المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 500 - بتاريخ: 01 - 02 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٠٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 500

- بتاريخ: 01 - 02 - 1943

ص: -1

‌6 - دفاع عن البلاغة

2 -

آلة البلاغة

أشرنا في كلام سبق إلى أن طالب البلاغة الموهوبَ لابد له من درس اللغة، والطبيعة، والنفس، على الأخص؛ ثم أجملنا المراد بدرس اللغة، وألمعنا في صدد ذلك إلى منهاج يبتدئ بتقويم السليقة وينتهي باكتساب الذوق

وكان الأشبه بطبيعة الموضوع أن نفصل الكلام في تحصيل علوم اللسان ووضع الخطة لها وبيان الفائدة منها؛ ولكننا في مقام من يدافع ولا يعلِّم، ويوجه ولا يقود. وقديماً شكا عبد القاهر ما نشكو من زهادة الكتاب في اللغة، وأنصرافهم عن النحو، واستخفافهم بالبيان، وتنكرهم للشعر، وجريهم في الصياغة على الاحتذاء، وظنهم أن الكاتب متى (عرف أوضاع لغة من اللغات. . . وعرف المغزى من كل لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بيّن في تبك اللغة كامل الأداة. . .) على أن (ههنا دقائق وأسراراً طريق العلم بها الروية والفكر، لطائف مستقاها العقل، وخصائص معانٍ ينفرد بها قوم هُدوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكشف لهم عنها. . . وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجب أن يفضُل بعضه بعضاً، وأن يبعد الشأو في ذلك وتمتد الغاية، ويعلو المرتقى ويعز المطلب حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز. . .)

ولقد حاول عبد القاهر أن يطبَّ لهذا الداء فوضع كتابيه القيمين (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة)؛ ولكن الداء كان قد استشرى فلم يصحّ عليهما إلا أفذاذُ رزقوا شدة الأسر وقوة الفطرة. ثم عقم الدهر بمثل عبد القاهر، وانقطعت الأسباب بين كتابيه وبين الزمن، فتجددت معانٍ وصور، وتولدت أغراض وأساليب، وأصبح هذان الكتابان في أول الطريق مناراً لا ترى بعده إلا إغفالاً ومجاهل! فهل في البيانيين من أساتذة جامعاتنا الثلاث من يحاول في البلاغة الحديثة ما حاول عبد القاهر في البلاغة القديمة، فيجددوا ما درس، ويكملوا ما نقص، ويقيموا أدب الكتابة وأدب النقد على قواعد ثابتة من الفن الصحيح والعلم الحديث؟

ذلك، وأما درس طالب البلاغة للطبيعة فلأنها كتاب الفنان الجامع ومصوَّره العجيب. منها موضوعه ومادته، وعنها اقتباسه ووحيه، وفيها دليله ونموذجه، وبها أخيلته وصوره، فيجب

ص: 1

أن يطيل فيها النظر، ويشغل بها الفكر، ويرجع في كل ما يعمل لأصولها الثابتة وقواعدها المقررة، ليتقي الضلال والخطأ، ويأمن الإغراق والتكلف

هذا الكتاب المحيط المعجز الذي ألفته يد القدرة قد تجمعت على هوامش متنه الهائل عقول بني آدم منذ استبصوا، يحاولون كشف أسراره وفهم حقائقه؛ فوفِّقوا بالاستقراء والاستنباط إلى ابتكار علوم، وابتداع فنون، تخصص في هذه أقوام، وفي تلك أقوام، كالجيولوجيين والجغرافيين والطبيعيين والكيميائيين والفلكيين والمهندسين وسائر من يتصل علمهم أو عملهم بالأرض والسماء، واليبس والماء، والجماد والحي. والأديب وحده هو الذي يجب عليه أن يشارك في كل علم ويلم بكل فن؛ لأنه عرضة لأن يكتب في كل أولئك ولو على سبيل التصوير والتشبيه. فإذا لم يكن واقفاً على مصطلحات الفنون والعلوم، عارفاً بمختلف الحدود والرسوم، قدح ذلك في ثقافته وغض من كفايته. ولقد عبرنا بالمشاركة والإلمام لأن دراسة الأديب للطبيعة تختلف عن دراسة الفيلسوف لها: الفيلسوف يدرسها ليعرف، والأديب يدرسها ليحتذي. الفيلسوف يشرح ويحلل، والأديب يصور ويمثّل. فحظ الأديب من درس الطبيعة هو حظ المصور من درس التشريح: لا يزيد على القدر الذي يضيف إلى جمال التخيل جمال الحقيقة، ويجمع إلى دقة المثال براعة الطريقة

إن الأسباب لا تعني الأديب وإنما تعنيه النتائج. فالفلكي يرقب فعل الجاذبية، ويرصد حركة الأفلاك؛ ولكن الشاعر يصور نظامها الدقيق وتلاؤمها العجيب وتطورها الدائم. والطبيعي يحلل الضوء والصوت؛ ولكن الشاعر يُسمعك في شعره هزيم الرعد من جبل إلى جبل، وزفيف الريح من واد إلى واد، فيقذف في قلبك الرهبة. ويريك وميض البروق الزُّهر تتكسر في الأفق صفائح وهاجة تشق رُكام السحائب الجون، فتبعث في نفسك الروعة. والكيميائي يشرح سطوع الروائح على طريقته الخاصة؛ ولكن الشاعر يصورها لذهنك في النسيم الرفاف يصفق في الهواء بأجنحته المخضلة بأنداء الفجر، المضمخة بعطور الصباح

وأما دراسته للطبيعة فلأنها الينبوع الثّرُّ لما يزخر به الشعر والنثر من مختلق الغرائز والعواطف والأفكار والأحاسيس؛ ومعرفة الينبوع في مصدرِه وجوهره ومداه، شرط في معرفة ما يصدر عنه على حقيقته وطبيعته وأثره. وإذا كان من خصائص فن الكاتب أن يخلق أشخاصاً للقصص، ويمثل أهواءً على المسرح، يعالج أخلاقاً في المجتمع، ويحلل

ص: 2

عقّداً في الناس، فمن غير المعقول أن يحسن شيئاً من أولئك إذا لم يكن عليناً بأسرار القلوب وأهواء النفوس وما ينشأ من التعارض والتصادم بين الغرائز والأخلاق، وبين العواطف والمنافع. وإذا كان مدار البلاغة على مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال، فإن إدراك الفروق الدقيقة بين الحالات المختلفة للمخاطب، وصياغةَ الكلام على قوالب المقتضيات المناسبة للخطاب، وتصويرَ الأخلاق على نحو يغرى بالخير أو يحذر من الشر، والقدرةَ على خلق الجمال في الأسلوب، أو التعبير عما يخلقه الجمال فينا من العواطف؛ كل أولئك يسلتزم دراسة خاصة لعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم الجمال

هذا كلام أشبه بالمتن في تعميمه وإيجازه. والعذر المسوغ لهذا الأسلوب أننا نخاطب الكتّاب ونبين الحدود وتبرز الخصائص؛ ومن اجل ذلك قصرنا الكلام على اللغة والطبيعة والنفس من جملة ما يجب على طالب البلاغة درسه؛ لأنها في رأينا أشبه بعلوم التخصص له. والمفروض أن يخصها بطول النظر بعد أن يأخذ قسطه الأوفى من ضورب الثقافة

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌رسالة وجدانية

ألوان وألوان

(للكاتب المجهول)

مولاتي!

كان الظن أن ينتهي ما بيننا بعد الجدال الذي ثار في الليلة الماضية، أو السنة الماضية، فما أدري متى التقينا آخر مرة. وكيف أدري واللحظة القصيرة من الفراق تتمثل لقلبي وكأنها أجيال وتواريخ؟

كان الظن أن ينتهي ما بيننا فلا تعود أحلامه ولا أهواله، ولا ترجع أيامه ولا لياليه، ولا يمر بالخاطر في لحظة من زمان

كان الظن أن نفترق، بعد أن تشهينا أن نفترق، ومعاقرة الكأس توحي بصدع الكأس، فكيف أراجع هواك يا ظلوم، بعد أن نويت المتاب، على أعظم حال من الشوق إلى المتاب؟! قد تشهينا أن نفترق، فمتى تفترق؟ ومتى نذوق طعم الأمان من عدوان الأشجان؟

كان اللقاء الأخير بلية من البلايا المواحق، فقد تناظرنا بشراهة تفوق الوصف، وكأننا نريد أن نلتهم ما بقي من زاد الحب، وأن نتزود للأعوام البواقي، وأن نقول إننا لا نواجه بيداء الصدود بغير زاد

لقد أخطأنا فيما صنعنا، والمحبون كبار لا يدرون عواقب ما يصنعون من مرارة الافتراق، وهو غير الفراق!

لن ينقضي ما بيننا أبداً، ولن تبيد تلك الألوان، ألوان الأثواب وألوان القلوب

كنت تلقينني في كل مرة بثوب جديد، وكنت ألقاك في كل مرة بقلب جديد. وما أبعد الفروق بين ألوان الأثواب وألوان القلوب!

لن ينقضي ما بيننا أبداً. وبالرغم مني أن يكون ما بيننا أوثق مما بين العين والضياء، فلك بدوات تجعل الإيمان بحنانك أضعف من الإيمان بأمانة المحتالين

لم تكن لي يدٌ فيما صرنا إليه، فقد فررت من هواك ألف مرة، وانتقلت من محلة إلى محلة ومن إقليم إلى إقليم، لأنجو بنفسي، فهل نجوت؟

إن الشمس تلاحقني حيثما توجهتن فأين الفرار من وَهَج الشمس؟

ص: 4

لا المتاعب الشخصية تشغلني، ولا الحوادث الدولية تشغلني، ولا شيء في الدنيا يصرفني عن التفكير فيما صرتِ إليه بعد الأفتراق، يا أجمل ريحانة في روض الوجود

ألوان أثوابك لا تفوق ألوان قلبي، إلا أن يقال إن المصنوع أجمل من المطبوع

ألوان ثوبك لها أمثال، وليس لقلبي أمثال، وأنت تعرفين ثم تعرفين

اذهبي إلى أبعد الآفاق، واعرفي جميع الخلائق، فلن تكوني لغيري أبداً، لن يكون للغواية سبيل إلى المليحة التي وسمت جبينها بغرامي

لن أجود عليك يوماً بنعمة الحرية، وستطلين في إساري إلى آخر الزمان

جرّبي التحرر، جربيه، إن كانت لك بالتحرر من وثاقي يدان دنياك بعدي بئرٌ مسمومة، فانظري ما تصنعين

لن ينقضي ما بيننا أبداً، ولن يكون لنا غير ما حُظَّ في صحيفة الخلود، وهيهات ثم هيهات أن يمحى سطرٌ خطَّته الأقدار في صحيفة الخلود!

ما في كل يوم، ولا كل عام ولا كل جيل، ينعطف قلب إلى قلب كما ينعطف قلبك إلى قلبي، فنحن الغاية المنشودة من الوفاق الصحيح بين الأرواح والقلوب

دنيانا التي أعرف وتعرفين أصبحت قفراء، فمتى نلتقي لتعود زهراء؟

خبريني متى نلتقي؟ ومتى نعلن الانتصار على عوادمي الزمان؟ لطف الله بك يا ظلوم، وحفظ عليك نعمة الوجه الوهاج! متى نلتقي؟ وهل افترقنا؟ أنت بين يديّ وإن حجبتْك عني فيافٍ وسهوب.

