الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 501
- بتاريخ: 08 - 02 - 1943
في السياسة القومية
بين الأخوة. . .
أسرتان أختان ورثتا أمجاد الدهر، ورفعتا أركان الحضارة، وعاشتا على النعماء والبأساء ثلاثة عشر قرناً يظلهما وطن كريم، ويغذوهما نهر فياض، وترعاهما شريعة سمحة، وتربط بينهما أواصر خالدة من صلة القربى، وحرمة الجوار، ووحدة المنفعة، لا يجوز أن يعبث بوحدتهما المقدسة عابث لنزوة غضب أو شهوة خلاف.
تلك كانت كلمتي لصديقي ف. ب، وهو من سراة الأقباط الذين اعتقدوا مبادئ الوفد وضعها الزعيم سعد؛ قلتها له حين أنكرت في بعض حديثه معنى من معاني العصبية المفرِّقة التي ماتت ألفاظها في لغتنا المصرية منذ طويل. وكان صديقي هذا إلى يوم قريب لساناً من ألسنة الوفد، يؤمن برسالته، ويخلص لسياسته، ويخضع لزعامته، ويعتقد أن مبادئه هي الدِّين المشترك الذي تصلح عليه الأمة، وتتحقق به المساواة، وتشرق فيه العدالة، ويطهَّر به الدم المصري من جراثيم الفرقة فلا يكون لابن النيل إلا وصف واحد يُشتق من مصريته، لا من عقيدته ولا من عنصريته. فما هو إلا أن غضب من رجال الوفد غاضب يتمنى إليه حتى أصبحت مبادئ الوفد كفراً، وسياسته غدراً، وزعامته فجراً، وحكمه محاباة؛ وحتى صار الخلاف بين رجل ورجل، خلافاً بين عنصر وعنصر، وبين دين ودين، وبين كثرة وقلة سوى بينهما الفضل لا العدل، فلم يعد هناك كثرة ولا قلة، ولا عزة ولا ذلة، ولا قرابة ولا بعد
أهكذا يا صديقي نُحكم الهوى في الرأي، وننصر العصبية على الوطنية، ونصدع ما أراد سعد أن يُرْأب، ونقطع ما أمر الله أن يوصَل؟ إن كان لم يقنعك ما قلت، فإني لأرجو أن يقنعك ما أكتب:
إن توحيد الأمة معنى من توحيد الله لا يوسوس بتوهينه في الصدور إلا شيطان. وإن هذا الشعب المفطور على السماحة والوادعة والألفة، لم يسجل عليه تاريخه الطويل أن بعضه تعصب على بعضه إلا بمكر الدخيل أو غدر الخائن. وإن الإسلام الذي يرتع في ظلاله اليهودي المضطهد، والأرمني المبعَد، والرومي المهاجر، والأوربي المستعمر، لا يمكن أن يكون مصدر شقاق بين عنصرين شقيقين خلقا من طينة واحدة، ونبتا في مغرس واحد.
وإذا جاز للأجنبي أن يعكر الماء ليصيد، ويفرق الأهواء ليستفيد، فلا يجوز للوطني البر أن يمزق الوحدة لينتقم، ويوقظ العصبية ليغلب!
لقد كان التمييز بين المصري وأخيه بالإسلامية والقبطية، أو (بالأكثرية والأقلية)، أثراً من آثار الحكم الجاهل، أو أداة من أدوات الاستعمار اللئيم. ومصداق ذلك أن الأمر لم يكد يصير في أهله حتى أمحت الفروق، وشاعت الحقوق، وتعانق الهلال والصليب، وتآخي الشيخ والقس، وماتت الصحافة الطائفية، وأصبح المصريون أمة واحدة تجد فيها المسلم والقبطي، كما تجد الوفدي والدستوري، ولكنك لا تجد للعقيدة الدينية أو النحلة السياسية أثراً سيئاً في علاقة خاصة أو معاملة عامة. وبهذه الوحدة المقدسة تميزت مصر على أمم الشرق، وقدمت إليهن مثلاً عالياً في الوطنية الصادقة والسياسة الحكيمة
إن تقسيم الناس على عدد الأديان والألوان خلق من أخلاق الجاهلية لا تزال الإنسانية تقاسي ما ورثت من عقابيله. وإن استغلال هذه المعاني اليوم في تحقيق غرض من أغراض السياسة وسيلة مكيافيلية لا يطمئن عليها ضمير حي. وإن زعمك يا صديقي أن غضب الأسرة لغضب واحد منها نزعة في أصل الطبع لا حيلة فيها، يكون له مساغٌ في العقل إذا كان الغضب لها والخلاف من أجلها، أما إذا كان الشقاق والانشقاق لخلاف في السياسة العامة، فإن في مغالبة فريق بفريق، ومواثبة عنصر بعنصر، دليلاً على نية سوء لا يصلح صاحبها أن يكون زعيماً يطاع ولا إماماً يتّبع.
لا يا صديقي! لم تكن فكرة التميز والتحيز في عهد من العهود سبيلاً إلى مصلحة الوطن؛ فإن تقسيم الحقوق والواجبات على مقتضى النسبة العددية شديد على الفريق الأقل. وإن انقسام الأمة إلى فريقين متعارضين، خليق بما يحمل من معاني الأثرة والتعصب أن يوقع الوحشة بين الأخوة فلا يجمعهم ظل ولا تدنيهم مودة
لك يا صديقي ولجميع الناس أن تختلفوا وتختصموا؛ ولكن عليك وعلى جميع الناس أن تراعوا جانب الحق في الخلاف، وتؤثروا سلاح الحق في الخصومة. وما دمتَ من رجال السياسة وطلاب الحكم فيجب أن يكون رأيك للجماعة وسعيك للجميع. أما أن تفرق لتسود، وتقسم لتقود، فذلك جرم وطني لا تسعه مغفرة
اتقوا الله في الوطن يا صديقي، ولا تفتحوا عليه باب الفرقة فإنه باب ظاهره فيه الخراب،
وباطنه من قِبَله العذاب
لا تقولوا نحن وأنتم، ولا فعلنا وفعلتم؛ فإنها من بقايا الجمل التي كان يلقيها علينا الأجنبي فنمضغها مضغ الجيف، ثم لا يأمن بها عيش ولا يسمن عليها بدن
نحن وأنتم اخوة توشَّج ما بيننا من صلات النسب على طول القرون، فإذا قيل لكم إنكم طائفة في أمة، وذمة في دين، وعصيبة في حزب، فادفعوا هذا القول الظنين بمنطق الوطني المؤمن، واربأوا بأنفسكم أن تكونوا مطيايا ذُلُلاً لأصحاب المطامع يقتحمون بكم مزالق السياسة. واذكروا أن أثمن ما غنمناه من جهادنا الطويل هو توحيد الأمة، وان توحيد الأمة كما قلت معنى من توحيد الله لا يوسوس بتوهينه في الصدور إلا شيطان.
أحمد حسن الزيات
هل أدت الجامعة رسالتها؟
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
في عصرية السبت الماضي أقيمت مناظرة في كلية الآداب أريد بها تحديد المدى الذي وصلت إليه الجامعة في تأدية رسالتها العلمية والأدبية والاجتماعية، واشترك في المناظرة طالب وطالبة، واثنان من الخرجين، واثنان من المدرسين، وقد دامت المناظرة نحو ثلاث ساعات، وحضرها جماهير من بيئات مختلفات، ولم يقع فيها ما يسوء برغم العنف الذي ثار تصريحاً أو تلميحاً بين المؤيدين والمعارضين. ومع أني كنت أؤيد الرأي فقد راعتني الحجج التي قدمها من عارضوني، لأن أحدهم وهو الأستاذ حسين دياب حضر ومعه عددان من مجلة (الرسالة) فيهما كلمات تشهد بأني قلت مرتين بأن الجامعة لم تؤد رسالتها على الوجه المنشود
كانت كلمتي مكتوبة، ولكني اختصرتها لضيق الوقت، فتجمع الحاضرون حولي عند الانصراف، ورجوني أن أنشرها في (الرسالة) كاملة ليقرءوا ما فاتهم أن يسمعوه، فأنا أقدمها إلى (الرسالة) تحقيقاً لذلك الرجاء النبيل
وتكميلاً للغرض أسوق الملاحظات الآتية:
1 -
أجمع المعارضون أن الصلة بين الجامعة وخريجها منقطعة تمام الانقطاع، وأن الجامعة لا تعرف غير من تراهم من الطلبة والمدرسين. ولو كانت الجامعة أدت رسالتها لكان من الواجب أن تهيئ لأبنائها القدماء فرصة التلاقي في رحابها في كل عام مرة أو مرتين
2 -
كان اللحن الفظيع يغلب على بعض المعارضين، وكان الجمهور يقابل اللحن بالضجيج، وقد اعتذر أحد المعارضين بأن لحنه من الشواهد على أن الجامعة لم تؤد رسالتها، فكان ألطف اعتذار في التاريخ الحديث!
3 -
وردت في خطبتي كلمة موجهة إلى العميد، فأسرع بعض المدرسين ليسر في أذني كلاماً يرجوني فيه ألا أحرج العميد وكان الظن أن يدركوا أن العميد أقوى مما يظنون؟
4 -
كان اثنان من المدرسين المشتركين في المناظرة يقلدان الدكتور طه حسين في التعابير
وفي مخارج الحروف، وهذا دليل على ضعف الشخصية، فأنا أحب أن يكون لكل خطيب وجودٌ خاص
5 -
المنطق قد انعدم في بعض أقوال المعارضين، فقد توهم أحدهم أن الجامعة لا تؤدي رسالتها إلا إذا عمل خريجوها بالمجان في جميع الميادين، ونص بالحرف على أن الأطباء في المستشفيات يتناولون مرتبات، وهذا في رأيه ينافي الروح الجامعية
6 -
الألفاظ كانت فضفاضة عند بعض الخطباء حتى كدت أحس أن المناظرة لا تدور في المدرج الأكبر بكلية الآداب!
7 -
كان أحد الخطباء يوهمنا أنه يرتجل مع أنه حفظ خطبته عن ظهر قلب!
