المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 5 - بتاريخ: 15 - 03 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 5

- بتاريخ: 15 - 03 - 1933

ص: -1

‌بين السوامر والصحف

أسير الجهاد:

بين عشية وضحاها نزل صديقنا الأستاذ محمد توفيق دياب من قصر صاحبة الجلالة الصحافة، إلى سجن المجرمين من سلاب الأموال وقتلة الأنفس، لأنه رأى رأياً في سياسة هذا البلد عن إخلاص وعقيدة فلم يقره عليه القانون القائم، وحاولت صاحبة الجلالة أن تعصمه من أمر القضاء بالرحمة، ومن تنفيذ الحكم بالعفو، ومن قسوة التنفيذ بالرجاء، فما رجعت بطائل. وظهر أن جلالة الصحافة كجلالة الحسن: رواء في العين، ولا سلطان في اليدين!!

إنا نؤمن بعدالة القضاء كما نؤمن بحكمة القدر؛ ولكن في السجن الموحش المظلم فُرجة قد ادخرها القانون لضحايا العدل؛ فإذا لم تتسع لأمثال دياب فلمن تتسع؟ أن الكاتب الذي يحرق مخه وعصبه ليضيء الطريق لشعبه، ويغذي حيوية قومه بعصارة عقله وقلبه، ولا يبتغي من وراء جهاده غير مرضات وطنه وربه، لجدير باحتمال قسوته إذا قسا، واغتفار زلته إذا زل.

أن خطأ الاجتهاد في الرأي لا يعتبر جريمة الا في اصطلاح القانون الذي تسنه الحكومات له، فإذا ما اتسعت الصدور، أو تبدلت الأمور، عاد العمل بالقول المأثور: للمجتهد أجران إذا أصاب، وأجر إذا اخطأ. فإذا كانت جريمة الأستاذ دياب من النوع الذي يحرُم هنا ويحل هناك، ويوجب العقوبة اليوم ويقتضي المثوبة غداً، فأن شديدا على الضمير أن يعامل في سجنه معاملة الجناة والعصاة، فيعيش في غير شكله، ويشتغل في غير شغله، ثم يحرم لذة الجسم فلا يستريح، ومتعة الروح فلا يقرأ، وحق المريض فلا يعالج.

درس في الإحسان:

زار صاحبا الجلالة الإيطالية وادينا الحبيب فحلاّ في ربوعه حلول السعادة، ونزلا من أهله منزل الاجلال، وأفاضا على عاصمته وصعيده غمراً من سراوة الملك، ونبالة الخلق، ثم اختصا فقراء الإسكندرية بقرابة ألف جنيه على ما روى المقطم، فكان هذا العطف السامي موضعاً للتفسير والتأويل، ومثالا لاختلاف العقول في الاستنباط والتعليل، فمن قائل أن صاحب الجلالة أراد تعميم الإحسان في أجناس بني الإنسان، والإسكندرية شبه دولية، ومن

ص: 1

قائل أنه أراد تخصيصه، وكثرة الجالية الإيطالية، تنزل ربوع الإسكندرية. والأمر في كلتا الحالين مثل في شرف الغاية، لأن مبعث التعميم عاطفة الإنسانية، ومبعث التخصيص عاطفة الوطنية.

كلام طرآني:

ذكرنا في معرض الكلام عن أسلوب الأستاذ محمد بك مسعود أنه (منذ توفر على محاكاة الأستاذ وحيد في تحقيق اللغة، ومباراة شيخ العروبة في تمحيص التاريخ، بدت على أسلوبه الصحيح أعراض الغرابة التي تلازم اللغويين، والاعتداد الذي يساور العلماء).

وهذا الكلام كما ترى نزيه القصد بريء الدلالة. ولكن الأستاذ وحيدا وريث العجَّاج، وخليفة الزجَّاج قد طوع لنفسه أن يرد عليه في الأهرام بهذا الرد فقال:

(جاء في مقال للأستاذ الكبير المفضال محمد مسعود هذا اللفظ (طرآني) فقال له كاتب في صحيفة أغربت في الكلام إغراب وحيد وشيخ العروبة (يعني برهان العلم والأدب أحمد زكي باشا)

(وأني أقول للكاتب رأى القارئون عدوته (بفتح العين وإسكان الدال) ليس الطرآني من غرائب الكلام. وكفى قولي له أنك تراه من بلاغة اللغة في كتاب الزمخشري (أساس البلاغة) الذي قيل فيه: ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين. قال الأمام الزمخشري في أساس البلاغة: رجل طرآني، وحمام طرآني، لا يدري من أين جاء، وكلام طرآني الخ.

(اجتزئ بقولي لكاتب (ذي عدوة) ما قاله الأعرابي: ليس هذا بغريب ولكنكم في الأدب غرباء)

ونحن نقول بدورنا للأستاذ الجليل: لقد أغربتم فلم نفهم، وأفصحنا فلم تفهموا، فإذا كنا في الأدب غرباء، فأنتم في اللغة أدعياء، أليس كذلك؟

وهذا أيضاً!

أخذ صديقنا الأستاذ أحمد أمين على بعض كتابنا أنهم إذا تناظروا تخاصموا، وإذا تناقشوا تشاتموا، ونسي أن يقول كذلك أنهم إذا نقدوا تلمسوا أسباباً للنقد تدل على سوء القصد،

ص: 2

وأحدث الأمثلة على ذلك أن الأستاذ (ع. ع) وهو أديب نابه لا يُتهم في علمه ولا في فهمه، قد كتب في البلاغ بمناسبة ضحى الإسلام يقول ما مؤداه: أن أدباءنا قد استمرءوا (مائدة العراق) فهم إذا كتبوا في الأدب كتبوا عن العراق، وإذا بحثوا في العلم بحثوا في العراق، ثم نعى على صاحب ضحى الإسلام أن يغفل مصر، وفيها أنشئ الأزهر، وإليها هاجر العلماء. ولو قرأ الأستاذ الكتاب لوجد فيه فصلا عن مدرسة الإسكندرية. بل لو قرأ المقدمة لوجد المؤلف يقول:(عنيت بضحى الإسلام المائة سنة الأولى للعصر العباسي) وفي هذه المائة سنة لم يكن أسس الأزهر ولا سقطت بغداد! ومن الغريب أن يقول الأستاذ للمؤلف: إن طول النظر مرض ذكرته الأطباء، وهو يعلم أن قصر النظر كطوله سواء بسواء!

ص: 3

‌خواطر وصور

المتردد

أعرف رجلا يعيش رخي الصدر آمن السِّرب في دار بهيجة وأسرة حبيبة ورفقة مخلصين، تلقى ذات يوم كتاباً من صديقين يدعوانه إلى رحلة خارج القطر كانت منذ زمن طويل منتجع خاطره ومهوى فؤاده، فوجد من فرصة الفراغ وجمال الربيع ووفاق الخليط مغرياً جديدا بها، ودافعاً شديداً إليها، وكان صديقاه يطلبان جواباً حاسما سريعاً. فوقف الرجل بين الأمرين وقفة المتخير المتحير، لا يدري أيظل في هذا المكان المحبوب الذي يستبقيه، أم يرحل إلى ذلك البلد الجميل الذي يستدعيه؟

بدأ تردده هادئاً مقبولا كهدهدة المهد، ثم ما لبث أن عاد مزعجاً مملولا كاضطراب البحر. كان ترجُّحه بين الإقامة والظعن أشبه بتأرجح الزورق على الماء الهادئ يدفع إلى الأحلام والأوهام. والمتردد واسع الخيال كثير الفروض، فأخذ يقلب الأمرين في خاطره: يوازن بينهما منفردين، ويتمناهما مجتمعين، ويطمع أن يدركهما متعاقبين.

أزف الموعد والصديقان ينتظران الجواب إيجاباً أو سلبا، فلابد أن يخرج من عماية هذه الحيرة ليكتب إليهما، جلس جلسة الكاتب وأخذ أهبته للكتابة، ولكنه لم يكد يقر على الصحيفة يده حتى ساوره الشك فأمسك! واخذ فكره يتنقل بين المكانين، ويفاضل بين المعنيين، حتى انتهى به التردد إلى أيثار البقاء.

آثر البقاء لأن الصديقين ربطاه بعدة خفيفة، لا بكلمة شريفة، ولأن في المتردد جرثومة من جراثيم الكسل؛ المترددون أميل إلى الكف والاحجام، دون العمل والإقدام. ذلك إلى أن مخيلته الخصيبة قد انبتت له من الذرائع والأسباب ما وافق هواه: كيف يصدف عن مسرة هادئة أكيدة، إلى أخرى جديدة غير أكيدة؟ أنهم يمتدحون ذلك البلد الطيب هوائه وجمال مناظره، ولم يعلموا أن في الرحلة إليه والحلول فيه أضرارا تخاف وتحذر! أين يجد ما يعدل زوجته العزيزة وداره الجميلة وحديقته البهيجة؟ لقد أصبحت هذه الثلاث أجمل في نظره وأجمع لخيره منها قبل ذلك!

أليس من الحمق والجحود أن يغمط الإنسان مثل هذه السعادة؟ على أن هذا البلد بعيد الشقة، ولا بد للراحل إليه أن يبيت ليلة في القطار على فراش لا وثير ولا وطئ، أو يعبر البحر

ص: 4

متعرضاً لدواره وأخطاره، وإذا أصابه مرض في الطريق أو في الفندق فماذا تكون عاقبة أمره؟ ذلك فضلا عن الغذاء الدنيء والمسكن الوبئ والعناء المبِّرح.

أجمع صديقنا في الأمر رأيه، ووطن على البقاء نفسه، فكتب الكتاب بالرفض ودفعه إلى الخادم ليحمله إلى مكتب البريد القريب، ولكن الخادم لم يكد ينطلق بالكتاب حتى تحرك الشك في نفسه، وتغير المنظر الماضي في عينه، فكأنما سحر ناظره. أو تبدلت مشاعره!

ذلك البلد الذي استخف به منذ قليل تجلى لعينيه في صورة جذابة أنيقة، وتلك الأحاديث العجيبة التي سمعها عنه تواردت على ذهنه تباعا منمقة الحواشي بسحر جمال المفقود، وحب استطلاع المجهول، ثم تمثلت أمام عينيه فوائد تلك الرحلة وملذاتها، فعاد باللائمة على نفسه! كيف عميت بصيرته عن هذه المنافع جمعاء؟ وكيف إعتاقه عن هذا الأمر مئونة الاتفاق والنصب؟ أن متاعب السفر هي الصحة والقوة والحياة! ولا شيء أذهب للعمر وأقتل للمرء من أن يظل قعيد بيته مخلداُ إلى عيشة رغيدة وادعة. وحياة متشابهة مملة، تلك فرصة ما يحسب الدهر بمثلها يجود!

رحلة ممتعة مفيدة! وإخوان صدق ملئوا ظرفا وعلما! أن ذلك الرفض ضرب من البله والجبن!

تحول ذلك التوبيخ أسى وحسرة، وبلغ به الحنق والشوق والخجل حد الهياج والقلق، فأهوى بيده إلى الجرس، وصاح بأحد الخدم أن يرد عليه الكتاب وحامله، فقال له: أن الخادم يا سيدي أنصرف إلى وجهه منذ ربع ساعة!

فارتد الرجل كاسفاً حزينا، وانقلب ما حوله مظلما قبيحا، واستولى الضجر على نفسه، وأصبح بيته الجميل الرحب أضيق في عينيه من كفة الحابل، ثم ما لبث أن عاد إلى نفسه وأخذ يفكر في جواب الخادم، فقرر أن المسافة إلى مكتب البريد يقطعها الخادم راجلا في ربع الساعة، فإذا قطعها هو على سيارة استطاع أن يوافيه قبل أن يضع الكتاب في صندوق البريد.

وما هو إلا رجع البصر حتى أنطلقت به السيارة يشق صوتها المزعج زحام الطريق؛ ولكنه لم يضع قدمه على عتبة البريد حتى كان الخادم خارجا منه وقد أنجز عمله!. بهت صديقنا وكاد يستسلم لليأس لولا أن مر ذكر التلغراف على خاطره، فبرقت أساريره وقال:

ص: 5

أن الرسالة البرقية تصل قبل الكتاب فتنسخه. ثم أخذ طريقه إلى مكتب التلغراف وبدأ يكتب الرسالة، ولكنه ما بلغ الكلمة الرابعة حتى جمدت يده على الورقة! قال في نفسه: أن الرسالة البرقية كالكلمة الملفوظة إذا قيلت فلن تسترجع، وسأكون بها مقيدا مأخوذا، ألقى القلم وخرج من المكتب يتنسم الهواء، واخذ يمشي أمام الباب ذهابا وجيئة وهو يسائل نفسه: أيكتب أم لا يكتب؟

دقت الساعة دقتين فارتعد وقال: ما لي أتردد؟ يجب أن أقطع الرأي، فأن الوقت وأن طال لا يسع المطال، ثم فكر وقدر، فجاء برأي خليط مبهم لم يلبث أن نزل عنه، وظل واقفا يتصفح وجوه الآراء ليرى الرأي القاطع نصف ساعة كان فيها فريسة الهم والضجر!

إستقبح من نفسه هذا الضعف الشديد، فاقتحم المكتب، وأتم الرسالة ودفعها إلى العامل وهو يقول في نفسه: سأتبعها بأخرى إذا بدت لي في الأمر بداءة.

ثم انكفأ راجعا إلى بيته يستعد ويتأهب! واقسم أن منظر ذلك البيت الذي يريد أن يفارقه غدا سيحيي في مخيلته صورة رائعة الجمال شديدة السحر، وأن زوجه وكتبه وأزهاره وأشجاره ستملك عليه وجدانه. فلا يمنعه الخجل أن يصبح ناكثا ما أمرَّ وناقضا ما أبرم!

لعل في القراء من يحمل وصف هذا الرجل على المبالغة، ولكني أؤكد لهم أن مكانه من الصدق مكان صورته الشمسية.

أن التردد مرض من الأمراض لا يؤبه له لندرته. يصيب المرء في حياته العملية، فيغل يده، ويشل عقله، ويتركه فريسة للألم من ضعفه، والخجل من صحبه. تظهر أعراضه في صغار الأمور وكبارها، فيكون في انتقاء الثوب، واختيار الحالة، وفي الإقدام على الزيارة القصيرة، والرحلة الطويلة، ويدخل في لذاذات الرجل وأعماله، كما يدخل في أدباره وإقباله.

جرت بين هذا الصديق نفسه وبين زوجه هذه المحاورة منذ اسبوع، فأنا أنقلها إليك بنصها لتزداد به معرفة.

قال وهو يهم بالخروج إلى مكان عمله:

- زينب! اتشيرين علي بأن آخذ مظلتي؟

- افعل يا علي ما تشاء.

ص: 6

- أتظنين أن السماء تمطرنا اليوم؟

- وما يدريني؟

- آخذها والسلام!

- حسناً تفعل.

- ولكنها تضايقني إذا لم تمطر السماء.

- دعها إذن!

- ولكن المطر إذا نزل بلل طربوشي وثوبي.

- خذها إذن!

- ما هذه الحماقة؟ وما هذا التردد بين الأمر والنهي؟

ليس للمشير إلا رأي واحد! فهل ترين أني احسن إذا أخذتها؟

- نعم!

- سآخذها إذن.

- ولكن الهواء دافيء، والسماء مصحية، وأخشى إذا دام الجو كذلك أن اذهل عنها فأفقدها؛ سأتركها قطعاً!

ثم سار يريد الخروج فلمحها معلقة على المشجب فأخذها وهبط السلم ذاهلاً، متباطئاً، حتى بلغ البواب فدفعها إليه.

احمد حسن الزيات

ص: 7

‌مسارح الأذهان

تراثنا القديم

للأستاذ أحمد أمين

خبران أثرا في النفس أبلغ التأثير، وآثارا في القلب كوامن الأسى والأسف.

أولهما أن أديبا كبيرا، وخطيبا خطيرا طلب من إحدى المكاتب القاموس المحيط للفيروزابادي، فأرسلته إليه، فاستبقاه أياما ثم رده شاكرا لأنه لم يستطع أن يعرف طريقة الكشف فيه، وإذا استطاع فلا يفهم ما يقول، ولا يتبين ما يشرح. لذلك يعتذر عن شرائه ويطلب بدلاً منه معجما من المعاجم الحديثة، كأقرب الموارد، ومحيط المحيط، والبستان، لسهولة الكشف فيها، ووضوح القصد من معانيها.

والثاني أن مجلسا من مجالس المديريات قرر إنشاء مكتبة يتردد إليها طلبة المديرية ومثقفوها، وعهد إلى بعض رجاله اختيار الكتب الصالحة فلم يختر فيما اختار كتابا قديما كالقاموس المحيط ولسان العرب وتاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير والأغاني والعقد الفريد ونفح الطيب، وإنما قصر اختياره على ما أنتجه الأدباء المحدثون من روايات وقصص وتاريخ حديث، وأدب من الوزن الخفيف.

راعني ما في هذين الخبرين من دلائل مؤلمة، وما يحملان من نتائج خطيرة!. دلالة الخبرين أن تيار الفكر إنما يسير نحو الثقافة العصرية، وأن المثقفين إنما يعتمدون على ما تخرجه المطابع من آثار للثقافات الأجنبية، فأما تراثنا القديم وما فيه من ثراء ضخم فتنبو عنه أذواق الناشئة ومن يقودهم ويختار لهم. ولا يقبل عليه الا المستشرقون وأمثالهم من علماء قليلين يسيرون نحو الفناء، دون أن يخلف من بعدهم خلف يقوم على هذا التراث فيحفظه ويستثمره.

ولهذه الظاهرة أسباب أهمها:

أن هذه الكتب جارت عصرها ولم تجار عصرنا، فالتعبير معقد. والمعنى غامض، والتأليف مشتت، والمصطلحات جامدة، والأمثلة واحدة فقطع هذا كله الصلة بين القديم والحديث، ولم يستطع أن يتفهم هذه الكتب القديمة الا من نشأ عليها، وأنفق أكثر العمر في فهم عباراتها، وحل معمياتها، وكثير منهم وقف عند ألفاظها ومصطلحاتها، ولم يسعفه الزمان بالتغلغل في

ص: 8

أعماقها. واكتناه أسرارها، واستخراج كنوزها، فلما نشأ الجيل الجديد وقد تعلم أول أمره في رياض الاطفال، واسلمته هذه إلى مدارس ابتدائية وثانوية يجتهد مدرسوها أن يعلموا على أحدث طرق البيداجوجيا، ويقرأ تلاميذها في كتب ألفت على غرار الكتب الأوربية في الشكل والموضوع، أصبح الخريجون لا يربطون جديدهم بقديم آبائهم، وصارت الكتب الأوربية أشهى إلى نفوسهم وأقرب إلى عقولهم من كتب الأدب العربي والفلسفة الإسلامية، وكتب القانون الفرنسي أحب إليهم من كتب الفقه الإسلامي وهكذا. وهم إذا نظروا في هذه الكتب العربية هزئوا بها وضحكوا منها! فإذا وقع نظرهم في الفقه على تحديد ماء الطهارة بأنه عشر في عشر بذراع الكرباس، قالوا ما لنا ولذراع الكرباس؟ إنما نعرف الذراع البلدي والذراع المعماري، وإذا رأوا نظام أخذ العشر قالوا ماذا يقابل ذلك من نظام الضرائب والجمارك؟ وإذا نظر الأطباء في كتاب القانون لابن سينا وقفوا أمام أحاجي لا طاقة لهم بها، وإذا نظر الأدباء في الأغاني والعقد وأمثالهما رأوا شرا كثيرا وخيراً قليلا! وكان ما فهموا أندر مما لم يفهموا.

الحق أن هذه مشكلة كبيرة تحتاج في علاجها إلى مهرة الحكماء، وأن ما في كتب أسلافنا من ثروة يحتاج إلى عقول كبيرة تضع منهجا قويما للاستفادة منها.

ونحن بين اثنتين: إما أن تتخصص منا طائفة صالحة لترجمة ثروتنا القديمة إلى لغة العصر وروح العصر وأسلوب العصر، فيستطيع ناشئتنا أن يضعوا أيديهم على تراث آبائهم، وإما أن يتثقف أكبر عدد ممكن بنوع من الثقافة الشرقية القديمة، فضلا عما عندهم من الثقافة الحديثة، فيجمعوا إلى مواردهم الأجنبية الموارد العربية، ويخرج نتاجهم متشبعا بالروحين، مستمدا من الثقافتين.

فإن لم يكن هذا ولا ذاك خشيت بعد قليل أن تصبح كتبنا القديمة غير صالحة الا للأرضة تعيث فيها، والعنكبوت ينسج عليها، ويكون شأننا معها كما قال ابو العلاء:

سيسأل قوم ما الحجيج ومكة

كما قال قوم ما جديس وما طسم

ص: 9

‌إسكندر يقتل صديقه!

للدكتور عبد الوهاب عزام

إسكندر يثبت عرشه وسلطانه وهيبته وكبرياءه في مقدونية واليونان، ثم يتوجه تلقاء آسيا.

الفريقان من اليونان والفرس يلتقيان على نهر (كرانيكوس) الصغير عام أربع وثلاثين وثلاثمائة، فيتاح لإسكندر أول فتح في آسيا، وتخضع له المدائن حتى سرديس، فقد دانت له آسيا الصغرى كلها.

ثم يتقدم صوب الجنوب، فيجتاز طوروس ويسير تلقاء الشام. وإذا جيش دارا، الجيش اللهام الذي لا يغلب من قلة رابض في طريقه. وفي سهل إسوس الضيق بين الجبال والبحر تزدحم مئات الألوف في المعترك، ويسقط في البحار مائة ألف من الفرس، ويفر دارا وينهب معسكره، وتؤسر أمه وزوجه وابنتاه. . فانظر إسكندر قد قهر (الملك الأعظم) ملك الفرس الذين طالما فخر اليونان بأنهم احتملوا صدمتهم، وردوهم عن بلادهم!!

يتقدم الفاتح العظيم فيقهر مدن الشام، وتقاومه صور وتتحدى جبروته وسلطانه، ثم تخر أمامه بعد حصار سبعة اشهر، فيقتل منهم ثمانية آلاف، ويؤسر ثلاثون ألفا فيباعون عبيدا، ويصلب على القلاع ألفان عبرة ونكالا! ذلكم إسكندر الفاتح العظيم، وذلكم جزاء من يقف في سبيله!

ويفتح إسكندر مصر عام اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ويرفع نسبه إلى أمون. ثم يجمع جنده ويسير إلى العدو الأكبر الملك الأعظم. يجتاز الفرات ودجلة إلى حيث يعسكر دارا. وهنالك على مقربة من أطلال نينوى العظيمة التي تندب مجد آشور الغابر، وعلى سبعين ميلا إلى الشمال والغرب من مدينة أربيل، ليس بعيدا من ملتقى عبد الله بن علي العباسي، ومروان بن محمد خاتمة الخلفاء الأمويين، حيث سقطت دولة وقامت دولة! هنالك تراءى الجمعان، وعسكر إسكندر تجاه دارا، ويشير (برمينيو) على الفاتح المقدوني أن يهاجم عدوه ليلا، فيأبى مجد إسكندر وكبرياؤه، فيقول له:(أنا لا أسرق النصر). ثم يلتقي الجمعان، وتدور الدائرة على دارا وجنوده، فيفر صوب المشرق. أرأيت بابل العظيمة مدينة السحر والعلم؟ ها هي تفتح أبوابها لإسكندر ويباركه كهنتها. ويطوي الملك الشاب المراحل إلى سوس وأصطخر حاضرتي الفرس، لا يصمد لمدينة إلا فتحها، ولا يعمد لجيش إلا مزقه.

ص: 10

تمتد الفتوح والآمال والنشوة والكبرياء بإسكندر إلى ما وراء النهر في طريقه شطر الهند، بعد أن طارد دارا حتى عثر به في الطريق قتيلا.

إسكندر العظيم في مدينة سمرقند عام سبع وعشرين وثلاثمائة. قد طوى المراحل والممالك ما بين مقدونية ونهر سيحون. ينعم هنالك بالشباب والظفر والملك الفسيح، والكنوز التي لا تحصى، والجند الذي لا يعد إسكندر الآن أعظم ملك في العالم كله.

ويدعو أصحابه وقواده إلى مأدبة في سمرقند، فيأكلون ثم تدور الكأس حتى يثمل القوم أو يكادون، ثم تترع للملك المظفَّر كؤوس من الإطراء والإعجاب والآجال والإكبار، ويغلو المتملقون المعجبون فيرفعونه فوق الأبطال جميعاً. ويدعون أن أعماله المعجزة لا تكون إلا عن نسب ألهي، بل يرفعونه إلى مستوى الآلهة كهرقل. ويشارك الملك الشاب في إعظام مآثره والإعجاب بها، ثم لا يقنع بما فعل، فيجعل لنفسه ما نال أبوه من ظفر آخر عهده، ويغض من فيليب وإن كان أباه!.

