المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 503 - بتاريخ: 22 - 02 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٠٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 503

- بتاريخ: 22 - 02 - 1943

ص: -1

‌نحو من النحو!

للأستاذ عباس محمود العقاد

(. . . نعلم ما كتبتموه، عن العلاقة بين كبرياء المتنبي وولعه بالتصغير في الهجاء، وإنه أكثر ما يُرى مصغراً حين يهجو مغيظاً مخنقاً أو يستخف متعالياً محتقراً كما يقول عن كويفير والخويدم والنويبية والأحيمق والأعيّر والشويعر وأهيل والزمان وأهيل العصر إلى آخر هذه الأمثلة التي أكثرتم من ضربها

وقلتم (أنه إذا لم يصغر المهجوّ باللفظ صغره بالمعنى، فكان أعداؤه اللئام عنده شيئا قليلا كما قال:

يؤذي القليل من اللئام بطبعه

من لا يقلكما يقل ويلؤم

وإنه قد يلعب بهذا الإحساس المائل في نفسه على الدوام لعب المرء بعادة مغروسة فيه فيتخذ منه نكتة نحوية كقوله

على ذكر ابني عضد الدولة:

وكان ابنا عدو كأثراه

له ياءي حروف أنيسيان

يريد أن يقول: إذا كاثر العدو عضد الدولة بابنين كابنيه فجعل الله ابني العدو كياءين تضافان إلى كلمة إنسان فتزيدانه في عدد الحروف وتنقصانه في القدر.

ثم قلتم: وهذا غير غريب من رجل شديد الإحساس بالصغر واعتاد التصغير باللفظ وعرف عنه إدمان الاطلاع على كتب النحو).

(وقد اطلعنا أخيراً على مقالة في مجلة الثقافة لبعضهم يقول فيها: إن هذا من طغيان النفسانيات على الأدب، وأن التصغير في شعر المتنبي لم يكن لتكبره وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب: أداة لصيقة بفن أدبي بذاته لا وليدة لطبيعة نفسية عند من يستخدمها، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير حتى ولا في شعر المتنبي نفسه لأنه قد يستخدمه للتعظيم كما قال:

أحاد أم سداس في أحاد

لييلتنا المنوطة بالتنادي

إلى آخر ما جاء في مقالة الثقافة.

فهل لكم أن تدلوا برأيكم في تعقيب الكاتب لأنه تفسير لرأيكم وفيه بيان لمسألة من مسائل

ص: 1

النفسيات والأدب؟. . . الخ)

محمد جابر

والذي نراه في التعقيب الذي أشار إليه الأديب أن استعمال التصغير للتعظيم لا يبطل استعماله للتحقير، وأن صيغة التصغير ليست أداة لصيقة بكل هجاء كما جاء في مقال الكاتب بمجلة الثقافة، فلا يزال استخدام المتنبي هذه الصيغة بتلك الكثرة التي لم تعهد في شعر غيره أمراً يرجع إلى خلائقه الشخصية ويرجع البحث فيه إلى النفسيات التي لا انفصال بينها وبين الأدب، لأن الأدب قبل كل شيء تعبير عن شعور، وليس أولى من النفسيات بالبحث في كل شعور.

فليست صيغة التصغير أداة لصيقة بالهجاء، ولم نرها قط بهذه الكثرة في أشعار الهجائين المنقطعين لهذا أو المشهورين به قبل سائر الأبواب.

والمتنبي لم يكن من شعراء الهجاء المشهورين به في اللغة العربية، وإنما اشتهر به شعراء آخرون كالحطيئة وجرير والفرزدق ودعبل وابن الرومي على التخصيص.

فلم لم يكثر التصغير في أشعار هؤلاء الهجاءين؟

ولم كان المتنبي منفرداً بهذا الإكثار؟

مرجع الأمر إليه لا إلى الهجاء، وأقرب شيء أن يخطر على البال أنه صبغ هجاءه بصبغته النفسية فأختلف من هذه الناحية لأنها هي ناحية الاختلاف بينه وبين غيره من الهجائيين

على أن الهجاء ضروب وليس ضرب واحد في اللغة العربية أو فيما عداها من اللغات

ومرجع الأمر في تعدد ضروبه إلى تعدد النفوس وتعدد الأمزجة وتعدد الشعور الذي يشعر به الهاجيِ نحو من يهجوه

فهناك هجاء الرجل الوضيع المهين

وهناك هجاء الرجل المتكبر العزيز

وهناك هجاء الرجل المهذب الشريف

وهناك هجاء الرجل المتوقح البذيء

وهناك هجاء التهكم والسخرية، وهجاء العنف واللدد، وهجاء النقد وهجاء الإيذاء

ص: 2

ومناط التفرقة بينها هو النفسيات وما تشمله من فوارق الحس والعاطفة، وليس المرجع فيها الى باب في علم النحو يتكلم على مواضع التصغير

وأعجب شي يقال هو أن المتنبي لم يستصغر المهجوين ولم يكثر من التصغير لأنه متكبر، بل أكثر منه لسبب أخر. . . ثم لا يدري أحد ما هو ذلك السبب آخر؟

لم يمتنع الاستصغار بسبب التكبر؟ ولم لا يكون التكبر سبباً للاستصغار؟ أي عجب في ذلك؟ بل أي مخالفة فيه للمعقول والمعهود! بل أي شي أقرب منه إلى الفهم والتعليل؟

أيمتنع هذا القول لأنه من النفسيات وكل ما كان من النفسيات فهو ممنوع غير مقبول؟

أيمتنع لأن قراراً مجهولاً لا نعرف نحن مصدره قضى بمنعه وتحريمه وإقصائه من عالم الفرض والتقدير؟

إننا لا ننفي أن المتنبي كان متكبراً مطبوعاً على الكبرياه، ولا ننفي أن التكبر مطبوع على أن يستصغر الناس، ولا ننفي أن صيغة التصغير تستعمل للتصغير والتحقير، فلماذا ننفي ولع المتنبي بالتصغير مرجعه إلى طبيعة الكبرياء فيه؟

لماذا؟ للنفسيات التي يسمع باسمها من يسمع فيظن أنها حجاب حائل بين المتنبي والاستصغار بصيغة التصغير؟

أما أن المتنبي قد أستعمل التصغير للتعظيم والتكبير، فهو إذا صح لا يمنع أن التصغير يستخدم أيضاً للتصغير، بل هو الأصل والتعظيم مجاز عارض عليه

يقول أحد إنني رأيت المليمات في أيدي الفقراء، فيجيء سامع بالنفسيات - أو قل سامع بالاقتصاديات - فيقول: كلا. كلا. هذا بعيد! هذا غير معقول! هذا إقحام للاقتصاديات في شئون الحس والعيان! لأنني رأيت بعيني المليمات في خزانة المصرف الكبير، وفي خزانة الغني العظيم!

نعم ظريف كذلك الكلام الذي يبطل باب التصغير للتصغير جملة واحدة لأن التصغير قد أستعمل حينا في معنى التكبير. . .!

على أن البيت الذي قيل إن المتنبي خالف به هذه السنة لا يدل بمعنى من معانيه على أنه قد نسى فيه الكبرياء أو نسى عادة الاستصغار

فهو يقول في وصف الليلة التي ضاق بها:

ص: 3

أحاد أم سداس في أحاد

ليلتنا المنوطة بالتنادي

ومن الميسور أن يلحظ القاري لهجة التأفف في تصغيره تلك الليلة المبرمة، كأنه يستكبر أن يعروه الضيق من ذلك الشيء الصغير، وإن لج به المطال

وهبه مع ذلك كان ينوي التعظيم والتقديس لتلك الليلة المبرمة ولا ينوي أن يتأفف منها ويستكثر عليها أن تبرمه وتثقل عليه، فهل كلمة في قصيدة واحدة تبطل عشرين كلمة في عشرين قصيدة!؟ وهل يحصل كل هذا لأجل خاطر (النفسيات) قدس الله سرها وبارك في عمرها!

ولقد كان كثيراً من كاتب المقال الذي أشار أليه الأديب صاحب الخطاب أن يزعم أن الحقير والتكبير في صيغة التصغير يتساويان، فأما أن يقول إن التحقير هو الممتنع الذي لا يقبل، وأن الاستصغار من جانب التكبر المطبوع على الكبرياء هو الغريب المريب فتلك نفسيات لله درها من نفسيات!! وفنون حماها الله من فنون!!

وما نشك في أن الأديب (محمد جابر) رجل يريد أن يضحك ولا يريد في الحقيقة تفسيراً لما هو غني عن التفسير؛ فإن لم يجد شبعه من الضحك في طراز تلك النفسيات ومعرض تلك الفنون فغاية ما عندي من القول أن المتنبي رحمة الله لم يشرفني بأمانة سره، ولم يطلعني على دخائل صدره، فإذا كان قد ذكر لبعضهم أنه لم يولع بالتصغير لقصد التصغير فهو وذمته فيما ادعاه، وللأديب عليه اليمين الحاسمة إن تردد في قبول دعواه!. أما نحن فغاية ما نعلمه أن المتنبي كان رجلا متكبرا، وأن المتكبر يستصغر الناس فلا عجب أن يولع بصيغة التصغير. وهذا حسبنا وحسب القاري فيما زعمناه

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌القوة الفردية هي أساس القوة الاجتماعية

(رسالة مهداة إلى معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير

الشؤون الاجتماعية)

للدكتور زكي مبارك

في العام الأسبق نشرتُ مقالات عن الفقراء والأغنياء تقوم على أساس القول بأن الفقر مرض ولكل مرض أسباب، وأن الغنى عافية ولكل عافية أسباب

وقد قوبلت تلك المقالات بالاستنكار من كل جانب، وعدّها الناس تحاملا على الفقراء، وتلطفاً مع الأغنياء، مع أني كتبتها لوجه الله والحق، ولم يكن هناك باعث غير الرغبة الصحيحة في عرض أراء قد اقتنعت بصحتها كل الاقتناع

ثم مرت شهور طوال وأنا أفكر في أسباب غضب الجمهور على تلك المقالات، فلم أجدها ترجع إلا لسبب واحد: هو مجاراة النزعة الموروثة في الترفق بالفقراء، والغض من أقدار الأغنياء، فقد مرّت أزمان والناس لا يقرأون غير كلمات معسولة في الدعوة الى الرأفة والرحمة والبر والحنان فيما يتصل بمعاملة الفقراء، وكلمات مسمومة في إنذار الأغنياء بعواقب الحرص على كنز الأموال

وأقول أن هذه الألوان الكلامية كانت تليق بزمان غير هذا الزمان، يوم كانت الكلمة اللطيفة تنفع الفقير بعض النفع لما فيها من المواساة، ويوم كانت الكلمة القاسية تصدُّ الغنيّ عن المبالغة في طلب الجاه والمال

أما اليوم فقد تغيرت مذاهب الحياة أشد التغير، ولم يبق للكلام المعسول أي قيمة في مواساة الفقراء، ولم يعد للكلام المسموم وزن في تقويم الأغنياء

نحن في زمن الحقائق، وليس للكاتب المرائي في هذا الزمن مكان.

