المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 504 - بتاريخ: 01 - 03 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٠٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 504

- بتاريخ: 01 - 03 - 1943

ص: -1

‌رسالة الأديب

للدكتور زكي مبارك

رسالة الأديب - كلام قد ينفع - الخلوة إلى القلب

في أحد الأعداد الأخيرة من مجلة الجمهور البيروتية كتب الأستاذ اليأس أبو شبكة كلمة في السؤال عما ترك شوقي وجبران من التوجيهات النافعة في السياسة القومية، وهو ينتظر أن يجود الجيل الجديد بأدباء قادرين على خلق تلك التوجيهات. وفي العدد الأخير من مجلة المصور القاهرية كتب الأستاذ فكري اباظة يقول إن قصيدة ستالينجراد للشاعر علي محمود هزته هزاً، وهو يرجو أن يعود الشعراء المصريون إلى التغني بالقومية والوطنية، ولا سيما العقاد ومطران

وأقول: أن من رسالة الأديب أن يتجه إلى آمال وطنه من حين إلى حين، أو في كل حين، وفقاً لما يجيش بصدره من نوازع وميول، ولكن من العقوق للأديب أن نجحد فضله إذا لم يجعل الآمال الوطنية في جميع الأحايين

والقول الفصل في هذه القضية إن رسالة الأديب هي خلق ذوق الحياة، فمن الواجب إن تتجه مراميه جميعاً إلى ذلك الخلق في أي صورة، وعلى أي شكل. وقد قلت مرات: إن الأديب الحق هو الذي يستطيع بقلمه أن ينقلك من ضلال إلى هدى أو من هدى إلى ضلال. والمهم عندي إن يقدر الأديب على خلق الفتن الروحية والذوقية والعقلية، بحيث تخرج من صحبته بمحصول جديد من القلق أو الاطمئنان. ولو كانت غاية الأديب إن يرسم لنا خطط المستقبل لوجب أن نترك الشعراء القدماء، لان أدبهم يعجز عن توجيه الجيل الجديد، ولأنه من هذه الناحية أعجز من أدب شوقي وأدب جبران

أشعار المعري لا تنفع القومية بشيء، القومية في مدلولها الحديث، ولو شئت لقلت إنها كانت أذًى على قومية ذلك الزمان، لأن منحاها يتجه إلى الهدم لا إلى البناء، ولكن قراءة أشعار المعري تنفع في تقوية الذاتية، وتروض القارئ على الاعتداد بالنفس، وتثيره على الرياء الاجتماعي. وثمرات هذا الأدب الذي يرينا كيف نواجه مشكلات العصر الجديد

رسالة الأديب هي خلق ذوق الحياة، أو هي نصر الحياة على الموت، والقليل من هذه الرسالة في هذا الاتجاه يصنع الأعاجيب في إحياء الممالك والشعوب

ص: 1

كلام قد ينفع

صديقي. . .

لم يبق بدمن توجيه نظرك إلى أشياء خفيت عليك عدداً من السنين، واستوجبت أن أزهد في لقائك، برغم ما بيني وبينك من وداد عجزت عن محوه الأيام. هي أشياء تملني منك، فتصرفني عنك، وتجعل محضرك اثقل من الحديث المعاد

أنت يا صديقي مغرم بالسؤال عما لا يعنيك من شؤون الناس، ولا سيما الموظفين، كأنك تتوهم أن أعمالي تنحصر في استقصاء الدقائق والخفايا من أحوال الزملاء، وكان الحياة عندي وعندك قيل وقال، وبحث وسؤال، مع أنك تعرف جيداً أني لم أسألك يوماً عن شأن من شؤونك، الا أن تتلطف أنت فتستشيرني في بعض المعضلات من أحوال دنياك، ثم تكون النتيجة أن أنسى ما أفضيت به إلي بعد لحظات قصار أو طوال

يجب أن تكون شواغلنا الحقيقية مقصورة على ما ينفع، ولا نفع في استقصاء أحوال الناس، الا في حدود المتصلة بالمعملات، ثم يمضي كل إلى سبيله المرسوم في طلب الرزق أو المجد، بلا التفات إلى الفضول الذي لا يتشهاه غير صغار العقول

ومن أثقل ما يضجرني منك حرصك في كل لقاء على تذكيري بالتقصير في حق نفسي من الوجهة الدنيوية، وأنا أبغض من يبصرني بأمور دنياي، لأني رسمت لحياتي كلها خطة لا أحيد عنها في أي وقت، وهي الظفر بأكبر نصيب من أنصبة الفكر والرأي. وهذا هو السبب في أن تكون أوقاتي كلها مشغولة برياضيات ذهنية وعقلية وروحية، وهو أيضاً السبب في طول الخلوة إلى القلم، بحيث لا يمضي يوم يجوز نعته بالفراغ، ولو كان من أيام الأعياد

والغريب أنك لا تساجلني فيما أكتب، ولا تحاول تنبيهي إلى ما يغيب عني، وإنما تسأل دائماً عما ساجني من الأدب، وتحاول بالتصريح أو التلميح أن تفهمني أن كل شيء ما خلا المال ضياع في ضياع!

وأنا لا ازهد في المال ولا أدعو إلى الزهد فيه، ولكني أفهم أن الغني بالنسبة إلى أهل العلم والأدب غني محدود، وينبغي أن يظل كذلك، لتبقى لأهل العلم والأدب أشواق إلى المعاني، وليتحرروا من أسر الغنى الفضفاض، فله شواغل تحد من وثبات العقول، وسبحات

ص: 2

الأرواح، وخطرات القلوب

ليس لي بصديق من يختار لي غير ما اخترت لنفسي، وأنت تخذلني تخذيلاً فضيعاً كلما لقيتني، لأنك تحاول تهوين نعمة الله في قلبي، وأنا اعتقد أني من الله عليهم بنعمة التوفيق، فله الحمد وعليه الثناء

أتريد الحق؟

الحق أنك تحاول الدفاع عن كسلك بأسلوب ملفوف، فأنت تهون من شأن الجهاد الأدبي بحجة أنه قليل الربح، وتلك حجة واهية، فللجهاد الأدبي أرباح أيسرها الشعور بقيمة الجهاد، ولو كان لي أمل في تقويمك لذكرتك للمرة الأولى بعد آلاف بأن حياتك صارت غاية في الهزال، وأنك لا تستحق اللقمة التي تاكل، ولا الخرقة التي تلبس، وما أنفقه أهلك وأنفقته الدولة في تعليمك وتثقيفك قد ضاع إلى آخر الزمان

عندك ألقاب علمية، وبيدك وظيفة رسمية، ولكنك على نفسك وعلى الوطن بلاء

كيف يجوز أن تمر أيام وأسابيع وشهور وأعوام ولا تقرأ لك بحثاً جيداً أو غير جيد، ولا نسمع من أخبارك غير البراعة في تسقط أخبار الناس، ولا نلقاك الا في القهوة أن أردنا أن نلقاك، ولا نأخذ عنك غير المعلومات السخيفة عن الدرجات والترقيات؟ وكيف يكون كل همك أن تسألني عما بيني وبين الرؤساء من صلات، ولا يخطر في بالك أن تسألني عما بيني وبين الله من صلات؟

وتعيب علي أن اقضي أيامي في نضال وصيال، فما الذي غنمت أنت من قضاء دهرك في التلطيف والتظرف، بمصانعة هذا ومجاملة ذاك؟

ما تذكرت ماضيك إلا تحسرت وتفجعت، فقد كنت فتى مرجو المخايل، وكان جهادك في طلب العلم مضرب الأمثال، فكيف وقع حجر الخمود فوق رأسك فشطره شطرين، شطراً للنميمة وشطراً للاغتياب؟

وأنا مع هذا أحبك وأحفظ عهدك، ولكن كيف أتقي شرك، يا شرير؟

أن لقاءك يؤذيني أعنف الإيذاء، لأنه يربيني في العدل، فما يجوز لمن يكون في مثل حالك من تعطيل مواهبه الأساسية أن يجد القوت

ارتع والعب، فأن الرزق لا يفوت السوائم المهملات!

ص: 3

صديقي

لا تفكر في لقائي بعد اليوم، الا أن تغير ما بنفسك، فترجع فتى كالذي عهدت، فتى يعتمد على الله لا على الناس، ويؤمن بأن الله لا يرفع أحدا بغير حق، لأنه يضع الموازين في جميع الشؤون، بحيث يمكن القول بأن المصادفة لا يمكن لها في الوجود

أتراني ألقاك مع الرجاء لا مع الخوف؟

أنا أخاف من لقائك لأنك تخذلني وتعوقني، أيها العالم الجبان!

لطف الله بي وبك، وهداني وهداك!