يسخط المقدونيون من الزراية ببطلهم القديم، ولكنهم لا ينبسون. و (كليتوس) رابض ينظر إلى إسكندر ومادحيه ساخطا محملقا. كليتوس أيحد قائدي الفرسان، كليتوس الصديق القديم أخو (لانيس) حاضنة إسكندر التي قتل اثنان من أبنائها تحت رايته، كليتوس الذي نجى إسكندر في معركة كرانيكوس حين أبصر أحد الفرس يهوي بسيفه إلى الملك من خلفه فسارع كالبرق فضرب السيف فقده دون رأس الملك. كليتوس هذا لم يستطع صبرا على الغض من فيليب! قال كليتوس: ما لهؤلاء المادحين يضعون أقدار الغابرين ليرفعوا عليها مجد الحاضرين؟ أن فيليب كان عظيما! ثم تأخذه الحدة فيقول: (ليست مآثره دون مآثر ابنه! لا، أن مآثره لأعظم. فقد خلق الرجل لنفسه ملكا وجيشا. وإنما صلت أيها الملك بما أورثك فيليب من ملك ممهد وجند مدرب. إنما ظفرت بفضل هؤلاء المقدونيين الذين تحقرهم اليوم وتقدم الفرس عليهم. ألم تقتل برمنيون العظيم؟)

هاج الحاضرون وقذفوا كليتوس بالجدل والتوبيخ. وثار ثائر إسكندر الفتى الفاتح الذي سخر ملك مصر وبابل وآشور وفارس، إذ قرعت أذنه لأول مرة نبأة ناقد يعترض كلامه ويرد عليه دعواه. غضب إسكندر وصاح بكليتوس يزجره ويجادله، وانحاز الحاضرون للملك المعجب بنفسه، وكليتوس كالأسد يزمجر ويرد الكلمة بمثلها، ثم ينتفض قائما ويصيح

ص: 11

مادا يده إلى الملك: (اذكر أن حياتك دين لهذه اليد التي نجتك يوم كرانيكوس! وأصغ لصوت الحق الصراح، أو تجنب دعوة الأحرار إلى مأدبتك، واختص العبيد بصحبتك!)

اهتاج إسكندر لموقف كليتوس ولذكرى كرنيكوس وبرمنيون، فنهض يتحسس خنجره، فإذا الخنجر بعيد قد نحاه أحد الحاضرين. فينادي الحرس مغضبا هائجا ويأمر أن ينفخ في الصور إيذانا للجند، فما أطاع أحد أمر الملك الهائج النشوان، وتقدم نحوه بطليموس (وبردكاس) القائدان الكبيران فأحاطا به وأمسكا يده برفق يسكنان ثورته، ويكسران حدته، ويحيط آخرون بكليتوس يخرجونه من البهو، فيأبى أن يخرج فيعترف بأنه أساء واعتدى. ويقول إسكندر:(وا أسفاه! إن قوادي قد غلوني كما فعل بسوس بدارا. وإنما لي من الملك اسمه). ويتقدم إسكندر تلقاء كليتوس، ولا يجرؤ القواد أن يقفوه قسرا، ثم ينقض كالصاعقة فينتزع حربة من أحد الجند فيغمدها في صدر كليتوس الصديق القديم!

يرتاع الحاضرون. ويفيق إسكندر من نشوته وثورته وعنجهيته، فيفتح عينيه فإذا كليتوس طريح يضطرب في دمه.

خرج إسكندر من البهو يعدو إلى فراشه، فارتمى عليه ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، يبكي بدموع عزت على الخطوب الشداد، وغلت في الحوادث السود. ويتمادى به البكاء، وكلما كفكف دمعه تمثل له صديقه طعينا بيده، ويلعن نفسه نادما، ويهتف باسم كليتوس وأخته لانيس، ثم يقول: ويلي! أنا الغادر الكنود. لقد جزيت كليتوس ولانيس شرا بما أحسنا ألي. لست بعد اليوم جديرا بالحياة.

ويجتمع إليه صحبه يعزونه. ويسوغون ما عمل، فلا يزداد الا حزنا واكتئابا وندما وأسفا، ويجتمع الجند المقدونيون فيجمعون على أن كليتوس قتل بحقه، وأنه ينبغي الا يدفن، فيغضب إسكندر ويقول: كلا! أنه سيدفن بأمري. ويأتي الكهنة فيقولون: أن الملك لم يقتل صديقه بيده، ولكنها نقمة من الإله (ديونسوس) أجراها على يد الملك انتقاما لنفسه بما حرم القربان في هذه المأدبة. ثم يأتي الفيلسوف (انكشر خوس) فيقول: أيها الملك أن الذي أنت فيه لعجز. وأنك أيها الملك العظيم والفاتح القاهر لجدير بأن تحل وتحرم وتحق وتبطل بإرادتك لا أن تخضع للقوانين التي سنها الناس. ثم يأتي كلستنوس الفيلسوف فيجهد أن يهون على الإسكندر ما فعل.

ص: 12

فارق إسكندر مضجعه بقلب كليم إجابة لنصحائه وإجابة لواجبه في هذه البلاد النائية. ولكني أحسب الجرح قد ذهب مع إسكندر إلى قبره!

إسكندر العظيم لم يعظم عليه مطلب، ولا بعدت على همته غاية، ولا ثبتت في طريقه دولة، ولا وهن قلبه في سلم ولا حرب، ولكن إسكندر الفاتح القاهر، والملك المسلط، لم يحتمل وخزة واحدة من وخزات الضمير، فخر كالطفل يبكي ويتململ، وكاد يبخع نفسه فرارا من الندم!

أن عذاب الضمير هو العذاب الأكبر، ولكن لا يعرفه الا ذوو الضمائر، وقليل ما هم!

لله در كليتوس! لقد ذهب مثلا في الوفاء، وأين في الدنيا الأوفياء؟

ولله در كليتوس صريع الوفاء! ولله در إسكندر صريع الوجدان!.

ص: 13

‌مجمع البحور وملتقى الأوزان

للدكتور محمد عوض محمد

يحسن بنا كلما دخل الأدب العربي في طور جديد، أو ظهرت به بدعة جديدة، أن نقف لحظة لنحقق أمر هذا الطور الجديد، وهذا المنهج الذي يريد بعض الأدباء أن ينهجه. وبديهي أن الكائن الحي يجب أن يكون في تبدل أبداً وفي تحول. لكن يجمل بنا من آن لآن أن نقف قليلا لنحلل هذه الاتجاهات الجديدة، لكي نكون على بصيرة من أمرنا، ولكي نمشي على علم وهدى. فان بعض السبل الجديدة يؤدي إلى الخير، وبعضها لا يفضي إلى شيء.

وقد ظهر في عصرنا هذا ضرب جديد من الشعر، لم يعرفه الأوائل ولا الأواخر، ولا نعرف في شعراء الشرق من عرب وترك وفرس من نحا هذا النحو، ولا في شعراء الغرب في الأدب الإنجليزي والفرنسي والألماني، ممن له شأن وخطر، من سلك هذا السبيل: وأن كان بين قراء (الرسالة) من يعرف شاعرا ذا شأن طرق هذا الباب من قبل. فقد يسرنا أن نعلم عنه ما جهلناه.

أما هذا الضرب من القريض (وقد سميناه مجمع البحور) فأنه يسوغ للشاعر في المنظومة الواحدة والموضوع الواحد، أن يجمع بين ما شاء من بحور الشعر، بلا قيد ولا شرط؛ فينتقل كما شاء وشاء له الهوى من وزن إلى وزن بلا سبب ظاهر وبدون أي قاعدة مفهومة أو غير مفهومة. فيبدأ منظومة بالخفيف مثلا، ويمضي فيه إلى بيتين أو إلى أبيات، ثم يعرج على البسيط فينظم فيه أيضاً بيتين أو ثلاثة. ثم يميل فجأة إلى الرمل ثم إلى الكامل. وهكذا لا يزال ينتقل من بحر إلى بحر. ويثب من وزن إلى وزن، والمنظومة واحدة والموضوع واحد.

ليس من شك في أن هذا الضرب من الشعر جديد. ولو أن المتنبي وهو الأمر الناهي في مملكة القريض، قيل له أن فلانا ينظم القصيدة الواحدة فيجعلها من بحور شتى، لقال لمحدثه:(يا هذا أن شاعرك مثله كمثل الطاهي الذي يخلط الحلو بالحامض، والمائع بالجامد، والرطب باليابس، والصلب بالشهد؛ ثم يرجو بعد هذا أن يكون في ما طهاه شفاء وغذاء).

مفهوم أن يكره الإنسان التقيد بالقيود من أي نوع كانت. والنفس تثور من آن لآن، تحاول

ص: 14

تحطيم السلاسل التي تقيدها وتمنعها من ارتياد منهل الحرية عذبا نميرا. وقد رأينا منذ زمن كيف ابتدع بعض الشعراء نظم القريض مرسلا، من غير قافية ثابتة؛ لكن مع الاحتفاظ بالوزن. وكان لهذا الضرب من القريض أنصاره، الذين نادوا بأنه سيرقى بالشعر العربي إلى سماء ما طاولته سماء. ثم لم تلبث تلك النار أن باخت، وتلك الأصوات أن خفتت. وأصبحنا اليوم وأكثر الأدباء متفق على أن إرسال القافية لا يلائم الشعر العربي؛ فلم نكد ننعم بتلك الحرية حينا حتى عدنا بأنفسنا طائعين إلى حمل السلاسل والأغلال، مضحين بتلك الحرية العروضية التي لم تنتج لنا الا كل فاتر تمجه النفس.

ثم جاءت بعد هذا بدعة أكبر وأخطر. وهي بدعة (مجمع البحور) التي وصفناها. ومما يؤسف له أن يكون شاعر من أجلّ الشعراء شأنا وهو (شوقي) على ما به من قدرة ومكانة، وهو الشاعر ذو النفس الطويل. الذي ما كان يعييه أن ينظم فيطيل ما شاء الإطالة. وهو الذي نظم (صدى الحرب) و (مقدونيا) و (نهج البردة). أنه برغم هذا رأى الا يلتزم وزنا واحدا في روايته التي كتبها أخيرا. فأحياناً كان شخص من أشخاص الرواية يسأل السؤال في وزن، فيرد عليه بوزن آخر. وكثيرا ما ينتقل المتكلم إلى وزن جديد، وموضوع الحديث لم يتغير.

لقد قيل أن لشوقي في ذلك أسوة بكبار الشعراء الروائيين أو القصصيين، وهذا ليس بصحيح. فان جميع روايات شكسبير من وزن واحد وهو المسمى وملحمتا هوميروس كلتاهما من بحر واحد، والفردوس الضائع لملتون كلها من وزن واحد. والشهنامة والمثنوي كلها ذات وزن واحد. وبرغم ما قيل وما يقال عن روايات شوقي، فان كثيرا من الناس يقر بأن هذا الإكثار من الأوزان قد افقدها قسطا كبيرا من الحسن.

ونحن نسوق هنا على سبيل المثال قطعة من (قمبيز) وهي الرواية التي تفوق صواحبها في هذا الأمر.

جاء في المنظر الأول من الفصل الأول الحوار الآتي بين نتاتس وعمها فرعون (أمازوس):

نتاتس: نفريت يأبى المسير هب لي

مكانها منك يا أمازوس

فرعون: أنت التي تذهبين، نتاتس: لم لا؟

فرعون: هذا هو النبل يا نتاتس

ص: 15

بخ بخ بنت أخي

نتاتس (في استنكار): أنت يا قاتل عمي

لا. . أبي يأبى وأمي

في هذا الحوار القصير الذي يتألف من ثلاثة أبيات ومصراع واحد، ثلاثة أوزان مخلع البسيط ومنه البيتان الأولان ومجزوء الرجز ومنه المصراع الذي يليهما. ثم مجزوء الرمل ومنه المصراعان الأخيران.

وقد يرى بعض الناس أن من الغلو في الحرية أن يكون أحد المصراعين في البيت الواحد والثاني من بحر آخر. ولكن في الحق أن هذا هو التطور المنطقي لمجمع البحور. فإذا كان مستحسنا أن يغير الإنسان الوزن بعد بيتين أو ثلاثة، فليس هناك معنى لأن يمتنع المرء عن تغييره في كل مصراع، بل وفي اقل من مصراع. وقد فعل ذلك أيحد الأفاضل في الجزء الثالث من (أبولو) في قصيدة من هذا النوع عنوانها (الشراع) جاء فيها:

وأنتزع عنك كساء الليل ثوبا: (رمل)

شحبا (؟)

تحتك اللجة السحيقة تدوي (خفيف)

فوقك اللانهاية الأبدية (=)

وأمامك الأفق البعيد يضلل (كامل)

والقارئ الذي يهمه هذا الضرب من الشعر يجب أن يرجع إلى هذه القصيدة لأنها خير مثال له بين أيدينا. ولولا ضيق المقام لتمثلنا بكثير من أبياتها.

وقد جاء في العدد الرابع من الرسالة منظومة للشاعر الفاضل إيليا أبو ماضي عنوانها الشاعر والسلطان الجائر. وقد أعجبنا بما فيها من خيال بديع، واكن افتتاحها بنوع خاص منبئاً بأن المنظومة من الدرر الغوالي. الا أن هذه الدرر كانت ذات نظام مختلط غذ جعل الشاعر يغير من وزنها ست مرات أو سبعا. فلا تكاد الأذن تطمئن إلى نغمة، حتى يستبدل بها نغمة تخالفها وتغايرها. والذين اكتفوا بقراءة القطعة الأولى حكموا بأن القصيدة من أحسن الشعر؛ وأما الذين قرءوها إلى النهاية فقد أسف كثير منهم على أن الشاعر قد افقد المنظومة حسنها لهذا الاضطراب في النظم؛ لأن لكل بحر أثرا خاصا في النفس، وهذا التقلب السريع مما يزعج الخاطر وينفر الأسماع.

ص: 16

لسنا بحاجة لأن نسرد للقارئ أمثلة أخرى ندل بها على هذه الظاهرة الجديدة، التي بدت في كتابات بعض الشعراء، وليس من شك في أن (مجمع البحور) هذا سيكون شأنه شأن الشعر المرسل، سينادي به بعض الكتاب حينا، وقد يستفحل أمره زمنا ما. ثم لا يلبث أن تخمد جذوته، ويذهب كما ذهب أخ له من قبل.

ص: 17

‌فلسفة برجسون

للأستاذ زكي نجيب محمود

ثورة على المادية

كثيرا ما يبدأ الفكر الإنساني بدراسة نفسه، ثم ينتهي إلى إحدى نتيجتين: فهو أما أن ينظم العقل في سلك المظاهر المادية التي تخضع للقوانين الآلية الصارمة، ثم ينصرف بناء على ذلك إلى دراسة الوجود المادي بما فيه من صور وأوضاع؛ وأما أن ينتهي إلى إنكار ذلك الوجود المادي جملة وتفصيلا، واعتباره من خلق العقل وتكوينه، ثم يتجه على هذا الأساس إلى دراسة العقل وحده، لأن في دراسته دراسة للوجود بأسره، ما دام هو الذي خلق هذا خلقا، وأنشأه إنشاء.

إذا فقد أنقسم الفلاسفة إلى قسمين مختلفين: فريق ينصرف بأسره إلى العلوم الطبيعية لأنها السبيل إلى تفهم مظاهر الكون، وفريق ينكب على دراسة النفس انكبابا، لأنها هي كل شيء. ونحن نستطيع أن نقول في شيء من الدقة أن تاريخ الفلسفة الحديثة ينحصر في هذا العراك العنيف القائم بين علم النفس والعلوم الطبيعية، فهذه تنشد الحقيقة في دراسة الظواهر المادية، وقد ترى في طريقها من بوارق الأمل الباسم ما تمضي معه في بحثها ثابتة اليقين موطدة العزيمة، وذلك يلتمسها في دراسة النفس دون المادة وهو مؤمن أن ليس أقوم من تلك السبيل سبيل.

ولكن جاء القرن التاسع عشر، فانعرج ذلك المجرى الفكري بعض الشيء، واتجه إلى دراسة المظاهر المادية اتجاها مباشراً، دون الوقوف على هذه النفس الإنسانية وقفة تحليلية، ولعل ذلك راجع إلى أن الإنسان قد خيل إليه أن العلوم الرياضية والميكانيكية وما إليها، هي التي دفعت به في العصر الحديث هذا الدفع السريع، وله عذره في هذا الظن. ما دامت الصناعة التي تدوي أرجاؤها في أوربا، والتي قلبت الحياة رأسا على عقب، هي ربيبة تلك العلوم. . . إذا فلماذا لا تدرس هذه العلوم الطبيعية دون سواها؟ هكذا اصطبغت الفلسفة في القرن الماضي بصبغة مادية، وذهبت في الفضاء صيحة ديكارت التي ألح بها في أن تبدأ الفلسفة سيرها من النفس ثم تتابع طريقها إلى العالم الخارجي.

انطوى القرن التاسع عشر أو كاد، فبدأ الإنسان يفيق بعض الشيء من تلك الفتنة التي أخذه

ص: 18

بها الانقلاب الصناعي، واخذ الفكر ينزع عن نفسه شيئاً فشيئاً ذلك الثوب المادي الذي أشتمله واحتواه حينا من الدهر. ويبحث عن حقيقة الوجود في (الحياة) التي تدب في أنحاء الكون، لا في حركة القصور الذاتي التي تنتظم الجماد، وما زال الفكر يمعن في هذه النزعة الجديدة حتى كادت الحياة تدب في المادة نفسها، واصطبغت العلوم الطبيعية بصبغة حيوية، وهكذا كتب لها أن تلقي السلاح وتندحر أمام علم النفس فيما نشب بينهما من عراك.

ولعل شوبنهور هو أول من فطن إلى (الحياة) هي أساس الوجود؛ ثم جاء برجسون في عصرنا الحاضر وتناول هذه الفكرة بحثا واستقصاء، حتى استطاع بقوة أيمانه أن يجذب إليها أنظار هذا العالم الذي طغت عليه روح اللاأدرية والشك طغيانا مروعا.

عكف برجسون على دراسة المذهب المادي، وخلاصته أن العالم كتلة موات من المادة والحركة، وأن الحياة والفكر وكل خصائص الإنسان ليست سوى أعراض مختلفة لتفاعل المادة والقوة التي تحرك دقائقها، فكان كلما أمعن في تلك الدراسة، ازداد يقينا بفساد ذلك المذهب، وهو يتساءل في دهشة: إذا كان العقل مادة وكانت كل عملية عقلية عبارة عن هزة عصبية لا أكثر ولا أقل، فما فائدة الشعور؟ أليس مجرد وجود الإدراك دليلا قويا على ضرورته؟

يقول المذهب المادي أن ليس ثمة (حياة إرادية)، أي ليس في الوجود تلك القوة الحيوية التي تريد هذا فتعمله، ولا تريد ذاك فتنبذه، وكل ما هنالك حالات مادية متتابعة، كل حالة نتيجة لما قبلها ومقدمة لما بعدها؛ وهنا يتساءل برجسون: إذا كان الوجود وما يحوي في لحظة معينة نتيجة آلية للحظة التي سبقتها (دون أن تكون هناك قوة مدركة تنشئ وتكون وتختار) وإذا كانت تلك اللحظة السابقة بدورها أثراً آليا للتي سبقتها، وهكذا دواليك، فنحن إذا سنسير في هذا التسلسل حتى نصل إلى السديم الأول، ونتخذ منه سببا لكل ما طرأ على الكون من أحداث، لا فرق بين دقيقها وجليلها! ماذا؟ هل يريدنا ذلك المذهب على أن نعتقد بأن السديم هو السبب فيما كتبه شكسبير مثلا؟ وأنه العلة في خطابه أنطوني وهملت؟!

هكذا أخذ برجسون من منطق الماديين ما يكفي وحده للرد عليهم ودك مذهبهم من أساسه.

العقل والجسم

لعل ما حدا بالإنسان إلى النزعة المادية في تفكيره هو ارتباطه بالمكان ارتباطا وثيقا، حتى

ص: 19

خيل إليه أن الحياة ليست الا هذه الصور المكانية التي يحسها؟ ولكن الحق الذي لا ريب فيه هو أن جوهر الحياة وروحها إنما ينحصران في الزمان أكثر مما يتعلقان بالمكان؛ والزمان في الواقع عبارة عن تراكم صور كونية فوقها فوق بعض، أو إن شئت فقل صورة كونية واحدة امتدت على طول الزمان وأخذت تنمو وتتزايد شيئا فشيئا، ومعنى ذلك أن الماضي من بدئه الأزلي لم يفن، وإنما آخذ يتقدم فتتزايد أحداثه قليلا قليلاً إلى أن تضخم فكون الزمان الحاضر. وإذا كان الزمان عبارة عن مجموع الصور التي مرت على الوجود فيستحيل أن يكون المستقبل مشابها للماضي، لأن في كل خطوة زيادة تضاف إلى تلك الكومة المتراكمة، وفي كل دقيقة ينشأ شيء جديد ليس نتيجة لمقدمة سابقة ولكنه خلق خلقاً ولا يمكن استنتاجه قبل حدوثه. فالتغير سنة الحياة وألزم صفاتها.

والذاكرة عند الإنسان هي الوعاء الذي يمتد مع الزمن فيختزن فيه هذه الصور المتراكمة المتزايدة، لكي تكون لنا عونا في حياتنا، إذ كلما اتسعت دائرة الحياة اتسع معها نطاق الاختيار، أي يعرض للإنسان مؤثرات عدة تستدعي منه سرعة اختيار للتلبية المناسبة لكل من تلك المؤثرات. وهذه المؤثرات وتلبياتها تكون في الإنسان إدراكا يستعين به في كل ما يعرض له من مشكلات.

فالكائن الحي كتلة فعالة مؤثرة. لأنه يضيف إلى العالم قوة ونشاطا، وليس الإنسان كما صوره الماديون آلة ميكانيكية لا حول لها ولا قوة، ينفعل ويتأثر بعوامل البيئة دون أن يكون مركزا للخلق والزيادة. ففي قولنا أن الإنسان مدرك لما يعمل اعتراف ضمني بحرية اختياره.

قلنا إن وظيفة الذاكرة هي استدعاء الصور الذهنية التي مرت بنا في التجارب الماضية مقرونة بما سبقها وما تلاها، فتتمكن بذلك من الحكم في المواقف المشابهة التي قد تعرض لنا، حكما صادقا. ولكن للذاكرة فوق هذا عملا آخر، فبوساطتها نستطيع أن نستوعب الخلود بأسره في دقيقة واحدة، وفي ذلك تحرير لنا من قيود الضرورة الطبيعية التي تخضع لها الأشياء الجامدة. يخطئ إذا من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية، إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين؛ والاختيار خلق وإنشاء، فليس الإنسان رتيبا في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه.

ص: 20

وإذا فليس العقل والمخ (أي الجسم) شيئاً واحداً؛ صحيح إن الإدراك العقلي يعتمد على المخ، يسمو وينحط تبعا لسلامة هذا أو انحطاطه، ولكن كما تعتمد ملابسك على المشجب. تظل عالية ما دام المشجب مثبتا في الحائط، وتهوي إذا ما سقط من مكانه، وبديهي أن ذلك لا يدل على أن الملابس والمشجب شيء واحد.

فالمخ مجموعة من التصورات وردود الأفعال، أما الإدراك فهو تلك القوة التي تختار من بين تلك المجموعة ما تريد. المخ هو المجرى الذي يسير فيه تيار الإدراك، ولكن ليس الماء ومجراه شيئاً واحداً، وأن يكن ذلك محدودا بهذا، ولا بد له أن يخضع لإلتواءاته وتعاريجه.

وإذا كان هذا هكذا، فما الذي حدا بنا إلى الاعتقاد بأن العقل والمخ شيء واحد؟ لعل ذلك راجع إلى أن جزءاً من عقولنا، وهو ما نسميه بالذكاء، قد نشأ وتطور لكي يمارس الأجسام المادية ويتفهمها، فاكتسب من هذا الميدان المادي كل تصوراته وقوانينه، وهكذا أخذ الارتباط الذهني بين العقل والمادة ينمو شيئا فشيئا، حتى انتهى بنا الأمر إلى الظن بأنهما شيء واحد؛ ولكن هذا الذكاء الذي يكشف لنا عن العلاقات التي تصل المظاهر الكونية بعضها ببعض، عاجز كل العجز عن إدراك الامتداد الزمني وما يعرض فيه لتلك المظاهر من تغير وخلق، أو بعبارة أخرى هذا الذكاء الذي يفكر في الصور المادية لا يستطيع أن يدرك ما في الكون من حياة، لأنه يلتقط صورا متلاحقة بعضها يجيء في إثر بعض، أي أنه يلتقط صورة الكون في هذه اللحظة، ثم صورته في اللحظة التي تليها، ثم صورة ثالثة في التي تليها وهكذا، ومعنى ذلك أن العالم الخارجي في نظر العقل عبارة عن جملة صور لحظية تملأ كل صورة منها الكون بأسره؛ هذه الصور تتلو الواحدة منها الأخرى لحظة بعد لحظة، وكل صورة لحظية من هذه الصور تمثل الحقيقة الخارجية من أول الماضي إلى آخر المستقبل. الا أن تلك الصور تظل مستقلة في الذهن، لا يتناولها الاستمرار أو الحركة التي تربطها جميعاً، مع أن الحياة ليست الا في وصل هذه الصور المجزأة. مثل العقل في ذلك كمثل الشريط السينمائي الذي يلتقط عددا من الصور المتلاحقة، لا حياة في كل منها على حدة، فإذا ما دبت فيها الحركة والاستمرار، واتصل بعضها ببعض، كونت حياة، أو شيئاً يشبه الحياة. ولن يكون في هذه الصور التي تصلنا عن طريق الحواس شيء من

ص: 21

الحياة، حتى يتناولها تيار الحركة الدائم الذي يربط أشتاتها ويكون منها حقيقة واحدة يطرأ عليها التغير والتبدل كلما مر عليها شطر من الزمان.