نحن في زمن الحقائق، والحقائق تنطق بأن الفقر مرض، وأن الغنى عافية. والمريض الذي لا يبحث عن أسباب مرضه ليتجنبها هو مريض في طريق الموت

يجب أن نقنع كل فرد بأن الغنى طوع يديه إن أراد

يجب أن نقنع كل فرد بأن الوصول إلى الرزق ليس من المشكلات، فجهاد ساعتين اثنتين

ص: 5

من كل يوم يكفي للظفر بالزاد الذي يغني عن سؤال الناس

وميادين الحياة في كل أرض تتسع للعيش، العيش الذي يطلب بالعمل لا بالسؤال

إن الفقر هو انعدام الرزق، والغنى هو وجود الرزق

أقول هذا لأدفع وهما من أسخف الأوهام، وهو الوهم الذي يقول كاذباً بأن الأغنياء هم الذين يملكون القصور والبساتين، وأن الفقراء هم الذين لا يملكون قصوراً ولا بساتين

العامل الذي يكسب خمسة قروش في اليوم ليدخل على أهله في المساء ومعه القوت الحلال من الخبز والبصل والفول هو من كبار الأغنياء

والخادم الذي يصدُق في بيت مخدومه ويقدّم لأهله في كل شهر عشرات القروش هو من كبار الأغنياء

الغني الحق هو انعدام الاحتياج الى الصدقات، فما تجوز الصدقة إلى على من يحرم القدرة على الكسب الشريف

ومن قال غير هذا القول فهو كاتب يتملق المجتمع ويطمع في شهرة محرّمة، والشهرة كالرزق فيها حرام وحلال

إن التباكي أو البكاء لن ينفع الفقراء بشي، ولو جمعت دموع الباكين من الكتاب والشعراء والخطباء لكانت أقل من أن تملأ كوباً ينفع غلة فقير ظمآن

أدباؤنا لن يؤدوا رسالتهم الأجتماعية إلا يوم يستطيعون إقناع الكنّاس بأنه يؤدي مهمة وطنية

لو كان في مصر أدبٌ اجتماعيٌّ صادق لكان من ثماره أن يتغنى الكنّاس بفضل مكنسته وهي من أظهر شواهد المدنية

ولكن الكناس يجد من أدباء مصر من يبكي على مصيره بكاء التماسيح

الغبار يؤذي الرئتين فيورث السل

كذلك قال الأطباء

فهل سمعتم أن كناساً مات بالسل؟

إن الله يحمي الكناسين، لأنهم يؤدون خدمة عمومية، ولم يبقى إلا أن يفهم الكناسون هذا المعنى، ليدركوا أنهم جنود جندهم الوطن لخدمة الإنسانية

ص: 6

وقد طال تباكي الأدباء على الفلاحين، فهل في أدبائنا من يفهم أن الفلاحين في غنى عن تباكيهم المصطنع؟

قالوا أن الفلاح يبيت مع الجاموسة في حظيرة واحدة، وفاتهم أن المبيت مع الجاموس أطهر وأشرف من المبيت في غرفه مفروشة بأحد المنازل التي يعرفها المتأنقون من أدباء هذا الجيل الظريف!!

إن حياة الفلاح في صحبة مواشيه حياة تفيض بالروح والوجدان، فهو ينظر الى مواشيه برفق يعادل نظره إلى أبنائه الأعزاء، وهو يسهر حول حظيرة ثوره حين يمرض، كما يسهر حول فراش أبنه حين يمرض، وهو لا يسمح بذبح ماشية مريضة إلا طاعة لعقيدة توحي إليه أن من الإساءة للحيوان الأليف أن يموت موت (الفطيس) وكذلك تكون المسارعة الى ذبح الحيوان المريض باباً من التكريم، لا ضرباً من الاستغلال

على هذا النحو من الفهم كانت الحياة في الريف، فقد رأيت ناساً يسهرون ومعهم مصباح حول ثور مريض، كأنهم يتوهمون أن المصباح يؤنسه بعض الإيناس. وتلك صورة تشهد بصدق الفطرة المصرية في إدراك منافع الطير والحيوان

والذي يفهم الريف حق الفهم يدرك السبب في عبادة المصريين القدماء للأنعام، وهذه العبادة فهمت على غير وجهها الصحيح. فما كان الغرض أن يكون البقر آلهة يعبدون من دون الله؛ وأنما كان الغرض أن يكون تقديس البقر نوعاً من صيانة النعمة الربانية، على نحو ما يصنع الفلاح المسلم حين يترك فتات الخبز في الطريق، لأنه يرى من كفر النعمة أن تداس بقايا الخبز بالأقدام

إن البقرة والثور من العناصر الأصلية في الثروة المصرية، ومن أجل هذا المعنى كانت هاتور وكان أبيس من المعبودات في زمن الفراعين. وعن مصر أخذت عبادة البقر في الأقطار الهندية، وتلك وثنية تستحق العطف، إذا فكرنا في سببها الصحيح

وقد حدثني سعادة الأستاذ طه الراوي أن الحجاج كان يحرِّم ذبح البقر، وأنشد أبياتاً قالها العراقيون في السخرية من هذا التحريم، فعمن أخذ الحجاج ذلك البدع الظريف؟

هل أخذه عن مصر؟ هل أخذه عن الهند؟

لا هذا ولا ذاك، وإنما أستوحي المنافع الحقيقية للبقر في بناء العمران

ص: 7

ونحن في هذا العهد نسرف في أكل اللحوم إسرافاً يحمل الحكومة على تقييد بيع اللحوم، وإن تمادينا على هذا الحال فستزول المعاني الشعرية التي يحسها الفلاح في رعاية مواشيه، وسيمسي الفلاح وهو آلة في أيدي الجزارين!

فهل يجوز بعد هذا الكلام أن يتمادى الكتاب المتحذلقون في تعبير الفلاح بأنه ينام في حظائر الأبقار والجواميس؟

إن لله حكمة في أن يجعل لنا أصدقاء نافعين من الطير والحيوان، أصدقاء لا يطالبون بشي، ولا يثورون على الحرمان!

كان أحد ملوك فرنسا يقول إن الذي يهمني أن يعم الرخاء بحيث يجد كل فرنسي دجاجة لمائدة يوم الأحد. . . والرخاء عندي أن يكون في دار كل فلاح بقرة أو جاموسة، فمتى نذيع هذا المعنى بأقلامنا؟ ومتى نترك تعييره بمصاحبة المواشي؟

كانت بيوت المياسير من أهل القاهرة تشتمل على حظيرة للأنعام، وكان هذا يلاحظ في تخطيط البيوت، فهل ترجع هذه النزعة السليمة، ولو في البيوت التي تقام في الضواحي؟

وكان الفرن ملحوظاً في كل بيت، ثم تمدَّنا فكانت العاقبة أن ذمم الخبازين!

وكانت أكثر البيوت في القاهرة تنتظر زادها (الصابح) من خيرات الريف يوم كان للقاهريين صلات بالريف، وقد انقطعت تلك الصلات بفضل التمدن الحديث

أما بعد فأين أنا مما أريد؟

أنا أدعو الى تقوية الذاتية في كل فرد، والى تمجيد كل مهنة، والى احترام كل جهاد في سبيل الرزق الحلال.

أنا أدعو العمال الذين ينقلون الأحجار إلى الفرح برؤية المباني الشواهق، لأن لهم يداً في رفع البناء.

وأدعو الكناسين إلى الفرح برؤية الأصحاء، لأن لهم يداً في دفع ما يحمل الغبار من أوباء. وأدعو عمال المطابع إلى الفرح بنهضة مصر العلمية، لأن لهم يداً في إبراز نفائس المؤلفات

الحياة الطيبة هي الحياة التي يسودها الرضا والابتهاج، وفي مقدور كل فرد أن يحيا هذه الحياة، لو سكت الكتّاب المتحذلقون فلم يبغّضوا الحياة إلى الأحياء

ص: 8

هل تتوهمون أن السعادة لا تكون إلا من نصيب من يرتادون الملاهي أو يملكون البيوت والسيارات والفدادين؟

لو عرف الفلاح المجاهد في سبيل القوت أنه يغني أمته قبل أن يغتني لشعر بسعادة تفوق الوصف. ولو عرف الخادم أنه يساعد بأمانته على تجميل الحياة لأدرك أنه من السعداء

هل توجد في الدنيا مهنه حقيرة؟ لا، وأنما يجد في الدنيا حقراء، وهم الذين يريدون أكل الشي بلا جهاد.

ثم أما بعد فهذا درس في الأخلاق التي نرجو أن تسود في هذا الجيل وهو درس أوحته القصة الآتية:

كنت أسير في أحد البلاد ومعي رجلٌ متعلم له وظيفة ملحوظة في الريف، فرأينا جماعة من الفلاحين يجاهدون في نقل (عدّة وابور) مياه، فتنهد ذلك المعلم وقال: أنظر كيف يشقى الفلاحون!

ثم بالغ في التنهد إلى أن أخفت على عينيه من الدمع

عند ذلك قلت: ومن ينقل هذه (العدّة) إذا تخلى عنها هؤلاء الرجال الأشداء؟

فقال: هذه الحكومة تسمي نفسها حكومة الشعب، ومع ذلك لا تحمي هؤلاء المساكين من هذه الأثقال

فقلت: وهل ترى من واجب حكومة الشعب أن تحمي الشعب من الجهاد في سبيل الحياة؟

وطالت اللجاجة بيني وبين ذلك (المتعلم)، وانتهى الأمر بأن زاد اقتناعه بأني عدو الفلاحين

لو كان ذلك المتعلم من أرباب الأذواق لوجد في ذلك المنظر فرصة لنظم قصيدة يمجّد بها النشاط المصري، النشاط الموروث عن الآباء والأجداد، فالفلاحون المصريون هم أقوى الفلاحين في الدنيا بلا استثناء، ولو اشتركوا في مصارعة دولية لكانوا الفائزين.

