المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 50 - بتاريخ: 18 - 06 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٥٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 50

- بتاريخ: 18 - 06 - 1934

ص: -1

‌صفاء الأفق في الجزيرة العربية

عقد الصلح بين زعيمي الجزيرة، جلالة عبد العزيز بن السعود، عاهل المملكة السعودية، وسيادة الإمام يحيي حميد الدين ملك اليمن، فصفا أفق الجزيرة العربية، وقرت عيون العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن جزعت قلوبهم حيناً لتلك الحرب التي كادت تهدد أمن الجزيرة وسلامها، وتفسح مجالاً لسعي الطامعين والمتربصين من خصوم القضية العربية. وعقدت معاهدة الطائف بين الفريقين لتنشأ بين المملكتين العربيتين صداقة دائمة، وتحتم عليهما العمل المشترك في الشؤون الاقتصادية المشتركة، وفي تنظيم العلاقات الخارجية، فلا يعقد أحدهما معاهدة مع دولة أجنبية تؤثر في مصالح الطرف الآخر إلا بإذنه وبعد مشاورته؛ ويجب على الطرفين أن يتعاونا في العمل لحماية المصالح المشتركة والدفاع عن استقلال الجزيرة العربية ضد أي خطر خارجي.

ولقد قلنا منذ البداية أن هذا الخلاف الخطير لا يعني المملكة السعودية أو اليمن فقط، ونما يعني مستقبل الجزيرة العربية باسرها، وناشدنا الزعيمين أن يتذرعا بالرواية والحكمة، وان يغلبا التفاهم والحسنى. ولكن الظروف كانت أقوى من أي إرادة، فوقعت المعارك الأولى، وتطورت الحوادث بسرعة، ووقف العالم العربي والإسلامي مدى حين ذاهلاً يتساءل عما يمكن أن ينتهي الخطب إليه. وكان اشد ما يزعجه أن يرى بعض الدول الأجنبية تتربص وتتحفز لانتهاز الفرص والظروف. ولم يكن يومئذ ثمة مجال لتحديد المسؤوليات أو توجيه اللوم؛ وكل ما كان يشغل العالم الإسلامي ويهمه، هو أن يعقد السلام بأية وسيلة؛ وعود السلام إلى الجزيرة هو السبيل الوحيد للقضاء على تلك المطامع والآمال الأجنبية التي تزدهر إلا في الكدر والخصام، والتي خشينا عواقبها حينما رست بعض السفن الأجنبية في مياه الحديدة يوم أن استولت الجنود السعودية عليها، واحتج مرسلوها بذلك العذر الخالد الذي نسمعه في مثل هذه الظروف دائماً، وهو حماية الرعايا الأجانب؛ وقرأنا في الصحف الاستعمارية غير مرة أن بعض الجهات المعروفة بمطامعها في الشرق تهتم أيما اهتمام بتطور الحوادث في الجزيرة. ولكن تفاقم الحوادث على هذا النحو كان نذيراً بركود العاصفة ثم هدوئها، فضوعفت الجهود في سبيل السلام والتفاهم، وأدرك إمام اليمن خطورة الموقف، وخطر التردد، وعبث الخصومة والمقاومه؛ فأقر الملك الوهابي على مطالبه التي اشترطها منذ البداية لوقف القتال، وهي إخلاء الجبال التي احتلتها القوات اليمنية في عسير

ص: 1

ونجران، وإطلاق الرهائن، وتسليم الأدارسة سادة عسير السابقين؛ وبدأ الإمام بتنفيذ الشروط المطلوبة، واستؤنفت المفاوضات بين الفريقين يحدوها الرجاء تارة واليأس أخرى، حتى شاء ربك أن تحقن الدماء وان يعقد السلام، وان تصان الجزيرة من شر الطامعين والمتربصين.

وعقد معاهدة الطائف حادث عظيم في تأريخ الجزيرة العربية، ومهما قيل عن نصوص المعاهدة وأثرها في مركز اليمن، وكونها ترتب للمملكة السعودية عليها نوعاً من الأشراف، فلا ريب أنها لخير الجزيرة بصفة عامة ويكفي أنها حسمت نزاعاً كان يضطرم منذ عشرة أعوام، ويهدد الجزيرة بشره بين آونة وأخرى، ويفسح المجال لسعي الكائدين، وأنها قررت حدوداً كانت دائماً مثار الأخذ والرد. وهذه الخاتمة السعيدة لحوادث الجزيرة العربية تحمل على كثير من الغبطة والتفاؤل: أولاً لأنها كشفت مرة أخرى عن المعاني السامية التي يحملها التضامن الإسلامي، وثانياً لأنها ستوحد بين الجهود التي تبذل لصون استقلال الجزيرة. فأما التضامن الإسلامي فقد ظهر في هذه الحوادث بمظهر رائع، وكان لصوت الرأي العام الإسلامي اكبر اثر في تلطيف حدة الخلاف وفي تحذير الزعيمين من عواقبه؛ وكان الرأي العام الإسلامي حكما في الواقع يحتكم إليه الزعيمان، فيذيع عليه جلالة ابن السعود وثائقه ومراسلاته مع سيادة الإمام ليشهده على ما بذل من الأناة والصبر، ويرجوه سيادة الإمام إلا يقف عند الإشاعات والأراجيف المزعجة؛ وكان وفد الأمم الإسلامية الذي سافر إلى الحجاز يبذل جهده لتقريب مدى الخلاف بالنصح والتوسط والرجاء. وفي ذلك اقطع حجة لدحض مزاعم أولئك الذين ينكرون قوة الرأي العام الإسلامي وقوة أثره في توجيه الأمم الإسلامية.

وأما عن توحيد الجهود العربية فيكفي أن

نتلو نصوص معاهدة الطائف لنقدر ما يترتب على تنفيذها من تنظيم لجهود الأمتين العربيتين المستقلتين في سبيل خيرهما وخير الجزيرة العربية؛ ولنقدر ما تدلي به هذه النصوص من فهم الأمتين لما يهدد استقلالهما ومصالحهما المشتركة من العوامل والدسائس الخارجية. ولا ريب أن

اليوم الذي يدرك فيه العرب والمسلمون قيمة التضامن والاتحاد بصورة عملية، هو اليوم

ص: 2

الذي تتعثر فيه مشاريع الاستعمار وتتحطم، ويبزغ فجر النهضة الحقيقية للعالم الإسلامي، وتستطيع الأمم العربية والإسلامية أن تنظم جهودها لاسترداد استقلالها وحرياتها.

فإلي الزعيمين العربيين والى العالم الإسلامي كله نرفع خالص التهنئة على تلك الخاتمة السعيدة؛ ونرجو أن يوفق الزعيمان إلى خدمة الإسلام والعرب متصافيين متضامنين، ومن ورائهما عطف العالم الإسلامي.

ص: 3

‌الراحة في التغيير

للأستاذ احمد أمين

خلق الإنسان ملولاً، يمل النعيم إذا طال، ويمل الشقاء إذا طال، يمل الحر إذا دام، ويمل البرد إذا دام، يمل الأكل الشهي اللذيذ إذا استمر عليه، ويمل الأكل الخسيس إذا استمر عليه.

وقديماً ملّ بنو إسرائيل أكل المن والسلوى، وقالوا:(لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها). ولست أدري لم لامهم موسى عليه السلام على ذلك والملل طبيعي في الإنسان، إلا أن

تكون صيغة الطلب رذيلة مذمومة: (فادع لنا ربك) ليس الصيغة المؤدبة التي تصدر من المؤمنين.

من أجل هذا استعان الناس على درء بالتنويع والتنقل ولو من حسن إلى رديء، فاشتهوا أتفه الطعام بجانب أجوده، واشتهوا عشش رأس البر وأكواخ أبي قير فراراً من القصور الشامخة والبنيان المشيد - وروعي هذا في برامج الدراسة: فحط بعد لغة، ورسم بعد حساب، ولغة إنجليزية بعد لغة عربية، دفعاً للملل من الدرس ومن المدرس؛ وروعي كذلك في برنامج الحياة: فلعب بعد عمل، ومزح بعد جد؛ وراعت الطبيعة هذا في برنامجها: فليل ونهار، وحر وبرد، وسلطان للقمر بعد سلطان للشمس وهكذا - ولولا ذلك لعرى الناس ملل لا يطاق، ولكانت الحياة عبئاً ثقيلاً لا يحتمل، ولفر الناس منها إلى الموت طلباً للتغيير والتنويع.

اخطأٍ الناس فظنوا أن الراحة معناها الانغماس في الكسل، والإضراب عن العمل، والتمدد على سرير مريح، أو الاتكاء على كرسي مُجنح أو نحو ذلك؛ وليس هذا بصحيح دائماً، ولو كان كذلك لما مل الناس هذه الراحة، ولما فروا منها إلى العمل، واستروحوا بالجد والتعب، إنما الراحة التغيير من حال إلى حال، من عمل إلى لا عمل، ومن لا عمل إلى عمل، ولو كان عدم العمل هو الراحة لكان السجن أروح مكان - ألا ترى الراحة تكون في الأشياء وأضدادها باستمرار؟ فلو ركب سيارة من مصر إلى الإسكندرية لأحسست التعب من الركوب، أحسست الراحة من المشي، ولو مشيت طويلاً لأحسست التعب من المشي،

ص: 4

والراحة في الركوب؛ وما أحلى النوم بعد التعب، وما أحلى اليقظة بعد النوم - وفي الجلوس راحة إذا طال الوقوف، وفي الوقوف راحة إذا طال الجلوس، وفي العمل راحة بعد طول فراغ، وفي الفراغ راحة بعد طول العمل، وفي نظر الصحراء لذة بعد طول النظر إلى البحر، وفي البحر لذة بعد طول النظر إلى الصحراء - ومنظر البحر ابعد عن السأم لأنه في تغير مستمر وحركة دائمة: موجة تعلو ثم تهبط، وموجة تتكسر على الصخر أو الرمل، ثم تسير إلى الشاطئ وتفنى، وتتجدد أخرى وهكذا. ومنظر الأرض ليس نصيبه كذلك من التغير، فالإنسان به أسرع مللاً وأقرب سأماً - وهكذا كل نظام الحياة: الملل من الدوام، والراحة في التغيير.

ما أصعب الحياة الرتيبة وأشقها على النفس! إنها تميت القلب وتبعث على الخمود، ولابد لعلاجها من التجديد، وليس التجديد إلا نوعاً من التغيير، يبعث عليه السأم من القديم، فإذا مل الناس الأدب القديم جدد زعماء الأدب في الأدب. وأتوا للناس بفن جديد يستروحون به، وإذا مل الناس نوعاً من النظام الاجتماعي أتى المجددون بشيء جديد ونظام جديد يذهب بالملل ويجدد النشاط، وليس تغيير الأزياء - وخاصة عند النساء - إلا ضرباً من هذا، هن أسرع خلق الله إلى الملل، وأدعاهم إلى التغير والتجديد؛ فهن يطلعن على الناس كل عام بزي جديد في القبعات والأثواب وكل ما يتصل بهن، شعر قصير بعد شعر طويل، وفستان طويل بعد فستان قصير، وهكذا كثير ما لهن فكثر تغييرهن فراراً من السأم وطلباً للراحة لهن ولغيرهن.

وأقدر الناس في هذه الحياة من استطاع أن يتغلب على السأم والملل بالتغيير المناسب في نفسه وفي غيره. فالأديب القديم من استطاع أن ينوع نفسه وينوع كتابه حتى لا يمل ولا يُملّ، وخير المجلات من استطاعت أن تجدد نفسها من حين إلى حين تجديداً يتفق ومنفعة الناس، ويتفق والرقي؛ فتتغير في أسلوبها وتتغير في موضوعاتها، وتتغير من حين إلى لآخر في كّتابها حتى لا يسأم قراؤها؛ وخير القادة من استطاع أن يجدد في دعوته، فإذا كان له مبدأ واحد يدعو إليه استطاع أن يبرزه كل يوم في شكل جديد يستلفت النظر، ويبعث فيه حياة جديدة تدعو إلى النشاط والحركة.

وكثير من شرور هذا العالم سببه الملل، فكسل التلميذ وانصرافه عن الدرس نوع من الملل،

ص: 5

وخمول الموظف وقعوده عن الجد في العمل نوع من الملل، والخمود السياسي والفكري والاجتماعي نوع من الملل، والرغبة في الانتحار نوع من الملل، وكثيراً ما يكون الميل إلى الكيوف والإدمان عليها نوعاً من الملل، وكثيراً ما يكون الشقاق العائلي وشقاء المنزل والمشادة بين الزوجين أحياناً والأبوين وأولادهما أحياناً نوعاً من الملل، إلى كثير من أمثال ذلك، وكلها أمراض صعبة التشخيص صعبة العلاج، تحتاج إلى نوع من الطب النفسي أدق من طب الأجسام، وتحتاج إلى مهارة في علم النفس لا تقل أهمية عن المهارة في علوم الطب.

من اجل هذا أصبحت الحياة فناً يجب أن يدرس، وأصبحت طريقتنا في الحياة طريقة بالية، إذا ارتقى وتعقد اصبح فناً يحتاج إلى الدراسة، وأصبحت الطريقة الساذجة فيه لا تغني، فأمهاتنا يربين أولادهن حسبما اتفق، ثم أصبحت التربية فناً، ومعلمونا كانوا يعلمون حيثما اتفق، ثم اصبح فناً؛ ومغنونا كانوا يغنون حسبما اتفق، ثم صار الغناء فناً - كذلك الحياة نفسها نحياها الآن حيثما اتفق، ولكنها تعقدت واصبح حل عقدها يحتاج إلى دراسة ودراسات - وأصبحت المرأة في حاجة لان تتجدد في بيتها حتى لا يمل زوجها، والزوج يتجدد حتى لا تمل زوجته، والمعلم يتجدد حتى لا يمل طلبته، ورئيس الحزب يتجدد حتى لا يمل اتباعه، وأصحاب الملاهي يتجددون حتى لا يملوا.

والتغلب على الملل ليس من الأمور الهينة، فليس كل تغيير يصلح لإزالة السام، إنما يصلح التغيير يوم تدرس النفس ويدرس نوع التغيير، كما يدرس المرض ويدرس نوع العلاج، ويكون الدواء طبق الداء.

عن الإسكندرية

أحمد أمين

ص: 6

‌مسلمو السودان الغربي يحاولون كشف أمريكا في

‌أوائل القرن الثامن الهجري.

للدكتور عبد الوهاب عزام

عثر كريستوف كلمب على أمريكا على غير قصد إليها، بل كان يرجو أن يبلغ الهند من الغرب فأتيح له هذا الكشف العظيم.

وقد حاول مسلمو السودان الغربي في أوائل القرن الثامن الهجري أن يبلغوا الشاطئ الغربي من المحيط الأطلنطي (بحر الظلمات) برأي أسد من رأي كلمب، وفكرة أصح من فكرته؛ قبل كشف أمريكا بنحو قرنين.

كانت عظمى ممالك المسلمين في السودان في القرنين السابع والثامن بعد الهجرة بلاد ماليّ ومضافاتها. وكانت تعرف في ذلك الحين باسم بلاد التكرور. والتكرور كان أحد أقاليم هذه المملكة الواسعة.

وكان ملكهم أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون منسا موسى، قال في صبح الأعشى نقلاً عن العبر:(وكان رجلاً صالحاً وملكاً عظيماً له أخبار في العدل تؤثر عنه، وعظمت المملكة في أيامه إلى الغاية، وافتتح الكثير من البلاد. قال في مسالك الأبصار: حكى ابن أمير حاجب والي مصر عنه انه فتح بسيفه أربعاً وعشرين مدينة من مدن السودان ذوات أعمال وقرى وضياع.)

وقد حج منسا موسى أيام الناصر بن قلاوون سنة أربع وعشرين وسبعمائة. قال في صبح الأعشى نقلاً عن مسالك الأبصار. (قال لي المهمندار: خرجت لملتقاه من جهة السلطان فأكرمني إكراماً عظيماً وعاملني بأجمل الآداب. ولكنه كان لا يحدثني إلا بترجمان مع إجادته اللسان العربي. قال ولما قدم قدمّ للخزانة السلطانية حملاً من التبر ولم يترك أميرا ولا رب وظيفة سلطانية إلا وبعث إليه بالذهب. وكنت أحاوله في طلوع القلعة للاجتماع بالسلطان حسب الأوامر السلطانية فيأبى خشية تقبل الأرض للسلطان ويقول جئت للحج لا لغيره.

فلما صار إلى الحضرة السلطانية قيل له قبل الأرض فتوقف وأبى إباء ظاهراً وقال كيف يجوز هذا؟ فأسر إليه رجل كان في جانبه كلاماً، فقال أنا اسجد لله الذي خلقني وفطرني ثم

ص: 7

سجد. وتقدم إلى السلطان فقام له بعض القيام وأجلسه إلى جانبه. وتحدثا طويلاً.

ومقصدنا من هذا الكلام في الرواية آلاتية عن صبح الأعشى:

(قال في مسالك الأبصار قال ابن أمير حاجب سألته عن سبب انتقال الملك إليه فقال إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك فجهز مائتي سفينة، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، أمر من فيها إلا يرجعوا حتى يبلغوا نهاية أو تنفد أزوادهم. فغابوا مدة طويلة ثم عاد منهم سفينة واحدة، وحضر مقدمها فسأله عن أمرهم فقال سارت السفن زماناً طويلاً حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة وادٍ له جرية عظيمة فابتلع تلك المراكب، وكنت آخر القوم فرجعت بسفينتي. فلم يصدقه فجهز ألفي سفينة: ألفاً للرجال وألفاً للأزواد. واستخلفني وسافر بنفسه ليعلم حقيقة ذلك. فكان آخر العهد به وبمن معه) اهـ

فما رأى المؤرخين والجغرافيين في هذه الرواية العجيبة؟

قد قرأنا في الجرائد قبل سنة أو سنتين أن بعض الباحثين صادف في أمريكا الجنوبية قبائل تشبه أن تكون عربيه مسلمة. فهل بلغ ملك السودان الغربي وأصحابه أمريكا في القرن الثامن الهجري وانقطعت الطريق بينهم وبين أفريقية فأقاموا هناك؟ أو ماذا؟

لعل سعادة شيخ العروبة العلامة احمد زكي باشا يدلي برأيه في هذه المعضلة.

عبد الوهاب عزام

ص: 8

‌لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قالوا إن الأصمعي كان ينكر أن يقال في لغة العرب (مالح)، ويقول إنما هو ملح، وان (مالح) هذه عامية، فلما أنشدوه في ذلك شعراً لذي الرمّة يحتجون به عليه قال: إن ذا الرمّة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زماناً. . . .

يريد شيخنا هذا: أن (المالح) في الأكثر الأعم يكون مما يبيعه البقالون، ولغتهم عامية مُزالة عن سننها الفصيح، مصروفة إلى وجهها التجاري. ولكن كيف بات ذو الرمة في حوانيت البقالين زماناُ حتى علقت الكلمة بمنطقه وجذبه إليها الطبع العامي، ولم يخالط عربيته غير هذه الكلمة وحدها؟ لم يقل الأصمعي شيئا، ولكن روايته تخبّر أن ذا الرمة انحدر من البادية إلى البصرة يلتمس ما يلتمسه الشعراء، فلما كان بها استضاق فلم يصب لجوفه غير الخبز، ولم يجد للخبز غير (المالح) يُسيغه به ليجد المسلك في حلقه، قالوا فيأتي البقالين فيبتاع منهم السمكة (المالحة) والبقلة (المالحة)، ويعرفونه مضيقاً إلى فرج، فيُنسئون له في الثمن إلى أجل، حتى يمتدح وينال الجائزة. قالوا ثم يمطره الممدوح ويلوي به ولا يرى في تلفيق العيش رخصاً إلا في (المالح) فيتتابع في الشراء ويمضون في أسلافه إبقاء عليه وحسن نظر منهم لمنزلته وشعره، ويرى هو أن لا ضمان للوفاء بما عليه إلا نفسه، فما بدٌّ أن يتراءى لهم بين الساعة، فيخالطهم فيحدثهم فيسمع منهم، وهم على طبعهم وهو على سجيته. ثم لا يقتضونه ثمناً، ولا يزالون يمدون له، فلا يزال (المالح) أيسر منالاً عليه، كما هو إلى نفسه أشهى وفي جوفه أمرأ، لمكان أعرابيته، وخشونة عيشه، فيصيب عندهم مرتعه من هذا (المالح). قالوا ثم يرى البقالون أن لا ضمان لما اجتمع عليه إلا أن يكون الشاعر معهم، فيلزمونه الحوانيت بياض يومه، ويغلقونها عليه سواد ليلته، فهم يمسكونه بالنهار، وتمسكه الحيطان والأبواب بالليل.

فلما عظم الدين وبلغ الجملة التي فاتت حساب الأيام إلى حساب الأهلة أُحضر الشاعر كربه وهمه، ولم يعد (المالح) ينجع فيه، ولا يجد به غذاء بل حريقاً في الدم، ورأى أنه قد امتحن بهذا. (المالح) الخبيث، واشرط نفسه فيه، وارتهنها به، فلا يزال من (المالح) هم في نفسه، ومغص في جوفه، ولفظ على لسانه ودين على ذمته؛ ولا يزال مهموماً به، إذ كان على

ص: 9

طريق من طريقين: إما الوفاء ولا قدرة عليه من مفلس، وأما الحبس ولا طاقه به لشاعر. وحبس ذي الرمة في ثمن (المالح) هو حبس عند الشرطة، ولكنه قتل أو شر من القتل عند صاحبته مية إذا ترامى إليها الخبر، والأعرابي الجلف الذي يحبس في ثمن (المالح) عند الوالي بعد أن بات زماناً رهناً به في حوانيت البقالين لا يصلح عاشقاً لميّ، وهي من هي! (لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي) فلا (المالح) من غذائها، ولا لفظ (المالح) من الكلام الذي يكون في فمها العذب. وأبعد الله جاريتها الزنجية إن لم تأنف لنفسها ومكانها من عشق هذا الأعرابي الغليظ الخشن الذي ألحقه (المالح) باللصوص والعارمين، وأخزاها الله إن لم يكن عشق هذا الأعرابي لها سواداً على سوادها في الناس، فكيف بمي وهي أصفى من المرأة النقية، وابيض من الزهرة البيضاء؟

قالوا: ويصنع الله لغيلان المسكين، فيمدح وينافق ويحتال، ويعده الممدوح بالجائزة إذا غدا عليه، ويكون ذلك والشمس نازلة إلى خدرها، فينكفئ الشاعر إلى حوانيت غرامائه من البقالين يبيت فيه أخرى لياليه، ويغلقون عليه وقد سئموه آكلاً وماطلاً، وهان عليهم فلا يعتدونه لا فأراً من فئران حوانيتهم، غير أنه يأكل فيستوفي، ولم يعد اسمه عندهم ذا الرمة، بل ذا الغمة. . . فلم يعطوه لعشائه هذه المرة لا ما فسد وخبث من عتيق (المالح)، فهو نتن يسمى طعاماً، وداء يباع بثمن، وهلاك يحمل عليه الاضطرار كما يحمل عل أكل الجيفة، وكانوا قد وضعوه في آنية قذرة متلجنة طال عهدها بالغسل والنظافة، وفيها بقية من عفن قديم، فلصق بها ما لصق، وتراكب عليها ما تراكب، ووقع فيها ما وقع.