(الكاتب المجهول)

ص: 5

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

مقاومة التدخين - أين (الرسالة)؟ سنعرف الأدب في أيام الشدة

كما عرفنا في أيام الرخاء

مقاومة التدخين

في العام الماضي قام الدكتور شخاخيري بتأليف رابطة لمقاومة التدخين، ومضى يستهدي المفكرين والمؤلفين والوزراء كلمات في استنكار التدخين. ولم يكتف بذلك، وإنما اندفع فنظم سلسلة محاضرات في (دار الحكمة) دعا إليها أشهر المحاضرين ليقاوم آفة التدخين

والدكتور شخاخيري رجلٌ مخلص، ودعوته هذه تستحق التأييد، ولكنها معرّضة لأخطار سأنص عليها في هذا الحديث لأهدم الأساس الذي قامت عليه، ولعل الله يتفضل فيكتب لي النفع مما تعلمت، لأنني مع الأسف من المسرفين على أنفسهم بالتدخين

شاع وذاع أن الدخان يشحذ الفكر، ويوقظ الذهن، ومن أجل هذا كثر المدخنون من الشعراء والكتّاب والسياسيين، حتى صار من المألوف أن نرى صور الساسة والوزراء وفي أفواههم السجائر النحاف أو السمان، حتى صار من العسير أن نتصور شاعراً أو زعيماً خلت حياته من عبق الدخان

لن أقف موقف الواعظ في دفع هذه الآفة، ولكني سأقف موقف المؤرخ، ثم أترك الحكم للقراء فيما سأسوقه من البينات

أول أمة عريقة في التدخين هي أمريكا القديمة، أمريكا الأمريكية، لا أمريكا الأوربية، أعني أمريكا التي سبقت عهد كولمبوس، وسبقت عهد الاتصال بالأوربيين والأسيويين

فما الذي استفادت أمريكا القديمة من التدخين؟ هل فتق أذهان أهليها إلى ألوان من الفكر والعقل والبيان؟ هل جعل لأهليها ماضياً في رفع دعائم الحضارة الإنسانية؟

كلا، وإنما تركها التدخين أمة بلا تاريخ

وأقدم الأمم في رفع راية العقل هم المصريون والبابليون واليونانيون، فهل عرف هؤلاء التدخين حتى ننسب رقيهم إلى هذا المرض الفظيع؟

ص: 6

وهل عرف العرب التدخين حتى نرد السبب في تفوقهم إلى الدخان؟

هل دخن الجاحظ والغزالي وابن رشد والبحتري والمتنبي وأبو فراس؟

أترك التاريخ القديم وأذكر شواهد قريبة جداً من تاريخ مصر الحديث:

أعظم كاتب سياسي بإجماع الآراء هو المرحوم عبد القادر باشا حمزة، ولم يكن يدخن أبداً، وما أذكر أني رأيته طلب فنجان قهوة في أي وقت وهو يكتب أصعب المقالات

ومن عظماء كتابنا الأستاذ الزيات والأستاذ العقاد، وهما لا يعرفان التدخين. وهذا كلام لا يكاد يصدقه القارئ، ولكنه الواقع، ولا حيلة في إنكار الواقع

ولو أن الله أراد أن أنتفع بما تعلمت لتذكرت أني ألفت كتاب (الأخلاق عند الغزالي) وكتاب (النثر الفني) قبل أن أعرف التدخين، فمتى أنتفع بما تعلمت؟

أما بعد فقد دعاني إلى كتابه هذه الكلمة حوادث أغضبتني، لأن فيها دعاية إلى التدخين، وهو مرض يفتك بشبان هذا الجيل

الحادث الأول: في الأسبوع الماضي وقف الأستاذ زهير صبري يستجوب الحكومة في مجلس النواب عن تسعير الحاجيات الضرورية، فلما وصل إلى السجائر قال: إن السجائر قد غلت مع أن (كيف) القهوة والشاري لا يحلو إلا بسجارة (؟!) فهل فاته أن هذا الكلام إيحاء بأهمية السجائر في الحياة اليومية

الحادث الثاني: قي الأسبوع الماضي أيضاً (تفضلت) الإذاعة اللاسلكية فأذاعت أغنية تنطق بفضائل السجائر، أغنية منقولة عن أحد الأفلام السينمائية

وأنا سأثبت هذه الأغنية في هذا الحديث لغرض واحد: هو تأريخ الحياة الأدبية، فما يجوز لمؤرخ الأدب أن يترك شيئاً بلا تقييد، ولو كان في الدعوة إلى الدخان. وسأدعو الإذاعة اللاسلكية بعد ذلك إلى التفرقة بين جو الرواية وجو الغناء

عنوان الأغنية (خد سجارة وهات سجارة) وهي من الشعر الملحون:

السجارة في الحياة زّيي أنا

تِتْحرق يضحي روحها لأجل غيرها

عمرها في الدنيا ما شاقت هنا

تحيا بين النار عشان يرتاح ضميرها

خد سجارة، وهات سجارة

السجارة إن كنت يوم حتْدوق حنانها

تلقي نفسك في حياة غير الحياةْ

ص: 7

تلقي طيف اللي تحبه بين دخانها

لما فكرك يبقى سارح في هواه

خد سجارة، وهات سجارة

أنت زعلان؟ خذ سجارة، خذها مني

يا لله ولَعها واطفي الشوق بنارها

أنت تبقى في جوها عايش مهني

والسجارة تبقى زيي في مرارها

خد سجارة، وهات سجارة

السجارة لما تيجي وتواسيك

تنكوي بتارك ومن شوقك تبوسها

هي بتْصون الجميل حرام عليك

بعدما تحرقها بالأقدام تدوسها

خد سجارة، وهات سجارة

وهذه القطعة قوية جداً في الإبانة عن الغرض الذي نُظمِت فيه، ولكن محطة الإذاعة تنسى أن ما يبيحه جو الرواية لتصوير إحدى الحالات النفسية لا يباح عرضه على جماهير بريئة يؤذيها الإيحاء بجمال الدخان

جو الرواية المسرحية أو السينمائية قد يدعو إلى تجميل إحدى الرذائل ولكنه قد يسوق بعد ذلك عبرة تقتل السم الذي بثه المنظر الأول، وبهذا يتعادل النضال بين السم والترياق

فما عذرُ محطة الإذاعة في أن تبثّ داءً بلا دوار؟

الحادث الثالث: رأيت في أحد الأفلام ممثلاً يدخن بإسراف مع أنه صديق أعرفه منذ سنين، وهو يبغض الدخان، فلما سألته عن السبب أجابني بأن الأفلام المصرية تجعل الناس جميعاً مدخنين فما هذا الذي نرى؟

أنُزّور الحياة المصرية لتشابه الحياة الأمريكية؟

أنكذب على الواقع في سبيل الفن، مع أن غاية الفن هي أن يجسم المحاسن والعيوب، حين يراد به تهذيب الأخلاق؟

اللهم حوالَيْنا ولا علينا!!

أين الرسالة؟

حدثت قرائي مرة أني رفضت أن تُهْدى إليّ الرسالة، لأني أجد أنساً في اشترائها من السوق، كأني أوجه تحية إلى صاحبها الصديق. وبالأمس انقبض صدري حين حدثني باعة الجرائد أنها احتجبت لعدم وجود الورق، ثم لطف الله فعرفت بعد ذلك أنها اكتفت بطبع

ص: 8

كمية بقدر عدد المشتركين، إلى أن يأذن الله بالورق الذي يساعد على أن تغمر السوق من جديد. ليتني اشتركت في الرسالة!

هل خطر في بال من تهمهم سمعة مصر الأدبية في الشرق خاطر احتجاب الرسالة عن الأسواق؟

هل آذاهم أن يقال إن مجلة مثل الرسالة لا تجد قوتها من الورق مع أنه قوت مبذول لمنافع قد تضر بسمعة مصر في أنظار من لا يعرفون غير الجد الصريح؟

ليست الأزمة أزمة الورق، فهو موجود، وإنما الأزمة تنحصر في انعدام التعاون والتساند، هي أزمة الأدب اليتيم الذي لا يسأل عنه أحد حين يغيب!

هل صلصل الهتّاف في بيت الأستاذ الزيات من إحدى الجهات للسؤال عن الأسباب التي حجبت الرسالة عن الأسواق؟

أكان يجب ألا تقتصر الرسالة على الأدب الصرف لتجد من يسأل عنها حين تحتجب؟

سنعرف طاقة الأدب في اجتياز هذه المحنة العاتية. وإن اقتضى الأمر أن نرجو الحكومة أن تسمح بإذاعة محصول الرسالة عن طريق المذياع فسنفعل

أيها الأدب

أنا غير خائف على مصيرك، وهل كانت هذه أول محنة صارعتَها وصارعتْك حتى أخاف عليك؟

لا تصدِّق أيها الأدب أننا سنفرّط في استقلالك بأي ثمن، ولا تتوهم أننا سنتخلى عنك بما يسمونه الظروف أو الصروف

سنعرفك في أيام الشدة، كما عرفتنا في أيام الرخاء، والله وليّ الصابرين.

زكي مبارك

ص: 9

‌أهمية دراسة التاريخ

للدكتور محمد مصطفى صفوت

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

مركز التاريخ في التربية العقلية والجمالية كبير. فالتاريخ يزيد معلومات الدارس عن الحساة، ويوسع أفق تفكيره، ويرقي بقدرته على الحكم. وفي التاريخ يستطيع الإنسان البحث في أسباب الحركات العظيمة ونتائجها، وفي اتجاهات العالم لو أن حوادث هامة لم تقع. لا ريب في أن طريقة البحث الذاتي وقراءة المصادر الأصلية وتفسيرها ونقدها تثير همة الباحث وتبعث فيه حب الحقيقة والبعد عن التحيز. وفي التاريخ مادة تساعد على تقوية أنواع الذاكرة التي لدى الطالب، ففي رؤية الآثار والصور التاريخية ما يقوي بعض الأنواع البصرية من الذاكرة، والتاريخ يقوي التذكر السمعي إذا كان عند الدارس استعداد طبيعي لتذكر ما يسمع ولتذكر نوع خاص مما سمع. أما من حيث الخيال فللتاريخ قيمة كبيرة في تدريبه وتوسيع مجاله. فالتاريخ القصصي يشبع رغبات صغار القارئين في التخيل والبعد عن عالم الحقيقة الراهنة فيرون فيه أعمال البطولة، ويتلو الحوادث بعضها بعضاً فيذهب بهم الخيال كل مذهب ولكن في حدود الحقيقة. أما في حالة المراهق الذي يشرد به الخيال نتيجة لثورة قوية يهتز لها جسمه وعقله ويرجع الفكر به إلى الماضي البعيد للإنسانية أو يمتد به إلى المستقبل ثم ينقلب به إلى الحياة الحقيقية وهو كليل - يشفى التاريخ فيه هذه الرغبة في الرجوع إلى الماضي ويفسر له النظم الموجودة ويخفف من حدة شرود الفكر. ويجد الباحث والدارس لذة عظيمة في قراءته للتاريخ وتخيله للحوادث. فزيارة للأهرام والآثار حولها، وتخيل فرعون يأمر وينهي وقد عنت له الوجوه. . . كل هذا يستوقف النظر ويثير ويسمو به. ويساعد التاريخ على تذوق الفن والجمال. فهو معرض لنواحي الحياة الإنسانية: فهذا جانب السياسة، وهذا جانب الاجتماع، وهذا جانب العلم والأدب. هذه ناحية إرضاء الشهوات، وهذه ناحية إرضاء الروح. هذه هي آثار المصري، هذه مسلاته ومعابده. هذه هي آثار الفن على حياة الإغريقي. . . هذا هو الأدب الذي فاضت به النفس البشرية. ما الشعور الذي يغلب على النفس حينما فاضت به النفس البشرية. ما الشعور الذي يغلب على النفس حينما يزور الإنسان هيكلاً من الهياكل أو معبداً

ص: 10

من المعابد أو مسجداً من المساجد أو قصراً من القصور القديمة، أو عندما يقرأ وصفاً لهذه الآثار! ما الإحساس الذي تحسه النفس حين تقرأ وصف البحتري إيوان كسرى أو وصف ابن حمديس لقصور أمراء تونس!