الخلوة إلى القلب

لا أدري كيف صرت إلى ما صرت إليه من الزهد في لقاء الناس، أو لعلني ادري، فقد صرت لا أفكر ففي لقاء صاحب أو صديق الا إذا وثقت بأن لقاءه يوحي إلى القلب أشياء

وهل يتسع الوقت لمسامرة من لا يوحون بشيْ؟

أن الحياة أقصر من أن نضيعها في مصاحبة الموسومين بالغباوة والجهل

الصديق الذي أجالسه فيثير في نفسي الشوق إلى امتشاق القلم لتدوين بعض المعاني هو الصديق، وأنا أرحب بلقائه في كل حين

والأصل في الصديق أن يكون على مثال القلب، فتحاوره كما تحاور قلبك ولا احتراس، عندئذ يتفتح القلب عن مكنونات يبدعها الحوار اللطيف

ومن أدبي في حياتي أن أحرص أشد الحرص على أصدقائي، وأن أتعصب لهم بحق وبغير حق، وأن أنتهز الفرص للحديث عنهم ولوفي صورة الملام، وكان ذلك لأني أومن بأن من حق من وثقوا بنا فصادقونا أن نبذل في البر بهم ما نملك من كلمة الخير، وهي كلمة لا يضن بها غير المفطورين على الشح اللئيم

والخلوة إلى القلب، أو إلى الصديق الذي بمنزلة القلب، هي فرصة الوحي الأدبي، وهذه الخلوة كانت السبب الأصيل في تفوق الأدباء القدماء

وهل ننسى أن الأنبياء لم يتلقوا الوحي الا في أعقاب الخلوات إلى القلوب؟

أقول هذا لأشرح السبب في قلة الشعر بجميع البلاد في هذا العهد، فالشعر لا يكون الا بالغناء، ولا يتيسر الغناء مع الضجيج

ص: 4

أن أحلام القلوب لا تجمع بسهولة، وكيف وهي في شرود الأوابد؟ أن القلب أعماقاً أبعد غوراً من أعماق المحيط، وستكتشف جميع المجاهيل قبل أن تكتشف سرائر القلوب

يجب على الكاتب أن يخلوا إلى قلبه لحظات من كل يوم، عساه يعرف بعض الملامح من سريرة القلب والروح

لا يفرح برؤية الناس والأنهار والبحار والمزارع والبساتين إلا من يعجز عن رؤية الخلائق فوق ساحة القلب

فمتى نكون من أرباب القلوب؟

متى؟ ثم متى؟

أن انتظارنا سيطول!

زكي مبارك

ص: 5

‌من أيام الفتوح

من مؤتة إلى اليرموك

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

في العام الثالث بعد الستمائة من الميلاد، وذلكم قبل بعثة الرسول بست سنين، اشتعلت الحرب بين الروم والفرس. وهي حلقة من سلسة طويلة من الحروب بدئت منذ ظهر الرومان في غرب آسيا، واستمرت بين الرومان والأشكانيين، ثم ورثها الساسانيون والبيزنطيون حتى شغلت من التاريخ سبعة قرون بين الاشتعال والخمود، وهذه الحلقات الأخيرة التي سبقت البعثة واستمرت بعد الهجرة سبع سنين قد اهتم بها العرب ونزلت فيها آية من القرآن:(غُلبت الرومُ في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيَغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم). انتصر الفرس في عهد كسرى برويز على الروم زهاء عشين سنة متوالية فسلبوهم كل ما ملكو في آسيا، وفتحوا بيت المقدس وأخذوا الصليب الكبير، ثم غلبوهم على مصر. وظهرت جيوش الفرس على أبواب القسطنطينية مرات. وظن الناس أن الروم لا تقوم لهم قائمة

ثم أجمع الروم أمرهم، وقادهم هرقل من ظفر إلى ظفر خمس سنين أتت على كل ما ناله الفرس في الحروب المتمادية. وخلع كسرى برويز بعد أن أخرجته الهزائم من دار ملكه ومات ذليلاً حزيناً، وخلفه ابنه قباد الثاني فصالح هرقل على أن يرد على الروم كل ما سلبوه في آسيا ومصر وأن يرد الصليب المقدس. وسار هرقل في أعظم مواكبه إلى بيت المقدس ليضع الصليب موضعه في ديسمبر سنة 629 م. وبلغ هرقل من العزة والهيبة والصيت ما بلغ

- 2 -

في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة بعد غزوة خيبر بشهرين وجه رسول الله، ثلاثة آلاف من أصحابه إلى الشام، وجعل القيادة لزيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي

ص: 6

طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. وكان هذا إيذاناً ببعد الشقة، وجسامة المطلب، وعظيم الخطر

لماذا سير الرسول صلوات الله عليه جيشاً لحرب الروم في أرض بعيدة؟ يقول المؤرخون أن الغسانيين قتلوا رسوله إلى أمير بصرى؛ ولكن أحسب الأمر أوسع من هذا فقد أراد المسلمون أن يرهبوا الطامعين موقف القبائل العربية الضاربة في سلطان الروم من المسلمون: أحرب هم أم سلم.

سار المسلمون إلى معان فإذا هرقل الذي حالفه الظفر خمس سنين حتى رد إلى سلطان الروم ما أخذه الفرس وزلزل سلطان كسرى في ديار كسرى - قد جمع في مآب جموعاً حاشدة من الروم والعرب - وتشاور المسلمون وهموا بأن يكتبوا إلى الرسول ولكن ابن رواحة قال: (يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له؛ خرجتم تطلبون الشهادة؛ وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة، ولا كثرة. ما نقاتلهم الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة).

التقى الجمعان عند مؤتة وهي قرية في البلقاء التي تسمى اليوم شرق الأردن، إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر الميت.

واستعرت الحرب وقاتل زيد بالراية حتى قتل، وتقدم جعفر للشهادة فقاتل حتى نالها. وتلاه ابن رواحة فقتل. فاجتمع الناس على القائد المحنك المظفر خالد بن الوليد فقاتل كما يقاتل خالد حتى تراجع بالجيش الصغير فأنقذه من الجموع المطبقة عليه فعل القائد الحازم لا يهلك جيشه في معركة خاسرة.

ثم شغل المسلمون بفتح مكة وما تلاه من الأحداث. وبعد سنة من موقعة مؤتة دعا الرسول إلى غزو الروم (في زمن عسرة من الحر، وجدب من البلاء) زمن تدعو فيه إلى الحرب إلى ضرورة لا مناص منها. وعلم الناس أنهم يدعون لغزو الروم، غزو بني الأصفر وهم يعلمون من سلطانهم وقوتهم وانتصارهم على الفرس ما يملؤهم هيبة. حتى قال بعض المنافقين:(أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؛ والله لكأني غداً مقربين في الحبال)

سار الجيش إلى تبوك، وكانت على حدود البلاد الخاضعة لسلطان الروم في الشمال؛ فأقام بضع عشرة ليلة وصالح الرسول صلوات الله عليه أهل دومة الجندل وأيلي وجربار

ص: 7

وأزرح.

ورجع المسلمون وقد صالحوا من صالحوا وأرهبوا القبائل الضاربة في الشمال، وأعلموا الروم أنهم غير عاجزين عن الجمع والسير للقتال. وكانت غزوة ذات أثر في تمكين هيبة المسلمين في القبائل الشمالية، ومحو ما أصاب المجاهدين في مؤتة، والتمهيد لإقامة سلطان الإسلام في تلك الأرجاء

- 4 -

ثم أعد الرسول جيشاً للمسير إلى البلقاء حيث ترتجع المسلمون في غزوة مؤتة وجعل عليه أسامة بن زيد أول قائد للمسلمين في تلك الغزوة وتوفي الرسول واشتعلت الفتنة في الجزيرة وسأل الناس أبا بكر أن يبقى الجيش ليلقى المدينة غارات القبائل المرتدة ولكن خليفة رسول أصر الإصرار كله على أن ينفذ الجيش الذي أمده رسول الله. فسار الجيش إلى حيث أمر الرسول فغنم وسلم. وذلكم في السنة الحادية عشرة. وهو تدبير عظيم لم يلقه الروم ومن والاهم من العرب بكفاية من الاهتمام والتفكير

- 5 -

وبعد سنة وأشهر من رجوع جيش أسامة - وذلكم أوائل السنة الثالثة عشرة عزم المسلمون على فتح الشام وسير أبو بكر جيوشاً أربعة لهذا الفتح. وتتابعت الوقائع إلى الموقعة الحاطمة موقعة اليرموك التي جعلت هرقل يودع الشام وداعاً لا لقاء بعده. وقد أدار هذه الموقعة الفاصلة خالد بن الوليد، القائد الذي شهد مؤتة وأنحاز بجيشه فخلصه من براثن الموت. ولولا ضيق المجال لفصلت القول وسردت الحوادث مبيناً عن الصلات الجامعة، والقرابة الواشجة، بين هذه الأحداث. تلكم صور متفرقة في كتب التاريخ، شتيتة في رأى مطالعيه؛ ولكنها في الحق أوجه حقيقة واحدة، أو أمواج من بحر واحد، أو فصول متتابعة من كتاب: أوجه من هذا اليقين الذي ملأ قلوب العرب المسلمين، وأمواج من هذا الجهاد الذي اعتزمه العرب المسلمون، وفصول من هذا المجد الذمي سطره العرب المسلمون قصة أولها خالد ينحاش بجيشه ليقيه غائلة الروم، وآخرها خالد يقدم بجيشه ليمحو سلطان الروم، ويمد سلطان المسلمين على الشام وما وراء الشام؛ وفي ثناياها حقائق من الأخلاق والسنن

ص: 8

والتاريخ هي التي تجلت سريعاً فجمعت في سلطان العرب المشرق والمغرب وأن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.

