الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 502
- بتاريخ: 15 - 02 - 1943
في الإصلاح الاجتماعي
أمر عسكري. . .
لو كانت الأوامر العسكرية كلها من نوع الأمر العسكري بردم البرك
والمستنقعات لتمنينا أن نظل على هذا النظام دهرا
طويلا. ذلك أن هذا الأمر وما يشبهه من الأمر بعقوبة من يفطر جهرا في شهر رمضان، أو من يبيع خمراً في يوم مقدس، إنما هو نفحة من نفحات الحكم العمري الذي لا ينهض الشرق بغيره
والعلة في أن نهوضنا منوط بهذا الضرب من الحكم، أننا مصابون بالقصور الذاتي في الخير والشر، فلا نأتمر بالمعروف إلا بدافع، ولا ننتهي عن المنكر إلا برادع. وأظهر أعراض هذا الركود النفسي فينا أننا نقول ولا نفعل، ونسمع ولا نطيع، ونعكف على ما ورثنا نعبده ولا نجدده، ونجمد على ما كسبنا لا نغيره ولا نزيده!
كم وزارة فكرت في ردم المستنقعات والبرك! وكم لجنة ألفت لتحقيق هذه الفكرة! وكم مشروع وضع لتنفيذ هذا التحقيق! وأخيراً صدر على الرغم من تسويف اللجان، ومعارضة الإهمال والنسيان، قانون؛ واقتضى ذلك القانون أن تنشأ وظائف، ويحدد اختصاص، ويقرر تفتيش، ويسجل إحصاء. ولكن القانون يظل كلاما حتى ينفذ. والتنفيذ عمل من الأعمال يحتاج إلى إرادة؛ والمريض بالقصور الذاتي لا يريد ولا يملك أن يريد
صدر قانون بردم البرك منذ عشر سنين فقال الناس: جفت موارد الموت، وعفت مواطن البعوض، وبادت جراثيم الملاريا، وان للفلاح المسكين أن يحس العافية. ولكن القانون العادي رحب البال، يقبل العذر ويأخذ الأمور بالملاينة؛ فالبركة الفلانية يملكها الباشا فلان، فهو يرجو من القانون أن يؤجله إلى يوم القدرة. والبركة العلانية يملكها الأمير علان، فهو يطلب إلى القانون أن يمهله حتى تنقضي العسرة. والقرويون الذين هدتهم الحمى ووضع لإنقاذهم هذا القانون تقابل عرائضهم بالإعراض، وتدفع مطالبهم بالاعتراض، وتعلل شفاعتهم بالمطل
أنا من أهل قرية وصفتها من قبل لقراء الرسالة بأنها جزيرة من الأكواخ والحظائر في وسط مستنقع محيط من مصافي المزارع، نمت على أسنة وعفنة جراثيم الأمراض
المتوطنة، فجعلت كل وجه في صفار الخوف، وكل جسم في هزال الجوع، وكل حي في همود الموت. وعلى هذه الحال الشديد قطعت مراحل عمرها الماضي لا يزهر فيها شباب، ولا تثمر بها كهولة. لذلك لم نكد نسمع بصدور هذا القانون حتى رفعنا أصوات الاستغاثة، فأغاثتنا الوزارة المختصة بالمفتش وراء المفتش، والتقرير عقب التقرير، والوعد بعد الوعد؛ ثم وقفت عند ذلك فلا تجيب عن سؤال، ولا تصيخ لشكوى حال؛ لأن ما تستطيعه قامت به، وكل ما تستطيعه لا يعدو القول والكتابة. ثم تعاقب وزراء الصحة على هذا القانون وهو كلمات ميتة فلم يبعثوا فيه الحياة؛ ومضوا على المنهج المألوف من كفاح المرض بالتقارير والأرقام حتى اّكتظت القرى والقبور بضحايا البلهارسيا والأنكلستوما والملاريا والطحال على الرغم من المستشفيات المنشأة على آخر طراز، والمعامل المجهزة بأحدث جهاز، والصيدليات المزودة بأندر الأدوية. ففكر الناس وأطالوا التفكير، ثم سألوا وأكثروا السؤال: هل في مصر وزارة للصحة؟ وهل في وزارة الصحة أطباء؟ وهل لأطباء الصحة ضمائر؟ وكان الجواب عن هذه الأسئلة السكوت المريب، حتى تولى وزارة الصحة وزيرها القائم فكان هو الجواب القاطع وإلا يجاب الصريح.
أثبت بالفعل هذا الرجل العظيم أن في مصر وزارة للصحة فيها أطباء أكفاء ينهضون إذا نبهوا، ويعملون إذا وجهوا؛ وأن المنصب الذي كان مكتبا ومرتبا وأبهة، يستطيع أن يكون أعظم القوى وأفعلها في الإصلاح الاجتماعي بمكافحة المرض، وهو شر بلايانا الثلاث. ومن كان يعرف ما فعله وهو مشرف على صحة القاهرة، كان يتوقع ما فعله وهو قائم على وزارة الصحة.
ولعل أظهر المزايا في هذا الرجل النشيط العامل قوة العزم وسرعة التنفيذ. لذلك أعرض عن قانون ردم البرك واستصدر
هذا الأمر العسكري الموفق، فلم يكد يمضي على صدوره عشرة أيام، حتى فعل ما لم يفعله ذلك القانون العادي في عشرة
أعوام؛ إذ أدخل في ملك الحكومة البرك التي خنست همم أصحابها عن التعهد بردمها قبل الأجل المحدد، ومساحتها 4050
فدان ستردمها مصلحة الشؤون القروية، ثم تستغلها بالتأجير أو تصرفها بالبيع. أما البرك
التي تعهد أصحابها بردمها وهي 1500 فدان فقد جعل لهؤلاء أطول الأجلين ستة أشهر ينتهي الردم قبل انتهائها وإلا أخذهم القضاء العسكري بالعقاب الشديد. وبذلك يقضى بانقضاء هذا الأجل على مصدر من مصادر الهلك انفجر على مصر بالعلل والأسقام منذ جرى بين صحراويها النيل.
إن الحكم العسكري فرصة مؤاتية لوزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية يحسن بهما انتهازها لمعالجة الإصلاح الاجتماعي
بأسرع الوسائل وأقرب الطرق. وإن في مصر من باطل العادات وفاسد الاعتقادات ما لا يمحوه إلا صرامة هذا الحكم. وفي خبرة الوزيرين الجليلين ولقانتهما ما يغني عن ضرب الأمثال. والإصلاح الناجع قبل هذا وبعد هذا يثمر لا كلام يقال.
أحمد حسن الزيات
هل أدت الجامعة رسالتها؟
للدكتور زكي مبارك
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
إن الجامعة التي أنشئت لمقاومة الاحتلال، هي الدار التي ارتفع فيها صوت الاستقلال.
فما السر في أن يكون للجامعة هذا السلطان؟ ما السر في أن تصنع في الأيام القصار ما عجز عنه غيرها في الأعوام الطوال؟
لا تسألوها ولا تسألوني، فقد تواصينا على الكتمان، وسر المجد لا يذاع
ليست الجامعة حجرات، ولا غرفات، ولا مدرجات، ولا وظائف، وإنما هي: روح وفكر وعقل وبيان
ثم أواجه العهد الثاني فأقول:
في صيف سنة 1925 أخذت الحكومة في التأهب لتنفيذ مشروع ترددت في تنفيذه سنتين (فإن الاتفاق بينها وبين الجامعة
عقد في سنة 1923، يوم كان الرجل العظيم زكي باشا أبو السعود وزيرا للمعارف) وكان مصدر التردد أن الحكومة لا تعرف بالتحديد كيف يكون نظام الجامعة في عهدها الجديد
ثم بدا للجامعة الجديدة أن تراعي تقاليد الجامعة القديمة فتستشير أقطاب الجامعات الأوربية في الأوضاع التي تحمي تنفيذ
المشروع من الإخفاق
وما هي إلا أيام حتى اّستطاعت أن تستقدم كبار الأساتذة من الجامعات الفرنسية والبلجيكية والإنجليزية
ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث أنشئت كلية جديدة اسمها كلية العلوم، وهي الكلية التي عجزت الجامعة عن إنشائها في عهدها الأول، بحجة أن كلية العلوم لا ترتجل، كما صرح المسيو بوفيليه، وكان أحد خطباء حفلة الافتتاح في ديسمبر
سنة 1908 إذ قال:
'
كان إنشاء كلية العلوم أداء لرسالة جديدة من رسالات الجامعة المصرية، ولكنها رسالة
مزدوجة، لأنها أرادت أن تضع حجرا جديدا في بناء كلية الطب، حيث فرضت أن لا يدخل الطالب كلية الطب إلا بعد أن يأخذ زاده العلمي من كلية العلوم، وهو تقليد جميل، لا يمتري في جماله غير الجهلاء
ثم رأت الجامعة أيضا أن لا يدخل طالب كلية الحقوق إلا بعد أن يمضي سنتين في كلية الآداب، ليتزود بالحقائق الأدبية والفلسفية، عساه يصير فيما بعد من أئمة التشريع
والطلبة الذين انتفعوا بذلك النظام هم المرجع في هذه الأيام لدراسة القوانين
أيها السادة:
كانت المشكلة في العهد الجديد أن تعرف الجامعة كيف تقنع الحكومة بقيمتها الذاتية، وكان الرأي أن تسير الجامعة على النظام الفرنسي، وهو يقضي على قصر التعليم الجامعي على أربع كليات: الآداب والعلوم والطب والحقوق، ثم رأت أن تسير على النظام الإنجليزي فترفع رايتها على جميع المعاهد العالية، ولي على هذا النظام اعتراضات لا يتسع لها المجال
والمهم هو النص على أن الجامعة استطاعت أن تسيطر على جميع الفروع بالتعليم العالي، أن تعلن استقلالها عن وزارة المعارف، وهذا مغنم ليس بالقليل، وهل من القليل أن تكون الجامعة دولة في جبين الدولة، وأن يكون التعرض لأحد مدرسيها مما يفتح باب الجدال في مجلس البرلمان؟
عندنا جامعة بالفعل، لا بالقول، وعندنا جامعيون لا يقبلون وظائف الحكومة إلا متفضلين، لأن الجامعة أعدتهم للجهاد في الحياة بلا سناد من هذا الوزير أو ذاك
رسالة الجامعة هي نصر الحياة على الموت، وقد نصرنا الحياة على الموت، فليجرب خصومنا حظوظهم في محاربتنا أن استطاعوا وأنا أخشى أن يستطيعوا، فقد سمعت أنهم يملكون بلايين ودشالين من القبور التي ترجع إلى عهد أدم وحواء!