صحيح أن كل صورة حسية هي جزء من الحياة، ولكن مجموعها لا يكون مجموعة الحياة، إلى أن يتحقق في أجزائها شرط الاتصال والربط، فكما أن كل جزيئي من الخط المنحني يمكن أن يكون جزءا من خط مستقيم بدليل أنهما يتماسان في أي نقطة شئت، ومع لك لا تستطيع أن تقول: بما أن أجزاء هذا هي أجزاء ذلك، إذن فالخط المنحني هو خط مستقيم؛ كذلك قل في الحياة والمظاهر الطبيعية، فليست الحياة هي مجموعة المظاهر الطبيعية، على الرغم من أن تلك المظاهر هي الجزئيات التي تتكون منها الحياة.

يستنتج من هذا أن العقل ليس هو الأداة الصالحة لأدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق مقدوره واكثر مما يستطيع، إذ العقل كما بينا يميل إلى استعمال الوجود لصالحه، وهذا الاستعمال يتطلب منه وقف تيار الحياة الذي يدب في الكون، وتجزئة الوجود للتمكن من بعضه، فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود، أي أنها تتناول الوجود في ظاهره ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. . . ولما كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتتغلغل في باطن الاشياء، وتحسها إحساسا مباشرا كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب؛ فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة، لأنها حاسة الحياة التي تنقل تلك الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود.

التطور خلق وإنشاء

لا يمكن أن يكون تطور الحياة على تلك الصورة البشعة القاسية التي رسمها دارون وسبنسر، إنما التطور خلق مستمر، وتجديد متواصل، وتغير لا ينقطع.

الانتخاب الطبيعي عند دارون هو الأساس الذي تقوم عليه نشأة الأعضاء والوظائف والأنواع. ولكن لم يكد يستوي ذلك المذهب على قدميه، حتى أحاط به من الصعاب والمشكلات ما لم يقو على رده فكاد يخر صريعاً وهو ما يزال في يفاعته.

كيف يستطيع الانتخاب الطبيعي أن يفسر نشأة حاسة الأبصار مثلا! أولا، لا بد أن نسلم بأنه من المستحيل أن تكون العين قد نشأت على هذه الصورة المعقدة من بادئ الأمر، فإذا

ص: 22

فرضنا أنها تكونت بعد سلسلة من الاطوار، فهل من اليسير أن تقنع عقلا سليما أن تلك الأدوار التي مرت بها عين الإنسان تطابق تمام المطابقة الدوار التي مرت بها الحواس الابصارية لأنواع الحيوان جميعا؟! مع أن الانتخاب الطبيعي أساسه المصادفة المحضة! وهل من الجائز أن تكون سلسلة المصادفات التي تعاقبت على عين الإنسان وأذنه وأنفه وسائر أعضائه الأخرى هي التي تعاقبت على أعضاء الحيوانات جميعاً؟!

وإذا سلمنا (جدلا فقط) بأن تلك المصادفة السحرية العجيبة جائزة في أنواع الحيوان لتشابه المؤثرات التي تحيط بها جميعا. فما قولك في الحيوان والنبات، وهما نوعان يسيران في طريقين مختلفين أتم اختلاف؟ كيف يتفق الاثنان على طريقة واحدة للتناسل؟ كيف يوفق الحيوان، عن طريق المصادفة، إلى اختراع الذكورة والأنوثة أداة للتكاثر، ثم يوفق النبات نفس هذا التوفيق وعن طريق المصادفة أيضاً؟!!

كلا! يستحيل أن يكون هذا الأساس الواهي قاعدة التطور، ولابد أن يكون في أجزاء الوجود (مهما تنوعت أشكالها) قوة كامنة متشابهة في الجميع؛ هي الحياة. وهذه الحياة الحالّة في كل شيء تخلق فيه ميلاً خاصاً وتوجيهاً معينا يؤثران في كل جزئي من جزئياته، وهكذا يظل الجسم المادي يتشكل ويتغير حسب ذلك التوجيه الذي تمليه تلك الحياة الدافعة الكامنة فيه. وليس ثمة قوة خارجية تعمل على التطور كما خيل إلى دارون وأشياع مذهبه.

هذه الحياة الشاملة تسعى جهدها للتغلب على الجمود المادي وطمس معالمه من الوجود، فهي تتغلب على الموت بالتناسل، وأن ضحت في سبيل ذلك الافراد؛ وهي تبذل كل ما تملك من قوة لتحرير نفسها من قوانين المادة وأغلالها؛ فوقوف الحيوان وسيره وسعيه وكل ما يأتي من ضروب الحركة والنشاط، هو في الواقع تحد من الحياة لتلك الأغلال والقيود.

كانت الحياة في مبدأ ظهورها أشبه ما تكون بالمادة في جمودها واستقرارها، لأنها كانت تتمثل في النبات وحده، والنبات كالجماد في سكونه واستحالة سعيه وحركته؛ ولكنها ما لبثت أن نشدت الحرية من تلك القيود المادية؛ وراحت تسعى وراء ذلك المثل الاعلى، فاخترعت أنواع الحيوان، وزودتها بشتى الأعضاء التي يستطيع أن يحقق بها شيئا من تلك الحرية المنشودة، ثم ما لبثت أن عقدت أمالها في واحد من تلك الحيوانات جميعا: هو

ص: 23

الإنسان. فلا شك في أن الحياة تحاول ما استطاعت أن تسخر من قيود المادة، ونحن نضحك ونسخر إذا ما رأينا كائنا حيا يتصرف كما تتصرف الكتلة المادية الجامدة، كان تزل قدمه فيسقط بقوة الجاذبية كما تسقط قطعة الحجر.

يتضح من لك أن الحياة قد سارت في تطورها خلال مراحل ثلاث:

الأولى: مرحلة النبات إذ كانت أقرب ما تكون إلى سكون المادة وجمودها.

الثانية: مرحلة الحيوان الغريزي كالنحل والنمل الذي يتحرك ويسعى، ولكن في حدود مرسومة وخطة معلومة.

الثالثة: مرحلة الحيوان الفقري، الذي أخذ يسير في طريق الفكر، ولن يزال هذا الفكر ينمو ويشتد ويستقيم، فهو ذخر الحياة وأملها الذي سيحقق لها ما تنشد من حرية.

هذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتغير وتبتدع، والتي تلتمس الحرية من قيود المادة، هي الله، فالله والحياة اسمان على مسمى واحد. ولكنه اله ذو سلطان محدود بقيود المادة، وليس مطلق الإرادة كما تصوره الأديان، الا أنه دائب في التخلص من أغلاله وأصفاده؛ وأغلب الظن أن الحياة ستظفر آخر الأمر، ونكاد نوقن أنها ستتغلب على الموت، فيتحقق لها الحرية والخلود. فكل شيء جائز في نظر الحياة ما دام في الزمن امتداد.

وبعد. فما أجمل أن يرتفع صوت برجسون بشيرا بما في الكون من حياة فعالة خالقة، ليقف تيار المادية الذي طغى على أوربا في القرن الماضي، حتى غمرها بين ثناياه، وكم كنا نود أن نشترك معه في ثل ذلك العرش الذي كان يتربع عليه اله العقل، ولكن على شريطة الا يدعونا إلى تقديس اله آخر: هو البصيرة؛ لأنها قد تخطيء كما تخطيء الحواس.

ص: 24

‌في الأدب العربي

ابن خلدون في مصر

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 1 -

ترددت خلال العام الماضي دعوة لأحياء ذكرى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولده، فاستجابت دوائر التفكير والأدب في جميع البلاد العربية لهذه الدعوة الكريمة، وأقيمت عدة حفلات علمية للإشادة بذكره وخالد آثاره، ولا سيما في تونس مسقط رأسه ومطلع مجده، وفي مصر مقام شيخوخته ومثوى رفاته؛ وحفلت المجلات والصحف حينا بمختلف البحوث عنه. ولكن ناحية من حياة المفكر الكبير لم تلق كبير عناية، تلك هي حقبة مقامه بمصر، وصلته بها، وأثره فيها؛ وهذا ما نريد أن نعنى به في هذا الفصل تحية لذكرى المؤلف والفيلسوف الاجتماعي الأشهر.

غادر ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون تونس في منتصف شعبان سنة 784 هـ (أكتوبر سنة 1382م)، فوصل ثغر الإسكندرية في يوم عيد الفطر بعد رحلة بحرية شاقة، ويقول ابن خلدون في (تعريفه) عن نفسه، أنه قدم إلى مصر لينتظم منها في ركب الحاج، وأنه لبث بالإسكندرية شهرا يهيئ العدة لذلك، ولكن لم يتح له يومئذ أن يحقق هذه الغاية، فقصد إلى القاهرة، وكان قضاء الفريضة حجته الظاهرة في مغادرة تونس، واستئذان سلطانها أبي العباس في السفر إلى المشرق. ولكن ما يقصه ابن خلدون من الحوادث قبل ذلك يدل على أن مغادرته لتونس كانت فرارا؛ وكانت خشية من بطش سلطانها، وغدر بلاطها. وكان ابن خلدون قد أنفق نحو ربع قرن في خوض غمار السياسة ودسائس القصور، وتقلب في خدمة معظم سلاطين المغرب والأندلس، وذاق نعم الرياسة ومحن النقمة مرارا، وعانى مرارة السجن والأسر وخطر الهلاك غير مرة. ولم تهدأ نفسه المضطرمة بشغف المغامرة والنضال والدس الا في كهولته، يوم أعيته الحيل، وغلبته الأرزاء والمحن، وفقد عطف معظم القصور التي تقلب فيها، وأضحى يتبرم بقضاء تلك المهام السلطانية التي كان يتخذ قضاءها وسيلة للنفوذ والرياسة. عندئذ عافت نفسه غمر السياسة ودسائس القصر، فارتد في أواخر سنة 776هـ، إلى قلعة نائية منعزلة بناحية أولاد عريف بالمغرب الأوسط؛

ص: 25

وهنالك أنقطع للبحث والتأليف مدى أربعة أعوام، وأخذ في كتابة تاريخه الضخم، وأنجز منه مقدمته الشهيرة وعدة مجلدات أخرى. ثم رأى أن يقصد إلى تونس ليستكمل مراجعه في مكاتبها، وكانت بينه وبين سلطانها وحشة؛ فاستأمنه وحصل على رضائه؛ وغادر مقامه النائي إلى تونس فوصل إليها في شعبان سنة 780. وهنالك اشتغل بإتمام مؤلفه بتكليف السلطان ورعايته حتى أتمه ورفعه إلى السلطان، ومدحه يومئذ بقصيدة طويلة أوردها في (تعريفه). وكان ذلك لنحو عامين من مقدمه إلى تونس (782 - 1380م).

وهنا ألقى ابن خلدون نفسه في معترك جديد من الدسائس، وقصده رجال البطانة بالكيد والسعاية لدى السلطان، وأغروه أكثر من مرة باستصحابه إلى غزواته ومهامه الخطرة، فخشى ابن خلدون عاقبة السعاية، ولم يجد في تونس ما كان ينشده من هدوء وسكينة، فانتهز فرصة وجود السلطان في تونس، ووجود سفينة مصرية في مرساها تقصد الإسكندرية، فألح على السلطان في الإذن له بالسفر لقضاء الحج، وركب البحر بمفرده تاركا أسرته في تونس، فوصل الإسكندرية كما قدمنا في يوم عيد الفطر سنة 784.

كان مقدم ابن خلدون إلى مصر إذا، نوعا من الفرار وخيفة البطش والمحنة، ولم يكن قضاء الفريضة قصده المباشر، بل كانت حجته الظاهرة. وكان يرجو بلا ريب أن يقضي بقية أيامه بمصر في هدوء ودعة، وأن ينعم بذلك الاستقرار الذي لم تهيئه له بالمغرب حياة النضال والمغامرة. وكان يومئذ في الثانية والخمسين من عمره، ولكنه كان وافر النشاط والقوة، يتطلع دائما إلى مراتب النفوذ والعزة؛ وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الإسلامي في المشرق والمغرب، ولبلاطها شهرة واسعة في حماية العلوم والآداب، فكان يرجو أن ينال قسطه من هذه العناية والحماية. ووصل ابن خلدون إلى القاهرة في أول ذي القعدة سنة 84 - نوفمبر سنة 1382؛ فبهرته ضخامتها وعظمتها وبهاؤها كما بهرت سلفه ومواطنه الرحالة ابن بطوطة قبل ذلك بنصف قرن وكما بهرت على كر العصور كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب. ولا غرو فان المؤرخ لم ير بالمغرب سوى تلك المدن الصخرية المتواضعة، ولم ير بالأندلس حيث قضا ردحا من الزمن، مدينة في عظمة القاهرة وروعتها. وهو يهتف للقاهرة اثر مقدمه ويحييها بحماسة تنم عن عميق إعجابه وسحره وتأثره، ويصفها في تلك الفقرة الرنانة: (فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم،

ص: 26

ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك؛ تلوح القصور والأواوين في جوه. وتزهو الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطئ النيل نهر، ومدفع مياه السماء، يسقيه العلل والنهل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجة؛ ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. . .)

ولم يكن ابن خلدون نكرة في مصر. فقد كان المجتمع القاهري يعرف الكثير عن شخصه وسيرته؛ وكانت نسخ من مؤلفه الضخم ولا سيما مقدمته الشهيرة قد ذاعت قبل ذلك بقليل في مصر وغيرها من بلدان المشرق، وأعجبت دوائر العلم والتفكير والأدب بطرافة مقدمته وجدتها وروعة مباحثها. فلم يكد يحل بالقاهرة حتى أقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب. يقول ابن خلدون في كبرياء وتواضع معا:(وأنثال عليّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا) وهذا ما تشير إليه التراجم المصرية؛ فيقول أبو المحاسن بن تغري بردي في ترجمته لابن خلدون: (واستوطن القاهرة وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة، واشتغل وأفاد) ويقول السخاوي: (وتلقاه أهلها (أي أهل مصر) وأكرموه وأكثروا ملازمته والتردد عليه، بل تصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة. . .). جلس ابن خلدون للتدريس بالأزهر، والظاهر أنه كان يدرس الحديث والفقه المالكي، ويشرح نظرياته في العمران والعصبية وأسس الملك ونشأة الدول؛ وغيرها مما عرض إليه في مقدمته. وكانت هذه الدروس خير إعلان عن غزير علمه، وشائق بحثه، وساخر بيانه. وكان ابن خلدون محدثا، بارعا رائع المحاضرة، يخلب لباب سامعيه بمنطقه وذلاقته. وهذا ما يحدثنا به جماعة من أعلام التفكير والأدب المصريين الذي سمعوه أو درسوا عليه؛ ومنهم المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي الذي سمعه ودرس عليه فتى وكذا الحافظ ابن حجر؛ فقد درس عليه وأنتفع بعلمه ووصفه بقوله:(وكان لسنا فصيحا، حسن الترسل وسط النظم؛ مع معرفة تامة بالأمور خصوصا متعلقات المملكة) ونقل السخاوي عن الجمال البشيشي أنه (كان فصيحا مفوها جميل الصورة) وعن الركراكي (أن محاضرته إليها المنتهى).

وهكذا استطاع ابن خلدون لأول مقدمه أن يخلب الباب المجتمع القاهري، وأن يستثير

ص: 27

إعجابه وتقديره؛ ولكن صفاء الأفق من حوله لم يدم طويلا كما سنرى، وفي أثناء ذلك اتصل ابن خلدون بأمير من أمراء البلاط يدعى علاء الدين الطنبغا الجواني، فشمله برعايته، وساعده على التقرب من السلطان والاتصال به. وكان السلطان يومئذ الظاهر برقوق؛ وقد ولى الملك قبيل مقدم ابن خلدون بأيام قلائل (أواخر رمضان سنة 784)، فأكرم وفادة المؤرخ واهتم بأمره؛ يقول ابن خلدون:(فأبر مقامي. وانس الغربة ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم) وبذا تحققت أمنية المؤرخ من الاستقرار والمقام الهادئ في ظل أمير يحميه ويكفل رزقه، ولم يمض قليل على ذلك حتى خلا منصب للتدريس بالمدرسة (القمحية) بجوار جامع عمرو وهي من مدارس المالكية فعينه السلطان فيه. ويعني ابن خلدون في تعريفه، بوصف مجلسه الأول في هذا المعهد؛ فقد شهده جمع من الأكابر أرسلهم السلطان لشهوده؛ والتفوا حول المؤرخ. وألقى ابن خلدون في ذلك الحفل خطاباً بليغاً، يحرص على إيراده بنصه. وقد تكلم فيه بعد الديباجة عن فضل العلماء في شد أزر الدولة الإسلامية. وعن تغلب الدول. ثم أشاد بما لدى السلاطين المصرية من فضل في نصرة الإسلام، وإعزازه، ومن همم في إنشاء المساجد والمدارس، ورعاية العلم والعلماء والقضاة، ثم دعا للملك الظاهر، وأشاد بعزمه وعدله وعقله؛ وعطف بعدئذ على نفسه، وما أوليه من شرف المنصب في تلك العبارة الشعرية:(ولما سبحت في اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحة المشرق، وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق، وأزهار الفنون يسقط علينا من غصنه المورق. . أولوني عناية وتشريفاً، وغمروني إحساناً ومعروفاً، وأوسعوا همتي إيضاحاً ونكرتي تعريفاً، ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف. . . إلخ)

ص: 28

‌اثر اللغة العربية في العالم الإسلامي

للسر دنسون روس. مدير مدرسة اللغات الشرقية بلندن

هذه ترجمة المحاضرة الأولى من المحاضرات الثلاث التي ألقاها السر دنسون روس باللغة الإنجليزية في قاعة الجمعية الجغرافية إجابة لدعوة الجامعة المصرية وقد نقدته الجامعة على كل محاضرة خمسين جنيها وسننشر ترجمة المحاضرتين الأخريين تباعا في الأعداد المقبلة.

تمهيد:

أشعر وأنا أختار موضوعا مثل هذا لمحاضرة في الجامعة المصرية، أنه ينطبق علي المثل القائل (كمن يجلب الفحم إلى نيوكاسل) أو على حد تعبير الفرنسيين (كمن يحمل الماء إلى البحر) أو كما يقول العرب (كمن ينقل التمر إلى البصرة) أو (كمن يبيع الماء في حارة السقائين).

إذ كيف يجرؤ شخص مثلي لا يخرج عن كونه تلميذاً يدرس العربية أن يقوم ببحث في هذه اللغة العظيمة على مرمى قوس من الأزهر؟ إن اعتذاري عن هذا ينبغي أن يكون اعتذار النملة أمام عرش سليمان.!

وربما قيل عن عنوان محاضرتي أنه تقرير لقضية مسلمة، فالعربية لغة القران والحديث وتأثيرها في العالم الإسلامي حق لا ريب فيه.

ولكنني أرجو أن أسوغ عنواني هذا بأن أبين تأثير اللغة العربية في تلك الممالك التي تتكلم لغات أخرى، وتتكلمها لا على أنها واسطة لفهم العقائد وإقامة الشعائر الدينية؛ بل لأنها عامل منتج من الثقافة العامة.

ذلك لأنه ينبغي أن نعلم حق العلم أن ليس ثمة دين عالمي آخر قامت فيه اللغة الأصلية للكتب المقدسة بذلك الشأن الخطير كما هو الحال في الإسلام.

فإذا اعتبرنا البوذية والمسيحية وهما ديانتان تقومان بالدعاية فأننا نلاحظ أن كتبهما المقدسة إذا أذيعت في ممالك أخرى فإنما تذاع بلغة تلك الممالك. خذ لذلك مثلا تلك المجموعة الضخمة مجموعة القوانين البوذية المعروفة باسم (السلات الثلاث) فأنك تجدها تقرأ في الصين واليابان مترجمة إلى لغة تلك البلاد. حقاً أن لغة الهند الأصلية قد اختفت كما اختفت

ص: 29

البوذية نفسها من الهند.

وقل مثل هذا عن التوراة والإنجيل فأنهما يقرءان في الأمم المسيحية بلغة كل منها دون أن تقوم العبرية أو المسيحية بأي شيء في حركات الدعاية التي تقوم بها الجمعيات الدينية.

وأن اللغة الوحيدة التي يمكن مقارنتها بالعربية من حيث أنها واسطة للتعاليم الدينية إنما هي اللغة العبرية، على أن هناك اختلافاً بين الحالتين من بعض الوجوه وإن اتفقت اللغتان في أن كلتيهما تدين بخطرها الأساسي إلى أنها لغة الكلام المنزل من عند الله. فأما العبرية فنجد أن كل تقي من اليهود يحفظ بعضا منها، ولكن اليهودية لا تعتبر الآن من الأديان الواسعة الانتشار وذلك على الرغم من انتشار جماعات اليهود في أنحاء العالم. وأنك لتجد طوائف وطنية منهم في الهند وأثيوبيا لا يعرفون من العبرية الا قليلا.

ويجب أن نتذكر أني إنما أبحث في التأثير اللغوي الذي أحدثه القران لا في رسالة النبي، وعلى ذلك فأظنني أستطيع تقرير تلك الحقائق دون أن أسيء إلى الحاضرين من المسيحيين واليهود.

أن التأثير الذي تركته التعاليم البوذية والكتب العبرية المقدسة في آداب الممالك البوذية والمسيحية لا يقل شأنا عن تأثير القران إن لم يكن أكثر في ناحية الفن.

ولكن ما حدث في الصين وفي أوربا هو أن تلك الكتب المقدسة قد أصبحت جزءاً من الآداب القائمة إذ ذاك وكانت تلك الآداب غنية بالأبحاث والموضوعات الدنيوية، وفيما يتعلق بأوربا نقول أنه لما كانت اللغات الحديثة قد اشتقت من اللاتينية والتوتونية القديمة، فأنه لما ترجم الإنجيل إلى تلك اللغات، أصبح ذلك الكتاب هو المؤثر الثابت فيها كما يشهد بذلك الجهد الذي بذله لوثر في وضع أساس الألمانية الراقية الحديثة.

نعم لقد لعبت اللاتينية بين الكاثوليك دوراً مشابهاً لذلك الدور الذي لعبته العربية بين المسلمين (ولكن اللاتينية لم تكن لغة التنزيل).

الموضوع:

ولنعد الآن إلى الموضوع الأساسي لمحاضرتي. وستكون الممالك التي يتناولها بحثي هي تلك التي لا يزال الإسلام سائداً فيها ولكن لا تتكلم العربية، أعني بلاد الفرس وبلاد الهند وما وراء النهر وتركيا.

ص: 30

أن دخول الشرق الأدنى والشرق الأوسط والهند تحت نفوذ العرب (وقد كانوا أنفسهم حديثي العهد بالدخول في الدين الجديد وقبول (الوحدانية السامية) قد أدى إلى ثورة عظيمة (في الأدب والثقافة) لا تقل في خطورتها من حيث قوتها وتمامها، ومن حيث أنها مبدأ عهد جديد، عن ذلك التغير الذي طرأ على العقيدة الدينية.

ويرجع هذا في أساسه إلى ذلك التأثير المعجز الذي أحدثه القران في نفس كل من أعتنق الإسلام.

فإن القران وهو كلام الله الذي أنزل على رسوله قد قوبل من المسلمين قاطبة بالاحترام والإجلال، أولاً، من أجل عباراته ذاتها لأنها تنزيل من الله، وثانيا لما اشتمل عليه من الآيات البينات، ومن أجل ذلك كان لزاما على من يقبل الإسلام أن يقبل معه اللغة العربية، تلك اللغة التي نزل بها القران وأرسل بها الرسول.

وهنا لا نجد لغة غريبة غير مستعملة لا يفهمها الا عدد محصور من العلماء كما كان الحال في ديانة زرادشت والديانة الهندية، بل نجد (لغة حية) يتكلمها أولئك القوم الذي دعوا سكان الممالك التي فتحوها إلى الدخول في الدين الجديد.

إن الرقي الفجائي الذي طرأ على اللغة العربية وأحالها إلى لغة مهذبة مكتوبة ليعد من أعجب الأمور إذا تذكرنا أنه في الوقت الذي ظهر فيه الرسول لم يكن لدى العرب (أدب لغة) بالمعنى الذي يفهم من هذه العبارة، وأن استعمال الخط كان قليلا إلى درجة كبيرة بدليل أنه في أثناء الكفاح بين المسلمين وأعدائهم كما حدث في بدر وأحد كان المتبع أن يبقي المسلمون على حياة من يعرفون الكتابة من الأسرى.

ولكن العرب قد أخرجوا فحول الشعراء الذين تغنى الناس بشعرهم في طول شبه الجزيرة وعرضها، وأن كان الاختلاف لا يزال قائماً بين الباحثين فيما إذا كانت هذه الأشعار قد ظهرت حقاً في الجاهلية أم في الإسلام.

والذي ما يهمنا هو أن بين هذه الأشعار طائفة يمكن اعتبارها في المنزلة الأولى لا في أدب العرب فحسب، ولكن في أدب العالم اجمع.

وكان القران يمثل اللهجة التي كانت شائعة في الحجاز. وإلى أن قام الخليفة عمر (بمراجعاته) الرسمية الدقيقة للقران، لم يكن هناك أي كتاب في النحو، كما لم يكن هناك أي

ص: 31

قاموس عربي، وكان الفرس أول من ميزوا أنفسهم باستنباط بعض القواعد النحوية من القران. وبعد هذا أخذ الأذكياء في العالم الإسلامي يحذقون هذا اللسان الصعب، وابتدأ الناس ينافس بعضهم بعضا كل بما حصل من اللغة، ومنذ ذلك الوقت، فيما بين إسبانيا وسمرقند، أخذ الكثير من الشعراء المطبوعين، الذين كانوا من قبل في حاجة إلى أداة يظهرون بها إبكارهم ينظمون الشعر بالعربية. ولقد شرعوا أول أمرهم يحاكون الأشعار البدوية التي لم يكن لهم بموضوعاتها علم مباشر، ثم أخذوا يطرقون من الموضوعات ما تميل إليه قلوبهم، وما يوافق طبيعتهم وبيئتهم.