8 -
حدثنا أحد المعارضين عن تقاليد الجامعات الأوربية بكلام هو غاية العجب، مع أن عينه لم تكتحل برؤية جامعة أوربية، كما قال أحد المؤيدين، فمن أين استقى هذا المدرس المفضال معلوماته المبعثرة عن تقاليد الجامعات الأوربية؟
9 -
الأديب سعيد محروس كان يقلد الخطيب محمد شكري في الإشارات والنبرات، وهذا دليل على أن الروح لا يموت، فقد كان محمد شكري أظهر خطباء الثورة، ثم انهزم لأنه عجز عن مسايرة الأحزاب
10 -
الآنسة كوثر عبد السلام أجادت في المعاني، ولكنها عقت النحو عقوقاً لا يطاق. فذكرتنا بقول أحد الشعراء:
منطقٌ صائبٌ وتلحن أحيا
…
ناً وأحلى الحديث ما كان لحنا
11 -
حضر الأميرالاي علي حلمي لشهود المناظرة، وفي الطريق إلى المدرج لقينا الدكتور محمود عزمي، فقال له سعادة الأميرالاي: لعلك حضرت لنفس الغرض! فقال الأستاذ محمود عزمي: إن عندي حصتين في معهد الصحافة. فقلت: هات تلاميذك ليشهدوا المناظرة، فقد يختزنون مناظر تنفع في حياتهم الصحفية، فاعتذر بلطف وانصرف
هذه هي الصحافة التي تعرفها كلية الآداب، صحافة نظرية لا علمية، صحافة تأخذ وقودها من التاريخ لا من الحياة، صحافة تنكر الرحلات من حجرة إلى حجرة في مكان محدود، مع أن من واجب الصحفي أن يرتحل من قطب الشمال إلى قطب الجنوب
أما بعد فأنا آسف على ما أثبت في خطبتي من أن كلية الآداب خدمت الصحافة بإنشاء
معهد الصحافة، ولن أمحو ما أثبت، لأني لا أريد التسجيل، وإنما أريد الإيحاء
ولم يبق إلا أن يتفضل أخي الأستاذ الزيات فينشر خطبتي بالحرف، مع الرجاء في أن يتذكر أني لم أثن على الجامعة المصرية بغير الحق، رفع الله دعائمها إلى الأبد، وجعلها منارة باقية إلى آخر الزمان.
أيها السادة
حين دُعيت للمناظرة في هذا الموضوع الطريف قلت لنفسي: إن لجنة المناظرات بكلية الآداب هبط عليها الوحي من حيث لا تحتسب ولا تعرف، فإن هذا الوقت هو أنسب الأوقات لوزن أعمال جامعة فؤاد الأول. ألم تسمعوا بأن الاحتفال الرسمي بافتتاح جامعة فاروق الأول سيكون في الأسبوع المقبل؟
إن في ذلك لفرصة لوزن ما لجامعة القاهرة وما عليها بالعدل والقسطاس، وهو أيضاً توجيه لجامعة الإسكندرية، فما أظنها تكره أن نمدَّ إليها يد الرفق، لنعاونها على مصارعة الأمواج، وهي في بلد الأثباج
وكان المنتظر أن أكون في الصف الذي ينكر أن تكون الجامعة قد أدت رسالتها، ولكن لجنة المناظرات رأت أن قوتي في الهجوم، فبخلت بإعطائي فرصة جديدة أرفع فيها العَلَم لقلمي وبياني، في المكن الذي صاولت فيه كبار الرجال، بغير تهيب لعواقب الصيال
أو لعلها أرادت أن أشهد علانية بتمجيد الجامعة بعد أن حاربت من حاربت من رجالها الأبطال. إن كان ذلك ما أرادت فلن تنال ما تريد، لأن من رسالة الجامعة أن تروض أبناءها على الخلاف، ونحن نختلف أقل مما يجب، ويا وليلنا إذا لم نختلف!
فلا تحسبوني أغمدت القلم الذي أعددته لمصاولة زملائي، ولا تتوهموا أني سأعفي الجامعة من النقد الصريح، يوم أراها تقع فيما يوجب الانتقاد، فأنا أومن بأن الحرب حياة وبأن الصلح موت، وأنا الذي قال حين تنادي رجال الأقلام إلى الوفاق:
دعوتم إلى وأد الخلاف فحاذروا
…
عواقبِ حلفٍ خير آثاره الختل
دُعوا الصلح للأموات فهو غذاؤهم
…
هنيئاً لهم ذاك المكان الذي حلُّوا
ألَا هل سمعتم أن قبراً تحركتْ
…
حجارته فانزاح من فوق الثِّقْلُ
يجوز لقومٍ غيرنا أن يؤلفوا
…
عصائب يحميها من النكثة الفتل
ونحن رجالٌ سرُّنا في خلافنا
…
وقوّتنا العليا هي الفتك والصول
تآخي الظباء الرُّود رمزٌ لضعفها
…
وهل تعرف الآساد ما الجمع والشمل
أيها السادة:
أتذكرون المناظرة التي اشتركت فيها بهذا المكان منذ سنتين أو ثلاث؟
لقد جئت وبيميني صحائف مكتوبة، لآمن التزيد الذي يستبيحه بعض المتناظرين، رغبة في كسب الأصوات، أو طمعاً في التغلب على مفكر لا يعتزّ بغير العقل والبيان
وقد رأيت أن ألقاكم بصحائف مكتوبة، مع أن مقامي هذا لا يحتاج إلى احتراس، بعد أن أعفتني لجنة المناظرات من النضال حين خصّتني بالجانب الأقوى في مناظرة هذا المساء، فاعرفوا أني قيدت كلامي، لأني سألقيه في أحد مدرجات الجامعة، والجامعة لا ترضى لأبنائها أن يتركوا الأوابد بلا قيود
ولكن كيف أخاف الإسراف في إبراز محامد الجامعة، وليس في الخير إسراف؟
الجامعة هي كل ما غنمنا من جهاد العوام التي أربت على الستين في مقاومة الاحتلال
الجامعة هي صوت مصر في الشرق، وقد اختارت الضفة الغربية من النيل رمزاً لما تسموا إليه من نقل عقل الغرب إلى روح الشرق
إن الجانب الذي سأتحدث عنه هو الجانب الأقوى، ولكنه مزعج، لأنه سيقهرني على مواجهة مشكلة من أصعب المشكلات، وهي توضيح الواضحات، وهل ينكر أحدٌ أن الجامعة أدت رسالتها قبل أن يولد بعض مناظريّ في هذا المساء؟
لم تكن للجامعة رسالة واحدة، وإنما كانت لها رسالات، وإليكم يساق الحديث:
كانت رسالتها الأولى أن تختبر العزائم والقلوب، لتعرف استعداد الأمة للتحليق في الجِواء العالية، يوم كان جماعة من خلق الله يقولون: إن السياسة الحكيمة للتعليم هي إعداد موظفين مصقولين. ونحن نعرف المواد من ذلك الصقل، فقد كان الغرض أن يكون عندنا موظفون لا يقولون (لا) ولو في التشهد!!
وقد كان المظنون أن تخفق الجامعة في تأدية تلك الرسالة، فقد كان الأمر يومئذ إلى حكومة مصقولة، حكومة تستهدي الاحتلال في حل بعض المعضلات، وكان الاحتلال يرى أن مصر تحتاج إلى كتاتيب لا إلى جامعات
فهل أفلحت الجامعة في إيقاظ الروح القومي لتشعر المحتلين بأن مصر شبَّتْ عن الطوق، وانتهت من أبجديات الكتاتيب؟ هو ذلك، فقد أقبلت الأمة على تأييد الجامعة إقبالاً منقطع النظير، إقبالاً يشهد بأن الجسم الوهين عروقاً نابضات، وأن مصر علمَّت فلاسفة الإغريق والرومان في العصر القديم ستكون موئلاً علميّاً لليونان والطليان في العصر الحديث
تلك الرسالة الأولى، فما الرسالة الثانية؟
كانت الرسالة الثانية أن تجد الجامعة طلاباً يسعون لظفر بإجازات علمية، لا تعترف بها الحكومة المصرية، طلاباً لا أمل لهم في الوظائف والمناصب، ولا حظ لهم غير التشرف بخدمة الدراسات العالية، في زمن كان فيه تراب الوظيفة أثمن من التبر المسبوك، وأروع من خيوط الضياء
وذلك عهدٌ عرفتُه بدمي وروحي، وعرفه معي زملاء من أبناء الجامعة في عهدها الأول. . . كنا يتامى، وكان اليُتم المضطهد بعض ما ورثنا عن الأنبياء
لم يكن للجامعة ماضٍ تستند إليه، فقد سبقتها المدارس العالية بعشرات السنين، وسبقها الأزهر بعشرات القرون، ولم يكن لنا إخوان في أي ديوان، فقد عشنا حيناً غرباء، وكان من حق أي مخلوق أن يسخر منا كيف شاء، والحر في وطنه غريب
لقد حملنا أعباءنا الثقيلة ولا معين، ورحبنا بالمكاره السود، لنقنع الأمة بأن عدننا رسالة لم يحملها أحد من قبل، وهي رفع راية الفكر الصداق والقلم البليغ
في ذلك العهد كنا نسمع أن علوي باشا يطوف على الوزارات عساه يجد أمكنه للعائدين الفائزين من بعثات الجامعة المصرية، وكنا نسمع أنه يجاب بأن (الحكومة ستنظر في الأمر) وهي عبارة ديوانية معناها أن الحكومة السنية لا تعرف من أعضاء البعثات إلا من تنفق عليهم من مالها الخاص، كأن الجامعة كفرت حين عاونت الحكومة على تثقيف بعض أبناء الجيل الجديد!!
وحكومة مصر كما تعرفون تجهل أقدار الذين يعفونها من النفقات عند الرغبة في التزود من الجامعات الأوربية والأمريكية لأغراض مردُّها حب السيطرة على العلوم والعلماء
فهل جزعنا فيئسنا؟
هيهات، ثم هيهات، فقد رحبنا بالجهاد في مناصب الجامعة بعنفوان أقوى من عنفوان
الزمان، وقد انتصرنا على الحكومة، وعلى الزمان
تلك الرسالة الثانية، فما الرسالة الثالثة؟
كان للجامعة وحيٌ يغزو القلوب والعقول، وقد تسامَى إلى غرض أعجب وأعرب، وهو إنطاق الصخر الجلمود، فقد أقنع الحكومة بأنْ لابد من إنشاء جامعة في الوطن الذي سبق جميع الأوطان إلى إنشاء الجامعات، فتألفت لجنة حكومية عقدت في أربع سنين جلسات تفوق الثمانين، لتقول في النهاية بتسمية المدارس العالية كليات، وبعض أنصار الحكومة في ذلك العهد كانوا يعرفون الأسماء ويجهلون المسميات
وحي الجامعة كان الوحي الصادق، فقد انسحبت الحكومة من الميدان بعد اليأس، وبقيت الجامعة تصنع بأحلام الشباب وقلوبهم وعقولهم ما تريد
في تلكم الأيام كان أبناء الجامعة يقتحمون الميادين العلمية والأدبية، وكانوا يقيمون البراهين الصوادق على أن فكرة الجامعة لن تموت، ولو قامت في طريقها ملايين العقبات
تلك الرسالة الثالثة
أيها السادة:
قبل أن أواجه العهد الثاني من عهود الجامعة المصرية، العهد الذي ابتدأ في سنة 1925، وهو العهد الأرحب والأخصب، أرى من الواجب أن أجمل القول في العهد الأول، بصورة تشعركم بقيمة الرسالات التي أدتها في ذلك العهد
كان للجامعة مبعوثون إلى الجامعات الأوربية من أمثال منصور فهمي، ومحمود عزمي، وصادق جوهر، وأحمد ضيف. ولا ينكر أحدٌ أن مبعوثي الجامعة كانوا أقوى من مبعوثي الحكومة. وكانوا أقدر على النضال في الميادين العلمية والأدبية والاجتماعية، وأنا في هذا المقام أضرب الأمثال، ولا أحاول الاستقصاء
وكان للجامعة في ذلك العهد أبناء تثقفهم في دارها من أمثال: طه حسين وكمال حلمي وفريد رفاعي وتوفيق المرعشلي وأحمد البيلي وحسن إبراهيم وعبد الوهاب عزام ومحمد إبراهيم الجزيري، فماذا صنع هؤلاء؟
لن أتحدث هن جهودهم بالتفصيل، فأنتم تعرفون من جهودهم أكثر مما أعرف، ويكفي أن أؤيد رأيي بشاهد واحد لكم بعض ما صنعت الجامعة في ذلك الحين
في سنة 1914 تخرج أول دكتور من الجامعة المصرية، وهو الدكتور طه حسين، وقد قدّم لامتحان الدكتوراه رسالة سماها (ذكرى أبي العلاء)، رسالة ظنها الناس تأليفاً كسائر التأليف، ولكنها أدهشتهم حين طُبعت، فقد رأوا أن للجامعة نفَساَ أطيب من سائر الأنفاس، وأدركوا أن الجامعة تخلق أبناءها خلقاً جديداً، وأن لها رسالة جيدة، وأنها مصباحٌ سيبذّ ما سلف من المصابيح
ولم تكن رسالة الدكتور طه مثالاً يحتذيه طلبة الجامعة فحسبُ، وإنما امتد أثرها إلى آفاق بعيدة من أقطار الشرق
وقد قدّم الدكتور طه بعد ذلك بأعوام رسالة إلى جامعة باريس عن ابن خلدون، ولكنها ليست في قوة الرسالة التي قدمها إلى الجامعة المصرية عن أبي العلاء، فكان هذا برهاناً على أصالة الجامعة المصرية في تثقيف الأذواق والعقول
ثم ماذا؟
ثم نظرت الجامعة فرأت الحكومة تخنق التعليم في المعاهد العالية، فأنشأت قسم الحقوق في أعوام عجاف، هي أعوام الحرب الماضية، وكانت النتيجة أن تعترف الحكومة نفسها بأن أبناء الجامعة المضطهدة أقدر من أبنائها على الظفر بالدرجات العالية.