وأخيراً ننتقل إلى قيمة التاريخ العظيمة في التربية الوطنية والإنسانية. يولد الإنسان في مجتمع تربط أفراده علاقات متعددة، لا يدري شيئاً عن نظم ذلك المجتمع وقوانينه التي هي كنز خلفه الماضي، ماضي بلدته وماضي وطنه وماضي الإنسان؛ فالنظم والمثل العليا التي عينت سير الإنسانية في الماضي لا زالت هي التي تعين وتحدد السير في الحاضر، ولا مناص للإنسان من تلقي هذه التركة بما فيها من أعباء ومسئوليات. وكيف يقوم بواجبه نحو ذلك التراث ونحو الوطن والمجتمع الإنساني إذا لم يدرس هذه التركة وقيمتها؟ وقد لاحظ من المفكرين هذه القيمة، فقالوا بتدريس التاريخ القومي والاهتمام به اهتماماً خاصاً. ظهرت هذه الفكرة بشكل واضح في بروسيا عقب كارثة سينيا، وانتشرت في أوربا بين الشعوب التي تتحفز للظهور والوحدة. رأت هذه الشعوب أن الوطنية الحق لا تقوم إلا على أساس الفهم لنظم الوطن، وتقدير التركة التي خلفها، وتحمل المسئولية التي تركها، ومعرفة أيام عظمته وأيام محنته والعمل على نشر الرسالة التي خلق من أجلها. والتاريخ حينما يذكر بمجد الوطن ومحنته هو نفس الوقت يدعو إلى المحافظة على تراث الوطن سليماً للمستقبل، إن لم يكن زائداً فغير منقصوص، لأنه يخلق العاطفة والشعور الذي يدفع الفرد إلى القيام بواجبه وتنير السبيل أمامه. على أن الغرض القومي لا يجوز أن ينسينا الأمانة العلمية وحب الحقيقة.

والتاريخ ليس سجلاً لماضي الوطن فحسب، فهو سجل لماضي الإنسانية كلها. والنفس ميالة بطبيعتها إلى معرفة ما خلفه الإنسان في كل مكان، ذلك الإنسان الذي تربطها به وشائج القرابة والنسب. ولن ينكر مثقف قيمة ماضي الإنسانية لحاضرها. ويدلل المفكر الإنجليزي جراهام ولاس على هذه القيمة بأنه لو فرض وأصيبت الأرض بصاعقة لنسى كل فرد العادات والمعلومات التي أخذها من الأجيال الماضية فتسعة أعشار سكان لندن ونيويورك سيموتون في مدى شهر، وتسعة وتسعون في المائة من الباقي سيموتون في خلال ستة أشهر إذ لا يكون لديهم لغة ولا أفكار ولا معرفة بالقراءة والكتابة. . . والإنسان محتاج إلى

ص: 11

إنسانيته القديمة ليحيا حياة طيبة، وكلما ارتقت به الحضارة زاد احتياجه إليها. والتاريخ يشرح لنا الفكرة التي تسيطر على العالم، فكرة التطور. قد يرى البعض أن العلوم الطبيعية والأدب يفسران ناحية منها، والتاريخ يفسر النواحي السياسية والاجتماعية، ولكن إنعام النظر يرينا أن العلم الطبيعي والأدب يدخل فيهما عنصر التطور نفسه ولذا لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى التاريخ

التاريخ يضرب لنا أمثلة حسية على الحياة، فهذه حياة أناس عاشوا في ذلك العالم وأحسوا احساسات خاصة، تحاربوا وتصالحوا وطالبوا بحقوقهم وذادوا عنها أو انصرفوا إلى التمتع بالحياة وأحبوا الترف، ماذا كانت نتائج أعمالهم، ما بواعث فعالهم؟ يبين لنا التاريخ اختلاف الناس وأثر ذلك الاختلاف، وأن لكل فرد نحو بلدته ونحو وطنه ونحو العالم مهمة خاصة يؤديها في الوجود. وهو لا يبين لنا اختلاف الأفراد أو الطبقات فحسب، بل اختلاف الأمم والشعوب أيضاً، فلكل أمة رسالة قد أدتها أو هي في سبيل تأديتها للحياة. ثم هو يبين لنا اختلاف العصور، فكل عصر مختلف عن سابقه له طابعه الخاص في طرائق تفكيره ومنتجاته. فعصرنا الحاضر مختلف اختلافاً ظاهراً عن العصور الماضية ومشاكلنا والموازين التي نحكم بها على الأشياء مختلفة عن ميثلاتها في الماضي، ولكن الماضي ضروري لفهم مشاكلنا الحالية، فالحياة كما يوضح لنا التاريخ في تغير دائم، في تطور

يرينا التاريخ تعاون الإنسانية في ارتقاء سلم الحضارة، كما يرينا أنها سائرة في طريق النمو والتحسن، فالأفراد يحيون ثم يموتون، والأمم تقوم وتسقط، والحضارة تتقدم حيناً وحيناً تتأخر، ولكن النمو مطرد. فالإنسان كفرد تزداد حقوقه وأصبح أمامه مجال كبير لخدمة مستقبله وعائلته ووطنه والعالم. وينكر بعض المفكرين النمو في نواحي الروح والدين والأخلاق؛ فالعصور الماضية عصور الأنبياء. ولم تتقدم الأخلاق خطوة، فالقانون بين الدول لا زال قانون القوة. حتى في الناحية العقلية يشير البعض إلى مثل ذلك الجمود. فلا دليل في نظرهم على أن عقل الإنسان الحاضر أرقى من عقل أفلاطون. ويقول هكسلي إنه لا يعرف دراسة محزنة لتفسير تطور الإنسانية مثل دراسة التاريخ. فالإنسان لا زال وحشاً ولكنه خير من الوحوش الأخرى. وأحسن الحضارات الحديثة لم تظهر لنا مثلاً أعلى أو شيئاً جديراً بالبقاء

ص: 12

ويرد على ذلك بأن التاريخ يرى لكل عصر مساوئه، وأن الإنسانية لم تبلغ بعد حد الكمال، وأن الطبيعة الإنسانية ذاتها لم تتغير إلا بمقدار ضئيل، وإنما الذي يغير تغيراً محسوساً هو تكيفها لظروفها الطبيعية والاجتماعية. ونمو محصول الإنسان من حيث المعلومات ومن الناحية المادية واضح، فكشف العالم الجديد وكشف كثير من قوى الطبيعة واستغلالها لمصلحته، وتكييف الإنسان للبيئة من إصلاح الأراضي وإزالة الغابات واختراق البحار والجبال والصحارى والهواء شواهد على النمو العقلي وعلى ارتفاع مستوى المعيشة. ولا ريب في أن زيادة المقدرة على التعليم والتعلم، وتقدم العلم وسهولة الانتقال هي في مصلحة الرقي العقلي والأخلاقي والروحي

التاريخ يصف التطور الاجتماعي لا العضوي والبدني، فإذا شعر الدارس بأنه يعيش في جو كله تطور ونمو فهو لا ينسى الماضي. سيقدر الحاضر ويزداد أمله في المستقبل. يعرف الدارس خلال التاريخ سر الإنسانية ويجد فيه أكبر خادم للفكرة الإنسانية ذاتها؛ لأنه يقلل من حدة التعصب لقومية أو لدين وعادات. فالتاريخ يبين أن العالم لم يقم على حضارة واحدة أو لغة واحدة أو دين واحد أو عسر واحد - فلكل حضارة نصيبها يغبنها التاريخ إياه - يرينا أن الأمم تبادلت ولا تزال تتبادل أنواع الحضارة. ولئن كان العلم قد أفاد فن الحضارة المصرية القديمة فهو مدين للفلسفة اليونانية والفن اليوناني والقانون الروماني. ولا ريب في أن مدينة العصور الوسطى في الشرق والغرب كانت أساساً عملياً لحضارة العصور الحديثة.

محمد مصطفى صفوت

ص: 13

‌الحضارات القديمة في القرآن الكريم

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 3 -

الحضارة الكلدانية

الكلدان من الشعوب السامية القديمة، وقد قامت لهم دول بالعراق، وكان لهم فيه حضارة تضارع الحضارة المصرية في القدم. ولكنها سارت في طريق معوج أضعف من شأنها، وجعلها أقل نتاجاً من غيرها من الحضارات القديمة؛ وقد نشأ هذا من أنهم كانوا يتجهون بعقولهم نحو الكواكب والنجوم، فاتخذوها آلهة يعبدونها، ويهتمون بمعرفة ما يتصل بها، حتى جرهم هذا إلى الاشتغال بعلم الفلك، وإلى أن يجعلوا جل اهتمامهم في حضاراتهم بهذا العلم، وبكل ما يتصل بها، حتى جرهم هذا إلى الاشتغال بعلم الفلك، وإلى أن يجعلوا جل اهتمامهم في حضاراتهم بهذا العلم، وبكل ما يتصل به من العلوم كالسحر والتنجيم، ولاشك أن مثل هذه العلوم لا تصلح أساساً لحضارة تنفع الناس في دنياه، وتهيئ لهم فيها أسباب الهناءة والسعادة، فلم يُعْنَ الكلدان بالعلوم التي تنظر إلى الأرض كما عنُوا بالعلوم التي تنظر إلى السماء، ولم يهتموا بالزراعة والصناعة والتجارة كما اهتم بها إخوانهم الفينيقيون في الشام، مع أن هذه الأمور هي الأسس التي يقوم عليها بنيان الحضارة، وترفل بها الشعوب في حلل الرفاهية، ولهذا ذهبت الحضارة الكلدانية ولم تترك وراءها إلا شهرة بابل عاصمتها بالسحر، وهي شهرة لا ترفع من شأنها، ولا تجعل لها منزلة عالية بين الحضارات القديمة

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك الاعوجاج في الحضارة الكلدانية في الآية (102) من سورة البقرة: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)

ص: 14

فالقرآن الكريم يشير بهذا إلى أن السحر كان قد انتشر في تلك المدينة حتى عم ضرره كل الناس، وتفاهم خطبه بينهم، وصار أربابه هم الآمرين الناهين فيهم، لأنهم أوهموهم أن لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات في هذه الدنيا، فهم يفعلون ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر، وفوق ما منحوا من القوى والقدر، وأنهم يستعينون عليه بالشياطين وأرواح الكواكب، إلى غير ذلك من ضلالالتهم وكفرياتهم، فأرسل الله هاروت وماروت يعلمانهم حقيقة السحر، ويبينان لهم أن السحر بشر مثلهم لا قدرة لهم على النفع والضر، وأن السحر إما حيلة وشعوذة لا أصل لها، وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس، وبهذا يكون علماً يؤخذ بالتعليم ويتكرر بالعمل، وفي استطاعة كثير من الناس أن يتعلمه ويفعل ما يفعله أربابه، ولا يرجع كما يزعمون إلى قوة غيبية فيهم، ولا أثر فيه لتأثير الشياطين وأرواح الكواكب، وهو مع هذا ليس من العلوم التي يليق بذوي الأخلاق الكريمة الاشتغال بها، لأنه من العلوم التي تضر ولا تنفع، ولا يشتغل به إلا كل دجال أو مشعوذ.