ما العيب في أن يعاني الفلاحون عرق الجبين؟

وما العيب في أن لا يعرفوا غير الفؤوس والمحاريث؟

وما العيب في أن يكونوا شعثا لا زينة لهم غير كرم النفوس؟

هل تعرفون السعادة التي يشعر بها الفلاح وهو يوصي أهله بأن يوقظوه قبل الشروق ليدرك صلاة الصبح؟

ص: 9

هل تدركون فرح الفلاح بقدوم شهر الصيام؟

كان في مصر فِلاحه وكان فيها فلاحون، واليوم عرفت مصر أو عرف بعض كتابها أن حياة الفلاح بؤس في بؤس، وأن الواجب تنبيهه إلى ما خفي عليه من شقاء وعناء

أنا عدّو الفلاح، ولكن أي فلاح؟

أنا عدو الفلاح الذي يصدّق ما يسمع أو ما يقرأ في التهوين من شأن الريف

أنا عدو من يجهل نعمة الله عليه، والله قد أغدق نعمه على جميع الأحياء، فمتى نشكر الله على نعمه السوابغ؟ ومتى نعرف أننا لم نوفيه حقه من الثناء؟

زكي مبارك

ص: 10

‌السيدة سكينة بنت الحسين

للأستاذ سعيد الديوه جي

عصرها:

عاشت السيدة سُكينة في القرن الأول الهجري وهو القرن الذي تمخضت فيه (طيبة) بحوادث عظام وحروب كبرى وانقلاب في السياسة والدين والعلم والأدب والفن: منها شع نور الإسلام على العالم وأضاء سبل الهداية؛ ومنها خرجت جيوش الخلفاء الراشدين وفتحت الأمصار؛ وإليها جاءت الوفود تعرض إسلامها وولاءها؛ وفيها انصبت كنوز القياصرة والأكاسرة فأثرى أهلها بعد فقر ونعموا بعد شظف العيش.

فيها تطاحنت أحزاب قريش على الخلافة وفاز الحزب الأموي وخضع لهم الناس رغبة في عطائهم أو رهبة من سيوفهم. واقتضت سياسة الأمويين أن تقصر شباب قريش في مكة والمدينة وأن تغدق عليهم العطايا الكثيرة لتشغلهم في نعيم الدنيا ولذاتها وتبعدهم عن مناصب الحكم.

اجتمع في فتيان قريش الشباب والفراغ والجدة؛ فكان الهوى والأمل المنشود؛ وكان الغزل الإباحي العفيف، وكانت مجالس الأنس والطرب، وكان الصيد والقنص، وكانت حلقات الأدب تعقد في وادي العقيق ومنتزهات المدينة، وحول الغدران. وتحت النخيل. وحتى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فكنت ترى أبن أبي ربيعه قد جلس تحت أثيل العقيق وقد أجتمع حوله نسوة وهو يداعبهن وينشدهن أشعاره ويستمع إلى حديثهن، ويخالسهن النظرات. وهن يتوددن إليه فإذا ما وقعت إحداهن في عينه فقد قارن. ذلك لأنه سيتغزل بها ويشهرها في شعره الذي يقال في المدينة فلا يلبث أن يصل إلى خراسان. ومنيه كل فتاة أن تستميل هذا الشاعر أو غيره ممن نهج طريقته فتعده وتمنيه ليقول فيها شعراً. تباهي بها أترابها بأنها قد خلبت قلبه وملكت هواه. وحتى الأميرات وبنات الطبقة الأرستقراطية فأنهن كن يبذلن الأموال لمن يأتيهن بشعر قاله أحد الشعراء فيهن. وكان الشعراء أنفسهم يتغزلون بكل شريفة أو أميرة لا يريدون بذلك إثما ولا نكراً وإنما يذهبون مذهب المدح والدعابة. وقد حجت بنت لعبد الملك بن مروان ورغبت ان يقول فيها ابن أبي ربيعة شعراً، ورغب هو كذلك ولكنه خشي بطش

ص: 11

الحجاج. ولما همت بالرجوع قالت (قدمنا مكة فأقمنا شهراً فما اّ ستطاع ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتاً نلهو بها في سفرنا هذا) وبلغ عمر ذلك فقال قصيدته التي أولها:

راع الفؤادَ تفرقُ الأحباب

يوم الرحيل فهاج لي أطرابي

ولما حملت إليها أعطت لحاملها في كل بيت عشرة دنانير.

وهذا الغزل الإباحي العفيف انتشر في الحجاز وخاصة في المدينة فترنم به الشبان. وغنت به القيان. وأنشده الكهول. واهتز له الشيوخ والزهاد. فابن عباس وهو من نعلم علمه وزهده وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع من ابن أبي ربيعه شعره في المسجد الحرام ويهتز له.

وساعد هذا الترف على ظهور الغناء في المدينة وانتشاره بين معظم الشعب، فكانت المدينة مهد الغناء، لأن الحياة المرحة التي كان يحياها أهل المدينة تستدعي اللهو والطرب. ووجد بالمدينة في هذا العصر عشرات المغنين والمغنيات من الذين برعوا في هذه الصناعة وتفننوا في ألحانهم، وأحدثوا ألحانا جديدة لم تكن معلومة عند العرب، كما اّستعملوا آلات الطرب والمعازف كالعود والبربط والقضيب والمزهر والدف. وكانت المغنية (جميلة) تعلم الفتيات هذا الفن ودارها أشبه ما يكون بمدرسة فنون يتخرج منها عشاق الفن والطرب.

ونرى فقهاء المدينة يتساهلون في تحليل الغناء بعكس فقهاء الشام والعراق. ولم يبق منهم شريف ولادنىء يتحاشى عنه حتى الصحابة والزهاد كان يعجبهم الغناء ويهتزون له. كان حسان بن ثابت إذا سمع عزة الميلاء يبكي. وكان أبو السائب المخزومي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان مع هذا ينحرف عن محرابه ويسمع غناء ابن سريج ثم يعود لصلاته. وهذا عطاء ابن أبي رباح الذي هو من أعلم أهل المدينة وأزهدهم كان يسمع الغناء ويهتز له. وقد حُكِّم بين الغريض وابن سُرَيجْ فحكم للثاني. ومر بالأوقص المخزومي قاضي المدينة سكران وهو يتغنى بليل فأشرف عليه وقال:(يا هذا أتيت حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ. خذه عني) وأصلح له الغناء.

وظرف عباد أهل الحجاز مما يضرب به المثل، وكانوا لا يرون في الحب بأساً إذا لم تكن فيه ريبة. وبلغ من ظرفهم أن أبا السائب المخزومي تعلق يوماً بأستار الكعبة وأخذ يقول:

اللهم اّرحم العاشقين واعطف عليهم قلوب المعشوقين بالرأفة والرحمة عليهم يا أرحم

ص: 12

الراحمين). فقال له رجل: يا أبا السائب أفي المقام تقول هذا المقال؟ فقال له: (إليك عني! الدعاء لهم أفضل من حجة بعمرة).

بجانب هذا كله نجد في المدينة حركة علمية قوية لا نجدها في غيرها من البلدان. ذلك لأنها مهبط الوحي الثاني بها نزل التشريع وبها عقدت مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثر الصحابة الكرام الإقامة بها. وقام فيها العبادلة وأحبار هذه الأمة من الصحابة والتابعين - فلا عجب إذا رأينا المدينة تصبح قبلة العلماء ومحط طلاب الفقه والتفسير والحديث والمغازي. فما من فقيه أو محدث أو طالب للأجناد إلا ونراه يقصد مدينة الرسول الأعظم ليتصل بصحابته وينال بغيته.

وإذا ما دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هالك ما تجده من الحلقات المنتشرة في فنائه الواسع. هذه هي حلقة قد تصدرها أحد الصحابة الكرام يشرح للناس ما سمعه عن الرسول، ويفسر لهم آي الذكر الحكيم. وهناك حلقة أخرى توسطها أحد الذين اّشتركوا في فتح العراق وهو يقص عليهم أيام القادسية ونهاوند وما أفاضه الله على عباده المؤمنين من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ونعمة. وهكذا قل عن بقية الحلقات فزخرت المدينة بفقهاء ورواة الحديث وطلاب السير والمغازي

وتمتعت المرأة الحجازية بحرية واسعة في هذا العصر: شاركت الرجل في الحفلات العامة

والحلقات العلمية والأدبية وحضرت مجالس الأنس والطرب وارتادت منتزهات المدينة. ومنهن من أضرت بهن هذه الحرية فأسأن استعمالها وأسفقن وتبذلن، بل فُقن الرجال في الخلاعة والمجون. يتمثل لنا هذا في وادي العقيق وحلقات المغنين ومجالس المخنثين واّجتماعات الشعراء. حتى أن بعضهن شاركن الرجل في التغتي وركوب الخيل (فقد كانت أم سعيد الإسلمية وبنت ليحيى بن الحكم بن أبي العاص من أمجن النساء، كانتا تخرجان فتركبان الفرسين فتستبقان عليها حتى تبدو خلاخليهن).

على أنه ظهر فتيات من الطبقة الأرستقراطية مثلن الفضيلة والعفاف والشرف بأجلى مظاهرها. يتجلى لنا هذا في السيدات سكينة بنت الحسين وعقيلة بنت عقيل بن أبي طالب وعائشة بنت طلحة وغيرهن كثير.

فسكينة بنت الحسين كانت المثل الأعلى في العفاف والنبل والشرف والحشمة والوقار

ص: 13

يحضر ببابها الشعراء والفقهاء ورواة الحديث والعلماء والزهاد حتى المغنون والمضحكون، فتأذن لمن تشاء منهم فيدخلون صالتها المعدة للاستقبال وتعقد مجالس العلم والأدب في دارها وتشارك هي في تلك المجالس من وراء ستار. وقلما كان يخلو دارها من شعراء يطلبون صلتها، أو رواة يحتكمون إليها، أو علماء يتجادلون بحضرتها، أو فقهاء يأخذون عنها. أو أشعب يضحكها أو مغني يطربها. وهكذا شاركت الشعب في أفراحه وأتراحه وترفعت عن تبذله وخلاعته.

في هذا العصر الحافل بحسناته وسيئاته تألق نجم السيدة سكينة في عالم العلم والأدب والفن.

سعيد الديوة جي

بالموصل

ص: 14

‌حركة الإصلاح وحديث عيسى بن هشام

للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم

نشرت لي الرسالة الغراء كلمة في (حديث عيسى بن هشام) تناولت فيها أسلوبه ومنزلته القصصية، ثم بدا لي رأي في هذا الكتاب آثرت أن أكتبه، علّ الطلبة المتسابقين يجدون فيه قبل الامتحان ما يهديهم إلى فهم المقصود من الكتاب.