وفي ذلك العهد كانت دار الجامعة هي الموئل لكبريات الحفلات، ففيها أقيم الاحتفال بذكرى الشيح محمد عبده، مع أن الأزهر لم يحتفل بتأبين ذلك الإمام الجليل. وفيها احتُفل بتأبين فتحي باشا زغلول وعثمان باشا غالب، وفيها احتُفل بذكرى رينان، وفيها ألقيت عمرية حافظ إبراهيم وعلوية محمد عبد المطلب، وعلوية عبد الحليم المصري
وفي ذلك العهد. . . ماذا وقع في ذلك العهد؟
كان مجلس الجامعة المصرية ينتظم أكابر المصريين، وكان هو المكان الوحيد الذي يجتمع فيه أولئك الأكابر في أمان من الرقباء، وفيه تألف الوفد المصري برياسة الزعيم سعد زغلول.
ألا تكون هذه الناحية الخطيرة جانباً من رسالة الجامعة في عهدها الأول؟
زكي مبارك
في التربية الديمقراطية
الحكم الذاتي في المدرسة
للأستاذ السيد يعقوب بكر
سوف لا نعرض في هذا البحث للتجارب التي أُجريت في هذه المسألة؛ فإن هذه التجارب كثيرة كثرة لا نستطيع معها حصرها في بحث مثل هذا البحث؛ وهي كذلك ذات صبغة بيئية إن صحَّ هذا التعبير، فهناك تجارب إنجليزية وتجارب أمريكية وتجارب أسترالية وتجارب فرنسية، وطبيعي أن هذه التجارب لا تهمنا كمصريين لهم بيئتهم الخاصة وتعليمهم الخاص الذي توحي به هذه البيئة؛ هذا إلى أن من هذه التجارب ما كان مسرحه المدرسة الابتدائية وما كان مسرحه المدرسة الثاموية وما كان مسرحه الجامعة، وواضح أن هذه التجارب لا تصلح لمدارسنا وجامعاتنا لسبب بسيط جدّاً وهو أن مدارسنا وجامعاتنا تختلف عن تلك المدارس والجامعات الأجنبية التي جعلت مسارح تُجري عليها تجارب الحكم الذاتي؛ كذلك أجريت تجارب في الحكم الذاتي على التلاميذ الذين لم يبلغوا سن البلوغ والمراهقة وعلى الطلبة الذين بلغوا هذه السن وهنا أيضاً لا نستطيع تطبيق هذه التجارب على من لم يبلغ هذه السن من تلاميذنا وعلى من بلغها لسبب بسيط جداً أيضاً، وهو أن هؤلاء يختلفون اختلافاً كبيراً عن نظرائهم في البلاد الغربية.
وإذن فلن نعرض لهذه التجارب التي أجريت في الحكم الذاتي. وإنما سنعرض فقط للمبادئ العامة التي تسيطر على هذا الموضوع.
وأول ما نفعله في هذا الصدد أن نبين مكان الحكم الذاتي من التأديب
فنحن نعرف أن الأستاذ مكمان يقسم تطور التأديب من حيث البعد عن الحرية أو القرب منها إلى ثلاث مراحل متتابعة: مرحلة الإرهاب ومرحلة التأثير بالشخصية ومرحلة التحرير
ففي المرحلة الأولى كان المعول على القوة وحدها، وكانت العصا أداة التفاهم الوحيدة بين المعلم والتلميذ
وفي المرحلة الثانية - وهي مرحلة انتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثالثة - هذب المربون من حاشيتهم ووقفوا من جفوتهم وإن لم زودوا تلاميذهم بعد بالحرية الكاملة التي
يتطلعون إليها والتي هي في الحق من حقهم
أما المرحلة الثالثة؛ فهي التي تمثلها المدرسة الحديثة في التربية وهذه المدرسة ترمي إلى تزويد التلميذ بحرية خالصة من كل قيد؛ ويجب أن تكون حرية التلميذ هذه إيجابية لا سلبية؛ فيجب - كما يقول السير روبرت بادن باول - أن يشجع التلميذ على أن يعمل ما يحب كما يحب وإن أدى به هذا إلى الخطأ، فبهذه الطريقة وحدها يمكنه أن يكتسب خبرة في هذه الحياة
والأستاذ ماك مان يرض نوع التأديب الذي تضمنته المرحلة الثانية، ولكن الدكتور الكورث براون. لا يقره على هذا الرفض
والسير جون آدمز يخرج من اعتباره النوع الأول من التأديب؛ ويترك النوع الثاني لمحك الحياة يظهر ما فيه من زيف أو صلاح؛ وينظر في النوع الثالث فيرى أن مفهومه يقتضي من المعلم أن يكظم شخصيته وأن يلفها في مدارج النسيان، فيقول إن هذا غير ممكن الحدوث، فشخصية المعلم تظهر بالرغم منه وتترك أثرها في التلاميذ، وهو لا يستطيع بحال ما أن يخلّص ما يلقيه على تلاميذ من أصباغ شخصيته. ويزيد السير جون آدمز على ذلك فيقول إن دعاة هذا المذهب الجديد يعترفون بصحة ما يقول
والذي تقصد إليه من كل هذا هو أن نقول إن الحكم الذاتي في مظهر من مظاهر المدرسة الحديثة في التربية
وهنا يحسن أن نتحدث قليلاً عن تاريخ المسألة
فليس من شك في أن النظام يجب أن يتوفر في التعليم المدرسي حتى مكن لهذا التعليم أن يحقق الغاية المقصودة منه. لذلك كان النظام في المدرسة أمراً على جانب كبير من الأهمية في نظر الجميع. ومن ثمَّ أخذت المدرسة تهدف إلى أن بعث في جوها نظاماً مباشراً فما أدّى في كثر من الأحيان إلى إهمال الغرض التربوي المقصود تحقيقه عن طريق النظام. ولكن ازدياد الاهتمام بالأفراد ولا سيما الأطفال، ومطالبة المدرسة بإخراج تلاميذ قادرين على أن يشاركوا في التعاون الاجتماعي في هذه الحياة، وتسلط علم نفس صحيح على المدارس، كل هذا دعا إلى ترك هذا النوع من التأديب الذي لا يهدف إلا إلى مجرد النظام إلى نوع من التأديب آخر يتحقّق من ورائه نمو الشخصية والتعاون الاجتماعي الثابت في
المدرسة
وقد تجلت تلك النزعة في أمريكا في عدة محاولات ترى إلى زيادة حرية الأطفال ومسئوليتهم في مباشرة نواحي نشاطهم في الفصل وفي خارج الفصل. ولقد ظهر أثر هذه النزعة أول ما ظهر في الكليات والجامعات فيما يُعبر عنه باسم نظام الشرف ثم ظهر بعد ذلك في الحكم الذاتي في المدارس العالية وأخيراً ظهر في المدارس الأولية
على أنه يحسن بنا هنا وقد أشرنا إلى نظام الشرف في معرض كلامنا الوجيز عن تاريخ الحكم الذاتي أن نتحدث بإيجاز شديد عن الفرق بين هذين النظامين كما هما في أمريكا. فنقول إن وجود نظام الشرف في المدارس العالية يرجع إلى أنه لما كان طلبة هذه المدارس يتمتعون من قديم بقسط وافر من الحرية في مباشرة وجوه نشاطهم المختلفة في داخل هذه المدارس وفي خارجها، فإن المدرسين والمباشرين لأمور هذه المدارس قد وصلوا هذه الحرية التي يتمتع بها الطلبة بنظام الامتحان وجعلوها تنفيذ إليه لتدبر أمره. وكان الدافع لهم على ذلك أنهم لمسوا صعوبة التوفيق بين كبح نزعة الغش في الامتحان والعمل - في نفس الوقت - على خلق اتجاهات صحيحة وعادات صحيحة في نفوس الطلبة
هذا عن نظام الشرف. أما الحكم الذاتي في المدارس غير العالية فقد دفع إلى اصطناعه غرضان هما بدون شك أوسع مجالاً من الغرض الذي دفع إلى اصطناع نظام الشرف: فالغرض الأول هو إيجاد وسيلة لتعليم علم الحكم المدني تكون أكثر موضوعية وإيجابية، والغرض الثاني هو العمل على أن تنمي حكومة المدرسة الروح الاجتماعية عند كل طالب؟
فهذا هو الفرق بين النظامين.
على أن هناك نظاماً آخر يحسن أن نتحدث قليلاً عما بينه وبين نظام الحكم الذاتي من فروق، ونعني بهذا النظام نظام العُرفاء فبين هذا النظام وناظم الحكم الذاتي ثلاثة فروق رئيسية: فالفرق الأول يتلخص في أنه في نظام العرفاء يخَّول السلطة عددٌ قليل من التلاميذ كبار السن بينما أن السلطة في نظام الحكم الذاتي يخوَلها التلاميذ جماعة، والفرق الثاني يتلخص في أن أعمال العرفاء تنفيذية أكثر منها تشريعية؛ فمنظم القوانين التي ينفذونها ليست من تشريعهم. والفرق الثالث يتلخص في أن هؤلاء العرفاء يختارون من قبل ناظر
المدرسة ويكونون مسئولين أمامه بدلاً من أن يكونوا نائبين عن الجماعة.