أفي نيف وثلاثين عاما تصنع الجامعة هذا الصنيع، فتعز الذاتية الأدبية والعلمية، وتقول للرجل المفكر كن وجودا ذاتيا فيكون؟
كان ذلك لأنها أسست على التقوى، والتقوى هي الخوف، وكانت الجامعة تخاف أن ينهزم السلطان الأدبي والعلمي في هذه البلاد، وقد انتصرت لأن الخوف هو باب الأمان
أيها السادة:
إن تاريخ الجامعة في عهدها الجديد لا يتجاوز سبعة عشر عاما، وتلك مدة لا تكفي لإيجاد محصول تباهي به الجامعات التي طال عهدها بالوجود، فكيف اصل إلى إقناعكم بأنها أدت رسالات لم تؤد من قبل؟
أمامي مصاعب ترجع إلى أن الجامعة في عهدها الجديد قد انتظمت معاهد لها تواريخ، فكلية الطب حلت محل مدرسة الطب، ومدرسة الطب المصرية (مدرسة قصر العيني) قامت بخدمات كبار في أزمان طوال، وقد كتب عنها في اللغات الأوربية عشرات المؤلفات والبحوث، ولقد كان مجدها يهزني هزة الازدهاء حين أرى ما كتب عنها في المكتبة الطبية بحي السوريون
ومع ذلك فمن السهل أن اقرر أن مدرسة الطب قد ازدهرت ازدهارا ملحوظا حين انضمت إلى الجامعة في عهدها الجديد، فقد ضخمت ميزانيتها، واتسعت مبانيها، ومضت إلى آفاق لم يفكر فيها أبناؤها الأولون
استطاعت كلية الطب بفضل أساتذتها وخريجيها أن تقوم بعقد مؤتمرات سنوية في مختلف البلاد العربية، وهي مؤتمرات تعرف فيها أطباء العرب بعضهم إلى بعض، وتلاقت فيها قلوب لم يتيسر لها التلاقي قبل تلك المؤتمرات، وان وجد حلف عربي بعد زمن قصير أو طويل فسيذكر التاريخ أن لأعضاء الجمعية الطبية المصرية يدا مباركة في إيجاد الحلف المنشود، ولعله قريب!
فان كنتم في ريب من أحياء مدرسة الطب بعد أن صارت كلية فتذكروا اسم الدكتور علي باشا إبراهيم، فاعظم منصب كان يصل إليه مثل هذا الرجل العظيم هو أن يكون وزيرا، وقد كان، ولكنه ما كان يصل إلى منصب مدير الجامعة المصرية لو ظلت تلك المدرسة بمنأى عن الحرم الجامعي، وخلق الوزراء سهل جدا في العهود البرلمانية، أما خلق شخصية تتولى إدارة الجامعة فهو رهين بالأهلية الجامعية
وهنا أعقب على معالي الدكتور علي باشا إبراهيم بمناسبة الجواب الذي قدمه إلى مجلة الاثنين وقد سألته عما يختار من ألقابه الكثيرة فاختار لقب (الجراح)
وإنما اوجه إليه هذا العتب، لان براعته في الجراحة لم تكن المؤهل الوحيد لصلاحيته
لأدارة الجامعة المصرية، وإنما أهلته لهذا المنصب مزايا كثيرة، منها انه من كبار مفكرينا ومنها انه من أحد الرجال القلال الذين يعنون بتربية الأذواق، ومنها انه منوع الثقافة بحيث يستطيع أن يشترك في الأحاديث التي تتصل بجميع الكليات
ثم اذكر أن معالي الدكتور عبد الواحد الوكيل لم يترك دروسه في كلية الطب بعد أن صار وزير الصحة العمومية، فهل يقع هذا إلا من رجل صقلته الروح الجامعية؟
قولوا الحق واعترفوا بان لكلية الطب مذاقا غير مذاق مدرسة الطب، مع الاعتراف بما لمدرسة الطب القديمة من أمجاد سيحفظها التاريخ
ثم يجيء القول عن مدرسة الهندسة بعد أن صارت كلية، ومعلوماتي عن هذه الكلية قليلة، لأني مهندس معاني، لا مهندس مباني
ومع هذا يصح الحكم بان الجامعة خلقت كلية الهندسة خلقا جديدا، فقد وجهتها إلى مرامي جديدة، حين أوحت إلى أبناءها أن يشتركوا اشتراكا فعليا في اكثر الأعمال الهندسية، وكانت من قبل وقفا على خلائق ليس لها في هذه الديار انساب
ولنفرض أن كلية الهندسة لم تأت بجديد، فهل تنسون أنها تبالغ في اختيار الطلاب؟
ألم تسمعوا أن صدقي باشا عجز عن إلحاق أحد أبنائه بكلية الهندسة مع انه استطاع حل البرلمان؟
وسلطان الجامعة من هذه الناحية ليس اعتسافا، وإنما هو تعبير عن القوة الذاتية المصرية
ثم يجيء القول عن كلية الحقوق، وهي وريثة مدرسة الحقوق، ولطلبة مدرسة الحقوق القديمة تاريخ صوره شاعرنا حافظ إبراهيم حين قال:
وكيف يضيع للطلاب حقٌ
…
وهم في مصر طُلاّب الحقوق
وما كادت مدرسة الحقوق تصبح كلية حتى اهتدت إلى أن لها غرضين أساسيين هما جملة الرأي فيما تتسامى إليه من كرائم الأغراض
الغرض الأول هو البرهنة على أن اللغة العربية قديرة على الإفصاح عن دقائق القوانين. وأنا لا أتحيز لوطني أن قررت إننا سبقنا جميع البلاد العربية إلى التأليف الجيد في مختلف فنون التشريع
أما الغرض الثاني فهو معاونة الشعوب العربية على استرداد الثقة بالفقه الإسلامي، وهو
اخصب من الفقه الروماني بمراحل طوال. . .
وفي هذا المقام تلوح الفرصة للكلام عن الدكتور السنهوري فقد نهض بعبء في تلقيح القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، وهو جامعي قديم، لأنه كان من طلبة قسم الحقوق بالجامعة المصرية في عهدها الأول، ولأنه كان عميد كلية الحقوق بالجامعة المصرية في عهدها الجديد. ولو أن الدكتور السنهوري أعفى نفسه من السياسة وتقلبات السياسة لأدى لوطنه خدمات اعظم وانفع، فقد دعي لوضع القانون المدني العراقي، ولكن منصب وكيل وزارة المعارف أغراه بالاعتذار، مع أنني ألححت عليه في أن يترك ذلك المنصب الخداع ليؤدي لسمعة مصر العلمية خدمة مأثورة في العراق الشقيق
ويضاف إلى هذين الغرضين غرض ثالث: هو الرغبة الشريفة في معاونة الأمم العربية على التعمق في الدراسات القانونية، ولن ننسى فضل العراق في إظهار ثقته النبيلة بكلية الحقوق المصرية، فقد رأى أن يستأنس بها في تقوية كلية
الحقوق العراقية. وهذه الالتفاته من جانب العراق تقوى ثقتنا بالكلية المصرية، وتدعونا إلى تأييدها بجميع ما نملك من
فنون التأييد.
هل أحتاج إلى القول بأن كلية الحقوق غير مدرسة الحقوق؟
لقد نشأت فيها أقسام جديدة بعد الليسانس، نشأت فيها دراسات لم تكن معروفة قبل عهد الأنظمة الجامعية، وبهذا استطاعت أن تقدم ألوانا جديدة من فقه التشريع، وما أحب أن أزيد
وهنالك كلية مجهولة هي كلية الزراعة، فهل تظنونها صورة من مدرسة الزراعة؟
ابحثوا تعرفوا أن كلية الزراعة أمدت أبناءها بأفكار وآراء لم تعرفها مدرسة الزراعة، فقد حاولوا وسيحاولون الاستيلاء على الأراضي التي لم تجد من يحسن استغلالها على الوجه الصحيح، وقد كان من أثار جهودهم في تنمية الثروة الزراعية أن أعلن أصحاب البساتين شكواهم من رخص الفواكه قبل أن تغليها أعوام الحرب
أما كلية التجارة فمكانها معروف، فقد استطاع أبناؤها أن يكونوا السناد المتين لبنك مصر وشركاته المتنوعات، وأنتم تعرفون أن بنك مصر توجيه جديد لأكثر أمم الشرق، فهو أول بنك نزه تحريراته وحساباته عن اللغات الأجنبية، واعتمد كل الاعتماد على اللغة العربية
أيها السادة
بقى القول في كلية الآداب، وكلية الآداب لها الصدارة في جميع الجامعات، ومن أجل هذا كانت كلياتنا الغالية على يمين من يدخل حرم الجامعة المصرية
ومع ذلك فكلية الآداب هي صاحبة الحظ الأوفر من الشقاء في جميع الجامعات، لأنها تعالج أمورا دقيقة لا تفطن أليها الجماهير إلا بعد زمن أو أزمان
ألوان المعايش تحتاج في كل يوم إلى مهندس والتاجر والزارع والمحامي والطبيب، وهي تستغني بكل سهولة عن الأديب والمؤرخ والفيلسوف، وهل يحتاج الناس إلى الأدب كما يحتاجون إلى الرغيف
ورقة مرقومة من كلية الطب تمنح حاملها العيش الرغيد، وكذلك يقال في الأوراق التي تمنحها سائر الكليات
أما نحن فلا يعرفنا الجمهور ولا تعرفنا الدولة إلا بعد أن نبالغ في أقذاء العيون تحت أضواء المصابيح
ولهذا أرجوكم السماح بعرض بعض الخدمات التي أدتها كلية الآداب إلى الوطن الحافظ للجميل!!