حركة الإصلاح

استطاع الغربيون في القرن التاسع عشر أن يثبتوا أقدامهم في أقطار المشرق: يبسطون سلطانهم السياسي في كثير منها ويتذرعون في بعضها بالتبشير وإنشاء المدارس ويعالجون التجارة في أقطار أخرى. وقد حملوا إلى كل هذه الأقطار فيما حملوا ألواناً من العادات والتقاليد والأخلاق وضروباُ من المدنية والحضارة لم يشهدها الشرق من قبل. فانقسم الشرقيون حيال هذا الجديد الطارئ فريقين: فريقاً يتحفظ ويتصون ويرى الوقوف عند القديم الذي شوهته العصور المظلمة واذهب بهاءه الجمود الطويل، وفريقاً آخر قد فتنته المدنية الغربية وما فيها، فاندفع في تيارها على غير هدى وبصيرة فأصاب منها ما لا يغني ولا يفيد وأساء إلى تقاليده وأخلاقه

رأى المصلحون هذه الحال فلم يعجبهم هذا الجمود المزري ولم يرقهم هذا الاندفاع المقيت فقاموا بحركة للإصلاح، قوامها التجديد في حدود المعقول الذي لا يتنافى مع روح الدين ومبادئه وأصوله وغاياته، والوقوف في وجه الفوضى التي أوشكت أن تقضي على كل قديم جميل. وكان أول مجاهر بهذا الإصلاح زعيم الشرق السيد جمال الدين الافغاني، فقد دعا إلى مبادئه في بلاده والهند والحجاز وتركيا، ووصل إلى مصر عام سنة 1871 مبيناً منهاجه الإصلاحي فلاقى من المفكرين قبولاً، ورأوا فيه المنقذ للشرق والهادي إلى طريق الصواب

رأوا في آرائه ثورة على العلماء الجامدين الذين أساءوا إلى الدين بجمودهم حتى جعلوه في معزل عن الحياة العامة، وثورة سياسية تدعوا إلى إشراك الشعب في الحكم إشراكاً يظهر أثره، وثورة أخرى تنتظم نواحي الأخلاق والاجتماع والأدب؛ فقد دعا إلى الاقتداء بالسلف في أخلاقهم ومبادئهم، وأراد من الأدب العربي أن يكون أداة لنشر الأفكار والعلوم لا ألفاظاً

ص: 15

جوفاء تقوم على الزخارف اللفظية والحُلَي الكلامية ولا تحمل من المعاني قليلاً ولا كثيراً. ولم تلبث هذه المبادئ السامية أن وجدت من المصريين أعواناً عرفوا قدرها وأذاعوا بها: فكان منهم المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصلح الديني الكبير. وكان منهم من جاهر بالدعوة السياسية في كتابته وشعره وطالب بالدستور، وتألفت جماعات لبعث الكتب القديمة، وكان من هذه الجماعات جماعة تألفت سنة 1898، وكان من أعضائها حسن باشا عاصم، وأحمد بك تيمور، وعلي بك بهجت، وغيرهم. وإنما فعلوا ذلك ليُطْلعوا المتأدبين على طراز قوى من الأدب يغنيهم عن تقليب النظر في الضعيف الساقط من المنثور والمنظوم. وقام دعاة الإصلاح الاجتماعي ممن ثَقِفوا مبادئ جمال الدين يعلنون آراءهم للناس في صدق ويقين

حديث عيسى بن هشام

كان لرجال الإصلاح الديني كالشيخ محمد عبده ومن سار على طريقة آراء نافذة في الإصلاح الاجتماعي ظهرت في كتابتهم ودعوتهم، إلا أن رسالتهم الدينية شغلتهم بعض الشيء عن التفرغ لنواحي المجتمع فنهض بها غيرهم نهضة قوية وكان منهم محمد المويلحي في كتابه (حديث عيسى بن هشام)

ولم يقتصر المويلحي على المجتمع والأخلاق بل تناول أموراً أخرى تتصل بهما وتؤثر فيهما تأثيراً كبيراً أو قليلاً وهي السياسة والدين والأدب ولكنه لم يمعن في هذه النواحي لأنه يعلم أن لها رجالاً يقومون بها.

وبعد فهل سرى روح جمال الدين إلى المويلحي وهل أثر فيه التأثير الذي جعله يتجه هذا الاتجاه؟!

لقد كان جمال الدين مدرسة تخرج فيها كل من شهد الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وكان محمد المويلحي من هؤلاء ولعلك تستطيع أن تدرك هذا الارتباط المتين من رسالة. (جمال الدين) في صدر (حديث عيسى بن هاشم) فقد وافق ما بهذا الكتاب مبادئ جمال الدين التي يدعوا إليها وأصابت كتابات المويلحي هوى في نفسه فقرظه هذا التقريظ البليغ.

ونحن إذا تلمسنا هذا الارتباط في كتابة المويلحي وجدناه بيناً ظاهراً، فهو يرى أن فساد المجتمع راجع إلى تقليد المصريين للأجانب تقليداً أعمى وتهالكهم على التظاهر بمظاهر

ص: 16

الغرب، ويقول إنهم قد أساءوا إلى أخلاقهم وعاداتهم ونظمهم حين لجئوا إلى هذا التقليد:

1 -

ذلك لأنهم استُّنوا بهذا التقليد سُنَناً جديدة ضارة لم تكن معروفة من قبل في مصر كالانتحار.

2 -

وهم كذلك أساءوا التقليد فنقلوا عن الغرب مفاسد قد قيدها الغرب بقيود فجعلوها هم مباحة لا قيد فيها ولا شرط كالقمار والبغاء والخمور.

3 -

وهم تعلقوا بالمظاهر الكاذبة في التقليد، وتركوا المهم من مدنية الغربيين. وفي هذا يقول:(فأصبحوا في الظلال يعمهون وفي البهتان يتسكعون، واكتفوا بهذا الطلاء الزائل من المدنية الغربية)

4 -

ولقد كان هذا التقليد سبباً في تركهم العادات الكريمة المتوارثة عن الأجداد والأسلاف فهو يقول: (ونبذوا ما كان عليه أسلافهم من الحق ظهرياً، فانهدم الأساس ووهت الأركان وانقضّ البنيان وتقطعت بهم الأسباب فأصبحوا في الضلال يعمهون وفي البهتان يتسكعون)

5 -

على أن هذا النقل كان مخالفاً لطبيعة البيئات والأجناس فإن ما يصلح للغرب قد لا يصلح للشرق، وما يراه الغربيين أمراً مألوفاً نراه نحن أمراً منكراً لتقاليدنا وأمزجتنا وما توارثناه عن السلف من عادات وآداب، والمويلحي يضرب لذلك مثلاً التمثيل المنقول عن الغرب برمته وأشخاصه وأصوله:(ولن تخلوا قصة من قصصهم التي يمثلونها عن ذكر العشق والغرام وما من رواية لهم إلا والعاشقان يكونان فيها كالفاتحة والخاتمة لها، وهو وإن كان مقبولاً عند الغربيين مسموحاً به لموافقة العادة عندهم، ولكونه شيئاً لا عيب فيه يجهر به فتيانهم وفتياتهم بل هو أصل من أصول التزاوج بينهم قضت به رطوبة الإقليم وطبيعة الحال إلى ما يهيج الشعور ويثير ثائرة الخيال لكنه غير مقبول عند الشرقيين ولا مسموح به في عاداتهم. . .)

هذه هي الأسباب التي يعزو إليها المويلحي فساد المجتمع والأخلاق وهي كما ترى ما أشار إليه جمال الدين وتردد على ألسنة المصلحين. ولم يبق بعد هذا إلا أن نشير إلى الإصلاح الأدبي والديني في كتاب (حديث عيسى بن هشام) ليتضح للقارئ الارتباط المتين بين دعوة جمال الدين ودعوة المويلحي.

لم يكن المويلحي من علماء الدين وإنما كان من الأدباء المصلحين الذين وجهوا أكبر

ص: 17

جهودهم إلى المجتمع والأخلاق، فهو إذا كتب في الدين كتب ليحارب الجمود دون تعمُّق في التفصيلات؛ وهو إذا انتقد العلماء أراد من وراء هذا النقد توجيههم إلى الاشتراك في الحياة العامة ليتحقق صلاح المجتمع والأخلاق.

فهو يرمي في كتابه طوائف من الناس بالاستهتار وضعف العقيدة فيقول على لسان حفيد الباشا (لست أسمع لهذا الكذب والخرف وليس لي اليوم من جد ولا والد، ولا أنا ممن يصدِّق حديث البعث في الآخرة فكيف برجوع الموتى في الدنيا)

أما الخرافات التي علقت بالأذهان فهو يلم بها إلماماً في سياق حديثه عن كبراء العصر الماضي. وقد جلس أحد العلماء إلى السيد عبد القادر الكيلاني إحياء الغريق كما ينسب إليه أن الله قد وعده بأن من ينظر إليه يوم الجمعة يكون ولياً مقرباً، وإذا نظر إلى التراب يكون ذهباً إلى آخر ما ورد في هذه القصة. ونحن نعلم علم اليقين أن المويلحي قصد بهذه القصة إظهار ما ران على الدين وأصوله ومبادئه من خرافات يجب الإقلاع عنها والبعد عن التعلق بأمثالها لأنها تبعد عن روح الدين ورسالته

وهو يرجو من الدين أن يصلح لكل حياة وأن يكون دافعاً إلى إصلاح المجتمع وعاملاً من عوامل الخير والسيادة الإنسانية، فإن أقتصر الدين على النسك والعبادة، واتكل الناس على أعمالهم التعبدية التي يقومون بها غافلين عن فعل الخير وتقديم المعونة للبشر كان آلياً لا خير فيه لصلاح الناس. وفي الكتاب ما يشير إلى ذلك على لسان الباشا فهو يقول:(وقد غرتني في دنياي من مثل هذا الشيخ ما يهوِّن عليّ ارتكاب المخزيات وفضائح الشرور في معاملة الناس ارتكاناً على نهار أصومه وليل أقومه. . . فنمت عن عمل الخير وغفلت عن بذل المعروف)

فلعلك تدرك بعد هذا أن المويلحي له دعوة دينية قوامها التمشي مع المدنية والبعد عن الخرافات وخدمة الإنسانية. وهذه الدعوة هي غاية جمال الدين، وهي ما قام به الشيخ محمد عبده

أما الأدب فإن المويلحي يرى أنه لا يرتقي ولا تسمو عبارته ولا تجود معانيه إلا إذا اتصل الأدباء بالتراث العربي القديم يقلبون في عباراته البليغة وأساليبه الرصينة. ويرى أنه لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بنشر الكتب وطبعها حتى تكون في متناول الناس جميعاً، ويعجب