الحضارة الحميرية

وينسب الحميريون إلى حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، وكان لهم ملك عريق باليمن، وحضارة يشهد بفضلها ما بقي من آثارها. ومن أشهر دولهم فيه دولة سبأ، وكانت دولة تجارية خلفت دولة مَعين في نقل التجارة بين الهند والحبشة والعراق والشام ومصر، وقد زهت حضارة اليمنيين في عهد هذه الدولة، وعظم غناؤها وثراؤها، لأنها كانت تعني بشق الأنهار وبناء السدود التي تحفظ المياه بين الجبال، لتصرفها على الأرض بقدر، ولا تذهب سدى في الفلوات والبحار، فعمرت بذلك بلاد اليمن أعظم عمارة، وامتلأت نواحيها بالزروع والحدائق وناطحت قصورها وحصونها السحب

وقد نوه القرآن الكريم بحضارة سبأ أعظم تنويه، وجعلها لعظمها وفخامتها آية من آيات الله، فقال تعالى في الآيات: - 15، 16، 17، 18، 19 - من سورة سبأ (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. ذلك جزيناهم بما كفروا؛ وهل نجازي إلا الكفور. وجعلنا بينهم وبين

ص: 15

القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق؛ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)

وقد ذكر المفسرون من عظمة تلك الجنات أن المرأة كانت تحمل مكتلها على رأسها وتمر بها، فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئاً. وذكروا من طيب تلك البلدة أنه لم يكن يرى فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا حية ولا عقرب، وأن الرجل كان يمر بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب الهواء. وذكروا أن تلك القرى الظاهرة كانت تتواصل من اليمن إلى الشام، فإذا سافروا فيها لمتاجرهم يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى، وكلما وصلوا إلى قرية وجدوا فيها المياه والزروع والأشجار، فلا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام. والقرآن الكريم يشير بهذا إلى أن عظمة هذه الدولة كانت قائمة على أساس التجارة ونقلها بين تلك البلاد، كما يشير بقوله:(باعد بين أسفارنا) إلى أن زوال عظمتها كان بسبب انتقال زمام هذه التجارة من أيدي أبنائها، وكل هذا يتفق مع ما وصل إليه علماء التاريخ في عصرنا، وهم لم يصلوا إليه إلا بعد الكد والتعب في كشف ما تركته هذه الدولة من آثار، وفي محاولة قراءة ما دون فيها من حوادث وأخبار، وكم للقرآن من أمثال هذه المعجزات العليمة!

وكان سبب انتقال التجارة من أيدي أبناء هذه الدولة تحول طريقها من البر إلى البحر، فأحدث ذلك أثراً كبيراً فيها، وجعلها تعجز عن حفظ تلك السدود وتهمل شأنها، وكانت خاتمتها بانهيار ذلك السد العظيم، سد مأرب الذي أشار إليه القرآن الكريم.

(يتبع)

عبد المتعال الصعيدي

ص: 16

‌جي دي موبسان

1840 -

1893

للأستاذ حسن فتحي خليل

1 -

نشأته وتكوينه وأسلوبه

ولد موبسان في قصر ميرو مسنيل في 5 أغسطس سنة 1840 وتلقى دروسه ببلدة ييفتو أولاً ثم ببلدة روان. وأمضى في ربوع مقاطعة نورماندي أسد سني صباه وشبابه، حراً طليقاً بعد دراسته اليومية، كطائر سعيد. وكان يهيم بالطبيعة الساحرة في تلك المقاطعة حتى انطبعت في ذهنه صور كثيرة من حياة الفلاحين المحيطين به

وفي عام 1870 التحق بالجيش المحارب وانغمر في ميدان الحرب كغيره من الشباب حينئذ، وعاش في محيطها وتشبعت بها نفسه، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها ذهب إلى باريس والتحق بوزارة البحرية أولاً كموظف صغير، ثم انتقل منها إلى وزارة المعارف. وكان في أشد الاحتياج إلى مرتبه الحكومي ليقتات منه حتى تسمح له الحسنة التي تؤهله لأن يبدأ حياته الأدبية التي عاهد نفسه على بدئها منذ زمن بعيد

وقد هيأت له تلك الوظيفة أن يختلط بطبقة الموظفين، وأن يطلع على خفايا حياتهم وكل أحوالهم، ولكن تلك النظرة التي كان ينظر بها إليهم كانت بشعور مزيج من العبث والسخرية. وانتقشت تلك الصور في ذهنه حتى انسابت من قلمه، وظهرت واضحة جلية في قصصه

وقد صرفته قوة بنيته وحبه اللهو والعبث المغرقين في بداءة حياته عن مطالعة الأدب، فلم يجهد نفسه في ذلك المضمار الإجهاد الكافي لأديب ناشئ يحاول أن يكون نفسه. غير أن تلك الحياة التي كان يحياها قد أضافت صوراً جديدة إلى تجاربه إذا اختلط بالمجتمع الصاخب وانغمر في ملاهيه. وأول ما يتبادر إلى الذهن أنه كان مندفعاً نحو تلك الحياة اللاهية ليمل منها صوراً لأدبه؛ ولكن الحقيقة أنه إنما كان مندفعاً نحوها لكي يشعر نفسه بأنه يعيش المعيشة التي ترضي جسده وتشبع رغباته الجامحة. فقد كان قوى البنية، مفتول العضلات، محباً للرياضة وخاصة التجديف، جريئاً لا يهاب إنساناً

ص: 17

كان فلوبير أباه الفكري؛ إذ هو الذي أخذ على عاتقه أن يدخله إلى دنيا الأدب. وتحت سيطرته بذل موبسان كل جهده لأن يرتفع بأسلوبه إلى المرتبة التي تؤهله لأن يكون شاعراً مجيداً؛ وكانت هذه هي منتهى آماله. كان فلوبير يحدثه دائماً عن كرامة الفن وواجبات الفنان؛ كما أنه غرس في نفسه كراهته للبراجوازيين والسخرية منهم ومن اعتقاداتهم العادية في كتبه. كما أخبره عن أهل الأدب في عصره وحدثه عنهم حديثاً مستفيضاً؛ وطبعه على الاستخفاف بكل أدب تجاري رخيص، ونصحه بالجد والاهتمام بتجويد كتابه، وجعل نفسه مثلاً له يسير على منواله؛ حتى أنه أشركه معه في تأليف كتابه (بوفار وبيكوشبيه) فكان يرسله إلى بعض بقع الساحل النورماندي ليعود فيقص عليه ما رآه وما استولى عليه من احساسات وشعور، فيرسم الطبيعة كما يراها دائماً وليتحرر من آراء زولا شبه العلمية التي كانت سائدة يومئذ، وأن تكون كل اتصالاته بالطبيعة فحسب

وبذلك أحيا موبسان كل الصور بمنظار في مخيلته منذ طفولته وصباه، وجعل ينظر إلى الطبيعة بمنظار صريح مستقيم سهل، وبذل قصارى جهده لأن يكون أسلوبه طبيعياً كمشاهدته، فخلا أسلوبه من المبالغات الرومانتيكية المشاهدة في أسلوب زولا والمحسنات اللفظية كأسلوب جونكور

وكان يطلع أستاذه فلوبير على كل ما يكتبه فيصححه له ويرشده إلى طريق الصواب. وأهم مؤلفاته في ذلك الوقت، وقت الاجتهاد والتحضير هي قصة (الدكتور هيراكلوس جلوس) وأهم ما يميزها وضوح نظرية التشاؤم التي بدأ يأخذ بها موبسان. كما كتب في تلك الفترة عدة مسرحيات وقصص وأشعار على الخصوص. وقد جمع ما أعجبه من شعره في كتاب صغير اسمه:(مجموعة شعر)

وكانت تلك القطع التي نشرها إنما هي في الحقيقة أقاصيص شعرية ويلاحظ أنها بداءة طيبة لما جاء بعدها. وأهم تلك القطع (على ضفاف النهر) وقد رسم فيها ذكريات غرامه وألبسها ثوباً رومانتيكياً متحدثاً عن الغرائز الحرة واللذات الجسدية.

ثم نشر قصته المشهورة فنجحت نجاحاً عظيماً وتنبه الكل له وصعد درجات المجد وعاهد نفسه منذ ذلك اليوم أن يكون قصصياً بدلاً من أن يكون شاعرا رغماً من إرادة أستاذه فلوبير. ومع أنه كان قد أخفى تلك القصة عن أستاذه إلا أنه حين قرأها أعجب بها

ص: 18

أشد الإعجاب وهنأه عليها.

ومات فلوبير فتحرر موبسان من سيطرته الأدبية التي كان يفرضها عليه، وأصبح حراً في معتقداته وسار في الطريق التي رسمها لنفسه.

2 -

أفكاره وآراؤه

كانت لموبسان عين ثاقبة تلاحظ الصور وحركاتها بسرعة فائقة ودقة آلة فوتوغرافية، فسرعان ما تنطبع تلك المرئيات في ذهنه فيتعمق في فهمها جيداً حتى يهضمها تمام الهضم. فمن صباحه إلى مسائه كان يجمع ويلاحظ كل ما يفيده في مهمته الأدبية، ولذلك نلاحظ أن كتاباته لم تكن تظهر بمظهر الكتاب النفسيين (السيكولوجيين) بل هي مقتطعة من الحياة إذ فيها ألوانها وأشكالها وحركاتها

وتدور قصصه على ناحيتين: أولاهما الناحية المرحة والحياة الاجتماعية الصاخبة التي كانت تشتهر بها فرنسا، والأخرى قصصه عن الريف النورماندي وذكريات حياته التي قضاها فيه وحديثه اللذيذ عن الأرض والطبيعة والفلاح

وتترجم كل مؤلفاته في مختلف أطوار حياته ونظرياته عن المجتمع. ففي مؤلفاته الأولى نلاحظ السخرية اللاذعة. ففي قصة لم يترك فرصة سواء في العربة أو الحانة دون أن يهزأ بالأشراف والطبقة المتوسطة والراهبات. ثم ظهرت في الحقبة التي تلي ذلك من حياته احساسات الرحمة والشفقة. أما في نهايته فكان التشاؤم ومشاغله ومتاعبه النفسية أوضح ما في كتبه في ذلك الحين. فأفكاره في ارتفاعها وانخفاضها إنما كانت تتبع ميزان صحته الجسدية في قوتها وهزالها.