كلية الآداب هي الكلية المظلومة، وسيلاحقها الظلم إلى أن تستطيع إقناع الأمة بأن الأدب مقدم على الرغيف، فهل تستطيع أقلامنا أن تروض الأمة على الإيمان بأن زاد العقول مقدم على زاد البطون؟
إن جهادنا سيطول ويطول، إلى أن تذكر مصر أنها الأمة التي سبقت جميع الأمم إلى وضع تمثال للكاتب المفكر قبل ألوف السنين
سنرى كيف تستطيع كلية الآداب أن تقنع الأمة بأنها أنفع من كلية الطب، وسنرى كيف يمكن إقناع الأمة بأن احتياجها إلى الأديب أشد من احتياجها من الطبيب. . . يوم ذاك يصح القول بأن الجامعة أدت رسالتها خير أداء
وإلى أن يجيء ذلك اليوم أذكر بإيجاز بعض ما صنعت كلية الآداب، فماذا صنعت كلية الآداب؟
وهل تستطيعون أن تتناسوا جهود الأساتذة والخريجين بكلية الآداب؟
التأليف عندنا، فما رأى هذا العصر أقوى من كتاب الأدب الجاهلي وكتاب النثر الفني، من حيث البلبلة الفكرية في الحياة الأدبية. ونحن الذين غيرنا اتجاه الأدب في مدارس الدولة من حال إلى أحوال
والترجمة عندنا، فأبناء كلية الآداب هم الذين ترجموا دائرة المعارف الإسلامية مع تحقيقات يعترف بقيمتها المؤلفون الأصلاء
والشعر عندنا، فليتقدم لمصاولتي في الشعر من يطيق، ولن يطيق
والمجد القومي عندنا، ففي كليتنا الغالية أقيمت معاهد للدراسات الأثرية من فرعونية وإسلامية، بحيث يستطيع الفتى المصري أن يعرف فضائل الأجداد والآباء
ونحن الذين فكرنا في أن يكون مدرسو اللغات الحية مصريين لا أجانب، ويشرفني أن أكون صاحب هذا الاقتراح، وقد نفذه العدو الصديق طه حسين
ونحن الذين ابتدعنا الرحلات العلمية إلى البلاد العربية، ومن الطريف أن أنص على أن الحج الجامعي إلى بيت الله الحرام هو من ابتكار كلية الآداب، وقد وصلت عدواه إلى طلبة الأزهر الشريف، فتذكروا أن الحج من أركان الدين الحنيف
كليتنا عظيمة التأثير في الجيل الجديد، ولا ينكر فضلها إلا مكابر أو جحود
أيها السادة
لكليتنا الغالية أمجاد جديرة بالتسجيل، وأخص تلك الأمجاد حرية الفتاة في ارتياد المعاهد العالية، وهذا لم يقع بمصر لأول مرة إلا في كلية الآداب
كانت رفيقتي في دروس الأدب والفلسفة والتاريخ فتاة لطيفة الروح، وهي الآنسة مي ربيبة الجامعة المصرية، وعنوان الكاتبة الموهوبة في اللغة العربية
وأنا لم اشترك في رثاء هذه الكاتبة، لأني لا أزال أراها رأي القلب، ولاني لا احب أن اصدق أن الفناء يجوز على شبابها الجميل، وكان من بسمات الوجود
وقبل أن تموت مي رأيت تأثير كلية الآداب حين زرت الموصل في ربيع سنة 1938، فقد رأيت المدينة كلها مشغولة بكتاب أخرجته فتاة من طالبات كلية الحقوق
كلية الآداب هي أول معهد مصري أباح اختلاط الجنسين في المعاهد العالية، وهو مبدأ يرضى عنه قوم ويغضب عليه أقوام ولكنه مبدأ، وللمبادئ قيمة، ولو أقيمت أساسها على
ضلال
وكلية الآداب هي أول معهد مصري فكر في إمداد الصحافة بقوى جديدة مزودة بأهم أقوات الأذواق والعقول، وسيكون لأبناء معهد الصحافة تأثير جميل في صحافة الجيل الجديد
أيها السادة
ستسمعون في هذه الليلة كلاما في تجريح الجامعة، من أبناء الجامعة أنفسهم فلا تظنوا ذلك التجريح من صور العقوق وإنما يجب أن تعدوه من صور الوفاء، لأنه من أقوى البراهين على أن الجامعة أدت رسالتها خير أداء
أهم رسالة من رسالات الجامعة هي خلق القلق الروحي والعقلي، فان غلبني مناظري في هذا المساء فسيكون فوزهم تأييدا لحجتي. وهل تنسون أن الأشبال لا يصاولون آباءهم إلا بعد أن يصبحوا من الأسود؟
لا اعرف ما الذي سيقول مناظري الفضلاء، ولكني أخشى أن يفوتهم مقتل هو اضعف مقاتل الجامعة المصرية، وهو عجزها الفاضح عن أن تجعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع المواد بجميع الكليات
لقد قضيت عشر سنين في الدعوة إلى هذا المبدأ القومي، فما استمع مستمع ولا استجاب مستجيب، فليلتفت مناظري إلى هذا المقتل، وليقولوا لرجال الجامعة أن السبات قد يفضي إلى الموت ثم إلى الفناء
لا يجوز في أية جامعة أوربية أو أمريكية أن يودي امتحان بغير اللغة القومية، إلا أن يكون امتحانا في إحدى اللغات الأجنبية، أما الجامعة المصرية فتسمح بان يؤدي الامتحان بغير اللغة العربية في المباحث الإسلامية، وهذا هو الكفر بعد الإيمان!
جرحوا الجامعة، جرحوها بعنف، لتستيقظ فتثور على الغفلة والجهل. . .
قولوا وأطنبوا، فإن لم تفعلوا - وستفعلون - فسآخذ الكلمة من أفواهكم لأسمع الجامعة ما تحب أن تسمع، فرضاها عن هذه الحال رضا اليأس، لا فرح التحليق في أعالي الأجواء.
جولوا وصولوا، يا بني الأم الروحية، وقاتلوها وقاتلوني، لأرى أنكم وهبتم العزائم الفواتك، والأرواح الصحاح
أنا أثنيت على الجامعة بالحق، فجرحوها بالحق، لتأمنوا صيالي في ردكم إلى شرعة العدل
والإنصاف
وإلى اللقاء بعد أن أسمع ما عندكم من حجج وبراهين، فلن تضام الجامعة وفي الوجود رجل هو أصدق أبنائها الأوفياء
زكي مبارك
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
(تتمة)
الحضارة اليونانية:
اليونان من الجنس الآري الذي ينتسب إلى يافث بن نوح عليه السلام، وهم أول من حمل لواء الحضارة من ذلك الجنس، وتمتاز حضاراتهم على غيرها من الحضارات بالنهضة العلمية التي قامت على أساسها، ومازالت ترعاها وتتعهدها حتى ترعرعت وازدهرت، وظهر فيها من أعلام الفكر أولئك الفلاسفة الذين رفعوا منار العلم، ووصلوا فيه إلى ما لم يصل إليه أحد قبلهم، فأقاموه على أسس ثابتة، وجعلوا له حدوداً ومعالم ظاهرة، وقد بلغ من قوة تلك الأسس وظهور تلك المعالم إنها لا تزال ثابتة إلى عصرنا، وان كل نهضة علمية حدثت بعدها تحذو حذوها، وتجري على منوالها، فتبني على تلك الأسس، ولا تتخطى تلك الحدود والمعالم، ويكون كل همها أن تصلح فيها خطأ أو تزيد على آثارها آثاراً جديدة
وكما تمتاز الحضارة اليونانية بهذا تمتاز بأمر آخر له خطره، وهو محاولتها جمع العالم على حضارة واحدة، وإخضاع الشعوب البشرية لسلطان واحد، حتى يمكنها أن تتقارب وتتفاهم، وأن تتعاون في كل عمل يرفع شأن البشر، ويعود عليه بالخير والرفاهية، والحضارة اليونانية في تلك المحاولة على عكس الحضارة اليهودية، لأن اليهود كانوا يعتقدون أن حضارتهم حباء من الله لهم، وأنهم أورثوا بها أثاراً على غيرهم من الشعوب، فلا يصح لهم أن يشركوا فيها غيرهم، ولهذا عاشوا منعزلين عن غيرهم من الشعوب، ولم يحاولوا أن يضموا شعباً منها إلى حظيرتهم
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذين الغرضين الحميدين في الحضارة اليونانية، وفصلهما أحسن تفصيل في سورة الكهف من الآية - 83 - إلى الآية - 98 - (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا، إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً، فأتبع سبباً، حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماً، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً، قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى
ربه فيعذبه عذاباً نكرا، وإما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم اتبع سبباً، حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا، كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا، ثم اتبع سببا، حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا، قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، فهل نجعل لك خرجا على أن تحمل بيننا وبينهم سدا، قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطرا، فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا، قال هذا رحمة من ربي، فإذا وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا)
فهذه الآيات تفيد أن ذا القرنين كان يرمي إلى أمرين عظيمين، أولهما جمع الشعوب في شرق الأرض وغربها تحت حكمه، ليكون لهم جميعاً سلطان واحد يجمع كلمتهم، ويقرب مسافات الخلف بينهم. وثانيهما نشر العلم والحضارة بين تلك الشعوب، فمن آمن وأذعن لذلك جزاه أحسن الجزاء، ومن لم يؤمن ويذعن لذلك ناله من العذاب، وقد تم لذي القرنين من ذلك ما أراد، فجمع أكثر الشعوب المحتضرة تحت حكمه، ثم عمل على أن يحفظها من الشعوب المتوحشة التي كانت تغير عليها، وتخرب ما تخرب من آثار الحضارة فيها
وذو القرنين الذي تم له كل هذا هو الاسكندر المقدوني اليوناني، كان أبوه فيليب ملك مقدونيا، وكان ملكاً عظيم القدر، عمل على أن يجمع بين البلاد اليونانية في حلف تتولى مقدونيا زعامته، ثم يوجه قوة اليونان بعد توحيدها نحو الفتح الخارجي، ولكنه قتل قبل أن يتم غايته، فخلفه ابنه الاسكندر على عرش مقدونيا، وكانت سنه عند ولايته عشرين سنة، وقد ورثه عن أبيه بعد الهمة وقوة العزم، وزاد عليه بتربيته على يد أرسطو الفيلسوف المعروف، فنشأ محباً للفلسفة والعلم، عاملاً على نشرهما في أنحاء المعمور. وقد أراد أولاً أن يخضع بلاد اليونان كلها لسلطانه، فإذا تم له إخضاعها توجه إلى ذلك الفتح الذي يجمع الشعوب تحت رايته، وكانت دولة فارس على عهدها أكبر دول الأرض، فعمل على قهرها أولاً، وعبر مضيق الدردنيل إلى الأناضول، فانتزعه من أيدي الفرس، وأوقع بجيوشهم في موقعة أسوس، ثم اتجه غرباً نحو الشام ومصر فانتزعهما أيضاً من أيدي الفرس، وما زال يسير غرباً حتى بلغ عين الشمس بواحة سيوة، وهي العين الحمئة أو الحامية التي ذكر
القرآن أنه بلغها في فتوحاتها الغربية، ثم عاد فاتجه نحو الشرق قاصداً بلاد فارس، ليقضي على دولة فارس فيها، وما زال يسير شرقاً حتى بلغ سهول الهند الشمالية، ولم يبق أمامه إلا بلاد يأجوج التي ذكر القرآن أنه وصل شرقاً إليها
ولا شك أن هذا الاتفاق بين فتوحات ذي القرنين والاسكندر المقدوني دليل على أنهما شخص واحد، وقد ثبت مع ذلك أن الاسكندر المقدوني كان يلقب بذي القرنين، وفي هذا دليل آخر على أنه هو ذو القرنين الوارد في القرآن. وقد ذهب إلى هذا إلى الرأي كثير من المفسرين، ومن رأى منهم أن ذا القرنين غير الاسكندر المقدوني فقد خبط في بيانه خبط عشواء، ولم يهتد إلى ملك يثبت التأريخ الصحيح أنه كانت له تلك الفتوحات.