ص: 18

من بقاء الكتب المخطوطة في المكتبة العامة بعيدة عن أيدي الناس قائلاً إن هذا يعرضها للتلف ويفوت الغرض منها ويجعل النفع بها محدوداً؛ وهو يشتط في هذا الرأي فيقول: (أي نفع وفائدة للأمة المصرية الإسلامية في أن تنشر بين يديها رمم الفراعنة في الأنتكخانة، وتقبر أرواح العلماء والحكماء في الكتبخانة). وهذا الكلام وإن أجراه المويلحي على لسان أحد الأشخاص إلا أن المتتبع لكلامه في هذا الصدد يعلم إيمانه بها الكلام

ولم ينس المويلحي الثقافة الحديثة وأثرها في الأديب فهو يقول في عزلة الباشا عن الناس: (وعكفت مع الباشا في عزلتنا أذهب به كل مذهب، وأنتقل به من مطلب إلى مطلب في مطالعة الأشعار والكتب من تاريخ وأدب ومن حكم متينة قويمة وشتى علوم حديثة وقديمة)

وغاية المويلحي من كل هذا أن يتصل الأدباء بالأدب العربي القديم لأنه منبع لكل بارع وفاخر من الأساليب، وأن ينالوا من الثقافة الحديثة حظاً كبيراً لأنهم في حاجة إلى هذه الثقافة التي تمدهم بالأفكار والمعاني؛ ثم هو لا يعجبه رصف الألفاظ الجوفاء التي لا تحمل معنى قيماً. ولذلك ساق في حفلة العرس خطبة وقصيدة ليبين نوعاً من الأدب التافه شعره ونثره. وقد عقب عليهما ساخراً بقوله: (ثم انتهينا بحمد الله من الشاعر بعد الخطيب

وهذه الدعوة الأدبية هي دعوة جمال الدين ومن سار على نهجه من بعده. وقد استطاع المويلحي بلباقته الأدبية القصصية أن يضمن كتابه هذه النواحي الإصلاحية في أسلوب شائق جذاب يستهوي الناس. ولم ينس أن يذكر ما كان لدعاة الإصلاح وزعماء النهضة من فضل عليه فهو يقول في إهداء كتابه: (وأهديه إلى أرواح المرحومين الأديب الوالد، والحكيم جمال الدين، والعالم محمد عبده، واللغوي الشنقيطي، والشاعر البارودي. . . أولئك الذين أنعم الله عليهم وأولئك الذين تأدبت تأدبهم وأخذت عنهم)

(الفيوم)

أحمد أبو إبراهيم

ص: 19

‌رسالة الجاحظ في مناقب الترك وعامة جند الخلافة

للأستاذ محمود عزت عرفه

الجاحظ أمة في الأدب وحده، وعالم محقق لا يسبر له غور أو يدرك لاتساع فطنته مدى. وهو إلى جانب موسوعاته التي كشفت عن غزارة ذهنه ورحابة عقله، قد ترك لنا مجموعة رسائل يمكن أن نعدها في باب الموجزات بالقياس إلى تصانيفه التي يطول فيها استطراده وتتسع منادح تفكيره

ولكن إيجازه في هذه الرسائل غير مقصر بها ولا مخلّ؛ إذ تعالج كل منها موضوعاً قائماً بنفسه في إحاطة لا تترك وراءها فراغاً أو نقصاً، واستيعاب لا صغير ولا كبير إلا أحصاها. ومن هذه الرسائل رسالة عنوانها: في مناقب الترك وعامة جند الخلافة

وإنها لآية من آيات الجاحظ؛ تقفنا من تفكيره على صورة جميلة، وترسم لنا خطوطاً واضحة المعالم لبعض وجوه تصرفه في الكتابة والتصنيف.

وهو يبدو في هذه الرسالة عظيم الاحتفاء بشئون السياسة على عهده، قوَّي المساهمة، بقلمه وبذهنه، في خدمة قضية يراها جديرة بأن يعمل لها ويسعى في سبيلها.

وقد بعث الجاحظ بهذه الرسالة إلى الفتح بن خاقان صاحب المتوكل ونديمه المصطفى في حياته، والذي قاسمه مصرعه الرهيب فيما بعد على يد المنتصر ابنه وولي عهده. . .

على أن الرسالة لم تكتب في ذلك العهد، وإنما كتبت أيام المعتصم ثامن خلفاء بني العباس؛ ولم يتهيأ للجاحظ أن يبلغها إليه فبقيت حبيسة طيلة عهده، ثم مدة الواثق من بعده، حتى تهيأ له الظهور أخيراُ في أيام المتوكل. والجاحظ نفيه يشير إلى هذه الحقيقة كما سنرى ذلك فيما بعد. ولكن الذي يعنينا الآن هو التحقق من بواعث تحرير هذه الرسالة، ثم النظر في أسباب احتباسها طيلة هذه الفترة حتى ظهرت في عهد المتوكل. وما من ريب في أنه كان للعوامل السياسية أثر قوي في كل هذا فما الذي دفع الجاحظ أولاً إلى كتابة هذه الرسالة؟

لقد تولى المعتصم الخلافة بعد أخيه المأمون، وكان مثله ممن يقدر النبوغ ويحتفل بالمواهب حيث ظهرت، فانفسح مجال التفوق في دولته أمام العناصر غير العربية. على أن نزعة المأمون كانت علمية كما هو معروف؛ أما المعتصم فكان شجاعاُ باسلاً رب سيف ورمح، لا قلم ولا كتاب. كان (الحليفة الأمي) كما وصف نفسه في كثير من الصدق، ولكنه تفرد إلى

ص: 20

جانب ذلك بصفات سامية في البأس والشجاعة؛ فكانفارس بني العباس المعلم، وأضرب رجال دولتهم في البطولة بسهم

ولقد استكثر من غلمان الأتراك في جيشه ليتقوى بهم على الخراسانية الذين نهضت على أكتافهم دولة المأمون، واستقدم كثيراً من أبناء فرغانة وأشر وسنة ليستعز ببأسهم على من كانت تموج بهم بغداد من مختلف طوائف الجند بين عرب وأبناء وموال وخراسانيين

وما نشك في أن الجاحظ كتب رسالته على هذا العهد متشيعاً بذلك للخليفة وحزبه. ولقد كان الجاحظ أديباً موهوباً محظوظاً، وقل في الأدباء من يجمع بين هاتين الفضيلتين. كان يحب أن يستفيد، ثم هو يعرف كيف يستفيد؛ ولكن تطور الأمور ألجأه - برغمه - إلى أن يحبس رسالته حتى حين، إذا كان التنافس قد اشتد وقتئذ بين هذه الطوائف المختلفة في أجناسها وجبلاّتها، المتباينة في أطماعها وفي أهوائها. وتطورت الحال إلى أكثر من هذا؛ إلى اصطدام دموي عنيف، وفتنة هوجاء جامحة، حيكت فيها الدسائس الخفية والظاهرة، ودبرت الاغتيالات المحقة والمبطلة، فطاحت رؤوس، وأهدرت دماء، وهاجت أوشاب من العامة بإيعاز من رؤساء الأجناد، وائتمرت الطوائف جميعاً بالأتراك الذين خصهم الخليفة بإيثاره، وبوأهم رفيع المناصب في دواوين حكومته وثكنات عسكره

وينبغي هنا أن نشير إلى بعض الوقائع الثابتة لنمثل الحالة التي سادت البلاد في ذلك العهد تمثيلاً أقرب إلى الوضوح:

1 -

كان الأفشين من أشهر قواد المعتصم الأتراك، وقد أبلى البلاء الأعظم في الحروب التي اشترك فيها دفاعاً عن حوزة الخلافة، وبسطاً لسلطان الدولة في عصري المأمون والمعتصم. ولكنه لم يكن مع ذلك خالي النفس من كراهية العرب، والتسخّمط على منافسيه من أفرادهم وأعيانهم. ولقد كان حسده للقائد العربي أبي دُلف (القاسم بن العجلي) أمراً مشهوراً؛ حتى لأشهد عليه مرة بجناية وقتل، وأزمع أن يقتص منه، لولا أن بادر أحمد أبي دُوَاد كاتب المعتصم ومشيره فأدركه قبل نفوذ الأمر فيه؛ وأنذر الأفشين أن يصيبه بسوء، ثم رفع القصة إلى الخليفة، فاستحسن صنيعه في المبادرة بإنقاذ أبي دلف، وعنف الأفشين على ما قد وطد العزم عليه. . . ولم يلبث هذا القائد - وهو من هو ضراوة وسوءَ معتقَد - أن حاول الاستقلال بمسقط رأسه أشر وسنة، فانكشف أمره على يد عبد الله بن طاهر

ص: 21

الأمير العربي في خراسان وكان في ذلك مهلكه ونهايته. ونذكر هنا بعض ما قاله أبو تمام من قصيدة يسجل فيها احتراق الأفشين وصلبه:

ما كان لولا قبح غدرة (حيْدر)

ليكون في الإسلام عامُ (فجار)

ما زال سر الكفر بين ضلوعه

حتى اصطلى سر الزناد الواري

ناراً يساور جسمه من حرها

لهب كما عصفرَت شِق إزار

مشبوبة رُفعت لأعظم مشرك

ما كان يرفع ضوءها للساري

صلى لها حيّاً وكان وقودَها

ميتاً، ويدخلها مع الفجار

2 -

كان عجيف بن عنبسة من قواد الأتراك الناقمين على المعتصم بعض تصرفه - ورضى الناس جميعاً غاية لا تدرك - وكان قد صحبه في حصار عمورية (عام 223هـ). وهناك أوغر صدر العباس بن المأمون حتى أطمعه في قتل عمه. ودخل معه في ذلك جماعة ممن انطوت نفوسهم على الكيد للمعتصم وترُّبص الشرِّ به. ولكن الخليفة اطلع على سر هذا التدبير، فقتل عجيفاً ومن مالأه؛ وحبس العباس ابن أخيه حتى مات من وطأة الضر وفرط الأذى. . .

3 -

ومن تدابير الكيد في ذلك العهد ما أوغر به القوم صدر المعتصم على خالد بن يزيد الشيباني أحد ولاته من العرب حتى أزاله عن ولايته وطالبه بأموال جسيمة؛ فلم يجد من يشد أزره في هذه المحنة إلا أحمد بن أبي دواد الذي شفع له عند المعتصم حتى عفا عنه، وخلع عليه وأعفاه مما كان قد أمره به من الخروج منتفياً إلى الحجاز.