ص: 32

‌موسى بن شاكر وبنوه الثلاثة

للأستاذ قدري حافظ طوقان. عضو الجمعية الرياضية بلندن

منشؤهم

ظهر موسى بن شاكر في عصر المأمون ولمع في سماء العلم ولا سيما في الهندسة وانبثق منه ثلاث نجوم: محمد واحمد وحسن نبغوا في الرياضيات وعلم الهيئة والفلسفة، وكان لهم في ذلك مؤلفات نادرة عجيبة. وهؤلاء الأربعة (ممن تناهى في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب واتعبوا فيها نفوسهم وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني، فاظهروا عجائب الحكمة، وكان الغالب عليهم من العلوم الهندسة والخيل والحركات والموسيقى والنجوم وهو الأقل. .).

ويقال إن موسى مات صغيرا وقد خلف أولاده الثلاثة صغاراً اعتنى بهم المأمون كثيراً، ووصى بهم إسحاق بن إبراهيم المصعبي وأمره بالاهتمام بهم والمحافظة عليهم، وانقطعوا إلى العلوم يبحثون عنها فغاصوا فيها واستطاعوا أن يجيدوا أكثرها. فأكبرهم وهو أبو جعفر محمد أجل اخوته عالماً بالهندسة والنجوم والمجسطي، وكان جمّاعة للكتب، ومضى عليه زمن كان مدخوله السنوي أربعمائة ألف دينار. أما أحمد فقد كان دون أخيه في العلم الا صناعة الحيل فقد تعمق فيها، وأجادها وتمكن من الابتكار فيها، وفاق القدماء المحققين في هذا العلم مثل (أيرن)، وأما حسن فقد كان منفردا في الهندسة، ومع أنه لم يقرأ من كتب الهندسة الا ست مقالات من كتاب اقليدس في الأصول، فقد حدث نفسه باستخراج مسائل لم يستخرجها أحد من الأولين (كقسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وطرح خطين بين خطين ذوي توال على نسبة، فكان يحللها ويردها إلى المسائل الأخرى ولا ينتهي إلى آخر أمرها، لأنها أعيت الأولين). وحكي عنه أنه كثيرا ما كان يغرق في الفكر في مجلس فيه جماعة فلا يسمع ما يقولون ولا يحسه.

مآثرهم

ثبت أن المأمون أمر بني موسى بقياس درجة من خط ونصف النهار لإيجاد محيط الأرض، وقد أجروا حسابهم ذلك في سنجار كما أجروه ثانية في الكوفة. ومن توافق

ص: 33

الحسابين علم المأمون صحة ما حرره القدماء في هذا الصدد وهم الذين كملوا الزيج المصحح، وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية، وحددوا ميل وسط منطقة البروج المسماة بالاكليتيك في مرصدهم المبني على جسر بغداد المتصل بالباب المسمى بالطاق، وعرفوا فيها فروق حساب العرض الأكبر من عروض القمر وقد عول ابن يونس في أرصاده الفلكية على أرصادهم، وعمل أحدهم وهو محمد تقويمات لمواضع الكواكب السيارة. ولأبناء موسى في الحيل كتاب يعرف بحيل بني موسى، وهو عجيب نادر، يشتمل على كل نادرة وقد يكون هو الكتاب الأول الذي يبحث في الميكانيك ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها، وهو مجلد واحد وهي (أي الحيل) شريفة الأغراض عظيمة الفائدة مشهورة عند الناس ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي عشرون منها ذات قيمة عملية. وقد كتبوا في فن الآلات الروحية وهذا العلم (يتبين فيه كيفية أيجاد الآلات المرتبة على ضرورة عدم الخلاء ونحوها من آلات الشراب وغيرها، ومنفعته إرتياض النفس بغرائب هذه الآلات كقدحي العدل والجور. . و. . و. .) وعلى ذكر قدح العدل وقدح الجور يقول كشف الظنون في الجزء الأول ص 137 ما يلي: (أما الأول (قدح العدل) فهو إناء إذا امتلأ على قدر معين يستقر فيه الشراب، وأن زيد عليها ولو بشيء يسير ينصب الماء ويتفرغ الإناء عنه بحيث لا يبقى قطرة، وأما الثاني (قدح الجور) فله مقدار معين أن صب فيه الماء بذلك القدر القليل يثبت، وأن مليء يثبت أيضاً، وأن كان بين المقدارين يتفرغ الإناء، كل ذلك لعدم إمكان الخلاء. . .) واكثر هذه الآلات توضح أنواعا من الحيل العلمية وهي مبنية على المبادئ الميكانيكية المنسوبة لهيرو الإسكندري. وقد اهتموا بنقل احسن الكتب اليونانية، حتى أن أحدهم وهو محمد ذهب إلى بلاد اليونان ابتغاء الحصول على مخطوطات تبحث في الرياضيات والفلك، واستعملوا منحني نيكوميدس في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متسأوية، واستعملوا الطريقة المعروفة الآن في إنشاء الشكل الاهليليجي، أما الطريقة فهي أن تغرز دبوسين في نقطتين وأن تأخذ خيطا طوله اكثر من ضعف البعد بين النقطتين، ثم بعد ذلك تربط هذا الخيط من طرفيه وتضعه حول الدبوسين، وتدخل فيه قلم رصاص فعند إدارة القلم يتكون الشكل الاهليليجي، وتسمى النقطتان بمحترقي الاهليليجي أو بؤرتيه. وفي أحد مؤلفاتهم في الهندسة استعملوا القانون

ص: 34

المعروف بقانون (هيرون) لمساحة المثلث إذا علم طول كل ضلع من إضلاعه. ولا يفوتنا أن نذكر أنه نسب إلى أبيهم موسى القول بالجاذبية، يدلنا على ذلك ما جاء في كتاب بسائط علم الفلك للعلامة صروف الذي يقول:(وهذا التفاعل بين الأجرام السماوية الذي يطلق عليه اسم الجاذبية العمومية انتبه له بعض العلماء من قديم الزمان، فأشار إليه بطليموس صاحب كتاب المجسطي حاسباً أنه هو الذي يجعل الأجسام تقع على الأرض متجهة نحو مركزها، وهو الذي يربط كواكب السماء بعضها ببعض. ويقال أن موسى بن شاكر المهندس الذي نشأ في أوائل القرن الثالث الهجري انتبه له أيضاً وقال به)

مؤلفاتهم

كتب بنو موسى في موضوعات مختلفة: في الهندسة والحيل والطب والمساحة والمخروطيات وعلم الهيئة، وقد أجادوا في ذلك إلى درجة أثارت إعجاب كثير من العلماء، فمن تآليفهم كتاب بني موسى في الغرطسون وكتاب مساحة الاكر وكتاب قسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، ووضع مقدار بين مقدارين ليتوالى على قسمة واحدة، وكتاب يبحث في الآلات الحربية.

ولأحدهم هو أحمد كتاب بين فيه بطريق تعليمي مذهبا هندسيا وهو ليس في خارج كرة الكواكب الثابتة كرة تاسعة.

ولحسن: كتاب الشكل المدور والمستطيل. أما محمد فله كتاب حركة الفلك الأولى وكتاب الشكل الهندسي وكتاب الجزء وكتاب في أولية العالم، وكتاب على مائية الكلام، وفي الفهرست ينسب إلى محمد كتاب المخروطيات، ولكن كتاب كشف الظنون يقول في هذا الكتاب ما يلي:

(. . . وقال أبو موسى شاكر الموجود من هذا الكتاب سبع مقالات وبعض الثامنة، وهو أربعة أشكال، وترجم الأربع الأول منه أحمد بن موسى الحمصي، والثلاث الأواخر ثابت بن قرة. . . أصلحه الحسن واحمد بن موسى بن شاكر. . .)

قدري حافظ طوقان. نابلس. فلسطين

ص: 35

‌طرائف من شعر الشباب

مناجاة غدير

للأستاذ محمود الخفيف

شاق نفسي الجلوس فوق حرير

من نسيج الربيع ينطق حسنا

كنت قبل الشروق عند غدير

يملأ النفس من أغانيه لحنا

كل ما في الوجود حلو جميل

يبعث البشر في الفؤاد نديا

ونسيم الصبح عذب بليل

باعث في الربوع نشراً ذكيا

ساد حولي السكون لولا غدير

عبقري الخيال سامي البيان

ثائر هادئ معنى صبور

رائق الحس مستفيض المعاني

زاده الصبح والسكون رواء

وكساه الربيع ظلا ظليلا

وحباه الشباب منه مضاء

فترى الماء دافقاً سلسبيلا

يا غدير الصباح هيجت قلبي

أنت للنفس رحمة وعذاب

لست أدري وقد تملكت لبي

أترنمت أم عراك انتحاب؟

يا غدير الصباح لحنك عذب

باعث في الفؤاد شتى المعاني

يا غدير الصباح هل أنت صب

تعرف البعد في الهوى والتداني؟

أي معنى أردت أن فؤادي

حركته لما تقول شجون

ويح نفسي لقد ملكت ودادي

فعرفت الخشوع كيف يكون

هيه يا أيها الغدير فأني

أن ترنمت أو بكيت سميع

يا غدير الصباح افصح وزدني

أن قلبي بما تقول ولوع

أن ترنمت يا غدير فحسبي

من دواعي السرور ذاك الغناء

وإذا ما بكيت حركت قلبي

فبقلبي لكل باك رثاء

لست يا أيها الغدير بشاك

كيف تشكو ولست تعرف ظلما!

لست يا أيها الغدير بباك

كيف تبكي؟ أأنت تعرف هما؟

لم تجرب شماتة من عدو

أو تحمل إساءة من صديق

أو تقاس البعاد بعد دنو

أو تعان الظنون بعد وثوق

ص: 36

لم تسهد بجفوة من حبيب

أو تعذب بغيرة وارتياب

أو تفاجأ بفتنة من رقيب

أو تروع بنبوة من صحاب

لم تصادف تفاخراً من دعي

أو تبادر بغلظة من جليس

أو تشاهد تطاولا من غبي

أو تجرع إهانة من خسيس

لم تخف يا غدير قط عذاباً

أو تذق يا غدير للحزن طعما

أو تقابل لدى الحياة صعابا

كيف هذا ولست تعرف وهما؟

أنت يا أيها الغدير طروب

ناعم البال لست تزهب رزءا

مطمئن إلى الحياة لعوب

لست تدري عن المنية شيئا

يا غدير الصباح زدني غناء

وأملأ القلب من غنائك وحيا

كل لحن سواك عاد هباء

يا غديرا لقد وعيتك وعيا

ص: 37

‌في الليل

اسكتي يا طيور! لا تملئي الليل

غناءا بصوتك الخلاب

توقفي يا غصون لا تتناغي

بحديث الهوى وهمس العتاب

طاب لي مجلساً بعيداً عن السم

ار، في نجوة من الأصحاب

فتنتني سكينة الليل، واللي

ل سكون يطير بالألباب

واحتواني الظلام حتى كأني

قطعة منه في سواد أهاب

وكان السماء صحراء خرسا

ء بدا نجمها كومض السراب

وكان الليل البهيم عباب

وأنا سابح بهذا العباب

بين شطين من ظلام قد امت

دا امتداد العصور والأحقاب

نام زهر الرياض في سرر العش

ب ونامت على السفوح الروابي

وسرت روح شاعر يعبد الحس

ن فرفت في الليل بين السحاب

إنما الليل للذي يعرف اللي

ل وما فيه من معاني عذاب

قدس الليل، أنه هيكل السح

ر ووحي الهوى وستر الشباب

أمين عزت الهجين

ص: 38

‌الله وراء كل شيء

شقيت نفسه فضلت هداها

وتجلى إلهها في هواها

زعمت أن طينها أزلي

كذبتنا وحق من سواها

ولئام النفوس أن تلف مولا

ها حفيا بها عصت مولاها

ضلة للعقول لم تك شيئاً

ثم كانت فأنكرت من براها!

قف حيال السماء ليلا وسائل

سفن النيرات من أجراها!

سفن موجها الأثير ولا يع

لم إلا ربانها مرساها

جاوزت في العيون حد التقصي

فتراها ولا تكاد تراها

أن تطالع أبصارنا مبتداها

فإلى الله ربها منتهاها

واسأل الوردة اكتست كل لون

من كساها ومن حباها شذاها؟

ألبستها الأوراق كف قدير

فأرتنا لثم الشفاه الشفاها

أبرزتها عذراء من خدركم

في حياء توردت وجنتاها

ودعتها مليكة الزهر لما

ألبستها الرياض تاج نداها

فأصغ للجواب منها تجدها

باسم من حاكها تحرك فاها

شجرات في الروض مشتبهات

شهوة الآكلين فأطعم جناها

ذقت هذي فما أمر جناها

ثم هذي فقلت ما أحلاها!

ما اختلاف الطعوم والماء فيها

واحد، والتراب أصل غذاها؟

صاغها مثلما أراد بديع

قد نفينا عن ذاته الأشباها

ثم سائل بلابل الأيك تشدو

فيهز الأملاك لحن غناها

وتناجي القلوب وهي تغني

فتذيب القلوب في نجواها

من بري هذه الحناجر عيدا

ناً وأنشأ قيثارة في لهاها؟

أنه مبدع كسا الطير ريشاً

وحباها في الجو ملكا وجاها

هذه النملة الدقيقة خلقاً

كيف تسعى وكيف تبني قراها؟

هذه النحلة اكتست حبرات

من طهي شهدها وسل حماها؟

قل لشمس النهار من جلاها

واسأل الأرض من أدار رحاها؟

واسأل الريح كيف تسجي سحابا

واسأل السحب كيف يهمي حياها

ص: 39

ثم سائل بروقها مشرعات

هل تضج الرعود خوف أذاها

واسأل الدوح كيف شب لظاه

واسأل الراسيات من أرساها

مدها في الثرى وأعلى ذراها

قادر في غد يحل حباها

ضل في التيه من أبى الرشد تيهاً

يا أخا العقل لا تكن تياها

يجهل العقل كنهه وهو عقل

وجدير أن يدرك الا كناها

قل له ما الأثير وهو فضاء

أن يحمل رسالة أداها؟

ثم ما الكهرباء وهي قريب

منه وهو البعيد عن معناها؟

قل له ما ارتباط جسم بروح

ظل فيها دراسة واكتناها؟

هل أعنا الأعصاب حين أصاخت

أذناها وإذ رنت مقلتاها؟

أو أعنا للقلب نبضا ضعيفا

تستمد الأبدان منه قواها

أو أعنا الأنفاس مطردات

وهي في النوم لا تني رئتاها

إن خلف العقول ربا حكيما

أودع الكائنات سر بقاها

عبد الغني المنشاوي - المدرس بالمدرسة الخديوية

ص: 40

‌في الأدب الشرقي

نظرات في الأدب الفارسي منذ نشأته إلى إغارة التتار

للدكتور عبد الوهاب عزام

مهما تختلف الآراء في تاريخ اقدم أثارة من الأدب الفارسي الحديث فان مؤرخا يستطيع أن يقول أن ظهور هذا الأدب صحب ظهور الإمارات الوطنية في إيران، فهذه الإمارات بعثت الأمل في نفوس الفرس وأتاحت لهم فرصة يستطيعون فيها التقرب بالمدائح وغيرها إلى أمراء يفهمون عنهم، ويعجبون بهم، ويسرهم أن تحيا آداب لغتهم وآثار آبائهم.

وأمر آخر يسترعي نظر مؤرخ الآداب الفارسية، هو ظهور هذه الآداب في الديار النائية عن البلاد العربية وعن بغداد حاضرة الخلافة والمدنية الإسلامية، إذ كانت هذه الديار أبعد من سلطان الأدب العربي الذي كان ترجمان حضارة الإسلام كلها حقبا طويلة. ثم استقلال الإمارات كذلك يبدأ في الأقطار النائية، وإنما تنقص الأرض من أطرافها. ومن أجل ذلك أتيح لخراسان البعيدة مهد أول دولة فارسية عظيمة في العصر الإسلامي أن تكون مبعث الأدب الفارسي الحديث. ولم تنل هذا الشرف فارس مهد الدول القديمة على تبريزها في العلم وتقدمها على خراسان فيه. حتى يقول أبو أحمد الكاتب كاتب الأمير إسماعيل بن احمد الساعاتي:

لا تعجبن لعراقي رأيت له

بحرا من العلم أو كنزا من الأدب

واعجب لمن ببلاد الجهل منشؤه

أن كان يفرق بين الرأس والذنب

يريد ببلاد الجهل ما وراء النهر وجهات خراسان.

ولى المأمون طاهر بن الحسين خراسان ثم جعلها ولاية لذريته فاستمروا يلونها حتى سنة 259 نحو 50 عاما. ولكنها كانت أمارة صغيرة قصيرة المدة. وكانت الأسباب لما تتهيأ لانبعاث الأدب الفارسي. ثم بنو طاهر لم يعنوا بالأدب الفارسي، وروي أن رجلا أهدى كتابا إلى عبد الله بن طاهر وهو في نيسابور فسأله ابن طاهر ما هذا؟ قال قصة (وأمق وعذراء) التي ألفها بعض الحكماء للملك أنوشروان، فقال الأمير: نحن قوم نقرأ القران ولسنا في حاجة إلى غير القران والحديث. فما لنا ولهذه الكتب التي ألفها المجوس؟ ثم أمر ألقى الكتاب في الماء، وأمر أن يحرق كل كتاب في ولايته بلغة المجوس. ويقول عوفي

ص: 41

عن آل طاهر: أنهم لم يكن لهم اعتقاد في لغة الفرس.

وفي سنة 247هـ سنة موت المتوكل ظهر في الشرق يعقوب بن الليث الصفار وهزم جند الخليفة أول الأمر وقال (كما يروي نظام الملك) أنه يريد خلع الخليفة، وكان شيعيا فيما قال، وخلفه أخوه عمرو إلى أن استنجد الخليفة المعتمد بني سامان فهزموه وأزالوا دولته.

والفرس يرون في يعقوب بطلا فارسيا لأنه أول ثائر على الخلفاء. أقام سلطانه على رغمهم اكثر من أربعين عاما. وقد سوغت لهم هذه العقيدة أن نسبوا إلى طفل ليعقوب أنه نطق بأول بيت من الشعر الفارسي الحديث، وفي الحق أن بلاد الفرس لم تعد إلى حكم الخلفاء الحقيقي بعد ثورة يعقوب.

ولكن أول دولة فارسية عظيمة لها أثر يذكر في الأدب الفارسي كانت الدولة السامانية. والسامانيون ينتسبون إلى بهرام جوبين أحد أعيان الفرس الذي ثار أيام الساسانيين على كسرى برويز، والبيروني يؤيد هذه النسبة. وقد بعثت الآداب الفارسية مع هذه الدولة (فيما نعلم).

وبينما كان السامانيون متسلطين في خراسان وما وراء النهر ظهر بنو بويه وعظم سلطانهم حتى استولوا على بغداد سنة 334، وساقوا نسبهم إلى بهرام كور أحد ملوك السامانيين؛ وما زالوا يصرفون الأمر حتى أديل منهم للغزنوية ثم للسلاجقة.

ظهرت دولة بني سبكتكين في غزنه وأديل لهم من سادتهم السامانيين أو (كما يقول بديع الزمان):

أظلت شمس محمود

على أنجم سامان

وسبكتكين تركي لا فارسي ولكنه مكَّن لنفسه في بلاد الفرس، وكان لدولته شأن عظيم في آدابهم. وجاء السلاجقة فنسخوا كل هذه الدول، وكان لهم من السلطان وبسطة الملك ما لم يتح لدولة قبلهم من غير الخلفاء؛ وكان مه هؤلاء أو بعدهم دول ذات شأن: منها الدولة الزيارية في طبرستان التي منها شمس المعالي قابوس بن وشمكير وابنه منوجهر فلك المعالي وحفيده كيكاوس عنصر المعالي، ودولة ملوك خوارزم الصغيرة التي قضى عليها محمود، وملوك خوارزم العظام الذين تسلطوا على معظم إيران قرناً وربع قرن والذين كانوا سببا في إغارة التتار وكانوا أول هلكاهم، والدولة الغورية التي قضت على الغزنويين

ص: 42

في أفغانستان.

هذه هي الدول التي صرفت أمور الفرس منذ القرن الرابع الهجري، ويرى منها أن الفرس لم يفلحوا في إقامة دولة عظيمة تضم أرجاء بلادهم، وإنما كان السلطان الشامل لدولتين تركيتين الغزنوية والسلاجقة، وما عرفنا أن ثورات فارسية عظيمة حاولت التخلص من هاتين الدولتين، وهذه مسألة جديرة أن تغير آراء الذين يريدون تفسير كل حركة في إيران في تلك القرون بالعصبية الفارسية.

الآن نرجع إلى الأدب الفارسي نراقب منشأه ونتعقب تطوره منذ بدأ إلى عصر التتار؛ فأما ما بعد التتار فنرجئ الكلام فيه إلى مقال آخر.

إنا لا نعرف شيئا عن الشعر الفارسي قبل الإسلام حتى ليظن أن الفرس لم يكن لهم منه حظ كبير، ولأمر ما نسب بعض كتاب الفرس أول شعر فارسي إلى بهرام جور، وقالوا: أنه اخذ الشعر من العرب إذ تربى في الحيرة. يذكر هنا محمد عوفي في لباب الألباب وشمس قيس في كتاب المعجم، ويزيد الأخير أنه قرأ في بعض الكتب الفارسية أن علماء عصر بهرام لم يستهجنوا منه الا قول الشعر، وأن آذرباد بن زرادستان الحكيم بالغ في نصحه ليترك الشعر تنزها عن معايبه؛ ثم يقول أن بهرام انتصح ومنع أولاده وذوي قرباه أن يقرضوا الشعر. ثم يقول: من أجل هذا كانت مدائح باربد وأغانيه عند كسرى برويز كلها منثورة لا نظم فيها.

ويقول ابن قتيبة:

(وللعرب شعر لا يشركها أحد من الأمم الأعاجم فيه على الأوزان والأعاريض والقوافي والتشبيه ووصف الديار والآثار، والجبال والرمال والفلوات وسرى الليل، والنجوم. وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم في مطلق من الكلام (منثور) ثم سمع بعد قوم منهم أشعار العرب وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا مثل ذلك في الفارسية وشبهوه بالعربية.)

وأما في العصر الإسلامي فلا ريب أن الشعراء الذين يعرفهم تاريخ الأدب لا يتقدمون العصر الساماني. غير أن في كتب الأدب الفارسي روايات عن شعر قيل قبل هذا العهد، وهي على علاتها لا تخلو من دلالة على أدب فارسي أقدم مما نعرف عسى أن يبينه التاريخ يوما.

ص: 43

يقول محمد عوفي معللا ظهور الشعر الفارسي الحديث ما يأتي مترجما مختصراً: (حتى إذا سطعت شمس الملة الحنيفية على بلاد العجم جاور ذوو الطباع اللطيفة من الفرس فضلاء العرب واقتبسوا من أنوارهم ووقفوا على أساليبهم واطلعوا على دقائق البحور والدوائر وتعلموا الوزن والقافية والردف والروي والايطاء والإسناد والأركان والفواصل. ثم نسجوا على هذا المنوال).

ثم يروي أبياتا أربعة لشاعر اسمه عباس مدح بها المأمون في مرو سنة 193 منها:

كس برين منوال بيش ازمن جنين شعري نكفت

مر، زبان بارسي را هست تا اين نوع

بين

ليك زان كفتم من اين مدحت ترا تا اين لغت

كيرد أز مدح وثناء حضرت تو زيب

وزين

وترجمتها:

ما قال أحد قبلي شعرا كهذا وما كان للسان الفارسي عهد به، وإنما نظمت لك هذا المديح لتزدان هذه اللغة بمدحك والثناء عليك.

فأعطاه المأمون ألف دينار عينا، وبالغ في اكرامه، يستمر عوفي فيقول:(ولم ينظم الشعر الفارسي أحد بعده حتى كانت نوبة آل طاهر وآل الليث فظهر شعراء قليلون، فلما كانت دولة السامانيين ارتفع علم البلاغة، وظهر كبار الشعراء).

ويروي شمس قيس: أن أول من قال الشعر الفارسي أبو حفص السغدي من سغد سمرقند وكان حاذقا في الموسيقى، وقد ذكره أبو نصر الفارابي وصور آلاته الموسيقية وقد عاش حتى سنة 300هـ وينسب إليه هذا البيت:

آهوى كوهي دردشت جكونه دودا؟

جوندار ديار بي يار جكونة رودا؟

(كيف يعدوهذا الظبي الجبلي في الصحراء؟، أنه لا حبيب له فكيف يسير بغير حبيب؟)

فأما رواية عباس المروي فأن المؤرخ الناقد يرتاب فيها لأن غريبا أن يبدأ الشعر الفارسي بهذا الأسلوب المتين ثم يصمت الشعراء أكثر من مائة سنة لا يؤثر عنهم شيء. وأما رواية السغدي فراجعة إلى العصر الذي بدأ فيه الشعر الفارسي وسجل لنا التاريخ بعض شعرائه.