ثم يتهيأ الشاعر لصلاة العشاء يرجو أن تناله بركتها فيستجيب الله له ويفرّج عنه، وقد كان لديه قدح من الماء لوضوئه، ولكن (المالح) الذي تغذى به كان قد أحرق جوفه وأضرم على أحشائه وهو صيف قائظ، فما زال يطفئه بالشربة بعد الشربة، والمصة بعد المصة، حتى اشتف القدح وأتى عليه، فيكسل عن الصلاة ويلعن (المالح) وما جر عليه. ثم يعضه الجوع فيكسر خبزته ويسمي ويغمس اللقمة ثم يرفعها فيجد لها رائحة منكرة، فينظر في الآنية وقد نفذ إليه الضوء من قنديل الحارس فإذا في (المالح) خنفساء قد انفجرت شبعاً، ويدقق النظرة فإذا دويبة أخرى قد تفسخت وهرأها (المالح) وفعل بها وفعل. قالوا وتثب نفسه إلى حلقه ولا يرى الطاعون والبلاء الأصفر والأحمر إلا هذا (المالح) فيتحول إلى كوة الحانوت

ص: 10

يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد، ولا يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية، وهو بين ذلك يلعن (المالح) عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليل. ويطول ذلك عليه حتى إذا كاد ينشق لمع الفجر لعينه فلا يراه الشاعر إلا كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هذا الضوء في جوفه ليغسله من (المالح) وأوضار (المالح). ثم يأتي الله بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له، ويغدو ذو الرمة على الممدوح فيقبض الجائزة وينقلب إلى حوانيت البقالين فيوفي أصحابها ما عليه ولا يبقى معه إلا دراهم معدودة، فيخرج من البصرة على حمار اكتراه وقد فتحت له آفاق الدنيا، وكأنما فر من موت غير الموت. ليس اسمه البوار ولا الهلاك ولا القتل، ولكن اسمه (المالح).

قالوا: ويحركه الحمار للشعر كما كانت تحركه الناقه فيقول: أخزاك الله من حمار بصري، إن أنت في المراكب إلا (كالمالح) في الأطعمة. ثم يغلبه الطبع، وينزو به الطرب، وتهزه الحياة فيهتاج للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار ميّ، وفي (عقله الباطن) حوانيت وحوانيت من (المالح)، فيأتي هذا (المالح) في شعرة ويدخل في لغته فيقول الشعر الذي أهمل الأصمعي روايته لأن فيه (المالح)، وما أدري أنا ما هو، ولكن لعله مثل قول الآخر:

ولو تفلت في البحر والبحر (مالح)

لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا

أو مثل قول القائل:

بصرية تزوجت بصريا

يطعمها (المالح) والطريا

هذه هي الرواية التمثيلية التي تفسر كلام الأصمعي ولا مذهب عنها في التعليل إذا صار (المالح) كلمة نفسية في لغة ذي الرمة على رغم أنف الأحمر والأسود، والأصمعي وأبى عبيدة، فالرجل من الحجج في العربية إلا في كلمة (المالح) فإنه هنا عامي بقال حوانيتي نزل بطبعه على حكم العيش، وغلبه ما لابد أن يغلب من تسلط (وأعيته الباطنية)

والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن ابلغ الناس ينحرف بعمله كيف شاءت الحرفة، ولابد أن تقع المشابهة بين نفسه وعمله، فربما أراد بكلامه وجهاً وجاء به الهاجس على وجه آخر.

وإذا كان في النفس موضع من مواضعها أفسده العمل - ظهر فساده في الذوق والإدراك فطمس على مواضع أخرى، فلا تنظر من صحافي قد ارتهن نفسه بحرفة الكلام إلا يكون

ص: 11

له في الأدب والبلاغة (مالح) كمالح ذي الرمة وإن كان ابلغ الناس لا ابلغ كتاب الصحف وحدهم.

و (المالح) الذي رأيناه لكاتب بليغ من أصحابنا أنه كتب في إحدى الصحف عن ديوان هو في شعر هذه الأيام كالبعث بعد موت شوقي وحافظ رحمهما الله، فيأتي بالمجاز بعد الاستعارة بعد الكناية مما قاله الشاعر ثم يقول: هذا عجيب تصوره، لا أعرف ماذا يريد، البلى للشعاع غير مقبول. ولا يزال ينسحب على هذه الطريقة من النقد ثم يعقب على ذلك بقوله:(والأصل في الكتابة أنها للافهام، أي نقل الخاطر أو الإحساس من ذهن إلى ذهن ومن نفس إلى نفس، ولا سبيل إلى ذلك إذا كانت العبارة يتعاورها الضعف والإبهام والركاكة وقلة العناية بدقة الأداء، وإذا كنت تستعمل اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد به، فكيف تتوقع مني أن افهم منك.)

لا، لا، هذا (مالح) من مالح الأدب، فإذا كان الضعف والإبهام والركاكة وسوء الإفهام وضعف الأداء - آتية في رأي الكاتب من استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له - فان محاسن البيان من التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية ليس لها مأتى كذلك إلا استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له.

وعلى طريقة الكاتب كيف يصنع في قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً).

أتراه يقول: كيف قدم الله، وهل كان غائباً أو مسافراً، وكيف قدم إلى عمل، وهل العمل بيت أو مدينة؟

ثم كيف يصنع في هذه الآية: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) أيسأل: وهل للأرض حلق تحركه عضلاته للبلع، وإذا كان لها حلق أفلا يجوز أن ترمي فيه فتحتاج إلى غرغرة وعلاج وطب؟

وماذا يقول في حديث البخاري: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت الدم، أو صوتاً يقطر منه الدم (كما في الأغاني) أيوجه الاعتراض على الصوت وجرحه ودمه، ويسأل: بماذا جرح، وما لون هذا الدم، وهل للصوت عريق فيجري الدم فيها؟

إن الإفهام ونقل الخاطر والإحساس ليست هي البلاغة وان كانت منها، وإلا فكتابة الصحف

ص: 12

كلها آيات بينات في الأدب، إذ هي من هذه الناحية لا يقدح قيها ولا يغض منها، وما قصرت قط في نقل خاطر ولا استغلقت دون إفهام.

ههنا خوان في مطعم كمطعم (الحاتي) مثلاً عليه الشواء والملح والفلفل والكواميخ أصنافاً مصنفة، وآخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهاره ومن فوقه الأشعة ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب بنور وجهها الجميل. أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول؟ وهل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني؟ ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس الا، به ينضاف الجمال إلى المنفعة فتجتمع الفائدة والاستمتاع وتزين المائدة والنفس معاً، وهو كذلك تعقيد فني لاءم بين إبداع الطبيعة وإبداع الفكر وجاء بروح الموسيقى التي يقوم عليها الكون الجميل فبثها في هذه الأشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة، واستنزل سر الجاذبية فجعل للمائدة بما عليها شعوراً متصلاً بالقلوب من حيث جعل للقلوب شعوراً متصلاً بالمائدة.

وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة هو بعينه فنية السهولة وروحيتها. وتلك السذاجة التي في المائدة الأخرى هي السهولة المادية بغير فن ولا روح، وفرق بينهما أن إحداهما تحمل قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به، والأخرى تحمل من الطعام وما يتصل به مقالة كمقالات الصحف.

والوجه في الشوهاء وفي الجميلة واحد لا يختلف بأعضائه ولا منافعه، ولا في تأديته معاني الحياة على أتمها وأكملها، بيد أن انسجام الجميل يأتي من إعجاز تركيبه وتقدير قسماته وتدقيق تناسبه، وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسي بسهولة منسجمة هي فنيته وروحيته؛ أما الآخر فلا يقبل هذا الفن ولا يظهر منه شيئاً إذ كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيد فن التناسب، وجاء على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير، إلى ما يستدير وما يعرض، إلى ما ينتأ من هنا وينخسف من هناك، كالوجنة البارزة، والشدق الغائر، فهذه السهولة المطلقة في الوضع كما يتفق هي بعينها التعقيد المطلق عند الفن الذي لا محل فيه للفظة (كما يتفق).

والطريقة التي يكون بها الجمال جميلاً هي بعينها الطريقة التي يكون بها البيان بليغاً، فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفس.

ص: 13

وأنت فقل: إن هذا مفهوم وهذا غيرمفهوم، وذاك سهل والآخر معقد، وواضح ومغلق، ومستقيم على طريقته ومحول عن طريقته. انك في ذلك لا تدل على شئ تعيبه أو تمدحه في الجمال أو البلاغة اكثر مما تدل على ما يمدح أو يعاب في نفسك وذوقها وإدراكها.

ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه، بل في الأنفس المختلفة عليه، فان محالاً أن تكون الجميلة ممدوحة مذمومة لجمالها في وقت معاً، وإلا كانت قبيحة بما هي به حسناء، وهذا شد بعداً في الاستحالة، وحكمك على شئ هو عقلك أنت في هذا الشيء.

ومتى اتفق الناس على معنى يستحسنونه وجدت دواعي الاستحسان في أنفسهم مختلفة، وكذلك هم في دواعي الذم إذا عابوا. ولكن متى تعينت الوجوه التي بها يكون الحكم، ورجع إليها المختلفون، والتزموا الأصول التي رسمتها وتقررت بها الطريقة عندهم في الذوق والفهم فذلك ينفي أسباب الاختلاف لما يكون من معاني التكافؤ وخاصة المناسبة. ولهذا كان الشرط في نقد البيان أن يكون من كاتب مبدع في بيانه لم تفسده نزعة أخرى، وفي نقد الشعر أن يكون من شاعر علت مرتبته وطالت ممارسته لهذا الفن فليس له نزعه أخرى تفسده.

وما المجازات والاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية، إذ هي بطبيعتها تريد دائماً ما هو اعظم، وما هو اجل، وما هو أدق. وربما ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفاً وتعسفاً ووضعاً للأشياء في غير مواضعها؛ ويخرج من هذه انه عمل فارغ، وإساءة في التأدية، وتمحل لا عبرة به. ولكن فنية النفس والشاعرة تأبى لا زيادة معانيها فتصبح ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف احساسها، فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إلا تهيئة لهذه الزيادة في شعور النفس. ومن ذلك يأتي الشعر دائماً زائداً بالصناعة البيانية لتخرجه هذه الصناعة من أن يكون طبيعياً في الطبيعة إلى أن يكون روحانياً في الإنسانية. والشعور المهتاج المتفزز غير الساكن المتبلد، والبيان في صناعة اللغة يقابل هذا النحو، فتجد من التعبير ما هو حي متحرك، وما هو جامد مستلق كالنائم أو كالميت، وبهذا لا تكون حقيقة المحسنات البيانية شيئاً اكثر من أنها صناعة فنية لابد منها لأحداث الاهتياج في ألفاظ اللغة الحساسة كي تعطي الكلمات ما ليس في طاقة الكلمات أن تعطيه.

ص: 14

لقد تكلموا أخيراً في جناية الصحافة على الأدب. والصحافة عندي لا تجني على الأدب ولكن على فنيته، فلها من الأثر على سليقة البليغ وطبعه قريب مما كان لحوانيت البقالين في البصرة على طبع ذي الرمة وسليقته. وكلما قرب الصحافي من الصنعة وحقها على الجمهور بعد عن الفن وجماله وحقه على النفس، وهذا واضح بلا كبير تأمل، بل هو بغير تأمل. . .

مصطفى صادق الرافعي

ص: 15

‌نزع السلاح

للأستاذ محمد عبد الله عنان

سمعنا خلال الأعوام الأخيرة كثيراً عن مسألة نزع السلاح، وعن اللجان المؤتمرات العديدة التي عقدت في جنيف وغير جنيف لبحثها؛ ومنذ أسابيع يدور حديث نزع السلاح في جنيف مرة أخرى، وتعرض مختلف الاقتراحات والتصريحات. ولكن مؤتمر نزع السلاح يعقد هذه المرة في جو قاتم يفيض بالتشاؤم، وسير العلائق الدولية أشد ما يكون اضطراباً، والدول الكبرى أشد ما يكون رغبة في التسليح؛ وليس في مناقشات جنيف ما يؤذن بتفاهم الدول على أية قاعدة أو مبدأ، بل كل ما هنالك يدل بالعكس على أن مفاوضات نزع السلاح غدت مناقشات فقهية عقيمة، تستتر وراءها الدول لتؤكد من الوجهة النظرية نياتها السلمية، بينا هي تتسابق جميعاً في فتح الاعتمادات الحربية والاستزادة من التسليح سواء في البر أو الحر أو الهواء.

وقد كان رأينا دائماً، مذ بدأت أعمال مؤتمر نزع السلاح، أن هذه المناقشات الفقهية لا يمكن أن تؤدي إلى أية نتيجة عملية، وان الدول المتفوقة في سلاحها واهباتها الدفاعية لا يمكن أن تفرط في هذا التفوق مختارة، وان أساليب السياسة القومية لم تتغير كثيراً عما كانت علية قبل الحرب، وما زالت القوة المادية عمادها. ولقد انتهى مؤتمر نزع السلاح أحياناً إلى بعض نتائج عملية خيل للعالم معها أنه سائر إلى تحقيق الغاية المنشودة من عقده، ولكن هذه النتائج لم تتعد الاتفاق على بعض المسائل التمهيدية كأنواع الأسلحة ومعيارها، وتعريف بعض الهيئات العسكرية؛ وأسفرت المفاوضات بين الدول العظمى عن عقد معاهدة تحدد نسب التسليح البحري بينها؛ ولكن هذه المعاهدة لم تحترم ولم تنفذ، ولا تعتبر اليوم سوى قصاصة ورق لا قيمة لها. وقدمت إلى مؤتمر نزع السلاح اقتراحات رسمية عديدة لتخفيض التسليح، فكانت تقابل دائماً حين عرضها ومناقشتها بكثير من التأييد والحماسة، ولكنها لم تسفر عن أي اتفاق عملي.

كانت فكرة نزع السلاح من أجل الفكر التي ظهرت عقب الحرب في أفق السياسة الدولية، وكانت المنافسة في التسليح قد بلغت أثناء الحرب مدى هائلاً استنفد موارد الامم، وحطم، إنتاجها الزراعي والصناعي، وأرهقت من جرائه بصنوف المغارم والاعباء، واضطربت

ص: 16

أحوالها المالية والاقتصادية؛ فكان طبيعياً أن تفكر الدول الكبرى في وسيلة لتخفيف هذه المنافسة وتدارك آثارها المخربة؛ ولم تك ثمة سوى وسيلة واحدة لتحقيق هذه الغاية، هي اتفاق الدول فيما بينها على تحديد التسلح بطريقة تراعي فيها ظروف كل دولة وحاجاتها إلى السلامة والدفاع القومي؛ وظهرت هذه الفكرة في نفس الوقت الذي ظهرت فيه فكرة عصبة الامم، واتصلت بها حتى صارت بعد جزءاً منها، ثم أدمجت في ميثاق العصبة ذاته. وكان قيام عصبة الأمم رمزاُ لانتصار الدعوة إلى السلام والوئام بين الامم، والى تغليب التحكم والحسنى في فض المنازعات الدولية؛ وكان تحقيق فكرة نزع السلاح من أهم الوسائل العلمية لتحقيق المثل والأماني السلمية التي علقت على قيام عصبة الأمم. ويجب أن نعلم أن ميثاق العصبة هو قطعة من معاهدة صلح فرساي ذاتها، بل هو الفصل الأول من معاهدة الصلح؛ وفي هذا الميثاق ذاته يذكر مشروع نزع السلاح اكثر من مرة، باعتباره من وسائل تحقيق السلام بين الأمم. واليك النصوص التي وردت بشأنه في الميثاق:

نصت المادة الثامنة من ميثاق عصبة الأمم على (إن أعضاء العصبة يعترفون بان استتباب السلام يقتضي تخفيض التسليحات القومية إلى أدنى حد يتفق مع السلامة القومية، ومع تنفيذ التعهدات الدولية التي يفرضها العمل المشترك.

(ومجلس العصبة مع تقديره للمركز الجغرافي والظروف الخاصة لكل دولة، يعد برامج هذا التخفيض لتبحثه وتبث في شأنه الحكومات المختلفة.

(ويجب أن نبحث هذه البرامج من جديد، وأن تنقح إذا اقتضى الأمر في كل عشرة أعوام.

(ومتى وافقت عليها الحكومات المختلفة فان نسب التسليح التي تقررت على هذا النحو لا يمكن تخطيها دون موافقة مجلس العصبة).

(ولما كان صنع الذخائر وأدوات الحرب بصفة خاصة يثير اعتراضات خطيرة، فان أعضاء العصبة يعهدون إلى المجلس بان يتخذ الإجراءات اللازمة لتلافي نتائجه السيئة، مع مراعاة حاجات أعضاء العصبة الذين لا يستطيعون صنع ما يجب لسلامتهم من الذخائر وأدوات الحرب.

(ويتعهد أعضاء العصبة بان يتبادلون بمنتهى الصراحة والدقة، كل البيانات المتعلقة بنسب تسليحاتهم، وبرامجهم الحربية والبحرية والجوية، والظروف التي يمكن بها استخدام

ص: 17

صناعاتهم لأغراض الحرب).

تلك هي القواعد الأساسية التي أدمجت في ميثاق العصبة بشأن نزع السلاح أو تخفيضه. وقد نصت المادة التاسعة من الميثاق على إنشاء لجنة دائمة تمد العصبة بآرائها عن تنفيذ هذه القواعد وعن المسائل العسكرية والبحرية والجوية بصفة عامة. وهذه هي اللجنة الدائمة لمؤتمر نزع السلاح.

ونصت المادة الحادية عشرة على أن كل حرب أو خطر حرب يهم العصبة كلها، وعلى أنه يجب عليها في هذه الحالة أن تتخذ ما يجب لتأييد سلام الأمم؛ ونصت المادة الرابعة عشرة على إنشاء محكمة دائمة للعدل الدولي، وفصلت المادة الخامسة عشرة الإجراءات السلمية التي يجب اتباعها لتسوية المنازعات الدولية بين أعضاء العصبة.

هذا وقد ذهبت معاهدة الصلح في التنويه بنزع السلاح إلى ابعد من هذه النصوص النظرية، وأرادت أن تعطيه صبغة عملية، فقررت في ديباجة الفصل الخامس منها وهو الخاص بنزع سلاح ألمانيا (انه لكي يمكن أن يعد مشروع بتحديد عام لتسليحات جميع الأمم، يجب على ألمانيا أن تنفذ بمنتهى الدقة ما تقرر من النصوص العسكرية والبحرية والجوية) أو بعبارة أخري، جعلت معاهدة الصلح، نزع سلاح ألمانيا مقدمة عملية لنزع السلاح العام، تحذوها بعد ألمانيا جميع الدول الأخرى، والمفروض أن الدول الظافرة التي أملت شروط معاهدة فرساي، ونصت على نزع السلاح، ستكون في مقدمة الدول التي تقوم بتخفيض سلاحها

وكان مشروع نزع السلاح في مقدمة المسائل التي عنيت ببحثها عصبة الأمم؛ ففي فبراير سنة 1921، انتدب مجلس العصبة (لجنة مختلطة مؤقتة) للنظر في تخفيض التسليحات، ولكن هذه اللجنة الأولى لم تستطع أن تتخذ أية خطوة عملية لبحث المسألة؛ وكانت الدول الغالبة ما تزال متوترة الأعصاب بعيدة عن التفكير في النزول عن المراكز الممتازة التي دفعها إليها الظفر، وكانت بالعكس قد بدأت تتسابق في وضع البرامج العسكرية والبحرية الضخمة؛ فلم تر (اللجنة المختلطة المؤقتة) أمامها سبيلاً للعمل، وقدمت تقريرها إلى العصبة بأنه لا سبيل لوضع اى مشروع عملي لتخفيض التسليح ما لم تراع فيه الحاجات السلامة القومية بادئ بدء، ثم وضعت فعلاً مشروع ضمان وتعاون متبادل وافقت عليه

ص: 18

العصبة. ولكنها كانت خطوة نظرية أيضاً، وكان اسطع دليل على عبثها إقدام فرنسا في الوقت نفسه على احتلال وادي الروهر لإرغام ألمانيا على أداء تعويضات الحرب، وما قامت به يومئذ من المظاهرات العسكرية الضخمة. بيد أن الدول البحرية استطاعت أن تتخذ من جانبها خطوة عملية لتحديد التسليحات البحرية، إذ عقدت في واشنطون (سنة 1922) مؤتمراً بحرياً شهدته بريطانيا العظمى وأمريكا وفرنسا واليابان وإيطاليا، وعقدت فيها بينها ميثاقاً حددت فيه نسب التسليحات البحرية لكل منها؛ فكان لهذا الميثاق اثر كبير في تلطيف المنافسة البحرية بينها.

ولما هدأت أعصاب الأمم الغالبة نوعاً وسوي كثير من المشاكل التي خلقتها الحرب، واتخذت مسألة نزع السلاح أهمية خاصة، ولكنها قرنت يومئذ بمسألة القومية والتحكيم باعتبارها مسائل ثلاثة لا يمكن التفريق بينها. وكانت فرنسا دائماً من اشد الدول تمسكاً بالجمع بين المسائل الثلاثة. وأخذت عصبة الأمم بهذه النظرية، وانتهت إلى وضع بروتوكول جنيف الشهير (سنة 1924)، وفيه نص على مشروعية الحرب إلا في بعض الأحوال وعولجت مسألة السلامة ومسألة التحكيم؛ ولكنه رفض من جانب بريطانيا العظمى لأنه لم يعالج مسألة نزع السلاح، ونص من جهة أخرى على جعل عصبة الأمم هيئة دولية لرقابة التسليح نزولاً على النظرية الفرنسية؛ وفي سنة 1925 عقد ميثاق لوكارنو لتأمين منطقة الرين بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى وإيطاليا، وحلت بذلك مسألة السلامة القومية نوعا، ولكن الميثاق كان محدود المدى والاثار، ولم يتعرض بشيء لمسألة نزع السلاح. بيد أن عقده كان عاملاً كبيراً في صفاء الأفق الدولي، والتقريب بين ألمانيا والحلفاء، وبث روح من التفاهم بين خصوم الأمس لم تعرف منذ معاهدة الصلح.

وكان هذا التفاهم مشجعاً لعصبة الأمم على التقدم في معالجة مشكلة نزع السلاح، خصوصاً بعد أن انضمت ألمانيا إلى العصبة. ففي سنة 1926 انتدبت العصبة لجنة تمهيدية لتنظيم مؤتمر عالمي لنزع السلاح؛ وأنفقت هذه اللجنة جهوداً كبيرة في بحث المسائل الفنية المتعلقة بأنواع الأسلحة والذخائر وعدد الجيوش والجمعيات العسكرية. وبدئ منذ العام التالي بعقد مؤتمر السلاح الذي استمر يعقد كل عام مرة أو اكثر حتى يومنا. ومن المستحيل أن نتتبع في هذا المقام الضيق أعمال مؤتمر نزع السلاح خلال الأعوام الأخيرة،

ص: 19

فهي في الواقع أعمال ومفاوضات تسير في دور لا ينتهي. ويكفي أن نقول انه قدم إلى مؤتمر عشرات المشاريع من مختلف الدول لتخفيض التسليح أو نزعه، وبحثت مسألة السلامة وعدم الاعتداء مراراً ولقيت وعود وتصريحات لا نهاية لها من مختلف الدول، وفي كل مرة تنتهي الجهود والمفاوضات المستفيضة بالفشل المطلق، وفي كل مرة نشعر بحق أن مؤتمر نزع السلاح قد اختتم حياته. وانتهى مؤتمر نزع السلاح الذي عقد في لندن سنة 1930 إلى نتيجة ضئيلة هي عقد اتفاق جديد بين بريطانيا العظمى وأمريكا واليابان على تخفيض التسليح البحري في حدود معينة، أبت فرنسا وإيطاليا أن تدخلا في هذا الاتفاق لتمسك إيطاليا بالمساواة مع فرنسا، وتمسك فرنسا بتفوقها في نسب التسليح البحري.