وفي هذا يقول أبو تمام أيضاً من قصيدة يمدح بها خالداً ويهنئه:

وغدت بطون منىً مُعنى من سيْبه

وغدت حِراً منه ظهور حِراء

وتعرَّفتْ عرفاتُ زاخره ولم

يُخصَص كَداءٌ منه بالإكداء

ولطاب مرتَبعٌ بطيبةَ واكتستْ

بُردْين: بردَ ثرىً وبرد ثراء

لا يُحرَمِ الحرمان خيراً! إنهم

حُرِموا به نوءا من الأنواء. . .

تعد هذه الحوادث - وغيرها كثيراً - من عوامل نشوب الفتنة التي أشرنا إليها آنفاً؛ لأن هذا التحرش بين الترك من ناحية، والعرب والخراسانيين وسائر الموتورين من ناحية أخرى، لم يلبث أن تحول إلى اصطدام عنيف تكررت فيه حوادث العدوان في طرقات

ص: 22

بغداد، واضطرب معه حبل الأمن في أرجائها؛ حتى لم يجد الخليفة بداً من أن ينهض بجنده المختار إلى عاصمته الجديدة سُر من رأى، ليحسم بذلك وجه النزاع ويهدِّئ من سورات النفوس. . . ففي مثل هذه الظروف لم يكن يتيسر للجاحظ أن يقدم رسالته في (مناقب الترك) وإن كان هذا لا ينفي احتمال وجود أسباب أخرى حالت دون تقديمها؛ مما قد يشير إليه قول الجاحظ في مفتتح رسالته:(هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله - رضي الله تعالى عنه ونضر وجهه - فلم يصل إليه لأسباب يطول شرحها، فلذلك لم أعرض للاخبار عنها. . .).

. . . أخيراً توفي المعتصم عام 227هـ وتولى بعده ابنه أبو جعفر هرون الواثق بالله؛ وكانت النفوس وقتئذ ما تزال ثائرة، ومظاهر الأحوال لم تتغير إلى الحد الذي يبيح للجاحظ أن يقدم على ما كان عنه من قبل محجما.

وإذا افترضنا زوال الأسباب القديمة، فإن الفرصة لم تكن تعرض، والمناسبة التي يلائمها إظهار رسالة في مدح الترك وإبراز مفاخرهم لم تكن تعنّ؛ والجاحظ يعلم أن لكل مقام مقالاً، وأن الكلمة من شعر أو نثر تفقد أكثر قيمتها إذا هي برزت في غير موضعها أو ظهرت دون مناسبتها. وتلك حقيقة يتحراها أكثر الأدباء قديماً وحديثاً في عرض إنتاجهم؛ وإنها لأدل على صدق الأدب وصحة الاستلهام، وأدعى إلى قوة التأثر وبلاغة التأثير معاً. وما (أدب المناسبات) إلا صورة صادقة من الأدب الحي يعجز عنه جماعة المفْحَمين ممن لا تواتيهم قرائحهم في كل حين، فينبزون أصحابه بلقب النُّسَّاخ أو النظامين؛ وفرق ما بين الطائفتين تيقظ بديهة أو غفوتها، واستجابة خاطر أو استعصائه. . .

(للمقال بقية)

محمود عزت عرفة

ص: 23

‌لماذا لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين

للأب ماري أنستاس ماري الكرملي

1 -

تصدير

إني لا أثق (دائماً) بكل ما ينطق به النحاة ولا اللغويون ولو كانوا أدلاء أجلاء بل أعرضه على محك النقد والتحقيق، وتدقيق النظر فيه، فإن أظهر المحك صدق إبريزهم، وافقت عليه وقيدته عندي بكل فخر وإجلال، واعتبار وإكبار، وإلا نبذته نبذ النواة، أو نبذ آراء المشعوذين النحاة الهواة. وذلك لأن الإنسان محل النسيان، ولأن الجود قد يكبو، والسيف قد ينبو، وما العصمة والكمال، إلا لرب الجلال

ولهذا تراني لا أثق إلا بما ينقله السلف إلينا من أقوال المحققين الأقدمين، كما قلت مراراً لا تحصى. وأمثلة ما قد أخطأوا القول فيه أكثر من أن يعد، ولا تسعة مجلة موقوتة، لأن ما جمعته يقع في مجلد ضخم (لا تهضمه معدة مجلة) لثقله عليها، ولثقله أيضاً على معدة قرائها الكرام الأجلاء

وأنا أذكر هنا بعض الشيء، بمنزلة ما أذهب إليه من كلامي الذي عنونت به مقالي هذا

2 -

ورود فعلى جمعاً لأكثر من لفظين

أنقل هنا ما جاء في تاج العروس في مادة (ظ ر ب) حرفاً بحرف، قال:(نقل شيخنا عن أبي حيان: ليس لنا جمع على فعلى، بالكسر، غير هذين اللفظين (ظِربى وحِجلى) ويقال: أن أبا الطيب المتنبي لقي أبا علي الفارسي، فقال له: كم لنا من الجموع على فعلى، بالكسر؟ فقال أبو الطيب بديهة: حجلى وظربى، لا ثالث لهما

فما زال أبو علي يبحث: هل يستدرك عليه ثالثة وكان رمداً فلم يمكن له ذلك، حتى قيل أنه مع كثرة المراجعة، ورمد عينيه، آل به الأمر إلى ضعف بصره. ويقال إنه عمى بسبب ذلك، والله أعلم

ثم قال: وهي من الغرائب الدالة على معرفة أبي الطيب وسعة اطلاعه. انتهى كلام الشار ح على الحجلى: اسم للجمع)

قلنا: الجمع لفظة تشمل الجمع بصيغه المختلفة، واسم الجمع وشبه الجمع: والظاهر أن

ص: 24

الذين جاؤوا بعد أبي الطيب وأبي علي الفارسي لم يجدوا في كلام العرب جمعاً، ولا اسم جمع، ولا شبه جمع على فعلى، بكسر الأول. أفهذا صحيح؟

قال فخر اللغويين المتأخرين، وإمام أئمتهم، الشيخ محمد محمود الشنقيطي، في حاشية له على المخصص 8: 156 ما هذا نصه بحروفه:

(قلت: قول علي بن سيدة: الحجلى الخ خلاف الأصح؛ وقلده فيه من قلده. والأصح أن فعلى بالكسر من أبنية الجمع النادرة، ولم يسمع منها إلا لفظتان، وهما: الحجلى هذه والظربى جمع الظربان. ونظمها شيخ شيوخ مشايخنا المختار ابن بون في احمراره ذيل الألفية، حيث قال رحمه الله تعالى: فعلى بما أجمع ظربان حجل، وليس باسم الجمع في القول الأجل ومن الدليل على ذلك الحكاية المحفوظة المروية عن سيف الدولة.

روى عنه أنه سأل ليلة أصحاب سمره، وفيها المتنبي فقال لهم: كم من جمع لنا على فعلى؟ - فأجابه المتنبي في الحال بقوله: حجلي وظربى، وكان في مجلسه ذلك العلماء والأدباء والشعراء، وفيهم أبو علي الفارسيّ، فلم يزد واحد منهم لفظة تثلثهما.

(وبعد انتهاء المسامرة، ذهب أبو علي إلى بيته، وسهر يطالع كتب اللغة العربية، فلم يجد لهما ثالثة، فبسبب ذلك كان يتعجب من حفظ المتنبي لغة العرب، وتبحُّره فيها

(قلت: وجد الدماميني بعد قرون لفظة ثالثة وهي: معزى جمع معز، ونظمها أستاذنا وشيخنا عبد الوهاب جدود بقوله:

وثالث اللفظين لفظ يَعْزَى، إلى الدماميني وهو مِعْزَى انتهى وكتبه راويه حافظه محقّقه محمد محمود لطف الله تعالى به. آمين.) انتهى

أقول وأنا صاحب هذا المقال: ويزاد على الثلاثة المتقدم ذكرها ستة أخر وهي:

الأول: العرقي جمع عرقاة. قال في المخصص (15: 187): والعرقي جمع عرقاة. من قولهم: أستأصل الله عرقاتهم. عن الفارسيّ، ولم يحكها غيره.) اهـ. قلنا: وكفى بالفارسي حجة ثبتاً؛ مع أننا رأينا أنه طالع كتب اللغة فلم يعثر على مثال ثالث على فعلى، فيكون وجده بعد بحثه الأول عنه.

الثاني: قال الجوهري: العِمقي، بكسر العين، شجر بالحجاز وتهامة. كذا يرى في النسخة المطبوعة في بولاق. وفي أربع نسخ خطية قديمة عندنا، وإحداها منقولة عن نسخة المؤلف

ص: 25

نفسه. وكلها تذكر هذه الكلمات: العمقى بالكسر شجر بالحجاز وتهامة، ولم نقل واحدة:(شجرة) فالعمقى إذا شبه جمع، أو جمع على تعبير النحاة واللغويين، فيكون واحدتها عمقاة.

الثالث: قال الفارسي: العفري جمع عفراة. وأنشد عن ابن دريد: إذا صعد الدهر إلى عفراته

(عن المخصّص 15: 187)

الرابع: جاء في لسان العرب في مادة (صحن): (الأزهري الصحِناة، بوزن فعلاة، إذا ذهبت عنها الهاء دخلها التنوين، وتجمع على الصِّحْنا (هكذا كتبت بألف قائمة) والذي في المخصص: الصِّحنى، بألف قاعدة وبطرح الهاء

الخامس: ذفرى وهي جمع ذفراة، وهي العظم الثاني خلف الأذن (المخصص 15: 189)

السادس: الشِّيْزي. قالوا: شجر تعمل منه الجفان، ولم يذكروا لها واحداً. ومنهم من قال: واحدها الشيز. والعلم عند الله.

3 -

الخلاصة:

جاءت تسعة ألفاظ على (فِعلى) المكسورة الأول، وهي: الحجلى، والظربى، والمعزى، والعرقي، والعمقي، والعفري، والصحنى، والذفرى، والشيزي. ولعل هناك غيرها ونحن نجهلها. فنطلب من القراء أن يوافونا بها، ولهم منا الشكر سلفاً.

القسم الثاني - فُعَلَى

قال الشارح في رسم (أرب): (الأُرَبى) بفتح الراء والموحدة، مع ضم أوله، مقصوراً، هكذا ضبطه ابن مالك، وأبو حيَّان، وابن هشام: الداهية. أنشد الجواهري لابن أحمر:

فلما غشى ليلى وأيقنت أنها،

هي الأربى جازت بأم حبوي

قلت: وهي كشعبى، وأرمى، ولا رابع لها.) انتهى.

قلنا: شعبى: إسم موضع.

ونزيد على ذلك أن لهن أخوات أخر منها:

وهي الرابعة: الأرنى، بهمزة فراء، فنون فألف. وهو حبّ بقل يطرح في اللبن، فيثخنه ويجبنه. ويقال للرجل: أنت كالأربى.