وهنا يحسن بك أن تسألني عن كنه الحكم الذاتي لأقول لك إنه تخويل جماعة من التلاميذ سلطة كاملة لمباشرة شئون حياتهم المدرسية كلها أو بعضها
وهذا الحكم الذاتي لم يصطنع عبثاً، بل لتحقيق أغراض يُرجى تحقيقها من ورائه.
فمن هذه الأغراض تنمية القدرة على التعاون - نحن نعرف أن للتعاون أهميته العظمى في الدول الديمقراطية، بل وفي ذلك المحيط الفسيح الذي نسميه بالمجتمع الكبير والذي نحن جميعاً أبعاض منه. وإن المجتمع الحديث مدين بتقدمه بل وباستمرار وجوده لهذا التعاون الذي يربط بين أفراده بعضهم وبعض.
ومن هذه الأغراض تدريب التلاميذ تدريباً عملياً على أن يكونوا مواطنين مستنيرين، فإن دروس علم الحكم المدني لا يمكن أن تغني هذا التدريب العملي بحال ما. فالكتب لا تستطيع بحال ما أن تطلعنا على دقائق آلة العمل الحكومية أو على الطريقة التي تدير بها الأعمال، وإنما نطلّع على كل هذا بالتجربة وبالتجربة فقط
وهناك غرض ثالث هو قي الحقيقة غرض علاجي. بيان ذلك أن هناك أطفالاً ينزعون إلى أن يشعروا المجتمع بوجودهم وإلى أن يحملوا على الاعتراف بأهمية هذا الوجود، فإذا لم يجد نزوعهم هذا متنفساً يخرج منه إلى عالم الواقع والحقيقة فإنه يتحول إلى عقدة نفسية تحمل هؤلاء الأطفال على أن يقفوا من قوانين المجتمع موقف العداء، وبذلك تكون حياتهم العاطفية صراعاً مشتجراُ بينهم وبين أولى الأمر. وعلى ذلك فيجب أن يوحي إلى هؤلاء المتمردين على المجتمع أن القانون ليس جماعاً من أوامر ونواها تملي عليهم وتُفرض، وإنما هو وسيلة تصطنع لتحقيق مثل عليا يطمح إليها أفراد المجتمع ويشاركونهم هم في هذا الطموح. وليس كالحكم الذاتي وسيلة لغرس هذا في نفوس هؤلاء المتمرِّدين
فهذه أغراض ثلاثة رئيسية يرجى تحقيقها عن طريق الحكم الذاتي: وهناك أغراض أخرى ثانوية يصح أن نذكر بعضها. فمن هذه الأغراض الثانوية تدريب التلاميذ على ضبط النفس، وذلك لأن في تدبيرهم لأمورهم المدرسية تقوية لعزيمتهم وشحذا لإرادتهم، ولابد لضبط النفس من قوة في العزم ومضاءٌ في الإرادة
ومن هذه الأغراض الثانوية أيضاً تقوية إحساس التلاميذ بقيمة النظام وأهميته. ومنها كذلك
تدريب التلاميذ على سياسة الغير.
(للحديث بقية)
السيد يعقوب بكر
من أزهار الشر
لشارل بودلير
عروج
ها أنتِ يا روحي ترفرفين هفافةً فوق الوهاد والغدران، والجبال والغابات، والسحب والبحار، وفيما وراء الشمس والأثير، والأفلاك النائية المرصعة بالنجوم.
وإنك لتعبرين الفضاء العميق، مرحةً في شهوة عارمة يعجز عنها البيان، سابح ماهر غشية الذهول في لجة الماء.
فلتحلقي بعيداً، بعيداً، عن الجيف المنتنة. واصعدي إلى الهواء الأعلى، لتتطهري من أدرانها، واحتسي النار الساطعة التي تغمر الآفاق المتألقة، كخمر إلهية صافية.
طوبى لمن يستطع أن ينطلق بجناح قوي إلى السموات المشرقة الساجية من وراء الهموم والآلام العريضة التي تنوء بأعبائها الحياة القاتمة!
طوبى لمن كانت خواطره كالقنابر تطير عند الصباح إلى السماء حرة طليقة!
طوبى لمن رنَّق فوق الحياة، وأدرك بلا عناء لفة الزهور والكائنات الصامتة
ترجمة
عثمان علي عسل
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 4 -
الحضارة اليهودية
ينسب اليهود إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وقد أقام أجدادهم في مصر من عهد يوسف بن يعقوب إلى عهد موسى بن عمران، وهم قلة تدين بالتوحيد الذي دعا إليه إبراهيم أبو الأنبياء، وكانت الوثنية في ذلك العهد غالبة على الأرض، ولها دول قوية في مصر وغيرها من الأقطار. وقد لقي اليهود ما لقوا في مصر من الذل والهوان في سبيل دينهم، إلى أن أراد الله تعالى إظهار دين التوحيد في الأرض، وإقامة حضارة جديدة تقوم على ذلك الأساس الذي يرفع من شأن الإنسانية، وينقذها من الجهالات التي كانت تتردى فيها على عهد الوثنية. وقد بشر الله تعالى بهذه الحضارة قبل أن تظهر على الأرض بقرون، تعظيماً لشأنها، وتفضيلاً لها على الحضارات الوثنية التي سبقتها، لأنها ورثت محاسن تلك الحضارات، وخلت من الطغيان والجهل الذي كان يشوه تلك المحاسن، وقد جاء ذلك التبشير في أواخر أيام بني إسرائيل بمصر، فقال تعالى في الآيات: 4، 5، 6 من سورة القصص (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)
فالذين استضعفوا في الأرض هم اليهود، القرآن الكريم حين يرثى لاستضعافهم في الأرض، ولما لقوه من الذل والهوان في مصر، وحين يبشر بأن الله يريد أن يمن عليهم ويجعلهم الوارثين في الأرض، لا يحدث عنهم في ذلك بعنوان أنهم يهود، لأن مثل هذا لا يَعْني القرآن الكريم بشيء، وكل الناس عنده سَوَاسِيةٌ من هذه الجهة، وإنما يحدث عنهم بعنوان أنهم شعب موحد، يريد الله أن يجزيهم خيراً على ما لقوه من الاستضعاف في سبيل توحيدهم، وأن يمن على الموحدين من اليهود وغيرهم بأن يجعلهم الوارثين في الأرض،
فتقوم لهم دول تغلب عليها، وتظهر لهم حضارات لا تذكر الحضارات التي سبقتها بجانبها. وقد صدق الله تعالى وعده، فأخذ التوحيد يقوي شيئاً فشيئاً من عهد قيام دولة اليهود في فلسطين، وجعل يناضل الوثنية ويغزوها في معاقلها، وقد رفع لواءه في ذلك النضال الوثنية ويغزوها في معاقلها، وقد رفع لواءه في ذلك النضال أولئك الأئمة الذين اختارهم الله تعالى لهداية البشر، وكان أعظمهم في ذلك الجهاد الشاق ثلاثة لا تزال آثارهم فيه باقية إلى عصرنا، وهم: موسى صاحب الشريعة اليهودية، وعيسى صاحب الشريعة النصرانية، ومحمد صاحب الشريعة الإسلامية، وأتباع هذه الشرائع هم الظاهرون الآن في الأرض، وحضارتهم هي الحضارة العليا، وهي المثل الأعلى في عصرنا
وقد بلغت الحضارة اليهودية أوج مجدها في عهد داود وسليمان عليهما السلام، فارتقت فيها العلوم والآداب وتقدمت الصناعة تقدماً عظيماً، ونهضت التجارة نهوضاً كبيراً. وكان لسليمان عليه السلام أساطيل عظيمة تمخر عباب البحار، حتى وصلت غرباً إلى بلاد الأندلس، وجنوباً إلى بلاد اليمن وجنوب أفريقية. وقد لمعت سماء فلسطين في عهده بما أقامه فيها من المدن العظيمة، وبما شيده فيها من بيوت العبادة، وبما رفعه فيها من الصروح والقصور الجميلة، وهو مع هذا رسول من رسل الله الكرام، وإمام من أولئك الأئمة الذين بشر الله بهم في أواخر أيام بني إسرائيل بمصر
ولاشك في أن ظهور هذا كله في عهد سليمان أعظم رد على أعداء التوحيد، لأنه يبين خطأهم في ظنهم أن التوحيد يجافي الحضارة وينأى عن مظاهر الجمال التي تمتاز بها عن البداوة، ولا يتسع لها صدره، كما يتسع لها صدر الوثنية
وفيه أيضاً أعظم رد على ألئك المتنطعين في الدين، وهم الذين ينفقون في ذلك الظن الخاطئ مع أعداء التوحيد، فيظنون أن الدين ليس إلا خشونة وتقشفاً، وأن المثل الأعلى فيه هو الزهد في زينة الحياة الدنيا، لا يفرقون في ذلك بين الزينة التي أحلها الله تعالى وبين الزينة التي حرمها على عباده
وقد نوه القرآن الكريم بمظاهر الحضارة التي تمت في عهد داود وسليمان في آيات كثيرة منه، فمن ذلك قوله تعالى في الآيات (10، 11، 12، 13) من سورة سبأ (ولقد أتينا داود منا فضلاً، يا جبال أوبي معه والطير، وألنا له الحديد، أن عمل سابغات وقدر في السرد
واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير. ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين الفطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور)
ومن ذلك ما ورد في شأن بَلْقِيس ملكة سبأ، وفي شأن الصرح العجيب الذي بناه لها، وذلك في الآيات (41، 42، 43، 44) من سورة النمل (قال نكروا لها عرشها نظر أنهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون. فلما جاءت قيل أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو! وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين. وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين. قيل لها ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان الله رب العالمين)
وكان هذا الصرح العجيب آية في فن البناء. ذكر المفسرون أنه كان قصرا من الزجاج الأبيض كالماء، وقد أقامه على ماء يجري تحته، وألقي فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر، ثم وضع سريره في صدر المجلس عليه، فلما جاءت بلقيس قال لها: ادخلي الصرح، فحينئذ حسبته لجة عظيمة من الماء، وكشفت عن ساقيها لتخوضها إليه، فقال لها: إنه صرح ممرد من قوارير، فحينئذ سترت ساقيها، وآمنت بعظمة ملك سليمان عليه السلام
ولكن اليهود أدركهم في حضارتهم من الغرور ما أردك غيرهم، حتى زعموا أن ما وصلوا إليه فيها كان إيثاراً من الله لهم فركنوا إلى ذلك الغرور حتى سلبهم الله ما كانوا فيه من العز، وسلط عليهم غيرهم من الأمم، وإلى هذا بشير الله تعالى في الآية (18) من سورة المائدة (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم، بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير)
وقد أضافوا إلى ذلك الغرور القاتل الاستكانة للرؤساء حتى اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله فسار قادتهم وراء أهوائهم، ولم يكن لهم من أمتهم رقيب عليهم، وكان لهذا أثره أيضاً في القضاء على حضارتهم
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي
ابن خلدون
مؤرخ الحضارة العربية
للأستاذ عيسى محمود ناصر
حياة ابن خلدون قصة من أعجب قصص الخيال، ومغامرة لم تتح لكثير من عظماء الرجال، لا يزال تراثه فريداً في بابه بين آثار التفكير الإسلامي، وما يزال يحتفظ بقيمته وروعته، ويتبوأ مكانته بين التفكير العالمي. وهانحن أولاء بدأنا نتبّه إلى رجالنا لنقدرهم قدرهم، وندرس آثارهم، ونحفظ لهم مكانتهم، ونحيي ذكرهم، بما أدخل من نظام المسابقات التي تعقدها وزارة المعارف لطلبة السنة التوجيهية في مواد الدراسة المختلفة، وكان منها دراسة مقدمة ابن خلدون. ونحن بهذا النظام نحيي ذكرى فيلسوفنا الاجتماعي الكبير، وقد مضي عليه أكثر من ستمائة عام، وهو على قدمه يجب أن يكون مثالاً عالياً لجميع الشباب، وأن يقرءوا مقدمته القيمة، فهي ثروة لا تقدر في تراث البيان الغربي، والتفكير العربي. على أن لابن خلدون صلة خاصة بنا نحن المصريين؛ فلقد كانت له بمصر جولات ونظريات، كما كانت مصر مئوي إقامته، وإن كانت تونس تفخر به لأنها مستهل ولادته. وحسب ابن خلدون فخراً أنه السابق إلى وضع مبادئ علم الاجتماع الذي ما زال موضع إعجاب الغرب وتقديره، ولست في هذه العجالة متعرضاً لنشأته، وتاريخ حياته فهي في متناول الطلبة. على أنه عني بنفسه فوضع ترجمة له دونها بقلمه، وصور فيها كثيراً من أطوار حياته، وما تقلد من مناصب، وما قام من رحلات ومغامرات.