وفي العامين الأخيرين دخلت مسألة نزع السلاح في دور جديد، وزادت تعقيداً وصعوبة، أولاً لان ألمانيا بعد طول التسويف في نزع السلاح رأت من حقها أن تطالب بالمساواة في التسليح بالاعتماد على نصوص معاهدة الصلح ذاتها إذ اعتبرت تجريد ألمانيا من السلاح مقدمة لنزع السلاح العام كما قدمنا، ومادامت الدول لم تقم بتعهداتها في هذا الشأن فمن حق ألمانيا أن تعود إلى تسليح نفسها كباقي الدول؛ وثانياً لان فرنسا ازدادت تمسكاً بنظريتها في جعل حل مسألة نزع السلاح متوقفاً على مسألتي السلامة القومية والضمان المتبادل بعدم الاعتداء. وقد اشتد الخلاف بين ألمانيا وفرنسا في العام الماضي إلى حد رأت معه ألمانيا أن تنسحب من عصبة الأمم ومن مؤتمر نزع السلاح حتى تجاب إلى وجهة نظرها. وبدأت ألمانيا بالفعل بتسليح نفسها رغم احتجاج فرنسا؛ ودبت روح جديدة من المنافسة بين الدول في تقرير الاعتمادات العسكرية وزيادة التسليحات؛ وحاولت إيطاليا وبريطانيا غير مرة أن تقوم كلتاهما بمهمة الوساطة وتذليل الخلاف بين فرنسا وألمانيا، فذهبت جميع الجهود سدى. وعقد مؤتمر نزع السلاح في خريف العام الماضي في جو قاتم يفيض بالتشاؤم، وظهر منذ المناقشات الأولى انه يستحيل أن يوفق المؤتمر إلى شيء جديد، فأجل ليتفادى الموت النهائي. وعقد هذا العام، منذ أسابيع قلائل، وعدنا نسمع الحوار العقيم بين مختلف المندوبين؛ وما زالت ألمانيا خارج المؤتمر، ومازالت فرنسا تؤكد إصرارها على تحقيق الضمانات المتعلقة بالسلامة القومية قبل اتخاذ أية خطوة في سبيل نزع السلاح.

ص: 20

لقد استمرت هذه الجهود والمفاوضات العقيمة في نزع السلاح أكثر من عشرة أعوام؛ وربما استمرت حيناً آخر. ولكن المحقق أن مؤتمر نزع السلاح صائر إلى موت لا ريب فيه، وانه لم يكن قط ابعد عن غايته مما هو عليه. ويرجع هذا الفشل قبل كل شيء إلى موقف فرنسا وألمانيا؛ فقد جردت ألمانيا من سلاحها طبقاً لمعاهدة الصلح وانتظرت أعواماً طويلة، وفرنسا وباقي الدول تجد في تسليح نفسها، ولم تتقدم أعمال مؤتمر نزع السلاح تقدماً يذكر؛ وكانت فرنسا بإصرارها خلال هذه الأعوام هي الصخرة التي تحطمت عليها كل الجهود التي بذلت في هذا السبيل؛ ولكن ألمانيا الهتلرية جاءت بسياستها العنيفة فزادت المسألة حرجاً وتعقيداً، وألفت فرنسا في تلك الروح العسكرية التي يبثها النظام الهتلري في ألمانيا، وفي تلك المظاهرات العنيفة التي تجري في ظله، وفي ذلك الوعيد الذي يلقيه زعماء ألمانيا الحاليين هنا وهناك، وما يبرر موقفها في التمسك بسياستها العسكرية والمطالبة بتأمين سلامتها ضد الخطر الألماني.

وهكذا بينما يمضي مؤتمر نزع السلاح في جدله العقيم، إذا بالمنافسة في التسليح بين الدول العظمى تبلغ ذروة الاضطرام، وإذا بسياسة المعاهدات السرية والعسكرية وتعود فتغدو سبيل التوازن الأوربي، وإذا بشبح الحرب يلوح بين آونة وأخرى.

محمد عبد الله عنان

المحامي

ص: 21

‌عتاب

بقلم محمد قدري لطفي

ليسانسييه في الآداب

كان النبي صلى الله عليه وسلم يود لو انهم اسلموا ليعتز بهم الإسلام، ويدعو الله أن يهبه من لدنه حكمة لعله يصرفهم عن الضلالة أو يجعلهم من المهتدين؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إسلامهم ملحاً فيه، لان أشخاصهم عند قريش مهيبة، وأسماءهم عند العرب رفيعة؛ فلما دخل عليهم وقد اجتمعوا عنده، حياهم فردوا عليه تحيته، مخلصين أو غير مخلصين، ثم اخذ مكانه بينهم، فكان صمت، وكان جلال رهيب، ولم يلبث أن سرى بين الجمع صوت مهيب، فيه قوة لأنه صوت الحق، وفيه إيمان لأنه وحي القلب؛ وكان الصوت متجهاً نحو عتبة بن ربيعة وأخيه، يقول: أما آن يا عتبة أن تدخل أنت وأخوك شيبة في دين الله؟ ما دعوتكما لأمري ولا لشيء هو من عندي، ونما دعوتكما لأمر الله رب العالمين؛ وهذا كلامه بين يدي فاستمعاه وأصغيا إليه لعله تعالى يهديكما فتكونا من عبادة المسلمين. ولكن عتبة وأخاه لم يلبثا أن جادلاه فجادلها، واخذ النبي منهما وأخذا منه، حتى إذا غلبهما الرسول بمنطقه وقوة حجته، لم يلبثا أن عقد الصمت لسانهما، فالتفت النبي إلى العباس بن عبد المطلب وكان مصغياً يستمتع إلى قوله لابني ربيعة، وقال له انك يا ابن عبد المطلب لو اهتديت بهدى الإسلام وانه من صناديد قريش لاهتدى معك جميع كثير، فلا تكونن بصدك عن دين الله حائلاً بين الناس والجنة، ولا تضربن لقريش مثلاً من الغي والضلال، فتضل وتضل، وأنت حري أن يكون لهم منك هاد معين. فلم يرفع العباس رأسه ولم تتحرك له شفتان، ونما ود لو أن النبي تركه إلى الوليد بن المغيرة أو إلى أمية بن خلف، فلما شعر النبي أن العباس حائر بين عقله وعاطفته، ورآه مطرقاً إلى الأرض، لم يلبث أن تحول عنه إلى أمية بن خلف، قال: يا أمية، ما كان لسادة الناس أن يكفروا بسيد العالمين، الله الذي فضلهم على عشيرتهم وذوي قرباهم، وما كان لك أن تكون لقومك قدوة سوء، لعمر الله ليس بعد الكفر ذنب، وما ينبغي لك أن ترغب عن دعوة الله وتصد قومك عن الدين بإعراضك عنه. قال يا محمد أمهلني يوماً أو بعض يوم، فان الأمر اعسر عندي من يسره لديك. واتجه الرسول إلى أبي جهل بن هشام وكان يجلس بجوار الوليد بن

ص: 22

المغيرة، فقال لهما وقد دنا منهما: أيحق لكما أن تسبقا الناس في الدنيا حتى إذا كانت الآخرة كنتما آخر الناس عند الله؟، الله ما لكما في آلهتكم غناء، وما كنتما لتجعلا رضى الشيطان في عصيان الله. ولكن أبا جهل لم يكن ليصبر كما صبر العباس، أو يسكت كما سكت، ونما جادل النبي في عنف، فجادله النبي في لين، وآثر أبو جهل الحدة، ولم يكن النبي ليتحد. واتجه الرسول إلى القوم جاداً في دعوتهم، ملحاً في اقناعهم، يمنعهم بالوعود يوم الدين، ويحذرهم عاقبة الكفر يوم القامة، وأخذ النبي يفيض عليهم من بيانه، ويشع على القوم قبساً من إيمانه، حتى أقبل الكل عليه يستمعون له ويصغون إليه، وبينما النبي يدعوهم فينصرف إلى الدعوة بكل إيمانه، كان يسعى إليه رجل يتوكأ على عصاه يتحسس بها الطريق إليه حتى إذا بلغ مجلس النبي لم يستمع إليه ولم يلق بالا إلى قوله، ولم يدر أن النبي يدعو صناديد قريش إلى ما دعا الله، ونما بادر النبي يسأله أن أيقرئني وعلمني مما علمك الله؛ وكان النبي عنه في شغل، وكان ضيوف النبي قد تلهوا عنه بما هم فيه، فلم يلتفت إليه أحد، ولم يرد عليه مجيب؛ فقال أقرئني وعلمني مما علمك الله، فلم يكن حظه في الثانية خيراً منه في الأولى، والرجل واقف في مكانه لا يريم، ملح في طلبه لا يسأم، فأخذ يعيده، وطفق يكرره، حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه الحديث، وأي حديث، أو يلقى عليه قول ولما ينتبه من قوله، فعبس في وجه الرجل وأعرض عنه، ولم يلبث النبي أن انصرف القوم من عنده، فيهم الذي أوشك أن يقتنع، وفيهم الذي مازال متبرماً بالدعوة ساخطاً، وفيهم الذي ينكر على الرسول قوله، وفيهم الذي يحب أن يتريث في الأمر فلا يقطع فيه برأي؛ وكان النبي قد ظن انه بالغ منهم في يومه ما لم يبلغه في أمسه، وانه لابد اليوم مقنعهم حتى يسلموا، فلم يدر بعد ذهابهم ماذا اخذ عليه نفسه وقد كانت معه وله؟ ولا كيف ضاق صدره وقد كان واسعاً لا يضيق بشيء ولا يتبرم بسوء؟ وشعر النبي بحرج لم يدر ما هو ولا من أين اتاه، فقد كان عند أمر ربه يؤدي الرسالة في صدق وأمانه، لم يدع سبيلاً لهداية القوم إلا سلكها، أو باباً إلى قلوبهم الغليظة إلا طرقه؛ ولم يلبث النبي إذ خلا لنفسه أن أحس بما يحس به حين يريد الله أن يبعث إليه بحديث أو ينزل عليه شيئاً من آية، وإذا الوحي له لا للمسلمين، وإذا القول له لا للمشركين، وإذا الله عاتب عليه يقول انه:(عبس وتولى أن جاءه الأعمى) ويقول له (وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى،

ص: 23

أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى) وإذا ربه يلومه ويقول في لومه (وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى، كلا إنها تذكرة). عند ذلك ذكر النبي قوم قريش وما كان بينه وبينهم من حديث، وهتف هاتف كأنه عمرو بن قيس يقول: أقرئني وعلمني مما علمك الله، وتصور النبي حال الرجل يسأل وليس من مجيب، ويقف وليس من يأذن له بالجلوس؛ ولكنه لم يكن يدري انه أساء إلى الرجل أو قصد إلى إساءته، فليس النبي من يسيء إلى أحد، وليس النبي من يصد عن الناس بله عن السائلين، ونما شغله أمر ربه فاشتغل عن عمرو واقبل على سادة قريش، فألهاه حرصه على إسلامهم وهم كفرة عمن اسلم، ونما يريد أن يقرأ وأن يستزيد من العلم. وبات النبي ليلته مسهد الجفن قلقاً، يفكر فيما سمع من ربه، وفيمن عبس بالأمس في وجهه، واعرض عنه، حتى إذا طلع الفجر كان النبي يلتمس ابن أم مكتوم يلقاه هاشاً باشاً، يسلم عليه ويشد على يده ويقول له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي؛ وكان النبي يلقاه بعد ذلك فيكرمه ويسأله حاجته، وكأنما أراد الله أن يصبح إعراض النبي عنه إقبالاً عليه، وان يغدو عبوس النبي في وجهه بشاشة له وارتياحاً للقائه، وإذا عمرو ابن قيس مؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا عمرو بن قيس خليفة رسول الله على المدينة، لم يستخلفه النبي عليها مرة أو مرتين، ونما استخلفه عليها في غزواته ثلاث عشرة مرة، وإذا النبي يخرج إلى الحجة الوداع فلا يستخلف على المدينة إلا عمرو بن قيس. وكان حقاً قول المصطفى: أدبني ربي فاحسن تأديبي

محمد قدري لطفي

ص: 24

‌استدانة إسماعيل باشا

(1863 م - 1879 م)

بقلم عبد العزيز عبد الكريم

إن ما قام به إسماعيل باشا من جليل الأعمال لا يضارع، وما تم في عصره من المشروعات والإصلاحات العامة لا يتسنى لأي حاكم آخر في مركزه أن يأتي بمثلها. بيد أن خطأ إسماعيل باشا كله يرجع إلى السرعة وتعدد المشروعات، وفرط الثقة بدهاة أوربا السياسيين والماليين، وعدم الاحتياط في الإنفاق على الأعمال، وخلو البلاد من المستشارين المخلصين.

أسباب الاستدانة:

كانت زيادة الثروة في البلاد في أوائل حكم إسماعيل بسبب ارتفاع أثمان القطن المصري لنشوب الحرب المدنية في أمريكا في ذلك الوقت أول عامل على تشجيع الوالي في سياسته، فعقد قرضاً كبيراً لتوهمه أن الحرب ستستمر طويلاً، ولكن الحرب وقفت فجأة في عام 1865م. ولم يقف إسماعيل باشا عند هذا الحد بل أخذ يعقد القرض بعد القرض، بشروط فادحة حتى عجز عن سداد الدين بل عن فوائده التي بلغت الخمسة أو الستة ملايين من الجنيهات في العام.

وكان إسماعيل يجد من أوربا التشجيع في سياسة الاقتراض طمعاً في ثروة مصر، ولأن كبار الماليين كانوا يبحثون عن البلاد الصالحة لاستثمار رؤوس أموالهم فيها، فوفد الكثيرون منهم إلى الإسكندرية في أوائل حكم إسماعيل، وأسسوا فيها الشركات، واخذوا يتصلون بالوالي، ولجأ كثير من الأجانب في ذلك الوقت إلى مصر لطلب الرزق، وقد أخذت مصالح الأوربيين تنتشر في مصر من ذلك الوقت.

وبعد أن فتحت قناة السويس التي أصبحت أهم طريق للمواصلات بين الشرق والغرب وظهرت مطامع إنجلترا وفرنسا الاستعمارية نحو مصر، فأخذتا تتنافسان في استغلال مصر وامتلاكها

وكان إسماعيل مسرفاً في الواقع، فكان ينفق الأموال الطائلة في إكرام الضيوف الأوربيين،

ص: 25

والهدايا، والقصور، والحفلات وغير ذلك؛ ولكنه انفق معظم الأموال التي حصل عليها في الإصلاحات، وكان إسماعيل سليم الطوية، على حين أن دهاة أوربا كانوا ينصبون له الحبائل بطرق غير شريفة.

ديون إسماعيل باشا:

كانت ديون إسماعيل ثابتة وسائرة؛ فالثابتة هي القروض المحدودة التي عقدها في بنوك إنجلترا وفرنسا، وقد بلغت حتى عام 1868م نحو 20. 000 ، 000 من الجنيهات، وتراكمت عليه الديون السائرة الصغيرة المستحقة الدفع، فكان يجددها بفوائد باهظة حتى بلغت ثلاثة أو أربعة أضعاف المبلغ المقترض.

وفي عام 1868م ابتدأت الحكومة تتوقف عن دفع مرتبات الموظفين، فأخذ مركزها المالي يتزعزع، وكانت الضرائب تجبى مقدماً، فساءت أحوال البلاد، فأصدر الباب العالي في تلك السنة فرماناً يحرم تقديم أي قرض إلى مصر بدون استئذان الحكومة التركية، لكن إسماعيل عقد سلفة جديدة برهن إيرادات أملاكه الخاصة ومقدارها 7 ملايين من الجنيهات بفائدة 13 % فاحتج الباب العالي على ذلك لدى الحكومة الإنجليزية.

واستمرت الحكومة في عقد القرض إلى ان اقترح إسماعيل صديق (المفتش) وزير المالية في عام 1868م فكرة (المقابلة) وكان المقصود منها أداء ديون الحكومة كلها، وذلك بان يقوم الأهالي بدفع ضرائب ستة أعوام مقدماً نظير إعفائهم من نصف الضريبة بصفة دائمة. فحصلت الحكومة على 8. 000 ، 000 من الجنيهات ولكن الدين الثابت بلغ في ذلك الوقت 27. 000 ، 000 من الجنيهات؛ ولشدة حاجة الحكومة إلى المال الوفير لسداد بعض الديون عقدت سلفة جديدة تبلغ 4. 000. 000 من الجنيهات.

وسافر إسماعيل باشا إلى الأستانة وحصل من الباب العالي في عام 1872م على فرمان خول له حق عقد القروض بدون قيد ولا شرط، فرجع الوالي إلى مصر فوجد الحكومة في ضائقة شديدة فعقد سلفة مع أحد البيوت المالية الإنجليزية مقدارها 32. 000 ، 000 من الجنيهات بفائدة 8 %.

وقد باعت الحكومة المصرية أسهمها في القناة بثمن بخس لإنجلترا، وكانت هذه الصفقة اكبر غلطة سياسية ومالية ارتكبها إسماعيل باشا في حياته.

ص: 26

بعثات حكومات أوربا:

(1)

بعثة كيف: وبعد مضي أيام قليلة على شراء الأسهم تألفت

لجنه إنجليزية برئاسة (كيف) لدرس الحالة المالية في مصر

في عام 1876م، وكان هذا العام بدء التدخل الفعلي في مصر

وإرسال البعثات المختلفة التي كان الغرض منها إصلاح

الإدارة بوضعها تحت المراقبة الأوربية ضماناً للدائنين.

وقد اقترح (كيف) توحيد الديون المصرية كلها على أساس فائدة معتدلة تتناسب وحالة البلاد، وتأجيل الاستحقاقات لخطورة الحال، ووضع الإدارة المالية تحت رقابة أحد رجال المال الإنجليز في ذلك الوقت، ولكن إسماعيل لم يوافق على هذا النشاط الأخير واتفق مع الماليين الفرنسيين واصدر في مايو مرسومين بإنشاء (صندوق الدين العمومي) وتحويل جميع الديون السائرة والثابتة إلى دين موحد بفائدة 7 %؛ وقد عين في صندوق الدين مندوبون عن الحكومات الفرنسية والنمساوية والإيطالية.

(2)

بعثة جوش: وقد امتنعت الحكومة الإنكليزية عن تعيين

مندوب لها، وعارضت المشروع في بادئ الأمر، ثم تم الاتفاق

على إرسال بعثة مؤلفة من (جوش) ممثلاً للدائنين الإنكليز

و (جوبير) ممثلاً للدائنين الفرنسيين لإجراء تصفية عامة،

واصطحب تلك البعثة سياسيون من ذوي الخبرة لتمثيل

إنجلترة وفرنسا في مصر، ووضع قواعد المراقبة الثانية

(كوندومنيوم).

ص: 27

وقد كانت أهم نتائج بعثة (جوش - جوبير) المالية إيجاد دين ممتاز قدرة 17. 000 ، 000 من الجنيهات بفائدة 5 % وتخفيض الدين الثابت إلى 59. 000 ، 000 من الجنيهات بفائدة 7 % فأصبح مجموع ما يدفع من فوائد الدين سنوياً لا يبقي لمصر من الإيرادات ما يكفي للأنفاق على الإدارة وتعهد الأعمال الهامة مثل الري وغيرها التي هي عماد الثروة في البلاد.

أما نتائج البعثة السياسية فتتلخص في نظام المراقبة الثانية (الكوندومنيوم) الذي يشكر إنجلترا وفرنسا في إدارة مصر على الوجه الآتي:

(أولاً) بتعين مراقبين إنجليزي وفرنسي عامين للمالية المصرية.

(ثانياً) بتعيين مندوبين من الأجانب للدين العام تعرض أسماءهم الحكومات الأجنبية على الحكومة المصرية، وتنحصر مهمتهم في تسليم إيرادات الجهات المرهونة ضمانة لسداد أقساط الدين السنوي من يد مراقب الإيرادات العام، وتسليمها لبنكي إنجلترا وفرنسا، واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستهلاك ذلك الدين.

(ثالثاً) بتعيين مندوبين آخرين لإدارة مصلحتي السكك الحديدية وميناء الإسكندرية، مصريين وفرنسي وإنجليزيين تحت رياسة العضوين الإنجليزيين. وتنحصر مهمتهم في تسليم إيرادات هاتين المصلحتين إلى مندوبي الدين العام وذلك علاوة على الأشغال الإدارية.

(3)

بعثة ريفرس ولسن: ظلت إدارة البلاد وأحوالها وماليتها

في ارتباك مستمر، وعمت الشكوى فطلب إسماعيل باشا

إرسال بعثة جديدة فأصدر في عام 1878م مرسوماً يقضي

بتعيين (لجنة للتحقيق) تحت رياسة المسيو دي لسبس لفحص

الحالة المالية فحصاً دقيقاً، وفوض لهذه اللجنة السلطة المطلقة

لإجراء ما تراه كفيلاً لتحقيق الغرض الذي أنشئت من اجله.

ص: 28

وقد تألفت هذه اللجنة وكان وكيلاها السير ريفرس ولسن ورياض باشا وأعضاؤها مندوبي الدول الأربعة في صندوق الدين، وكان رئيسها الفعلي ريفرس ولسن. وقد رفعت اللجنة تقريرها التمهيدي إلى الخديو وطلبت أن تدفع إلى الموظفين مرتباتهم، وختمت تقريرها بقولها (إن الحاكم الأعلى يتمتع بسلطة لا حد لها).

وبناء على ذلك كلف إسماعيل بتكوين وزارة مسئولة، فأصدر مرسوماً في 28 أغسطس عام 1878م بتأليف وزارة برياسة نوبار، وريفرس ولسن في المالية، ودي بلينيير المراقب المالي الفرنسي في الأشغال.

وألغيت المراقبة الثنائية التي قام عليها (الكوندومنيوم)، وضمنت إنجلترا لنفسها النفوذ الأول في الوزارة الجديدة، وبذلك انتقل الحكم المطلق من إسماعيل إلى الأجانب أو إلى السير ريفرس ولسن وزير المالية الإنجليزي.

وقد واصل ولسن خطة إسماعيل فعقد قرضاً جديداً مع بيت روتشلد مقداره 8. 500. 000 من الجنيهات بضمانة أملاك الخديو، واستخدمت الوسائل القديمة في جباية الضرائب، فعم البؤس البلاد. وأخذ السير ريفرس السير ولسن يفكر في تسوية الدين بطريقة نهائية بعد أن تحققت أغراض السياسة الإنجليزية، وانتزع السلطة من يد الحاكم الشرعي؛ فاقترح على إسماعيل إعلان إفلاسه وتأجيل دفع بعض الديون وتخفيض الفوائد الفادحة إلى 5 % بيد أن هذا الحل جاء بعد ما ساءت أحوال البلاد وتدخل الأجانب في شؤون المصريين، فثارت حمية القومية في نفوس المصريين، واضطر إسماعيل إلى المقاومة فعز الوزارة الأوربية في عام 1879م، وعين وزارة وطنية بحتة برياسة شريف باشا.

وقد اشترك إسماعيل باشا مع نواب الأمة في وضع خطه مالية جديدة، وكانوا هم الضامنين لها، ولكن الدول لم تغفل عن هذه الإهانة، فسعت لدى الباب العالي إلى أن تمكنت من عزل إسماعيل في عام 1879م.

وكان من الممكن حل الأزمة المالية بوضع الإدارة تحت رقابة مالية أو أوربية كما حصل عند إنشاء صندوق الدين؛ ولكن طمع إنجلترا وفرنسا أدى إلى تحويل المسألة المالية إلى مسألة سياسية وحال دون انفراج الأزمة. وختمت الكارثة بقانون التصفية في عام 1880م والاحتلال في عام 1882م.