ولا يوجد لدى الذين يأبون أن يكون ذو القرنين هو الاسكندر المقدوني إلا أنه كان على دين فلاسفة اليونان، ولم يكن رسولاً يدعو إلى الأيمان كما هو ظاهر القرآن في قوله:(قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب) ونحوه مما ورد في الآيات السابقة. ولنا في الجواب عن هذا أن نذهب إلى أن الفلسفة اليونانية لم تكن فلسفة وثنية مادية، وإنما كانت فلسفة توحيدية روحية، إذ كان العقل عند الفلاسفة الأقدمين كسقراط وأفلاطون وأرسطو يعد مظهراً للروح، وأكبر دليل على أن لها وجوداً مستقلاً عن الجسد، فتنفصل منه بعد الموت، وتصعد إلى عالم أرفع من هذا العالم، وهذا هو الإيمان بالتوحيد والبعث الذي دعت إليه الأديان السماوية. وقد كان في أولئك الفلاسفة من ادعى الإلهام والوحي كفيثاغورس وسقراط، وهي دعوى لا يوجد في الإسلام ما يمنع من قبولها، لأنه يمتاز على غيره من الأديان بأنه لا يجعل الرسالة السماوية وقفاً على قوم من الأقوام، وقد قال الله تعالى في الآية (24) من سورة فاطر:(إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) وإذا كان في آثار أولئك الفلاسفة ما يخالف الدين، فانه يمكن أن يكون من التحريف الذي أصاب الفلسفة اليونانية. كما أصاب الأديان السماوية، على أن كثيراً من أنصار هذه الفلسفة في اليهودية والنصرانية والإسلام لا يرون أنها تخالف هذه الديانات، وقد استخدموا علومها وآلاتها في نصرة الدين، حتى صار علم الكلام في هذه الديانات متأثرا إلى حد كبير بهذه الفلسفة
ويمكننا أن نذهب في الجواب عن ذلك مذهبا آخر نسلم فيه أنه لم يكن في هذه الفلسفة وأصحابها إلهام ولا وحي، وأنهم وصلوا إليها بنظر العقل، فانه يبقى مع هذا أن أولئك
الفلاسفة اجتهدوا بعقولهم في الوصول إلى الحقيقة المطلقة، فوصلوا في ذلك إلى أسمى ما وصلت إليه العقول في العصور القديمة، وإلى ما استحق التقدير من كل من ظهر بعدهم من الأمم إلى عصرنا الحاضر، فإذا ذكر القرآن آثار علم من أولئك الأعلام، فأنه يقدر منها ما يستحق التقدير من كل منصف، وإذا كان فيها شيء من المؤاخذات فإن الله لا ينظر إليها في هذه الحالة، كما قال تعالى في الآية (15) من سورة الإسراء:(من أهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً). وقد فعل القرآن الكريم ما يقرب من هذا مع الروم في حروبهم مع الفرس، فراعى لهم أنهم على كل حال أهل كتاب، وبشر المسلمين بنصرهم في الآيات الأولى من سورة الروم (ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد؛ ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر الله من يشاء وهو العزيز الحكيم)
أما قوله تعالى: (قلنا يا ذا القرنين) فلا يفيد إلا أن ذا القرنين كان في تلك الفتوحات وفيما يقصده منها مسبراً بأمر الله وقد ذكرنا أنه كان له في تلك الفتوحات مقاصد نبيلة، وكل شيء يحصل في هذه الدنيا فبأمر الله وتقديره.
عبد المتعال الصعيدي
ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربية
للأستاذ عيسى محمود ناصر
تتمة ما نشر في العدد الماضي
الكلام على الفصلين الثالث والرابع
يمكن أن يقسم كلام ابن خلدون فيهما أقساماً ثلاثة: الإقليم والبيئة الجغرافية والدين؛ فلقد تتبع المجتمع البدوي والحضري وحكومته على اختلاف ضروبها ووسائل الارتزاق ولم تعد أحكامه في سياسة الممالك الاستبدادية التي ذكرها في مقدمته مطردة في عصرنا هذا إذ أصبحت طريقة الحكم في هذا العصر دستورية مبنية على الحكم النيابي الذي يؤيده الدستور ويدعو إليه سواء أكانت جمهورية أم ملكية، على أن معدات الحروب وظواهر المدنية الحاضرة تختلف كثيراً عن حالتها السابقة
ومن رأى ابن خلدون أن هناك ثلاث ظواهر مستقلة عن المجتمع تؤثر فيه باستمرار هي: الإقليم والبيئة والجغرافية والدين، وقد تأثر في نظرياته الجغرافية (ببطليموس) الجغرافي اليوناني، وبالإدريسي الجغرافي العربي، وهو في هذا يبين أن البيئة الجغرافية وسيلة إلى شرح الأقاليم المختلفة، وأن درجات الحرارة المختلفة تؤثر في أجسام الناس وأخلاقهم، ومن ثم في الحضارة؛ فسواد لون سكان الجنوب يرجع إلى شدة الحر حيث الشمس محرقة دائماً، وأما لون أهل الشمال فأبيض للسبب العكسي. أما الأقاليم المعتدلة فأجسامهم أقوى وأوفر توازنا في حين أن أهل الأقاليم المنحرفة مجردون عن الحضارة، فهم همج لا يعرفون شريعة ولا حكومة ولا ديناً، وأخلاقهم في غاية التناقض، ولكنها بعيدة عن أن تكون مجتمعاً متحضراً. ويعلمنا التأريخ أن الحضارة لم توجد قط إلا في البلاد المعتدلة، وأن درجة كمالها تختلف بقربها أو بعدها عن الإقليمين المنحرفين، ولهذا كان الإقليم الرابع الذي يشغل الوسط والذي يتمتع بحرارة معتدلة ينعم دائماً بضروب الحضارة، ففيه الحكومات والشرائع والأديان المنزلة والعلوم والفنون. ويضع ابن خلدون في ذلك الإقليم المعتدل: الشام والعراق، فالشام مهد اليهودية والنصرانية، والعراق كان بها الحضارة الآشورية، ولكنه اعترضته صعوبة أن بلاد العرب مهد الإسلام، وموطن العربية - ليست من الأقاليم
المعتدلة، ولكن البحر يحوطها من ثلاث جهات فأثرت رطوبته في الهواء ولطفت من قيظها المفرط. ثم قال: إن بأخلاق أهل الجنوب خفة وطيشاً، وإنهم لا يعرفون السكينة، ويقضون معظم حياتهم في اللهو والرقص؛ فالحرارة مخلخلة للهواء والبخار زائدة في كميته، وقد اتفق ابن خلدون و (منتسكيو) في أثر البرودة والحرارة في الأجسام، ولكننا لا نرى في هذا العصر أثر لمقاومة البرد والحر، وهناك برهان قاطع على أن نظرية الإقليم كما يشرحها (أرسطو) وأبن خلدون و (مونتسكيو) ليست معصومة من الزلل؛ فابن خلدون يرى أن سكان الشام والعراق هم أكثر الشعوب فوزاً بذلك الامتياز، و (مونتسكيو) يرى المثل الأعلى في أمم الشمال، و (أرسطو) يرى الشعب اليوناني هو الذي بعث ذلك التقدم إلى باقي الشعوب
ثم تكلم ابن خلدون عن الروح البشرية والنبوة والكهانة، وهو لا يعتبر الدين من عوامل الحضارة، ولا يعلق على تأثيره فيها أهمية كبيرة، والواقع غير ذلك؛ فالمجتمعات تتأثر بالدين وله تأثير قوى في النفوس، والدين مادة غزيرة من الفلسفة والتقاليد والمعتقدات. ولقد وفق ابن خلدون بين الفلسفة والدين كما وفق ابن رشد بينهما
ويؤخذ على ابن خلدون في مقدمته إنحاؤه على العرب وقسوته في الحكم عليهم في كثير من سياسة الملك؛ فقد غمطهم حقهم، وشدد النكير عليهم، فنعي عليهم عجزهم عن التغلب إلا على البسائط ويقول: إنهم لا يتغلبون على قطر إلا أصابه الخراب المطلق، فهم يهدمون الصروح، ويغتصبون أملاك المغلوبين مستشهداً بتخريب إفريقية الشمالية في القرن الخامس، وأنهم يجهلون سياسة الملك. والتأريخ وحده أقوم دليل على دحض هذه المفتريات. ويبدو في كلامه هذا التحامل على العرب، وإنه لعربي حضرمي، ولكن ذلك راجع إلى العصبية المغربية؛ فأهل المغرب لهم عواطفهم وتقاليدهم، وهم قد خرجوا من سلطان العرب منذ القرن الثاني للهجرة.
أما تحامله على العرب وعجزهم عن التغلب إلا على البسائط كسهول الشام والعراق ومصر وساحل إفريقية الشمالية فمردود بحوادث التاريخ فقد نسى ابن خلدون أو تناسى أنهم فتحوا فارس واستقروا هناك أكثر من قرنين، وأنهم فتحوا بلاد الأندلس، وأسسوا فيها حضارة وملكاً كبيراً استمر أكثر من ثمانية قرون
أما تخريب إفريقية الشمالية في القرن الخامس فلم يكن إلا بأمر الخليفة الفاطمي. ثم من هم العرب الذين فعلوا ذلك؟ إنهم بدو أعراب لم يتكلفوا تربية ولا نظاماً. ولنا شاهد من تأسيس حضارة العرب في فارس والشام وأسبانيا وإفريقية. ثم يقول: إن العرب ليسوا أهلاً لتأسيس الدولة إلا من طريق أثر ديني قوي، وإنهم يجهلون سياسة الملك مع أنهم قبضوا على ناحية الحكم في الدولة الإسلامية في العصور الوسطى والحديثة وكانوا أقدر وأعدل وأمهر؛ فقد هيئوا للشعوب المغلوبة أسباب التقدم العقلي المادي. ويقول: إنهم يبالغون في احتقار العلوم والفنون مستنداً إلى أن معظم العلماء فرس وموال. ولكن أيغيب عن ذهنه أن هؤلاء البدو فرضوا دينهم ولغتهم على دولتي الفرس والروم؟ اللهم إنها العصبية المغربية تغلبت عليه!
ابن خلدون والنقد الحديث
يصف الأوربيون ابن خلدون بأنه (مونتسكيو) العرب. وقد ترجمت مقدمته ونظرياته إلى اللغات الحية. وفي منتصف القرن التاسع عشر عني النقد الأوربي بابن خلدون ونظرياته الاجتماعية عناية خاصة، وكان أعجب ما في هذا الاستكشاف أن يظفر الغربيون في تراث هذا المفكر المسلم بكثير من النظريات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية التي لم يطرقها البحث الغربي. وقد ردد (مكيافللي) المؤرخ السياسي الإيطالي الذي ظهر بعد وفاة ابن خلدون بأكثر من قرن كثيراً من نظرياته وآرائه كما رددها (مونتسكيو) المشرع الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي و (آدم سميث) الفيلسوف الاقتصادي وغيرهم، ولأبن خلدون فضل السبق في هذه الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية والتاريخية.
