجهد الكبير الذي ينفقه المعلم في الإرشاد والتصحيح، ولكن هذا الجهد يذهب عبثاً، حين يقرأ التلميذ لنفسه، وحين يستذكر دروسه، وهو بعيد عن معلمه. ولاشك أن عقلية الطفل لا تتسع لإدراك اصطلاحات الضبط التي تختلف عما انطبع في ذهنه من
قواعد الإملاء. وتظهر الصعوبة في صورة أوضح حين نعرف أن تحفيظ القرآن في الأيام الخوالي كان بطريقة التلقين، وكان التلاميذ ينقطعون لدراسته واستذكاره، فلا يشتغلون بغيره من العلوم، إلا بعد إتمام حفظه وتجويده. أما اليوم فالقرآن يدرس في المدارس الأولية مع كثير من مبادئ العلوم الحديثة، وزمنه محدود، والتلاميذ يحفظون بالقراءة في المصاحف لا بالتلقين، والزمن المخصص لا يكفي للمراجعة ودراسة مواضع الاختلاف بين خط المصاحف والكتب
ولا أستطيع أن افهم السبب في سكوت وزارة المعارف على هذا، وعدم قيامها بطبع مصاحف تتفق في الرسم مع قواعد الكتابة المعروفة. ولو فعلت ليسرت للناشئين الحفظ مع القصد في الزمن والجهد. على أنى لا ادري سر جمودنا وتعصبنا للخط الذي كتبت به المصاحف، وهو لم ينزل مع القرآن من السماء! اللهم إلا إذا كان القدم يكسب الخطأ صفة الخلود!
وبعد، فهل لمعالي وزير المعارف أن يضع هذه المسألة مع ما اعتزم أن يعالجه من مشكلات العلم، وشؤون التعليم؟
ليته بفعل، فيكسب ثواب العاملين، وحسن ثواب المخلصين
(المنصورة)
علي عبد الله
كلمة حرة للتاريخ
ذكر الدكتور زكي مبارك في مقاله المنشور في العددن497 تحت عنوان (حافظ إبراهيم) أنه:
(في شهر سبتمبر سنة 1911 أغارت إيطاليا على طرابلس - وهي يومئذ ولاية تركية - فنهض المصريون لمعاونة طرابلس بالطب والشعر والمال والرجال. . . وبفضل تلك الحرب أنشئت جمعية الهلال الأحمر المصري، وكان لقلم الشيخ علي يوسف تأثير في إنشاء تلك الجمعية، وهي لا تزال من كبريات جمعياتنا الخيرية
والحقيقة أن الشيخ علي يوسف هو مؤسسها الأول. وكنت أتمنى أن أذكر أشياء كثيرة عن
هذه الجمعية لولا أن هذا لم يحن وقته. وفي 15 فبراير سنة 1940 افتتح رسمياً مستشفى هذه الجمعية بشارع الملكة نازلي بحضور صاحب الجلالة الملك ووقف صاحب السعادة علي باشا إبراهيم وقال:
(مولاي! يرجع تاريخ إنشاء جمعية الهلال الأحمر إلى الحرب الطرابلسية عام 1911 وقد أسسها المرحوم السيد علي يوسف باشا ونخبة من كرماء الأمة المصرية لإسداء المعونة الطبية والمادية لجرحى الطرابلسيين ومنكوبي الحرب منهم. . .) الخ
عطية شلبي
بحكمدراية بوليس مصر
إجابة
السليط بالفتح: الزيت أو الزيت الجيّد، أرى أنّ منه ما يقال له (سلطة) بفتحتين
يستعمل الفعل (صمد) في بعض الصحف وفي أنباء الحرب بغير معناه، وأظن أن المراد (صمل) أي أشتد وثبت. صمد وصمد له وإليه: قصد، والصمد - بفتحتين - الذي يُصمد إليه في الحوائج أي يُقصد، والله الصمد (عن الحسن) الذي أُصمدت إليه الأمور فلا يقضي فيها غيره ولا يقضى دونه
ألمها - في عبارة السائل الفاضل - الثغر النقي، قال الأعشى:
ومهاً ترفّ غُروبُهُ
…
يسقى المتيّم ذا الحرارةْ
وأنشد الجوهري للأعشى:
وتبسم عن مهاً شبم غريّ
…
إذا تعطى المقبَّل يستزيد
(وحيد)
القراءات والتصحيف
اطلعت على ما دار حول القراءات في الأعداد الأخيرة من مجلة الرسالة، فرأيت ما يتعلق بالتصحيف لم يوف حقه من التمحيص، فأقول بإيجاز: إن ما عزاه الحافظ السيوطي في المزهر (2 - 230) إلى بعض المجامع من أن حماد بن الزبرقان صحف (إياه) إلى (أباه)
و (في عزة) إلى (في غرة) و (شأن يغنيه) إلى (شأن يعنيه) هو غير الصواب، لأن الأولى هي قراءة الحسن البصري وابن السميفع، والثانية قراءة الكسائي، والثالثة قراءة ابن محيصن والزهري
وحماد بن الزبرقان ظنين لا قيمة لما ينفرد به، وشواذه مدونة في كتاب ابن خالويه، بل يستقصيها أبو حيان في البحر. وما صح سندة من الشواذ يصلح لتفسير القراءات المشهورة، وما لم يصح سنده منها يكون من قبيل وهم الراوي وكذبه، وهؤلاء ما كانوا ينفون القراءة المتواترة في تلك الألفاظ حتى يظن بهم التصحيف
والحافظ السيوطي رحمه الله على كثرة مؤلفاته كثيراً ما يشط قلمه عن الصواب. وقد ألف شرح الشاطبية في القراءات السبع مع اعترافه بأنه لم يتلق علم القراءات عن شيخ. فمثله إذا نقل عن مجموعة مجهولة ما يتعلق بالقراءة سقط نقله من رتبة الاعتداد به.