ص: 29

إسكندرية

عبد العزيز عبد الكريم

ص: 30

‌مشروع القرى

الأمية في مصر والعالم

للأستاذ محمد مظهر سعيد

أستاذ علم النفس بمعهد التربية وكلية أصول الدين

الأمم كألافراد، تقاس مدنيتها ومبلغ رقيها وتقدمها بمقاييس معقولة، لعل اصدقها حكماً وأصحها نظراً - وإن كان أقساها وأبعدها عن التحيز - مقياس الأمية. ولا أخال فرداً واحداً من أبناء النيل المخلصين لبلادهم، الذين لم تفسد النزعة الوطنية الجانحة حكمها على الأشياء، وتقديرهم للظروف، يكاد ينكر أن مصر على الرغم مما بلغته من الرقي المطرد في عصرها الحاضر الزاهر، وأخذها بجميع أسباب المدنية في العالم لا يزال ينظر إليها بغير العين التي نرضى أن ينظر لبلادنا بها، مادامت وصمت الأمية عالقة بجبينها، وظل الجهل مخيماً على السواد الأعظم من أهلها.

ولقد أصبحنا الآن في زمن يشعر فيه الرجل الذي لا يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب - مهما كان نابهاً مستنيراً واسع الخبرة والاطلاع - أنه تحت رحمة المتعلم، بل هو قدي يكون في اغلب الأحيان تحت رحمة الطفل الصغير في الكتاب الذي لا يستطيع أن (يفك الخك) إلا في صعوبة وعسر؛ فإذا أراد أن يحرر خطاباً لأحد أقاربه أو معارفه في جهة بعيده، أو يكاتبهم في مسألة هامة لا قبل له بتأجيلها إلى زيارة أو مقابلة فيتحدث عنها شفوياً، أو إذا أراد أن يحسب حسبة بسيطة مستعجلة كبيع القطن أو المحصول، أو تحرير مستند هام يضمن له حقوقه، أو الرد على إشارة من المركز أو العمدة، وجده نفسه مضطراً إلى ارتكاب الصعب، وإراقة ماء الوجه في استعطاف من يستطيع أن يقوم له بهذه الخدمة البسيطة من أهل القرية، ويكافئه عليها بما يزيد على قيمتها من اجر أو كلمات الشكر على الأقل. ولذلك يشعر رجال القرية جميعهم بأنهم مدينون بالشكر طول حياتهم لفقيه الكتاب، أو مأذون القرية، أو كاتب المحكمة، أو المجاور الأزهري القديم، أو غيرهم ممن يقضون لهم هذه الحاجات ولو بلغة ركيكة وعبارة سقيمة. فإذا انتقل من هذه الأمور البسيطة إلى أمور اشد خطراً واعظم قيمة، كتحرير عقد بيع وتسجيله، والإطلاع على منشورات

ص: 31

الداخلية وأوراق الانتخابات، وتعليمات وزارة الزراعة عن الطيور والحشرات، ونشرات مصلحة الصحة عن الأمراض المتفشية وطرق مكافحتها. كانت المهمة اشق، وإراقة ماء الوجه اشد، والمكافأة المالية اكبر. وكثيراً ما يدفع الفلاحون - بل قل العمد والمشايخ - الجنيهات الكثيرة في هذه الأزمة الطاحنة أجراً للكاتب العمومي، أو مندوب المحضر الذي يقوم بتحرير محضر البيع، أو العقد، أو الشروط الوقفية؛ على ما في هذا كله من خطر كبير. فقد يحدث أن يكتب الكاتب شيئاًغير الواقع، أو يزور في العقد شيئاً لمصلحة الخصوم، فيشتري الرجل عقاراً غير موجود، أو حقلاً تقل مساحته عن المساحة الأصلية بكثير. والرجل مسكين يقبل هذا في حينه بالبركة، ثم يضع الختم أو يبصم ولا تنكشف له الحيلة إلا بعد أن يكون العقد قد استوفى سائر الإجراءات القانونية التي تجعل مطالبته بحقه أمام الناس والمحاكم أمراً عسيراً. ناهيك عن العلم بالمخترعات وما جريات الامور، وتتبع الحوادث وتذوق طعم الفن والأدب، مما يجعل رقي الأمة حقيقة ملموسة.

ويكفي أن ندلل على أهمية تثقيف الأمة، وان الجهود التي تبذل في هذا السبيل مهما كانت جبارة ومضنية ومستنفذة لمالية الدولة، ومهما كانت العقول جامدة، والقرائح مطموسة، والشعب نفوراً بطبيعته من التعليم؛ لا يمكن أن تذهب سدى، ولا بد أن تأتي آكلها بعد حين. أنا نذكر المصريين بان الأمم لا تقاس ثروتها بمقدار ما يملكه أغنياؤها من مال، ونما بمقدار نصيب كل فرد من أفرادها عامه وخاصة من هذا المال ومن الثروة القومية، فهي كذلك من الناحية العلمية لا تقاس ثقافتها ومدنيتها ورقيها بعدد من فيها من كبار المتعلمين، ونما بمقدار ما ينال كل فرد من أفرادها من مجرد التعليم الأولى. فالأمة التي يحسم كل أبنائها مجرد فك الخط هي افضل من المستوى الاجتماعي الدولي، وأرقى حضارة وأسرع تقدماً، واجدر بالاعتبار من أمة عشرها علماء وتسعة أعشارها أميون.

فلا عجب إذا تسابقت الأمم القوية الناهضة في سبيل تعميمه لكل أبنائها وإجبارهم عليه بالقانون من بدء طفولتهم، وتسهيل سبل تحصيله إلى آخر مراحله، وأرقى درجاته للنابهين الممتازين من أبناء العامة والدهماء من غير أن تكلفهم شيئاً، أو تثقلهم بالنفقات، ولو استنفذت جل مواردها ومخصصاتها. وما على المتشكك إلا أن يلقي نظرة واحدة على جدول الأمية في العالم، وان يقابل بين نصب الأمم الأخرى التي كنا نحسب أنفسنا ارقي

ص: 32

منها تعليما وأسرع منها تقدما. ناهيك بالأمم العظمي كإنجلترا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة واليابان وإيطاليا التي محت أو كادت تمحو وصمة الأمية عن جبينها، فتحكم الأرقام الناطقة الصادقة علية وعلى حكما لا يرضاه، ويكفيه أن يعرف أن مصر ذات المجد الأثيل والتاريخ المجيد النبيل قد دار بها الزمن دورته، فأصبحت في القرن العشرين اقل شأناً وأبطأ تقديماً من شيلي وجبل طارق وارجنتينا وباراجواي وتركيا وحتى كوبا واليونان وسيام. ويهوله الأمر إذا قارن نسبة التلاميذ في مصر إلى من هم في سن التلمذة وهي (12. 4 %) بالسويد وهي (98 %) وتشيكوسلفاكيا وهي (60 %) وحتى بلغاريا وهي (31) واليونان وهي (31 %) وكولومبيا وهي (17) والبانيا وهي (25 %).

ولا ضير علينا من اتخاذ نسبة التلاميذ دليلاً على الأمية مادامت نسب الأميين ذاتهم في ممالك العالم المختلفة تعوزنا.

إحصائيات التعليم العالم

الدرجة

البلد

نوع التعليم

سن التعليم

عدد السكان

عدد التلاميذ

عدد في سن التلمذة

النسبة لسن التلمذة

النسبة لعدد السكان

1

الدنمارك

م ج

6 -

14

3.

441

ص: 33

758

23 %

2

كندا

م

9.

504

2.

052

3.

000

68

21

3

هولنده

ج

7 -

16

6.

865

1.

346

2.

377

58

20

4

ارلنده

م ج

6 -

14

3.

000

547

ص: 34

920

58

18

5

تشيكوسلوفاكيا

م ج

6 -

14

14.

000

2.

400

4.

000

60

17

6

لكسمبورج

261

43

70

61

16

7

النرويج

ج

7 -

14

2.

650

418

ص: 35

904

46

16

8

سويسره

م ج

6 -

15

3.

891

610

1.

083

57

16

9

إسبانيا

م ج

6 -

14

21.

000

3.

152

15

10

شيلي

م ج

3.

754

570

15

ص: 36

11

جبل طارق

ج

5 -

14

17

3 ب

15

12

النمسا

م ج

6 -

14

6.

536

866

1.

533

51

14

13

ارجنتينا

م

6 -

14

مليون 10

ألف 1. 204

14

14

بولنده

ص: 37

م ج

7 -

14

29.

249

3.

586

12.

000

30

12

15

بلغاريا

م ج

7 -

14

5.

484

667

1.

751

31

12

16

باراجواي

ج

7 -

14

800

89

11

17

السويد

ص: 38

ج م

7 -

14

6.

000

705

725

98

11

18

تركيا

م ج

7 -

14

13.

000

1.

331

11

19

مالطة

م

225

22

10

20

بلجيكا

ج

6 -

14

7.

812

ص: 39

833

1.

953

43

10

21

لاتفيا

1.

845

199

550

36

10

22

كوبا

م ج

6 -

14

3.

470

320 ب

9

23

كوستاريكا

م ج

498

42 ب ت

8

24

ص: 40

اليونان

ج

6 -

10

6.

600

532

1.

718

31

8

25

بناما

ج

7 -

15

442

35

8

26

بوراجواي

ج

5 -

14

1.

678

129

8

27

اسلننده

م ج

ص: 41

10 -

14

954

7

7.

3

28

المكسيك

م ج

6 -

12

14.

131

975

7

29

الصرب

م ج

12.

000

856 ب ت

7

30

سيام

م ج

9.

831

617

6

31

مصر

ص: 42

م ج

14.

178

842

6.

775

12.

4

5.

7

32

لتوانيا

م ج

7

2.

230

124

650

19

5

33

كولومبيا

7.

000

361 ب

2.

168

17

5

34

اكوادور

م ج

ص: 43

6 -

12

2.

000

109

5

35

جواتمالا

م ج

6 -

14

2.

000

97

758

13

4.

5

36

رومانيا

م ج

7 -

15

17.

393

738

4.

3

37

البرازيل

م

31.

000

1.

270

ص: 44

4

38

البوغاز

ج م

961

40

4

39

ملقا

ج

1.

147

61

349

18

3.

7

40

البانيا

م

6 -

14

850

32

125

25

3.

6

41

ص: 45

الكونغو

8.

000

265

2.

550

10

3.

5

42

سلفادور

ج

7 -

14

1.

582

49

3.

1

43

البرتغال

م

7 -

15

6.

000

183

3

44

الهند

319.

000

9.

600

123.

000

ص: 46

7.

8

3

45

بوليفيا

ج م

ب

3.

660

84

2.

6

46

هايتي

م ج

2.

500

48

2

47

بيرو

م ج

7 -

14

6.

000

107 ب

1.

5

48

الصين

343.

000

ص: 47

4.

000

1.

2

49

ليبريا

ج

1.

750

9

12

(ج) تعليم إجباري. (م) مجاناً. (ب) ابتدائي. (ث) ثانوي. (و) متوسط.

هذه الحقائق الملوسة هي التي جعلت جماعة مشروع القرى يؤمنون بأن التعليم هو أس التقدم وسبيل الرقى، وكل ما عداه ثانوي لاحق. وأهابت بهم أن يجعلوا نداءهم فوق كل نداء، وعملهم الزم لمصر من كل عمل، فقاموا زرافات ووحدانا منظمين ومتطوعين يحاربون الأمية في القرى بكل ما لديهم من حول، وما يستطيعون من سبل، وأيدهم الله بروح من عنده، وثبت أقدامهم في جهادهم، وقوى ايمانهم، وانجلت تجربتهم الأولى في صيف العام الماضي عن تعليم أربعين ألفاً من القرويين، ردهم المتطوعون إلى حظيرة النور، واخذوا بيدهم في سبيل الحياة. وها نحن أولاء نوطن النفس على أن نتعاون مع وزارة المعارف في جهادها العظيم لنشر التعليم الإلزامي، والعمل معها جنباً لجنب تاركين لها من هم في سن التعليم مركزين جهودنا فيمن فاتتهم الفرصة من البالغين. ولكن سيل الأمية جارف وتيارها قوي في أمة كمصر فيها من الذكور البالغين الأميين ممن تجاوزا التاسعة عشرة وفاتوا سن التعليم 79 % أي حوالي 2. 853 مليون من مجموع الذكور البالغين 3. 585 ناهيك بالبنات والنساء الأميات اللاتي لم ندخلهن في حسابنا هذا. تصور بعد مراجعة جدول الأمية في محافظات القطر المصري ومديرياته مبلغ ما سيجده مشروع القرى من صعوبات جمة وما يحتاج إليه من جهود جبارة في مكافحة الأمية في مديرية كأسوان تبلغ فيها نسبة الأمية بين الذكور 91 % وأسيوط 90 % وجرجا وقنا وغيرها.

ولا يحسبن أحد أن انتشار التعليم الإلزامي سينجح وحده في قطع دابر الأمية في عشر

ص: 48

سنوات لان المدارس محدودة وعدد الذكور كثير. أو، ن التوسع في سياسة التعليم في مراحله الأخرى يخفف الوطأة. فجملة التلاميذ الآن 655 ألفاً من الذكور أي حوالي 27 % من مجموعة الأحداث الذين في سن التلميذة من 5 - 19. البالغ عددهم 2. 487 مليون والمدارس الأولية بأنواعها فيها 470 ألفاً. وسينضم المتخلفون من الأحداث الذين لا تتسع لهم مدارس التعليم الإلزامي عاماً بعد عام إلى مجموع البالغين الأميين مادامت قد فاتتهم فرصة التعليم. ودليلنا على ذلك انه مع ارتفاع نسبة الأمية في مصر وعلى الرغم من التوسع في إنشاء المدارس فقد زاد تلاميذ المدارس من جميع أنواعها 18735 تلميذاً في مدى أربع سنوات من سنة 1927 إلى سنة 1931. خص التعليم الإلزامي منهم 7370 تلميذاً وتلميذة فقط أي نسبة 1. 5 %.

(جدول تعداد الذكور الأميين من سن 19 فما فوق)

المنطقة

عدد الذكور

عدد الملمين بالقراءة والكتابة

عدد الأميين

نسبة الأميين للذكور

القاهرة

321786

152110

169676

53 %

الإسكندرية

168766

85159

83607

50 %

ص: 49

القنال

38353

13425

24928

66 %

السويس

13320

5696

7624

57 %

دمياط

8378

896

7282

87 %

الحدود

29826

3712

26114

87 %

مديريات الوجه البحري

البحيرة

220696

42126

178570

ص: 50

81 %

الدقلية

250112

55630

194482

71 %

الشرقية

242836

51677

191159

78 %

الغربية

409485

80592

328873

80 %

القليوبية

143893

25697

118196

82

المنوفية

278397

51286

227101

ص: 51

72 %

مديريات الوجه القلبلي

اسوان

60755

5150

55605

91 %

اسيوط

281251

27083

254188

90 %

بني سويف

131498

18358

113140

87 %

جرجا

239871

23651

216220

90 %

الجيزة

152692

19768

ص: 52

132924

85 %

الفيوم

141542

32830

108892

77 %

قنا

230630

22371

208259

90 %

المنيا

221485

35450

186035

84 %

الجملة العمومية

3.

584. 983

732061

2.

852. 922

79 %

فإذا أضفنا مجموع الأميين من الذكور البالغين (سن 19 فما فوق) وعددهم 2. 853 مليوناً إلى المتخلفين عن المدارس من الأحداث (سن 5 - 19) وعددهم الآن 1. 823 مليوناً وما يستجد عليهم ممن لا تتسع لهم مدارس التعليم الإلزامي من الأحداث الذين تقل سنهم عن

ص: 53

خمس وأسقطنا من يموتون هؤلاء يكون لدينا على اقل تقدير خمسة ملايين من الذكور البالغين الذين يحتاجون إلى معونة مشروع القرى، فإذا صحت النية على قطع دابر الأمية في مصر بين الذكور البالغين في سن 15 سنة ولا أقول عشر أو سبع سنوات يكون لدينا في كل عام حوالي 300 ألف قروي يحتاجون على اقل تقدير إلى 15 ألف متطوع من التلاميذ المدارس الثانوية والعالية والأزهر وغيرهم ممن يهمهم مستقبل مصر وسمعتها يعلم كل منهم عشرين قروياً.

فلا عجب إذا رفعنا صرختنا عالية داويه في القطر من أقصاه إلى أقصاه نطلب المتطوعين.

فيا أيها المصريون المخلصون لبلادهم. المعترفون بما لها عليهم من جميل. العارفون مالها في أعناقهم من دين بادروا بالتطوع. وسارعوا إلى سداد الدين. يرده الله لكم أضعافاً مضاعفة

وما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط.

ملاحظة: إحصائيات التعليم في مصر استقيتها من الأرقام التي أمكنني الانتفاع بها من إحصاء سنة 1927م وهو الأخير. ولذلك حرصت على أن تكون أرقام الأمية في العالم من إحصاء 1927م أو يقرب منها لبلاد العالم حتى تكون المقارنة صحيحة على قدر الإمكان.

ص: 54

‌مشروع القرى

روح الاجتماع تدعو إليه فيلبيها الشباب

للأستاذ محمد فريد وجدي

ما تمخضت أفكار المصلحين بشيء اكبر اثراً، واجل خطراً، تمخضها بمشروع تعليم أهل القرى بوساطة النجباء من أهلها من طلبة الجامعة وسائر المدارس في هذه البلاد، فان مصر التي تتوثب الآن للحصول على مكانتها بين الأمم الراقية، وتحاول أن تسرد مجدها التاريخي الأقدم، لا تستطيع أن تحقق أمانيها القومية هذه وتسعة أعشارها أميون لا يعرفون من أمر الوجود إلا ما تدعوهم إليه الحاجات الجسدية، فأما النواحي العقلية وما يتجلى فيها من ثمرات البحوث الأدبية، وما تنكشف فيها من أسرار الوسائل العلمية، والأصول الإصلاحية، والمبادئ الاجتماعية والعمرانية، فهم بمعزل عنها، وإذا كلفوا بشيء منها لم يفقهوا له حكمة فلا يندفعون فيه عن اقتناع وروية. ألم تضطر الحكومة إلى الاعتماد على نوع من الإجبار حين نصت للفلاحين بجميع الديدان من شجيرات القطن وإبادتها، فتلكأوا فيها لاعتبارات خرافية حتى اضطرت لإنفاق أموال طائلة لمراقبتهم في القيام بهذه المهمة؟ أما تذهب اكثر النصائح الطبية سدى فيما يختص بوجوب تصفية مياه الشرب وفي عدم التبرز في المياه الجارية اتقاء لمرض البلهارسيا والانكلستوما اللذين يفتكان بهم فتكا ذريعا؟ ألم تفشل اكثر المحاولات التي أريد بها تخليصهم من العادات السيئة والتقاليد الضارة، حتى ولو جاءتهم من ناحية الدين الذي يقدسونه ويتفانون في المحافظة عليه؟

وكيف كانت تروج حيل الدجالين، وأحابيل المتطببين، إذا كان القرويون يقرأون ما يكتبه عنهم العارفون، وما تنشره الجرائد عن جرائمهم في العواصم والأقاليم؟

أن الجو القاتم الذي يعيش السواد الأعظم من الأميين فيه يجعل منهم كتلة متحجرة لا تستطيع بل ولا تفكر في أن تتابع خطوات المتعلمين في التقديم إلى الأمام، فيكون مجموع الأمة في حالة تخاذل: بعضه يحاول السير ويقدر عليه، وبعضه جامد حيث هو لا يستطيع انتقالاً من مكانه، بل الخير كل الخير في الإقامة على ما وجد أبويه عليه، فان حاول أن يتشبه بالمتعلمين خيل إليه أن ذلك يكون بتقليدهم في بعض القشور فيشذ عن الجماعتين، وينتهي أمره إلى حالة من الضياع يضطر معها أن يلتحق بالمجرمين ليعيش.

ص: 55

كل ما في الوجود يحفزنا لان نقضي على الأمية في بلادنا بكل الوسائل الممكنة، فالحكومة سائرة في طريقها من ناحية، ولكن أعباء تفريج الأزمة الاقتصادية قد لا يسمح لها ببذل الوسع في هذا السبيل، فلا بد من عامل جديد يتناول ما لا تمتد يدها إليه، وهذا العامل هو ما فكرت فيه الشبيبة المتعلمة تحت قيادة رجال مثقفين من العمل على تعليم القرويين، وتقويم أخلاقهم، واشراكهم في ثمرات العرفان الذي نالوه، ليكون اتصال أجزاء المجتمع بعضه ببعض حاصلاً ومنتجاً للغاية التي تتوخاها جميعاً، وهي أن تأخذ الأمة المصرية مكاناً بين الأمم يسمح لها أن تشاطرها العمل في خدمة الإنسانية، وإبلاغها أقصى ما ترجوه من الكمال العالمي المنشود.

هذه النزعة من الشبيبة المتعلمة ليست بثمرة تفكير عميق فحسب، ولكنها نفحة من روح الاجتماع تنزلت على اكثر النفوس حساً، وأدقها شعوراً، فحركتها إلى الوجهة التي سلكتها كل أمة نهظت قبلنا نهوظاً ثابتاً مضطرداً. فهذه النفحة التي تجعل عملنا هذا أشبه بالأمور الطبيعية الاضطرارية، منه بالأمور التفكيرية الاختيارية، وهي في الوقت نفسه تدل على أن المجتمع المصري اصبح حاصلاً على جميع المقومات الاجتماعية التي تجعل منه جسماً مترابط الأعضاء، متكافل القوة، متماسك الأجزاء، متأثراً بحياة صحيحة تدفعه النهوض دفعاً طبيعياً متزناً لا تقوى العوامل المحللة على صرفه عنه مهما تسلطت عليه.

فإذا كان اكثر محاولاتنا التي أنتجها التفكير المحض قد حبطت فأن هذه المحاولة الأخيرة التي بعثت إليها روح الاجتماع لا يجوز عليها الحبوط، بل هي ستتطور في أدوار التكمل حتى تبلغ ما بلغته أمثالها في الأمم التي سبقتنا إلى الكمال المدني.

ان جميع الأمم التي ضربت في المدنية بسهم قد ألهمت هذه الطريقة في إيقاظ عامتها، وإشراكها في نعمة الحياة الأدبية، فأن الإنجليز قد نشطوا بتعليم الشعب نشاطاً كانوا فيه المثل الأعلى، إذ تطوعت الطبقة المتعلمة لتعليم الطبقة الجاهلة، فأسسوا الدور الأهلية لتعليم الليلي وإلقاء المحاضرات التي تعين على ترقية مستواهم الأدبي. وكذلك فعل الأمريكانيون والالمان وغيرهم. وفي ألمانيا اليوم حركة اكبر لزيادة رفع المستوى الأدبي لأهل القرى بعد أن نجحوا في رفع الأمية عنهم، علماً منهم بان كل عمل يبذل في سبيل إصلاح القرى، وتحبيب سكانها لأهلها، وترقية مداركهم، يعود بأكبر النفع على مجموع

ص: 56

الأمة لأنهم الحجر الأساسي في بنائها، وإذا كان الأساس قوياً ركيناً كان كل ما يبنى عليه متيناً ثابتاً.