ومهما يكن من شيء فاتفاق مؤرخي الآداب على أن أول شاعر فارسي عظيم هو أبو جعفر

ص: 44

الرودكي شاعر نصر بن أحمد الساماني، الذي يسميه معروفي البلخي (سلطان شاعران) ويقول فيه البلعمي: أنه لا نظير له بين العرب والعجم، ويعترف الدقيقي والعنصري بتقدمه.

ص: 45

‌الأدب الياباني

للأستاذ أحمد الشنتناوي

كانت اليابان إلى عهد قريب محجوبة عن أنظار العالم المتمدين بحجب كثيفة لا يكاد المرء يتبين ما يجري وراءها بين أبناء تلك الأمة العظيمة من عادات وتقاليد، وكان الأدب الياباني بنوع خاص من أغمض مظاهر الحضارة اليابانية أمام الباحث، ويرجع ذلك إلى صعوبة اللغة اليابانية وغرابة أحرفها الهجائية وعدم إقبال الأدباء والعلماء على تعلمها، مع أن الآداب اليابانية غنية في مادتها متنوعة في أبوابها، وتعد بحق بين الآداب العالمية الرائعة.

وليس هناك أمة من الأمم تكون آدابها جزءا هاما من تاريخها مثل أمة اليابان، فأفراد الشعب هناك على اختلاف طبقاتهم يستسيغون الشعر ويطربون لموسيقاه، بل هم شعراء بسليقتهم لا فرق في ذلك بين النساء والرجال؛ فالأمة كلها تشترك في مهرجان الشعر الذي يقيمه الإمبراطور كل عام، فيأخذ كل ياباني في إنشاد أطيب ما جادت به قريحته، ويذكرون أن الإمبراطور (ميدي) وهو جد ميكادو إمبراطور اليابان الحالي كان يشجع هذه المهرجانات الشعرية، فيخصص الجوائز الثمينة للفائزين، وقد ألف هو نحو مائة ألف مقطوعة شعرية.

أما شغف الياباني بباقي فروع الأدب فلا يقل عن شغفه بالشعر، لهذا كانت الآداب اليابانية غنية في مادتها رائعة في أسلوبها إنسانية في معانيها، ولكن تلك الآداب العالية لم تتخط حدود اليابان الجغرافية لصعوبة اللغة التي كتبت بها، ثم زاد من صعوبة تلك اللغة دقة المعاني وعمق الأفكار التي حملها إياها اليابانيون، والتي لا تصدر الا من أبناء الشرق الصميمين في مدنيتهم الشرقية، ويكفي أن نقول أن كلمة (امرأة) لها في اللغة اليابانية ما يزيد على أربعة وعشرين لفظا مرادفا، كل لفظ يستعمل في حالة معينة وظروف خاصة حسب مكانة المرأة المخاطبة الاجتماعية أو الشخصية، أو درجة الاتصال بها. كذلك لفظة (أنت) لها ما يقرب من اثنى عشر مرادفا؛ وهذا التعدد في الألفاظ يدلنا على مقدار الدقة التي يتوخاها الياباني في تعبيراته الاجتماعية والأدبية، وليس هذا في نظرنا دليلا على رقي اللغة أو غناها فقط، إنما يدل كذلك على الشعور الدقيق والحساسية الراقية، والآداب

ص: 46

العالية هي في لبها وجوهرها إحساس دقيق وشعور متدفق.

وإذا كان فن التصوير الياباني له اثر واضح على الآثار الأوربية فأننا لم نسمع قط أن الآداب الغربية متأثرة بالآداب اليابانية، ولم يمنع هذا أن يكون العكس صحيحا، فالأدب الياباني غاص بالتراجم العديدة لكثير من الآداب الأوربية العالمية، فجميع المؤلفات القيمة من إنجليزية وفرنسية وألمانية وروسية نقلت إلى اللغة اليابانية، وهذا دليل واضح على تعلق هذا الشعب الناهض بالآداب على اختلاف منابتها.

والعصر الذهبي للآداب اليابانية الكلاسيكية هو عصر (هايين) من 784 - 1186 إذ انتعشت فيه الآداب اليابانية وظهرت فيه عدة قصص غرامية وتاريخية، كما أنه لم يخلو من النشرات الأدبية الانتقادية، ولعل أهم ما يلفت النظر في ذلك العصر هو ظهور أديبتين يابانيتين شهيرتين وهما (موراساكي) و (سي) وموراساكي اسم ياباني معناه زهرة البنفسج وصاحبته أديبة في أسلوبها فخامة وحلاوة وفلسفة لينة بينما (سي) ومعناها النور تمتاز بشعورها الفياض وأسلوبها السهل الممتنع وأشهر قصة لموراساكي؛ هي قصتها المسماة غنسي وهي وصف محكم وصورة طبق الأصل وملاحظات دقيقة مدهشة عن الحياة في البلاط الياباني في القرن الحادي عشر. وهي كثيرة الشبه بالحياة في بلاط لويس الرابع عشر، وقد اتخذت لها بطلا سمته (غنسي) وهو عبارة عن دون جوان آخر، أي مخلوق حر بكل معنى الكلمة، يأتي ما يشاء من الأفعال دون النظر إلى ما كان يأتيه يتماشى مع الاعتبارات الدينية أو الإنسانية أو الاجتماعية أو لا يتماشى، إنما كل همه إرضاء شهواته وملاذه، فكانت له عدة مخاطرات غرامية. وهذه القصة تعطيك صورة واضحة للحياة اليابانية الاجتماعية في عهد (موراساكي)، ولا تسل عن العذوبة والروعة التي كتبت بها الحوادث الغرامية التي خاض غمارها (غنسي) وكل ذلك في أدب وحشمة وتورع.

أما الأديبة الأخرى (سي) فكانت معاصرة لموراساكي وتعيش معها في البلاط الياباني، ولقد عرفت بالكبرياء والصلابة في رأيها، وكتاباتها ملآى بالنقد والتجريح، كذلك كانت لها قدرة على وصف الطبيعة وما بها من حيوان وطير وصفا بليغا دقيقا.

ولنذكر هنا قطعة لها قصيرة في وصف فصول السنة الأربعة قالت:

ص: 47

(أن الذي يسحرني في الربيع هو الفجر يتهادى في مشيته على قمم الجبال، بينما كل شيء يضيء رويدا رويدا، وقطع السحاب اللازوردية تسبح في الفضاء جماعات جماعات. . . . . . . .)

(أما في الصيف فالذي يسحرني فيه هو الليل. . . يعجبني منه القمر المنير. .! وتسحرني الليلة الليلاء، حيث يطير في جوها الحالك الحباحب المشعة هنا وهناك. . وإذا تساقط المطر في تلك الليلة فأنه يزيد في جمالها وسحرها. . .

والذي يسحرني في الخريف هو المساء عندما ترقد الشمس في مغربها مرسلة سهامها اللينة نحو قمم الجبال العالية، فتسرع الغربان نحو أعشاشها تطير جماعات مثنى وثلاث ورباع! حقا أنه منظر فيه حزن وجمال. . . . وما اجمل المنظر وأبهاه إذا لاح في الأفق البعيد سرب من الطيور البرية الصغيرة!. . بعد ذلك تختفي الشمس وتزأر الرياح وتخرج الهوام والحشرات من مخابئها صائحة مهللة. كل ذلك مما يهيج في النفس ألما لذيذا. . . والذي يسحرني في الشتاء هو سقوط الثلج إذا ما تنفس الصباح، فتكتسي منه الأرض حلة بيضاء ناصعة، وعندما يقر البرد توقد النيران للتدفئة، حتى إذا ما انتصف النهار وخفت وطأة البرد ترى جمرات النار وقد تحولت إلى رماد ابيض، وذلك هو الحزن بعينه. . .!)

وفي القرون الأربعة التي أعقبت عصر (هايين) نجد القصة والشعر الياباني لا ينتقلان من مكانهما بعيدا، الا أننا نجدهما يتأثران كثيرا بالفلسفة البوذية، فينتعش الأدب التاريخي ويولد الأدب المسرحي في اليابان، وأبطاله (كابوكي) و (نو) وفي عام 1642 يظهر في سماء الأدب الياباني (سيكاكو) وهو أستاذ الأدب الواقعي في اليابان، وقد خلف هذا الأديب مؤلفات وافرة وتلاميذ كثيرين وكانت الآداب اليابانية قبل عهده تعد في جملتها آدابا أرستقراطية كتبت لخواص الناس وأهل الثقافة منهم، فأتى سيكاكو وجعل من الأدب الياباني أداة للإفصاح عن مشاعر الإنسانية وعواطفها وهمومها وأحزانها أي تلك النواحي العامة التي قد يشعر بها رجل الطريق قبل أن يشعر بها رب الجاه والسلطان. وهو في وصفه وتحليله لتلك العواطف الإنسانية راعى الدقة التي يلاحظها النباتي في وصفه لزرعه؛ أو عالم الحيوان في دراسته لحشرة من الحشرات. وتظهر هذه المقدرة بأجلى بيان في قصته المسماة (حياة امرأة) وصف فيها سيكاكو كيف تكون حياة المرأة الخليعة

ص: 48

المستهترة التي لا يهمها من عيشتها الا إشباع شهواتها وقضاء ملاذها، ولكن حياة الدعارة والمجون نهايتها دائما محزنة مبكية فنرى في نهاية القصة تلك المرأة التي كانت بالأمس زينة المجالس وبهجة الناظرين تهجر العالم بعد أن عضها البؤس بنابه، وتنزوي بين منعطفات الجبال في كوخ حقير من القش والخرق البالية. . .!

ولعل (تيكاماتسو) أشهر كاتب درامي في اليابان، فهو يعد بحق شكسبير الأدب الياباني. ولكنه اقتصر في مؤلفاته على الإشادة بذكر العواطف الإنسانية العالية وتحليلها كالحب والشرف والإخلاص والعفاف، ويعده البعض بين زمرة الشعراء لأن رواياته كتبها كلها نظما، ولكننا لا ننسى أن معظم كتاب اليابان الأقدمين كتبوا آثارهم شعرا لأنهم عشقوا الشعر وطربوا لأنغامه الموسيقية فألهاهم ذلك عن كل شيء آخر. (وتيكاماتسو) هذا خالق الدراما اليابانية التي تصف الحياة اليومية وتتغلغل في أعماقها وتكشف عما بها من محاسن ومعايب، وتعبر عما تختلج به قلوب الآلاف من المظلومين والمساكين.

ظل الحال على هذا المنوال حتى الثورة اليابانية التي شب لظاها عام 1867 والتي يرجع سببها إلى الروح الغربية التي بدأت تتسرب إلى بلاد اليابان الهادئة المطمئنة حوالي ذلك الوقت، فتأثرت الآداب اليابانية كما تأثر الفن الياباني، كذلك لم يسلم من هذا التيار الجديد الحياة الاجتماعية نفسها، فتغير سلوك الفرد ونظام الأسرة، حتى المساكن وأنواع الأطعمة دخل عليها شيء كثير من التعديل والتغيير، وغذى المجتمع الياباني شيء آخر جديد مغاير لليابان إبان عهد هايين أوسيكاكو، وبدأ الشعب الياباني يقف على مسرح الحياة بنفسه بعد أن كان إلى هذا العهد مشاهدا متفرجا لما يقع بين ظهرانيه، اذ بعد أن هدأ تيار الثورة وخمدت الحروب الأهلية حوالي سنة 1880 ظهر في الأفق شعاع جديد لامع يبشر بمستقبل أدبي جديد لم تلبث أن أشرقت في أثره شمس الآداب اليابانية الحديثة وهي موضوع الكلام في مقالنا الثاني إن شاء الله.

ص: 49

‌في الأدب الغربي

قصة فيلسوف عاشق

للدكتور طه حسين

لا أعلم أن الفلسفة تحضر الحب على أهلها، بل الذي أعلمه أن الفلسفة

حب كلها. وليس اسمها الا لفظاً من ألفاظ الحب؛ ولكن هذا الحب إذا

احتل قلباً شغله عن كل شيء واستأثر بكل ما فيه من قوة وعاطفة

وهوى، ولم يدع من ذلك للحياة اليومية العاملة الا شيئا يسيراً جدا.

فالفلسفة حب الحكمة، وهذه الحكمة شديدة الغيرة، شديدة الاثرة، لا تحب الشركة ولا ترضاها، ولا تسمح لعشاقها بأن يصفوا بودهم شيئاً أو أحداً غيرها. فمن فعل ذلك أو شيئاً منه، فليس هو من الحكمة في شيء؛ وإنما هو رجل مثلي ومثلك يغشى الأندية، ويضطرب في الشوارع، ويعيش مع الناس، وليس له حظ من المدينة الفاضلة التي يسكنها ويسيطر عليها عشاق الحكمة وحدهم.

لذلك كان أمر هذا الفيلسوف الذي أحدثك عنه عجباً من العجب، وفنا من هذه الفنون النادرة التي لا يظفر بها المؤرخون والقصاص الا في مشقة وعسر، وإلا على أن تفرق بينها القرون الطويلة والعصور البعيدة. والذي أعرفه أن التاريخ لم يظفر قبل فيلسوفي هذا العظيم بعاشق قد دلهته الحكمة، وعبث بلبه جمال ألهتها العليا؛ ولكنه على ذلك استطاع أن يشغف بآلهة أخرى يشركها مع هذه الآلهة التي كان يصورها اليونان في صورة أثينا، تلك التي خرجت من رأس أبيها زوس، تامة الخلق، مكتملة الشباب، فيها جمال فتان؛ ولكن فتنته تخلب بقوتها لا برقتها.

لم يعرف التاريخ عاشقاً من عشاق أثينا استطاع كما استطاع فيلسوفي العظيم، أن يشرك معها امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به آلهة الحكمة نفسها، وأن ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ابنة زوس بابنة بابيس، ويتخذ منهما شخصاً واحداً يحبه ويقدسه، ويصوغ له ديناً قويا خصبا، ويحاول أن يبسط سلطان هذا الدين على الإنسانية كلها، أو على الإنسانية المسيحية على أقل تقدير.

ص: 50

أظنك قد عرفت هذا الفيلسوف، فهو (أغست كونت) مؤسس الفلسفة الوضعية، وواضع علم الاجتماع، وصاحب السلطان العظيم على العقل الفرنسي، ثم الأوربي، ثم الأمريكي، عصرا طويلا من القرن التاسع عشر. وأظنك قد عرفت هذه المرأة التي زاحمت الفلسفة في قلب (أغست كونت) فكادت تغلبها عليه، أو غلبتها عليه بالفعل؛ ثم أصبحت إلهة للفيلسوف يعبدها كما يعبد النصارى المسيح، وكما كان الوثنيون من اليونان يعبدون أثينا أو أرتميس. ثم أصبحت إلهة لجماعة من تلاميذ الفيلسوف المتفرقين في أطراف الأرض، ثم أقيم لها معبد لا يزال يحج إليه إلى الآن في باييس، وأقيمت لها معابد متفرقة في أمريكا الجنوبية. حيث لا يزال للفيلسوف اتباع يشايعونه في القسم المتطرف من فلسفته.

هذه المرأة هي (كلوتلد دي فو) وأظنك تطمئن الآن وقد سمعت هين الاسمين، الا أني لا اخترع ولا اتبع الخيال، ولا أضع قصة؛ وإنما أكتب فصلا من فصول التاريخ. وليس من الضروري أن يلجأ الكاتب إلى الخيال والاختراع، ليستطيع أن يمتع قراءه، وأن يؤثر في نفوسهم ويثير فيها هذه العواطف الحادة المختلفة التي تعبث بها حين تحس لذة أو الماً، وحين تجد حبا أو بغضا، وحين تشعر بحزن أو سرور. فقد تكون الحقائق الواقعة أبرع وأروع من أحسن القصص الخيالية وأبدعها. ولكني في حاجة إلى أن اقدم إليك شخص هذين العاشقين قبل أن أحدثك عن عشقهما، وأقص عليك ما كان بينهما من غرام.

نشأ أغست كونت مع القرن التاسع عشر، ولم يكد يتوسط العقد الثاني من عمره حتى ظهر تفوقه في العلوم الرياضية، ولم تكد تتقدم به السن قليلا حتى عرف له هذا التفوق، وإذا هو حجة في هذه العلوم، وإذا هو لا يقف عندها ولا يقتصر عليها؛ وإنما يفكر في الصلة بينها وبين بقية أنواع المعرفة الإنسانية من جهة، ويفكر من جهة أخرى في الحياة الأوربية المضطربة بعد الثورة والإمبراطورية، فيحاول أن يضع ترتيباً جديداً للعلوم، ويوفق إلى ما يريد، ويحاول أن يجد نظاماً جديداً تقوم عليه الحياة الأوربية، فيوفق أيضاً، ويصبح لهذين النوعين من التوفيق صاحب الفلسفة الوضعية ومؤسس علم الاجتماع.

ولكن فلسفته الوضعية هذه، كانت حديثة ثائرة لا تستأثر بالقلوب استئثاراً مطلقا، ولا تقطع على أهلها سبيل الحياة. فسمحت لعاشقها (أغست كونت) أن يعيش كما يعيش الناس، وأن يحب كما يحبون. فعاش وأحب. ولكن أي عيشة وأي حب؟ تركت الفلسفة قلبه حرا،

ص: 51

وشغلت عقله كله، فاختار في الحب بحسه وقلبه، ولم يختر بعقله، فيا بئس ما اختار! اختار امرأة جشمته الأهوال، وعلمته كيف تحتمل الآلام، وكيف يتجرع الإنسان مرارة الغيظ: كانت هلوكا فاجرة. وخيل إلى (أغست كونت) أنها نقية طاهرة، فأحبها وأظهرت له الحب، وخطبها فقبلت الخطبة، وتزوجها فقبلت الزواج. وما هو الا وقت قصير حتى تبين من أمرها ما كره. فخاصمها وقاومته، وأنذرها فازدرته، وحاول أن يعاقبها فثارت به، وصبر الرجل فصابر حتى جن. وإذا هو يلقي نفسه في النار، وإذا الشرطة تستنقذه وتدفعه إلى المستشفى، فيقيم مع المجانين حينا ثم يفيق فيستأنف الفلسفة، ويستأنف التعليم، ويستأنف الحب والعذاب. ويجن مرة أخرى، ويفيق وتنقطع الصلة بينه وبين امرأته في غير طلاق، لأن القوانين الفرنسية لم تكن تبيح الطلاق يومئذ. فنشاطه إذا موقوف على الفلسفة والتعليم.

وفي سنة 1840 كان فيلسوفنا ممتحنا في مدرسة الهندسة وكان بين الشباب الذين تقدموا إليه في هذا الامتحان غلام في الخامسة عشرة من عمره، هو (مكسيمليان ماري). رآه الأستاذ الفيلسوف وسأله، فأحبه واعجب به، ورأى أن الخير في ألا يقبله هذا العام. فأجله سنة ثم قبله بعد ذلك، واتصلت بين الأستاذ وتلميذه محبة لن تلبث أن بلغت أقصاها، وإذا الفتى يميل إلى أستاذه وفلسفته وإلى الحرية خاصة، وإذا هو يستقيل من المدرسة ويتبع الأستاذ ويتتلمذ له ويعيش من التعليم في المدارس الحرة على كره من أبيه. وفي سنة 1844 يتزوج هذا الفتى ويعيش مع امرأته في بيت الأسرة، حيث يزوره الأستاذ من حين إلى حين، وهناك يلقى أخته (كلوتيلد) فلا يكاد يسمعها ويتحدث إليها، حتى تبتدئ بينه وبينها قصة الغرام.

وكانت كلوتيلد هذه في الرابعة والعشرين من عمرها ولكن حياتها كانت ممتلئة بالخطوب. كان أبوها رجلا من الطبقة الوسطى، عمل في جيش الإمبراطورية وارتقى في آخر عهد الإمبراطور إلى رتبة الكابتن، ثم سقطت الإمبراطورية فأحيل إلى الاستيداع، وعاش من مرتبه العسكري الضئيل. وكانت أم الفتاة من أسرة شريفة من أهل اللورين، فنشأت (كلوتيلد) نشأة فيها بؤس وضيق؛ ولكن فيها احتفاظا شديداً بتقاليد الطبقة الوسطى، ولم تكد تتجأوز الخامسة عشرة حتى زوجت من رجل يحمل اسما من أسماء الأشراف. ولكن حظه من الشرف كان قليلا، وهو (ميودي فو). اقترن بالفتاة وعين جابياً للضرائب، وقضى مع

ص: 52

امرأته أعواماً لا هوبالسعيد ولا هو بالذي يمنح امرأته قسطاً من السعادة. ثم أصبح الناس ذات يوم، وإذا هو قد هب إلى سفر مجهول، وما هي الا أن يبحث عنه ويفتش عن أمره، حتى يظهر أنه قد بدد أموال الدولة، وشيئاً كثيراً من أموال الناس في اللعب، ثم هرب من فرنسا، إلى حيث لم يعرف من أمره شيء.

فظلت هذه المرأة الشابة معلقة، لا هي بالمتزوجة، ولا هي بالمطلقة، محزونة، بائسة، لا أمل لها في الحياة. عادت إلى أسرتها تعيش بينها، وعكفت على نفسها تعيد وتبدي ما يجول فيها من خواطر الألم والحزن، ثم أخذت تكتب ما تحس وتقيد ما تجد، وإذا هي كاتبة لها حظ من أدب ونصيب من خيال. وكان جمالها معتدلا لا إسراف فيه. وكانت المحنة قد أفادتها رصانة ورزانة، وأفاضت على شخصها شيئاً من الحب يعطف النفوس عليها، وأجرت في حديثها شيئاً من العذوبة الحلوة الهادئة، يحببها إلى القلوب.

فلما لقيها الفيلسوف في بعض زياراته لأخيها، نظر إليها فلم تكد تبلغ نفسه، ونظرت هي إليه فأنكرته وأكبرته. أنكرت شكله الدميم، وصورته القبيحة، وخلقه المضطرب المرتبك، وأنكرت صوته الغليظ، وحديثه المتكلف. ولكنها أعجبت بذكائه، وأكبرت عقله وفلسفته، وسكتت عنه، وسكت عنها. واتصلت الزيارات، واتصل اللقاء. وأخذت نظرات الفيلسوف تستقر على الفتاة، وأخذت أذن الفتاة تطمئن إلى حديث الفيلسوف، ولكن أحداً منهما لم يشعر بأن صاحبه قد وقع من نفسه موقعاً خاصاً.

كان الفيلسوف يزور الأسرة ثلاث مرات في الأسبوع، وكان يجد لذة ودعة في هذه الزيارة، كان يلقى ثلاثاً من النساء: أم تلميذه وكانت مشغوفة بالتصوير، تحاول دائما أن تصور الفيلسوف، وزوج تلميذه وكانت موسيقية تطربه بالتوقيع على البيانو، وكلوتيلد أخت تلميذه وكانت أديبة تحدثه عن الأدب وعن قصتها التي أنشأتها وسمتها (لوس) ورمزت فيها لحياتها الخاصة، وربما أنشدته شيئا من شعرها. ولم يكن الفيلسوف يحب الأدب ولا يحفل بالشعر، ولكنه كان يجد لذة في أدب كلوتيلد، ويذوق الجمال في شعرها وإن لم يكن هذا الشعر جميلا، وإن لم يكن مستقيم الوزن أحياناً. وكان الفيلسوف يتحدث إلى كلوتيلد عن فلسفته الوضعية، وعن مجلداته الخمسة التي ظهرت تذيع هذه الفلسفة في الناس، وعن أنصاره وخصومه، وعن دروسه في الفلك. وكانت الفتاة تعجب بهذا كله، وإن لم تكن

ص: 53

بطبعها مشغوفة بالفلسفة. وكان الفيلسوف يلتمس إرضاءها والتقرب إليها على غير شعور منه، فيذكر لها براعة النساء في الأدب والفلسفة، وكان هذا الحديث يروقها ويتملق كبرياءها، وكانت الفتاة تكبر في نفسها حين ترى الفيلسوف قد رآها لثقته أهلا. وذات يوم سقطت على الفيلسوف من السماء سعادة لم يكن يقدرها ولا ينتظرها ولا يحسب لها حساباً. زاره تلميذه ومعه أخته، وكان الفيلسوف في جماعة من العلماء، وكان الحديث علمياً عميقاً، فابتهج الفيلسوف وأعجبت الفتاة، وجلست تسمع في إكبار وتثاؤب خفيف لحديث العلماء، ثم همت تريد أن تنصرف فجمع الفيلسوف شجاعته كلها في يديه واستأذن الفتاة في أن يزورها في بيتها الخاص، فأذنت. هنالك بدأت الخصومة بين آلهة الفلسفة وآلهة الجمال. هنالك اضطرب (أغست كونت) بين العقل والقلب، وبين التفكير والحب. هنالك أخذ الفيلسوف يسأل نفسه: ما قيمة هذا العلم الخالص الجاف؟ وما قيمة هذا التفكير العميق العقيم؟ ومتى كان الرجل رجلا بعقله دون قلبه؟ ومتى كان الإنسان أنسانا بالتفكير دون الحب؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر في كل وقت، ولكنه يستطيع أن يحب دائماً. وإذا فقد تكون آلهة الفلسفة مسرفة في الطغيان، وقد يكون من الممكن أن يتخذ (أغست كونت) رأسه معبداً لأثينا وقلبه معبداً لكلوتيلد.