عبد الوهاب عزام

ص: 9

‌أيها المرضى

للأستاذ راشد رستم

(إذا كان المريض يخاف المرض فأن الصحيح منه أخوف)

(الكاتب)

شفاكم الله وعافاكم

إنكم اليوم مرضى وقد كنتم أصحاء، فلا تجزعوا بل اعملوا على أن تعودوا أصحاء

إن الأصل في الحياة الصحة والعافية، أما المرض فهو حال نصيب الناس لحكمة من السماء - تصقلهم به وتهيؤهم ثم تنبهم أن يكونوا دائماً أصحاء

لا تنظروا إلى الأصحاء، بل انظروا إلى المرضى من إخوانكم؛ بل انظروا إلى أنفسكم

قد يصير الصحيح مريضاً والمريض صحيحاً، إذ لا صحيح دائماً ولا مريض دائماً

إن الأصحاء لم يكونوا دائماً (هم) الأصحاء، فهونوا على أنفسكم، ولا تضعفوها جنب ضعف أجسامكم، إذ هي التي تشفيكم وهي التي تنجيكم، وهي التي تعيدكم صحتكم الأولى

إن المرض ضعف فلا تزيدوا الضعيف ضعفاً

إن ضعف النفوس أخطر من ضعف الأجسام

وإذا تهيأ للمرء لأن تكون له نفس صحيحة قوية فلا يضعفها بأن يخضعها لحكم هذا الجسم المريض الضعيف المضطرب

تلك القوى الكامنة في النفوس إن هي إلا مدد سحري من تيار الروح العلوي ترفع عن الضعيف ضعفه، وتقوم له بما يعجز عنه دواؤه وأطباؤه

وإذا كان المريض، فإن للأصحاء هموماً وقيوداً، وإذا أفلت الزمن من يد المريض فلا يضن أن الصحيح عليه قادر

إن الزمان يقبض ولا يقبض عليه، فلا الصحيح قوي على الزمن ولا المريض ضعيف على الزمن

لا تطلبوا الشفاء إلا من الله، ثم من أنفسكم التي يجب أن تكون مع الله

أما الزائرون فلا تعتبوا

ص: 10

مرضنا فما عادنا عائد

ولا قيل أين الفتى الألمعي

لعل له عذراً وأنت تلوم. ومن الناس من لا يحب أن يجد صديقه هزيلاً، فكيف به يرضى أن يراه عليلاً!

تحولوا عن هؤلاء وعن هؤلاء، واتجهوا دائماً إلى أصدقائنا الأطباء

إن الطبيب هو الصديق الطبيعي للمريض

وإذا لم يستطع الطبيب أن يكون صديقاً للمريض فلماذا أراد أن يكون طبيباً!

ليس يكفي أن يكون الطبيب عدواً للمرض حتى يعتبر صديقاً للمريض!

يتقدم المريض إلى الطبيب وهو يود أن يكون له كل ما يريد تلك ظاهرة من ظواهر المرض لا تخفى على أحد

غير أنها قد تفوت على من لا يجب أن تفوت عليه، نعم تفوت على الطبيب، تمر عليه دون أن يقيم لها وزنا ً - هنالك يختل ميزان الإنسانية، لأنه بيد الطبيب، ولا يعود المريض، ولا غير المريض، يرى في الطبيب ذلك الهيكل القدسي الذي يقصد إليه ليلقي بالروح والجسد بين يديه. . .

ولكن المريض كالغريق، يتعلق بكل ما يرى وما يجد - إذن فيا رحمة الله اهبطي على قلب الطبيب! ويا سكينته انزلي على قلب المريض، ويا الله ألطف بهذا الإنسان، وهذا الإنسان. . .

وهكذا لن يستطع المريض أن يفر من رحمة الله، فقد وسعت رحمته كل شيء، وإلى أي النواحي اتجه، وإلى أي المؤاسين قصد، ففي رحمة الرحمن البرء والرضا والأمان

وإن لله لحكمة بين الناس في دنيا الأمراض، إذ يولد ابن آدم وليس عليه غير الصحة والعافية، حتى إذا استلمها أخذ يخضعها لأغراض في الحياة مدى الحياة، ثم يذهب وقد ذهبت عنه الصحة والعافية وأغراض الحياة. . .

وإن في المرض لآية يدرك بها المرء معنى الصحة، وإنها هي الحياة، وإنها من الله وانه لا شيء سواها، ولا أحد سواه

خذ نفسك أيها المريض بيقين الشفاء، وجسمك بصحيح العلاج، ثم اصبر فإن الله كما قضى لك بما تحب منه، يقضى عليك أن تصبر له على ما يحب فيك. . .

ص: 11

وكن عبده والق القيادة لحكمه

وهو الله يمتحن الطبيب بالمريض، ليس ليعلم قدر علمه، إذ فوق كل ذي علم عليم، وإنما ليسأله الواجب الذي ارتضاه لنفسه، والمهمة التي أقسم عليها، أليس هو الذي اختار المهنة التي يعمل لها؟

إلى الأطباء إذن أيها المرضى. لا تسألوهم الشفاء، وإنما اسألوهم وسيلتهم إلى الشفاء - أن يكونوا لكم أصدقاء، بل ونعم الأصدقاء

إن الطب تخمين، والإنسانية يقين، و (الحكيم) البصير يسير بينهما وهو آمن وأمين. إذ شتان بين طالب الله وطالب من الله. . .

إن الرحمة لم ترفع بعد من الأرض إلى السماء، أيها المرضى وأيها الأصحاء. . .

فمن كان له قلب فله الرضا من كل شيء. . .

(بحيرة قارون)

راشد رستم

ص: 12

‌الحكم الذاتي في المدرسة

للأستاذ السيد يعقوب بكر

- 2 -

ولنتكلم الآن عن مجالات الحكم الذاتي

فنحن يمكننا أن نعتبر البيت في المدرسة الداخلية أحسن مجال يمكن أن يصطنع فيه الحكم الذاتي. فالبيت من جهة أضيق من أن يعجز بعض أفراده عن تدبير أمره تدبيراً محكماً، والحياة فيه تقدم أكبر قدر من وجوه النشاط المختلفة التي يمكن للتلاميذ أن يتخذوا منها ميداناً لتدبيرهم وتنظيمهم

وهناك مجال آخر من مجالات الحكم الذاتي هو الفصل المدرس والمآخذ على هذا المجال تتلخص في أن الأغراض التي يرمي الفصل إلى تحقيقها أولاً وقبل كل شيء تخرج من مجال الحكم الذاتي كثيراً من نواحي حياة الأطفال الاجتماعية التي هي ألصق بهم؛ وفي أن انتقالات التلاميذ كل سنة من فرقة إلى فرقة أعلى يصحبها في كثير من الأحوال تغيير مستمر في أعضاء الحكم الذاتي

وهناك مجال ثالث للحكم الذاتي هو تلك الجمعيات التي يؤلفها التلاميذ قاصدين بها إلى ممارسة وجوه من النشاط تضيق عنها جدران المدرسة كالجمعيات الأدبية والجمعيات التمثيلية وجمعيات فلاحة البساتين وجمعيات التصوير وغيرها

وأخيراً يمكن أن نجعل من المدرسة كلها مجالاً للحكم الذاتي. ولكن هذا لا يمكن أن يتأنى بسهولة إلا إذا كان تلاميذ المدرسة لا يزيدون عن أربعين طفلاً أو خمسين

فهذه هي المجالات التي يمكن أن يتخذ منها الحكم الذاتي مسرحاً يمثل عليه دوره. على أننا لا نحب أن نترك هذه المسألة قبل أن نتناول الحكم الذاتي في الفصل بشيء من التفصيل.