فنحن ألان حيال نهضة أدبية خاصة بالقرى، مقبلون منها على حالة مليئة بكبار الآمال، يقوم بها شباب تخفق بين جوانحهم قلوب يعمرها حب الوطن، وإيمان راسخ في النجاح، فلحي فيهم هذه الهمة الوثابة، والإخلاص الذي تضرب به الأمثال، كلل الله أعمالهم بالنجاح، أمدهم الله بروحه وعونه، انه ولي الصادقين

محمد فريد وجدي

ص: 57

‌9 - بين المعرى ودانتي

في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة

بقلم محمود احمد النشوي

قد وعدنا أن نحدثك عن خيال دانتي في الانتحار والمنتحرين وعما وصف به ما هم فيه من عذاب. فلعلك على ذكر من أن أبا العلاء لم يتبع سبيل الخيال إبان ذلك، بل سلك طريق الحكماء، ولعلك على ذكر أيضاً من تعليله. فأما دانتي فقد انتحى نحو الخيال يستمد منه الزراية بالانتحار والمنتحرين، فبينما هو في الدرك السابع من جهنم إذ رأى غابة موحشة، أشجارها متجعدة الأغصان، متجردة إلا من أشواكها المسممة الأطراف، وقد ملئت وحوشاً أنصاف جسومها في زي الأناسي، وأنصافها الأخرى على هيئة طيور، وهي ترفع صوتاً تنخلع منه القلوب عن أبدانها، فسار في جنبات تلك الغابة على خيفة من وحوشها، وهو يسمع أنات وزفرات لا يعلم طريقها، فسأل عنها فرجيل فأجابه: أن اقطع طرفاً من هذه الغصون لعلك تتعرف تلك الأنات، فصدع بالأمر، وامتدت يده إلى غصن لم يكد يجتذه حتى نطقت له تلك الشجرة صاحبة الغصن قائلة: لم نزعتني؟ أليس في حنايا قلبك شيء من الرحمة؟ لقد كنا رجالا مثلكم، وقد صرنا نباتاً، فأما شجرات تلك الغابة فهم المنتحرون نبتوا اشجاراً كان مأواها جهنم وبئس القرار وأما تلك الشجرة التي قطع دانتى غصنها فهي الشاعر (بيير ديللي فيني وقد كان في حياته الدنيا مستشاراً لحكومة الإمبراطور فردريك الثاني، فخدم مليكه مخلصاً في خدمته، ولكن السنة السوء عبثت به فتقولت عليه الأقاويل، فأصاخ لها الإمبراطور وفقأ عيني مستشاره، وألقى به في ظلمات السجن، فأكبر بيير ما حاق به وهو الشاعر الملتهب العاطفة، فضرب برأسه في جدران السجن ضربة أودت بحياته، وختم أيامه بتلك الجريمة الكبرى، فلم يك ينفعه إخلاصه، ولم تك تنفعه أمانته، بل دخل النار مع الداخلين، وكان شجرة في تلك الغابة الموحشة التي تنخلع لهولها القلوب.

في الطريق إلى الفردوس

لقد كان طريق الفردوس في خيال المعري مليئاً بالمفاجآت الطريفة، وبالدعابة الساخرة، ينبعث من كل عبارة فيها ما يضحك الثكلى. وسندع ابن القارح يقص علينا حديث ذلك

ص: 58

الطريق، وما تذرع به لدخول الجنة، إذ يحاور تميماً بن أبي ويسأله عما يريده بكلمة (المرانة) من قوله:

يا دار سلمى خلاء لا أكلفها

إلا المرانة حتى تسأم الدنيا

فيجيبه تميم بان الحساب العسير أنساه كل شيء، فلم يدخل الجنة ومعه كلمة من الشعر أوالرجز، ثم يقول لابن القارح أن حفظك لمبقي عليك كأنك لم تشهد أهوال الحساب، فيقص عليه ابن القارح حديث الموقف، وحديث دخوله فراديس الجنان، وانه يمم شطر رضوان خازن الجنان يمتدحه بشعره، فلا يزداد رضوان إلا إعراضاً عنه، وصدا دونه، ولما لم تجد مع رضوان ضراعة الشعر، صاح ابن القارح قائلا: يا رضوان! استطالت مدة الحساب، ومعي صك التوبة، وقد امتدحتك بأشعار كثيرة، فيستجيب دعاءه ثم يحاوره، لا في دخول الجنة بل في تعريف الشعر وفائدته. وفي جمع كلة شعر، ثم ينتهي بينهما الحوار إلى منعه من دخول الفردوس دون إذن من رب العزة. فلا تنقطع أطماعه بل يذهب إلى خازن آخر اسمه زفر يمتدحه بالشعر فيقول له زفر احسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد، ولا ينفق عن الملائكة. فمن أي الأمم انت؟ فيقول له من أمة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فيقول له زفر: صدقت ذلك نبي العرب، ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لأن إبليس اللعين نفثه في إقليم العرب، وقد وجب علي نصحك، فعليك بصاحبك لعله يتوصل إلى ما ابتغيت. فيتركه ابن القارح غضبان أسفاً، ثم يسير في طريقه فيرى حمزة بن عبد المطلب فتتجدد آماله، وترجع له ثقته بالشعر: يأمل أن يجد له نفاقاً لدى ابن عبد المطلب، فيناديه وينشده، فيقول له حمزة: ويحك! أفي مثل هذا الموقف تحييني بالمديح؟ إني لا اقدر لك على ما تطلب. بيد انه يرسل مع رسولا إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ليخاطب النبي صلى الله عليه وسلم في أمره، فلما قص عليه القصص، قال له: أين صحيفة حسناتك؟ فيبحث عنها فإذا بها سقطت في شجار بين أبي علي الفارسي وبين شعراء حرف كلامهم، وأول أغراضهم، تدخل ابن القارح في فضه قائلاً: يا قوم، هذه أمور هينة، فلا تعنتوا الشيخ فانه ما سفك لكم دماً ولا احتجن عنكم مالاً. وعاد إلى كتاب التوبة يبحث عنه فلم يجده، فجزع وهلع؛ ولكن أمير المؤمنين قال له: لا عليك، ألك شاهد بالتوبة؟ فقال له نعم، يشهد لي عبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب (حرسها الله) في أيام

ص: 59

شبل الدولة، فيناديه الهاتف فيجيبه بعد لأي شاهد بتوبته. ولعل أمير المؤمنين كرم الله وجهه اتهم تلك الشهادة فأعرض عنه. بيد أن اليأس ولم يخامر قلبه، فذهب إلى العترة متوسلاً بهم، قائلاً: إني كنت في الدار الذاهبة إذا كتبت كتاباً وفرغت منه قلت في آخره: وصلى الله على سيدنا خاتم النبيين، وعلى عترته الأخيار الطيبين؛ وهذه حرمة لي ووسيلة. فقالوا ما نصنع بك؟ فقال أن مولاتنا فاطمة عليها السلام تخرج من الجنة كل حين مقداره أربع وعشرون ساعة من ساعات الدنيا الفانية، فتسلم على أبيها وهو قائم لشهادة القضاء، فإذا هي خرجت كالعادة فاسألوها في أمري باجمعكم، فلعلها تسأل أباها في ذلك. فلما جاءت قال لها جماعة الأبرار: هذا ولي من أوليائنا قد صحت توبته ولا ريب انه من أهل الجنة، وقد توسل بنا إليك (صلى الله عليك). فقالت لأخيها إبراهيم دونك الرجل، فقال له إبراهيم: تعلق بركابي، وطارت الخيل في الهواء من الزحام حتى بلغ الركب الرسول صلى الله عليه وسلم. فقالت له فاطمة رضي الله عنها: هذا رجل سأل فيه فلان وفلان. فقال حتى ينظر في عمله: فسأل عن عملي فوجد في الديوان الأعظم وقد ختم بالتوبة، فشفع لي، فأذن لي في الدخول.

(يتبع)

محمود احمد النشوي

ص: 60

‌4 - أعيان القرن الرابع عشر

للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور

الشيخ محمد الاشموني الشافعي

أصله من اشمون جريس، قرية من أعمال المنوفية، وقد اخبر انه من نسل أبي مدين التلمساني، ولد سنة 1218م، وحضر إلى الأزهر لطلب العلم، فتلقى عن القويسني، والبولاقي، والفضالي، والامير، والباجوري، والمرصفي وغيرهم. وكان اكثر حضوره على البولاقي، والباجوري، واشتهر بالذكاء، وجودة التعليق وإتقان التحصيل، إلى أن تأهل للتدريس فدرس الكتب المتداولة بالأزهر من صغيرة وكبيرة وقرأ المطول، وجمع الجوامع، وكتب التفسير، والحديث، والعقائد وغيرها مرات بعذوبة منطق وحسن إلقاء، ولم يؤلف كتباً ونما كتب عنه بعض الطلبة تقييدات عن قراءته للعقائد النسفية، وكذلك قيدوا عنه نحو ثلاثين كراسة حال قراءته لمختصر السعد، واخذ عنه كثيرون من كبار علماء الأزهر، وعمر عمراً طويلاً حتى الحق الأجداد بالأحفاد وصار جميع من بالأزهر إما تلاميذه أو ممن في طبقتهم، وروى عنه أن الشيخ محمد الانبابي الذي كان شيخاً على الأزهر كان ممن تلقى عنه، إلا أن الشيخ الانبابي كان ذلك.

ولم يعقب المترجم لأنه لم يتزوج قط، وكان القائم بخدمته في داره أخت له وجارية سوداء وعبد اسمه محبوب تبناه وزوجه من الجارية، وفتح له حانوتاً بالتربيعة وصيره من التجار، ثم وقف على الثلاثة داره التي يسكنها بالباطنية بالقرب من الأزهر.

ولم ينقطع عن التدريس والإفادة إلا قبل موته ببضع سنوات لضعف أصابه من الكبر، وابطل حركته في آخر أيامه، وكانت وفاته ليلة الجمعة رابع ذي القعدة سنة 1321 عن مائة سنة وثلاث سنوات، وأمر الخديو بتجهيزه من الأوقات الخيرية، وأطلقوا منادين في الطرق للإنباء بوفاته، فسار مثنى رافعين أصواتهم بالنعي واجتمع في صبيحة الوفاة الألوف من صنوف الناس لتشييع جنازته قيل انهم بلغوا نحو أربعين الفاً، وحضر أيضاً الوزير المنبهي المراكشي وزير الحرب بالغرب، وكان ماراً بمصر للحج واحب أن تكون نفقة التجهيز والمأتم من عنده فاخبروه بأمر الخديو، وتقدم شيخ الأزهر السيد علي الببلاوي للصلاة عليه بالأزهر، وتولوا قبيل الصلاة مرثية من نظم الشيخ إبراهيم راضي مطلعها:

ص: 61

لا قلب للإسلام غير حزين

فاليوم فيه انهد ركن الدين

ثم خرجوا بالجنازة إلى القرافة ودفنوه في مقبرة الشيخ الانبابي وكان رحمه الله أنيس المحضر، كثير الدعابة والمزاح مع الطلبة شديد الورع متصفاً بالزهد والتقشف وقلة الاحتفال برفاهة العيش إذا سار في الطريق توكأ على عصاه بيد ووضع الأخرى على كتف من يسايره، لاسيما بعد علو السن وضعف القوة. حضر مرة احتفالاً مما يقام لكسر السد أو المولد النبوي، ورموا بالسهام النارية كعادتهم، فتجاوز سهم منها مداه ووقع على الحاضرين، فأصاب المترجم في إحدى عينيه وذهب بها، فرق له الخديو إذ ذاك، ورتب له راتباً شهرياً علاوة على راتب الأزهر، رحمه الله تعالى.

ص: 62

‌الغازي احمد مختار باشا:

ولد في بروسة من مدائن آسيا الصغرى شهر (سبتمبر سنة 1837) وقدم الأستانة صغيراً، فدخل المكتب الحربي العالي، فنبغ من بين أقرانه، ولم يخرج منه حتى نال رتبة قائمقام وحضر حرب القرم، ثم انتظم في عداد أركان حرب السردار الأكرم عمر باشا حين حمل على الجبل الأسود سنة 1860 وامتاز بالبسالة خصوصاً في مضايق اوستروك، وكوفئ وقتئذ بترقية رتبة ثم ما لبث أن عاد إلى الأستانة عقب ابرام الصلح فجعل أستاذاً في المكتب الحربي. وفي سنة 1866 جعله السلطان عبد العزيز مربياً لنجله البكر يوسف افندي عز الدين، فرافقه إلى إيطاليا، وفرنسا، وانكلترا، وألمانيا، والنمسا فنال في أثناء ذلك وسام (اللجيون دونور) وغيره من فرنسا وسواها، وعاد إلى الأستانة سنة 1867م فجعل مأموراً لتحديد التخوم بين بلاد الدولة والجبل الاسود، فرجحت بسببه كفة الأولى إذ أبقى في حوزتها عدة مواقع حربية مهمة، وقوبل عمله هذا بترقية لرتبة أمير اللواء وجعله عضواً في المجلس الحربي، وفي ختام سنة 1870 أرسل مع ضباط الجيش المرسل إلى اليمن تحت إمرة رديف باشا، فاستولى على مدينة يدى، ونال رتبة فريق، ثم أقيم مقام رديف باشا في القيادة الكبرى لنقله والياً على الحجاز، فتمكن من الفوز على أهل اليمن، فرقي إلى رتبة مشير وجعل والياً على اليمن. ثم لما رجع إلى الأستانة أقيم وزيراً النافعة فاستقال منها ثم جعل والياً لكريد، ثم مشيراً للفيلق الثاني في شوملة سنة 1873م، ثم مشيراً للفيلق الرابع في ارزروم سنة 1874م، ثم قائداً لجيش الهرسك بدلاً من رؤوف باشا سنة 1875م فحصن مواقعها، وقاوم الثورة حتى عقدت في ختام سنة 1876م فأعيد إلى كريد والياً عليها، ولكنه لم يبق بها شهراً واحداً حتى أمر بالذهاب إلى ارزروم لقيادة الفيلق الرابع وحماية المواقع العثمانية عند حدود القوقاز. واشتهر بالفوز في الوقائع الحربية مع الروسيا في جهة قرص، والكسندر، وبول وغيرها، خصوصاً بمعسكر جديكلر في شهر أغسطس سنة 1877 حتى استحق لقب الغازي، ولما قطع الغراندوق ميخائيل الصلات بين فرقته وسائر الجيوش العثمانية تمكن هو من النجاة، ثم استدعى إلى الأستانة فجعل ناظراً (للطوبخانة) وكان ذلك في شهر افريل سنة 1878م، وبعد ذلك عين قائداً لجيش يانيا، ثم والياً لكريد مرة ثالثة في 28 أغسطس سنة1878 فتمكن من توطيد الأمن بها وألف بين أهلها المسلمين والمسيحيين فكتبوا عريضة رفعوها للباب العالي في شهر أكتوبر

ص: 63

سنة 1878 بالثناء عليه وبعد ذلك أرسل إلى البانيا لتنفيذ العهدة البرلينية المتعلقة بها، فدوخ الثائرين، وعاد بعد حين إلى الأستانة ولبث يقوم فيها بالمهام الجسيمة في الجيش حتى أرسل إلى مصر معتمداً عالياً.

الشيخ حسونة النواوي:

الحنفي

هو حسونة بن عبد الله، أصله من نواي، قرية تابعة لملوي، من أعمال أسيوط، ولد سنة 1255م، ولما ترعرع حضر إلى الأزهر، وتلقى به العلم على شيوخ وقته، وكان حضوره الفقه الحنفي على الشيخ عبد الرحمن البحراوي، والمعقول على الشيخ محمد الانبابي والشيخ على بن خليل الاسيوطي. ثم درس به، وأحيل عليه تدريس الفقه بمدرسة دار العلوم ومدرسة الإدارة التي سميت بعد ذلك بمدرسة الحقوق، ودرس آخر بمسجد محمد علي بالقلعة فكان له من مجموع وظائف هذه الدروس ما حسن به حاله، وألف في أثناء ذلك كتابه (سلم المسترشدين في الفقه الحنفي) لتلاميذ مدرسة الإدارة، ونال في شهر شعبان سنة 1302م كسوة التشريف من الدرجة الثانية.

ثم لما شرع الخديو عباس باشا الثاني في أوائل توليته في تحسين حال الأزهر، وإصلاح نظامه، وطريقة التدريس فيه، وإبدال بعض الكتب التي تقرأ فيه بغيرها، وإدخال بعض العلوم فيه كالرياضيات، وتقويم البلدان والتاريخ وغيرها وذلك بسعي الشيخ محمد عبده وغيره رأى الساعون تعذر ذلك مع وجود الشيخ محمد الانبابي شيخاً عليه، ولم يشأ الخديو عزله دفعاً للقيل والقال، فألف مجلساً من العلماء ينظر في شؤونه سمى بمجلس الاداره، والتمس رئيساً له يعين على أحداث النظام المطلوب فأشير عليه بالمترجم لما عهد فيه من الشهامة والصرامة، وسعى له بعض كبار رجال الحكومة ممن سبق لهم التلقي عليه بمدرسة الإدارة فأقيم رئساً لهذا المجلس، واخذ من الاستبداد بأمور الأزهر حتى انحصرت فيه كلياتها وجزئياتها، وصار هو الشيخ في باطن الأمر حتى ضجر الشيخ محمد الانبابي ثم اعتلت صحته، فاستقال في 25 ذي الحجة سنة 1312، وأقيل في ثاني المحرم سنة 1313.

فجاءت استقالة الشيخ على وفق مأمولهم، وأقيم المترجم شيخاً على الأزهر بدله، فكانت

ص: 64

توليته كالشجا في حلوق أهله لأسباب منها انهم يرون فيهم من هم اكبر سناً، واكثر علماً، وأحق بالرئاسة عليهم منه. ومنها انه جاء مؤيداً لإدخال بعض العلوم المسماة عندهم بالجديدة كالحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان وما هي إلا علوم قديمه اشتغل بها المسلمون وألفوا فيها، وكانت تدرس بالأزهر قبل انحطاطه، ونما نفروا منها لطول عهدهم بها وحسبانها من علوم الإفرنج، وأنها ما أدخلت فيه إلا للقضاء على العلوم الشرعية أو تقليل الرغبة فيها. ومنها انه تولى بعد الشيخ الانبابي المشهود له بالعلم والفضل والتقوى بن الخاصة والعامة بل لأنه كان سبباً من باطن الأمر على إرغامه على الاستقالة. ومنها اشتهاره بشيء من الشدة والجفاء في مخاطبة الناس ومعاملتهم مع ما داخله بعد تولي من الزهو والخيلاء، وما كان يشيعه أعداؤه عنه من ممالأته للإنكليز على هدم أركان الدين بإدخال العلوم الجديدة بالأزهر حتى كثرة القالة فيه، ويعلم الله انه بريء مما يأفكون.

وحدثت في مدته حادثة الوباء التي امتنع فيها المجاورون بإغراء بعض متهوريهم من الخضوع لأوامر الحكومة، واعتصموا بالأزهر، وقاوموا رجال الشرطة ورموهم بالأحجار حتى أصيب محمد ماهر باشا محافظ القاهرة بحجر أدمى وجهه، فأحيط بهم ورموا بالرصاص، فجرح منهم من جرح، ثم قبض عليهم وحكم على البعض بالسجن وعلى البعض بالنفي، واغلق رواق الشوام لان اصل الحركة كانت منهم، وهال الناس وقوع هذه الحادثة وانتصروا للمجاورين، ووجدوا منها باباً للكلام في الشيخ ورميه بالضعف والتهاون في الدفاع عن حرمة المسجد والمحاماة عن أهله.

ثم لما توفي الشيخ محمد المهدي العباسي مفتي القطر سنة 1315 أضيف منصب الإفتاء للمترجم فجمع له بينه وبين رئاسة الأزهر كما كان يجمع بينهما للشيخ العباسي احياناً، واستمر المترجم جامعاً للمنصبين واكثر القلوب منصرفة عنه حتى وقع الخلاف الكبير بين جمال الدين أفندي قاضي قضاة مصر وبين الحكومة أواخر سنة 1316 بشأن إصلاح المحاكم الشرعية واقتراح انتداب قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية ليشاركا قضاة المحكمة الشرعية العليا في الحكم، فلما عرض الاقتراح في مجلس شورى القوانين أبى قاضي القضاة قبوله، وقام المترجم بنصرته وشد أزره، وأراد رئيس النظار مصطفى فهمي باشا مناقشته فبدرت منه كلمات عدها الوزير مهينة له، ولم يقتصر على ذلك بل

ص: 65

أرغى وأزبد وخرج من المجلس مغضباً وهو يتلو قوله تعالى ()

وشاع بين الناس ما اقدم عليه فأكبروه منه وحمدوا موقفه فيه، لاسيما وقد سرى إلى الأذهان أن الحكومة تريد هدم الشريعة لهذا المشروع، فانقلب ذمهم له مدحاً، وبغضهم محبة، ولكنهم لم يغنوا عنه شيئاً لان النظار احفظهم ما واجه به رئيسهم وحرك ذلك ما كان في صدورهم منه يوم أردوا منع الحج احتجاجاً بالوباء واستفتوه ليجعلوا فتواه عصا يتوكئوون عليها كلما أرادوا منع الحج وظنوا انه يوافقهمفاخلف ظنهم، وأفتى بعدم جواز المنع فكانت حادثته مع الوزير من احسن ما يتوصل به إلى التخلص منه، فشكوه إلى الخديو وطلبوا منه عزله، فاستدعاه يوم الثلاثاء 6 المحرم سنة 1317 إلى مصيفه بالإسكندرية ومعه القاضي وألان لهما القول وناقشهما في تعديل الاقتراح، وتغيير ما يخالف الشرع منه، فأصر القاضي على الامتناع، وتكلم المترجم منتصراً له، فقال في عرض كلامه أن المحكمة الشرعية العليا قائمة مقام المفتي في اكثر أحكامها، ومهما يكن من التغيير في الاقتراح فانه لا يخرجه عن مخالفته للشرع لان شرط تولية المفتي مفقود في قضاة الاستئناف، ثم التفت إلى القاضي وسأله هل هو مولى من الخليفة أم من الخديو؟ فقال من الخليفة، فقال إذن يجب لمن يريد مولانا الخديو إشراكه معه ولو كان هلاً ثم انصرفا. وكان كلام المترجم فيه شيء من الشدة تألم منها الخديو فمال لرأي نظاره فيه، ولكنه أسرها في نفسه حتى حسم نازلة القاضي بالحسني، ثم اصدر أمره يوم السبت 24 المحرم سنة 1317 بفصله من الأزهر والإفتاء، وإقامة ابن عمه الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي شيخاً على الأزهر، والشيخ محمد عبده المستشار بالاستئناف الأهلي مفتياً للقطر، بعدما انتقل من مذهب الإمام مالك لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة.

ولما أشيع الأمر كثرت وفود العلماء والوجهاء على دار المترجم وانطلقت الألسن بمدحه والثناء عليه وتعلقت به القلوب، واقبل الناس عليه أي إقبال، وتحققوا أن ما كانوا يتهمونه به من قبل لم يكن إلا عن محض توهم. والحقيقة أن الرجل وان لم يبلغ شأو طبقته في العلم لم يعهد عليه ما يشين دينه ولا دنياه. بل عرف بالعفة، وعلو الهمة، ونقاء اليد من الرشى لولا جفاء يبر بعض الأحيان في منطقه، وشدة فيه يراها بعض الناس غلظة ويعدها البعض شهامة لحفظ ناموس العلم، خصوصاً مع الكبراء الذين أفسدهم تملق علماء السوء

ص: 66

وحملهم على الاستهانة بهذه الطائفة.

ولم يزل المترجم عاكفاً في داره، مقبلاً على شأنه، وحببت إليه العزلة فابتنى داراً بجهة القبة انتقل إليها وسكنها، ولم يقم ابن عمه في الأزهر طويلا بل توفي فجأة بعد نحو شهر من ولايته سنة 1317، فولى على الأزهر الشيخ سليم مطر البشري المالكي ثم استقال فأقيل يوم الأحد 2 ذي الحجة سنة1320، وأراد الخديو إعادة المترجم أو تولية الشيخ محمد بخيت فلم يوافق النظار وتولى الشيخ على بن محمد الببلاوى المالكي نقيب الأشراف على الأزهر ثم استقال يوم الثلاثاء 9 المحرم سنة 1323 فأقيل يوم السبت 12 منه، وصدر الأمر العالي يوم الأحد 13 منه بإقامة الشيخ عبد الرحمن الشربينى الشافعي ثم استقال فأقيل بأمر صدر يوم الأربعاء 16 ذي الحجة سنة 1324 وصدر أمر آخر في ذلك اليوم بإعادة المترجم شيخاً على الأزهر وهى توليته الثانية، ولكنه لم يمكث فيها طويلاً بسبب اختلال الأحوال، ونزوع المجاورين للفتن، وذهاب هيبة المشايخ، فاستقال سنة 1327 ورتب للشيخ الشربيني 15 ديناراً مصرياً في الشهر من الأوقاف الخيرية ليكمل مرتبه 25 ديناراً.