كان أستاذه فلوبير يعتقد أن الفن يخفف من عبء الحياة ويجعلها سهلة لينة، ولم ييأس من تقدم العلوم ولم ينكر بلوغ النجاح، إلا أن موبسان الذي كان يستمع لتلك الآراء لم تكن لديه الثقة الكافية في الحياة. فمن مبدأ حياته كانت فلسفته اليائسة المتشائمة فوق العادة. فلم تجذبه فكرة فلوبير السليمة بقدر ما جذبته حكمة شوبنهور القائلة:(إنه لا سعادة على الأرض) وبالرغم من تكرار موبسان لنظريته المتشائمة في قصصه كثيراً لم تكن لتستند على براهين قوية. بل كل ما في الأمر أنه كتبها بشعور صادق قوي. وكان يبعث ذلك التشائم نظرته المجردة إلى الحياة الواقعية. فكان يعتقد أن الكون مجموعة متضاربة متطاحنة من

ص: 19

القوى، وأن العلم لا يعطينا سوى فكرة ضئيلة عن هذه القوى بواسطة آلات أولية ناقصة في بعض الحالات فقط. وأنه ليس هناك أمل في التقدم أو النجاح، إذ أن نظرية التقدم ما هي إلا نظرية فاشلة، وأن الإنسان حيوان أرقى قليلاً من الحيوان الأعجم. ولعل هذه النظريات قد تبادلها غيره من قبل إلا أنها كانت شديدة التأثير على شعوره. وإنما يعود ذلك إلى مرضه الذي أصيب به، حتى أنه أصبح يخاف الرسائل التي تصله كما كان يفزع من علامات الود والمحبة التي يظهرها أصدقاؤه، إذ خيل إليه أنها محاولات اعتداء على حريته. فهو يفسر نظريته هذه بأن هؤلاء الأصدقاء إنما يشعرون بفراغ كبير في حياتهم، فيحاولون أن يتعلقوا بأهداب إنسان آخر يملأون به ذلك الفراغ. وبذلك أصبح موبسان يعتقد أن الصداقة والحب إنما هما نفاق وسراب، وأن الصلة بين كل رجل وآخر معدومة، إذ لا يمكن لأحدهما أن يفهم الآخر تمام الفهم. وعلى ذلك يجب على كل فرد أن يكون وحيداً، وبذلك امتزجت رغبته في الوحدة بخوفه من المجتمع. إلا أنه في وحدته كانت تتهيأ له خيالات يتوهم معها أن هناك شبحاً آخر يشاركه مجلسه فيبعث الخوف إلى نفسه ويدفعه دفعاً نحو الاختلاط بالأحياء الذين لم يعد يفهمهم جيداً. وقد زاد ذلك التعذيب خوفه من الشيخوخة والموت. فكانت فلسفة التشاؤم التي يسير على هديها تدفعه إلى الثورة دائماً. وأخيراً لم يجد منفذاً لهذه الخواطر والأفكار التي تعج بها رأسه حتى كان يرفض أي مناقشات أدبية، وأصبح يعتقد أنه ليست هناك أية قيمة للأدب، وأنه إنما يكتب تلك الأسطر لكي يكتسب منها بعض المال

وفي عام 1889 بدأ يفكر في الانتحار كما يتضح لنا من قصة ? إذ تخيل فيها انتحاراً قانونياً يسمح لليائسين أن يناموا إلى الأبد باسمين مرتاحي الضمير. وقد طرقت هذه الفكرة مخيلته كثيراً في أيامه الأخيرة وحتى هم بتنفيذها، وكان حينئذ في طريقه إلى الجنون الذي أراحه من عناء هذه الدنيا وتفكيره الأسود في كل أحوالها

وعلى ذلك فإذا تدبرنا هذا الشاب الموفور الصحة في مبدأ حياته، والذي هده المرض في أخريات أيامه حتى ساقه إلى الجنون فبدأ يسمع نداءات الموت ترن في أذنيه، أمكننا أن نتتبع النغمات الصادرة من مؤلفاته في هذه الأطوار

3 -

نهايته

ص: 20

سبق أن قلنا إنه بالرغم من مظهره القوي فإن صحته بدأت تتهدم منذ عام 1884؛ ثم ظهرت عليه بوادر الجنون في عام 1891. وفي أول يناير سنة 1892 حاول الانتحار في بلدة (كان) ولكنه فشل. وأُدخل مصحة الدكتور بلانش حتى توفي في 6 يوليو سنة 1893 وهو على حالة من الجنون

4 -

مؤلفاته

يعتبر موبسان من أشهر كتاب الأقصوصة؛ ويمكننا أن نضمه الآن إلى زمرة الكتاب الكلاسيك؛ إذ أن أعماله تدرس بالمدارس لأنها غذاء طيب للعقول. ففي أمريكا وألمانيا تعتبر مؤلفاته من أهم مختارات الدراسة بمدارسها. كما وضعت أعماله في برامج الامتحانات العليا بفرنسا؛ وقدمت عنه بعض الرسالات كما جمعت أعماله وطبعت كلها في مجلد كامل كأعمال فلوبير وبلزاك. فمن عام 1880 إلى عام 1890 نشر موبسان حوالي ثلاثمائة أقصوصة جمعت في مجلدات هي:

سنة 1881

سنة 1883

سنة 1884

سنة 1885

سنة 1888

ص: 21

سنة 1887

سنة 1886

سنة 1890

سنة 1889

?

سنة 1889

كما نشر ست قصص طويلة وثلاثة كتب عن الرحلات وأربع مسرحيات.

حسن فتحي خليل

ص: 22

‌الفنون الجميلة

الفن ترتيب أجزاء متفرقة ترتيباً اختيارياً حسب فكرة معينة لتؤدي إلى غاية معلومة، هي أن يُخلق من تلك الأجزاء كلاً واحداً، أو حلقاً جديداً يثير في النفس عاطفة الجمال. فهو إذن إنتاج حر للجمال، لا الجمال الواقعي فحسب، بل مزيج من الجمال الواقعي والجمال المثالي. فلابد من أن توجد فكرة مثالية عن الفنان يحققها ويعبر عنها بمساعدة الواقع. ويتخذ الفن في تعبيراته عن تلك الفكرة أشكالاً مختلفة هي ما نسميه بالفنون الجميلة - فالنون الجميلة إذن، هي مختلف حالات الانفعالات الجمالية التي ينفعل بها الفنان إزاء أشياء معينة، فيحاول أن يعكسها ويعبر عنها، لكي يتذوقها غيره، فينفعل بها كما انفعل هو

والفن في تعبيره عن هذه الفكرة يخاطب الحواس، لا الحواس كلها، بل هو في الواقع يخاطب حاستين منها فقط هما: السمع والبصر؛ وعلى ذلك تنقسم الفنون الجميلة إلى مجموعتين:

(ا) ما يخاطب السمع وهي: الموسيقى: (سواء أكانت موسيقى صامتة، أم يصاحبها غناء مفرداً وجوقة) والشعر

(ب) ما يخاطب البصر وهي: النحت والعمارة والنقش ولكن، هل الفنون جميعها على درجة واحدة من السمو والرفعة؟ أو بمعنى آخر: هل هناك فنون أرقى وأرفع من غيرها؟ وإن كان الأمر كذلك، فعلى أي أساس يمكن تصنيفها وترتيبها إلى فنون راقية رفيعة، وأخرى أقل منه؟

لقد رأينا أن الفن هو الإنتاج الحر للجمال، ورأينا أيضاً أنه لابد من التعبير عن فكرةٍ ما في الفن؛ فقانون التعبير هو أهم قانون عام مشترك بين كل الفنون، وعليه يجب أن يقوم التصنيف. فالفن الذي يكون أكثر تعبيراً وأغنى في وسائل تعبيره من غيره يكون هو الأرقى. وليست الفنون على درجة واحدة من تلك الحرية في التعبير، فنحن نجد مثلاً أن حرية التعبير أقل ما تكون في فن العمارة، والفنان المعماري مقيد إلى أبعد حد؛ بينما تتمتع الفنون الأخرى بحرية في التعبير أوسع من ذلك، مع تفاوت فيما بينها. كذلك تختلف قوة تعبير كل فن عن الآخر إزاء شيء واحد بالذات؛ فالموسيقى مثلاً يمكنها أن تصور لنا منظر عاصفة عنيفة تصويراً أبلغ وأعمق مما يصوره لنا النقش مثلاً، فهي تعبر عنها أحسن تعبير منه، وتثير فينا من العواطف والوجدانات ما لا يثيره هو فينا إن تعرض

ص: 23

للتعبير عن ذلك المنظر. كذلك يعجز النقش عن أن يساوي الشعر في قوة تعبيره وعمق تصويره، فهناك آثار شعرية عظيمة نعجب بها كل الإعجاب، وتثير فينا العاطفة الجمالية كأقوى ما تكون، ولكن النقش - أو غيره - يعجز عن تصويرها في مثل روعة تصوير الشعر لها. فمثلاً صور لنا فرجيل في قصيدته (صورة رمزية لمسخ عظيم هائل، له مائة عين ومائة فم؛ تمس قدماه الأرض، ويبلغ رأسه عنان السماء) فأبدع في تصويره كل الإبداع، وأثار إعجاب كل من قرأها. هذه الصورة الرمزية ماذا تثير فينا لو فرض أن حاول المنقش أن يحققها ويعبر عنها؟ وأغلب الظن أنه سيخرجها لنا صورة غريبة تثير فينا الضحك وتبعث على الهزؤ والسخرية.

وقد أجمعت الآراء على القول بأن الشعر هو أرقى الفنون الجميلة، فهو يحتل المكان الأول بين سلسلة الفنون لأنه أقواها على إلهاب النفس، وتحرير المخيلة، والصعود بالإنسان إلى أرقى الأفكار وأسماها. ولا يكتفي الشعر بالتعبير عن الصور الحسية وعن العواطف الجياشة وتصويرها كما تفعل سائر الفنون الأخرى، بل يمتاز عنها بميزة أخرى هي، أنه يمكن أن يعبر عن المعاني المجردة، مثل فكرة (الله) وفكرة (الوطن) وغيرها مما يعجز عنه باقي الفنون، وذلك لأن أداة الشعر الكلام، ويمكن أن يؤدي الإنسان بالكلام ما لا يؤديه بغيره. فكلمة (الله) أو (الوطن) وحدها تحمل من المعاني، وتثير من العواطف والانفعالات والخواطر ما يقصر عن حمله وإثارته أي أداة أخرى من أدوات التعبير في الفن

ويأخذ (هجل) على الشعر أنه لا يعرض علينا كل الخطوط والملامح الجمالية المختلفة التي يصفها بحيث نرها كلها لأول وهلة بعضها بجانب بعض مثلما نرى في النقش مثلاً، إذ يكفي أن ننظر إلى لوحة من اللوحات فنرى كل الملاح المعبر عنها دفعة واحدة. فالشعر يعرض علينا الشيء الذي يصوره شيئاً فشيئاً على دفعات، وهذا ناتج من طبيعة أداة الكلام. ففي كل بيت مثلاً يعرض علينا جزءاً من تلك الملامح، ولا تكمل الصورة إلا بكمال القصيدة. فهو من هذه الناحية إذن أقل منزلة من النقش. ولئن كان هذا عيباً في الشعر فإنه من جهة أخرى ميزة يمتاز بها على غيره، وذلك حين يعرض لبعض المشاهد التي لابد فيها من التسلسل والتتابع حتى تستكمل ظهورها. فالنقش في الحقيقة يمثل حالة معينة وفي وقت بالذات ولا يمكن أن يعرض للحالات التي تتغير وتتابع. فمثلاً يمكن للشعر أن

ص: 24

يعرض لوصف عاصفة هوجاء عنيفة فيصور أولاً منظر البحر قبل العاصفة وقد هدأت المياه وصفا الجو وسطعت الشمس، وقد أخذت سفينة صغيرة تتهادى في رفق على صفحة الماء، ثم إذا بالجو يتلبد بالغيوم فجأة وتهيج الأمواج وتضطرب وتصفر الرياح وتتقاذف السفينة حتى تغلبها على أمرها وتدفع بها إلى صخرة عظيمة فتنفتح في جانب السفينة ثغرة كبيرة تدخل منها المياه، وتأخذ السفينة في الغوص والركاب يصرخون ويجرون هنا وهناك وقد تملكهم اليأس والفزع، ثم طغى البحر على السفينة فابتعلها بمن عليها. كل ذلك يصوره لنا الشعر بسهولة في قصيدة واحدة ولكن يعجز عنه النقش في لوحة واحدة، فهو لا يمكنه إلا أن يعبر عن حالة واحدة فقط من تلك الحالات المتباينة