فنحن نريد أن أن نقول إنه ليس من الضروري في كل الأحوال أن يمتد الحكم الذاتي إلى نطاق الفصل. بيان ذلك أنه إذا كان ثم عداء متوارث بين التلاميذ من جهة والمدرس والمدرسين من جهة أخرى، وإذا كانت حياة التلاميذ خارج المدرسة حياة يتناوبها العسف والضغط، فإن الحاجة تكون حينئذ ماسة إلى قدر من الحكم الذاتي يتناول الفصل. أما إذا كانت العلاقة بين التلاميذ والمدرسين علاقة تسودها المودة والصفاء، وكان التلاميذ من

ص: 13

جانبهم يميلون إلى التعلم، وكانوا يتمتعون بقسط وافر من الحرية خارج المدرسة، فمن المشكوك فيه حينئذ أن يكون الحكم الذاتي شيئاً ضرورياً مرغوباً فيه

كذلك لا نحب أن نترك هذه المسألة قبل أن ننتبه إلى أن وجوه النشاط في داخل المدرسة مرتبط أشد الارتباط بوجوه النشاط في خارجها وأن الحكم الذاتي في خارج الفصل لا يمكن لهذا السبب أن يتم له النجاح إذا كانت الأمور في الفصل تجري على قواعد بالية عتيقة

وليس للحكم الذاتي نظام خاص صالح لكل الأحوال، وإنما هو يتكيف بحسب الحالة التي يوجد فيها، فالسن، والجنس وتقاليد المدرسة، وشخصية المدرسين، وطبيعة البيئة التي منها التلاميذ والمثل الاجتماعية التي ترمي إلى تحقيقها - كل هذه يجب أن تترك في الحكم الذاتي أثرها وتكيفه وفقها.

وأنا أعتقد أن قيمة الحكم الذاتي تزيد وأن مجاله يتسع إذا أمكن أن نبث فيه روحاً اقتصادية. وذلك يكون بإعطاء التلاميذ في كل أسبوع قدراً معيناً من المال يستطيعون به أن يدبروا الأمور المالية المختلفة التي كان يقوم بها من قبل مدبرو شئون المدرسة. فيستطيعون مثلاً أن يشتروا ما هم في حاجة إليه من الأقلام وأقلام الرصاص، وأن يشتروا لجرائد اللازمة للمكتبة، وأن يشتروا جميع الأدوات اللازمة للألعاب سواء أكانت داخل المدرسة أو خارجها، وأن يشتروا حاكياً أو مذياعاً، وأن يؤثثوا غرفة هادئة للمطالعة، وأن يقيموا بالرحلات الخ. وكل هذا يستدعي بالطبع وجود مصرف في المدرسة يودع فيه ما يعطاه التلاميذ من مال، ويقوم على تدبير أمره أحد هؤلاء التلاميذ. وكل هذا يستدعي أيضاً أن تقدم اللجان المختلفة ميزانيتها، وأن تفحص هذه الميزانيات لجنة مالية مختصة لتقرر ما تراه.

وقد يكون من بين التلاميذ يصطنعون الحكم الذاتي - ومعظمهم من غير شك قد بلغ سن الشباب - بعض التلاميذ الذين لم يبلغوا هذه السن بعد. فهؤلاء التلاميذ الأحدث يمكنهن أن يشاركوا في عملية الحكم الذاتي، ولكن على شرط ألا يكون عددهم كبيراً جداً. وهنا يتفق نظام الحكم الذاتي عن نظام العرفاء الذي يخضع التلاميذ الصغار لسلطة التلاميذ الكبار.

ويجب أن يعتبر الحكم الذاتي وسيلة يعاقب بها التلاميذ بعضهم بعضاً. وعلى ذلك فيجب ألا يكون العقاب إلا حين يكون من ورائه صون لقوانين الحكم الذاتي من أن تنقض، تلك

ص: 14

القوانين التي شرعها التلاميذ أنفسهم وقصدوا بها إلى ما فيه الخير لهم جميعاً. على أن هذا العقاب يجب أن يكون خالصاً من الغل مبرءاً من الضغينة. فالقوة إذن سناد لقانون الحكم الذاتي في مجتمع التلاميذ كما أنها سناد القانون في المجتمع الكبير. ولكن كلما قوى شعور التلاميذ بما فيه مصلحتهم العامة فإن الحاجة إلى العقاب تقل.

وهنا يأتي الكلام عن مسألة من أهم مسائل الحكم الذاتي: فيجب ألا يتطرق إلى الأذهان أن نظام الحكم الذاتي يرفع عن عاتق ناظر المدرسة ومدرسيها مسئولية التأديب، فهو على العكس من ذلك يزيد من مدى هذا المسئولية؛ وذلك لأن عملية الضبط لا ترمي حينئذ إلى حفظ النظام فقط بل إلى غاية تربوية كذلك. ومعنى هذا أن عملية الضبط في هذا النظام لا تقصد مباشرة إلى مجرد حفظ النظام، وإنما هي تقصد عن طريق غير مباشر لا إلى منع النظام من أن يتطرق إليه العبث ويخترمه الخلل. وإنما تصطنع عملية الضبط هذا الطريق غير المباشر لتكفل للغاية التربوية التي يرمي إليها الحكم الذاتي أن تتحقق، وما هذه الغاية التربوية إلا إفساح المجال لشخصيات التلاميذ حتى تنمو وتترعرع.

ولكن هذا النوع من الحرية لا يرضى به دعاة التحرير فهم يقولون إنه ليس إلا مسخاً للحرية؛ ذلك لأنه يفرض على التلاميذ ما يريده المدرس، فإذا أراد هؤلاء أن ينطقوا مع سجينتهم فيما يفعلون فإنهم سرعان ما يعوقون. وإنما ينادي دعاة التحرير بحرية خالصة من القيود ينطلق معها التلاميذ أينما يريدون فيقعون فيما يقعون من أخطاء ويعالجون هذه الأخطاء كما يحبون

على أن الأستاذ جون آدمز لا يرتضي مذهب هؤلاء. فهو ينادي بأن تكون للمدرس السلطة العليا، تلك السلطة التي تحفظ على جماعة التلاميذ صالحها العام قد تؤدي به الحرية المتطرفة. أضعف إلى ذلك أن الحياة الواقعية حياة مفعمة بالقيود: القيود العامة التي تغلنا بها الحياة في المجتمع، والقيود الخاصة التي يغلنا بها من نخضع له أو من نخضع لهم. فإذا كان التلاميذ لن يواجهوا في المستقبل حياة خالصة من القيود، فأحر بهم أن يعودوا منذ الصغر الخضوع لسلطة مرب أو مربية يقصد كل منهما إلى تهيئة ظروف المدرسة بحيث تكفل لسلوك التلاميذ وشخصيتهم الترعرع والنماء

ويرى الأستاذ أسبورن أن تقسم السلطة مناصفة بين الناظر والمدرسين من جهة والتلاميذ

ص: 15

من جهة أخرى. وهو يعتقد أن هذا التقسيم لا يضير نظام الحكم الذاتي في شيء. فالناظر مثلاً يمكنه أن يفرض على التلاميذ مزاولة الألعاب الرياضية في أيام معينة من الأسبوع، ثم يترك لهم توزيع ضروب هذه الألعاب على هذه الأيام، فيجعلون هذا اليوم للكريكيت وذاك للكشف وهلم جرا. على أنه لا يمكن فصل هاتين السلطتين فصلاً تاماً، فيجب على الناظر والمدرسين أن يصغوا إلى ما يوجهه لهم التلاميذ من نقد، وإن كانوا يملكون حق إهمال هذا النقد

وقد عرض الأستاذ جردن ماكاي المسألة، فقال إنه لا يمكن أن يتحقق نظام الحكم الذاتي من غير وجود المربي. ولكي يبين صحة ذلك انتقل إلى وظيفة المربي، فقال إنها تتلخص في العمل على نشر القدرة المنطوية، ثم العمل على تنمية قدرة تلاميذه جماعة وأفراداً، فالمربي أولاً مرشد وفيلسوف وصديق، وهو إلى ذلك ناصح أمين في كل ما يتعلق بالدروس والاجتماعيات وسائر وجوه النشاط في الفصل.