ص: 26

والخامسة: وهي أدمى، بهمزة ودال مهملة فلام فألف وهو موضع. وقيل: الأدمى، حجارة في الأرض بنى قشير.

والسادسة: جنفى وهي اسم موضع، بجيم فنون ففاء فألف

والسابعة: الجعبى وهي بجيم وعين مهملة فباء موحدة تحتية فألف، وجمعها الجعب والجعبات، وهي عظام النمل اللائي يعضضن، ولها أفواه واسعة.

والثامنة: تومي، بتاء مثناة فواو فميم فألف. قال المجد في قاموسه: وتومي كأربي. موضع في الجزيرة وذكره ياقوت بصورة توما بالتحريك: موضع بالجزيرة. عن نصر. اهـ فيجوز لك أن تختار إحدى اللغتين، لأن كلا من المجد وياقوت حجة ثبت.

والتاسعة: بشرى، وهي على ما في ياقوت كبشرى لكني سمعتها من شيخي الجليل السيد الألوسي كأربي، وترى مضبوطة في القاموس.

والعاشرة، تلّ بوني بباء مضمومة فواو مفتوحة فنون مفتوحة فألف. وسمعتها من شيخي الألوسي كأربي. أما الشارح فقد قال: تل بوني كشورى قرية بالكوفة. هكذا في النسخ، والصواب فيه بُوَنَّا، بضم الباء وفتح الواو وتشديد النون، كما ضبطه نصر رحمه الله تعالى، وهي ناحية بسواد العراق قريب الكوفة) اهـ. وفي ياقوت: (تل بونّا بفتحتين وتشديد النون، من قرى الكوفة. قال مالك بن أسماء الفزاري:

حبذا ليلتي بتل بَوَنَّا

حيث نُسقَىِ شرابنا ونُغنَّى

ومررنا بنسوةٍ عطراتٍ

وسماع وَقَرّقف فنزلنا

حيثما دارت الزجاجة درنا

يحسب الجاهلون أنَّا جُنِنَّا

حدثنا ابن كناسة أن عمر لما لقى مالكاً، استنشده شيئاً من شعره، فأنشده. فقال له عمر: ما أحسن شعرك لولا أسمع قرى تذكرها فيه فقال: مثل ماذا؟. قال: مثل قولك:

أَشهِدتِني أم كنت غائبة

في ليلتي بحديثهِ القسِبِ

ومثل قولك:

حبذا ليلتي بتلّ بَوَنَّا

حيث نُسقى شرابنا ونُغنَّي

فقال مالك: هي قرى البلد الذي أنا فيه، وهي مثل ما تذكره أنت في شعرك من أرض بلادك. قال: مثل ماذا؟ فقال: مثل قولك هذا:

ص: 27

ما على الرَّبْع بالبُلِيَّيْن لو

بَيّن رجع السلام أو لو أجابا

فأمسك ابن أبي ربيعة) اهـ

فهذه أربع روايات مختلفة: رواية الألوسي، وهي رواية صحيحة. والألوسي من أبناء هذه الديار، وصاحب الدار أدرى بما فيها. ورواية القاموس ولا بد من أنه سمعها من أحد شيوخه، أو أصابها في كتب من تقدمه، أو ربما كانت الرواية الشائعة في عصره. ورواية نصر وهو حجة في ذكر أسماء المدن والبلدان والمواضع. ورواية ياقوت، وياقوت معروف بصدق النقل لأسماء المواضع والأمكنة

أما نحن فلا نكذب أحداً من هؤلاء النقلة، لأنهم كلهم رواة ثقات، وحجج أثبات. فالأخذ برواياتهم من أحسن الوسائل للاحتفاظ بما نقلوه إلينا، والاعتماد عليهم

الخلاصة

لنا من الألفاظ الواردة على فُعَلى، بضم ففتحتين، فألف مقصورة عشرة ألفاظ على أقل تقدير - لا ثلاثة كما قالوا - أو كما قال صاحب تاج العروس، ولعل هناك ضعف هذا العدد ونحن نجهله، ويذكره لنا غيرنا من المتتبعين لدقائق العربية

القسم الثالث - تفاعيل

قال السيد مرتضى عبادة (ب ش ر): (التباشير وليس له نظير إلا ثلاثة أحرف. تعاشيب الأرض، وتعاجيب الدهر، وتفاطير النبات والشباب)

قلنا: وهناك خامس وهو التناشير بتاء مثناة فوقية، فنون، فألف، فشين مثلثة: فياء مثناة تحتية، فراء وهي كتابة لغلمان الكتاب بلا واحد (القاموس)

وسادس وهو النفاطير، بنون موحدة، فوقية، ففاء فألف فطاء فياء مثناة تحتية، فراء

قال اللحياني: يقال في الأرض نفاطير من عشب، أي نبذ متفرقة لا واحد لها

وسابع، وهو تصريف الدهر، بتاء مثناة فوقية فصاد، فألف، فراء فياء مثناة تحتية، ففاء

وثامن وهو تخاليف الأمور، بتاء مثناة فوقية، وخاء، وألف، ولام وياء مثناة تحتية، وفي الآخر فاء

وتاسع وهو التباريح. فال في التاج في (ب ر ح): (به تباريح الشوق، أي توهجه.

ص: 28

والتباريح: الشدائد. وقيل: هي كلف المعيشة في مشقة. قال شيخنا: وهو من الجموع التي لا مفرد لها. وقيل: تبريح. واستعمله المحدثون، وليس بثبت) انتهى

وعاشر هو التباكير. قال الشارج في (بشر): (التباشير) ألوان النخيل أول ما يرطب، وهو التباكير) انتهى. أي بتاء مثناة فوقية، وباء موحدة تحتية، فألف، فكاف، فباء مثناة تحتية، فراء في الآخر

وحادي عشر وهو التعانيق، بتاء مثناة فوقية، يليها عين مهملة، فألف، فنون مكسورة فياء مثناة تحتية وفي الآخر قاف وهو موضع في شق العالية. قال زهير:

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو

واقفر من سلمى التعانيق والثقل

(عن ياقوت في 854: 1 من طبعة أوربية)

وثاني عشر وهو بالتاء المثناة واللام فالألف فالفاء فالياء المثناة التحتية وفي الآخر الفاء

قال في تاج العروس في رسم (لفف). يقال: هذا تلافيف من عشب أي نبات ملتف لا واحد له)

الخلاصة

هذه اثنا عشر حرفاً على وزن تفاعيل لا واحد لها. وقد قالوا لأنها أربعة لا أكثر. ونحن لا ندعي بأننا ذكرنا كل ما ورد في اللغة، بل بعض ما حضرنا حين كتابة هذه الكلمة وهناك ما يضاعف هذا العدد موارد كثيرة.

(للمقال بقية)

الأب أنستاس ماري الكرملي

من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ص: 29

‌البريد الأدبي

حول جامعة الإسكندرية

نشرت جريدة الأهرام بتاريخ 7 فبراير سنة 1943 مقالاً للأستاذ منصور جاب الله تحت عنوان (يوم الإسكندرية)، وقد عرج فيه الكاتب على مكتبة الإسكندرية قائلاً:

(إن ثلاثة عشر قرناُ تتجرم بعد احتراق مكتبة الإسكندرية لحقبة جد طويلة، فاليوم يرأب الصداع، ويرد إلى المدينة الخالدة اعتبارها العلمي وتعاود مكانتها الثقافية)، والذي يسوق هذه العبارة في مقاله الجليّ يؤمن برأي من نسب حريق مكتبة الإسكندرية على يد عمرو بن العاص

وقد ناقش هذا الخبر كثير من علماء الإفرنج مثل (بطلر) و (جوستاف ليبون) وغيرهم فلم يمكنهم الجزم بأن عمرو ابن العاص هو الذي أحرقها حقيقة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب كما زعم بعضهم، بل ولم يؤيد هذه الدعوى أحد من المؤرخين المعاصرين للفتح الإسلامي، مثل (أوتيخوس) الذي وصف فتح الإسكندرية بإسهاب

وأما ما نسبه أبو الفرج الملطي في كتابه (مختصر الدول) عن حريق المكتبة على يد عمرو بن العاص، فقد فنده كل من (بطلر) و (سديو) و (جوستاف ليبون) وغيرهم. والغريب أن هذه الرواية يذكرها رجل من أطراف بلاد الفرس بعد فتح الإسكندرية بنحو ستمائة سنة، ولم يتعرض لها المؤرخ المسيحي البطريق (أوتيخوس) الذي قلنا إنه أسهب في فتح الإسكندرية. على أن تعاليم الدين الإسلامي تخالف هذه الرواية؛ إذ ترمي إلى عدم التعرض للكتب الدينية اليهودية والمسيحية المأخوذة في الحرب ولا يجوز حرقها - أما كتب الفلسفة والطب والتاريخ والشعر وسواها من العلوم غير الدينية، فإنه يجوز للمسلمين الانتفاع بها

والمعروف أن هذه المكتبة لم تكن موجودة إبان الفتح الإسلامي اللهم إلا بقايا من جدران حوائطها

والصحيح الذي لا مرية فيه: أن المكتبة حرقت مرتين: المرة الأولى تم فيها حرق القسم الأكبر منها على يد جنود (يوليوس قيصر) سنة 47 ق. م وأما القسم الثاني من المكتبة فقد تم حرقه في عهد القيصر (طيودوس) سنة 391 م بأمر الأسقف (نيتوفيل) بواسطة جماعة

ص: 30

من المتعصبين للنصرانية. والدليل القاطع أيضاً على عدم وجود المكتبة حتى قبيل الفتح الإسلامي ما ذكره المؤرخ (أورازيوس) عن زيارته للإسكندرية قبل سنة 414م، إذ قال:(إنه وجد رفوف المكتبة خالية من الكتب)

على أن العرب لم يدخلوا الإسكندرية إلا بعد استيلائهم عليها بأحد عشر شهراً - وقد ذكر في عهد الصلح الذي أبرم بين عمرو بن العاص والمقوقس: أنه يجوز للروم أن يحملوا إلى بلادهم كل أمتعتهم. وفي غضون هذه المدة كان البحر مفتوحاً ولم تكن أمامهم صعوبات تعوقهم عن حمل كتب المكتبة إلى بلادهم إذا كانت موجودة؛ وهذا ينهض دليلاً آخر على عدم وجود المكتبة إبان الفتح الإسلامي.