وأعيد إلى الأزهر الشيخ سليم البشري، ولزم المترجم داره التي بالقبة يزوره محبوه ويزورهم، ونال في توليته الأولى الوسام المجيدي من الدرجة الثانية، وجعل حينذاك عضواً من الأعضاء الدائمين بمجلس شورى القوانين ومن شرط هؤلاء الأعضاء انهم لا يعزلون، ولهذا بقى المترجم به بعد عزله من الأزهر والافتاء، حتى الغي المجلس واستعيض عنه بالجمعية التشريعية سنة 1332 فانفصل عنه بحكم الإلغاء.

وظل مقيماً في داره التي بالقبة في عزلة على الناس إلى آخر حياته، وقد أصيب بأمراض ووهن في القوى وضعف في النظر حتى توفي صباح يوم الأحد 24 شوال سنة 1343، ودفن في العصر بالمجاورين تغمده الله برحمته.

ص: 67

‌طرائف الشعر

الذكري

للعالم الشاعر الراوية الأستاذ احمد الزين

أدّكاراً بعد ما وَلى الشباب

ومن الذكرى نعيمٌ وعذاب

لا تقُلْ تعزيةٌ عن فائت

كم عزاءٍ في ثناياه المصاب

وإذا الدار جفاها أُنسُها

فمغانيها مع التُّرْب تراب

وإذا الروض ذوت أوراقهُ

فغناء الوُرق في الروض انتحاب

وإذا ما الزهر وَلّى حُسنهُ

فبقاياه عبُوسٌ واكتئاب

واحمرارُ الشمس في مغربها

دمعُها القاني أو القلبُ المذاب

إنما الذكرى شجونٌ وجوًى

يسكن القلبٌ لها وهي حِراب

رُبَّ نفسٍ عشقتْ مصرعَها

كفَراش النار يغريه الشِّهاب

ولكَم أُنسٍ وفيه وحشةٌ

واقترابٍ هو نأْىٌ واُغتراب

عاِّلِي القلبَ بذكراكِ وإن

كان لا يغني عن الماء السّراب

وصلينا في الكرى أو في المُنى

مَن أباه الصدقُ أرضاه الكذِاب

أو عِدينا عِدة ممطولةً

قد يشام البرقُ إِن ضنَّ السحاب

كم تَمنَّينا عقيمات المنى

ودعونا وصدى الصوت جواب

ورضينا بقليلِ منكِ لو

أن مشتاقاً على الشوق يثاب

لا أرى بَعدكِ شيئاً حَسَنا

آهل الأرض بعينيّ يَباب

رنّةُ العود بسمعي أنّةٌ

وسُلافُ الخمر في الأقداح صاب

يا زماناً صَفِرتْ منَه يدي

غير ما تُبقي الأمانُّي الكِذاب

ليت نفسي ذهبتْ في إثره

فذهاب الصّفو للمرء ذهاب

مَن لقلبٍ حاملٍ من وجده

ما يذوب الصخر منه والهضاب

حَمَّلَ الأيام ذكرَى ومنًى

ضاقت الدنيا بها وهي رحاب

والمنى عذرُ الليالي إن جنتْ

وهي للشاكي على الدهر عتاب

ونعيمٌ يَعِدُ القلب به

نفسَه حين المقاديرُ حجاب

ص: 68

ليتها دامت على خدعتهِا

أحسب الخير ويعدوني الحساب

ربّما رفّه ظنٌ خاطىءٌ

ولقد يجني على النفس الصواب

غير أن اليأس قد أبقى بها

مثلَما يبقي من الشمس الضباب

لم يدَعْ لي اليأسُ ما أحيا به

غيرَ قد كنَّا وقد كان الشباب!

احمد الزين

ص: 69

‌حلم

للأستاذ محمود خيرت

هذا الجميل هو الذي وصَلَ الهوى

حظِّي به فكُتبْتُ من عُشَّاقِه

ولقد شَقِتُ بهجره حتى إذا

بلغ المدى ويئَسْتُ من إشْفاقه

نادى علىَّ فلم أُصدِّق مَسمعي

في ليلةِ كَرُمت على مُشتاقه

وقد استقلَّ البدرُ عرشَ سمائه

وأطلَّ ضافي الزّهر من أوراقه

فطفقْتُ أشرح والدموعُ هواطل

ما جَرَّعَتْ شفتيَّ كأسُ فِراقه

وأبثُّهُ عَتْبي علىَ إعراضه

لما وَشَى بي عاذِلي بِنِفَاقه

وأخذتُ أرْوِي مِن جِنَي قُبُلَاته

ظَمَئيِ وأُطفئ لوْعتي بِعنِاقه

حتى إذا نفخ الصبَّاح ببُوقه

في النائمين وهلَّ من آفاقه

أدركتُ أنّي عِند حُلمٍ طائفٍ

لم يَبْقَ مِنهُ غيرُ مُرُّ مَذاقه

إِنّي المَلُومُ عرضْتُ قلبي سِلْعَةً

عند الهوى فخَسِرْتُ في أسْوَاقه

ص: 70

‌البليارد

له أيضاً

تمشَّتْ إلى بليارها ذاتَ ليلةٍ

تُعالج في لُطفٍ صوالَجِه لَمسْا

ومالَتْ بِنَهْديها عليه فعِندهَا

أرتْني كُرَاتِ العاجِ من فوقه خمسا

محمود خيرت

ص: 71

‌من الأدب الغربي

سانت بوف وفن النقد

بقلم علي كامل

النقد قبل بوف:

كان النقد في القرنين السابع عشر والثامن عشر قائماً على تلخيص أعمال الكتاب وإيراد مقتطفات من كتاباتهم مصحوبة ببعض تعليقات عليها. وكانت هذه التعليقات على تفاهتها وقلة اهتمام النقاد بإيرادها تمثل الفوضى المطلقة. فكان كل ناقد ينظر إلى الكتاب المنقود بمنظار فكره الخاص. فإذا اتفق تفكير الكاتب وتفكير الناقد كان الكتاب ناجحاً في نظر الناقد فيهلل له تهليلاً. وإذا خالفه كان سقوط الكتاب هو المصير الأكيد! كان النقد إذن نظرياً فلم تكن له قواعد يتبعها الناقد في نقده. ولم تكن هناك شروط معينة من المفروض توفرها فيمن يتصدرون لنقد أعمال كبار الكتاب والأدباء، لذا كان ينزل إلى ميدانه كل من ظن في نفسه القدرة على مسك القلم وتسويد بضعة سطور على القرطاس. واستمر الحال هكذا حتى صاح (جرم) قائلاً (إن الأعمال الأدبية العظيمة لا ينبغي أن تدرس بالاطلاع على ملخصاتها بل يجب أن تقرأ جيداً. أما الأعمال الأدبية التافهة فلا تستحق إلا الإهمال المطلق، إن النقد الصادق هو الدراسة والإصلاح. والناقد يجب أن يفهم المؤلف حق الفهم. ويتغلغل إلى أعماق تفكيره لا أن يخضع لفكرة الخاص).

على هذا الأساس نشأت بذرة فن النقد الحديث في أوائل القرن التاسع عشر. وكانت أول مظاهره نشوء ما سمي بالنقد التأريخي والفكرة في ذلك أن العمل الأدبي خاضع بالضرورة للحالة الاجتماعية في العصر الذي كتب فيه. فلكي نحكم على الكتاب حكما عادلاً وجب أن نقيم وزناً للظروف التي عاصرته. . . تلك كانت وجهة النظر الجديدة وكان أول من عمل على تطبيقها الأستاذ فليمان فكان النقد في نظره صورة من تأريخ، وقد اتبع طريقته في النقد عند كتابته عن الأدب الفرنسي والآداب الأوروبية كالأدب الإنجليزي والإيطالي والإسباني.

ومن أوائل المجددين في النقد سان مارك (1801 - 1873) وقد اشتهر بمحاضراته في السوربون وبكتابه الذي قال عنه معاصره الناقد المجدد (انه كتاب أدبي ولكنه يسمو

ص: 72

إلى مصاف الكتب الأخلاقية العظيمة).

إذن كان فيلمان وسان مارك جيراردن صاحبي الفضل الأول في الخروج بالنقد من فوضاه القديمة، وذلك بمزج النقد بالتاريخ واعتبار الأول صورة مصغرة من الثاني. على أن فضلهما كان أشبه بمناورات طفيفة إذا قورنا بالفاتح الجديد سانت بوف.

سانت بوف وأعماله الأدبية

كان سانت بوف - مبدأ حياته طبيباً ثم انضم إلى جماعة فكتور هوجو. وفي عام 1828 نشر كتابه ثم ارتفع اسمه كشاعر عندما نشر عام 1829 مجموعة الشعرية الأولى ثم مجموعته الشعرية الثانية (1830) وفي عام 1834 نشر قصته عام 1837 نشر مجموعته الشعرية الثالثة '

وابتداء من عام 1840 تفرغ سانت بوف للنقد الأدبي الذي نبغ فيه بسرعة نبوغاً عجيباً فلم يكن ينافسه فيه منافس. وفي عام 1845 انتخب عضواً في الأكاديمي. وفي عام 1857 عين أستاذاً في مدرسة النورمال فألقى سلسلة من المحاضرات نشرت فيها بعد بعنوان (دراسات عن فرجيل) ولقد كتب سانت بوف ما يقرب من ثلاثمائة ترجمة أدبية جمعت تحت أسماء مختلفة منها (أحاديث الاثنين) و (صور أدبية) و (صور معاصرة) و (صور من النساء) وغيرها.

عبقرية سانت بوف:

إذا كان لفيلمان وسان مارك فضل النهوض بالنقد كفن له قواعد وأصول، فان لسانت بوف فضل المجدد الطليق الذي لا يلتفت لحظة إلى الوراء ولا يرعى تقاليد الماضي. فهو الرجل الذي قلب بحق فن النقد في القرن التاسع عشر فلم يبلغ أحد ما بلغة في تطبيق طريقة (النقد التاريخي) ولم يكن هناك من يفوقه فهما لمهمة الناقد الوفي.

كان سانت بوف ناقداً بالسليقة إذ كان يجمع كل الصفات التي يجب أن تتوفر في كل من يجرؤ على خوض غمار فن النقد. ذلك الفن الذي يعتبر - إذا استثنينا بلادنا! من اصعب فنون الأدب. وهذه الصفات الضرورية التي كانت من أخص سجايا سانت بوف هي:

أولاً: حب الاطلاع. فكان يجد السعادة كلها في دراسة كل أنواع الكتاب - من يحبهم ومن

ص: 73

لا يحبهم - وقراءة الأعمال الأدبية من جميع العصور.

ثانياً: الجلد الذي كان يجعله لا يمل قراءة ابسط التفصيلات والإصغاء لكل كلمة قبل أن يقدم على نقد عمل أدبي. وكانت ابعد الصفات عن طبيعته أن يفر من الصفحات المملة أو أن يكتفي بقراءة الفهرس ودراسة المقدمة كما يفعل الكثيرون!

ثالثا: الذكاء الوافر الذي يهئ له القدرة على فهم نفسه والتخلص من سيطرة رأيه الخاص في المؤلف وفي الموضوع الذي يبحثه المؤلف. وكانت عبقرية سانت بوف من هذه الناحية تنحصر في أمرين. الأمر الأول في مهارته في أن يلبس شخصية المؤلف الذي ينقده فيزول بذلك ما قد يوجد بينهما من اختلاف في وجهات النظر ويصبح المؤلف في نظره رجلاً عادياً لا غرابة في أفكاره فينقده في هدوء وصفاء. والأمر الثاني في أن يخلق حول نفسه نفس الجو الذي كتب فيه الكتاب حتى تكون مواضيعه كأنها حقائق واقعة. وعندئذ يقدم على دراسة الكتاب دراسة عميقة ناظراً إليه من كل النواحي مشدداً عليه الخناق. وكان هذا في نظر سانت بوف هو الوسيلة الوحيدة لفهم الكتاب.

رابعاً: الليونة في التفكير. كانت لسانت بوف القدرة العجيبة على نقد كتاب ما، ثم الانتقال إلى نقد كتاب آخر على أتم خلاف في الرأي مع الكتاب الأول.

خامساً: عاطفة العدل. وهي سجية طبيعية نادرة الوجود لدى الناس. ويقصد بها أن الشخص إذا عهد إليه القضاء في أمر من الأمور فانه يكون أسير عاطفة تجعله لا يقضي إلا بالحق والعدل. وهذا هو السبب في أن جل أحكام سانت بوف على مئات الكتب التي نقدها كانت أحكاماً عادلة سليمة من اللوم رغم تضارب أنواع الكتب واختلاف مذاهب مؤلفيها.

استغل سانت بوف هذه المواهب النادرة في علمه كناقد. على انه كان إلى جانب ذلك مبتدعاً لطرق جديدة في النقد لم تكن معروفة من قبل. فادخل على النقد شيئين:

أولاً: الصورة ثانيا: الترجمة

ولنشر الآن ماذا يقصد سانت بوف بالصورة ثم ماذا يقصد بالترجمة.

كان سانت بوف إذا أراد نقد كتاب من الكتب ساءل نفسه: ما هي أخلاق الكاتب؟ وما هي ميوله، وما هي طباعه؟ وكان يلح في الوصول إلى حقيقة هذه الأشياء التي قد يظن البعض

ص: 74

أن لا علاقة لها بالكتاب المنقود. على أنها كانت في نظر سانت بوف أهم ما يساعد على فهم الكتاب علاوة على فهم المؤلف نفسه. وكانت هذه الفكرة هي الباعثة لسانت بوف على كتابة عشرات الصور لمختلف الكتاب والأدباء. وقد كتب سانت بوف يشرح فكرته في تلك فقال (إنني احب دائماً الرسائل والأحاديث والأفكار وكل الدقائق التي تعين على فهم أخلاق الكاتب. وبكلمة واحدة احب دراسة تراجم كبار الكاتب. ولقد احبس نفسي خمسة عشر يوماً محاطاً بكتب شاعر أو فيلسوف مشهور توفي فأدرسه وأعيد قراءة ما قرأته وأسائل نفسي في هدوء وروية، وعندما انتهي من دراستي أرى أن هذه الدراسة قد أوصلتني في النهاية إلى كشف عوالم خفية فأجد أن ذلك الكاتب الغامض الذي كان في البداية لا يختلف في نظري عن نوعه من الكتاب يضم من السجايا الفنية الخاصة به ما لا يمكن تجاهله ونسيانه).

ولقد ظهرت هذه الطريقة الجديدة في النقد التي اتبعها سانت بوف ظهوراً قوياً في مجموعته الشهيرة (صور أدبية)

على أن هذا النوع من الدراسة لنفسية الكتاب وأخلاقهم كان يعتبر في نظر سانت بوف سطحياً لا يكفي لكي يكون النقد كاملاً غير منقوص، لذا كان يرى ضرورة التوسع في دراسة الكاتب وإتمام ما كان يعتبره نقصاً بإضافة ما سماه (التاريخ الطبيعي للأفكار) وذلك أن بين (أفكار) الكتاب نواحي من التشابه وأخرى من الاختلاف، فواجب النقد أن يفتش عن هذه النواحي حتى يعثر عليها ويميزها ويبين من خلالها خصائص كل كاتب واوجه التشابه والاختلاف في الأفكار بينه وبين غيره من الكتاب الذين يكونون معه أسرة فكرية واحدة. وقد لجأ سانت بوف لتحقيق ذلك إلى طريقة ما ترجمة حياة الكاتب تحت ضوء الملاحظة الصادقة والتحليل الدقيق وذلك للوصول إلى أغوار فكرة، واكتشاف (الفروق العظيمة الطبيعية) - كما يقول سانت بوف - بين العقول المختلفة.

ولقد تضمنت مجموعتاه الخالدتان التراجم الفكرية الفائقة التي تعتبر بما احتوته من الأفكار الغزيرة، والذوق السليم، خير نموذج لفن النقد الحديث.

علي كامل

ص: 75

‌في الأدب الفرنسي

7 -

الدوق دي لاروشفو - كو

للدكتور حسن صادق

إننا نعجب باحتقار حطام الدنيا والزهد فيها، ونعد ذلك فضيلة، ولكن لاروشفوكو يقول عنها:(احتقار الثروة كان عند الفلاسفة رغبة مستترة في الانتقام لجداراتهم من الحظ، باحتقار النعم التي حرمهم منها، يدفعون به عن أنفسهم ذل الفقر، كان سبيلاً ملتوية يسلكونها لاكتساب الاعتبار الذي حرمتهم منه رقة العيش)(موعظة رقم 54). ومعنى قوله إن بعض الناس يزهدون في الثروة انتقاماً لجداراتهم من الحظ، وهذا كبرياء. وبعضهم يتخذون هذا الزهد سلاحاً يدفعون به أنفسهم ذل الفقر، وهذا خداع. وبعضهم يتخذونه مجازاً إلى الاعتبار، وهذا طموح؛ أي أن لاروشفوكو يجعل مصدر هذه العاطفة الراقية الكبرياء والخداع والطموح.

الاعتدال فضيلة جميلة، ولكن لاروشفوكو يقول عنها:(الاعتدال هو خوف الوقوع في جحيم الحسد واتقاء الازدراء الذي يستحقه من تثمله السعادة، انه تفاخر جديب بقوة العقل، وعلى الجملة اعتدال الناس في أرقى درجات علوهم هو الرغبة في الظهور اكبر من حقيقة مركزهم وثروتهم)(موعظة رقم 18)(الاعتدال لا يستطيع أن يتطلع إلى مناجزة الطموح واخضاعه، لأنهما لا يجتمعان مطلقاً. هو فتور النفس وكسلها، كما أن الطموح نشاطها وتوقدها)(موعظة رقم 293). (عد الاعتدال فضيلة ليخفف من غلواء الطموح الذي يتملك العظماء، وليتعزى به صغار الناس عن ضآلة ثروتهم وجدارتهم)(موعظة رقم 308). فالخوف والغرور والكبرياء والكسل هي جوهرة فضيلة الاعتدال. وهذه الفكرة برهان آخر على أن لاروشفوكو استخلص مواعظه من عصره، لأنها تنطبق على خلق مازاران. كان هذا الوزير يتكلف البشر إذا اختلت مصالحه ليظهر للناس أن المحن لا تروعه، ويتصنع الرزانة إذا كلل النجاح أعماله، ليظهر أن الرفاهية لا تستخفه طرباً. ولكن اعتداله الكاذب لم يخف على أحد معاصريه. أما (فوكيون) الإغريقي - مثلاً - فقد اشتهر بالاعتدال النقي وشهد له به أهل أثينا وأيدت حياته شهادتهم. ولما حكم عليه بشرب السم قال لابنه والكأس في يده:(آمرك وأرجو منك إلا تحمل للاثنين في صدرك غلا أو ضغينة من اجل موتى)

ص: 76

جلد الحكماء يستدر إعجابنا، ولكنه في اعتقاد لاروشوكو (ليس إلا فن كتمان اضطرابهم في دخيلتهم)(موعظة رقم 20)، أي أن الحكمة ليست شيئاً آخر غير النفاق. ولو قيد لاروشفوكو هذه الفكرة قليلاً ولم يضعها في صيغة عامة لكان اصح. إذ يروي التاريخ أخبار حكماء كان الجلد عندهم غراماً بالفضيلة لا ينال منه خوف أو أمل. ولنضرب مثلاً: سقوط الحكيم الذي جلس في سجنه قبيل إنفاذ حكم الموت فيه يحدث أصحابه عن موضوعات فلسفية هامة، وهو اشد ما يكون هدوءاً واطمئناناً (راجع فيدون لأفلاطون). وكيف نعرف أن الهدوء الظاهر يخفي اضطراباً باطنياً؟ انه في هذه الحالة ينم عن نفسه مهما حاول المضطرب إخفاءه. ومثل هذا الإنسان لا يسمى حكيماً. وإذا لم يبد لنا اثر من آثار الاضطراب، فليس من حقنا الجزم بوجوده.

وماذا يقول لاروشفوكو عن فضيلة العدل؟ (حب العدل ليس عند كثرة الناس إلا الخوف من وقوع ظلم عليهم)(موعظة رقم 78). وهو لم يميز العدل الذي يصدر عن إيهام نفساني وما يسمى صرخة الضمير وينتج الأعمال الكريمة، من العدل الذي يصدر عن التفكير والروية وينتج القانون الذي يمنع أعمال الظلم من الوقوع.

ثم يقول عن الطيبة: (الإنسان العاجز عن أن يكون شريراً، لا تستحق طيبته المديح، والطيبة في هذه الحالة - أي حالة العجز عن فعل الشر - ليست في الأغلب إلا خمولاً أو ضعف إرادة)(موعظة رقم 237). وهذه الفكرة نقد لخلق الملكة ان دوتريش

ونذكر عقب الطيبة قوله عن الفضيلة التي تمت إليها بصلة كبيرة، وهي الشفقة:(الشفقة في الأغلب شعور بآلامنا في آلام الغير. إنها تبصر ما هو في عواقب المحن التي قد تصيبنا. إننا نقدم المعونة للغير لنضمن معونته في ظروف مماثلة لظروفه. وهذه الخدمات التي نسديها إليه هي في الواقع معروف نسديه إلى أنفسنا مقدماً)(موعظة رقم 264). وهذه الفكرة لا تدعو إلى العجب بعد الذي ذكره عن الشفقة في معرض حديثه عن نفسه. وقولة (في الأغلب) يدل على إيمانه بوجود الشفقة النقية التي تتفجر من القلب وتسبق كل تفكير وتأمل، وتنتج الخير من تلقاء نفسها، وفي بعض الأحايين على الرغم مما تتطلبه المصلحة الذاتية. وهذه العاطفة الزم ما يكون للإنسانية لأنها بلسم البائسين، تربط القوي بالضعيف، والمجدود بالمحدود، ولن يصيبها العفاء مادام على الأرض بشر.

ص: 77

وتأتي عقب الشفقة فضيلة الشكر على المعروف، فيقول عنها:(شكر الكثرة من الناس إلا رغبة خفية في الحصول على معروف اكبر من الذي حصلوا عليه)(موعظة رقم 298).

ومن الطيبة والشفقة المتبادلة والشكر تنتج الصداقة: (إننا لا نستطيع أن نحب شيئاً لا تربطنا به اصرة، ولا نتبع غير ذوقنا ولذتنا لما نفضل أصدقاءنا على أنفسنا. وهذا التفضيل فقط هو الذي يجعل الصداقة حقة كاملة)(موعظة رقم 81)، أي أننا ننسى مصلحتنا الذاتية في سبيل أصدقائنا ونجد في هذا النسيان لذة. وهو يذكر هذه الكلمة للحط من قيمة هذه العاطفة، ولكنها لذة فيها نبل وبطولة.

ولم يلبث أن أنكر وجود الصداقة التي توهب ولا تباع، فقال:(الصلح مع أعدائنا ليس إلا رغبة في إصلاح حالنا، والملل الناشئ من عناء الحرب، والخوف من وقوع حادث سيئ)(موعظة رقم 82). وهذه الفكرة مأتاها الحرب الأهلية التي سبق الكلام عنها. فان لاروشفوكو الذي دفعته مصلحته الذاتية إلى الاشتراك في هذه الحرب، رغب في الصلح بعد أن جرح رأسه وهلك زرعه ودمر قصره، خشية أن تصيبه ملمات أخرى.