بدأ ابن خلدون مؤلفه التاريخي العظيم وهو في الخامسة والأربعين من عمره، وقد نضجت مباحثه ومطالعاته في الكتب والحياة بعد أن قطع نحو ربع قرن يخوض معترك السياسة متقلباً في خدمة القصور والدول المغربية يدرس شئونها ونظمها، ويستقصي سيرها وأخبارها متغلغلاً بين القبائل البربرية يدرس طبائعها، وأحوالها، وتقاليدها في الحياة العامة والخاصة، وقد أعانه على ذلك ذهنه الخصب المتوقد ذكاء، وعزلته في قلعة (سلامة) على حدود تونس الغربية فلقد كانت عزلة مباركة موفقة لبث فيها أربعة أعوام نعم بالاستقرار والهدوء المستمر بعيداً عن غمار السياسة والدسائس السلطانية والمخاطر التجوالية والحربية، وقد استغرن في كتابة مقدمته خمسة أشهر ثم نقحها وهذبها بعد ذلك ثم شرع بعد
إتمامها في كتابة تاريخه، وقد رفهه إلى السلطان أبي العباس المغربي، وأنشده قصيدة طويلة يشيد فيها بسيرته وأعماله، ويستدر عطفه ورعايته، وينوه بكتابه يقول فيها:
وإليك من سير الزمان وأهله
…
عبراً يدين بفضلها من يعدل
والله ما أسرفت فيما قلته
…
شيئاً ولا الإسراف مني يجمل
ولقد كان ابن خلدون أعظم سياسيّ ومفكر عرفته إفريقية والأندلس في القرن الثامن الهجري.
ابن خلدون في مصر
غادر ابن خلدون تونس لينتظم في ركب الحجاج، ولكنه لم يحقق تلك الغاية فقد نزل القاهرة ليقضي أيامه بمصر في هدوء ودعة واستقرار، وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الإسلامي في المشرق والمغرب ولبلاطها الشهرة الواسعة في حماية العلوم والآداب، فبهرت ابن خلدون ضخامة القاهرة وعظمتها كما بهرت كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب فوصفها بقوله:(فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، وإيوان الإسلام، وكرسيّ الملك) ولقد كان المجتمع القاهري يعرف الكثير عن شخصه وسيرته، ولاسيما مقدمته التي أذاعت فضله، فأقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب، وقد كان ابن خلدون محدثاً بارعاً، رائع المحاضرة، يخلب ألباب سامعيه بمنطقه؛ هذا إلى فصاحته وجمال صورته، فتقرب من السلطان الظاهر برقوق.
وإنه لمنظر شائق ذلك الذي يقدمه إلينا ابن خلدون عن مجلسه، ومن حوله العلماء والكبراء يشهدون الدرس الأول حيث يقول:(وانقضى ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار)
عين ابن خلدون قاضياً لقضاة المالكية تنويهاً بذكره، وإعلاناً لشأنه، وقد ثارت حوله عاصفة شديدة بسبب الحقد والسعاية، وقد بين ما كان يسود جو القضاء في مصر في ذلك الحين من جهل وفساد الذمة، وأنه حاولي إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وما زال أمره بين جزر ومد إلى أن عزل من منصبه، وغادره موفور الكرامة والهيبة، فانقطع إلى الدرس والتأليف إلى أن أذن له السلطان بأداء فريضة الحج، ثم عاد بطريق البحر حتى القصير مخترقاً الصعيد بطريق النيل فوصل القاهرة
وليس في حياة ابن خلدون في هذه الفترة التي قضاها بمصر ما يستحق الذكر سوى سعيه إلى عقد الصلات بين البلاطين القاهرية والمغربي، فهو يصف المهاداة بين صلاح الدين، وبني عبد المؤمن من ملوك المغرب، وبين الناصر قلاوون وملوك بني مرين، ويصف الهدايا المصرية والمغربية فبدأ سلطان تونس بإهداء خيل مسومة وسروج ذهبية
لبث ابن خلدون بعيداً عن منصب القضاء أربعة عشر عاماً وكان بالفيوم يعني بقمح ضيعته التي يستحقها من الأوقاف، فاستدعاه السلطان إلى القضاء، فلما استقرت الأمور بمصر استأذن في السفر إلى بيت المقدس فإذن له؛ فشهد المسجدِ الأقصى وقبر الخليل وبعض الآثار ثم عاد من رحلته إلى القاهرة. ثم وردت الأنباء بانقضاض (تيمورلنك) بجيوشه على الشام واستيلائه على حلب في مناظر هائلة من السفك والتخريب فروعت مصر، وهرع (الناصر فرج) بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ورده، وقد اشتبك جنود مصر بجند الفاتح في ظاهر دمشق في معارك شديدة ثبت فيها المصريون، وبدأت مفاوضات الصلح بينهما، ولكن خلافاً دَبّ في معسكر المصريين، ومؤامرة دبرت لخلع السلطان؛ فترك السلطان دمشق لمصيرها ورجع إلى القاهرة. وهنا تتجلى لنا نزعة مؤرخنا الفيلسوف في مغامراته، فقد رأى أن يعتصم بالجرأة وأن يغادر جماعة المترددين إلى معسكر الفاتح فيستأمنه على نفيه ومصيره، ويصف لنا ابن خلدون ذلك اللقاء بقوله:(ودخلت عليه (المراد تيمورلنك) بخيمة جلوسه متكئاً على موقفه، وصحاف الطعام تمر بين يديه، فلما دخلت عليه انحنيت بالسلام، وأومأت إيماءة الخضوع فرفع رأسه، ومد يده إلى فقبلتها)، وتحدث الفاتح طويلاً إلى المؤرخ، وحدثه المؤرخ بأنه كان سمع به، ويتمنى لقاءه منذ أربعين سنة، واستطاع ابن خلدون أن يقنع الرؤساء بالتسليم، وفتحت دمشق أبوابها للفاتح فنحت من بطشه. وقد قدم ابن خلدون إلى الفاتح هدية هي: مصحف رائق، وسجادة أنيقة، ونسخة من البردة وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. فوضع (تيورلنك) المصحف فوق رأسه ثم سأله عن البردة، وذاق من الحلوى ووزع منها على الحاضرين، وقد أنكر مؤرخ مصري معاصر هو المقريزي هذه الروية، وانضم إليه ابن إياس المؤرخ المصري
وما لبث ابن خلدون يولي منصب القضاء في مصر ويعزل ست مرات بسبب كيد خصومه ودسائسهم له إلى أن توفي سنة ثمان وثمانمائة هجرية وقد بلغ نيفاً وسبعين سنة من حياة
باهرة حافلة بجليل الحوادث ورائع التفكير والابتكار، ودفن بمقبرة الصوفية خارج باب النصر بالقاهرة المعزبة وهي يومئذ من مقابر العظماء والعلماء
قضي ابن خلدون في مصر ثلاثة وعشرين عاماً كانت أقل مراحل حياته حوادث وإنتاجاً؛ فقد عاش بعيداً عن شئون الدولة السياسية بعد أن لبث بالمغرب ربع قرن وهو يتجرد من ثوب السياسي المغامر ليتشح بثوب العالم المقتدر. على أنه لم يستطع أن ينشئ له بمصر مدرسة يطبعها بطابعة وآرائه ومناهجه وذلك راجع إلى روح النفور والخصومة، فقد سبقه إلى مصر حكمه على أهلها بأنهم قوم يغلب عليهم الفرح والخفة والغفلة عن العواقب، على أن ابن خلدون كان يحظى بتقدير فريق قوي من الرأي العام المصري المفكر وعلى رأسه العلامة المقريزي الذي تأثر بنظرياته تأثراً كبيراً كما يظهر أثر ابن خلدون في اعتماد بعض أكابر الكتاب المعاصرين عليه والاقتباس من مقدمته وتاريخه، ومن هؤلاء القلقشندي صاحب صبح الأعشى.