ويعتبر كتاب (الأمير)(مكيافللي) كمقدمة ابن خلدون. على أن ابن خلدون أغزر مادة وأوسع أفقاً من (مكيافللي) ذلك لأن مؤرخنا اتخذ من المجتمع كله وما يعرض فيه من الظواهر مادة أساسية لدرسه معللاً لها على ضوء التأريخ. أما (مكيافللي) فيدرس الدولة فقط أو يدرس أنواعاً معينة من التأريخ اليوناني أو الروماني القديم، أو التأريخ إيطاليا في عصره، أو يدرس شخصية الأمير أو الحاكم؛ وهذه الدراسة المحددة تقابل الفصل الثالث من مقدمة ابن خلدون وإن كان ابن خلدون يفوق (مكيافللي)، ويبتدع نظرية العصبية ونظرية أعمال الدولة وخواصها من الناحية الاجتماعية. ويمتاز (مكيا فللي) من جهة أخرى
بسلامة منطقه ودقة عرضه وتدليله وجمال أسلوبه؛ وهو في فلسفته هذه وصم آراءه ونظرياته بالصرامة والقسوة والخبث حتى كانت في عصرنا الحاضر مضرب المثل للسياسة الغادرة التي لا ضمير لها ولا وازع فتغاضت عن المثل العليا للإنسانية والخلقية؛ فالنفاق والشح، والضعة، والقسوة، والإرهاب، والختل، ونكث العهود، وإهدار الإخلاص، والصداقة، والأمانة، والدين والوفاء، كل أولئك تقوم عليه هذه السياسة (المكيافلليه) وهي عنوان السياسة العملية القوية الخاطفة التي نشاهدها في هذا العصر بين الأمم والأفراد
وقد اعتبر ابن خلدون مؤرخاً لحضارة الدولة الإسلامية، فتحدث عن النظم السياسية وأنوع الحكم والخطط العامة، كالقضاء، والشرطة، والإدارة، وتطورها في الدول الإسلامية كما تحدث عن النظم الاقتصادية والتجارية والمكوس والضرائب، وعن المهن الحرة والحرف والصناعات، ووجوه الكسب والمعاش ثم عن العلوم والفنون والآداب وتطورها في العالم الإسلامي، وإنما عالج هذه المسائل اعتقاداً منه أنها صور لهذا العمران، ومراحل الحضارة مقياس لمراحل العمران
وقد أثرت في آرائه العلمية مبادئ (أرسطو) و (أفلاطون) وبخاصة الجمهورية لأفلاطون كما أثرت في آرائه فلسفة فيثاغورس الأفلاطونية، وكما أثر فيها المسعودى أيما تأثير، وقد استطاع أن يقرر منذ خمسة قرون أصل السلطتين الروحية والزمنية كما يقررها أساتذة القانون السياسي والديني
ويمكن أن توصف فلسفته بأنها يغلب عليها التشاؤم والتطير، ولكن تشاؤمه تشاؤم رجل مستسلم غير مكترث، فهو لا يحكم وإنما يشاهد، وهو بذلك يدلل على ذهنية علمية. ويرى بعض المستشرقين أن مصدر هذا انحطاط الدولة الإسلامية وتأخر الحضارة في العصر الذي كتب فيه ابن خلدون مقدمته، وإلى الظروف السياسة التي تقلب فيها وعصفت به، وما أصابه في حياته في خويصة نفسه من ألم وخيبة أمل
وقد أوضح أهمية المال وبعد أثره في قوى الدولة الداخلية، وذكر كيف يقضي سوء الإدارة المالية والإسراف دائما على الدولة بالفناء
ومن رأيه أن تأسيس الدولة سابق على تأسيس هذه المدن، لأن الدولة وسيلة لتأسيس هذه المدن؛ فالقبيلة لا تستطيع ذلك قبل أن تتخذ شكل الدولة المنظمة تجتمع قوتها في الحكومة،
فقد بنيت بغداد بأمر الخليفة المنصور، وبنيت الفسطاط والكوفة والبصرة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وابتنى القائد جوهر مدينة القاهرة تنفيذاً لأمر المعز لدين الله الفاطمي، ولحماية المدينة من الغارات تحاط بالأسوار الطبيعية والصناعية، وتصان صحة السكان بجودة الهواء وغزارة الماء. وقد بين أن العرب لم يحسنوا اختيار مواقع مدنهم لأنهم يعنون بالمراعى، وأنهم يجهلون بأن للهواء صفات يجب اعتبارها؛ لأنهم تعودوا حياة التجوال والانتقال؛ لذلك لم تكن المدن التي أسسها العرب في بدء الإسلام في العراق وأفريقية أهلاً للحضارة الثابتة، وأن تقاوم صروف الزمن، فقد زالت حينما سقطت دولها؛ ولكن هذا الرأي مردود بأن الكوفة والبصرة لا زالتا موجودتين في عهد ابن خلدون. وعنده أن تقدم الحضارة يتوقف على مزايا الأرض ومزايا الحكومة وكثرة السكان، فمن الأرض تستخرج كل المواد الأولية، والحكومة يجب أن تكون قوية عادلة كريمة، وكذلك عمر الحضارة منوط بعمر الدولة لأن سقوطها يفضي إلى سقوط العاصمة، ومن ثم تصاب الحضارة بضربة شديدة؛ ولكن الحكومة الجديدة المتغلبة إذا كانت حازمة قوية استطاعت في الحال أن ترد إلى العاصمة كل رخائها، أما كثرة السكان فتخلق الحضارة، وكلما كثر السكان كثرت المدنية وازداد الغنى واتسع المجال لتحصيل ثمار الترف!
ويرى ابن خلدون أن من أسباب ضعف الدولة انغماسها في الترف وضعف العصبية أو الحزب الذي أنشأها وما ينشأ عن هذا الضعف من مطالب بعض الجنود الأجانب الذين يتخذهم بعض الملوك لحمايتهم. ولا شك أن لفيلسوفنا آراء ومذاهب ونظريات يؤيدها العلم الحديث والعرف، وما نراه في هذا العصر من قيام دولة وسقوط أخرى واختلاف الناس في مذاهب الحياة وفهم الأخلاق. وقد عنيت أن أجلو أمام القارئ بعض هذه الآراء له فرصة الاستيعاب والتمحيص والموازنات الدقيقة. والله ولي التوفيق
عيسى محمود ناصر
المدرس بمدرسة الفيوم الثانوية
مصادر هذا المقال:
1 -
فلسفة ابن خلدون الاجتماعية
2 -
ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربي
3 -
ابن خلدون حياته وتراثه الفكري
4 -
مقدمة ابن خلدون - ترجمة الكاتب بقلمه
السيطرة على الجو
للأديب عبد المنعم محمد الزيادي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(بيض) القاذفات
والبيض هنا هو القنابل في عرف الأمريكيين! أما القنابل المتفجرة العادية فلها غلاف ثقيل ينقسم إلى شظايا كثيرة تتطاير بمجرد انفجارها. وهذه القنابل تستعمل خاصة ضد الأفراد. وإذا انفجرت قنبلة من هذا النوع زنتها مائة رطل، فإن شظاياها تتطاير في دائرة نصف قطرها خمسون ياردة. أما قنابل المهابط (الباراشوت) - وهي تستعمل ضد الأفراد كذلك - فتلقيها الطائرات عندما تكون على ارتفاع يقل عن ثمانمائة قدم، ولا تستطيع حينئذ أن تلقى قنابل متفجرة عادية خشية أن تصيبها شظاياها. فقنابل المهابط تتخذ طريقها ببطء متأرجحة في الهواء إلى أسفل ولا تنفجر حتى تكون القاذفة قد ابتعدت تماماً. ويمكن كذلك أن تهيأ لتنفجر وهي ما تزال في الهواء حتى تنشر شظاياها على الأفراد الذين يحتمون بالخنادق المكشوفة التي قد تقيهم شر القنابل المتفجرة العالية. أما القنابل المدمرة فلها غلاف رقيق يصلح لأن يحملها سليمة خلال أسطح المباني التي تمر خلالها، ثم تأخذ حمولتها من المواد الشديدة الانفجار في التدمير والتحطم بمساعدة ضغط الهواء الشديد الذي يتولد مع سقوطها. ويقرر الخبراء أن مثل هذه القنبلة لو قدر لها أن تدفن في الأرض قبل انفجارها، فإنها عند انفجارها تنسف الأرض بمعدل نصف ياردة مربعة من المواد المتفجرة التي تحملها؛ وهي تحمل من المواد المتفجرة ما بين 250 و1000 رطل
(سلة خبز) مولوتوف
اكتشف الروسيون أن القنابل المحرقة تكون أشد فتكا إذا ألقيت على البناء الذي تمزق بفعل القنابل المدمرة، وعلى هذا الأساس اخترعوا (سلة خبز) مولوتوف. وهذه السلة تشبه من الخارج القنبلة العادية تماماً. وتحتوي في داخلها على 20 أو 30 أسطوانة صغيرة تحمل مواد محرقة وقنبلة مدمرة عادية في الوسط. وتسقط القنبلة المدمرة من السلة على ارتفاع معلوم فتنتشر الاسطوانات المحرقة حولها فسرعان ما تلتهب قطع الخشب أو القماش أو
الورق التي تناثرت بفعل القنبلة المتفجرة. وربما كانت القنبلة البطيئة الانفجار هي أفظع وأشد أنواع القنابل فتكاً؛ فعندما تصطدم القنبلة بالأرض، يحدث التصادم كسراً في زجاجة ملأا بحامض يبدأ في شق طريقه خلال حواجز معدنية قابلة للذوبان فيه حتى يصل إلى المادة المنفجرة، وإذ يختلط بها يحدث الانفجار. وبالتحكم في سمك الحوائط المعدنية يمكن تنظيم وصوله إلى المادة المتفجرة في خلال بضع ساعات أو بضعة أيام إذا أريد ذلك
فوق الهدف
يصعب - بطبيعة الحال - أن تختفي مدن بأكملها عن أنظار القاذفات. وقد استعمل الطلاء (الكاموفلاج) للوقاية من الغارات الجوية في الحرب العظمى الماضية، فكانت الخطوط الجوية الكثيرة الملونة - على هيئة حمار الوحش - على أرض السهول والوديان تحدث اضطراباً شديداً للرائي. وقد وجد خبراء الوقاية أن هذا الخلط بين الألوان شديد التأثير على الملاحظين الجويين، لذلك طلوا أسطح المباني الهامة بلون الحشائش أو الأحجار المجاورة كما غطوا الحوائط الجانبية بكروم اصطناعية. وقد أصبحت ترسانة (ولويتش) غاية في التنكر بفضل ما نما حولها وفوقها من الحشائش، حتى لقد أصبح عمالها يسمونها (بالبيت الأخضر).