وكانت الملكة ان دوتريش أثناء هذه الحرب لا تثق بمن يلتفون حولها لأنها لم ترض طموحهم، وتوجس منهم خيفة كما يدل على ذلك قولها:(متمناي أن يبقي الليل في مجثمه أبداً لأني لا أرى في النهار إلا أناساً يدأبون على خيانتي). فالبلاط والثائرون لم يلجأوا إلى الصلح إلا فراراً من الملل الناشئ من عناء الحرب، وخوفاً من وقوع حوادث أليمة، ورغبة في إصلاح حالهم). ثم قال في موضع آخر:(إن ما يسميه الناس صداقة ليس إلا شركة، أو إدارة وتدبير مصالح ذاتية متبادلة، أو تبادل ضروب المعروف. وهي على الجملة ليست إلا تجارة يتطلع حب الذات فيها دائماً إلى شيء يربحه)(موعظة رقم 83). (إننا نقنع أنفسنا في اكثر الأحايين بأننا نحب من هم اكثر منا قوة واشد بأسا. وفي الحق أن المنفعة هي فقط التي تنتج صداقتنا؛ ونمنحهم هذه الصداقة ابتغاء خير نروم الحصول عليه منهم، لا في سبيل خير نريد أن نهديه إليهم)(موعظة رقم 85).

تتمه البحث في العدد القادم

حسن صادق

ص: 78

‌العلوم

ما هو الزمن؟

للدكتور عبد الله صبري

كثرت المناقشات في الأيام الأخيرة بين العلماء والمفكرين في موضوع الزمن حتى سرى الاهتمام بهذا الموضوع إلى عامة الجمهور مما دعاني إلى ذكر بعض الحقائق والملاحظات التي اسردها هنا مقتبسة من المصادر العلمية الصحيحة.

لا شك أن كلامنا يعرف الوحدات العادية للزمن. ولا أظننا ناسين انه يجب علينا أن نستيقظ غداً في ساعة معينة من الصباح (مع الأسف!). وبالرغم من كراهيتنا للمنبه فنحن مضطرون لطاعته - ليس منا من يتجاهل سلطة الزمن، ذلك السيف الجبار الذي إذا لم تقطعه قطعك، وليس منا من يتجاهل أحقيته ووجوده ودقته وتأثيره في أعمالنا اليومية. غير أننا بالرغم من اعترافنا به لهذا الحد قد نقع في الحيرة عندما يطلب إلينا تعريفه أو ذكر كنهه

فبالرغم من وجود الأجهزة الدقيقة التي تبين لنا مقادير الزمن، كثيراً ما نشعر في أنفسنا باختلاف تقدير هذه الأجهزة في أحوالنا النفسية المختلفة. فكثيراً ما نشعر بطول الوقت وبطء مروره عندما نكون في انتظار صديق في موعد، وعلى العكس نشعر بسرعة مروره عندما نكون سعداء أو منهمكين في عمل هام. فهل خاننا إحساسنا الزمني في هذا الشعور؟ أم هل خانتنا الأجهزة التي تبين لنا الزمن؟ وعلى أي قياس ينبغي لنا أن نعتبر الزمن؟ أبأنفسنا أم بالساعات؟

إذا رضينا بالساعات مقاييس حقيقية للزمن، فكيف يمكننا أن نتلاعب بها إلى الحد الذي نقدمها ونؤخرها فيه حسب أرادتنا كما جرت العادة في أوروبا عند اعتبار الزمن الصيفي الذي تقدم فيه الساعات ساعة زمانية في أبريل من كل عام؟ وكيف يمكننا أن نتلاعب بالتقاويم السنوية فنضبطها ونغيرها حسب الإرادة من غير أن يؤثر ذلك كله في العالم.

أن حكاية تعديل التقويم السنوي في أوائل القرن السادس عشر حكاية معروفة. إذ اتضح في ذلك الوقت أن التقويم الجريجوري قد اخطأ في مدة أحد عشر يوماً، وقررت الحكومات حينئذ تقديم التاريخ بمقدار هذا الزمن، وبذلك حدث هياج كبير في الرأي العام، واعتقد

ص: 80

الناس أن الحكومة قد استقطعت من حياتهم هذه المدة لغير ما سبب، وتظاهروا صائحين: أعطونا الأيام التي اتخذتموها من عمرنا، ألا يكفيكم أن تسلبوا منا نقودنا فتسلبوا منا أيامنا كذلك؟

وفي الحقيقة أن تعيين وحدة حقيقة ثابتة للزمن من الأمور العسيرة. فقد ثبت لعلماء الفلك أن المدة اللازمة لدوران الأرض حول الشمس تزداد عاماً بعد عام، أي أن السنة الزمنية ليست ثابتة إذ كانت أطول في الزمن الغابر منها في الزمن الحاضر بمقدار محسوس. فهناك اتجاه حديث لاعتبار سرعة تحلل عنصر الراديوم مبدأ لتقدير الزمن إذ ثبت أن الراديوم في تحوله إلى الرصاص يستغرق أزمنة متساوية تماماً.

غير أن هذه الوحدة الزمنية سواء اعتبرت من الجهة الفلكية لدوران الأرض حول الشمس أو من الجهة الطبيعية لسرعة تحلل الراديوم فإنها في النهاية متوقفة على إدراك الإنسان وتابعة لاحساسه، وقد تكون هي في ذاتها خدعة عقلية. وهذا مما جعل كثيراً من المفكرين يتساءلون إذا كان في أجسامنا جهاز طبيعي لتقدير الزمن؟

ومن التجارب التي تدل على احتمال وجود ساعات حيوية في أجسامنا إمكاننا الاستيقاظ مثلاً في ساعة معينة من الصباح بمجرد حصر ذهننا في ذلك قبل النوم. وهنالك كثير من الناس الذين يمكنهم الحصول على هذه النتيجة بغاية الدقة. وهنالك تجربة مشهورة أخرى أجريت مراراً عديدة بحضور الشهود وهي بان ينوم شخص تنويماً مغناطيسياً، ويؤمر أثناء نومه بان يكتب كلمة (الزمن) بعد استيقاظه بعد تمام مليون ثانية تماماً (أي بعد حوالي عشرة أيام). وفعلاً يحدث. فمهما كانت ظروف المنوم في حياته العادية بعد هذه المدة فانه في تمام الثانية المليون تماماً يأخذ قلمه ويكتب الكلمة المطلوبة. وبديهي أن المنوم لا يتذكر شيئاً بعد استيقاظه مما قيل له أثناء تنويمه.

ويميل كثير من المفكرين على ضوء هذه التجربة ومثيلاتها أن يعتقدوا بوجود هذا الجهاز الحيوي الذي يعد الزمن في أجسامنا. وقد اكتشف أخيراً تيار كهربائي منتظم يمر في الجسم في كل من لحظات الحياة سواء أكان الإنسان نائماً أم مستيقظاَ ومهما كانت حالته العصبية أو الصحية مستمراً إلى لحظة الموت. فمن الجائز أن يكون هذا التيار هو الذي يعد الثواني والزمن الذي يمر ونحن أحياء. ومن البديهي انه لا يمكن اعتبار دقات القلب مقياساً للزمن

ص: 81

إذ أن هذه الدقات يتغير عددها وانتظامها بين آن وآخر تبعاً لظروف الإنسان وحالته العصبية.

غير أن احتمال وجوده هذا الجهاز الحيوي الذي يقيس الزمن في أجسامنا لا يفسر لنا كنه كثير من التجارب الشخصية التي تحدث لكل واحد منا بين آن واخر، الا وهي معرفة بعض حوادث المستقبل قبل وقوعها. فكلما شعر أن كثير من أحلامنا تصور لنا صوراً جلية واضحة من المستقبل. وقد أجريت عدة تجارب علمية لإثبات ذلك واتضح منها صحة هذه النظرية، ويظهر أن الاعتقاد بإمكان رؤية المستقبل قد صادف ميلاً كبيراً عند كثير من المفكرين والمؤلفين وعند الجمهور في الأيام الأخيرة. فهناك كثير من الروايات التي تكتب على هذا الأساس وهناك الكثير من المؤلفات العلمية التي تبحث في هذا الموضوع الغريب. فمن اشهر ما كتب حديثاً عن ذلك كتاب (تجربة عن الزمن) تأليف الكاتب الإنجليزي ج. و. دن وهذا الكتاب يفسر تجارب المؤلف الشخصية في إمكان رؤية المستقبل، ويوضح ذلك بنظرية المتواليات الزمنية. وهناك كذلك كتاب المفكر الإنجليزي المعروف هـ. ج ولز عن كنه المستقبل وهو يعطى في هذا الكتاب تاريخ العالم في المستقبل القريب لا كخيال يتوهمه، بل كحقيقة واقعية رآها صديق له عند قراءته لكتاب حقيقي للتاريخ مكتوب في سنه مقبلة

والعلم الحديث لا ينكر رؤية المستقبل. إذ لو أننا تصورنا إمكان وجودنا في طيارة سائرة بسرعة اكبر من سرعة الضوء لما أيمكننا أن نرى أو ندرك شياً من العالم الزمني الموجود، بل إننا نصبح خارج نفوذ الزمن ونصبح أبديين. وهذا مما يقرب إلى العقل البشري إمكان خروج المادة والإنسان عن نفوذ الزمن وتقديره، ويمكن الإنسان من تصور رؤية المستقبل كحقيقة واقعية تحدث عند خروج الفكر وقتياً عن دائرة الزمن

ويميل بعض المفكرين إلى تفسير رؤية المستقبل بافتراض طبقتين للعقل الإنساني - الطبقة الأولى وهي التي نحس بها بالمقاييس الثلاثة المعروفة والتي نستعملها في حياتنا اليومية، وهي التي تشعرنا بمرور الزمن. والطبقة الثانية وهي التي نحس بها بالمقياس الرابع (وهي نتيجة نظرية اينشتين المعروفة التي ينسب فيها الزمن للمسافة) والتي تعطينا في بعض الأوقات قوة على إدراك المستقبل إذ تخرجنا وقتياً عن نفوذ الزمن وتجعلنا جزءا

ص: 82

من الأبدية اللازمنية.

ومهما كان مقدار الصحة في هذه الافتراضات والنظريات، فليس هناك من شك في أن هذه المعضلة الغريبة المبهمة، ألا وهي الزمن ستكون بيت القصيد في كثير من الأبحاث العلمية والاكتشافات التي قد يتم بها تغيير جوهري في تفكير البشر في المستقبل القريب والتي قد توصلنا إلى بداية الطريق الطويل الذي أراد الله أن يصل البشر في نهايته إلى الحق المطلق.

عبد الله صبري

دكتور في الهندسة من جامعة كامبردج

ص: 83

‌إسحاق نيوتن 1642 - 1727

(من فاق جميع الرجال في النبوغ)؟

بقلم مصطفى محمود حافظ

العالم قبل نيوتن:

قد يبدو أن في دراسة حالة العالم العلمية كما وجدها نيوتن، وذكر الحقائق التي كانت معروفة ومتراكمة من قبله، والتي درسها نيوتن فاخرج منها للعالم تلك القوانين التي رفعته إلى الذروة، قد يبدو أن في ذلك غضاً من عبقريته. ولكن ذلك غير حقيقي، فالرجل الذي تمكن أن ينتزع من الرءوس الأفكار التي كانت تجول فيها حيرى لا تدري سبيلاً إلى الظهور، يستحق كل ما أعطي من شرف حتى ولو جاء مبالغاً من أبناء جلدته الذين يجعلون منه اكبر مفكر ظهر على الأرض.

كانت أوربا قد أخذت تتحرر في أوائل القرن السابع عشر من الجمود العلمي الذي لازمها في العصور الوسطى، والذي كان سببه الأعظم محاربة رجال الكنيسة لكل فكرة علمية فيها مخالفة لتعاليمهم الدينية، وكذلك اقتصار المتعلمين على البحث الكلاسيكي ودراسة كتب الأقدمين الفلسفية دون الاستعانة بالملاحظة والتجربة.

فكان العالم قد بدا ينبذ (نظرية بطليموس) في تركيب الكون، وهي التي كانت تقول بان الأرض وهي مهبط ارقي المخلوقات (الإنسان المفكر) يجب أن تكون مركز الكون، تدور حولها الشمس والكواكب والنجوم، ويرحب بنظرية (كويرنيج) التي تقول بان الأرض كرة تدور حول نفسها فيحدث الليل والنهار، وتدور حول الشمس مع الكواكب فيحدث اختلاف الفصول. وكان الخطأ الذي وقع فيه (كويرنيج) من اعتباره مدارات الكواكب حول الشمس دوائر قد أصلحه (تيخوبراه) و (كبلر)، الأول بما سجله من مشاهدات والثاني بما استنتجه رياضياً من هذه المشاهدات. فوصلا إلى معرفة أن مدار الكوكب حول الشمس قطع ناقص والشمس في إحدى بؤرتيه.

وجاء جاليليو وتمكن بمنظاره من تأييد فكرة النظام الشمسي الجديد برؤية مثل هذا النظام في الكون في المشتري وأقماره. وكذلك عرف معنى القصور الذاتي، ووضع أساس علم

ص: 84

الديناميكا بتوصله إلى قوانين الحركة التي تنسب خطأ إلى نيوتن. وبذلك يكون نيوتن قد ولد وكيفية تحرك الآجام على الأرض وتحرك الكواكب حول الشمس قد عرفت، ولكن السبب في ذلك لم يصل إليه غيره. ولقد حاولوا قديماً معرفة ذلك السبب ولكن كل ما وصلوا إليه هو انه إذا اختارت الأجرام السماوية أن يتحرك بعضها حول بعض بنظام خاص فهذا من شأنها لا من شأن الإنسان ساكن أحد هذه الأجرام.

تلك كانت حالة علم الفلك بغض النظر عن خزعبلات ما كان يسمى (علم) التنجيم. أما في الرياضة فقد كانت كتب إقليدس في الهندسة وأرشميدس في الرياضيات معروفة من زمن بعيد. والجبر كان يشارك الهندسة في قدمها إلا انه كان معقداً ليس بالسهولة التي نعرفها عنه الآن. والحساب كان مهمة شاقة، حتى أن مستر صمويل بييس الذي صار فيما بعد رئيساً للجمعية الملكية بلندن يقول في يومياته انه كان بعد أن نال درجته من جامعة كامبردج يسلي نفسه كل مساء يحفظ جدول الضرب! أما حساب اللوغريتمات فكان نابيير قد اخترعه في سنة 1617

وفي الكيمياء كان العلماء لا يزالون في بحثهم وراء حجر الفلاسفة، وتحويل المعادن الخسيسة إلى أخرى ثمينة، ولو أن بعض العناية كانت قد اتجهت إلى استخدام الكيمياء في صنع الأدوية. ولكن حال هذا العلم لم يصلح إلا بعد أن اثبت نيوتن أن العالم مساق بقانون طبيعي عام، فاتجهت العناية إلى إيجاد القوانين إلى تحكم العالم المادي والتغيرات إلى تطرأ عليه، حتى امسك دالتون بطرف الخيط في سنة 1808 فوضع مبادئ النظرية الذرية.

أما في البصريات فقد كان قانونا الانعكاس معروفين لدى العالم العربي الحسن بن الهيثم في أوائل القرن الحادي عشر وكذلك تركيب العين وكيفية رؤيتها للأجسام. وقد ذكرنا أن جاليلو كان قد اخترع التلسكوب، وفي نفس الوقت تقريباً اخترع صانع نظارات يدعى (زكريا يوانيدس) الميكرسكوب. وقبيل زمن نيوتن توصل (سنل) إلى معرفة قانوني الانكسار، ولو أن الذي وضعهما في صيغتهما المعروفة الآن هو (ديكارت).

تلك فكرة موجزة عن حالة العلوم التي اشتغل فيها نيوتن وكان موفقاً كل التوفيق.

طفولة وأيام المدرسة في جرانتام:

في يناير سنة 1642 وف ي مزرعة صغيرة تدعى (وولثورب) جنوب (جرانتام) ابصر

ص: 85

إسحاق نيوتن الدنيا بعد أن كان إسحاق نيوتن الأب قد اغمض عينيه إلى الأبد. ولا يعرف شيء عن سنواته الثلاث الأولى التي تزوجت بعدها أمه فنزحت مع زوجها إلى مقر عمله تاركة نيوتن في كفالة جدته من أمه، وأرسلته إلى مدرسة القرية الصغرى لينال من التعليم ما كان يضن أن فيه الكفاية لذلك العقل الصغير الذي خلق ليكون جباراً ولكن خاله رأس قبساً من عبقريته فكان سبباً في إرساله إلى مدرسة الملك في (جرانتام)، تلك المدرسة التي رأت بزوغ نجم من المع النجوم في العلوم، والتي لا تزال تحتفظ حتى اليوم على خشب إحدى نوافذها باسم (أ. نيوتن) محفوراً فيه. كان في أول أمره خجولاً غبيا بعض الشيء يناله من زملائه الشيء الكثير من الاستهزاء الذي ازداد حتى وصل إلى أن ركله زميل ضخم الجثة في فناء المدرسة. عند ذلك انفجر ما كان كامناً فيه من عبقريته، لأنه لم يكتف بان ثأر لنفسه من هذا الزميل الضخم بان تغلب عليه جثمانياً وجعله يدلك انفه في حائط المدرسة، بل كان عليه أن يفوقه في الشئون المدرسية لأنه كان يفوق نيوتن في ذلك. وقد نال ما ابتغى واصبح (أول) المدرسة التي كانت تتكون من فصل واحد فيه عدة مجاميع، واحتفظ بذلك اللقب حتى غادرها

كان نيوتن مغرماً في طفولته بصنع الألعاب والآلات الصغيرة ليعرضها على صديقاته الصغيرات، وكانت أحبهن إليه كما يقول سير. ج. ج. تومسن (مس ستوري) التي ظلت حبيبته الوحيدة، والتي لم يتزوجها لأنه لم يتزوج. فكان يصنع الطيارات من الورق ويضع فيها شمعاً موقداً فيضنها الفلاحون البسطاء مذنبات. وكان ماهراً في عمل المزاول والساعات المائية، وقد أدار طاحونه هوائية بأن حبس بعض الفيرات في صندوق وجعلها في حركة دائمة، وكان ينتهز هبوب العاصفة ليقفز في الهواء مرة مع الريح وأخرى ضده ليقدر سرعته.

ولما بلغ الرابعة عشر من عمره رجع مكرهاً من المدرسة في (جرانتام) إلى المزرعة الصغيرة في وولثورب) ليساعد أمه التي رجعت إليها بعد وفاة زوجها مع ولد وابنتين كانا ثمرة هذا الزواج الثاني. ولكنه لم يلبث بمعونة خاله أن رجع إلى (جرانتام) في السادسة عشرة وظل ثلاث سنوات يعمل استعداداً للذهاب إلى (كامبردج) مكافحاً الفقر الذي ظل ملازماً له زمناً طويلاً.

ص: 86

دراسة في كامبردج

غادر نيوتن جرانتام في يونيو سنة 1661 وهو في التاسعة عشر إلى كامبردج وهناك التحق بكلية (ترنتي) كطالب خادم يقوم بتقديم الطعام لزملائه في نظير أكله بدون أجر. ولا يعلم إلا القليل عن سنواته الأولى في كامبردج، ومن ذلك انه اعفي من حضور محاضرات المنطق لأنه كان يعرف منه قدر ما يعلم أستاذه، وانه درس بنفسه كتاب البصريات لكبلر قبيل إلقاء محاضرات هذا الموضوع حتى دهش أستاذه من مقدار تمكنه من هذا الموضوع، وقد لازمه هذا الميل إلى البصريات طوال حياته. وقد كان يتتلمذ لأستاذ هو أحد أعلام عصره في الرياضيات يدعى (إسحاق بارو) وقد عرف القدرة الرياضية الكامنة في تلميذه فشجعه على التقدم فقرأ كل الكتب الرياضية، إلا انه كان دائماً ضعيفاً في الهندسة، حتى انه ممتحنيه عابوا عليه هذا الضعف في أحد امتحاناته. وقد نال درجته الجامعية في 1664 وغادر كامبردج إلى مزرعته قبل أن يصل إليها الطاعون التاريخي المشهور الذي سبب ترحيل كل طالب إلى بلدته.

وقد قضى نيوتن في المزرعة مكرها سنتين كاملتين كان فيهما بعيداً عن مكتبة الجامعة وأجهزتها ولكنه استعاض عن ذلك بما كان قد حفظ من معلومات في ذلك العقل الراجح الذي اخرج للعالم في هاتين السنتين أربعة اكتشافات كل منها يكفي للتخليد لو انه صدر من شخص غير نيوتن.

اكتشافاته الرياضية الأولى

النظرية ذات الحدين: ظهرت عبقرية نيوتن عند أول ظهورها في الرياضيات مع أن لم تبد عليه وهو في كامبردج علائم هذا النبوغ، وقد كان أول إنتاج رياضي له هو اكتشافه (نظرية ذات الجدين) وهي النظرية التي نتمكن بواسطتها بدون إجراء عملية ضرب من إيجاد حاصل ضرب مقدار على صوره (س + ص) في نفسه أي عدد من المرات، أو بمعنى رياضي آخر إيجاد ناتج رفع هذا المقدار إلى أي أس وترتيب حاصل الضرب في شكل منتظم سهل.

قد يكون هذا الاكتشاف طبيعياً مع شخص له نباهة نيوتن الرياضية ودقة ملاحظته، ولكن

ص: 87

اكتشاف الرياضي الآخر كان نتيجة حبه للظواهر الطبيعية وميله لفهم دقائقها وحل معضلاتها.

حساب التفاضل والتكامل:

كان ارشميدس واقليدس قد حاولا أن يقدرا بالضبط مساحات الأشكال المحاطة بخطوط منحنية ولكنهما لم يفلحا، وجاء بعدهما كبلر وجاليلو واشتدت بهما الحاجة إلى ذلك لتطبيق قانون كبلر الثاني في حركة الكواكب وهو القائل (إن المستقيم الواصل بين الكوكب والشمس يمسح في الفضاء مساحات متساوية في أزمنة متساوية) فنالهما من الفشل ما نال ارشميدس واقليدس. فجاء ذلك الشاب الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره وحل ما عجز عنه هؤلاء، وذلك باكتشافه نوعاً آخر من الرياضة هو حساب التفاضل وحساب التكامل.

فإذا أعطينا معادلة رياضية تشمل مقدارين أحدهما يتغير بالنسبة لتغير الثاني، وذلك كتغير المسافة التي يقطعها قطار بتغير الزمن فان حساب التفاضل يمكننا من معرفة معدل تغير المسافة المقطوعة بالنسبة إلى الزمن في أية لحظة كانت، أي معرفة سرعة القطار في أي لحظة.

أما حساب التكامل فهو الذي تمكن به نيوتن من إيجاد مساحات الأشكال المحدودة بمنحن أو اكثر وذلك بتقسيمها إلى أشكال متناهية في الصغر، ثم إيجاد مجموع مساحتها في حدود معينة وهو ما يمكن الفلكيين الآن من معرفة وقت حدوث الخسوف والكسوف بتلك الدقة التي تذهلنا أحياناً.

قانون الجذب العام:

والآن جاء دور ذلك الاكتشاف الهائل الذي تضمحل بجواره دائماً اكتشافاته الأخرى على خطورتها. ذلك القانون الذي غير نظر الإنسان إلى الكون.

كان كبلر قد عرف قوانين حركات الكواكب حول الشمس ولكنه لم ير علاقة بين حركات الكواكب وحركة الأجسام التي تسقط على الأرض. وجاء جاليلو فدرس قوانين سقوط الأجسام بالتفصيل وعرف أن الأجسام تقصر قصوراً ذاتياً عن أن تغير حالتها من السكون

ص: 88

إلى الحركة المستقيمة. ثم جاء نيوتن فرأى من خلال ذلك اخطر قانون انقلابي وصل إليه الإنسان. لقد ربط بين قوانين كبلر الفلكية وقوانين جاليلو الديناميكية فكشف عن النظام الكوني العام في قانون الجذب العام.