أثر ابن خلدون الفكري والاجتماعي
اعتبر ابن خلدون التاريخ علماً يستحق الدرس لا رواية تدون وتقرأ، فانتهى به البحث إلى وضع نوع من الفلسفة الاجتماعية، وكتب مقدمة مؤلفه التاريخي لتكون تمهيداً يقرأ على ضوئها التاريخ، وتفهم دقائقه فجاءت وحدة مستقلة من الابتكار الفائق تسجل مذهباً جديداً في فهم الظواهر الاجتماعية وتعليلها، وفي فهم التاريخ ونقده وتحليله؛ فهو يحاول أن يتبع المجتمع في جميع أطواره منذ نشأته وبداوته إلى استقراره وانتظامه في المصر والدولة وتردده بين الضعف والقوة والفتوة والكهولة والنهوض والسقوط مقسماً موضوعه هذا إلى ستة فصول كبيرة هي:
1 -
العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض
2 -
العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل
3 -
الدولة العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية
4 -
العمران الحضري والبلدان والأمصار
5 -
الصناعات والمعاش ووجه الكسب
6 -
العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه
وهذا التقسيم يشهد بتفوق هذا الذهن العبقري وطرائقه وقوة تدليله وجدله. وأجود هذه الفصول (الفصل الثالث) وهو خاص بالدولة والملك وخواصهما مبيناً أن للملك طبائع وللدولة أعماراً كالأشخاص، فهو يقدر لها ثلاثة أجيال في الغالب، ويقدر الجيل بأربعين عاماً متأثراً في هذا التقدير بما ورد في القرآن الكريم عن بني إسرائيل حين فقدوا عصبيتهم وكانوا عاجزين فعاقبهم الله بالتيه في قفار سيناء أربعين سنة ليخلق منهم جيلاً جديداً يقوى على المطالبة والتغلب. وفي هذا الفصل تبدو نظرياته الاجتماعية وتحليله للمجتمع، كما يدل ذلك على براعة ذهنه. ثم يتناول الدولة وتحولها من البداوة إلى الحضارة في الفصل الرابع، وبيان أطوارها المختلفة، وأثر الموالي والمصطنعين في هذا التطور. ثم يتناول الملك والإمامة والخلافة واختلاف الآراء في شأنهما ومذاهب الشيعة والخطط الدينية من القضاء والعدالة والسكة، ثم الوزارة ودواوين الأعمال والجباية والرسائل والشرطة وقيادة الأساطيل ورسوم الملك والحروب ومذاهبها والمكوس ونظم التجارة، ثم يتحدث عن البلدان والأمصار ونشأة المدن واختلاف ظروفها من خصب ورفاهية وجدب وقفر وتفاوت في الغلات والصناعات واللغة
من هذا كله تتبينون أن ابن خلدون مخترع هذا العلم وصاحب الفضل الأول في ابتكاره وهو ما يسميه (بالعمران والاجتماع البشري) فقد أفاض في هذه النظريات مصحوبة بالشواهد مترابطاً بعضها ببعض، وكل ما خلفه أسلافه لمحات مبعثرة ضئيلة. على أن هذا العلم الذي استحدثه ابن خلدون اتخذ من حيث مادته وموضوعاته مكانة بين علومنا الحديثة في الاجتماع وفلسفة التاريخ والنظام السياسي والاقتصاد السياسي. وفي دائرة المعارف الإسلامية المترجمة إلى العربية ما يؤيد ذلك
أما أسلوبه فخاص يتميز به ابن خلدون من غيره في العرض والتنظيم، كما أن مقدمته تمتاز بطرافة موضوعاتها وروعة أسلوبها الأدبي الذي جمع بين البساطة وقوة التعبير، ودقة التدليل، وحسن الأداء والتناسق. والمقدمة مثل حسن للفصاحة المرسلة والغرض الشائق المنظم؛ وذلك على الرغم مما يطرأ أحياناً من ضعف في التأليف وغرابة في التعبير وشذوذ في اللفظ يرجع إلى نشأة ابن خلدون البربرية. وأسلوبه في تاريخه أقل درجة من أسلوبه في مقدمته. على أن لهذه المقدمة تأثيراً قوياً في الكتابة في أوائل العصر
الحاضر إذ كانت الأسلوب الأمثل لكتاب الصحف والمجلات في بدء النهضة الحديثة، فقد نشرت المقدمة لأول مرة في مصر سنة 1857م فرفعت الأسلوب الأدبي في مصر والشرق من السجع وتكلف البديع والزخارف اللفظية التي تستهلك المعاني، إلى الاسترسال في الكتابة فكانت نموذجاً يحتذي ويرب به المثل، فارتق النثر الفني والعلمي إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من الإجادة والإتقان. . .
(البقية في العدد القادم)
عيسى محمود ناصر
المدرس بمدرسة الفيوم الثانوية
السيطرة على الجو
للأديب عبد المنعم محمد الزيادي
(السيطرة على الجو من مستلزمات الفريق المهاجم إذا أراد أن يوطد هجومه ويجعله ساحقاً ماحقاً. كما أنها من مستلزمات الفريق المدافع إذا أراد أن يجعل دفاعه فعلاً ناجحاً. ولكنها للفريق المهاجم ألزم وأشد نفعاً لأنه بدونها يتعرض لأشد الأخطار وأقساها من خصمه الذي يملك السيطرة على الجو. وقد تسنى للحلفاء أن يقهروا جيوش رومل لأنهم سيطروا على الجو كما أنهم الآن على وشك الهجوم أو كادوا. وفي هذا المقال أحاول أن أضع صورة للقتال الذي يجري بين القاذفات والمطاردات. من جهة، وبين القاذفات ومراكز الدفاع المضادة للطائرات من جهة أخرى، قبل أن تتم السيطرة على الجو لأحد الطرفين.)
كشاف أمريكي جديد
يعتمد قائد القاذفة بجانب قنابله على عامل المفاجأة وهو سلاح لا يقل فتكاً عن أي سلاح آخر فهو إذ يقطع الأفق بمعدل خمسة أميال في الدقيقة لا يترك لخصمه سوى أمد قصير يأخذ فيه عذره، ثم هو يتخذ من الليل والسحاب حجاباً دون رؤيته، فضلاً عن أنه ليس في الاستطاعة سماعه حتى بأشد أجهزة الإصغاء حساسية على بعد أثر من ثمانية أميال. كل ذلك لا يترك سوى أمد قصير للمطاردات لتقوم للقائه، وللمدافع المضادة لتتأهب له، وللمدنين ليلجئوا إلى المخابئ، كما أنه من الصعب - أو على الأقل كان دائماً من الصعب - على الأنوار الكاشفة أن تجده في الضباب أو السحاب، ولو كان فوق الرؤوس. غير أن هناك طرازاً جديداً من الكشافات يستعمله سلاح الإشارة في الجيش الأمريكي أحدث انقلاباً عظيماً في الأسلحة المضادة للطائرات. وتتراوح المساحة التي تقع في دائرة عمله بين 50 و 75 ميلاً. كما أنه لا يستطيع أن يكتشف الطائرة في حدود هذه المساحة فحسب؛ بل إنه يستطيع أن يحدد مكانها على ارتفاع بضع مئات من الأقدام. وعندئذ
- بفضله - يمكن أن تصوب المدافع المضادة حتى لتدرك قنابلها الطائرة المختفية في قلب الضباب الكثيف. ويشبه الكشاف الجديد جهاز الأنوار الباحثة؛ إلا أنه يرسل بدلاً من شعاع النور شعاعاً كثيفاً من أمواج الراديو، فإذا ما التقت هذه الأمواج بجسم صلب (الطائرة) ارتدت مسرعة من نفس الطريق الذي اتخذته في ذهابها إلى ذلك الجسم. وبقياس الزمن
الذي اتخذته الأمواج في رحلتها ذهاباً وإياباً، وبالإضافة إلى الاتجاه الذي ارتدت منه يمكن أن يحدد مركز الطائرة بالضبط. وكل ذلك تفعله الآلات بطريقة أوتوماتيكية. وليست المدافع المضادة وحدها هي التي يمكن تصويبها إلى جسم الطائرة بفضل ذلك الكشاف، بل يمكن توجيه المطاردات كذلك إلى مكان القاذفات المهاجمة وذلك بالتزامها اتجاه أشعة الكشاف.
الكشاف الحالي
ولاشك أن هذا الكشاف الجيد سيأخذ مكان أجهزة الإصغاء والتحديد والأنوار الكاشفة المستعملة الآن. فجهاز الإصغاء والتحديد الحالي يستطيع أن يلتقط أزيز الطائرة على ارتفاع أقصاه ثمانية أميال ولكن له عيوب خطيرة. فالرياح العالية تقطع عليه خط سيره، كما أن حفيف الأشجار وزئير الأمواج المتكسرة على الصخور أو الشاطئ، وأصوات أبواق السيارات - حتى ولو كانت دونه أميالاً - تشوش على المستمعين. ويشبه جهاز الإصغاء المستعمل اليوم مجموعة من مكبرات الصوت مثبتة فوق حامل، وتقع على بعد بضع مئات من الياردات من مركز البطارية المضادة للطائرات. وعلى هيكل الجهاز الذي في الإمكان إدارته في أي اتجاه بواسطة عجلات يدوية - توجد أربعة أو أكثر من الأبواق لاقطات في بؤرة كل واحدة منها (ميكروفون) حساس ينقل الاهتزازات الآتية خلال المكبرات إلى مكان الاستماع الرئيسي. وتستطيع (آذان) الآلة أن تحدد الاتجاه الذي يصدر منه الصوت كما تعطي المسافة التي تصدر عنها الاهتزازات. وعلى بعد نحو مائتي قدم تجاه جهاز التحديد توجد إشارات كهربائية تفضي إلى مراكز الأنوار الكاشفة. وهناك تجد مجموعة من العدادات التي تبين بطريقة أوتوماتيكية الزوايا التي يجب أن توجه الأنوار بموجبها حتى تضيء جسم الطائرة التي حدد الجهاز ارتفاعها. وهناك أيضاً ضوابط كهربائية ترتفع وتنخفض وتوجه المصابيح الكاشفة. وإذ تتأرجح مؤشرات العدادات، يدير جنود المصابيح الكاشفة العجلات اليدوية فيجعلون أشعة المصابيح على الطائرة مهما تحركت أو تحولت.
وتبلغ قوة الشعاع الكشاف نحو 80 مليون شمعة، وله عدسة عاكسة نصف قطرها 60 بوصة؛ وهو يرسل في الليل الصافي نوره إلى مسافة سبعة أميال. والمصابيح الكشافة
قائمة على حوامل من المطاط المتين يغذيها مولد كهربائي (دينامو) على هيئة مركبة. فإذا أريد حماية هدف مهم ضربت بطاريات الأنوار الكشافة نطاقها حوله على مسافة من البعد تكفي لأن تجعل الطائرة المغيرة دائماً في متناول أية مجموعة من هذه المصابيح.
أحكام الرماية العالية
تستطيع المدافع المضادة الثابتة التي قطرها 4. 2 بوصة، والتي توضع عادة حول الموانئ الهامة أو مستودعات الذخائر أو الأهداف العسكرية الثابتة الأخرى؛ تستطيع أن تقذف القنابل التي تزن الوحدة منها 33 رطلاً إلى ارتفاع 30. 000 قدم بمعدل 25 قنبلة في الدقيقة. وتقذف المدافع المتحركة التي قطرها ثلاث بوصات قنابل زنة الواحدة منها 18 رطلاً إلى ارتفاع 20. 000 قدم بصورة فعالة؛ فإن الحد الأقصى لمدى هذه المدافع يفوق هذه الارتفاع بكثير؛ إلا أن الإحكام عندئذ يقل في دقته. وتُستعمل المدافع الصغيرة التي قطرها 1. 5 بوصة والتي تطلق 12 قنبلة في الدقيقة، ومدافع الماكينة (المدافع الرشاشة) المضادة للطائرات التي تطير على ارتفاع منخفض. ويمكن تدفع التي قطرها ثلاث بوصات أن تُجرّ بمعدل 50 ميلاً في الساعة بواسطة مركباتها، وتحتاج فقط إلى عشر دقائق لإعدادها للطلقة الأولى منذ وقت وصول البطارية إلى مركزها.