ومن المعروف أن المركبات السريعة هدف سهل للطائرات المنخفضة، لكنه أصبح في الإمكان جعلها (غابة متحركة) - كما قال أحد عامة لندن - وذلك بنثر الأوراق والأغصان والشجيرات على جوانبها وأسطحها. فإذا سار صف من هذه المركبات المتنكرة في الطريق بجانب صف من الأشجار، استطاعت أن تحتجب تماماً عن أعين الطيار الملاحظ. ولقد جد البريطانيون والألمانيون على السواء في الاهتمام بالإظلام الليلي، وذلك لسبب وجيه؛ فقد دلت التجارب على أن عود الثقاب الملتهب يمكن رؤيته على ارتفاع نصف ميل، كما أنه يمكن برؤية المصباح المضاد على ارتفاع ميل وربع بوضوح تام، والنافذة المضاءة على بعد 12 ميلاً. إلا أن هناك أشياء لا يمكن إطلاقها تماماً؛ فالموانئ وخطوط السكك الحديدية لابد أن يظهر منها بعض الضوء. وأشد من ذلك وأنكى مجاري الأنهار، فإنه في أشد الليالي ظلاماً يظهر النهر كشريط ضيق لامع يرى في جلاء ووضوح. ولا يمكن لأشد الاحتياطات إحكاماً أن تخفي الهدف تماماً إذا أخذت له صورة واضحة من الجو، فالطباعة السوداء
والبيضاء تظهر الوديان والسهول بوضوح، كما تكشف خداع الألوان الذي قد يخدع العين المجردة. ولما كان من الصعب أن تقترب الطائرات من القواعد المهمة خلال النهار لتصويرها، فإن فن التصوير الليلي قد تطور كثيراً. فعندما تصبح الطائرة المنكشفة فوق البقعة المراد تصويرها، يلقى المصور قنبلة من المغنسيوم، وهذه تنفجر في الجو على ارتفاع معلوم فتخرج ضوءاً ناصع البياض. وإذ يبلغ الضوء أقصى شدته بسبب حركة في غطاء عدسة آلة التصوير، فيتم التقاط الصورة من تلقاء ذاتها. وفي إحدى الصور التي أخذت على ارتفاع 1200 قدم ظهرت كل شجرة في نصف قطر طوله ثلاثة أميال بغاية الوضوح والجلاء
الهبوط إلى الأرض
لجنود المهابط الذين يسبق نزولهم غزو إحدى الجهات كما للجنود الذين تظلهم الطائرات قيمة عملية عظيمة الشأن؛ فهم يحتلون المطارات الهامة أو يخربون المنشئات العسكرية ويربكون العدو إرباكاً له قيمته للجيش المهاجم. لذلك أهتم الحلفاء بالإكثار من فرق هؤلاء الجنود وإحسان تدريبهم. وتحتاج الوحدة المهاجمة من جنود المهابط التي يبلغ عدد رجالها الألف، إلى نحو 125 طائرة. تأتي في المقدمة ثلاثون منها من قاذفات القنابل أو المنقضات، تتبعها عن كثب عشرة من ناقلات جنود المهابط ثم خمسون طائرة من ناقلات الجنود حمولة الواحدة منها 25 جندياً لنقل رجال القوة النظامية، في حين تحمل خمس طائرات أخرى عتاد هذه القوة الثقيل وهو يتكون عادة من 150000 شحنة من الذخائر، 30 موتوسيكلا، 367 مدفعاً رشاشاً، وستة مدافع مضادة للدبابات. ويحرس هذه القوة عدد من المطاردات يبلغ الثلاثين أو أكثر. فإذا ما بلغت القوة الهدف بدأت المدافع الرشاشة تصليه ناراً حامية حتى تقضي تماماً على مقاومة رجاله. ثم تنزل قوة من رجال المهابط يتراوح عددها بين مائة وثلاثمائة جندي؛ ويفصل بين نزول جندي ونزول الأخر ثلاث ثوان بحيث يهبطون إلى الأرض في جماعات صغيرة. ويحمل كل خمسة منهم مدفعاً رشاشاً صغيراً كما يحمل كل منهم مسدساً، فإن البنادق والمدافع الرشاشة غالباً ما تسبب كسراً في أذرع أو أرجل الجنود الهابطين، فأصبحت هذه المعدات تلقى على حدة في شحنات بواسطة مهابط تقل في مساحتها عن المهابط (البارشوات) العادية سهلة الفتح من
تلقاء ذاتها. وبمجرد أن يسيطر جنود المهابط على الهدف المقصود تتصل الوحدة الجوية بالقوة الرئيسية التي تهبط في نظام دقيق. فلا يمضي سوى ساعة واحدة حتى تكون القوة قد بدأت الزحف. أما جندي المهابط فيتلقى تدريباً حربياً يفوق كل ما يناله جندي آخر في الخدمة العسكرية. فالمراد من تدريبه أن يعرف كيف يهبط إلى الأرض دون أن يؤذي نفسه، وكيف يختار أحسن الأمكنة لنزوله. وهو يستعمل لذلك نموذجاً معقداً يبين الأراضي الصعبة ومكانها. والمفروض في كل رجل أن يكون خبيراً بفن الإشارة وقيادة الطائرات. ويجب أن يكون تام التدريب على كيفية استعمال الأنواع الأجنبية من المدافع الرشاشة والأسلحة الأخرى التي يمكن أن يغنمها. من ذلك ترى أنه لا يصلح سوى أشد الناس ذكاء وسرعة خاطر لهذا الطراز من القتال
أسلحة لمركبات الجو
ما برح سلاح الطيران الملكي البريطاني يرفع من شأن المدفعية الجوية من حيث الدقة والمقدرة على الفتك والتخريب. فإن قائد مطاردة من طراز (سبيتفاير) يستطيع بتصويب طائرته نحو الهدف بمساعدة المنظار ثم الضغط على الزر الخاص، أن يطلق 120 طلقة في الثانية من ثمانية مدافع رشاشة مثبتة في جناح الطائرة. وهذه المقدرة الفائقة على إطلاق النار من مستلزمات سرعة المطاردة التي لا تمكن المدفعي من أن يبقى فوق هدفه لأكثر من ثانية أو ثانيتين في كل مرة يزوره فيها. والمدافع موضوعة بحيث تلتقي خطوط نيرانها على مدى بضع مئات من الأقدام أمام الطائرة. وقد اخترع سلاح الطيران البريطاني (طابية) تركب على القاذفة وبها أربعة مدافع أو أكثر تدور بدورانها وهذا يمكن المدافع من أن تطلق نيرانها في أي اتجاه. وهذه الطوابي توجد على ذنب القاذفة وجسمها ومقدمتها. وتستعمل هذه المدافع كلها أثناء القتال رصاصاً يترك وراءه أثراً. فمقدمة الرصاصة ملأا بمركب فسفوري فإذا انطلق في الجو تركت أثراً واضحاً من الدخان في النهار أو من النار في الليل. فإذا كان بين كل خمس رصاصات واحدة من ذوات الأكثر أمكن للعين أن ترى وتتبع خط الضرب. ولا يخفى أن رؤية الإنسان أين يضرب من الأهمية بمكان عظيم وبخاصة في المدفعية الجوية الحديثة حيث سرعة عمليات الهجوم والدفاع عظيمة يكاد يكون من المستحيل تتبع الهدف في البقعة التي يحددها المنظار
أصديق أم عدو؟
لكل طائرة علامة أو أكثر للتعرف عليها إن كانت صديقة. وهي غالباً ضوء صغير في الذنب والقاع، ويمكن أن يصحبه مفتاح تلغرافي بجانب القائد. وتعطى علامات التعارف هذه للطيارين جميعاً في كل ليلة لتكون بمثابة كلمة المرور بين الطائرات وبعضها أو بين الطائرات وبطاريات المدافع المضادة. فقد يرى قائد في سلاح الجو البريطاني يقوم بأعمال الدورية مثلاً إشارة غريبة في طائرة أخرى مرت به قد تكون معادية. وعندئذ يضئ بإشارة التعارف فإذا رد عليه الآخر بالإشارة المتفق عليها تابع سيره، وإذا لم تكن الإشارة بما يتوقعه تحسس تواً زر مدافعه الرشاشة.
عبد المنعم محمد الزيادي
معهد الصحافة بالجامعة الأمريكية
49 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الرابع عشر - الصناعات
مياه الآبار في القاهرة مشربة بالملوحة، فيجلب السقاءون الماء من النيل للسكان متعيشين من هذه المهنة. وكذلك يجلبون الماء من الخليج الذي يشق العاصمة أثناء الفيضان، أو بالحرى مدة الشهور الأربعة التي تعقب هذا الخليج. ويجلبونه من النيل في غير ذلك الوقت، وهم ينقلون الماء في مزادات من الجلد على الجمال والحمير، وقد يحملونه على ظهورهم في قرب صغيرة لمسافة قريبة (أنظر شكل رقم 57) ويطلق على المزادة التي يحملها الجمل لفظ (ري) والري زقان واسعان من جلد البقر. ويسمى ما يحمله الحمار (قربة) وتكون من جلد الماعز. ويحمل السقاء كذلك قربة من جلد الماعز إذا لم يملك حماراً. ويسع الري ثلاث قرب أو أربعاً. ويصيح السقاء عادة:(يعوض الله) فيدل هذا الهتاف على مروره. ويكاد أجر السقاء على القربة التي يحملها ميلاً ونصف ميل أو ميلين، لا يتجاوز أكثر من مليمين
ويوجد أيضاً سقاءون يزودون المارة بالماء. ويسمى بعضهم (سقا شربة)(شكل 58)، ويحمل هؤلاء قربة ذات أنبوبة نحاسية طويلة ويصبون الماء للظمآن في طاس نحاسي أو قلة من الفخار. وهناك طبقة كثيرة العدد تمتهن الحرفة نفسها ويسمى الواحد منها (حمليا)(شكل 59) وأغلب هؤلاء دراويش من الرفاعية أو البيومية، وهم معفون من ضريبة الفردة. ويحمل الحملى على ظهره إبريقاً من فخار رمادي يبرد الماء، ويحمل أحياناً قلة من الماء المعطر بماء الزهر المقطر من زهر النارنج، ليقدمه إلى أفضل عملائه. وكثيراً ما يضع في فوهة الإبريق غصناً من النارنج. ويتناول الحملى من أفراد الطبقتين العليا والوسطى قطعة فضة إلى خمس فضة. ولا يتناول من الفقراء شيئاً أو يتناول منهم قطعة خبز أو أي طعام آخر يضعه في جراب يعلقه على جانبه. ويصادف المرء كثيراً من
الحمليين وبعض السقائين في ساحات الحفلات الدينية، كالموالد وغيرها التي تقام في القاهرة وضواحيها. وكثيراً ما ينفحهم زائرو قبور الأولياء نقوداً في مناسبات كهذه ليوزعوا الماء على الراغبين من المارة. وتسمى هذه الصدقة (تسبيل)، وتكون إكراماً للولي، أو في مناسبات أخرى غير الموالد. ويسمح لهؤلاء السقائين في هذه الأحوال أن يملأ والإبريق أو القربة من (سبيل) عام، لأنهم لا يتناولون شيئاً من المارة. وهم ينشدون لهذه المناسبة لحناً قصيراً، داعين الظمآن ليتناول من هذه الصدقة المقدمة باسم الله فيقولون:(سبيل الله يا عطشان) ويدعون لمن قدم الإحسان أن تكون الجنة والمغفرة من نصيبه فيقولون (الجنة والمغفرة يا صاحب السبيل)
ويوجد آخرون، تماثل مهنتهم مهنة الحملى. ومن هؤلاء، بائع عرق سوس المذكور في فصل سابق. ويحمل العرقسوسي جرة حمراء من الفخار على جانبه الأيسر ويربطها بسير من جلد أو غيره ويسندها بيده اليسرى (شكل 60) كما يحشو فوهة الجرة بليف النخل ويحمل طاسين من النحاس أو قدحين من الصيني أو أكثر يقرعهما معاً. ويتجول كثيراً من بائعي الشراب بالطريقة نفسها. ويحمل بائع الشراب عادة وعاء (الشيشة) الزجاجي ملآن بمنقوع الزبيب في يده اليسرى، وإبريقا كبيراً من القصدير أو النحاس الأحمر، وقللاً زجاجية في يده اليمنى. ويحمل بعضهم صينية مستديرة من النحاس الأحمر المبيض وعليها قلل ملأى من (التين المبلول) أو (البلح المبلول)، (وسطلة) نحاسية أو طاساً من الفخار الصيني. ويباع السحلب أيضاً بالطريقة نفسها، والسوبيا كذلك، وهي من لب عبد اللاوي يبل ويدق ثم ينقع في الماء ثم يصفى ويحلى بالسكر، وقد تصنع من الأرز بدلاً من اللب. وتحمل السوبيا في أوعية كأوعية الزبيب؛ غير أن الأكواب هنا توضع في وعاء من القصدير يشده البائع بحزام إلى وسطه.