على أنه يجب أن يتصف بصفات معينة تعينه على أن يكون كذلك، وهذه الصفات ليست إلا صدى للعلاقة التي تربطه بالتلاميذ. فهو يجب أن يثق بأنه قادر على معاونة تلاميذه على نشر مواهبهم الكامنة، وهو يجب أن يعتقد أن نفوس تلاميذه تنطوي على حكمة كثيرة مخبأة، أو على صفات أخرى تستحق أن يكد في سبيل إماطة اللثام عنها، وهو يجب أن يكون ذا عقل واسع الثقافة، وشخصية منسجمة الأطراف متوافقة الأنغام، وقدرة على التنفيذ، وهو يجب أن يجمع إلى هذه الخصال كلها حباً للأطفال يلهبه الحماس، ولكن الحماس الذي يخفف من حدته الحذر ويبعد غوره التبصر

ويزيد الأستاذ ماكاي على ذلك، فيقول إن المربي يجب أن يشعر تلاميذه بأن نجاحهم ونجاحهم فقط هو الهدف الأسمى للمربي، وأنه ما وجد إلا للوصول إلى هذا الهدف. وعلى ذلك يجب أن يحملهم باستمرار على أن يهدفوا نحو شكل من أشكال الكمال هو في الحقيقة أبعد من أن يتناوله ذرعهم، وأن يشعرهم بأنهم إن فشلوا في الوصول إلى هذا الكمال فلسوف يستطيعون فيما بعد ان يحاولوا محاولات أخرى تحدوها خبرة أوسع

والمربي كذلك يجب أن يوفق بين نواحي الضعف في المربي ونواحي القوة، فيعطي من هذه لتلك ليصل بالمربي في آخر الأمر إلى حال من التوازن قائمة على تعاون ملكاته

ص: 16

وتواصلها

وصفوة القول أن نظام الحكم الذاتي يتطلب وجود المربي ليلعب فيه دوره الهام.

(للحديث بقية أخيرة)

السيد يعقوب بكر

ص: 17

‌السيدة سكينة بنت الحسين

للأستاذ سعيد الديوه جي

- 2 -

أمها:

بينما الفارق في المسجد الجامع وحوله شيوخ المهاجرين والأنصار، إذا بشيخ مهيب يتخطى رقاب الناس حتى قام بين يدي الفاروق وحياه بتحية الخلافة، فردها عليه الخليفة وقال له: من أنت؟ قال: أنا امرؤ القيس بن عدى الكلبي. فعرفه عمر؛ وكيف لا يعرف صاحب بكر الذي أغار عليهم في يوم فج في الجاهلية؟! فقال له عمر: ماذا تريد؟ قال: أريد الإسلام. فعرضه عليه فقبله. ودعا له برمح فعقد له على من أسلم بالشام من (قضاعة) وهذا أول رجل عقد له على المسلمين بالشام ولم يصل ركعة واحدة؛ ذلك لما له من المنزلة السامية بين قومه. وأراد علي بن أبي طالب أن يزيد في شرف هذا الشيخ فنهض إليه وأخذ بثيابه وقال له: يا عم أنا علي بن أبي طالب أبن عم رسول الله صلى الله عليه وصهره، وهذان ابناي من أبنته، وقد رغبنا في صهرك فأنكحنا. سر الشيخ من هذه الساعة الميمونة التي نال فيها ما لم يكن يتوقعه؛ اهتدى بنور الإسلام، وتولى إمرة قضاعة بالشام، وهذا أبن عم الرسول وزوج أبنته يريد أن يشرفه بمصاهرته. فألتفت إلى على بن أبي طالب والفرح قد امتلأ قلبه والبشر طافح في وجهه. وقال له:(وقد أنكحتك يا علي المحياة بنت امرئ القيس. وأنكحتك يا حسين الرباب بنت امرئ القيس) وكانت الرباب من خيار النساء وأفضلهن امتازت بفصاحة لسانها ورجاحة عقلها فكان الحسين يحبها حباً جماً لما رآه من كمالها وعقلها. ولامه أخوة الحسين على هذا فقال:

لعمرك إنني لأحُب داراً

تكون بها سكينة والرباب

أحبها وأبذل جل مالي

وليس لعاتب عندي عتاب

فلست لهم وإن غابوا مضيعاً

حياتي أو يغيبني التراب

كانت الرباب مع زوجها مثالاً للمرأة المسلمة الصالحة شاركته أفراحه وأتراحه ورافقته حتى في ساحة جهاده وشهدت بعينها مصرعه ورثته بقولها:

ص: 18

إن الذي كان نوراً يستضاء به

بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة

عنا وجنبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلاً ألوذ به

وكنت تصحبنا بالرحم والدين

من لليتامى؟ ومن للسائلين؟ ومن

يغني ويأوي إليه كل مسكين

والله لا أبتغي صهراً بصهركم

حتى أغيب بين الرمل والطين

وقد برت الرباب بقسمها فكم تقدم إليها من شريف وأمير وخطبها بعد مصرع زوجها، وكان جوابها لكل خاطب:(ما كنت لأتخذ حماً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضت الرباب حياتها حانية على ولديها عبد الله وسكينة).

نشأتها وزواجها:

تولت الرباب تربية ابنتها سكينة فأرضعتها الفصاحة والبلاغة منذ صغرها وأطلعتها على أشعار العرب وأخبارهم. وكثيراً ما كانت ترسلها إلى حلقات العلماء ومجالس رواة الحديث فتأخذ عنهم. كما كانت تقص عليها مآثر آبائها وأجدادها، فتذكرها بجدها الأعظم منقذ العالم من الشرك وهاديه إلى طريق الحق. وتسرد عليها أخبار جدها فتى الفتيان (حيدر) ما كان عليه من البطولة والعلم والفقه في الدين. وكانت الفتاة ذكية الفؤاد تصغي إلى هذه الأحاديث بكل شوق وتفخر بمآثر أجدادها التي دونتها كل فخر، فاهتدت بنورهم وتسنمت ذروة المجد الشامخ

ولما بلغت سن الزواج زوجها أبوها من ابن عمها عبد الله ابن الحسن. وبعد وفاته تقدم إليها شبان قريش يطلبون يدها فلم يوفق سوى أحد الأبطال الذين يضرب بهم المثل في الشجاعة والمروءة والكرم - ذلك هو مصعب بن الزبير - أمهرها مليون درهم وأهدى لأخيها أربعين ألف دينار. وزفت إليه وهي كالنار الموقدة حسناً وجمالاً، وكان الخليفة عبد الملك ينفس على مصعب هذا الزواج، وقد صرح بذلك لجلسائه فقال:(أشجع الناس مصعب بن الزبير الذي جمع في بيته بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسن)

كان مصعب يحبها حباً جماً ويؤثرها على غيرها لعقلها وأدبها وحسبها وقضى معها أسعد أيام حياته، ولكن كل هناء يعقبه عزاء، فلم تطل أيامه معها حتى لقي حتفه. دخل عليها يوم قتله فنزع ثيابه ولبس غلالة وتوشح بثوب وأخذ سيفه لينزل ساحة الوغى. علمت سكينة

ص: 19

أنها الساعة الأخيرة وأنها ستفارقه فراق الأبد فلم تتمالك نفسها وصاحت: (وا حزناه عليك يا مصعب) وما هي إلا ساعات معدودة حتى أتاها خبر استشهاده. فخرجت إلى ساحة الوغى لتنظر البطل المجندل فطلبته بين القتلى وعرفته بشامة كانت في خده فوقفت عليه وقالت: (يرحمك الله، نعم بعل المرأة المسلمة كنت) أدركت والله ما قال عنتر:

وخليل غانية تركت مجندلاً

بالقاع لم يعهد ولم يتلثم

فهتكت بالرمح الطويل أهابه

ليس الكريم على القنا بمحرم

وقفت سكينة طويلاً أمام هذا البطل المضرج بدمائه. وتذكرت أيام نكبتها بشهيد كربلاء، ومر أمامها المناظر المحزنة والمصائب التي توالت على آل البيت. وهاهي تفجع اليوم بزواجها كما فجعت بأهلها من قبل ففاض الدمع من عينها والشعر من قبلها وقالت ترثيه:

فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي

يرى القتل إلا ما عليه حراماً

وقبلك ما خض الحسين منية

إلى القوم حتى أوردوه حماماً

ثم احتسبت واسترجعت، وأمرت بدفن زوجها ثم عادت إلى الكوفة لتلم شعثها وتلحق بأهلها. ولما أرادت السفر تجمع إليها أهل الكوفة ليسلموا عليها، كأنهم لم يسلموا زوجها قبل أيام ولم يسلموا أباها وأخاها قبله، وكأنهم لم يخذلوا جدها. ولكن سكينة من نعرف دهاءها وعقلها فهي أجل من أن تنخدع بظاهر القول. وقد صرحت لهم بما يكنه صدرها من البغض فقالت لهم: (لا جزاكم الله عني خيرا، ولا أخلف عليكم بخير، يعلم الله أني أبغضكم، قتلتم جدي علياً، وقتلتم أبي الحسين، وأخي علياً، وزوجي مصعباً، فبأي وجه تلقوني، أيمتموني صغيرة، وأرملتموني كبيرة.