وإذا أمكنت رؤية الطائرة المغيرة حين تقع على مرمى المدفع الحديث المضاد للطائرات، فالإصابة حاسمة في هذه الحالة. وتجعل آلة التوجيه مدافع البطارية الأربعة مُتجهة أوتوماتيكياً نحو هدفها ولو كانت الطائرة تسير بسرعة 300 أو 400 ميلاً في الساعة. وآلة التوجيه هذه عبارة عن صندوق مساحته نحو ثلاثة أقدام مربعة، وهو مركب على قاعدة متحركة على بعد بضع مئات من الأقدام من البطارية، وبجانبه محدد الارتفاع وهو اسطوانة طولها ستة أقدام وقطرها نحو قدم، وهو كذلك مركب على قاعدة متحركة. ويتولى أمر محدد الارتفاع ثلاثة رجال. فعند اللحظة التي تظهر فيها طائرات العدو يجعل اثنان من الجنود - أيديهما على العجلات وأعينهما إلى السماء - منظار محدد الارتفاع على الهدف دائماً. وخلال هذا المنظار يرى الجندي صورة مزدوجة للطائرة المغيرة، فواجبه عندئذ أن يحرك عجلته اليدوية حتى تنطبق الصورتان بعضهما على بعض، وعندما يتم له ذلك يُسجل مُحدّد الارتفاع المسافة التي تفصله عن الطائرة. وهذه المعلومات ترسل أوتوماتيكياً
إلى آلة التوجيه. وفوق آلة منظاران آخران يُشرف على كل مهما عامل، وهذه أيضاً يُحتفظ بها متجهة نحو الهدف بواسطة عجلات سهلة الإدارة فنسجل سرعة الطائرة العمودية والأفقية. أما صندوق التوجيه فيحتوي في داخله على عداد يحول نتيجة محدد الارتفاع ونتيجة منظاريه هو إلى مقدار الزوايا التي تُصوّب بمقتضاها المدافع إلى الهدف. وتساعد آلة التوجيه كذلك على إعداد خزان القذائف في المدفع أوتوماتيكياً كي يهيئ القنابل لتنفجر على مسافة مناسبة بقرب الهدف، إذ يجب أن تنفجر القنبلة على بعد 250 قدماً من هدفها حتى يمكن أن تُسبّب شظاياها خسائر ذات بال في الطائرة المغيرة.
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم محمد الزيادي
معهد الصحافة بالجامعة الأمريكية
عاطفة الأبوة
في (أعاصير مغرب)
للأستاذ إدوارد حنا سعد
في ديوان (أعاصير مغرب) الذي صدر حديثاً للشاعر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد موضع لبعض الدهشة، فقد وجدنا فيه الشاعر الذي نعرف، ولكننا لم نجد فيه العاشق الذي نعهد. فإن من الصعب أن يقال إن الأستاذ العقاد الذي كان يقول في دواونيه الأولى - عندما يلمس خداع العشيقة أو بشك في ذلك: -
جمالك سم في الضلوع وحسرة
…
ترد مهاد الصفو غير ممهد
إذا لم يكن بد من الكأس والطلا
…
ففي غير بيت كان بالأمس مسجدي
والذي كان يقول:
ما كنت يوماً بالأنام موكلاً
…
فأعد منهم من يضل ويرشد
ولو كنت نوحاً لم تفدك سفينتي
…
إن ابن نوح كان فيمن ألحدوا
هو نفسه الذي يقول في ديوانه الجديد:
أعفيك من حلية الوفاء
…
إنك أحلى من الوفاء
خوني فما أسهل التقصي
…
عندي وما أسهل الجزاء
وليس بالسهل في حسابي
…
فقدك يا زينة النساء
وقد حاول بعض الكتاب أن يرد هذا الاختلاف إلى أساسه، فقال الأستاذ كامل الشناوي في الأهرام:(إن العقاد الشاعر كان ينظم وعين العقاد الكاتب الفيلسوف ترمقه وترعاه)
ولكني أرى أن الأستاذ الشناوي قد أخطأ المحز وكان الأولى به أن يقول إن عاطفة الأبوة كانت ترمق العقاد وترعاه، بل كانت تسيطر عليه وتملي نفسها على شعره إملاء
فقد بلغ الأستاذ العقاد سن الخمسين وهي السن التي تهدأ فيها فورات العشق وتبدأ النفس تستعرض مواكب الذكرى وتحن إلى حياة الوادعة وإلى حنان الأسرة. ويكون هذا الشعور - أقوى ما يكون - في النفس المصرية التي انغرس فيها من قديم معنى الأسرة وتعلقت بها
وقد يصادف الإنسان في هذه السن عشيقة يجد في سنها أو حركاتها أو سماتها ما يوقظ فيه من جديد عاطفة الأبوة، فيختلط الحب الجنسي وهو أثرة مستترة، بالحب الأبوي وهو إيثار
صريح، فيكون منهما مزاج نقرأه الآن في أعاصير مغرب
فهذا الديوان الفذ حافل بأوصاف الطفولة وتدليلها وألعابها وحلواها إلى حد يلفت النظر:
غريرة تسأل ما الحبُّ؟
بنيتي هذا هو الحبُّ
ضمي ثغيرك يا بنية وابعثي منه الأمل
بنيةُ ما صنعت، جزاك ربي
…
بحب في مشيبك مثل حبي
ماذا تخبئ طفلة
…
رقت ورق قناعها
ما شب من نار طبخ
…
نا فوقها حلوى الهوى
فكم لعبة وقعت من يدي
…
ك وقوعاً أرى القلب لا يشتهيه
إني أشاهد كيف يفط
…
م في القلوب رضاعها
فإذا تركنا هذه الأبيات الحافلة بصورة الطفولة طالعتنا أبيات فياضة بعاطفة أبوة صادقة دافقة
يقول الشاعر الكبير
احسبني الأكبر حتى إذا
…
عانقتني ألفيتني الأصغرا
وهو بيت صادق جميل في وصف عناق عشيقين، ولكن ليس أجمل منه ولا أصدق في وصف عناق الأب لابنته، حين يجد نفسه وقد عادت فيها من جديد صغير فياضة بتيارات الحياة ويقول:
تم الكتاب وألقت باليراع يدي
…
وضمن الطرس إحساسي وإدراكي
ما لي به غير مسرور ولا كلف
…
إلا يسر يميناً نبتها الزاكي
ضيعت فيك مسراتي فما بقيت
…
لي من مسرة شيء غير لقياك
فهل من محض المصادفة أن يقول الأستاذ هذا الكلام الآن، والآن فقط وهو الذي قضي أكثر من ثلاثين عاماً يكتب وينظم ويعتز بشعره وكتابته إلى أبعد حدود الاعتزاز
لشد ما غيرت هذه العاطفة الجديدة من نفس أستاذنا الكبير!
إن كان خلفك للوعود تدللاً
…
بمكانك الغالي لدي فأخلفي
ما كنت أتبعه القطيعة آنة
…
هو منك واعجبي يزيد تشوقي
وقد هداه إلهامه الصادق فقال:
تحديث الحياة فهل جزتني
…
بهذا الحب عن ذاك التحدي
نعم تحداها بوحدته وانصرافه عن الزواج أو هذا الجانب من منغصات الحياة كما قال همام لسارة وهو يحاورها
وما دمنا بصدد بحث أدبي، فإني أبيح لنفسي أن أبتعد عن المجاملات التافهة فأقول إن هذه العاطفة التي يقول علماء النفس إنها قد تنصرف إلى الحيوانات الأليفة، تبدو في أعاصير مغرب، ففيه عشرون صفحة عن (بيجو) الكلب الأمين الذي أحس الأستاذ لموته بالحزن (الوجيع)
فإذا فهمنا غزليات العقاد الجديدة على هذا الضوء الجديد استطعنا أن ننفذ إلى جمالها الباطن. وإذا كانت الطفلة قد عقت أو كادت، فإن للأستاذ الكبير أبوة روحية على الكثيرين من تلاميذه وعشاق أدبه المنتشرين في كل مكان تقرأ فيه اللغة العربية، وهم لا يكنون للأستاذ إلا الحب الصادق والوفاء الخالص. ويسرني بل ويشرفني أن أكون من بينهم.
(إسكندرية)
إدوارد حنا سعيد
على الشاطئ
وهيفاء تهفو إليها القلوبُ
…
ويشرق منها ضياء الجمالْ
// لها رقة الزهر في غصنه
…
إذا داعبته رياح الشَّمالْ
وللريح عربدة في المياه
…
وللموج وسوسة في الرمالْ
يحدثها الموج عن سرهِ
…
وما سره غير حب قديمْ
يكاد النسيم يطير بها
…
إذا وقفت في مهب النسيمْ
وتحسبها العين بعض الضياء
…
فتخشى من النظر المستديمْ
ولو لم يحطها قيود الحياةِ
…
لطارت هناك وراء السديمْ
تعربد في الثوب أيدي الرياح
…
وتوشك. . . لولا نداء الحياءْ
تطير إليها طيور المنى
…
وتحنو عليها طيوف الضياءْ
عليها من الأفق سمت الجلالِ
…
وفيها من البحر معنى لصفاءْ
وفيها من النور سر الحياة
…
وفيها من الليل سحر الخفاءْ
أهم غراماً بهذا الجمال
…
وأقبس منه ضياء الحياهْ
أرى فيه كل أماني الشبابِ
…
ترفرف من حول تلك الشفاهْ
أعانق من شغفي طيفه
…
وألثم من لهفاتي رؤاهْ
يرى فيه جسميَ سر الحياة
…
وروحي ترى فيه روح الإلهْ
دعيني أغنيك شعر الصبا
…
وأعزف لحن الهوى والغزلْ
دعيني أنام بروحي على
…
فراش النهود، ومهد المقلْ
ولا تحرميني سلاف العناقِ
…
ولا تمنعيني رحيق القبلْ
وكوني كما شاء فن الخيالِ
…
وَبدع الفنون، ووحي الأملْ
هناك لدى الأفق عند الغروب
…
يطير جناح، ويمضي شراعْ
وتشدو الرياح، وفي شدوها
…
أسىً كامن وجويً والتباعْ
وتُحتضر الشمس. .! يا للأسى
…
لهذا الجمال الحزين المُضاعْ
على وجنتيها شحوب الفراق
…
وفي مقلتيها دموع الوداعْ
وغابت عن الأفق شمس المغيبِ
…
وقد ذوَّبت قلبها في الشفقْ
كأني أرى دم قلبي يسيل
…
كأني أرى مهجتي تحترقْ
لَيفجعني أن يغيب الضياء
…
ويَحزُنني أن يجيء الغسقْ
ستأتين يا شمس عند الصباح
…
فهل نلتقي ثم لا نفترق؟!