ذكرت قبلاً أن كثيراً من فقراء القاهرة يتعيشون من تنظيف الشبك. ويحمل (المسلكاتي) أي منظف الشبك سلوكاً طويلاً لهذا الغرض يضعها في عصى مجوفة ثلاث أو أربع أو في أنابيب من القصدير، يشدها معاً ويعلقها على كتفه (شكل 61) ويعلق مع العصي أو الأنابيب حقيبة صغيرة من الجلد بها ألياف من القنب يلفها أعلى السلك لتنظيف الشبك. ولا يتناول المسلكاتي على تنظيف الشبك الواحد أكثر من نصف فضة يتعيش الكثير من الطبقة
السفلى رجالاً ونساء، في القاهرة وغيرها من مدن مصر، من التسول. والكثير من هؤلاء كما هو المتوقع، دجالون كريهون، فبعضهم يشق مظهره على المرء ولكنه يجمع أموالاً وافرة. وقد حدث منذ شهور قليلة حادث من هذا النوع شاع أموه في القاهرة. ذلك أنه كان هناك فلاح ضرير تقوده ابنته في شوارع القاهرة وهما يكادان يسيران عاريين دائماً. وقد تعود هذا الفلاح أن يدعوا يومياً إلى منزله سائلاً تركياً ضريراً، فيتناول العشاء معه. وفي ذات ليلة غاب الفلاح عن منزله، ولكن ابنته أعدت العشاء للصديق التركي الذي جلس يأكل وحده. وحدث أثناء ذلك أن مد يده إلى جانبه فوقعت على جرة ملآنة نقوداً. فلم يتردد في حملها وهو منصرف. وكان في الجرة مائة كيس وعشرة من قطع الخيرية، وهي قطع صغيرة ذات تسعة قروش، أي ما يساوي حينئذ أكثر من خمسمائة وخمسين جنيهاً. فذهب المجني عليه إلى القلعة يطلب إنصافه، فاستعاد ماله ما عدا أربعين خيرية كان اللص قد أنفقها، وقد حرم التسول على الفلاح بعد ذلك. وكثيراً ما يشاهد المرء في القاهرة الأطفال عراة تماماً. وقد رأيت كثيراً فتيات بين سن الأثنى عشر والعشرين يتسولون في الطريق دون أن يسترهن غير قطعة رثة حول الكشح وقلما يتأثر هؤلاء من برد الشتاء أو حر الصيف لتعودهم ذلك من الطفولة. ويستطيع الرجال أن يناموا في بعض المساجد. وليست حال المتسولين، من وجوه أخرى، سيئة جداً كما قد يرى الأجنبي من مظهرهم. ويكاد المتسولون بلا ريب أن يحصلوا على طعام أو نقود تكفي لسد حاجتهم الضرورية، وذلك نتيجة لميل المصريين إلى الإحسان، وتعود التجار تناول الطعام في دكاكينهم وإعطاء السائلين شيئاً منه. وهناك متسولون ينفقون جانباُ كبيرا ًمما يجمعونه صباحاً في التمتع بتدخين الحشيش ليلاً فيتخيلون أنهم أسعد الناس
ولا تخرج صيحات المتسولين في القاهرة عن دعاء الله. ومن أكثر الأدعية شيوعاً قولهم: (يا محنن يا رب!)(لله يا محسنين)(أنا طالب من عند ربي رغيف عيش)(يا مانت كريم يا رب)(أنا ضيف الله والنبي). وقولهم مساء: (عشاي عليك يا رب) وفي ليلة الجمعة: (ليلة الجمعة الفضيلة) وفي يوم الجمعة: (يوم الجمعة الفضيلة). وكان هناك متسول، تعود أن يمر بداري يومياُ، يقول:(توكلت على الله! لا الله إلا الله) وإني أسمع الآن متسولة تصيح: (عشاي عليك يا رب. من أيدي مؤمن كريم موحد بالله. يا أسيادي!). ويرد الناس
المتسولة عادة، إذ أنهم كثيرون بحيث لا يمكن المرء أن يعطي كل من يسأله، بقولهم:(الله يساعدك). (الله يرزق). (الله يعطيك). (الله يعينك). ولا يرضى السائل برفض لا يتضمن ما سبق ذكره أو ما يماثله. ومن المعتاد أن يرى المرء أشد الشوارع ازدحاماً سائلاً يطلب ثمن رغيف عيش يمسكه في يده بينما يتبعه بائع الخبز. ويتجول بعض السائلين ولا سيما الدراويش، وهم ينشدون قصائد في مدح النبي صلعم، أو يدقون الصنوج أو طبلة صغيرة. ويتجول الدرويش بين الريف للتسول. وقد رأيتهم يعتلون الجياد. كما شاهدت أخيراً أحدهم يتنقل بين الأكواخ على جواد يستجدي الخبز ويصحبه رجلان يحمل كل منهما بيرقاً، وثالث يقرع طبلاً
(يتبع)
عدلي طاهر نور
-
في ظلال النيل
أنس الوجود. . .!
يا شِراعاً عَبَر الْماضِي إلى وَادِي الُخُلودِ!
وَتَهاَدى في حِمَى فْرِعَونَ مَرفوُعَ البُنُودِ
وَمَضَى في مَوْكبِ الذّكْرى إلى دُنْيَا جُدُودي
مِلْ مَعَ الْمَوْجِ بِنَا. . . هَاهُنَا أنْسَ الْوُجُودِ!
هَيْكلٌ غنّى لهُ الدَّهرُ أناَشِيدَ الْجَلالِ!
وَبَناُه في ظِلَال الِّنيلِ أبنْاَء الَمَعالي
وَرَعاهُ الْمَجدُ فَوْقَ الأرْضِ عُنْوانَ المُحَالِ!
هَاهُناَ أغْفَتْ مَعَ الأمْوَاجِ أحْلَامُ الَّلَيالي!!
مَاَلتْ الَّشمْسُ عَلَى أعْتَابِهِ عِنْدَ الْغُروبِ!
وَسَجا الَّليْلُ فأصْغَيتُ إلَى هَمْسِ الْغُيُوبِ!!
مَوْكبٌ يخَتْاَل في عِزّتهِ مَجْدُ الشَّعُوبِ
وَرُؤى مِنْ فِتْنةِ الْوَادِي وَأحْلَامِ القُلُوبِ!
يَا خَيَالي عُدْ إلىَ مَاضٍ مِنْ الْمَجدِ تلَيدِ
وَاسْتمِعْ هَمْسَ الْمَعَالي مِنْ فمَ الأمْسِ البَعِيِد!
وامْضِ بيِ فِي رَكْبِ فِرْعَوْنَ أغَنِّى بِنشيدِي!
وأحَيِّى مَا بَنَاهُ في حَمِى النِّيلِ السَّعيدِ!
عُمُدٌ عَزَّتْ عَلَى الأرْضِ بأسْرَارِ السَّماءِ!
وسَقاهَا النِّيلُ مِنْ أمْوَاهِهِ مَعْنَى البَقاَءِ!
وَحَمْتهَا عَزْمَةُ الأْبَطالِ مِنْ شَرِ الْفَنَاءِ!
فَتَسَامَى في حِمَاهَا الْمَجْدُ خَفِّاقَ الِّلوَاءِ!
وَجَرَى في ظلِّهَا النِّيلُ نعَيمِاً وَسَلَاماً!
وَجَمالاً يَمْلأ الشَّطيْنِ حُباً وَهُيَامَاً!
الأَغَارِيدُ كُؤُوسٌ. . . وَالصَّناَديِدُ نَدَامَى!
فِتْنَةُ اَلْحِاضِرِ في الدُنْيَا وَمَعْبوُدُ الْقَداَمَى!
وَمَضَى يَنْسَابُ نَشْوَانَ بِخمْرٍ وَعَبيرِ!
منْ دُعاءِ الشَّعْبِ مَجْراهُ وَمِنْ لْحنِ البَشيِرِ!
فاحْتمَى في ظِلِّهِ الْمَكدُودُ مِنْ حَرِّ الْهَجِيرِ!
وَتلاقى مَجْدُناَ الأوَّلُ بِالْهَجْدِ الأخِيِر!!
يَا شِرَاعاً عَبَر الْماضِي إلى وَادِي الُخلُودِ!
وتَهَادَى في حِمَى فِرْعَوْنَ مرْفوُعَ البُنُودِ
وَمَضَى في مَوْكِبِ الذِّكْرِى إلى دُنْيَا جُدودِى
مِلْ مَعَ اْلَموْجِ بِناَ. . . هَاهَنَا أُنْسُ الْوُجُودِ!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان
البريد الأدبي
هل هو نوارد الخواطر؟
المنابع الثرة التي تفيض منها جداول التفكير البشري قاطبة هي في حقيقة الأمر واحدة؛ وهذه المنابع الفياضة هي هذه العواطف المشاعة بين بني الإنسان كافة من سرور وحزن وحب وبغض، وأمل وألم. الخ.
فهذه العواطف المشاعة بين كل الناس وهي التي تسيطر على اتجاهاتهم النفسية فتنعكس صورها على - مرايا - ما ينطقون وما يكتبون، والاختلاف والتمايز في الكتابة والمنطق إنما يجيئنا من بعد ذلك فهما ينتجان من طرق التعبير والتصوير، ومقدار استيعاب الفكر والقلم لما تلتقطه عدسة المخيلة من صور وأشباح وانطباعات وتأثرات. وفي هذا الميدان تتبارى فرسان الكلام، فيتقدم سابق، ويتأخر لاحق؛ وفي هذا المجال نتعرف بلاغة البليغ وإسفاف المسف ولون كل منهما. ذلك لأن لكل واحد منهم مشربه الخاص لا يشاركه فيه سواه وإن اتحدت الغايات والمعاني في أغلب الأحيان. وعلى هذا فإننا إذا وجدنا مقالتين أو قصيدتين اتحدتا في كل شيء في اللفظ والأسلوب والمعنى فيحق أن يستوقفنا هذا الاتحاد. لأنه إما أن يكون منشؤه من (توارد خواطر) نادر المثال. أو من هجوم أحد الكاتبين أو الشاعرين على نتاج زميله وهذا ما يدعى بالسرقة في اصطلاح أهل البيان
أثار هذه الخواطر سياحة عملتها في ديوانين حديثين هما (الملاح التائه) للأستاذ الشاعر المبدع علي محمود طه. و (نسمات الربيع) للأستاذ صالح الحامد العلوي
وبحق أقول، إن كلا الديوانين خصب ممتع للنفس والفكر، وكلا الشاعرين مجدد أو يحاول التجديد فيما هو بسبيله. وقد راقتني في أثناء (سياحتي) هذه قصيدة في أول الديوانين بعنوان (غرفة الشاعر) تبدت لي في جمالها الخاص واتساقها وروعة فنها كالروض الأغن باكره الغيث في أيام الربيع فابتسمت زهوره من فوق الغصون فتنة للناظرين
وقد تلوت هذه القصيدة مراراً فيما بيني وبين نفسي وأنشدتها تكراراً لبعض زملائي من الأدباء. وحازت من إعجابنا جميعاً ما جعلنا نبتاع الديوان الذي يضم (باقتها) العاطرة تقديراً لأريجها الفواح
ثم ماذا؟
ثم بعد أيام تناولت ديوان (النسمات) وسحت في رياضه وغياضه مستقبلاً عذب نسماته، فإذا بي أعثر فيه على قصيدة تماثل تلك التي اقتطفتها من روض (الملاح التائه، أو بحره. وهي تحمل عنواناً دانياً من عنوانها هو (صباح الشاعر، وتحمل معاني وأهدافاً ووزناً وألفاظاً مثلها. فأستوقف نظري هذا (التماثل) الغريب واحتار فكري أمام هذا - الاتحاد - المريب. فهل هو يا ترى من باب (توارد الخواطر أو يدخل في (الباب الآخر)؟
(مكة المكرمة)
عبد القدوس الأنصاري
أيها الشاعر استفق ذهب الليل
…
فقم ويك حي نور صباحك
الرسالة والورق
لِمَ يا أيامُ غيْبتِ الرسالةْ
…
مشرع الحق الذي أجرى زلالهْ
والربيعَ الطلق في إشراِقه
…
ناشراً في صفحةٍ الكون جمالهْ
والسنا اللماحَ في أنوارِه
…
ضربَ العِلم على أيدي الجهالهْ
(ورق الطبع) لئن غابت فمن
…
بعدها يحملُ أعباَء الرسالهْ؟
مصطفى علي عبد الرحمن
في العلاقة اللفظية بين اللغات
إن التشابه اللفظي بين بعض كلمات من لغات مختلفة، حقيقة قد تثير الدهشة لدى الكثيرين؛ ومن السهل والطريف معاً تتبع ذلك عند من يلم بأكثر من لغة واحدة. على أن التعليل لهذه الظاهرة يسير واضح يتلخص في أن الحروف التي تتحرك بها عضلات اللسان محدودة لا تتجاوز الثلاثين، في حين تتنوع لغات البشر وتتعدد، ويرتفع عدد الكلمات في بعضها إلى عشرات الألوف ومئاتها. فإذا قلنا نحن (نير) مشيرين إلى هذه الأداة التي توضع على عاتق الثور، قال الإنجليزي يعنون الداني أو القريب. . . وهكذا.