عبد العظيم أحمد هيبة

1 -

موقف مجلة الأزهر من النبوة والعبقرية

كتبت مجلة الأزهر في جزء المحرم سنة 1362 مقالاً في ذكرى الهجرة، فرقت فيه بين النبوة والعبقرية، فذكرت أن النبوة روح إلهية تتجلى معها قوة الحق في أروع مظاهرها، فتؤيد القائمين بها خرقاً للسنن الثابتة، ونقضاً للعادات المقررة، فيدرك الناس أنهم إزاء إرادة إلهية لا يقف في طريقها حائل، ولا تثبت في مقاومتها القوة. أما العبقرية فهي هبة ليس للقوة العقلية أثر في إيجادها، تعجز عن مجرد حمل الناس على تقدير ما تأتي به، حتى إن أكثر العباقرة عاشوا غير مقدرين، ولم يفهم الناس جلالة ما أتوا به بعد أن ماتوا بعدة قرون، ثم بنت على هذا أن نجاح الدعوة الإسلامية لم يكن فيه أي أثر للعبقرية، وإنما كان معجزة عظيمة جعلها الله دليلاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

ومجلة الأزهر تقصد بهذا أن تهدم الأساس الذي قام عليه كتاب عبقرية محمد للأستاذ العقاد، مع أن هذا الأساس لا شئ فيه من جهة الدين، وقد بنيت عليه قبل ظهور ذلك الكتاب مقالاتي في السياسة الأسبوعية - أثر السياسة النبوية في نجاح الدعوة الإسلامية - فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مع الوحي مجال فسيح يعمل فيه كانسان، فيجتهد في بعض أحكام الدين، وينظر في أمور الدنيا، ويبحث ما يعرض له من مسائل السلم والحرب، وقد أظهر في ذلك المجال براعة عظيمة تشهد له بكمال العبقرية، ومع هذا كان

ص: 31

يدركه فيه ما يدرك كل إنسان، فيلفته الله إليه، ويهديه إلى ما ينبغي أن يعمل فيه، وكل هذا جاء به القرآن الكريم، وتشهد به كتب السيرة والأصول. ولعل مجلة الأزهر تتوهم أن التسليم بهذا قد يجر إلى التسليم بأن ذلك النجاح كان للعبقرية وحدها، كما يزعمه بعض أعداء الإسلام، ومثل هذا التوهم الخاطئ هو العقبة الآن في سبيل كل إصلاح.

عبد المتعال الصعيدي

2 -

إصلاح تحريف في آية قرآنية

جاء في مقالي الأخير من مقالات (الحضارات القديمة في القرآن الكريم) هذه الآية: (بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم) والصواب الرحيم بدل الحكيم.

ع. ا

بين الرجولة والرجولية

يسأل الأديب (علي محمود الشيخ) في العدد (500) من

الرسالة، عن نحو (الرجولة والرجولية) الواردين في كتب

اللغة، هل معناهما واحد كما يقول بعض الناس؟ أو الثاني

مصدر صناعي كما يقول آخرون؟

وأجيب: أنهما مختلفان، فالرجولة مصدر سماعي لا فعل له، ومعناه ضد الأنوثة، ومثله الرُّجلة

و (الرجولية وكذا الرُّجلية) كل منهما سماعي صناعي بزيادة ياء النسبة (الأول من الرجولة، والثاني من الرُّجلة) وهما يزيدان زيادة على المصدر العام كما هذه الصفة في الشخص المحدث عنه، والمعاني اللازمة لهذا الكمال، مثل الشجاعة والإقدام وإباء الضيم

والطفولة خلاف الرجولة و (الطفولية) تدل على هذا المعنى ولوازمه، من العجز المطلق عن أعباء الحياة، واستدرار العطف والشفقة

والعروبة ضد العجمة؛ و (العروبية) تزيد على هذا الدلالة على شمائل العربي وخصائصه.

ص: 32

ومثل ما ذكر يقال في الرهبة و (الرهبانية)، والفروسة و (الفروسية)، والألوهة و (والألوهية)، والربوبة و (الربوبية)، والجاهل و (الجاهلية) والخنزوان (الكبر)(والخنزوانية) والأريح و (الأريحية)(الارتياح للندى). وكلها مصادر مسموعة عن العرب.

أما أن علماء اللغة لم يذكروا فارقاً بين الرجولة مثلاً فلأنهم إنما يعنون ببيان المعاني الوضعية للألفاظ، وأما المعاني اللازمية فلم يتصدوا لذكرها، لأنها وظيفة علماء المعقول، كالمناطقة والحكماء.

ثم إن تحميل المصادر الصناعية العربية للمعاني التي ذكرناها جاء قبل زيادة العرب الياء المشدودة، التي هي في الأصل للنسبة، ثم تنوسيت النسبة وأريد من اللفظ المعنى المصدري مع لوازمه، وألحقوا به التاء رعاية لأنه في الأصل صفة لموصوف مؤنث كالحال مثلاً

وكان هذا النوع من المصادر يسمى عند قدماء النحاة (بالنظائر) وهي ما جرى على وجه النسب، قاله ابن سيدة في المخصص

ونظراً لقلتها في اللغة، إبان العصر الجاهلي وصدر الإسلام، ولوجود ياء النسبة فيها لم يلحقها الأقدمون بالمصادر العامة، بل سموها باسم خاص. لكن تلك التسمية لم تشهر بين العلماء إذ ذاك فسماها بعضهم (بالمصادر الصناعية)، وذاعت هذه التسمية إلى عصرنا هذا. وقد أولع المحدثون وبخاصة علماء المنطق بصوغ هذه المصادر من أسماء الأعيان وغيرها، فقالوا: الحيوانية والإنسانية والناطقية والجسمية والحجرية، والإسمية والحرفية، والفاعلية والمفعولية والعلمية؛ وقالوا: الكيفية والكمية والماهية

فالمصدر الصناعي بمعنى المصنوع على وزان ما صنعه العرب من هذا النوع، فهو كقولهم: المصدر القياسي بمعنى المقيس، والمصدر السماعي بمعنى المسموع. وهي تسمية اصطلاحية حديثة وإن كان جنس مسماها عربياً قديماً. هذا وإن شئت إيضاح أكثر، أن تراجع الكلمة القيمة التي كتبها المغفور له الأستاذ الشيخ (أحمد الأسكندري) في مجلة (مجمع اللغة العربية الملكي) (ص 211 - 215 ج 1): احتجاجاً لقرار المجمع قياسية المصدر الصناعي، ففيها الغني لمن طلب المزيد، والله الهادي إلى سواء السبيل

عبد الحميد عنتر

ص: 33

أستاذ بكلية اللغة العربية

هل يتسع القلب لأكثر من حب واحد؟

كنت أطالع في مجلة الاثنين عدد 451 فلفت نظري رأي الدكتور زكي مبارك عند ما سئل هل يتسع القلب لأكثر من حب واحد؟

قال إني أصبحت أعتقد بعد تجارب أن القلب جارحة من الجوارح كالعين مثلاً؛ وهذا ما أعتقده أما أيضاً (والأغلبية من الناس). غير أنه قال: كما أن العين تقدر أن ترى ملايين من المرئيات، كذلك القلب يقدر أن يحب مليون مرة. وهذا لا أوافق عليه، فإن الحب شئ روحاني والمرئيات أجسام ملموسة غير روحانية. الحب مرض نفساني (مرض القلب)، فلو أن العين أصيبت بسهم وأدميت فإنها لا تستطيع أن ترى أكثر، وكذلك القلب، فإذا أصيب بسهم الحب مثلاً فإنه يمرض، وإذا مرض فلا يستطيع أن يحب أكثر. وكم من قلوب أصيبت بسهم الحب! قال عمر بن أبي ربيعة:

راميات بأسهم ريشها الهدب

تشق القلوب قبل الجلود

(فلسطين)

جورج شاريكاس

سرقة شعرية

كان يوم 9 فبراير موسماً حافلاً بكلية الآداب؛ فلقد غص مدرجها بمختلف الطبقات من أساتذة وطلاب ومدعوين، خفوا للاحتفال بذكرى مولد جلالة الملك - أعزه الله - وتلك سنة درجت عليها الكلية كما قال الدكتور حسن إبراهيم في كلمته التي افتتح بها الحفل - وكان جميلاً أن نرى ونسمع ألواناً جديدة من المظاهر التي عبرت عن اتجاهات الفن في العصور الحديثة ونال معظمها إعجاب النظارة - غير أنه استدعى انتباهي شئ واحد قصدته في هذه الكلمة - ذلك هو قصيدة الشاعر (رجاء العربي) الطالب بكلية الآداب ومطلعها:

صدت على فنٍ طيور الوادي

يا حسن ما صدح الحمام الشادي

ص: 34

وهي جميلة حقاً حتى استعيدت اكثر أبياتها مما دل على حسن وقعها، ولكنه خيل إلى عند ما سمعتها أنني أستعرض ماضياً وقع؛ وقد كان ذلك حقاً!

فالقصيدة لشاعر معاصر هو الأستاذ محمد عمر - قالها بمناسبة عيد ميلاد جلالة الملك (فؤاد) طيب الله ثراه وعنوانها: (آية الولاء)، والقصيدة بين يدي كما سمعتها من شاعرنا الجامعي بتحوير استدعته المناسبة

فإلى من سمعوا هذه القصيدة أسوق ذلك التصحيح خالصاً لوجه الحق.

عبد الغني جمعة

رابطة العروبة

(تكونت بجامعة فاروق الأول جماعة باسم (رابطة العروبة لطلبة جامعة فاروق الأول) تضم طلبة مختلف كليات تلك الجامعة المهتمين بقضية الوحدة العربية، والراغبين في العمل في سبيلها، وبث الدعوة إليها.

وغرض الرابطة الأساسي العمل بكافة الوسائل الممكنة وخاصة الثقافية منها على تحقيق الوحدة العربية، ونشر الدعوة إليها، ولتحقيق ذلك ستتذرع الرابطة بوسائل منها:

1 -

تنظيم محاضرات ومناظرات تتناول الشؤون العربية الهامة.

2 -

تقوية الصلات الأخوية والثقافية بين الطلبة المصريين وإخوانهم في البلاد العربية الأخرى بتنظيم المراسلات بينهم، وغير ذلك.

3 -

الدعوة إلى مؤتمرات تضم طلبة الجامعات العربية المختلفة للنظر فيما يهمهم من توحيد الأحوال الثقافية في البلاد العربية وفي غير ذلك مما يمس قضية الوحدة العربية. وغير هذه من الوسائل المؤدية إلى تحقيق غرض الرابطة الأساسي.

والدعوة موجهة إلى طلبة جامعة فاروق - وهم من شباب هذه الأمة الذين عليهم تعتمد في بناء مستقبلها - إلى الدخول في هذه الرابطة التي ستباشر نشاطها قريباً إن شاء الله.)

جمال أحمد بدر

القائم بأعمال الرابطة

ص: 35