وابتدأت زيارة الفيلسوف للفتاة في بيتها. وإذا الحب يعلن، وإذا الفيلسوف يلح في حبه ويسلك إلى إقناع الفتاة بهذا الحب طرقاً، منها الملتوي، ومنها المستقيم. ولكن كلوتيلد لا تحب ولا تهوى، إنما تعجب وتكبر، فهي ترده عنها في رفق، وتطلب إليه مودته دون حبه، فلا يكاد يعرف منها هذا حتى يضيق بنفسه وبالحياة، وحتى تضيق به حصته، ويعجز جسمه ورأسه عن احتمال هذا الخذلان، فهو مريض يلجأ إلى السرير أياماً، وهو مشفق أن يعاوده جنونه القديم، على أنه يبل من مرضه، ويحاول أن يجدد عهده بالفتاة، ولكنها تحظر عليه زيارتها في بيتها، وتعده باللقاء عند أمها مرتين في الأسبوع، فلا يكفيه ذلك، فتعده بلقائه مرة ثالثة، فلا يكفيه ذلك أيضاً، وتتصل بينهما كتب فيها حوار حلو ملؤه الحنان حين يصدر عن الفتاة، عنيف معوج ملؤه الفلسفة حين يصدر عن الأستاذ، ثم يستحيل هذا الحب في نفس الفيلسوف إلى شكل جديد، فليس هو حباً عادياً كهذا الذي يكون بين الناس، وإنما هو التقاء شخصين عظيمين قد خلقا ليلتقيا ثم ليتعاونا على إصلاح الإنسانية وإنهاضها.

ص: 54

هي إذن قد خلقت له ولن يدعها ولن يتخذ غيرها زوجاً، إذا ماتت زوجه النائية، ثم تستحيل هذه العواطف ويستحيل هذا التفكير إلى فن من الفلسفة، يضعه (أغست كونت) في رسالة، ويهدي الرسالة إلى الفتاة بهذا العنوان:(رسالة فلسفية في التذكار الاجتماعي). في هذه الرسالة يتغير رأي (أغست كونت) في المرأة ومكانتها الاجتماعية تغيراً تاماً. فقد كان منذ أشهر يكتب إلى تلميذه (ستوارت ميل) فيرى أن ليس في المرأة أمل ولا خير، أما الان فهو يرى المرأة عنصراً أساسياً في الإصلاح الاجتماعي الذي وقف نفسه عليه، وقد سرت الفتاة بهذه الهدية، وكبرت في نفسها فزارت الفيلسوف مع أمها شاكرة له.

هنالك نشط الأمل وتجددت الحياة، واعتقد الفيلسوف أنه سعيد. واستأنف إلحاحه على الفتاة، واستأنفت الفتاة مدافعته عن نفسها، واحتالت في ذلك حتى زعمت له أنها قد أحبت من قبله فتى كان لحبها أهلا، وأحبها الفتى وسعد بهذا الحب؛ ولكن لم يجدا إلى الزواج سبيلا، لأن الفتى كان معلقا مثلها يخاصم امرأته ولا يستطيع لها فراقا، فيئست من الحب والسعادة، وأزمعت أن تنصرف عن لذات الحياة أبدا. ولكن الفيلسوف مغرم، والغرام لا يعرف اليأس، وهو إذا كان صحيحاً قويا قد يتحول ويتشكل، ولكنه لا يزول. وما الذي يمنع غرام كونت أن يتخذ شكلا فلسفيا ولو إلى حين. لقد كان عود نفسه الحرمان منذ دهر طويل، فألغى القهوة منذ عشرين سنة، وترك التدخين منذ عشر سنين، ثم ألغى النبيذ ثم ألغى الفاكهة، ثم اتخذ ميزانا يزن به ما يلائم حاجة جسمه من الطعام الخشن، وكان ربما يكتفي بالكسرة من الخبز يتبلغ بها، وهو يفكر في إخوانه من الناس الذين قد لا يظفرون بمثلها. وما دام قد سيطر على نفسه إلى هذا الحد، وعودها هذا الحرمان في الطعام والشراب، فما له لا يزيد هذه السيطرة وما له لا يعود نفسه الحرمان لا في الحب بل في لذات الحب. إذا فليبق حبه قويا حارا؛ ولكن ليظل هذا الحب نقيا طاهرا مجدبا من كل لذة، ولينتظر، وليجتنب اليأس، فكل شيء يدني الفتاة منه، وكل شيء يدنيه من الفتاة. لقد أصبحت زميلة له منذ نشرت بعض الصحف السيارة لها قصتها التي وضعتها عن نفسها فأصبحت كاتبة مثله تتحدث إلى الناس في الأدب كما يتحدث هو إلى الناس في الفلسفة. هما إذا زميلان، بل هما اكثر من زميلين؛ فقد أخذت الفتاة تدنو من مذهبه في الفلسفة، وتحس ميلا إلى آرائه الاجتماعية، وتكون منه مكان التلميذ والنصير. فليحب إذا وليصبر، وفي أثناء ذلك

ص: 55

كانت أم الفتاة تقول لها: لولا أن مسيو كونت قبيح دميم لقلت أنه يتملقك ويدور حولك كما يدور العاشقون حول من يحبون، ومع ذلك فإن من الحق عليه لك ولنفسه أن يفكر في أن هذه الزيارات المتصلة المنظمة، لا تليق بك ولا به لأنها تخالف العرف المألوف أشد الخلاف.

ص: 56

‌الوادي

للشاعر الفرنسي لامرتين

إن قلبي المكلوم، المتقطع رجائه حتى من الأمل، لن يزعج الأقدار بعد الآن بابتهالاته كما كان يزعجها من قبل.

ولكن أيها الوادي، يا مأواي في أيام طفولتي، أفسح لي مجالا (ولو ليوم واحد) فأعيش في ربوعك في انتظار المنون.

ها هي ذي الطريق الضيقة المؤدية إلى ذلك الوادي المظلم:

هنا، في أحضان هذه الروابي، تقوم أشجار تلك الغابات الكثيفة، فترسل ظلها على وجهي الشاحب، وتحوطني بسكون مسكر.

وهناك جدولان يسيران تحت (جسور) من الأعشاب المخضوضرة، فيرسمان في انسيابهما تعاريج الوادي ومنحدراته، وتراهما بين الفينة والفينة، يمزجان تموجاتهما الفضية بألحان خريرهما العذبة، ثم يتلاشيان قريبا من المنبع، بعيداً عن أعين الناس.

وأيامي في انسيابهما أشبه بهذين الجدولين! فهي تمضي وتتلاشى دون أن يشعر بها الناس، ودون أن تحدث ذلك الخرير العذب! أما نفسي الكئيبة الملتاعة فهيهات أن تعنى بحياة يوم جميل من أيام حياتي.

إن خمائل الوادي الفينانة، بظلها المخيم، دفعتني لقضاء النهار كله على ضفاف جداولها، فنفسي الحساسة تغفو على أنغام خرير المياه، كما يغفو الطفل في مهده على صوت المناغاة.

هناك تحوطني الطبيعة بأسوار من العشب الاخضر، وبأفق محدود، لكنه فسيح لناظري.

إنني أحب أن اثبت قدمي، وأن أبتعد عن الناس لأسمع خرير المياه، ولأتمتع برؤية السماء.

لقد رأيت في حياتي أموراً كثيرة، وشعرت باحساسات جمة، وملأت أيامي عشقا. والآن جئت أستوحي الطبيعة في هدوئها الشامل.

أيتها الأماكن البهيجة الجميلة! كوني لي تلك الضفاف التي ينسى الإنسان بقربها كل شيء، فقد أصبح سر سعادتي في النسيان.

ص: 57

هنا يطمئن قلبي؛ هنا ترتاح نفسي؛ هنا تلفظ ضوضاء العالم البعيد أنفاسها الأخيرة كما يلفظ الصوت البعيد أنفاسه حين تبعد به الشقة قبل أن يصل مع النسيم إلى الأذن الحائرة.

من هنا، ومن خلال هذه الغيوم الصافية، أرى ماضي حياتي يختفي في ظلام دامس، تاركا لنفسي ذكريات حية لحبي، كما تترك اليقظة في نفس المستيقظ صور خيالات جميلة لحلم لذيذ قد استفاق منه.

يا نفسي! خذي حظك من الراحة في هذا المنزل الأخير كما يأخذ المسافر الطافح قلبه بالامال، حظه من الراحة، قبل أن يدخل أبواب المدينة، يستنشق هنيهة نسيم المساء المعطر.

ولننفض نعالنا كما يفعل هذا المسافر، لأننا لن نمر ثانية في هذه الطريق التي اجتزناها مملوءة بالغبار، ولنتذوق مثله أيضاً، في آخر مرحلة من طريقنا، هذا الهدوء الذي يبشرنا بضجعتنا الأبدية.

أيها الإنسان! إن أيامك المعدودة، التي تشبه في حلكتها وقصرها أيام الخريف، تنحدر بك كما ينحدر الظل على جوانب الهضاب. فالصداقة تخونك، والرحمة تعرض عنك، إلى أن تتركاك في طريق القبر وحيدا.

ولكن الطبيعة هنا تدعوك إليها لتبثك أشواقها، فارتم في أحضانها.

عندما يقلب لك كل شيء ظهر المجن، عندما يخونك كل شيء ويعرض عنك، ترى الطبيعة على حالها المعهودة. فالشمس نفسها تشرق طيلة أيام حياتك.

أن الطبيعة لم تزل كما كانت عليه بالأمس، ترشدنا تارة بنور حقيقتها، وتظللنا أخرى. فلا تأسف أيها الإنسان لكل ما تضيعه من متاع الحياة الدنيا. وتعال تعبد ذلك الصدى وألحان تلك الموسيقى العلوية كما كان يتعبدهما (فيثاغورس) من قبلك.

دع الطرف يناج الغزالة في سمائها نهارا، والأشباح في محرابها ليلا؛ واسبح مع الغيوم على بساط الريح؛ واخترق غابات الوادي الظليلة مع أشعة ذلك الكوكب الخفي.

إن الله خصك أيها الإنسان بالعقل والفطنة لكي تتحقق بهما وجوده. فاستجله في صحيفة الطبيعة، فإن في سكونها وهدوئها صوتا يهتف باسمه.

من منا لم يسمع هذا الصوت يدوي في أعماق قلبه؟

ص: 58

بيروت. محمد كزما

ص: 59

‌غيرة

قد زرعنا بين أفواف الربا

وردة الحب لإقبال الربيع

داعبتها عند إقبال الصبا

نسمة الآصال والصبح الوديع

خلع الروض شذاه بعدها

وحبتها اللون وجناتُ الحبيب

فهي كالنار، ولكن عندها

تشتهي الأفواه تقبيل اللهيب

كأن قلبي مسرح الود الندِي

وسقته العين أمواه الحياه

وعزيز أن أرى غرس يدي

تحتويه بين عيني الشفاه

وردة الحب استباحت ادمعي

وتولت عند إقبال الخريف

عذبت قلبي وأبكته معي

وأرتني كيف إذلال الضعيف

محمود محمد منتصر

ص: 60

‌العلوم

أسرع كمرة في العالم

صورة تؤخذ في جزء من 40000 من الثانية

إذا أردت أن تصور جسما ثابتا، كتمثال من الحجر، كفاك في ذلك أن تثبت أمامه كمرة غاية في البساطة، تتكون من خزانة مظلمة، بسطحها القريب من التمثال عدسة تركز الأشعة المنبعثة منه على فلم حساس في السطح المقابل من الخزانة، فترتسم عليه الصورة المرغوبة. ثم يستخرج الفلم في الظلام ويثبت بالطرق المعروفة. ومن أهم الأمور التي يراعيها المصور مدة التجلية أي مدة تعريض الفلم للضوء، وهي تتوقف على أمرين: أولهما درجة إحساس الفلم، وثانيهما شدة الضوء الذي ينير التمثال. وفي المثل الذي نحن بصدده يكفي أن يغطي المصور عدسة هذه الكمرة البسيطة بورقة مقواة سوداء، فإذا حان وقت التصوير جلى عن الفلم مدة ثانية أو ثانيتين أو ثلاث أو أربع حسب ضوء الشمس الحاضر، وذلك بإزاحة الغطاء ثم رده سريعاً إلى مكانه.

هب بعد ذلك أنك تريد تصوير رجل من لحم ودم، وهب أنك وقفته مكان التمثال وجليت عن الفلم ثلاث ثوان أو أربع، فهل تدري ما الصورة التي تخرج لك؟ صورة مغبشة على الأغلب لأن الإنسان ليس له سكون الحجر، فهو لا يستطيع صبراً على الوضع الواحد، فيتحرك فيتخذ أوضاعا كلها ترتسم على الفلم فتخرج الصورة مبهمة الحدود متضاعفة الخطوط مختلط بياضها بسوادها. فتجد نفسك عندئذ في حاجة إلى تقصير مدة التجلية حتى لا يتحرك الرجل، ومعنى هذا أنك بحاجة إلى زيادة حساسية الفلم، ومعنى هذا أيضاً أنك بحاجة إلى زيادة شدة الضوء، فبدل أن تصور في نور الصباح الأول أو في نور المساء الأخير، تصور والصباح ضاح مشرق، وعندئذ تكفيك بعض الثانية عن الثواني الكثيرة.

هب بعد هذا أنك تريد أن تصور رجلا وهو يسير، أو حيوانا كقطة أو كلب لا تستطيع أنت أن تريده على السكون، أو هب أنك تريد أن تصور حصانا وهو يجري، أو طائرا إذ يطير، أو قطارا ينهب الأرض، فقد لا تنفعك تجلية الفلم ثانية أو عشر الثانية، فالقطار الذي يسير بسرعة 60 كيلومتراً في الساعة يقطع في الثانية الواحدة نحو من 17 مترا. فانظر كم صورة تنطبع عندئذ على الفلم في الثانية الواحدة، وتخيل مقدار تغبش الصورة

ص: 61

الحاصلة.

فكان لا بد من تقصير مدة التجلية تقصيرا كبيرا كان تكون مدة التجلية جزءا من مائة من الثانية أو من مائتين، ولما كانت اليد الإنسانية لا تستطيع كشف العدسة وتغطيتها بهذه السرعة كان لا بد من ابتداع غطاء تحركه قوة آلية كقوة الزنبركات مثلا، وتدخلت الكيمياء لتزيد في حس الأفلام لكي تتأثر بالضوء في المدة القصيرة الجديدة. وتقدم الإنسان في اختراع الكمرات السريعة حتى أصبح تصوير المتحركات أمراً سهلا لا يكلف تعبا ولا إجهادا، وأصبح مألوفا حتى لا يثير استغرابا ولا إعجابا. وصرنا نحلل بها حركات الحيوان لنعرف منها تفصيل سيره، ونحلل حركات الطائر لندرك منها كنه طيره، وصرنا نجمع هذه الوحدات التي تحللت إليها الحركة، والعناصر التي تقسمت إليها أفعال الحيوان والإنسان، فنعرضها على الشاشة البيضاء متتابعة متواصلة، فنحكي من حوادث الوجود ما نشاء أين نشاء ومتى نشاء.

ولكن من حوادث الوجود ما يحدث في مدد قصيرة تنافس العين في لحظتها والخاطر في لمحته، فلا بد من تقصير مدة التجلية إلى ما يسبق لحظة العين ويقاصر لمحة الخاطر، وإذن فلا بد من الزيادة في حساسية الافلام، ولا بد من زيادة الضوء حتى يزيد على ضوء الشمس، فجد الباحث بعد الباحث، وعاون المفكر المفكر، وتضافر الطبيعي والكيميائي، والرجل النظري والرجل التطبيقي؛ حتى جاءت الأنباء حديثاً بأسرع كمرة عرفها الزمن، كمرة إذا صدقت الأخبار العاجلة تصور الصورة في جزء من أربعين ألفا من الثانية، اخترعها أستاذان من أساتذة معهد الصناعات بماساشوسيت بالولايات المتحدة، وهي تعتمد بالطبع على فلم شديد الحس، ولكن اكبر اعتمادها على دورة كهربائية تستطيع أن تحدث برقة ضوئية أسطع من شمس الظهيرة مرات وهي تعدل في شدة ضوئها 40000 مصباح كهربائي مركزة كلها في صعيد واحد، قوة الواحد منها خمسون واطاً.

وقد استطاعا أن يصورا بها أموراً عدة لا تستطيع أن تصورها الكمرات السريعة المعروفة، نذكر من ذلك صورة للماء النازل من الصنبور، فهذا يخرج تحت ضغط وتسير قطراته في السيل المندفع بسرعة كبيرة، وإلى هذا فهي تتحرك في كل جهة بحركات تختلف سرعاتها باختلاف تدافع القطرات واتجاهها، وتراها في الصورة المرفقة كأنما قال

ص: 62

لها الله اجمدي مكانك فجمدت، وتراها على غير ما تراها العين من الانسجام والملاسة.

ومن ذلك صورة للمضرب إذ يضرب به اللاعب الكرة في اللعبة المعروفة بالجلف، فأنك ترى الكرة المصنوعة من المادة الصلبة القوة قد انبطحت من قوة الضربة؛ ولأن انبطاحها لا يستغرق الا جزءاً من الثانية في غاية الصغر كان من المتعذر على العين أن تراه؛ وكان من المتعذر على الكمرات العادية أن تسجله. وبقي أمراً مفروضا حتى أتت الكرة السريعة فجعلته رأى العين، والعين جهيزة الحجج، إذا رأت قطعت قول كل خطيب.

على أنه لا يفوتنا أن ننبه إلى أن كل صورة لشيء متحرك، مهما كان نوعها، وبأي كمرة صورت، ما هي الا مجموعة من صور لا حصر لعددها. هب أنك أخرجت يدك من جيبك فوضعتها تحت ذقنك؛ وهب أن هذا حدث في ثانية واحدة، فأنك لتجد يدك اتخذت عدداً من الأوضاع لا حد له. فما دامت يدك في حركة مستمرة ففي كل أجزاء الثانية، مهما صغر، وضع خاص به يختلف عن وضع الجزء الذي يليه من الثانية، ومن الطبيعي أننا كلما زدنا في التجزئة قل الخلاف بين أشكال هذه الأوضاع العديدة حتى تعجز العين الإنسانية عن إدراكه. فصور الكمرة السريعة المرفقة هي في الواقع عدة من صور عجز حس الإنسان عن إدراك الفروق بينها، فحس الإنسان لدقائق المكان محدود، كما أن حسه لدقائق الزمان محدود.

ولعل هذا التثلم في الإحساس نعمة من نعم الله، ولو أن هذه الحدة في الإحساس بالزمان والمكان أعطيت لي هبة لترددت كثيراً في قبولها، لأني إن قبلتها لم أجد في الكون شيئا ناعماً، حتى أكثر المرايا انصقالا تصبح في عيني كسطح الصخرة المتهشم، ولأني أن قبلتها تراءت لي الدنيا تموج بمخلوقات أنا الآن عنها أعمى، وتكشف لي في طيات الدنيا التي أعرفها وفي حواشيها دنى أنا سعيد بجهلها، ولأني أن قبلتها لم يكن للفظة السكون موضع من قاموس لغتي، ولأصبحت أحس في هدوء هذا الليل وأنا أكتب هذه الكلمة على مكتبي هذا الساكن، وفي حجرتي هذه الهادئة كأني اكتبها في عربة رجراجة من عربات الترام إذ تمر نهاراً في أشد أحياء المدينة صخباً وجلبة، وأخيراً لأني أن قبلتها وقبلت زيادة الإحساس بالزمن أصبحت ثانيتي ساعة وأصبحت ساعتي سنة وسنواتي ألوفاً.

ص: 63

‌الأنفلونزا أو النزلة الوافدة

للدكتور سامي كمال

النزلة الوافدة مرض مستوطن في القطر المصري، فلا يمر شتاء دون أن نسمع ببعض إصاباته؛ لكن هذه الإصابات لا تأخذ شكلا وبائياً، وتظهر عادة في فصل الشتاء مقرونة بسابق التعرض لبرد شديد أو للرطوبة، وعاقبتها دائما حميدة.

وتظهر هذه النزلة الوافدة في جميع أنحاء العالم، كما تظهر عندنا، ويكثر عدد المصابين بها في البلاد الحارة، وتقل إصاباتها عادة عند حلول فصل الربيع.

وهي تنتقل بالعدوى بواسطة جراثيم خاصة؛ تلك الجراثيم عبارة عن بذور تتفاوت في حيويتها وتأثير إفرازاتها، لأن الجراثيم لا تؤثر الا بفعل هذه الإفرازات التي هي من أقوى السموم وأشدها فتكا بالإنسان.

فإذا صادفت أجساماً قوية قاومتها، أما إذا عرضت لها أجسام ضعيفة فأنها تقوى عليها، وتشتد بانتقالها على غيرها، وتزداد قوة إذا تهيأت لها ظروف خاصة، كما حصل ذلك في نهاية الحرب العظمى عام 1918 إذ وجدت الإنسان ضعيفاً جائعاً منهوك القوى والأعصاب ففتكت به، ومات بالنزلة الوافدة في العالم عدد يفوق عدد من مات في ميادين القتال.

هنا تكون وبالا، وهنا تكون خطراً على العالم أجمع، حيث تنتقل مع المسافرين بسرعة الطائرات والسيارات.

وهذا النوع من النزلة الوافدة الوبائية يسمى عادة باسم الوطن الذي نشأ فيه، ففي عام 1918 كانت اسبانيا، وهي في هذا العام إنجليزية.

وكل الأخبار تدل على أن خطر هذه الوافدة الإنجليزية أقل بكثير من سابقتها الإسبانية. وأوبئة الوافدة تتشابه في مجموعها من حيث الأعراض. لكنها تتفاوت من حيث مضاعفاتها وخطرها على العموم.

ومدة حضانتها، أي من وقت العدوى إلى وقت ظهور أعراضها لا تزيد على اليومين.

أما أعراضها فزكام واحتقان في أغشية الحلق والمجاري الهوائية مع قشعريرة وحمى وشعور بتكسر في الجسم وعطس وسعال، وهي سريعة العدوى خصوصاً لأن اكثر الناس لا ينعكفون في دورهم عند الإصابة بها، بل يستمرون في مزاولة أعمالهم، يذهبون

ص: 64

ويجيئون ويختلطون بالناس.

وهم لو عرفوا كيف تحصل العدوى وعزلوا أنفسهم في بيوتهم وحجراتهم لدرءوا عن أنفسهم وعن عائلاتهم وعن مواطنيهم شر هذا المرض.

أن العدوى تحصل بواسطة العطس أو السعال اللذين ينقلان جراثيم المرض مباشرة إلى السليم.

لذا يتحتم على المريض أن يتحاشى العطس أو السعال في وجه الناس وليفعل ذلك يميناً أو شمالا.

كذلك من يخالط المرضى يجب عليه أن يحتاط بوقوفه جانبا غير هياب ولا وجل، يخدم في رفق ثم يغسل يديه، ويستعمل مطهرات الفم والأنف، ويجب أن تكون غرفة المريض معرضة لأشعة الشمس يتجدد الهواء فيها مراراً كل يوم ثم يلازمها المريض عند أول الشعور بالمرض، ويستعمل الأطعمة السائلة والمعرقات والمشروب الساخن وهو خير علاج بجانب الأسبرين والكينين عند الاحتياج حسب أمر الطبيب مع استعمال مطهرات الأنف والحلق.

ومن خير الاحتياطات الابتعاد عن حضور الاجتماعات العامة خصوصا في المحلات المغلقة، واستعمال مطهرات الأنف كزيت الأوكالبتوس صباحاً ومساء، ومطهرات الحلق مثل الماء المضاف إليه نقط اليود والابتعاد عن المرضى.

ص: 65

‌بحوث مصائد الأسماك وماهيتها

للدكتور حسين فوزي. مدير إدارة أبحاث المصائد

ليس المخلوق الحي مع ما هو عليه من مظهر الوحدة سوى مجموعة

مركبة من مواد عضوية وغير عضوية، تربطها ببعضها قوى طبيعية

هي نفس القوى الصادرة عن الكون المحيط بها، لذا يتقدم الباحث

لدراسة هذه المجموعة كوحدة حية أولاً، ثم كجزء من ذلك الكل أو

الوسط الذي يعيش فيه ثانياً. وقد أطلقت كلمة بيلوجيا (علم الحياة) على

مجموع هذه الدراسات: دراسة أشكال المخلوق الحي وأوضاعه في

الفضاء وهي (المورفولوجيا) ودراسة أوصاف أجهزته وأعضائه وهي

(علم التشريح) والبحث عن تطور هذا المخلوق من البويضة حتى

يصبح كامل الخلق وهو (الايمبريولوجيا)(علم الأجنة) ودراسة

وظائف أجهزته وأعضائه وهي (الفيزيولوجيا). ودراسة الحياة

وقوانينها وتطوراتها الكونية، والوسط الذي تعيش فيه المخلوقات باحثة

عن غذائها، والغازات الضرورية لتنفسها، وكذا اثر هذا الوسط فينا.

وتوزيعها حسب تطوراته تلك هي (الايكولوجيا).

والأحياء المائية تتميز من غيرها بأن الوسط الذي تعيش فيه هو الماء. وهذا النوع من الحياة هو أهم الفروق بينها وبين الأحياء الاخرى، لأنها فيما عدا ذلك تتنفس وتتغذى وتتناسل وتؤدي أعضاؤها نفس الوظائف التي تؤديها الأحياء الهوائية. وإنما تتطور هذه الوظائف ويتطور شكل المخلوقات المائية تبعا للوسط الذي فرض عليها مظاهرها الخاصة.