أراد عبد الملك أن يغتنم فرصة قتل زوجها، وكانت كل منيته أن يتزوجها ليحظى بالجمال والعقل والشرف، ولكن هيهات أن يجد حبه إلى قلبها سبيلاً. ولما عرض عليها أمر خطبتها قالت:(والله لا يتزوجني قاتله أبدا). خطبها الإصبع بن عبد العزيز والى مصر. فكتبت إليه أن أرض مصر وخمة. فبنى لها (مدينة الإصبع) ولكن هذا الأمر لم يرق في عين عبد الملك فحسده وكتب إليه: أن اختر ولاية مصر أو سكينة. فكف عن زواجها. خطبها بعد ذلك زيد بن عثمان بن عفان فشرطت عليه: ألا يغيرها، ولا يمنعها شيئاً تريده، ولا يخالفها في أمر تريده، وأن يكون خروجها بيدها. فرضى وسلم أموره بيدها كما أرادت. ولكن

ص: 20

صاحبنا هذا كان بخيلاً فلم يطق صبراً على تفيضه سكينة على الشعراء والفقهاء وحلقات الأدب وما كانت تنفقه في قصرها وغدواتها ومنتزهاتها. فغلب بخله على هواه وتخلى عنها.

آثرت سكينة بعد هذا أن تعيش منفردة مع جواريها بمكان ناء عن المدينة وضوضائها تتمتع بهدوء الطبيعة وجمالها الفاتن فلم تجد مكاناً أجمل من وادي العقيق الفتان. فباعت مالها بالزوراء وعمرت لها قصراً فخماً بهذا الوادي الجميل. وكلما فاض الوادي كانت تخرج إلى محل السيل يحف بها جواريها. وفي أحد الأيام جلست على حافة الوادي تمتع نظرها بما يحف بها من الأزهار والحشائش وأشجار الاثيل، وكانت السماء صافية والنسيم عليلاً والناس منتشرون حول الوادي يمتعون أنفسهم بهذا الجمال الفتان. أعجبها هذا المنظر البهيج فالتفتت إلى جواريه وقالت:(والله لهذه الساعة في هذا القصر خير من الزوراء).

(يتبع)

سعيد الديوه جي

بالموصل

ص: 21

‌رسالة الجاحظ

في مناقب الترك وعامة جند الخلافة

للأستاذ محمود عزت عرفة

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

مات الخليفة الواثق عام 232 هـ وتولى بعده أخوه جعفر المتوكل على الله؛ وكان النزاع الذي طال أمده قد احدث رد فعل في نفوس المصلحين ومحبي السلام، فبذلت جهودا جبارة للتوفيق بين المتنازعين، وإزالة روح الحسد والتنافس التي طغت على العلاقة بين طوائف الجند، ووشجت بنفوس الرؤساء من كل فريق. وكان على رأس هؤلاء المخلصين الداعين إلى الإصلاح نديم المتوكل وصاحبة الأثير: الفتح بن خاقان الذي تقدم إليه الجاحظ برسالته في مفاخر الترك بعد أن أضاف إليها مقدمة قصيرة ملائمة. ولا شك أنه في هذه الفترة أيضاً زاد من عنوانها فجعله (في مناقب الترك وعامة جند الخلافة). . . إذ الرسالة الأصلية - بعد حذف المقدمة التي توجه بالخطاب فيها إلى الفتح - مقصورة على ذكر مفاخر الأتراك والإشادة بفضلهم على سائر الأجناس، في حربهم وسياستهم وصناعتهم وأخلاقهم، وكل ما يكون موضع فخر ومحل تمايز وتفاضل.

والفتح من الترك، فما يضيره أن يطنب الجاحظ في فضائل بني جنسه؛ ثم هو من دعاة الألفة والإصلاح فلا يضير الجاحظ أن يوطئ لرسالته بحديث في مزايا هذه الألفة يضمنه من فضائل تلك الطوائف جميعاً ما يجعل كلامه أقوى في التأثير وأدعى إلى القبول

بذلك خرجت الرسالة في قسمين: مقدمة في فصل التآلف وضرورة اتفاق الكلمة مع حديث في مزايا كل طائفة من طوائف الأجناد سوى الترك؛ ثم فصل طويل في مناقب الترك خاصة، وهو الرسالة القديمة بعينها. . .

أما المقدمة المستحدثة فيبدأ الجاحظ فيها بالإشارة إلى ما يضطلع به الفتح بن خاقان من الدفاع عن الخلافة والترغيب في الالتفاف حولها، والسعي إلى توطيد التآلف بين أنصارها، وإقرار فضيلة الطاعة وبث روح الود والمناصحة فيهم؛ ثم يقول متوجها بالحديث إلى الفتح:

ص: 22

(وذكرت أبقاك الله أنك جالست أخلاطاً من جند الخلافة، وجماعة من أبناء الدعوة، وشيوخاً من جلة الشيعة، وكهولا من أبناء رجال الدولة والمنسوبين إلى الطاعة والمناصحة الدينية دون محبة الرغبة والرهبة. وأن رجلا من عرض تلك الجماعة ومن حاشية تلك الجملة ارتجل الكلام ارتجال مستبد، وتفرد به تفرد معجب. . . وزعم أن جند الخلافة اليوم على خمسة أقسام: خراساني وتركي ومولى وبنوي. . . وأنك اعترضت على هذا المتكلم المستبد وعلى هذا القائل المتكلف الذي قسم هذه الأقسام وخالف بين هذه الأركان). ويورد الجاحظ عقب هذا بعض ما رد به الفتح على ذلك الخطيب الداعي إلى التفرقة، ويقول له: فزعت أن أنساب الجميع متقاربة غير متباعدة، وعلى حسب ذلك التقارب تكون الموازرة والمكانفة والطاعة والمناصحة والمحبة للخلفاء والأئمة). ثم يشير الجاحظ إلى أن هذا الخطيب ذكر في معرض كلامه جملا من مفاخر هذه الأجناس وجمهرة من مناقبهم، وأنه أطنب في ذلك ما شاء له الإطناب ولكنه (ألغى ذكر الأتراك فلم يعرض لهم، وأضرب عنهم صفحاً فلم يخبر عنهم كما أخبر عن حجة كل جيل وبرهان كل صنف. . .).

ويذكر الجاحظ - على لسان الخطيب أيضاً - مفاخر هذه الأجناس الأربعة سوى الأتراك، فيطنب في مزايا الخراسانيين والعرب والموالى ثم الأبناء. ويتخذ من آمال شأن الأتراك وسيلة إلى الحديث عنهم؛ أي إلى إبراز رسالته الأولى في مناقبهم وهو يسلك إلى ذلك ألطف المسالك فيقول: أن ذهبنا - حفظك الله - بعقب هذه الاحتجاجات، وعند منقطع هذه الاستدلالات، نستعمل المفاوضة بمناقب الأتراك والموازنة بين خصالهم وخصال كل صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أهل الخصومات ففي كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم. وكتابنا هذا إنما تكلفناه لنؤلف بين قلوبهم أن كانت مختلفة، ولنزيد في الألفة أن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم ولتسلم صدورهم. . .)

ولا يخلص الجاحظ إلى رسالته الأولى في مناقب الترك حتى يعاود التمهيد لها والتمويه عن غرضه السابق مها فيقول: (وهم في معظم الأمر وكبر الشأن وعمود النسب متفقون، فالأتراك خراسانية وموالى الخلفاء فصرة، فقد صار التركي إلى الجميع راجعاً، وصار شرفه إلى شرفهم زائدا)

ص: 23

وينتقل الجاحظ بعد هذا إلى رسالته الأصيلة؛ وبديهي أن سطورها الأولى مما كتبه قبل تقديمها إلى الفتح بن خاقان، لأنه يقول فيها بعد التسمية:(هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله رضي الله تعالى عنه ونضر وجهه، فلم يصل إليه لأسباب يطول شرحها. . .)

ولا نستطيع بحالٍ ما ان نحدد مدى التحوير الذي أدخله في هذا الموضع، ولكنا نقول انه تحوير ألجأته إليه الضرورة، إذ لا أقل من أن يتوجه بالخطاب من المعتصم المتوفى إلى الفتح الذي تحولت إليه الرسالة.