وهناك فن آخر لا يقل عن الشعر رفعة وسمواً وهو الموسيقى فهي من أقوى الفنون تأثيراً في النفوس وإيقاظاً للعواطف وإلهاباً للوجدان، ويمكنها أن تحمل الروح وتتجاوز بها العالم الواقعي إلى اللانهاية. فعنصر اللانهاية واضح جداً فيها، ولعلها في ذلك تسبق الشعر، وقد كادت تفوقه لولا ما فيها من غموض وإبهام؛ فتعبيراتها غير محددة تمام التحديد، كما نرى في النحت مثلاً، فهو على العكس منها تماماً يحدد موضوع تعبيره بخطوط واضحة لا يمكن أن تخطئها، مما جعله لا يبعث على الخيال ولا يحمل الروح إلى اللانهاية. فجمال الموسيقى، وميزتها الكبرى تتجلى في قدرتها على العبور بالروح إلى اللانهاية، مما جعل الناس يقرنها بالدين لأنهما يخاطبان القلب والعواطف ويسموان بالروح عن عالم الواقع. ولعل هذا هو السر في أن المسيحيين يصبحون صلواتهم الكنيسية بالموسيقى. وتأثير الموسيقى في الحقيقة أقوى من تأثير الشعر، فهناك صلة وثيقة بين أنغام الموسيقى والقلب، بحيث يمكن للموسيقي البارع أن يلعب بأفئدة الناس كيفما شاء، إن شاء أضحكهم وإن شاء أبكاهم. وعلى العموم فهناك صلة كبيرة بين الشعر والموسيقى. فالشعر يدخل في الموسيقى على صورة غناء، فيحدد من تعبيراتها وتصوراتها، وهو بذلك يقتل ما فيها من لا نهاية. كذلك الشعر موسيقى الألفاظ، يحس الإنسان فيه بأنغام موسيقية غير خافية، قد تتولد الأكثر من تكرار بعض حروف معينة وتلازمها

والخلاصة من كل ما سبق أنه ما دامت حرية التعبير وقوته وعمقه وغناؤه هي أساس ترتيب درجات سمو الفنون ورقيها، فإنه يمكن تبعاً لذلك، اعتبار الشعر أرقى أنواع الفنون

ص: 25

الجميلة، وتليه في ذلك الموسيقى، وهي خليقة بأن تسمو عليه لولا غموضها وإبهامها، وإن كان ذلك يجعلها تمتاز عن غيرها باللانهاية. ويلي الموسيقى النقش، فهو يكاد يجمع بين قوة تأثير الموسيقى من ناحية وبين تحديد النحت من ناحية أخرى، فهو أكثر تحديداً وإيضاحاً من الموسيقى، وأكثر تأثيراً من النحت. ويلي ذلك النحت وهو لا يكاد يبعث على التخيل بشدة ما فيه من التحديد؛ وأخيراً العمارة وهي أقل الفنون جميعاً في حرية التعبير وعمقه

أحمد أبو زيد

كلية الآداب - جامعة فاروق الأول

ص: 26

‌48 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الرابع عشر - الصناعة

إن طرق المساومة التي يتبعها المصريون في معاملاتهم تضايق كثيراً من لم يتعودها. فعندما يستفهم العميل عن ثمن سلعة، يطلب منه التاجر أكثر مما يرجو كسبه. فيستكثر المشتري السعر ويعرض على البائع نصف المبلغ أو ثلاثة أرباعه فيرفض التاجر؛ غير أنه يخفض سعره، فيعرض العميل بدوره مبلغاً زائداً نوعاً. وتستمر المساومة هكذا حتى يصلا إلى سعر وسط فتتم المبايعة. وأعتقد أن السائحين الأوربيين يذمون التجار المصريين بغير حق، وذلك بعد أن تحققت أن أكثرهم لا يكسبون أكثر من واحد في المائة. ويعمد من يجد سلعة توافقه ويبغي اقتناءها بثمن زهيد إلى المساومة مع التاجر طويلاً. فيصعد إلى مصطبة الدكان ويستريح، ثم يحشو شبكه ويشعله ثم يبدأ النقاش الذي يستمر طويلاً. وقد يقطع التاجر أو العميل المبايعة بأحاديث غير مناسبة كأنه عزم على ألا يناقش في الأمر أكثر من ذلك. ولا تلبث المساومة أن تعود. ويتناول خادم العميل من التاجر بعد إتمام الصفقة وانصراف سيده، نفحة صغيرة من المال. ولا يتردد الخادم في طلب هذه النفحة إذا لم يقدمها التاجر من تلقاء نفسه. ويقام في أغلب أسواق القاهرة مزايدات في أيام محددة مرة أو مرتين في كل أسبوع. ويتولى هذه المزايدات دلالون يستأجرهم أصحاب الشأن من الأفراد أو التجار. ويرفع الدلال البضاعة في يده معلناً الأسعار ويصيح:(حراج) وكثيراً ما يعمد أفراد الطبقة السفلى عند إتمام صفقات بأبخس الأثمان إلى الصياح والإشارات، فيظن من يجهل اللغة العربية أن طرفي المساومة يتشاجران وأن الغضب قد بلغ منهما أشده. وقد يستفهم المرء عن ثمن ما يبيعه الفلاحون فيقولون تقبله (هدية) واثقين أن المستفهم لن

ص: 27

يستفيد من قولهم هذا الذي أصبح من لغوا الحديث. ويكرر الفلاحون قولهم هذا عند الاستفهام مرة أخرى، غير أنهم يطلبون على العموم أسعاراً باهظة

من الممل أن أذكر جميع الحرف الشائعة هنا. وأصحاب أهم هذه الحرف: بائع الأجواخ وهو يبيع أقمشة الملابس أو الملابس الجاهزة، والأسلحة؛ ويطلق عليه في كلتا الحالتين اسم (التاجر) فقط. والجوهري والصائغ وهو لا يستغل إلا حسب طلب عملائه. وبائع الخردوات (الخروجي) والنحاس والخياط والصباغ والرفاء والحباك والعقاد وبائع الشبك (الشبكشي) والعطار وهو يبيع الشمع أيضاً، وبائع التبغ (الدخاخني) وبائع الفاكهة (الفاكهاني) والنقلي وبائع الشراب (الشربتلي)، والزيات ويبيع مع الزيت الزبد والجبن والعسل الخ. . . والخضري والجزار والفران، ويرسل إليه الخبز والحم للشي. ويوجد في القاهرة مطاعم عديدة يطهى فيها الكباب وأصناف مختلفة أخرى، ولكن قلما يتناول الناس طعامهم في هذه المطابخ وإنما يرسلون في طلب ما يلزمهم حين لا يستطيعون إعداد الطعام في منازلهم. وكثيراً ما يتناول التجار غداءهم وعشاءهم من هذه المطابخ. ويوجد أيضاً عدة دكاكين لصنع الفطير وغيره ويبع الفول المدمس. وقد وصفت هذين الطعامين في فصل سابق. ويتناول أفراد الطبقة السفلى طعامهم عند (الفطاطري) أو (الفوال)

يباع الخبز والخضر وغير ذلك من الأطعمة في الشوارع. ويناد الباعة المتجولون نداءات غريبة تستحق الذكر. فيصيح بائع الترمس. (مدد يا امبابي)، ويعني بهذا القول إما الاستعانة بالشيخ الامبابي وهو ولي مشهور مدفون في بلدة امبابة على الشاطئ الغربي من النيل تجاه القاهرة، وينبت بجوار هذه البلدة أجود الترمس؛ وإما الإشارة إلى أن ترمس امبابة لذيذ الطعم بفضل مدد الامبابي. ويصيح بائع الترمس أيضاً:(ترمس امبابه يغلب اللوز) أو يقول: (يا ما حلى بُنيَّ البحر)، ويشير هذا النداء الذي قلما يسمع في غير الأرياف إلى طريقة إعداد الترمس للأكل. إذ أنه ينقع في الماء يومين أو ثلاثة لتزول مرارته، ثم يغلى ويوضع بعد ذلك في قفة من الخوص تسمى:(فرد) يخاط عليه ويقذف به في النيل، حيث يترك يومين آخرين أو ثلاثة ينقع مرة ثانية. وبعد ذلك يجفف ويؤكل بارداً بعد أن يضاف إليه بعض الملح. ويصيح بائع الليمون:(الله يهونها يا ليمون) وكثيراً ما ينادى على اللب لب (عبد اللاوي)، وبذر البطيخ:(يا مسلي الغلبان يا لي) أو عادة: (اللب

ص: 28

المحمص)، وينادى بائع (الحلاوة) وتصنع من تفل السكر الممزوج ببعض عقاقير نداء غريباً:(بمسمار يا حلاوة). ويقال إن بائع الحلوة يكاد يكون لصاً، إذ أن الأطفال والخدم يعمدون إلى سرقة الأدوات الحديدية من المساكن التي يسكنونها ليستبدلون بها الحلوى. ويصيح بائع البرتقال:(عسل يا برتقال عسل) ويستعمل بائع الخضر والفاكهة نداء مشابهاً، ويصعب على المرء أحياناً معرفة ما يباع ما لم يتبع قاعدة أن ما يباع هو الأقل جودة؛ فقولهم جميز يا عنب إنما يشير إلى بيع الجميز الذي يقل عن العنب جودة. ويستعمل بائع الورد نداء فريداً:(الورد كان شوك من عرق النبي فتح)، ويشير هذا إلى معجزة تنسب إلى الرسول. وتباع زهور الحناء الزكية بقولهم:(روايح الجنة يا تمر حنة). وهناك نوع من الأنسجة القطنية تصنع على آلة يحركها ثور. وتباع بقولهم: (شغل التور يا بنات)

عدلي طاهر نور

ص: 29

‌مقبرة الأحياء

الوظيفة. . .