والأسماك فصيلة من المخلوقات المائية استرعت اهتمام الإنسان منذ اقدم العصور لأنها مصدر هام لغذائه. فالإنسان منذ النشأة الأولى كان صيادا قنصا. على أنه ثمة أحياء مائية أخرى أنتفع بها الإنسان أما لغذائه أو لأغراض نفعية أخرى. نكتفي منها بالإشارة إلى

ص: 66

الصدفيات (كالجندوفيلي وأم الخلول)، وذوات القشور (كالجمبري واللانجوست) لغذائه. وإلى الإسفنج وحيوانات اللؤلؤ والمرجان والسلاحف المائية والتماسيح (الباغة والجلود) لزينته ونظافته. وإلى الدرافيل والحيتان لصنع الجلود واستخلاص الزيوت. وإلى بعض الأسماك لاستخلاص سماد (الجوانو) والغراء الحيواني والمستحضرات الطبيعية كزيت كبد البكلاه (زيت كبد الحوت) وإلى الأعشاب البحرية التي يستخرج منها اليود وينتفع بها في الأسمدة.

ونقصر هذا المقال على بحوث الأسماك وهي بحوث يمكن تطبيقها على الأحياء المائية الأخرى مع بعض تغيير في الطرائق يقضي به تكوينها المختلف ونوع حياتها الخاص.

أول ما يعنى به من يدير شأنا من الشؤون كمنجم أو بحيرة هو أن يعرف ما تحويه التربة من معادن في طبقة مخصوصة، أو ما يعيش في البحيرة من مخلوقات نافعة أو ضارة، لذا كان أول ما يهم خبير المصائد هو أن يستعرض المخلوقات التي تعيش في مياهه فيعمل لها سجلا، وعلى أساس هذا السجل يستطيع أن يتعرف طرائق بحثه. وأن مؤلفا جليلا مثل (أسماك النيل)(لبولانجيه) أو (أسماك البحر الاحمر) لكلونتسنجر لهو محاولة موفقة في هذا السبيل، فعلى خبير المصائد أن يجمع المعلومات من المصائد المصرية المختلفة عن أنواع الأسماك التي تدخل أسواقنا، بل والأنواع الأخرى التي لا يهتم بها صيادونا أو لا يعرفون طرق صيدها. وليس عمل قائمة بجميع اسماك المياه المصرية سهلا كما يتراءى لأول وهلة. فمنذ ظهر كتاب (وصف مصر) الذي قامت به البعثة الفرنسية الملحقة بحملة بونابرت إلى يومنا هذا لم تبلغ بعد قائمة أسماكنا حد التمام خصوصا في البحرين الأحمر والأبيض، فثمة أسماك لا يعرف صيادو البحر الأبيض طرق صيدها (وأخصها الأسماك الرحل). كما أن طرق الصيد في البحر الاحمر لما تزل على حال من البساطة يتعسر معها الحصول على جزء كبير من الأسماك التي تعيش في ذلك البحر.

فأمام أخصائيي المصائد في مصر سنوات طويلة يقضونها في البحث المتواصل حتى تتم قائمة الأسماك المصرية مرتبة حسب الأنواع والفصائل والأجناس. كما ينبغي أن تدعم هذه القائمة بمتحف كامل يضم نماذج من جميع أسماكنا جيدة الحفظ جلية العرض.

كذلك يعنى الأخصائي بمعرفة مواطن الأسماك، فثمة اسماك تقطن الماء العذب وأخرى

ص: 67

تقطن الماء الأجاج، وغيرها تعيش في البحار، أو تنتقل بين الماء العذب وماء البحر. ومن الأسماك البحرية ما تعيش على القاع، وتفضل نوعا من القاع، رمليا أو صخريا أو طينيا، ومنها ما تغشى الصخور وفرجاتها، ومنها ما تعيش في طبقات الماء العليا أو السفلى متنقلة بين مناطق البحر سريعة الحركة.

وفي مياه النيل يهمنا أن نعرف مواطن كل نوع من أسماكه، تلك التي تأوي إلى الحشائش أو تعيش على القاع الطيني. وتلك التي تقاوم التيار أو تقاوم كمية من الملوحة تسمح لها بالحياة إذا ما وصلت مع المصارف إلى بحيراتنا ذات الماء الأجاج.

فإذا عرفنا مواطن كل نوع من السمك وجب علينا أن ندرس توالده، فعندما تبلغ الأسماك طولا معلوماً يختلف باختلاف الأنواع ينضج جهازها التناسلي، فتمتلئ مبايض الأنثى بأجسام كروية تبدو للعين المجردة كما يظهر لك بفحص قطعة من البطارخ، وليست هذه إلا مبيضاً ممتلئاً ببويضات أنثى البوري الناضجة. وإذ تنضج الأنثى فهي بادئة بالمبيض، وذلك بأن تلقى بالآلاف من بويضاتها في الماء، أما على قاع رملي أو طيني، أو بين الحصى أو الأعشاب المائية أو في شقوق الصخور، أو في أوكار محفورة في الطين، أو بين طبقتين من الماء حيث تبقى البويضات عائمة بفعل ثقلها النوعي وكذا ينضج الذكر عند طول معلوم يقرب من طول الأنثى، ويغلب أن يكون أقل قليلا. وينتج جهازه التناسلي خليات سريعة الحركة لا تراها العين المجردة. ففي موسم التوالد تتآلف الذكور والأناث، فما تكاد تلقى الأنثى بويضاتها في مكان من الأمكنة التي سلف ذكرها حتى يتقدم الذكر إلى ذلك المكان ليلقي بملايين من تلك الخليات السريعة الحركة بجانب البويضات التي لا حراك بها، وتسرع تلك الخلايا إلى الاندماج في البويضات. وقد يجتمع للبويضة بضعة من تلك الخلايا، فلا ترضى منها بغير واحدة تتغلغل داخلها وتمتزج بها كل الامتزاج. وينفث هذا الاتصال في البويضة حياة جديدة إذ تنقسم (وهي خلية واحدة) إلى ملايين من الخلايا تتطور حتى تصبح مخلوقا صغيرا لا يشبه والديه فهو محوط بغشاء رقيق هو غشاء البويضة الخارجي يذيبه ثم يخرج إلى الماء مزودا بكيس محي يكون غذاءه في الأيام الأولى. فإذا ما نفذ ذلك الغذاء أصبح الجنين سمكا صغيرا يسعى وراء غذائه، وهو لا يزيد طولا على بضع ملليمترات. ولا يزال يكبر حتى يبلغ بدوره الطول الذي تنضج فيه

ص: 68

أعضاؤه التناسلية إن ذكرا وإن أنثى.

على أن السمك وقد بلغ ذلك الطول لا يبيض طوال السنة، لأن عملية نضوج الجهاز التناسلي عملية دورية تبلغ تمامها في وقت معين من السنة؛ يختلف باختلاف الأنواع؛ فمن أسماك تبيض في الشتاء وأخرى في الربيع أو الخريف أو الصيف. وقد يستمر مبيضها أياما أو شهورا. وكذا يتبع الذكر تطوراً موازيا لتطور كل أنثى من نوعه.

وفهم أمثال هذه الحقائق (كمعرفة عمر الأسماك والطول الذي ينضج عنده جهازها التناسلي) من أهم القواعد التي يستند عليها التطبيق العملي. لأنه لما كان من الضروري أن يسمح لأكبر عدد من الأسماك بالتوالد وجب أن نعرف وقت هذا التوالد لحماية النوع برد عادية الصياد عنه، وهذه الحماية لا تتناول الأبوين فحسب، بل يجب أن تتناول البويضات وأفراخها.

ولذا كان من المهم أيضاً معرفة المناطق التي تغشاها الأسماك وقت التوالد فيمنع الصيد فيها. من ذلك مثلا أنواع البلطي التي تبيض وتفرخ بين الحشائش المائية (كالبردي) فيجب إبعاد الصيادين عن تلك المناطق أثناء موسم التوالد.

ومن أسماكنا كالبوري والطوبار ما يترك الماء العذب أو البحيرات الشاطئية ليخرج إلى البحر فيفرخ.

ولما كان مخرج هذه البحيرات إلى البحر بوغازاً ضيقاً، أصبح واجبا منع الصيد بتاتاً في البواغيز الموصلة بين البحيرة والبحر للسماح للبوري والطوبار بالخروج إلى البحر، ولأفراخه (وهي تقدر بالملايين) بالعودة إلى البحيرات.

كأننا بهذه المعلومات البيولوجية استطعنا أن نفي بالشرط الأول من شروط علم الحيوان التطبيقي. وهي حماية النوع بمساعدة الطبيعة في مجهودها نحو بقائه.

على أن هذه المعلومات يمكن الانتفاع بها على وجه آخر، إذ يمكن للأخصائي أن يقلد الطبيعة في عملها بإعداد أمكنة خاصة لأفراخ الأسماك وتعهدها بالعناية، وذلك برد أعدائها عنها وتغذيتها تغذية تساعد على نموها العاجل، كذلكيستطيع نقل الأسماك من جهة تكثر فيها إلى جهة صالحة لنموها وتوالدها ولكنها فقيرة منها.

وفي البحار تتخذ هذه المسائل طابعها الخاص، ولكن الدراسة تقضي هنا أيضاً بتعرف حياة

ص: 69

الأسماك البحرية من سرعة نموها إلى أمكنة توالدها إلى هجرتها.

لقد كان حديثنا حتى الآن عن السمك نفسه تلك الوحدة الحية التي ليست سوى جزء من كل. وهذا الكل هو الوسط الذي يعيش فيه الأسماك ولها به صلات وثيقة، لذا كانت دراسة هذا الوسط تعادل في الأهمية دراسة السمك نفسه، هذا الوسط متجانس ظاهراً. ولكن كم من العوامل تجعل من هذا التجانس الظاهر اختلافات عديدة، ومن الطبيعي أن يتأثر المخلوق المائي بتلك العوامل، لقد كانت جميع المخلوقات في ظلام التاريخ الجيولوجي تعيش في الماء مرنة التكوين سهلة التأثر بالعوامل المحيطة، وقد احتفظت المخلوقات التي لا تزال تعيش في الوسط المائي بتلك المرونة التكوينية التي كانت الأصل في تعدد الأنواع، ودراسة الوسط المائي دراسة تفصيلية تلقي ضوءا جديدا على عوامل التطور.

على أن لهذه الدراسة أهميتها العملية، فالوسط المائي يشطر أعمال الأخصائي شطرين: بيولوجيا المياه البحرية، وبيولوجيا المياه العذبة، وقد يتصل الشطران إذ يختلط وسط آخر كما يحدث ذلك في بحيراتنا الساحلية، أو يختلط بحران من تكوين وطبيعة مختلفين كما حدث ذلك بحفر قناة السويس.

ما منشأ اختلافات المياه العديدة والماء وسط متجانس؟ أولها وأهمها وجود المواد الذائبة فيه، وينشأ عن وجود هذه المواد ظواهر كيميائية طبيعية أهمها (الأسموز) ومن أظهر المواد الذائبة في البحار كلورو الصوديوم. والمخلوق المائي يعيش في حالة توازن كيميائي طبيعي مع الوسط المحيط به، ولقوة الأسموز اليد الطولي في هذا التوازن، فإذا نقلنا سمكة من اسماك الماء العذب إلى البحر اختل هذا التوازن، وعجزت السمكة عن مقاومة هذا الاختلال طويلا ثم ماتت. وكذا العكس.

على أن هناك غير قليل من الأسماك دخلت من البحر إلى البحيرات الساحلية، وتعودت مياها اقل ملوحة من مياه البحر، بل قد تصل في عذوبتها إلى ما يدنيها من مياه الأنهار. بل هناك أسماك تتحمل الحياة في الماء العذب والبحر على السواء. على أن تلك الأسماك البحرية التي تعودت الحياة في الماء العذب أو الأجاج تدفعها فطرتها إلى العودة إلى البحر لتفرخ. وإذا أمتنع عليها الوصول إلى البحر أصابها العقم، وتلك حالة ثعابين السمك (الأنقليس) والبوري والطوبار من أسماكنا المصرية.

ص: 70

ويعرف سكان المنزلة والبرلس وأدكو تلك الظاهرة حق المعرفة. إذ تخرج آلاف البوري والطوبار إلى البحر في مواسم معينة يطلقون عليها (الخرجيات).

وقد اكتشف الأستاذ (يوهانس شميدت) اكتشافا يعد من أغرب ما وصل إليه الكشف العلمي في البحار، وهو أن ثعابينالسمك التي تعيش في الأنهار والبحيرات الأوربية تخرج إلى عرض الاقيانوس الاطلنطيقي لتفرخ قرب جزر (الأنتيل) عند منطقة تسمى بحر سارجاس.

وتهاجر ثعابين السمك الأمريكية شرقا لتلتقي بثعابين السمك الأوربية في منطقة بحر سارجاس.

فإذا انتهى موسم الأفراخ اتجهت أفراخ الثعابين الأوربية شرقا وأفراخ الثعابين الأمريكية غربا حتى يصل كل منها إلى قارته. فيدخل الأنهار في شكل أسماك مستديرة زجاجية بيضاء اللون. وهي ما تسمى بالحنكليس. وتعرف مصر هذه الظاهرة، أي خروج ثعابيننا إلى البحر وعودة آلاف الحنكليس إلى البحيرات الشاطئية ودخولها نهر النيل.

وتلك ظواهر نراها رأي العين في مصر، ولو أننا لا نزال في شك مما إذا كانت الثعابين المصرية تفرخ وسط الأطلانطيق أو في البحر الأبيض المتوسط.

لقد أوردنا تلك الأمثلة لنبين إلى أي حد وصلت مرونة تلك الأسماك في تقبلها تغير قوة الاسموز.

كما يهم الباحث معرفة الأكسجين الذائب في مياه ما، لأنه يتوقف عليه تنفس الأسماك. الا أن احتياج نوع من السمك إلى كمية من الأكسجين لا يوازي احتياج نوع آخر. فقد يموت نوع إذا هبط مقدار الأكسجين الذائب إلى 4 جرامات في اللتر مثلا، بينما يقاوم نوع آخر حتى يبلغ الأكسجين جرام ونصف في اللتر. ثم تبدو عليه علامات الضيق حتى يموت.

ولكل هذا أثره في مواطن الأسماك، أسماك لا تعيش الا في مجاري المياه الجبلية حيث المياه جارية تذيب في تدفقها كمية كبيرة من الأكسجين. وافضل مثل على هذا سمك (الترونا) المعروف في البلاد ذات المجاري السريعة الجبلية كسويسرة واسكتلندا وكندا الخ. . وأسماك تعيش في الأودية كسمك الكارب والتانش في أوربا وجميع أسماك مياهنا العذبة.

كذلك يهم الباحث معرفة درجة حرارة المياه وحركاتها كالتيارات والمد والجزر لأن كل

ص: 71

واحدة من هذه المسائل أهميتها في دراسة الأسماك. فهذا النوع يفرخ إذ تصل حرارة المياه التي يعيش فيها إلى درجة معينة، وذاك النوع يغشى المياه الهادئة كي يفرخ في مأمن من التيار الخ. .

وقد سبق الكلام عن أهمية دراسة القاع لمعرفة الأنواع التي تغشاه، ودراسة القاع تدخل ضمن علم الصخور وهو فرع من الجيولوجيا.

ودراسة غذاء الأسماك يتطرق بنا إلى دراسات بيولوجية أخرى. فعلينا أن نعرف نوع الغذاء، فمن اسماك تتغذى على اسماك اصغر منها، أو حيوانات صدفية أو ذات القشور أو ديدان. إلى اسماك لا تتغذى الا بالنباتات المائية.

وعلى أخصائي الأسماك أن يتعرف جميع الأنواع التي تكون ذلك الغذاء، وحياة هذه الأنواع، ومما لا شك فيه أن لنوع الغذاء أثرا واضحا في شكل الأسماك. فتلك الأنواع التي تحتاج في غذائها إلى المطاردة السريعة يتخذ جسمها الشكل المغزلي، وهو أوفق الأشكال للحركة السريعة. كما نرى في التونة والبلاميطة. وتلك الأنواع التي تجد غذائها على القاع يتطور شكلها تبعا لحياتها الهادئة، فهي مفرطحة كما نرى ذلك في سمك موسى وأشباهه.

ولا يستطيع خبير المصائد أن يقرر صلاحية بحيرة أو بركة لتربية نوع خاص من السمك قبل أن يقرر نوع الغذاء الذي يقتات منه، بل وأفضل تغذية تعجل في نموه وتكسب لحمه صفات شهية.

رغبنا في هذا المقال أن نمر سراعاً على شتى المسائل التي تتناولها بحوث مصائد الأسماك. وهي متعددة الوجوه لا يستطيع فرد واحد أن يضطلع بها، بل هي في حاجة إلى فرقة من أخصائيين ذوي ثقافة علمية قويمة تشمل علوما مختلفة منها التاريخ الطبيعي بأنواعه (علم الحيوان والنبات والجيولوجيا) وعلوم الكيمياء والطبيعة، وعلم الأرصاد الجوية ومبادئ الإحصاء.

على أننا لم نأت على آخر ما يتعين على أخصائي بحوث المصائد أن يعرفه. إذ أن هذه العلوم تتبع في تطبيقها العملي الظروف الخاصة بكل إقليم.

ولنضرب مثالا لذلك نظام الري في مصر، من ري الحياض وما إليه من تيارات وقنوات. وري الدلتا بترعه ومصارفه واتصاله بالبحيرات الشاطئية. وأثر الخزانات والقناطر، تلك

ص: 72

مظاهر مائية تكاد تكون خاصة ببلادنا. وهي لهذا تفتح أمام خبير المصائد فتحا جديداً في التطبيق العلمي. إذ من العبث أن يطبق الإنسان بلا تبصر طرائق بلاد على بلاد أخرى، وإنما عليه أن يجد لكل حالة ما يلائمها معتمدا على دراسة متينة، وتجربة متعددة الوجوه، وفهم للظواهر الخاصة بالبلاد.

ص: 73

‌القصص

مشاهدات غربية

للأستاذ محمد احمد الغمراوي. أستاذ الكيمياء بكلية الطب

- 1 -

في منجم

كانت ليلة السبت 18 فبراير سنة 1878 موعد انعقاد الجمعية الطبيعية الكيميائية في الكلية، وكان المقرر أن يذهب أعضاؤها لزيارة منجم فخم على بعد ميلين أو ثلاثة من نوتنجهام. فبعد أن تناولنا الشاي بالكلية خرجنا ومعنا الرئيس الأستاذ بارتن فركبنا الترام إلى المنجم، وهناك وجدنا بعض رجاله ينتظروننا، فقيل لنا أنه لا بد من أن يحمل كل منا مصباحا يستضيء به، وقادونا إلى غرفة المصابيح أو بالأحرى مخزنها، وقد ذكرني حين دخلته بمخزن القناديل في مسجد البلد أيام كان المسجد يضاء بالقناديل، فقد كانت رائحة الزيت المحترق تفوح من المصابيح الموقدة المصفوفة. وكان كل مصباح عبارة عن فتيلة داخل اسطوانة قصيرة من الزجاج متصلة من أعلاها بمخروط ناقص من شبك الحديد، يظاهره مثله من صفائح النحاس، وهذا ينتهي بحلقة يحمل منها المصباح تلتقي عندها أسلاك تتصل بالقاعدة وتصون زجاجتها. هذا هو مصباح (دافي) اخترعه السير (همفري دافي) لأول مرة سنة 1815 وهو على بساطته جم النفع، لأن شبكته الحديدية تحول بين اللهب: لهب المصباح (أو لهب ما قد يدخله من غازات ربما تصاعدت من شقوق يصيبها العامل في اقتطاعه الفحم) وبين أن يمتد إلى ما قد يخالط هواء المنجم من غاز قابل للالتهاب، فيحترق دفعة واحدة فينسف ما حوله. وتلك خاصة من خواص ما شابه الحديد والنحاس من المعادن أنها لسهولة سريان الحرارة فيها إذا لامست غازا ملتهبا أخذت من حرارته ما يكفي لتخفيض درجتها عن درجة الالتهاب، فإذا نفذ الغاز منها إلى خارجها نفذ غير ملتهب.

حمل كل منا مصباحا وذهبنا لننزل المنجم فإذا المنزل إليه فوهتان كأنهما بئران متجاورتان منصوب عليهما قوائم متشابكة من الحديد عظيم حجمها وارتفاعها، تحمل في أعلاها جهازا

ص: 74

يتدلى منه سلسلة متينة، تحمل في طرفيها صندوقين كل صندوق في فوهة. والسلسلة من الطول بحيث إذا حاذى أحد الصندوقين وجه الأرض، مس الآخر أرض المنجم على عمق خمس وسبعين ومائتي ياردة. هذا هو الرافع الذي يرفع به الفحم إلى سطح الأرض ولكنه لا كالذي نعرف عن الرافع، فأنه على سماجته التي لا تليق بما جعل له، عجيب في نظامه وحركته. وهو يتحرك بالكهرباء: يدير العامل مفتاحا في إحدى تلك القوائم، فيدق جرس صغير ثلاث دقات في باطن الأرض وفي ظهرها ايذانا، وعندئذ يهوى أحد الصندوقين ويرتفع الآخر بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة. وكل منهما في بدء هبوطه يدع سلسلة كان قد رفعها تقل حاجزا من خشب فيسد باب الفوهة، فإذا ما قارب الصندوق مقره في صعوده رفع السلسلة فأنفتح الباب.

بدأنا النزول منتصف الساعة السابعة، فدخل منا عشرة صندوقا فوسعهم مع العامل واقفين متلاصقين. وإذا في أرض الصندوق قضيبان حديديان إذا بلغ الصندوق أرض المنجم كونا جزءاً من السكة الحديدية الممتدة فيه، وعليهما توقف عربات الفحم وترتفع بما فيها إلى سطح الأرض. والهابط إلى المنجم يشعر بما لعلك شعرت ببعضه إذا كنت هبطت راكبا بعض مصاعد الحوانيت التجارية أو المباني الكبرى. يخيل إليه أن الرافع قد هوى من تحت قدميه، ويقوى هذا الشعور عنده كلما زادت سرعة الهبوط حتى إذا بدأت تتناقص في النصف الآخر من المسافة وأحس حمل أرض الرافع لقدميه أكثر من قبل خيل إليه أنه صاعد وليس بصاعد. وفي صعوده يشعر بعكس ما شعر في هبوطه. فلما تكامل عددنا داخل المنجم ذهبنا إلى غرفة الملابس فخلع بعضنا فيها رداءه، ثم سرنا في طرق فيها بعض سعة سقوفها أقبية مبنية، ونورها مصابيح كهربائية، نريد زيارة الجهاز الكهربائي الضخم الذي يجر عربات الفحم من مسافة لا تقل عن ميل. ولا تظن العربات تتحرك كما يتحرك الترام، ولكن بحبل غليظ مشدود بها إذا دار الجهاز دارت اسطوانة كبيرة بسرعة كبيرة فالتف عليها الحبل فانجرت العربات. ثم ذهبنا فرأينا مرابط الخيل التي تجر العربات فيما وراء الميل، فإذا هي ليست أسعد حالا من خيول جر الأثقال في مصر. وهي شر منها في أنها قائمة نائمة تحت الأرض لا ترى الشمس بعد نزولها المنجم حتى تموت.

ثم سرنا بعد ذلك ميلين في طرق تضيق حتى لا تكاد تتسع لشخصين يسيران جنباً لجنب،

ص: 75

كانت من قبل عروق الفحم في الأرض فنقبها العامل بصبره ومعوله، نائما على بطنه ومستلقيا على ظهره ومائلاً على جنبه ومنحنيا وقائما. وكلما نقب خطوات إلى الارتفاع المرسوم جاء بالأخشاب الغليظة فجعلها سقفا يحمل طبقات الفحم أو الطين حتى لا تنهال؛ تحمله من جانبيه قوائم من مثله أقيمت عمودية على جانبي الطريق. ولم يخل سيرنا في تلك الطرقات من تعب، فكثيرا ما كنا نسير فيها منحنين نحس السقف بأعيننا والأرض بأرجلنا؛ ولكنا كنا نتخذ من ذلك كله فكاهات نضحك لها. فمن كان يرانا عندئذ كأن يرى أشباحا يحمل كل منها مصباحا، ولم يخل منظر المصابيح يتلو بعضها بعضا من بهجة في تلك الظلمة؛ ثم كان يسمع أصواتا تتجاوب، فلا يكاد القائد يقول (وكثر ما كان يقول) رأسك والخشبة! حتى يرفع بها صوته من خلفه، ولا يزال فم يلقى بها إلى فم كلما مر بالخشبة شخص حتى تبلغ آخر الصف. وقد تسمع بين ذلك هذا يصيح: وا دماغاه! وذاك: وا ركبتاه! أو تسمع سائلا يسأل وآخر يجيب. وأحيانا إذا استقام الطريق كانت ترتفع أصوات بعض الغناء نغنيه معا، فنجد له عندئذ ما يجد الجندي الذي أتعبه السير الموسيقى. وكنا نظن أننا ذاهبون لنرى القاطعات الكهربائية التي تقتطع الفحم؛ فإذا بالقائد يقودنا كل تلك المسافة ليرينا الفحم أين هو! فلما سألناه عن القاطعات قال هي في جهة أخرى لا نصل إليها من موقفنا ذلك الا عند منتصف الليل. فرجعنا أدراجنا نقول: متى نبلغ؟ ولم نبلغه الا بعد الثامنة، فكتب كل منا أسمه في دفتر الزائرين ثم صعدنا فزرنا المولد الكهربائي الذي يدير تلك الآلات كلها؛ فإذا بآلات يحار فيها الفكر في غرفة عرضها عشرون خطوة وطولها خمس وعشرون، ويكفي لتقدير عظم آلاتها أن التيار يتولد عن قوة محركة كهربائية قدرها 2500 فولت، ولعل ترام القاهرة لا تزيد القوة المحركة لتياره على خمسمائة.