فانه كما يريدنا فولتير أن نعتقد، كان جالساً في حديقته بعد عناء صرفه في حل مشكلة رياضية أو صقل عدسة زجاجية عند ما رأى تفاحة تسقط من أعلى الشجرة. فسأل نفسه ذلك السؤال القديم الذي لم يكن قد أجاب عنه أحد، سال نفسه عن علة سقوط التفاحة. وهنا كان قد قدر لتفسير الحركة الكونية إلا أن تظل لغزا فاشتغل بها عقل ذلك الشاب الصغير. لقد ذهب عقله إلى ما هو ابعد من التفاحة وسقوطها. هي تسقط لان الأرض تؤثر فيها وهي بعيدة عنها في أعلى الشجرة، فماذا يحدث أن هي ارتفعت إلى ما هو ابعد من ذلك؟ لقد رآها نيوتن بعيني عقله لا تزال تميل إلى السقوط على الأرض، ولكن بقوة تصور أنها تتناقص تبعاً لقانون التربيعي العكسي. حتى إذا ما وصل بتفاحته إلى القمر تركها ليأخذ القمر، فرآه لابد وان يكون متأثرا هو الآخر بقوة الأرض، إذن لا يمكن أن تكون حركة القمر حول الأرض، وتقيده بهذه الحركة وعدم انطلاقه في خط مستقيم على حسب قانون القصور الذاتي، ألا يمكن أن يكون ذلك راجعاً إلى تأثره بنفس القوة التي تؤثر بها الأرض على التفاحة؟

كان في هذا الإلهام بدء ظهور القانون العام الذي يحكم حركة الماديات في الكون، فانطلق نيوتن يستعين بالرياضة على تحقيق ما وصل إليه فكان في الحاجة إلى معرفة نصف قطر الكرة الأرضية حتى يقارنه ببعد القمر عن مركز الأرض، وهنا شاء القدر ألا يظهر هذا القانون في سنة 1661 بل بعدها بستة عشر عاماً فخانت نيوتن ذاكرته في تذكر نصف قطر الأرض فاعتبره 3440 ميلاً وهو 3960 ميلاً، ولم يتمكن من التحقق من صدق ذاكرته لانزوائه في مزرعته وبعده عن كامبردج ومكتبتها ومراجعها فكان ما وصل إليه رياضياً لا يتفق مع المشاهدات العملية. عند ذلك شعر بالخيبة في ذلك الأمل البراق الذي كان يراه، وهو الوصول إلى قانون طبيعي عام، فذهب يبغي التسلية في تجاربه العملية الضوئية حيث قدر له أن يصل إلى اكتشاف لا يقل في خطورته عن قانون الجذب العام، ولكنه هذه المرة وان كان قد أتم اكتشافه فانه أخفاه عن العالم لمخالفته الآراء المأخوذ بها

ص: 89

في وقته.

كشفه عن طبيعة الضوء الأبيض:

عندما وجه جاليليو أول تلسكوب صنعه إلى السماء ألهاه ما شاهده من عجائب غير منتظرة عن آن يعنى بكون الصورة ممسوخة أو أن ضوءها مشوه، وهو ما نلاحظه في المناظير غير الدقيقة الصنع من تعدد الألوان. ولكنه حاول بعد قليل أن يعرف سبب هذا التشوه وطريقة تلافيه، وكان المظنون أن السبب في ذلك راجع كله إلى ظاهرة (الزيغ الكري)، وهي أن الأشعة الآتية من الجسم البعيد عند مرورها في عدسة التلسكوب تنكمش ولكن لا تتجمع كلها في البؤرة. وقد دفع نيوتن حبه للسماء إلى محاولة معرفة سبب هذا التشوه اللوني للصور فقاده ذلك إلى معرفة أن ضوء الشمس الأبيض يتركب في الواقع من عدة ألوان تبتدئ بالأحمر وتنتهي بالبنفسجي وهي ما تسمى بألوان الطيف، وذلك بان أمر الضوء الأبيض في منشور ثلاثي من الزجاج. وبذلك إن عيب التلسكوب ذي العدسة راجع إلى تفرق الضوء الأبيض الذي يمر في العدسة فيسبب ما يسمى (بالزيغ اللوني). لذلك حاول أن يصنع تلسكوباً آخر لا يستخدم فيه عدسة لامة للاشعة، بل يستخدم مرآة مقعرة تلم الأشعة أيضاً، وقد نجح في ذلك، ولا يزال أحد تلسكوباته محفوظاً في الجمعية الملكية بلندن. وتستخدم الآن المرآة المقعرة بدلاً من العدسات في صنع اكبر تلسكوبات العالم. فتلسكوب مرصد (مونت ويلسون) له مرآة يبلغ قطرها 100 بوصة ويصنع الآن تلسكوب آخر قطر مرآته 200 بوصة.

انقضت سنتا العزلة الإجبارية وبلغ نيوتن الخامسة والعشرين وحان له أن يعود ممتلئ الرأس بكل الآراء الخطيرة التي وصل إليها إلى كامبردج حيث الكتب المحبوبة والأجهزة المطلوبة لإجراء التجارب، وسنتركه الآن لنتم تاريخ حياته في مقال قادم

مصطفى محمود حافظ

ص: 90

‌الخبز الأسود

لأناتول فرانس

ترجمة حبيب المعوشي

كان في مدينة فلورانسا العظيمة بتقادم عهدها، الخالدة بنفيس متاحفها، رجل وافر الثراء يقال له نقولا نزلي، وكان إذا طلعت الشمس يتزوى في مخدعه، ويلبث سحابة نهاره جالساً إلى مكتبه يخط في دفاتره أرقاماً وينقل أخرى. وكان عاهل البلاد وبابا الكثلكة مدينين له بمبالغ باهظة، ولم يكن يعامل المراوغين والمكرة وخافري الذمم محاذرة منهم، ومخافة أن يقع في حبائلهم ويعرض أمواله للضياع. وكان من اجل هذا يقظاً حذراً، وقد جمع أموالاً وافرة، وجرد مدينيه الكثيرين من أملاكهم ومتاعهم ومقتنياتهم. وكان أهالي فلورانسا يجلونه ويخصونه بالاحترام من اجل ثرائه، وكان يقطن قصراً له لا يدخله النور إلا من كوى ضيقة مستديرة، لان الحرص والحرس يحدوان الأغنياء إلى تحصين دورهم وإيصاد أبوابها ليصونوا ما حشدوه فيها من أموال وكنوز وحلي، جمعوها بالإفك والمخاتلة والخداع. ومن اجل هذا أيضاً كان قصر نقولا نزلي محاطاً بالأسوار العالية المنيعة والسلاسل الحديدية الصلبة الثقيلة.

وكان قد استقدم امهر الفنانين وأحذقهم، فرسموا على جدران القصر الداخلية صور فتيات فاتنات، يرمزن إلى أسنى الفضائل واسماها، وصور أحبار إسرائيل وأنبيائه وملوكه. وكان معلقاً على جدران بعض الغرف كثير من النسائج الموشاة بفتوحات الإسكندر وتربستيان ووقائع حروبهما العظيمة كما هي متناقلة بالتواتر ومدونة في بطون التواريخ.

وكان يطيب لنقولا نزلي هذا أن يظهر سواطع ثروته بما كان يأتيه من أعمال الخير: فأنشأ على نفقته خارج أسوار المدينة مستشفى نقشت على أفاريزه رسوم ترمز إلى امجد أعمال حياته. وقد علق الفلورانسيون رسمه في محراب المعبد الجديد المشيد على اسم العذراء مريم، عرفاناً بجميله، وتخليداً لذكرى مبالغ وافرة تبرع بها لإتمام بناء هذا المعبد. وقد مثل في هذا الرسم مضموم اليدين جاثياً على قدمي العذراء. وكان يدل عليه في صورته هذه وجهه الشاحب الكالح، وعيناه الحادتان، وقبعته الحمراء، ودثار مفري اعتاد الظهور به في المجتمعات. وكان رسم زوجه (منى يسمانتونا) معلقاً في المحراب أيضاً في الجهة المقابلة،

ص: 91

قرب صورة العذراء، وكان الرسم يمثلها في موقف الصلاة وعلى وجهها بادية سمات الكابة والخفر والخشوع دلالة على احتفاظها بعفافها.

وقد كان نزلي فوق هذا في طليعة المواطنين الذين أسسوا الجمهورية؛ فلم يخالف يوماً شيئاً مما سن في البلاد من شرائع ووضع من نظم، ورسم من المراسيم، وفرض من قوانين. ولم يعن قط بشؤون البؤساء والمعوزين، ولم يتدخل في أمر من قضى عليهم رجال الحل والعقد بالعقاب أو التغريم أو الأبعاد، بحيث لم يفقد في أعين القضاة ورجال السلطة شيئاً مما أحرزه لديهم من مكانة ومقام، بوافر ثروته وحسن سيره وانقياده.

ففي ذات مساء من أيام الشتاء عاد إلى قصره متأخراً على غير عادته، فوجد نفراً من المتسولين نصف العراة محتشدين أمام الحديقة. فلما أبصروه احتاطوا به وبسطوا له أيديهم مستجدين. فزجرهم بعنف وانهال عليهم بالسب والشتم وأقصاهم عنه بفظ الكلام وقارسه فتفرقوا حلقات واجمين جزعين - غير أن الجوع وقد اخذ مأخذه منهم حملهم على لم شعثهم وإعادة الكرة على نزلي فرجعوا كأنهم مراجل تغلي واحتاطوا به ثانية بشكل نصف دائرة وطفقوا يضجون ويولولون ويلغطون ويصيحون صيحات تماثل عواء الذئاب الضارية واخذوا يسألونه بأصوات ملؤها التهدج والتهديد خبزاً يأكلونه فهم بالانحناء على الأرض ليلتقط حجارة يرشقهم بها، ولكنه ابصر أحد غلمانه آتيا وعلى رأسه طبق عليه أرغفة من الخبز الأسود جاء بها ليفرقها على المشتغلين في اصطبلات القصر ومطبخه وحديقته فأومأ إليه كي يدنو منه، ولما اقترب شرع نزلي يلقي بملء يديه على أولئك الجياع ذلك الخبز الأسود فهاجوا وماجوا وهجموا في هرج ومرج يدفع بعضهم بعضاً متزاحمين متسابقين على تلقف تلك الأرغفة والتقاطها، ولما خف صخبهم وسكن لغطهم وهدأت ثورتهم وحنقهم دخل نزلي في داره ونام، وفيما هو مستغرق في رقاده أصيب بضربة مخية أودت بحياته وكان موته سريعاً جداً بحيث خيل إليه انه لم يزل بعد على قيد الحياة. وبعد هنيهة شعر انه في مكان مقفر مظلم ثم ابصر ميكائيل رئيس الملائكة أتيا إليه قدماً وهو يحمل قسطاساً ذا كفتين، فلما أدركه الملك اخذ يضع في إحدى الكفتين ما كان في حيازة نزلي من حلى أرامل وأموال أيتام وقطع ذهبية وحجارة كريمة ونقود مختلفة كان أحرزها بالغش والربا الفاحش - ففهم نزلي انه قبض وانه إنما جيء به إلى ذلك المكان ليحاسب

ص: 92

فقال للملك: أما وقد وضعت في هذه الكفة ما جمعته بالغش والحرام فمن العدل أن تجعل في الكفة الأخرى ما عملتهمن مبرات وصنعته من حسنات فأرجو منك يا سيدي أن تجعل فيها ما شدته من معاهد للبر والعبادة: ضع المستشفى العظيم الذي أقمته خارج أسوار المدينة، ضع القبة الضخمة التي أنشأتها لمعبد العذراء مريم، ضع. . . فقاطعه الملك وقال: هدئ روعك يا نقولا واخلد إلى السكينة فلن اغفل شيئاً من صالح أعمالك. قال هذا ووضع بيده اللبقة اللطيفة ذينك المستشفى والقبة في الكفة الأخرى ولكن الأولى ظلت راجحة. فقال نزلي: فتش جيداً لعلك تجد لي أعمالاً صالحة أخرى، ومع هذا أراك أهملت جرن الماء المبارك الذي قدمته لكنيسة القديس يوحنا، وغاب عنك منبر الخطابة الذي صنع على نفقتي في معبد القديس اندراوس، ونسيت بنوع خاص تمثال عماد السيد المسيح فهو عظيم جداً وقد كلفني نحته الدقيق البديع المتقن مبالغ طائلة. فجعل الملك كل هذا في الكفة أيضاً ولكن رجحان الأولى مازال عظيماً - فامتقع وجه نزلي روعة وجزعاً وغشى جبينه عرق بارد فأدرك انه هالك، وتدبران الجحيم المعد للخطاة والأشرار سيكون مصيره، ثم التفت إلى الملك وقال: أأنت واثق يا مولاي من ميزانك وصحته؟ فابتسم الملك وقال: إن قسطاسي وان خالف بشكله موازين مرابي باريس وصيارفة البندقية إلا انه في منتهى الدقة والضبط: فقال نزلي أنى يكون هذا؟ أفلا يزيد في قسطاسك وزن القبة الضخمة والمنبر الكبير والتمثال العظيم والمستشفى الفسيح العالي بكل ما فيه من أسرة وعدد ومعدات على وزن قلامة الظفر وقشة الحقل وريشة الطائر؟ فقال الملك: لست ادري ولكن الأمر كما ترى، فمساويك وآثامك لا تزال حتى الآن ترجح كثيراً على مباراتك وحسناتك. فقال نزلي: وهو يصر بأسنانه وفرائصه ترتعد وركبتاه تصطكان هلعاً ورعباً: يا لشقائي! وما عسى أن يكون مصيري؟ أأنا هالك؟ وهل إلى النار مآلي؟ فقال الملك: رويدك يا نقولا إني لم أنجز بعد عملي إذ بقى وزن هذه، مشيراً إلى أرغفة الخبز الأسود التي ألقاها نزلي مكرهاً على الفقراء المعوزين في مساء اليوم السابق، ثم جمع الملك تلك الأرغفة وضمها إلى ما في كفة الأعمال الصالحة فإذا بهذه الكفة قد تحركت وبدأت تثقل وتهوي إلى أسفل، بينا الكفة الأخرى أخذت تخف وتشيل، ولبثت حركة الكفتين تتراوح هنيهة بين هبوط وصعود حتى سكنت، فإذا الكفتان متعادلتان وزناً ومستوىً. فدهش نزلي مما رأى وكأنه لا يصدق عينيه.

ص: 93

فقال له الملك: انك والأمر كما ترى لا تستحق الجنة جزاء ولا تستوجب النار عقاباً، فعد إذن إلى فلورانسا، وواصل الإحسان على الفقراء عن رضىً ولو بالخبز الأسود، ولا تدع أحداً يحس بالخير الذي تصنعه، وثق بأنك إن فعلت هذا وواظبت عليه تخلص، إذ لا يكفي أن يفتح الله أبواب الجنة للص النادم وللبغي التي تحوبت بغاها وندمت عليه وبكت من اجله وتابت عنه، بل يجب أن يخلص بواسع رحمته من النار غنياً أيضاً، فكن أنت هذا الغني ووال الإحسان ولو بالخبز بعد أن تبينت مبلغ وقعه وثقله في قسطاس العدل الإلهي.

قال الملك هذا واختفى، وبعد قليل أفاق نزلي من رقدة الموت وجلس في سريره يتأمل في ما حدث ويعجب مما رأى. ثم نهض بعد أن وطد النفس على العمل بنصح الملك وموالاة المعوزين بالصدقات والحسنات لينال الخلاص - وهكذا لبث طيلة ثلاث سنوات قضاها على الأرض بعد موته الأول كثير الإشفاق على الفقراء، وافر الرحمة على البؤساء والمعوزين، مواظباً على فعل الخير مواصلاً أعمال البر والصلاح.

حبيب المعوشي

ص: 94

‌الكتب

المسرح الغنائي

على ذكرى (غرام الشعراء)

تأليف الأستاذ احمد رامي

كتب مرة أديب من الشبان مقالاً في جريدة السياسية الأسبوعية الغراء منذ سنوات عدة حاول فيه أن يلفت أصحاب الغناء المبرزين إلى أن المرتبة التي وقفوا عندها ليست جديرة بهم، وان الغناء على تخت مكون من (أساطين رجال الفن) ليس قصارى ما يصل إليه فن الموسيقى، بل إن الميدان الفسيح للغناء هو المسرح والأوبرا. غير أن تلك النصيحة آلمت كبيراً من كبراء أهل صناعة الغناء وظن أنها تمس كرامته وفنه، وإلا فهل يليق أن يقول أحد أن غناءه يقصر عن غاية؟ أو أن في الإمكان أبدع مما كان؟ فهب إلى الرد على الكاتب واقبل على تجريحه بما لا يتفق ووداعة الفن الجميل. وإنني اليوم اجرؤ أن اكرر ما قال ذلك الأديب في مقاله السالف، فان أغاني هذه الأيام تكاد تجعل السماع حملاً ثقيلاً، وتكاد تجعل الاهتزاز إليه نوعاً من الصناعة المتكلفة. ولا شك انه قد آن لمصر أن يكون لها مسرح ثابت للأوبرا يجول عليه كبار المغنين من الجنسين ويمدهم فيه بالوحي والروح شعراء مصر المبرزون.

والحق أن موت المسرح الغنائي هو الذي أمات الرواية الشعرية، وهاهي آية تدل على استعداد شعرائنا للتأليف والإبداع إذا وجد من يغرد بقولهم ويصدح بشعرهم.

وهاهو الأستاذ رامي يترك المقطعات حيناً ليظهر للملأ انه يستطيع إذا وجد من المسرح حاجة إليه أن يخلق قصة شعرية رائعة. فان بين أيدينا اليوم قطعة (غرام الشعراء) تجمع بين ما اعتاده الناس من عذوبة شعر رامي وما يتطلبه المسرح الغنائي من تصوير بديع وتأليف متسق. وقد جعلها الشاعر فصلا واحداً ونظنه قد قصد إلى ذلك قصداً. فما نظنه إلا عارضاً على أصحاب الغناء بضاعة جديدة لعله يستطيع أن يرغبهم في ترك البسائط والطموح إلى آفاق أعلى واكثر سمواً.

وان رامي إذا فعل ذلك فإنما يرجى منه أن يلقي إلى الأدب بالآية الكاملة: بالقصة الشعرية

ص: 95

الطريفة: بما هو جدير به

م. ف. ا

كتاب القاهرة

للأديب عبد الرحمن زكي

ملازم أول بالأشغال العسكرية

هاهو ذا مؤلف يريد أن يقول شيئاً فيعرب في قوله. إن كثيراً مما نسمع من الأقوال لا يعدو أن يكون صوت أنين غير معرب، أو صوت نشوة لا يتبين السامع منها إلا صيحة تدوي في الفضاء، ولكن مؤلف (القاهرة) أراد أن يصف القاهرة فرسم خطة ثم أنفذها، وعرض على الناس كتاباً أن يقول لهم أن يقرأوه.

بدا بوصف فسطاط عمرو، ثم عسكر بني العباس ثم قطائع ابن طولون، ثم القاهرة المعزية، ثم ما طرأ عليها من الزيادة في أيام الدول التركية المتعاقبة. ثم أردف ذلك بوصف مختصر عن المقريزي لما كان في أيامه من خطط القاهرة، وأوضح ذلك كله بخرائط دقيقة واضحة.

ففكرة الكتاب فكرة علمية بديعة يشكر المؤلف عليها شكراً عظيماً.

غير انه لم يوفق في إنفاذ الخطة كما نظنه رسمهاً لنفسه، فان كتابا يصف القاهرة ينبغي أن يغلب عليه الوصف لما في القاهرة، وما اكثر ما فيها من مخلفات العصور المتعاقبة! غير انه قنع بان يغلب على كتابه ذكر تاريخالقاهرة وتطور عمرانها. فالكتاب اجدرأن يعد كتاب تاريخ نمو القاهرة لا كتاب وصف لها. ولسنا بسبيل التماس الأسباب التي دعت المؤلف إلى ذلك، غير أننا نرجو أن يوفق في مستقبل أيامه - واغلب الظن انه لا يزال في شبابه الأول القوي - إلى أن يكمل هذا البحث الطريف فيجعلنا نرى مميزات كل عصر ومخلفات كل دور من أدوار نمو القاهرة حتى يصبح ذكر القصة التاريخية ثانويا في ظهور الصورة بدل أن يكون كما هو الآن ابرز شيء فيها.

م. ف. ا

ص: 96

روائع من قصص الغرب

ترجمة الأستاذ كامل كيلاني

اذكر أنني منذ سنوات خمس، كنت أتحدث مع صديق حول رسالة الغفران التي هذبها الأستاذ كامل كيلاني، فقد كنت أقرا الرسالة مع الصديق قراءة الدرس والتحليل، فلما أن فرغنا من تلاوتها، قلت لصاحبي: والله إن الأستاذ كيلاني ليستحق منا الشكر لما صادفنا في هذه الرسالة من لذة وجمال. قال بل إن أبا العلاء لأجدر منه بذلك الثناء، أما الأستاذ كيلاني فماذا قدم إلينا إلا أن تناول رسالة أبي العلاء، فحذف منها شيئاً واثبت شيئا؛ قلت أن رسالة أبي العلاء لبثت مطمورة بين أكداس الكتب لا يجرؤ عليها إلا صفوة الخاصة وهم قليلون. أما وقد هذبها الأستاذ كيلاني، وشذب أطرافها النابية، وأزال ما يعترض سبيلها من عثرات، فقد باتت معبدة ميسرة للكثرة الغالبة من القراء، تتداولها أيدي الطبقة الوسطى من المتأدبين، بعد أن كانت أرستقراطية مقصورة على طبقة الأشراف! وإذن فمن الأسرف في الغبن وإنكار الجميل إلا نعترف بذلك المجهود - وأشباهه - الذي يهيئ للقراء ما لم يكن لهم إليه من سبيل.

وإذا كانت التجارة في عالم الاقتصاد دعامة قوية يرتكز عليها البناء الاقتصادي بأسره، وهي ليست إنتاجاً في ذاتها، إنما هي وساطة بين المنتج والمستهلك، ففيهم الكفر بقيمة الوساطة الأدبية بين الكاتب والقارئ؟ ولولاها لما اتصل القراء بأكثر ما تسيل به الأقلام في أنحاء الأرض إلا في دائرة ضيقة وحيز محدود. وان صح هذا القول بصفة عامة، فهو اشد صدقاً واثبت يقيناً بالنسبة إلى مصر، لأنها اليوم في عصر ترجمة اكثر منه عصر تاليف، فالمترجم الذي يقدم إلى قراء العربية صوراً من أدب الغرب، إنما يسدي إليهم يداً بيضاء، لأنه يقدم إليهم غذاء صالحاً ما كانوا ليوفقوا إليه لولا ما بذل من مجهود.

نقول ذلك بمناسبة مجموعة القصص التي عربها الأستاذ كامل كيلاني. فهي من روائع الأدب الغربي حقاً، قد وفق في اختيارها وتعريبها إلى حد بعيد. وحسبك أن تعلم أنها طائفة من قصص بوكاتشو، وفولتير، وديدرو، وسرفنتس، وفلوبير، وسويفت، وروسو وغير هؤلاء من أئمة الأدب في الغرب!

ص: 97

ولسنا نشك في أن القصة القوية الرائعة التي تحلل النفس الإنسانية في أعماقها، وتحرج سرها الدفين من مكمنه، فتضع تحت أبصارها ما استتر في أحنائها حتى نلمس مواضيع النقص بارزة واضحة، لهي من افعل الأدواء لما ينتاب جيلنا من أمراض خليقة تكاد تهز كياننا من أساسه، والتي تدعو إلى تضافر الأقلام جميعاً في درء خطرها الداهم.

فهذه المجموعة القيمة وعاء اجتمعت فيه مجموعة مختلفة من طباع الإنسان، وتلمح في ثناياها مثلا عليا تؤثر في نفس القارئ من حيث يدري ولا يدري. ولا بد أن نذكر - ونحن بصدد هذا الكتاب - جودة الطبع والورق، وجمال التنسيق وسلامة الذوق.

ز. ق. م

ص: 98