ويبدو لي أن عالمنا اللغوي الكبير الأستاذ (الأيوبي) يستقري أمثال هذه الكلمات الأعجمية - خلال بعض إجاباته - قاصداً ردها إلى أصل عربي قد لا يرتبط بها في شيء إلا أن
يشبهها في بعض الحروف.
ونحن مع شكرنا له على غرضه النبيل من هذا المجهود نقرر أن أصحاب كل لغة هم أدرى الناس بمنابع ألفاظها وأصول اشتقاقها. فذا قلنا للفرنسي إن كلمتكم مأخوذة من كلمتنا (سليط)، فأنكر وقال: بل هي مشتقة من بل هي مشتقة من كان من الواجب علينا أن نكذب أنفسنا ونصدقه، ما لم تكن حجتنا على هذا الأخذ قوية.
فكيف والظاهر يؤيده والتاريخ اللغوي يصدق زعمه؟!. . .
هل يريد أستاذنا الكبير أن يقول إن العربية أقرب إلى هذه اللغات من أصلها اللاتيني؟. . . ذلك ما لا نظنه.
وإننا حين نكتفي من المعجم الأوربي بقوله إن لفظة (كذا) مشتقة من الأصل اللاتيني أو اليوناني (كذا) يجب ألا نكتفي ممن ينسب هذا إلى العربية بغير الدليل التاريخي القاطع، ولا عبرة بالمشابهة اللفظية كما أوضحنا.
يضاف إلى هذا أننا نجد الألفاظ العربية الدخيلة في هذه اللغات منصوصاً عليها في معاجمها، مع ذكر خطوات اشتقاقها إن أمكن تتبعها، فلم يعد من حقنا بعد كل هذا أن ننسب إلى لغتنا لفظاً أجنبياً، ما لم تنص على ذلك معاجم القوم، أو يقم الدليل القاطع من عندنا على صحة نسبته إلى لغتنا. . .
ذلك رأيي الخاص في هذا الموضوع، وللأستاذ الكبير أن يؤيده أو يفنده. وأعود إلى إجابته الأخيرة عن (المقرونة) وما ذكره من أنها هي التي يقال لها اليوم مكرونة: إن هذا كلام يعوزه الدليل وتنقصه الحجة القاطعة. والذي تذكره المعاجم الموثوق بها، ويؤيده العقل أن هذه اللفظة الإنجليزية تحريف للاسم القديم الأخير مشتق من الفعل. يسحق أو يتيسر لنا أن نثبت وجود علاقة صحيحة بين المقرونة العربية وهل كانت المقرونة - وهي التي يقول الأستاذ إنها من طعام أهل الجاهلية - معروفة لدى الشرقيين بنفس الاسم، عندما اتصل بهم الإيطاليون، وبادلوهم منافع السلم وفواجع الحرب؟
ذلك ما نطالب أستاذنا الكبير بإثباته قبل التسليم له بوجهة نظره، وثمة شيء آخر أحب أن أذكره، وهو أن الإنجليز يطلقون اسم الشعر على نوع من النظم الفكاهي عندهم يتألف من مزيج من الألفاظ بعضها أوربي حديث وبعضها لاتيني قديم. وفي قاموسنا المحيط
للفيروزبادمي نجد ما نصه: والمقرون من أسباب الشعر ما اقترنت فيه ثلاث حركات بعدها ساكن، كمُتفا من متفاعلن وعلتُن من مفاعلتن) فهل الشعر (المكروني) عندهم منقول من شعرنا هذا المقرون؟! إن الأخذ بمجرد التشابه في اللفظ قد يدفعنا إلى إصدار ذلك الحكم؛ وما نشك أن السير في تلك السبيل ينتهي بنا إلى تسجيل مفارقات مضحكة لا نستسيغها إلا أن تجيء على سبيل الإضحاك ليس غير. أما أن نقصد بها الجد كل الجد، ونرمي بالنظر فيها إلى البحث العلمي الصحيح، فذلك أمر فيه نظر. وأي نظر
وفي انتظار (إجابة) أستاذنا (الوحيد) نتوجه إليه بعاطر التحية وأذكى السلام.
محمود عزت عرفة
تكريم كتاب تركيا
من أنباء استانبول أن معالي حسن علي يويل وزير المعارف التركية افتتح الاحتفالات بالعيد الخمسيني الذي أقيم في جامعة استانبول لتكريم كتابها الذين ظلوا 50 عاماً يسدون الخدمات الجليلة للأدب التركي
وقد بدأ معظم الكتاب المحتفل بهم حياتهم الأدبية رازحين تحت نير أسوا عصور العسف والجور أيام حكم السلطان عبد الحميد الذي كان يخاف ويخشى جميع ألوان التثقيف، ويقف سداً منيعاً في سبيلها. أما احتفال أمس فقد جرى في جو على نقيض ذلك العهد الغابر
وكان في طليعة المحتفل بهم الأساتذة حسين جاهد يالشين الكاتب والروائي الشهير وهلال زيا والشاعر محمد أمين
وقد ألقى الأستاذ حسين يالشين خطاباً أشار فيه إلى الأوقات العصيبة. ثم نصح الشباب بألا يصغوا إلا إلى صوت ضميرهم فقط وأفضى الأستاذ بعد انتهاء الاحتفال بحديث إلى وكالة الأنباء العربية قال فيه: (إن حوادث اليوم واحتفالاته لهي خير جزاء عن الخمسين عاماً التي قضيتها أميناً على خدمة مثلي العليا وضميري)
الوطن والوطنية
ألقى حضرة صاحب العزة الدكتور محمد صلاح الدين بك رئيس (لجنة ترقيه التمثيل والسينما) حديثاً من محطة الإذاعة اللاسلكية عن الوطن والوطنية بمناسبة تمثيل الفرقة
المصرية رواية (الوطن) للكاتب الفرنسي المعروف فكتوريان سارد وقد استهل حديثه القيم بأبيات حماسية من الشعر العربي في تمجيد الوطن وببعض الأحاديث النبوية والحكم النثرية. وقال إن الأدب شعراً ونثراً وكذلك القصة المسرحية تفيض بحوادث البطولة والتضحية في سبيل الوطن. ثم تحدث بعد ذلك عن رسالة الفرقة المصرية للتمثيل والسينما وواجبها نحو تثقيف الشعب وبسط موضوع رواية الوطن. واختتم حديثه قائلاً: (مثل هذه الرواية جديرة بالمشاهدة واستقصاء الحوادث. ولعل فيها اليوم مثلاً بليغ الدلالة على سمو النفوس التي تعاني البلاء في سبيل نصرة الحق والعدل وإعلاء كلمة الديمقراطية والحرية)
من شعر حافظ المنسي
ساق إلى القدر هذه القطعة الفكاهية النادرة من شعر المرحوم حافظ إبراهيم في صحيفة من مجلة قديمة قدم إلى فيها أحد الباعة بعض الحاجات، وهذه القطعة لم تنشر في الديوان القديم ولا في الجديد
واعتقد إن الدكتور مبارك ربما كان يعلم من يعرض به المرحوم حافظ في أبياته، وهذه هي الأبيات:
حدثونا بأن قرداً مُسِناً
…
لبس الخزُّ مرة واختالا
وأتى للطيور في يوم عيد
…
وهي من بهجة تفيض جمالا
قال إني أبو الجمال وثوبي
…
شاهد جل صدقه وتعالى
قالت الطير: أيها القرد مهلاً
…
أنت تبغي من الحياة محالا
كل ثوب إلى البلى ثم يبقى
…
جوهر النفس للعيون مثالا
أنت قرد وإن سرقت من الطا
…
ووس ذيلاه ومن حلاه جمالا
أحمد محمد حمد
الوطن
كانت الجيوش الأسبانية تحتل بلاد الفلمنك (بلجيكا وهولندا) حوالي عام 1567، وكان الدوق (ألب) نائب العاهل الأسباني لا يتورع هو وصحبه عن أن يذيق الأهلين كل أنواع التعذيب والموت والدمار؛ وكانت بروكسل عاصمة بلجيكا قد تحولت إلى معسكر لهم، وكان
الوطنيون والخارجون على الكنيسة الكاثوليكية يزجون في السجون. ولكن هذا التعذيب لم يفت في عضد الوطنيين، ولم يثن عزمهم عن الكفاح والتضحية في سبيل الوطن
هذا هو موضوع رواية الوطن التي ألفها الكاتب الفرنسي المعروف فكتوريان ساردو وترجمها وأخرجها الأستاذ زكي طليمات وقدمتها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى على مسرح دار الأوبرا الملكية في الأسبوع الماضي.
وقد أشترك في تمثيل هذه الرواية أقطاب التمثيل في الفرقة وفي مقدمتهم الأساتذة: حسين رياض، أحمد علام، زكي رستم. عبد العزيز خليل. عباس فارس. والسيدات: إحسان شريف وروحية خالد وغيرهم. وقام الممثلون جميعاً بأدوارهم على أكمل وجه ووفقوا كل التوفيق في أداء أدوارهم. وكأنما خلق كل منهم لتمثيل الدور الذي أسند إليه. وتلك غاية المقدرة فيما نرى
أما الإخراج فقد جاء آية بينة على مقدرة الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة وإنه لجدير بكل تقدير وإعجاب
ولا يسعنا بعد ما ذكرنا إلا أن نقدم أصدق التهاني إلى القائمين على أمر الفرقة المصرية وعلى رأسهم صاحب العزة الأستاذ محمد صلاح الدين بك، ونتمنى للفرقة نهضة مباركة وتقدماً مطرداً في عهدها الجديد
عبد الفتاح متولي غبن