(حين كنت مدرساً)

للأستاذ علي شرف الدين

عُلالةُ الْعَاجزِ الضَّعيفِ

وَحِيلةُ السَّائلِ الكَفيفِ

تُمِيتُ في الُقَلْبِ كل نبلٍ

وَكلَّ معنًى به لطيفِ

وَتَحبسُ الرُّوحَ وهي طَيرٌ

تْصبُو إلى غُصِنها الوَريفِ

وَتُرهقُ النَّفْسَ وهْيَ طْيفٌ

بَقْيدِها الْمُثْقِلِ العَنيفِ

وَتدْفِنُ المْرَء وَهْوَ حَيٌّ

فِي قَبْرِهَا الأَسْودِ الْمُخِيفِ

وَينْهَرُ الْعَيْنَ وَهْيَ زَيْفٌ

كأَنَّها زَهْرَةُ الَخْريفِ

وَكَمْ نِفَاق تَراهُ حَتْماً

يَحْمِيكَ مِنْ طْعَنِة الألِيفِ

تَفيضُ بالَجْهل صَفْحَتَاهُ

وَزَاَدَ في الَجْهلِ عَنْ (عَرِيفِي)

وَيدَّعِى الْعَلْم - وَهوَ خِلوٌ -

بالتَّالِدِ الَجْزلِ والطَّريفِ

وَأَنْتَ تَجْرِي عَلَى هَوَاهُ

بمْدحِكَ الْكَاذِبِ الصَّريفِ

لا يَعْرفُ الصدْقَ مِنْكَ قَوْلاً

وَالْكَذبُ مِنْ شِيَمِة الضَّعِيف

وَيْلٌ لذِيِ حُرَّةٍ أبيٍ

فيها وَذَي جَبْهَةٍ عَيُوفِ

أَجْرَوْا عَلَيْه دُرَيْهَمات

تَضيقُ بالمِلحْ والرَّعِيف

حَتى الضَّروريُّ - وَهْوَ حَتمٌ -

يَضِجُّ مِنْ جَيْبِه النَّظيف

مَا دَامَ لم يَلْتَمس وَسِيطاً

فإِن شَكْوَاهُ في الرُّفُوفِ

وَالْعَيْشُ كاَلْحرْبِ فِيهِ أضْحَتْ

هَدى الوَسَاطَات كالسُّيوفِ

يا (جَارةً) ضِقْتُ مِنْ عَمَاها

وَضِقْتُ بالْمُبْصِر الْكَفيفِ

تَعْمَي عنِ الضَّامِرِ الْمُجَلى

وَتَجْعُل السَّبْقَ للَّردِيفِ

علي شرف الدين

ص: 30

‌من أزهار الشر

لشارل بودلير

منظر

إنني أود أن أرقد على مقربة من السماء كعلماء الفلك، لكي أنظم قصائدي الروحية في جو من الطهارة

وأن أكون راقداً بجوار أجراس أصغي إلى أناشيدها المهيبة التي تحملها الرياح، سابحاً في أحلامي.

حين أطل من علِّيتي، وقد ذقنت على راحتي، سأشاهد العمال في مصنعهم ينشدون الأغاني ويلغطون، وسأرى المداخن والأجراس، وصواري المدينة، والسماء المترامية الأطراف التي تجعلنا نفكر في الأبدية.

إنه لبديع أن ترى، خلال الضباب، النجمً حين يتهلل في زرقة السماء، والمصباح في النافذة.

وأن ترى أنهار الدخان، وهي تتصاعد إلى قبة الجوزاء، والقمر ينثر إشراقه الشاحب.

سأرى الربيع والصيف والخريف، وعندما يُقبل الشتاء، بصقيعه الممل، سأغلق الأبواب والشبابيك لكي أشيد قصوري الخيالية الرائعة، تحت جنح الظلام.

حينئذ أهفو بأحلامي إلى الآفاق الزرق، وإلى الرياض، والينابيع التي تذرف دموعها على المرمر، وإلى القبلات، والطيور التي تغرد صباحاً ومساء، وإلى كل ما في الهوى من براءة الطفولة.

ولن تستطيع الرياح، مهما ثارت وعصفت بنوافذي أن ترفع جبيني من فوق مكتبي،

لأنني سأكون ذاهلاً في تلك النشوة التي أجدها حين أبعث الربيع بمشيئتي، وحين أنتزع شمساً من فؤادي، وحين أخلق جواً دافئاً من خواطري الملتهبة.

ترجمة

عثمان علي عسل

ص: 31

‌البريد الأدبي

الدكتور أمين المعلوف باشا

في ليلة الخميس 21 يناير العالم الجليل الدكتور أمين المعلوف باشا نفسه بعد مرض طويل حجبه عن الناس ومنعه عن العمل، فشق نعيه على جمهرة العلماء والأدباء، ممن عرفوا فضله على العلم واللغة، وعلموا مكانه في الأدب والخلق، وصادقوا فيه الرجل الذي لا يتغير، والعالم الذي لا يدَّعى، والعامل الذي لا يكل. كانت حياته رحمه الله كحياة النبع الصافي يرسل حوالبه النماء والخصب من غير هدير ولا كدورة. ثم توفاه الله أمجد ما يكون ماضياً وأطيب ما يكون سمعة. كان ضابطاً ممتازاً في القسم الطبي بالجيش المصري، ثم قضى بضع سنوات في الخرطوم. ولما قامت الحركة العربية في الحرب الماضية انضم إليها، وكان من العاملين الصادقين فيها. ثم اختاره المغفور له الملك فيصل الأول كبيراً لأطباء جيش العراق، فأدى واجبه العلمي والعسكري على أفضل وجه حتى ارتقى كفاءته وحسن بلائه إلى رتبة فريق. ثم بلغ سن التقاعد فرجع إلى القاهرة واشتغل بالبحث والتأليف فنشر مقالات ممتعة في الحيوان والنبات والمصطلحات العلمية والشوارد اللغوية، ووضع في الحيوان قاموساً يعتبر مرجعاً في بابه. وقد اتصف الفقيد بالوفاء والمروءة والإباء، فأحلته جميع هذه الصفات منزلة رفيعة بين جميع من اتصلوا به.

رحمه الله رحمة واسعة وعزى عنه أسرته وأمته خير العزاء.

1 -

الأوامر بين الطاعة والعصيان

في العدد 212 من مجلة (الثقافة) مقال للأستاذ أحمد أمين بك عنوانه (في الطريق). وهو مقال ينطوي على فكرة دقيقة تستحق الإشارة وتستوجب التعقيب. فالأستاذ يظهر في كلمته العجب البالغ من هذه الطاعة التي يحظى بها (عسكري المرور) ويذهب في تعليل ذلك إلى احتمالات شتى ينتهي برفضها جميعاً: فليس لشخصية عسكري المرور عنده أثر في إيجاد هذه الطاعة، لأن هناك (من هم ضعاف الشخصية ويسمع لقولهم في الطريقي كأقوياء الشخصية سواء بسواء. . .) وليس لـ (قوة القانون)، ولا للخوف من (العقوبة الحتمية السريعة) التي يستتبعها الإخلال به، أثر أيضاً في تحقيق ذلك الخضوع العجيب. ولهذا يحار الأستاذ - كما يقول - في بيان السبب فيتركه لقرائه. وهو يستعرض عقب هذا أوامر

ص: 32

الأطباء التي تخالف، وأوامر العسكري نفسه - إذ جاوز المرور إلى البائعين والبائعات - وأوامر التسعيرة؛ تلك الأوامر التي تهمل جميعاً ويجملها كل مأمور بها تحت قدمه ودبر أذنه؛ أو يحتال على التخلص منها بألطف الحيل وأعجب المحاولات. . . ويخلص الأستاذ من هذا إلى تقرير الحقيقة التالية وهي أن (فعل الأمر وحده لا يكفي في التنفيذ، وإنما يحمل على التنفيذ أمران ممتزجان أتم الامتزاج، فعل الأمر ونفسية الآمر. فإذا كانت نفسية قوية وجدت السامع تتخاذل نفسه أمام الأمر، وأحس أنه أمام قوة كهربائية هائلة، فاضطر إلى تنفيذ فعل الأمر رغم أنفه) إلى آخر ما ورد في المقال

ولقد فات الأستاذ في هذا الموضع الإشارة إلى نقطة دقيقة كان ينبغي أن يوطد عليها نظريته في الطاعة؛ تلك هي (شعور المأمور ونفسيته) لا حيال الآمر في قوة شخصيته وضعفها، بل حيال الأمر نفسه في نفعه له أو ضرره، وفي مبلغ إدراكه لهذا النفع أو الضرر

فالمريض لا يقرن أمر طبيبه بقوة شخصيته أو ضعفها، فينفذه أو يخل به بحسب ذلك. وإنما يقرنه بمبلغ شعوره الخاص إزاءه.

ولتوضيح هذا نقول إن أكثر المخالفة إنما تقع في دور النقاهة والإبلال من المرض، حين يستروح المريض نسيم العافية، ويرى أنه جاوز غمره الداء وسلم من مضاعفاته. فقد يدخل في وهمه إذ ذاك أن أوامر الطبيب إنما هي من قبيل الاحتياط والتوقي، فلا عليه من مخالفتها أو إهمال الدقة في تنفيذها، إذ الضرر في ذلك يسير محتمل، إن لم يكن وهماً متخيلاً قد لا يتحقق له وجود. ولو عرف المريض ما تجر عليه هذه المخالفة وتيقن سوء مغبتها، لما أقدم على خلاف الطبيب في أمر له، جل أو حقر.

ومثل هذا نقوله فيما يُرى من مخالفة أوامر الوعاظ والمعلمين، وأوامر التسعيرة، وأوامر العسكري نفسه (حين يجاوز المرور إلى البائعين والبائعات). . .

ويؤدي بنا تقرير هذه الحقيقة إلى إدراك السبب الذي حار الأستاذ في بيانه فتركه لقرائه. . . إذ أن مخالفة (عسكري المرور) في إشارته معناها الموت المحق تحت عجلات سيارة قادمة، أو قاطرة ترام مندفعة؛ وطاعة أمره هي النجاة بعينها من موت محتوم والسلامة من خطر مائل يستشعره القلب وتراه العين. وهل يتردد العاقل لحظةً في الاختيار بين سبيلين:

ص: 33

أحدهما مُفْض إلى الموت والثاني موصول بالسلامة محفوف بالنجاة والعافية؟. . .

2 -

أين السليط من (السالاد)

يقول العلامة الكبير الأستاذ وحيد الأيوبي في إجابة له عن معنى السليط - الزيت -: (أرى أن منه ما يقال له (سلطة) بفتحتين. . وقد يوهم هذا الكلام أن ثمة علاقة لفظية أو معنوية بين الأصلين العربي والإفرنجي؛ وتسجيلاُ لرأيي في هذا الموضوع أقول:

جاء في قاموس القرن العشرين - الإنجليزي - في شرح مادة ما خلاصته أن هذه اللفظة تطلق على مركَّب غذائي يتألف من عدة نباتات غير مطبوخة كالخس والهندباء والخردل والجرجير والبصل والطماطم وغيرها. . . تقطع جميعاً وتعالج بالملح والخل وأصناف التوابل. . .

وثمة نوع من الزيت - زيت الزيتون خاصة - وعصارة لبعض الأفاويه المعروفة، يستعملان في (تهيئة) هذا الإدام المشار إليه، ولذا يطلق عليهما اسم - أو - فهذا كل ما وجدناه من علاقة بين الزيت المعروف ومدلول كلمة أما السليط في اللغة العربية فهو - كما ورد في القاموس - (الزيت، وكل دهن عُصِر من حّبّ) ولا يخرج إلى معنى غير هذا. . .

ومن ثم يتضح انقطاع العلاقة في المعنى بين الأصلين العربي والأجنبي، كما يتضح لنا انقطاع العلاقة اللفظية بينهما أيضاً، إذا عرفنا أن كلمة الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية بمعنى ملح. وواضح أن كلمة (سّلَطة) في لهجيتنا العامية تحريف لأحد هذه الألفاظ الأعجمية تسرب إلينا بحكم المخالطة؛ فهي لا تمت إلى الأصل العربي بأدنى سبب

ومن الغريب أن الاستعمال المجازي لهذه الكلمة جرى في اللغة العربية وفي غيرها مجرى متقارباً؛ فمن معاني السليط عندنا: الشديد، والحاد من كل شيء، والرجل الصخّاب (والمرأة سليطة). . . ويسمى الإنجليز أيام الشباب الهوجاء التي ينقصها الحنكة والتجارب

على أن هذا التشابه الذي أوجدته الصدفة المحض بين الأصلين - في لفظهما وفي معناهما الحقيقي أو المجازي - لا يحول بيننا وبين أن نقرر تمامَ انقطاع الصلة بينهما؛ إلا أن يُثبت لنا أحد الأدباء بدليل قاطع وجود علاقة بين الأصلين العربي واللاتيني، وهذا ما لا نستطيع الجزم به. . .