وألقى المساء ظلال الدجى
…
على الكون أشباح جن تحومْ
فليس على البحر ضوء يلوح
…
ولا في السماء تضيء النجومْ
فقامت تودعه في سكونٍ
…
وراحت إلى بيتها في سهومْ
كأني بها كوكباً حائراً
…
توشِّحه في السماء الغيومْ
وعدت إلى غرفتي باكياً
…
لأقضيَ ليل الأسى والنُّواحْ
أحدث نفسي حديث الجوى
…
وأنشد قلبي نشيد الجراح
وأرنو إلى عابرات الدجى
…
وأصغي إلى نائحات الرياح
وأمضي إلى البحر عند الصباح
…
فهل (هي) عائدة في الصباحْ؟
(القاهرة)
إبراهيم محمد نجا
البريد الأدبي
أين (الرسالة)؟
طلبتها من الباعة مرة ومرة. ثم ظننت أنها مرت بمدينتنا دون أن تعطيها نصيبها من محصول الفكر، فبعثت وكتبت إلى القاهرة والإسكندرية فقيل لي: إن (الرسالة) الحبيبة لم تصدر!
يا سبحان الله! وأخيراً بشرني الصديق الأستاذ الخضري أمين مكتبة دمنهور أن (الرسالة) جاءت إلى المكتبة، ولكنها تنذر بأن هذا العدد للمشتركين فقط لأن الورق. . .
وهنا صحت قبل الدكتور المبارك (لينتي من المشتركين) لقد ذقنا أزمة الدقيق وأزمة البترول وأزمة السكر، فهل تصدقنا يا صاحب الرسالة إن قلنا إنه لم تحز في نفوسنا ولم تبلبل خواطرنا أزمة كأزمة (الرسالة)؟
يقول الدكتور المبارك: (أكان يجب ألا تقتصر (الرسالة) على الأدب الصرف لتجد من يسأل عنها حين تحتجب)؟
وهذا حق! إنها ضريبة الأدب تدفعها (الرسالة) كما يدفعها كل أديب ينصرف لأدبه فلا يجد من يسأل عنه
وإذن (فأزمة الرسالة أزمة الأدب اليتيم الذي لا يسأل عنه أحد حين يغيب)!
فهل تنحرف (الرسالة) عن هدفها لتجد من يسأل عنها؟
إن لسان الحال يقول:
لقد صددنا كما صددتم
…
فهل ندمتم كما ندمنا؟
والجواب عند (الرسالة) وعند صاحب كل رسالة. . .
وأخيراً فالأزمة كما يقول الدكتور المبارك ليست أزمة الورق فهو موجود! وإذن فالقضية قضية الأدب والأدباء، و (سنعرف طاقة الأدب في اجتياز هذه المحنة العاتية).
عبد المعطي المسيري
حول رسالة الجامعة
في مساء السبت 29 يناير 1943 أقيمت بكلية الآداب مناظرة اشترك فيها فريق من
الأساتذة والطلاب، وشهدها مئات من شباب الجامعتين الأزهرية والفؤادية وغيرهم، وكان موضوعها:(الجامعة أدت رسالتها). والذي ألاحظه أن هناك خطأ في موضوع المناظرة، أو قل إن نزعة من نزعات العجلة والتسرع هي التي أوحت إلى لجنة المناظرات بكلية الآداب عرض هذا الموضوع السابق لأوانه على بساط البحث في مناظرة عامة، إذ لم يمض على الجامعة زمن يصح لنا بعده أن نتساءل: أنجحت الجامعة في رسالتها أم لم تنجح؟. . . لقد صدر القانون بإنشاء الجامعة المصرية الفؤادية في مارس سنة 1925، فلم يمر عليها إلى اليوم إلا نحو سبعة عشر عاماً، وهي كعام واحد في حياة فرد من الأفراد، ولا يُسأل الفرد بعد عام من نزوله إلى ميدان الحياة أنجح أم لا؛ يجب أن ننتظر على الجامعة عشرات السنين حتى تؤدي في سبيل غايتها ما يذكر فيحكم عليه، وإلا فهي لا تزال تعد العدة وتأخذ الأهبة ولم تسر في الطريق بعد، وإن خُيِّل لقوم أنها أدت أشياء وأشياء!. . . وإذا كانت الجامعة الأزهرية قد مر عليها ألف عام ولا يزال هناك من يخشى أن تقام مناظرة عنوانها:(هل أدى الأزهر رسالته؟) فماذا يكون شأن الجامعة الفؤادية وهي بالنسبة للأزهر في العمر لا تزال ذلك الوليد الجديد؟
بل إننا لم نتفق بعد على رسالة الجامعة المصرية، ففريق يقول إن رسالتها تحرير الفكر، وفريق يقول بل التقدم العلمي، وفريق يقول بل بث الأفكار والأخلاق وأصول الاجتماع، وفريق يقول بل التخصص للتوسع في دراسة طائفة من العلوم، وفريق وفريق. . . فكيف بنا نتساءل عن نجاح الجامعة في رسالتها وهي لم تعرف بعد ما هي تلك الرسالة؟. . .
نعم إن الجامعة قد اتخذت الأسباب والمظاهر الجامعية، فهناك كليات فخمة، وأقسام مختلفة، وشهادات متنوعة، ومدرجات ومحاضرات وأساتذة وعمداء. . . ولكن هذا كله مقدمة وعدة للبدء في العمل وللأخذ في أداء الرسالة، فكيف نسبق الزمن، ونحكم على الشيء قبل أن يوجد، أو على الأقل قبل أن يتم منه جانب ذو بال؟. . .
أحمد الشرباصي
جامعة الإسكندرية
في يوم الاثنين المبارك 8 من فبراير 1943 يشرف جلالة الملك المعظم بالزيارة جامعة
فاروق الأول بالإسكندرية، وهي الجامعة التي افتتحت في بدء هذا العام الدراسي، فتعود إلى الأذهان ذكرى جامعة الإسكندرية القديمة التي ظلت تحمل لواء العلم في العالم المتمدن إذ ذاك قرنين من الزمان. وبمناسبة زيارة المليك للجامعة الحديثة نعجب أن نتحدث عن تاريخ الجامعة القديمة
أنشأ هذه الجامعة بطليموس سوتر في حي البروكيون بجوار القصر الملكي على نسق مدارس الفلاسفة الأثينيين، وكانت الغاية من إنشائها أن تجذب إليها النابهين من العلماء والمفكرين والشعراء والأدباء، وكان الطلاب المقيدون بها معفين من المصروفات بل نتفق الجامعة عليهم
ولم تلبث الإسكندرية وجامعتها أن جذبتا العلماء النابهين والأدباء وكبار الشعراء حتى أن الإسكندرية غدت في القرن الثالث قبل الميلاد أكبر مركز علمي في العلم وخاصة في الطب والجغرافيا والرياضة والفلك والأدب - وقد كانت الجامعة مؤلفة من عدة مدارس: مدرسة للطب والتشريح والجراحة، ومدرسة الرياضيات والفلك، ومدرسة القانون والفلسفة، وكان يتصل ببنائها بستان كبير وحديقة لعلم النبات ومرصد ومن هذا نرى أنها كانت جامعة من أكبر الجامعات
وبجوار الجامعة أنشئت المكتبة التي كانت أكبر مكتبة عرفها العالم القديم. بدأ في إنشائها بطليموس سوتر (305 - 283 ق م)، ولكن لم يتم تجهيزها ويكمل نظامها إلا على يد خلفه بطليموس فيلادلفوس (283 - 245 ق م) وقد كانت تحوي المكتبة أجمل مؤلفات العالم القديمة من مصرية إلى عبرية ويونانية؛ ويغلو كثير من الكتاب في تقدير عدد الكتب التي كانت غلواً يصعب على العقل تصديقه، ولكن هذه المبالغة إن دلت على شيء فإنما تدل على الكثرة، ويقدر بعض المؤرخين عدد الكتب بـ 490 ألف كتاب وهو رقم يصعب تصديقه مما دعا بعض المؤرخين إلى أن يفترضوا أن المكتبة لم تكن مرجعاً للعلماء والباحثين فحسب، ولكنها كانت مكاناً لنسخ الكتب وبيعها. هذا وجدير بنا أن نذكر أن هذه الكتب القيمة كانت طعاماً للنيران أثناء النزاع الذي أودي بالدولة البطلمية وجعل مصر جزءاً من الإمبراطورية الرومانية.
وقد كان من أكبر علماء الإسكندرية الفلكي العظيم إراتستين الذي كان نابغة زمانه في
الأدب والفلك والجغرافيا، وقد كان عميد دار المكتب وإليه عهد بطليموس الثالث بتربية ابنه ولي العهد. وقد أصبحت هذه سنة، فكان أمناء المكتبة يعلمون أولياء العهد
ومن أكبر العلماء المصريين في العهد البطلمي مانيثون، وإليه عهد بطليموس الأول بكتابة تاريخ مصر ففعل وكتب تاريخاً دقيقاً وافياً، ومن الأسف أن معظمه قد ضاع، على أن ما بقة ظل يكون معلوماتنا عن تاريخ مصر القديم حتى القرن التاسع عشر، وبهذا العمل العظيم صحح مانيثون ما كان يدرس خطأ من تاريخ مصر القديم في الجامعة
أبو الفتوح عطيفة
إجابة
طالعت قول الأستاذ المفضال السيد محمود عزت عرفة، وأرجو إذن السيد الكريم في قولي لماذا تنسب السلطة إلى الملح ولا ننسبها إلى السليط الذي معناه الزيت أو الزيت الجيد وهو الأقرب؟
المقرونة - بفتح فإسكان - اسم نوع من الطعام من عجين وسمن، وكان في زمن الجاهلية، وهي ما يقال له الآن (مكرونة)
(وحيد)
أين السليط من (السالاد)
في الكلمة التي نشرناها تحت هذا العنوان (ع 500) من (الرسالة) سقط سطر كامل من إحدى الفقرات، فأخل ذلك بالمعنى الذي نقصده، وأوجد في الكلام تناقضاً لعله لم يخفَ على الكثيرين من القراء. . .
فقد بينا أولاً انقطاع العلاقة في المعنى بين اللفظين العربي والإفرنجي (سليط وثم أوردنا في إثبات انقطاع العلامة اللفظية بينهما أيضاً، ما جاء هكذا: كما يتضح لنا انقطاع العلاقة اللفظية بينهما أيضاً: إذ عرفنا أن كلمة الإنجليزية والفرنسية، والإيطالية بمعنى ملح)
وواضح أننا لا نقصد مطلقاً القول بأن هذه الألفاظ تؤدي معنى نلح، بعد أن سبق فبينا - في نفس الكلمة - حقيقة معنى (السالاد) وتركيبه عند القوم. . . وإنما صحة الكلام بعد إثبات الساقط منه تكون هكذا: (. . . والإيطالية القديمة كلها مشتقة من اللفظ اللاتيني
القديم بمعنى ملح)
محمود عزت عرفة