ويبدأ الجاحظ حديثه عن مناقب الترك بسرد قصة فحواها أن حميد بن عبد الحميد كان جالسا - مع جماعة أسماهم - في دار المأمون إذ خرج عليهم رسول من عنده فقال: يقول لكم أمير المؤمنين متفرقين ومجتمعين، ليكتب كل رجل منكم دعواه وحجته، وليقل إنما أحب إلي كل قائد منكم - إذا كان في عدته وصحبه وثقاته - أن يلقي مائة تركي أو مائة خارجي؟. . . فأجمع القوم على أن لقاء الترك أهون من لقاء الشراة؛ إلا حميداً فإنه خالف هذا الرأي وبالغ في التهويل من شأن الترك والإشادة ببطولاتهم في حربهم. وعقد من الموازنة بينهم وبين الخوارج ما التهى به إلى تصويب رأيه وتثبيت حجته.

وبلغ الحديث المأمون فقال: ليس بالترك حاجة إلى حكم حاكم بعد حميد! فأن حميداً قد مارس الفريقين، وحميد خراساني وحميد عربي، فليس للتهمة عليه طريق. . .

ويمضي الجاحظ إلى غايته من إعلاء شأن الأتراك فيذكر من عجائبهم في حربهم ومن طرائف أقوال الرواة والمحدثين عنهم كل ما تطرب له النفس ويطول به العجب؛ وهو لا يستشهد في كلامه إلا بأقوال رجال من ثقات العرب والخراسانيين - سوى الأتراك - حتى يكون ذلك أبعد عن التهمة وأقوم بالحجة، وأدعى إلى الاقتناع. فيحكى عن سعيد بن عقبة بن سلم الهنائي، ويختم ما ينقله عنه بقوله:(فهذا قول سعيد بن عقبة ورأيه وحديثه، وهو عربي خراساني). ويروي بعض ما يقصه ثمامة بن أشرس ويعقب قائلاً (هذا ثمامة بن أشرس وهو عربي لا يتهم في الأخبار عنهم). ويروي أيضاً عن يزيد بن مزيد الشيباني ما وصف به الموقعة التي قتل فيها دولبا التركي الوليد ابن طريف الخارجي. ويقص عن قتيبة بن مسلم طرائف أخر. ويرى الجاحظ خلال هذا بعض ما شاهده بنفسه فيقول: (وأنا أخبرك أني قد رأيت منهم شيئاً وأمراً عجيباً غريباً. رأيت في بعض غزوات المأمون

ص: 24

سماطي خيل على جنبتي الطريق بقرب المنزل: مائة فارس من الأتراك في الجانب الايمن، ومائة من سائر الناس في الجانب الأيسر، وإذا هم قد اصطفوا ينتظرون مجيءالمأمون وقد انتصف النهار واشتد الحر. فورد عليهم وجميع الأتراك جلوس على ظهور خيولهم إلا ثلاثة أو أربعة! وجميع تلك الأخلاط من الجند قد رموا بنفوسهم إلى الأرض إلا ثلاثة أو أربعة! فقلت لصاحب لي: أنظر أي شيء اتفق لنا؛ أشهد أن المعتصم كان أعرف بهم حين جمعهم واصطنعهم.

ولا يفرغ الجاحظ من حديثه في هذه الرسالة حتى يكرر النص على أنه إنما وضعها بغية التأليف بين القلوب وجمع الكلمة وتوحيد المقصد والغاية؛ وأنها ليست من كتب المناقضات أو إظهار التبحر في العلم والاتساع في المعرفة؛ لأنه لا يهدف إلى شيء من هذا، وإنما هو يرمي إلى التوفيق من أوجز طريق، ويرى (أن القليل الذي يجمع خير من الكثير الذي يفرق). . .

. . . بهذا التصرف البديع تهيأ للجاحظ أن ينشر رسالته بعد أن يئس من إخراجها أو كاد، فازداد بها فضلاً إلى فضل، وارتفع معها مكانة فوق مكانة؛ وهو لم يحرم مع ذلك أن بعد من الذائدين عن الوحدة، الداعين إلى التآلف والوئام، المصلحين بين الطوائف المتدابرة والفرق المتنافرة؛ وتلك أعراض لا نستطيع الجزم بأن واحداً منها كان يجول بخاطره وهو يضع رسالته الأولى على عهد المعتصم.

(جرجا)

محمد عزت عرفة

ص: 25

‌لماذا لا أثق

بأقوال النحاة ولا اللغويين

للأب أنستاس ماري الكرملي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

القسم الرابع

فعلول (المفعول الأول)

قال السيد مرتضى بعد مادة (ص ر ق) وقبل رسم (ص ر ف ق) - وهو غريب - ما يأتي، ونحن نذكره بحذافيره على طوله لما فيه من الفائدة الجزيلة:

(الصعفوق، بالفتح: اللئيم من الرجال. قاله الليث. وصعفوق: بلدة باليمامة، فيها قناة يجري منها نهر كبير، لهم فيها وقعة، ويقال: صعفوقة بالهاء، وليس في الكلام فعلول سواه. قال الحسين بن إبراهيم النطيري في كتابه دستور اللغة: فعلول في لسان العرب مضمون، إلا حرفاً واحداً، وهو صعفوق، لموضع في اليمامة.

وأما خرنوب بالفتح، فضعيف. قال الصاغاني: وأما الفصيح فيضم خاؤه، أو يشد راؤه مع حذف النون، كما في العباب. وقال شيخنا: لا يفتح خرنوب، إلا إذا كان مضعفاً، وحذفت منه النون، فقيل خرنوب، أما ما دامت فيه النون، فإنه غير مسموع. قال: وأما برغوث الذي حكى فيه الخليل التثليث في الكتاب الذي ألفه فيه، فلا يثبت، ولا يلتفت إليه، وأما عصفور الذي حكى فيه الشيخ الشهاب القسطلاني عن ابن رشيق، فهو أيضاً غير ثابت، ولا موافق عليه. والله أعلم. اهـ.

(قلت (أي الشارح): وقال ابن برى: رأيت بخط أبي سهل الهروي على حاشية كتاب: جاء على فعلول: صعفوق وصعقول، لضرب من الكمأة، وبعكوكة الوادي، لجانبه. قال أبن يرى: أما بعكوكة الوادي، وبعكوكة الشسر، فذكرها السيرافي وغيره بالضم لا غير، أعني بضم الباء. وأما الصعقول، لضرب من الكمأة فليس بمعروف، ولو كان معروفاً لذكره أبو حنيفة في كتاب النبات، وأظنه نبطياً أو عجمياً). أهـ.

(قلت (أي الشارح): ولا يلزم من عدم ذكر أبى حنيفة إياه في كتابه أن لا يكون من كلام

ص: 26

العرب، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ. فتأمل ذلك. والصعافقة جمع صعفوق: خول لبنى مروان، أنزلهم اليمامة. ومروان بن أبي حفصة منهم، قاله الليث. قال: ولم يجئ في الكلام فعلول إلا صعفوق وحرف آخر. ويقال لهم: بنو صعفوق، وآل صعفوق. قال العجاج:

من آل صعفوق وأتباع أخر، من طائعين لا ينالون الغمر قال الأزهري: ويضم صاده ونصه: كل ما جاء على فعلول، فهو مضموم الأول، مثل: زنبور، وبهلول، وعمروس، وما أشبه ذلك، إلا حرفاً جاء نادراً، وهو بنو صعفوق، بالضم. انتهى - وقال الصاغاني: صعفوق ممنوع من الصرف للعجمة والمعرفة، وهو وزن نادر، سموا لأنهم سكنوا قرية باليمامة تسمى صعفوق، كما تقدم. وقيل: الصعافقة: قوم كان آبائهم عبيداً فاستغربوا. وقيل: هم قوم من بقايا الأمم الخالية ضلت أنسابهم. ويقال: مسكنهم بالحجاز. وقال الليث: الصعافقة: القوم يشهدون السوق للتجارة بلا رأس مال عندهم، ولا نقد عندهم، فإذا اشترى التجار شيئاً، دخلوا معهم فيه. ومنه حديث الشعبي: ما جاءك عن أصحاب محمد، ودعى ما يقول هؤلاء الصعافقة. أراد أن هؤلاء ليس عندهم قفة ولا علم بمنزلة أولئك التجار الذين ليس لهم رؤوس أموال. الواحد: صعفق صعفقي صعفوق، بالفتح. واقتصر الجوهري على الأولين، والجمع صعافيق أيضاً.

قال أبو النجم:

يوم قدرنا والعزيز من قدر،

وآبت الخيل وقضَّيْن الوطر

من الصعافيق وادركنا المِئر

أراد بالصعافيق أنهم ضعفاء، ليست لهم شجاعة، ولا سلاح، ولا قوة على قتالنا) أ. هـ آخر كلام التاج بنصه على فيه من الطول

رأى الألوسي في الصعافيق

ونزيد على ما تقدم، أننا كنا سألنا في سنة 1895 أستاذنا الكبير، محمود شكري الألوسي، عن هؤلاء القوم أصلهم، لأنه كان واقفاً أتم الوقوف على ما يتعلق بأخبار العرب وقدمائهم، وما يتصل بهم. فقال لي: (إنهم يونانيو الأصل، أتى بهم عبيد أسرى في صدر الإسلام، ثم بيعوا، فوضعوا في قرية من اليمامة عرفت باسمهم؛ ثم اتخذوا خولاً، ومن اليمامة انبثوا في

ص: 27

سائر العرب، فأسلموا، فاندمجوا بأهالي تلك الربوع، ولم يبق منهم باق) انتهى.