ص: 34

بقي أن نشير إلى أننا حاولنا تتبُّع اللفظ العربي إلى أصوله - إن كانت توجد - في اللغتين العبرية والسريانية؛ ولكن لم تُسعد المصادر التي بين أيدينا الآن على تحقيق هذه الرغبة؛ فهذا باب آخر للبحث نتركه مفتوحاً لمن يحسن وُلوجَه. . . والله يهدينا جميعاً إلى الحق.

(جرجا)

محمود عزت عرفة

الرجولة والرجولية

يذهب بعض علماء اللغة في كتبهم إلى التفرقة بين (الرجولة والرجولية) فيقولون: إن (الرجولة) مصدر يدل على مجرد الحدث وأما (الرجولية) فمصدر صناعي يدل على الحدث مع الدلالة على معنى المروءة والإقدام وحماية الذمار الخ. ويعللون لذلك بأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى

ويذهب بعضهم الآخر إلى أنه لا فارق بينهما، فكلاهما مصدر لا يدل إلا على مجرد الحدث، كما أنه لا فارق بين الطفولة والطفولية، ويستدلون لذلك بأن معاجم اللغة تكرها دون أن تفصح عن فرق بينها لو كان لنبهت عليه.

وأما قولهم (إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى) فذلك لبيان الغالب وليس بمطرد. . .

فأي الرأيين أجدر بالصواب وأحق بالإتباع؟ هذا ما أسأل قراء الرسالة عنه ولهم جزيل الثناء.

علي محمود الشيخ

(إشراقة) ديوان التيجاني بشير

في سنة 1935 حملت (الرسالة) الغراء لواء دعوة من أكرم الدعوات، إذ بدأت تنشر على صفحاتها فصولاً تعرّف القراء فيها بالنهضة الأدبية الحديثة في الأقطار العربية، وكان من وراء ذلك أن رأينا أقلاماً عربية قوية تسمعنا أصوات أصحابها من الأقطار الشقيقة في ميداني النثر والشعر؛ وكان من بين هذه الأصوات التي انبعثت من فوق منبر (الرسالة) صوت شاعر الشباب السوداني التيجاني يوسف بشير الذي لم يمهله القدر فاستأثر به عام

ص: 35

1937 عن خمسة وعشرين عاماً استطاع في أثنائها على قلتها أن يسمعنا أغاريد مشجية من الشعر السوداني الحديث!

وقد قام الوجيه السوادني المعروف الأستاذ علي البرير بطبع ديوان المرحوم التيجاني (إشراقة) على نفقته الخاصة وأهداه إلى روح ناظمه، وصدره بكلمة للأستاذ الكبير محمد محمود جلال عن قصته مع الشاعر، وكلمة للدكتور زكي مبارك عن الروحانية السودانية، وسيوزع ريع الديوان على ذوي الشاعر ومواطنيه. وقد ظهر فيما يقرب من 100 صفحة، ويحوي قصائد جيدة للشاعر في الوجدانيات والإخوانيات والوطنيات والتصوف والرثاء الوصف وغير ذلك. وشعر التيجاني يمتاز بعمق الفكرة ورصانة الأسلوب والإحاطة بالموضوع والافتنان في المعاني، ولا تتسع كلمة عابرة كهذه لتفصيل القول في ذلك. . .

ونحن ننتظر أن يلقي الديوان ما هو جدير به من الإقبال، وأن يعني بدراسته والكتابة عنه أدباؤنا، فهو أصدق صورة للشعر الحديث في القطر الشقيق!

أحمد الشرباصي

البكاء بعين واحدة

كنت وما زلت معجباً بأبيات الصَّمَّة بن عبد الله القشيري التي يقول في مطلعها:

حننت إلى ريا، ونفسك باعدت

مزارك من ريا وشعبا كما معاً

وكنت أقف عند هذا البيت الذي يقول فيه:

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها

عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً

فأعجب كيف اتفق لهذا الشاعر أن يبكي بعين واحدة، ثم يعود فيبكي بكلنا عينيه؟! وكنت أتساءل: هل يتفق هذا لكل الناس أم أنها حال خاصة لا تخضع لقانون ثابت، ولا تجري على سنة مطردة؟. . . وأخذت أفكر فخطر لي أن هذا الشاعر قد يكون أعور، فيتصور منه البكاء بعين واحدة، وبدا لي هذا الخاطر معقولاً لولا اعتراض قام بالذهن، هو أن كون الشاعر أعور إنما هو محض افتراض لا يقوم على أساس، ولا ينهض على دليل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هل يمكن أن تدمع العين العوراء حتى يتصور بكاء الأعور بكلتا عينيه؟ وأخذت أبحث عما يدفع هذا الاعتراض، ويصحح ذاك الافتراض، وأخيراً وقفت

ص: 36

إلى ذلك - وما توفيقي إلا بالله - فقد قرأت في (عبقرية عمر) للأستاذ الكبير العقاد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل متمم بن نويرة، وكان هذا شديد الحزن لمقتل أخيه مالك: - ما أشد ما لقيت على أخيك من الحزن؟ فقال: كانت عيني هذه قد ذهبت فبكيت بالصحيحة فأكثرت البكاء، حتى أسعدتها العين الذاهبة وجرت بالدمع. ثم قرأت هذه الأبيات في الجزء الثالث من شرح ديوان الحماسة فوجدت التبريزي الشارح رحمه الله يعلق على البيت السالف بقوله: وإنما قال: (بكت عيني اليسرى) لأنه كان أعور

وبذلك سقط الاعتراض وصح الافتراض. والله أعلم.

إبراهيم محمد نجا

الشعر وجامعة فاروق

نهضت الحركة الأدبية بالثغر الحبيب نهضة مباركة منذ بزغت شمس جامعة فاروق. ولا غرو فإن حيوية الأدب لا تنشر وتكتسب كما قال أستاذنا الكبير الزيات، إلا (بمخالطة الصفوة من رجال الأدب. . . وأنه إذا كان الاستمرار على دراسة الروائع الأدبية ضروري لضمان الخلود، فإنه ولا ريب يكون لذوي الفرائح الناشئة ضرورياً لاستكمال الوجود)

وإن أصدق شاهد على صدق هذه القولة الحكيمة من صاحب (الرسالة) الغراء، أن روح الأدب قد تألقت مع إنشاء الجامعة الجديدة؛ فكان من مظاهر هذه النهضة تكوين جماعة للشعر لأول مرة في كلية الحقوق يشرف عليها مدرس الشريعة الأستاذ عبد الفتاح البانوبي، ويرأسها الشاعر حسين محمود البشبيشي

ولقد أقامت الجماعة مهرجانها الأول بدار الجامعة في الأسبوع الماضي، ألقيت فيه بعض القصائد الجياد. وستوالي الجماعة إقامة مهرجاناتها الشعرية شهرياً، وستختمها بمهرجان كبير يشترك فيه شعراء الإسكندرية المبرزون

عبد العزيز البسي

ص: 37

‌المسرح والسينما

الفرقة المصرية

قالوا إن الفرقة القومية (القديمة) لم تؤد رسالتها، ولم تقم بواجبها، ولم تفعل شيئاً مما خلقت له. والحق أنها وقفت جامدة في مكانها فلم تتقدم خطوة واحدة، وكان ذلك راجعاً إلى سوء الإدارة - كما أعتقد -

. . . وقالوا إن الفرقة المصرية (الجديدة) ستكون مثلاً أعلى للنهضة بفن التمثيل في مصر بعد ما أدخل عليها من تعديل وتبديل، وبعد ما أثير حولها من قال وقيل، فماذا فعلت الفرقة المصرية الجديدة؟!

أشهد أنها قد أجادت في الإعلان عن نفسها وسلكت في الدعاية لأعمالها كل السبل؛ ولكنها - وا أسفاه لم تعمل شيئاً غير ما كانت تعمله الفرقة المنحلة اللهم إلا الدعاية. . . والدعاية فقط

قدمت الفرقة في الأسبوع الماضي مسرحية (مروحة الليدي وندرمير) للكاتب الإنجليزي المعروف أوسكار وايلد ومن تعريب الأستاذ عباس يونس وإخراج الأستاذ فتوح نشاطي. وقد اشترك في تمثيلها لفيف من ممثلي الفرقة نذكر منهم الأساتذة: حسين رياض وسراج منير وفؤاد شقيق وفؤاد فهيم، والسيدات زينب صدقي ونجمة إبراهيم وإحسان شريف وسامية فهمي وغيرهم. وقد جاء الإخراج غاية في الإتقان والتمثل غاية في المقدرة. ولكن المسرحية - للأسف - بعيدة كل البعد عن مجتمعنا فهي لا تلائمه، ولا تدور حوادثها في مثل بيئتنا. ولست أدري لماذا قدمت الفرقة هذه المسرحية التي لا تمت إلى أخلاقنا وعاداتنا بصلة؟! أعجز الكتاب والمؤلفون المصريون عن خلق الرواية المصرية حتى تلجأ الفرقة إلى أدب الغرب تستعير منه وتأخذ عنه؟! أم ماذا؟!. . .

نحن لا نعارض فكرة الترجمة في حد ذاتها. وإنما نعارض أن تترجم للفرقة (المصرية) روايات لا تلائم ولا تتفق مع الخلق المصري فيكون تمثيلها نوعاً من العبث لا يؤدي إلى الغرض المقصود الذي من أجله تتفق هذه الأموال الطائلة. وحن لا نريد أن نجحدهم فضلهم، وإنما نريد أن نشير عليهم بالوجهة الصحيحة حتى يتلافوا الوقوع في أخطاء الماضي

ص: 38

وأخيراً نتمنى للفرقة المصرية الجيدة كل تقدم وارتقاء

كلمة واجبة

ليس أفسد للفن ولا أضر على البلد من مصيبة مصر بأدعياء كبراء في الادعاء هرولوا سراعاً إلى مراكز فنية فرضوا نفوسهم عليها بالمال، ويا لضيعة الفن من أصحاب المال!

إن في مصر فوضى كبيرة في السينما مبعثها ومثيرها ومدبرها أمر واحد هو أن كل تاجر يريد الربح العزيز يلقي بعض ماله مكوناً شركة سينمائية، يؤلف قصصها، ويمثل أدوارها، ويخرج أفلامها فارضاً نفسه (كفنان) على الشعب ناسياً (أو) متناسياً أنه ينقصه الطبيعة الفنية، والحاسة، والذوق، والإلهام

لست أدري على من ألقي التبعة في هذا المقام؟! أعلى الشعب الذي يلقف كل ما يلقي إليه لأن السينما فن جديد؟! أم على أولى الأمر الذين يصرحون بعرض مثل هذه السخافات على الناس فيكونوا بذلك قد جنوا على أذواق الجماهير وعلى رسالة الفن في ذاته؟! أمر محير فهل يمكن تداركه قبل أن يستفحل؟! ليس أمامي مفزع سوى وزارة الشئون الاجتماعية ووزيرها أضرع إليه في أن يوجه عنايته إلى أمر الفوضى الضاربة في الفن السينمائي ويجتث أصولها حتى يضمن للفن المعاني أن يقيم أبنيته على أساس نقي نظيف.

عبد الفتاح متولي غين

ص: 39