والعامل في منجم الفحم يتقاضى أجرا كبيرا لما في عمله من الخطر والمشقة، وهو يحاسب على كل طن يقتطعه، وقد يقتطع ما يؤجر عليه سبعة جنيهات في الأسبوع. وقد وجدنا أن المنجم مقسم إلى مناطق صغيرة كل منطقة لها رمز من عدد أو حرف تعرف به ويعرف به العامل فيها. وكلما ملأ عامل عربة كتب رمزه على كل قطعة ظاهرة من فحمها ليعرف أنها له فتضاف إلى حسابه. والمنجم الذي زرناه كان يستخرج منه في اليوم في ذلك الحين مائة

ص: 76

وألف طن من الفحم لقلة العمال، وقبل الحرب كان يستخرج منه حوالي طن في اليوم.

ص: 77

‌المبارزة

للكاتب الروسي اسكندر بوشكين

كنا نعسكر في قرية روسية صغيرة، وأنت تدرك بالطبع حياة الضباط وما تكون عليه، نؤدي في الصباح التمرينات العسكرية ونتدرب على ركوب الخيل، ثم نتناول طعام الغداء عند قائد الفرقة أو في المطعم اليهودي، فإذا جاء الليل أخذنا نشرب الخمر ونلعب الورق، ولم يكن لنا غير هذا الجانب الضئيل من التسلية، لأن الفتيات الناضجات لم يكن يسمح لهن بالخروج، وكنا ننفق الوقت معا حتى إذا اجتمعنا لم تجد بيننا فرداً لا يرتدي الملابس الرسمية.

ثم تعرفنا على شخص من غير الجنود، ومع أنه كان في الخامسة والثلاثين تقريبا كنا نعتبره أكبر من هذا بكثير، وكنا نعتقد في حكمته وكثرة تجاربه، ولقد أسرنا نحن الشبان بكرمه وقوة شخصيته وما فطر عليه من التهكم وعدم الاكتراث. وخيل إلينا أن وراء هذا كله شيئا يكتمه، وأن بين ضلوعه سراً يطويه، ولقد نبئنا أنه كان في فرقة الفرسان يشهد له الجميع بالتفوق والنشاط، ثم استقال منها فجأة لسبب مجهول، واعتكف في هذه القرية الصغيرة؛ ومع قلة معاشه كنا نراه ينفق عن سعة ويفتح بيته لنا نحن الضباط، فإذا جلسنا إلى مائدته استطعنا أن نأكل ثلاثة أصناف من الطعام، وأن نشرب الكثير من كؤوس الشمبانيا؛ ولم نكن نعرف شيئا من شؤونه الخاصة، غير أن الذي يعد له طعامه هو خادمه العجوز الذي كان في مطلع حياته جنديا؛ ولم يجسر أحد على سؤاله عن حياته أو ماضيه.

وكانت له مكتبة حافلة بالكتب (معظمها خاص بالجندية وما يتصل بها) يعيرها مسروراً ولا يسأل عنها بعد ذلك، كما أنه إذا استعار كتابا لم يفكر في رده إلى صاحبه. . فإذا دخلت غرفته وجدت جدرانها مغطاة بظروف الرصاص فيكسبها ذلك شكل عش الزنبور؛ ولم يكن في داره من معالم الترف غير مجموعة ثمينة من البنادق والأسلحة.

وهو يرتدي في الغالب سترة رثة، فإذا نظرت إلى ملامح وجهه وجدته روسيا في الصميم، مع أنه يحمل اسما أجنبيا. ولقد كان ماهراً في الرماية إلى حد أنه يصوب بندقيته إلى خوذة الواحد منا فيصيبها دون أن ينال صاحبها بسوء. . وكثيراً ما تحدثنا عن المبارزة، ولكن (سيلفيو)(ولنسمه بهذا الاسم) لم يكن يشترك معنا في الحديث، فإذا ما سأله أحدنا عما إذا

ص: 78

كان قد تبارز في حياته، رد بالإيجاب ولم يزد، وخيل الينا أنه يكره هذا الموضوع لأنه يثير ذكرى حادثة معينة قتل فيها فرد معين من ضحاياه العديدين.

وفي ذات يوم كان يتناول طعام الغداء في منزل (سيلفيو) ثمانية أو تسعة من الضباط، وكنت أحدهم، واذكر أننا شربنا وأسرفنا في الشراب، فلما انتهينا من طعامنا رجونا من مضيفنا أن يكون أمين الصندوق في لعب الميسر، ولكنه رفض، لأنه قلما يلعب، فلما أصررنا طلب لنا الورق وجلسنا إلى جانبه على شكل دائرة وأخذنا نلعب.

لم يتحدث الرجل أثناء اللعب ولم نجره إلى المعارضة أو الشرح، وكان إذا أخطأ أحدنا أعطاه ماله أو حجز ما عليه لنفسه. وكنا جميعا نعرف طريقته. . وحدث أثناء اللعب أن ضاعف أحدنا (وكان ضابطا حديث العهد بمعسكرنا) رهانه على ورقة بالذات دون قصد منه لانشغاله وذهوله، فما كان من سيلفيو الا أن تناول قطعة الطباشير وكتب المبلغ المطلوب فقط. . عارض الضابط وأراد أن يصحح خطأه، ولكن سيلفيو لم يعره اهتمامه، وظل يدير اللعب كان لم يحدث شيء. . وهنا تناول الضابط الطلاسة ومحا الأرقام، فأجاب مضيفنا على ذلك بأن أعاد كتابتها في هدوئه المعهود. كان الضابط متأثراً بالشراب وباللعب وبضحكات زملائه الساخرة فظن أنه أهين، وتناول شمعدانا رمى به وجه سيلفيو ولكنه انحنى قليلا إلى الأمام فأخطأته الضربة، فدمدمنا جميعا انتظرنا ماذا يكون بينهما.

وقف مضيفنا شاحبا، وسدد إلى الضابط نظرات دونها نظرات النسور وقال له (لتغادر المكان يا سيدي ولتشكر الله على أن ما حدث كان في بيتي).

ولم نشك لحظة في نتيجة هذا الحادث وما سوف يسفر عنه من قتل زميلنا الجديد. ونظرنا جميعا إليه وهو يغادر المنزل في وجوم معلنا استعداده لمقابلة سيلفيو في الوقت الذي يراه. وطبيعي الا يستمر اللعب بعد ذلك كثيراً لأننا انصرفنا واحدا بعد واحد لما رأيناه على مضيفنا من علائم الذهول والانفعال. ولم نكد نعود إلى معسكرنا حتى أخذنا نتحدث فيما سيؤول إليه هذا الحادث الفريد.

وفي صبيحة اليوم التالي عندما كنا نقوم بتمريننا العادي على ركوب الخيل تساءلنا هل مات الضابط أم لا يزال على قيد الحياة؟ ولكنه ظهر بيننا، فعجبنا للأمر وأمطرناه وابلا من الأسئلة، فأجابنا أنه لم يتلق دعوة ما إلى المبارزة من سيلفيو، وأسرعنا إلى زيارة الرجل

ص: 79

في منزله فوجدناه يتدرب على إطلاق الرصاص وقد الصق بالباب غرضا جعل يصوب الطلقات إليها له تباعا فلا يخطئه. فلما رانا تلقانا كعادته، ولم يذكر لنا شيئا عن حادث الليلة الماضية. . ومرت ثلاثة أيام والضابط لا يزال على قيد الحياة، ونحن نتساءل (ألا يتبارز سيلفيو؟) أجل لن يتبارز الرجل! بل راح يشرح الأسباب العرجاء التي لم تقنع أحدا منا.

وهذا الرفض وذلك الاحتمال من جانب الرجل أساء إلى سمعته بيننا نحن الشبان، لأن الشباب لا يغتفر الجبن، ويعتقد أن الشجاعة خير الصفات التي يجب أن يتصف بها المرء في جهاد الحياة، وأن الشجاع يستبيح لنفسه كل شيء: يحلل الحرام ويحرم الحلال. ولكن سرعان ما نسينا كل شيء بعد مدة، وسرعان ما استعاد سيلفيو مكانته القديمة بيننا.

وفي الحق أن رأيي في هذا الرجل لم يعد إلى ما كان عليه، لأنني رومانتيكي في خيالي وتفكيري، ولقد أحببت هذا الرجل اكثر من غيره، مع أنه كان لغزاً للجميع. وكنت أتصوره دائما بطلاً لدرامة رائعة. وكنت واثقا من أنه يحبني، فإذا انفرد بي ترك تهكمه اللاذع وراح يتحدث معي في شتى المواضيع، ولكني بعد الحادث المعروف لم أكن أطمئن إليه ولا أرتاح إلى حديثه، لاعتقادي أنه أهين ولم يغسل إهانته بالدم، وكنت أتحاشى مقابلته أو النظر إليه.

وكان الرجل من الذكاء ونفاذ البصيرة بحيث أدرك تماما سبب تغيري، وخيل ألي مرتين أنه يريد أن يتحدث ألي في هذا

الموضوع ولكنني تحاشيته ولم يصر من جانبه علي الحديث.

عبد الحميد يونس

ص: 80

‌الكتب

فتح العرب لمصر

تأليف الدكتور ألفرد. ج. بتلر

وتعريب محمد فريد أبو حديد

للأستاذ عبد الحميد العبادي. أستاذ التاريخ بكلية الآداب

سمعت أستاذنا الجليل احمد لطفي السيد بك يقول مرة ما معناه: أننا الآن في دور النقل والتعريب من حياتنا العلمية. وهو قول لا غبار عليه، فان زمن الاقتصار على تراثنا العلمي والأدبي القديم قد انقضى منذ عهد بعيد، وزمن الابتكار في العلم والأدب لم يأت بعد، وينبغي أن يتقدمه زمن نتوفر فيه على نقل أصول العلوم والفنون والآداب الغربية إلى لغتنا العربية إقتداء بما فعل السلف الصالح في صدر الدولة العباسية.

أننا بهذا التوفر نبث في حياتنا العلمية روحا جديدا، ونكسبها مادة جديدة وأسلوبا في البحث والعرض العلمي جديدا، ونكون قد مهدنا للحياة العلمية المستقلة، وأعددنا لها أساسا قوياً راسخا لا يخشى عليه من تطاول البنيان ومرور الزمان، ونكون قد أدينا واجب العلم والوطن والإنسانية جميعا.

لكن الترجمة الصحيحة عبء ثقيل مضن يقتضي كثيرا من الجهد والتضحية. فهي من ناحية المترجم تتطلب غزارة علم وأدب، وإنكارا شديدا للذات، يستعذب معه المترجم أن يكون أسيرا للمؤلف الذي ينقله، وقليل من الناس من يصبر على مثل هذا العناء. ثم هي تقتضي من ناحية الناشر، وبخاصة في بلدنا هذا، أن يوطن نفسه على الخسارة المادية تصيبه مما ينشر، فإذا استطاع أن يخرج من الأمر كفافا لا له ولا عليه فحسبه ذلك.

والناشر يُعد تاجر يقيس قيمة الكتب بالفائدة المادية المرجوة منها، فماذا يحمله على أن يعرض ماله للضياع؟

من اجل هذا كسدت سوق الترجمة في بلدنا، وتأثرت حياتنا الأدبية بهذا الكساد تأثرا شديدا، حتى أصبحت لا شرقية ولا غربية، ولا قديمة ولا حديثة، ولكن الحمد لله، فقد أخذت هذه الحال تؤذن بالتحول والزوال. وآية ذلك ما نسمعه عن التفكير في وضع قاموس عربي

ص: 81

جديد يجمع شتات اللغة التي أصبحت إلى حد بعيد سماعية غير مدونة. ومن آيته أيضاً ما ترجم في السنوات الأخيرة من غرر أدب الغرب وعلمه. نذكر من هذه الغرر على سبيل المثال: كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب الأخلاق، وكتاب الكون والفساد، ونظام الأثينيين لأرسطو، وآلام فرتر لجوته، وفاوست له أيضاً، والشاهنامه للفردوسي، وأصل الأنواع لدارون، ثم كتاب فتح العرب لمصر، وهو الذي سقنا هذه المقدمة تمهيدا للتعريف به أصلا وترجمة.

ألف كتاب (فتح العرب لمصر) منذ ثلاثين سنة بحاثة إنجليزي هو الدكتور الفرد. ج. بتلر، ونقله إلى العربية منذ عام صديقنا الأستاذ محمد فريد أبو حديد، ثم نشرته في هذه الأيام لجنتنا المباركة لجنة التأليف والترجمة والنشر. والكتاب يقع في قرابة ستمائة صفحة مكسورة على ثلاثين فصلا وبضعة ملحقات. في الفصول الأربعة الأولى يعرض المؤلف الحال السياسية العامة للدولة الرومانية في أوائل القرن السابع الميلادي ويتكلم عن الثورة التي انتهت بأن أصبح هرقل عاهل الدولة المذكورة، وفي الفصل الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع يتكلم عن غزو الفرس الشام ومصر، فنهضة هرقل واسترداده الإقليمين المذكورين وعقده مع الفرس صلحا أعاد إلى الروم شرفهم العسكري، فالحال الأدبية للإسكندرية خاصة لذلك العهد. وفي الفصل العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر يتكلم عن ظهور الإسلام، وفتح العرب الشام ومصر، واضطهاد قيرس البطريرك الملكاني للأقباط في السنوات العشر السابقة على الفتح. ومن الفصل الرابع عشر إلى الثالث والعشرين يفصل المؤلف الكلام عن حوادث الفتح العربي لمصر، فيتكلم عن زحف عمرو بن العاص على مصر وبلوغه مدينة مصر، فغزوة الفيوم، فواقعة عين شمس، فحصار حصن نابليون وأخذه، فالزحف على الإسكندرية والاستيلاء عليها، فاخذ المدن الساحلية الشمالية، فانتهاء السيادة الرومانية على مصر. ومن الفصل الرابع والعشرين إلى الثلاثين يتكلم المؤلف كلاما ممتعا موضوعه حال الإسكندرية وقت الفتح، ومكتبتها المشهورة، وحريق هذه المكتبة المنسوب إلى عمرو، وغزو عمر لبرقة وطرابلس، والنظام الإداري الإسلامي الذي وضع لمصر عقب الفتح. ثم يتبع المؤلف هذه الفصول بملحقات حقق فيها، بصفة خاصة، شخصية المقوقس، والترتيب الزمني لحوادث

ص: 82

الفتح العربي. والكتاب إلى جانب ذلك كله مزود بخرائط ورسوم تعين على فهم موضوعه.

من هذا العرض العام يتبين القارئ أن المؤلف قد أحاط بموضوع الفتح العربي لمصر أتم الإحاطة، واستوعب وقائعهكل الاستيعاب، والحق أن الدكتور بتلر قد جلا موضوعا من أوعر موضوعات التاريخ الإسلامي، وحل كثيرا من ألغازه: أوضح شخصية المقوقس وكانت غامضة، ورتب حوادث الفتح ترتيبا أدنى إلى الصحة منه في أي مصدر قديم، وأتى بالقول الفصل في حريق مكتبة الإسكندرية، وبين وجه الخلاف القديم في فتح مصر، أصلحا كان أم عنوة؟ على أن الكتاب يؤخذ بنقص جوهري واحد: ذلك أن المؤلف عنى بالجانب السياسي والديني فقط من حال مصر قبيل الفتح وأغفل شئونها الإدارية والاقتصادية على ما كان لها من أثر قوي في سهولة انتقال مصر من حكم الروم إلى حكم العرب. ولقد ظهر في هذا الموضوع في العشرين سنة الأخيرة بحوث قيمة كنا نود لو أن الكتاب طبع طبعة ثانية تضمن نتائجها. من هذه البحوث: (النظام العسكري لمصر البيزنطية) لجان ماسبرو، و (الإدارة المدنية لمصر البيزنطية) لجرمين رويارد.

ثم أننا لا نوافق المؤلف على تصويره لغارة عمرو على الفيوم، فهو يرى أن عمرا عندما بلغ رأس الدلتا ورأى قلة من معه من الجند، وحرج موقفه بين جنود الروم جنوبا وشمالا، أرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستمده، ورأى في الوقت نفسه أن يشغل جنده ويستنقذهم من الخطر ريثما يصل المدد، فتكلف عبور النيل إلى شاطئه الغربي، وأغار على الفيوم ثم عاد فعبر النيل ثانية، فوجد المدد قد قدم من المدينة. لا شك أن هذه طريقة غريبة جدا في الخلاص من المواقف العسكرية الحرجة، ثم هي لا تأتلف بحال مع ما عرف عن عمرو من شدة الدهاء وبعد المكيدة. يضاف إلى ذلك أن المصادر العربية من حيث هذه الغزوة نوعان: فنوع لا يعرفها بالمرة، ونوع يعرفها، ولكنه يوردها على صورة تجعلها أقرب إلى المعقول من الصورة المذكورة؛ ومع ذلك لم يعتمد عليها المؤلف واكتفى بمتابعة يوحنا النقيوسي بحجة إنه أقدم عهدا من كل المصادر العربية. ولكن القدم وحده لا يكون دائما دليلا على صحة المصادر التاريخية. كذلك يؤخذ على المؤلف حكمه في الفصل الحادي عشر بأن غزوة تبوك المشهورة كانت فشلا، لأنها لم تؤدي إلى ما كان الرسول يرمي إليه بها من مصادمة الروم. والحق أنها أدت إلى ما كان النبي (ص) يرمي إليه من

ص: 83

شد سلطانه السياسي على شمال الحجاز. بقيت ملاحظة يسيرة: لقد توهم المؤلف أن مسيلمة المتنبئ ظهر باليمن (ص131) والصحيح أنه ظهر باليمامة.

ومع ذلك فهذه الملاحظات لا تنقص من قيمة الكتاب العلمية، وحسب القارئ أن يعلم أن الدكتور بتلر قد أقام في كتابه، تاريخ الفتح العربي لمصر على أساس علمي متين، وأنه إلى الآن لم يظهر في ذلك الموضوع كتاب آخر يدانيه، فضلا عن أن يفوقه.

أما الترجمة العربية لكتاب فتح العرب لمصر فأحب قبل كل شيء أن أهنئ صديقي فريدا على توفيقه فيها أخلص التهنئة. فقد جاءت صورة صادقة للأصل مطابقة له فقرة فقرة وجملة جملة. هذا مع سهولة العبارة وسلاستها ووضوحها، مما يشهد للأستاذ فريد بالبراعة في صناعة الترجمة. ولكن ليت شعري أي مترجم، ولو كان الأستاذ فريد نفسه، يترجم زهاء الستمائة صفحة ثم لا يهفو قلمه ولا ينحرف عن الأصل الذي ينقل عنه يمنة أو يسرة؟ على هذا الاعتبار أهدي إلى الأستاذ فريد هذه الملاحظات اليسيرة.

جاء في صفحة 25 هذه العبارة (النذر اليسير) وصوابها (النزر) بالزاي المعجمة. وفي صفحة 27 عرب اسم المستشرق المشهور بـ (دي جويجة) وصوابه (ده غويه) ووردت في صفحة 27 أيضاً كلمة (المونوفيسية) واحسن منها أن يقال (المذهب اليعقوبي). وجاء في صفحة 123 (هزيمة تبوك) بدلا من (فشل غزوة تبوك) وهو المقابل للأصل، وفي صفحة 83 ترجمت (بالفقه) وصوابها (اللاهوت)، وجاء في صفحة 218 (تسور الزبير إلى الحصن) والصواب أن يحذف حرف الجر، وفي صفحة 228 ترجمت بـ (قناطر) وأصح من ذلك (جسور) لأن العرف جرى بإطلاق اللفظ الأول على البناء الثابت الذي يعقد فوق الأنهار وهو غير المراد من اللفظ الإنجليزي. وجاء في صفحة 255 (وكانت مسلحة المدينة) بدلا من (وكانت حامية المدينة). وفي صفح 406 (وقال عنه النواوي) وصوابه (النووي) بدون ألف المد.

على أن هذه الملاحظات أيضاً لا تضر الترجمة شيئا. وإذا كان الكتاب مثالا يحتذى من حيث دقة البحث العلمي، فترجمته العربية مثال ينسج على منواله من حيث أمانة النقل وصحة التعريب.

ص: 84

‌ضحى الإسلام

ما كان لي أن اقف مع الذين يتحدثون عن الأستاذ المحقق (احمد أمين) ولا أن أساهم في الكلام عن علمه ومؤلفاته، لأن ذلك شأن لا يضطلع به الا كبار أهل العلم والفضل ليكون لكلامهم من القيمة ما يكافئ مكانة هذا العالم الكبير، ولكني وأنا أطلب العلم والأدب وادرسهما منذ ربع قرن (وما زلت مجداً في سبيلي) أجد لزاماً علي وقد قرأت كتابه الممتع (ضحى الإسلام) أن أبين في كلمة صغيرة لأخواني طلاب الأدب والعلم ومن يعنون بدراستهما مقدار ما أخذت من هذا الكتاب ومدى انتفاعي به.

أخذت هذا الكتاب يوم صدوره اخذ المشوق اللهفان، لأني كنت ارتقب صدوره بعد أن بزغ (فجره) من زمن غير قليل، ولم البث أن عكفت على قراءته عكوفاً لم أدع معه النفس أن تتطلع إلى شيء غيره من متاع الحياة حتى انتهيت منه.

وفي الحق أني لا أستطيع أن أصف وصفا دقيقا مقدار ما استمتعت به من هذا الكتاب، ولا أن أصور تصويراً صادقاً مبلغ ما فيه من علم وبحث، ولكني لو أردت أن أصف أمري بعد أن فرغت من قراءته في عبارة صغيرة لقلت:(أني على كثير ما قرأت من كتب العلم والأدب لم أفد من كتاب مثل ما أفدت من هذا الكتاب) فقد كشف عن الحياة العقلية الإسلامية في القرن الثاني للهجرة بما لم يكن معروفا مثله لأحد؛ فظهرت أشياء لم تكن تعرف من قبل، ووضحت أمور كانت غامضة أو مبهمة، وصححت مسائل كان الناس يعلمون منها غير الذي حققه ببحوثه العميقة عالمنا الجليل.

ولقد شهدت في هذا الكتاب الممتع كيف سارت حياة الإسلام في الحقبة التي أرخت فيه، وتنورت على هدى تحقيقه ما أثر في هذه الحياة من مختلف النواحي وما تأثرت به هذه النواحي، حتى لكنت أحسب وأنا أدرس هذا الكتاب أن الحياة العقلية الإسلامية قد صورت تصويراً صادقاً على لوحة السينما بحيث لا يخفى منها شيء، ولا يحتجب منها وجه.

وأني لأقرر في صراحة أني بعد أن قرأت كتابي (فجر الإسلام وضحاه) قد تغير رأيي في كثير من أمور ديننا الحنيف كنت فهمتها من بعض كتب العلم، وأصبحت بذلك مضطراً إلى أن أعود إلى هذه الكتب لأقرأها ثانية حتى أفهم ما فيها على حقيقته.

هذا بعض ما أخذته من كتاب (ضحى الإسلام) بقدر (قريحتي وفهمي) أنشره وأؤذن بصوت الحق أن هذا الكتاب الفريد تجب دراسته على الأديب والعالم والديني والمؤرخ

ص: 85

وجوباً.

جزى الله عالمنا الجليل لقاء ما ناله من تعب، وتحقيق في سبيل العلم خير الجزاء، وأعانه على إتمام ما انتدب له من خدمة العلم أنه سميع الدعاء.

المنصورة - محمود أبو رية

ص: 86

‌الهيام

لعبد الرحيم مصطفى قليلات

هذا الكتاب ديوان شعر. وعنوانه (الهيام) قد يخدع القارئ لأول وهلة، فيحسب أن الديوان أكثره أو كله نسيب. والحقيقة أن العنوان مقتبس من الآية (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) وقد هام هذا الشاعر في أودية كثيرة، والكتاب الذي بين أيدينا هو ثمرة هذا (الهيام)، وأشعار الكتاب مقسمة إلى خمسة أبواب: الأول: في الدين والأخلاق؛ الثاني: في الثقافة والاجتماع؛ الثالث: في تهذيب المرأة ومحبتها؛ والرابع: في الفكاهة؛ والخامس: وهو أطول الأبواب جميعا، في الأناشيد. ومنه يتبين للقارئ أن المؤلف لم يدع هيأة من الهيئات في بلده الا علمها كيف تتغنى بأعمالها وشئونها، وكثير من هذه الأناشيد يصحبه توقيعه مكتوبا بالعلامات الموسيقية، وسيسر المصريون إذ يرون هذا الشاعر السوري الفاضل قد ختم الكتاب بنشيد جميل (دمعة على سعد) ومعه لحنه، ولم يتح لنا أن نسمع توقيعه.

وقد أعجبنا في الكتاب كله تلك الروح الدينية والوطنية والخلقية العالية التي يحسها القارئ في كل صفحة من صفحاته. وقد عالج المؤلف عدة مواضع من الأهمية مكان، ولكن يخيل إلينا أن الشاعر يكتب بسرعة وبكثرة هائلة لا تسمح له بتنقيح شعره واختيار عباراته وألفاظه. وليس من شك في أنه لو تأنى وتريث لأتى بشعر جليل، وهو أحسن ما يكون حين يقص علينا قصة. وسيسر القارئ من القسم الفكاهي، وقد أعجبنا منه بنوع خاص قطعته البديعة (ليلة القدر). ومن أجل هذه القطعة وحدها يستحق الكتاب أن يقتنى.

م. ع. م.

ص: 87