(أبو أمية)
في رسالة عمر
للأستاذ زكي غانم كلمة بعدد الرسالة (491) يرى فيها أن رسالة عمر في القضاء قد أصابها تحريف في كتاب المنتخب للسنة الرابعة الثانوية، وفي كتاب شرح النصوص الذي اعتمد على المنتخب. وهو وضع كلمة (غير) مكان كلمة (عند) في العبارة الآتية:(فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته؟) وقال الأستاذ: (ولا وجه للنص محرفاً، وقوله: (في عاجل رزقه وخزائن رحمته) وصف لثواب الله لا ثواب غيره)
ولا أوافق الأستاذ على هذا الرأي؛ بل أرى أن كلمة (غير) هي المناسبة هنا، ولا يؤدي المعنى المراد بغيرها.
ومما يوضح رأيي أن عمر يقول قبل ذلك: (فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله. فما ظنك. . . الخ)
فعمر يدعو إلى مراقبة الله، وموافقة السر للعلن؛ وبنفّر من الرياء، والتظاهر للناس بغير ما
تنطوي عليه النفس تقرباً إليهم، وطعماً في ثنائهم، ورغبة في ثوابهم. فالمعنى الذي يرمي إليه عمر: أن ثواب غير الله حقير إذا قيس إلى ثوابه؛ فلا يجدر بمؤمن أن يؤثره عليه. ولذلك صح ارتباط الفقرتين، فكانت اللاحقة تعليلاً لمعنى السابقة، وموازنة بين ثواب الناس وثواب الله، وتحقيراً لما يرجوه المرائي عند الخلق بجانب ما يأمله المحسن عند الخالق، وبالقياس إلى رزق الله الذي يفيضه على من يراقبه، وخيره الذي يدخره لمن صحت نيته وأقبل على نفسه.
ومما يوضح ذلك أن الحرف (في) هنا (في عاجل. . .) إنما جاء للموازنة والمقارنة؛ كما في قوله تعالى: (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) بعد قوله: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)(سورة التوبة: 28)
ولما قرأت هذه الرسالة قديماً التوى على معنى هذه الفقرة، إذ لم أتبين موقع هذا الحرف (في) من العبارة؛ ولعل هذا هو السبب في اعتراض الأستاذ؛ ولكني رأيت في الكتب التي تعنى بحروف المعاني أن (في) يستعمل للمفاضلة، فاستقر المعنى عندي.
قال ابن هشام في باب حروف الجر من التوضيح أن المقايسة من معاني (في) وقال في المعنى: (الثامن (أي من معاني في) المقايسة، وهي الداخلة بين مفضول سابق، وفاضل لاحق، وقد استشهد في كلا الكتابين بالآية الكريمة:(فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)
وبهذا يزول اللبس الذي حدا بالأستاذ أن يجعل الظرف (في عاجل) وصفاً لصواب الله لا ثواب غيره. فإنه في موضع الحال من (ثواب غير الله) أي: فما ظنك بثواب غير الله مقيساً إلى ثواب الله. ومرجع الضمير في (رزقه، رحمته) هو الله
المتولي قاسم
المتهمة
هذا هو عنوان الفلم الجديد الذي أنتجته شركة لوتس فلم ووضع قصته الأستاذ حسن عبد الوهاب وقام بعمل حواره الأستاذ يوسف جوهر، وهو من إخراج الأستاذ بركات. وقد قامت بالدور الأول فيه الممثلة السينمائية المعروفة آسيا بالاشتراك مع مجموعة كبيرة من
الممثلين والممثلات. وموضوع الرواية يدور حول امرأة كانت تعيش مع زوجها وابنها عيشة سعيدة هادئة، ولكن الأيام سخرت منها وانتزعتها من حياتها إلى حياة أخرى شقية تعسة. وقد استطاع المخرج بركات أن يظهر الموضوع في صورة واضحة قوية. وبالرغم من أن هذا الفلم من النوع الدرامي العنيف فإنه لا يخلو من طرائف تبعث الضحك في وسط هذه العاصفة الهوجاء. وقد استطاع كل ممثل أن يؤدي دوره على خير وجه
نكتفي الآن بهذه الكلمة ونتمنى للسيدة آسيا كل تقدم ونجاح.
عبد الفتاح متولي غبن