رأينا الخاص بنا

وعليه فيكون هذا الاسم يوناني الأصل، وهو بفتح الأول ومنحوت من قولهم أي ظاهر وواضح وصاف، أي تكلم جهاراً في مجلس أو نادٍ، أو تكلم كلاماً جهورياً، لأن الحرف بتمامه وذلك بأن هؤلاء القوم كانوا يتكلون ببراعة ومهارة بين أيدي الناس، ترغيباً في البضاعة والتجارة أو في أي مهنة يزاولونها أو يتخذونها. واليونانيون - حتى عوامهم معروفون بالتشدق. ولما كان هذا الاسم يونانياً، واشتهر بالفتح قبل ان تضبط قواعد اللغة ضبطاً محكماً بالأقيسة والقواعد، لم يكن قتل هذا اللفظ سهلاً، فاشتهر بين الناطقين بالضاد، وفشا فشوا غريباً في جميع طبقات الناس، ولما جاء أرباب القواعد، لم تصادف لها مزدرعاً طيباً فبقى اللفظ على علاته، ولهذا قد يقاس هذا الحرف أيضاً على القواعد الشائعة، ولا مانع من ذلك.

فلا جرم أن الفتح هو الأصح، لقدمه في اللغة، ولتمكنه فيها ولا سبيل إلى إنكاره، لاستحكامه في الأنفس وفي الدواوين اللغوية والتاريخية منذ أقدم الأزمنة، أي منذ نأنأة الإسلام. وأما ضبطه بالضم فيكون من باب إجراء أحكام القياس.

إذن يجوز الضبطان ويبقى الفتح هو الأعلى، وأصح المثال الأمثل الذي يقاس عليه ما يأتي من الحروف على نحوه.

ما جاء من الألفاظ على صعفوق بالفتح

وأما أن هناك غير صعفوق من الألفاظ فمما لا شهة فيهولا يمكن أن ينكر، من ذلك: الصعقول، وقد مر الكلام عليها، فهي الحرف الثاني

والثالث: ترفوق

والرابع: طرخون

والخامس: برشوم، لضرب من التمر أو النخل

والسادس: قربوس، على لغة ذكرها التاج

والسابع: بعكوك وقد مر ذكرها

ص: 28

والثامن: كرموص

والتاسع: صندوق على لغة ذكرها الشارح

والعاشر: كندوج

والحادي عشر: سنطور وهو من كلام المولدين

والثاني عشر: برغوث. على لغة وإن أنكرها بعضهم

والثالث عشر: خرنوب، وإن أنكرها بعضهم، وهي لغة مشهورة

والرابع عشر: عمروس، علم رجل. قال في القاموس:(وفتحه من لحن المحدثين)، ثم زاد الشارح: (وتحريفهم لغرابة بناء فعلول، سوى صعفوق، وهو نادر، قاله الصاغاني

15 -

حمدون (القاموس واللغويين)

16 -

سعدون (التاج)

17 -

ذرنوق في قولهم: الزرنوقان، بالضم، ويفتح (القاموس) وزاد في التاج بعد قوله: ويفتح (حكاه اللحياني رواه عنه كراع. قال: ولا نظير له إلا بنو صعفوق: خول باليمامة. وقال ابن جني: الزرنوق بفتح الزاي. فعنول، وهو غريب. ويقال الزرنوق بضمها) أ. هـ.

18 -

خلدون ومنه ابن خلدون، وجميع من ترجم له ضبطه بفتح الأول، ولم يضبطه أحد بضمه وهو أشهر من أن يذكر

19 -

سمهوط. قال ياقوت: (بفتح أوله وسكون ثانيه ويقال بالدال المهملة مكان الطاء: قرية كبيرة على شاطئ النيل بالصعيد، دون فرشوط. والله أعلم.

20 -

سحنون. كذا ضبطه جميع من ترجم لمن اشتهر بهذا الاسم. من ذلك عبد السلام بن سعيد بن حميد التنوخي الملقب بسحنون. ومحمد بن سحنون التنوخي

21 -

عبدون. ومنه عبد المجيد بن عبدون. الفهري، من أبناء المائة السادسة.

22 -

عبدوس. ومنه محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن عبدوس من أبناء المائة الثالثة. وعبدوس بن زيد، طبيب من أبناء المائة الرابعة

23 -

دستور. جاء في التاج في ماجدة (دستر). وفي الأساس: الوزير: الدستور. قال شيخنا: وأصله الفتح، وإنما ضم لما عرب، ليلحق بأوزان العرب، فليس الفتح فيه خطأ

ص: 29

محضاً، كما زعمه الحريري، وولعت العامة في إطلاقه على معنى الإذن). أ. هـ

24 -

عصفور. قال في كشف الطرة ص233: (عصفور في لغة حكاها ابن رشيق، والمشهور فيه الضم) أهـ.

25 -

شمعون بالشين المعجمة والميم والعين المهملة. هكذا ضبطه صاحب القاموس

26 -

سمغون، مثل السابق، إلا أنه بالغين المعجمة ذكره أيضاً القاموس

27 -

سنهور، بالسين المهملة (القاموس والتاج وياقوت)

28 -

شنهور كالسابقة، لكنها بالشين المعجمة (التاج)

29 -

بركون (القاموس وياقوت)

30 -

جوع برقوع. قال الشارح: (كعصفور وصعفوق جاء الأخير نادراً ندرة صعفوق). أ. هـ

الخلاصة:

ليس فعلول من الأوزان النادرة، وقد ذكرنا من الشواهد على كثرتها وهي ثلاثون. ولو أمعنا في البحث لصعفناها، وربما مراراً، لكنا اجتزأنا بهذا القدر إثباتاً لما ذكرناه، من أن هذه القاعدة، وهي ليس لفعلول سوى حرفين، غير صحيح البتة، فيجب نقضها وتذريتها في الهواء هباء منثوراً!

الأب أنستاس ماري الكرملي

من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ص: 30

‌50 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الرابع عشر - الصناعات

تعتبر الزراعة أهم أعمال المصريين، ويباشرها كما سبق أن ذكرت جميع السكان ما عدا القليل منهم. ويخصب النيل الجزء الأكبر من الأراضي القابلة للزراعة بفيضانه السنوي. ولكن الحقول التي تجاور النهر والقنوات الكبيرة يحفر فيها جور للماء وتروي بآلات مختلفة الأنواع. والشادوف أكثر هذه الآلات شبواً، وهو يتكون من عمودين من الخشب، أو من الطين والعصي، أو من الطين والبردي، يرتفعان إلى خمس أقدام تقريباً، ويبلغ ما بينهما أقل من ثلاث أقدام، ويعلوها قطعة خشبية أفقية تمتد من قمة إلى أخرى، ويعلق بها عتلة رفيعة تتكون من فرع شجرة، وينتهي أحد طرفيها بثقالة من الطين، والطرف الآخر بوعاء يعلق بواسطة قضيبين طويلين من النخيل، ويصنع الوعاء على شكل طاس من السلال أو من طوق ونسيج من الصوف أو الجلد. ويرفع الماء في هذا الوعاء إلى علو ثماني أقدام تقريباً ويقذف به في حوض معد لذلك. ويلزم لرفع المياه إلى الحقول في أعالي الصعيد عندما ينخفض النيل أربعة شواديف أو خمسة. وهناك شواديف كثيرة ذات عتلتين يحركها رجلان. ويعتبر الري بالشادوف عملاً شاقاً للغاية. وتوجد آلة أخرى للري وهي (الساقية) وتكاد تكون وحدها المستعملة لري الحدائق في مصر. وتتكون الساقية خاصة من عجلة عمودية ترفع المياه في مجموعة متتابعة من أوعية فخارية مشدودة بحبال، وعجلة عمودية ثابتة ذات ضروس مثبتة إلى المحور ذاته، وعجلة كبيرة أفقية ذات ضروس يديرها ثوران أو بقرتان أو حيوان واحد فتحرك العجلتين السابقتين. وتصنع الآلة صناعة غليظة ويحدث تحريكها طقطقة كريهة. وهناك آلة ثالثة تسمى (تابوت) يستعملها

ص: 31

المصريون لري الأراضي شمال مصر حيث لا يلزم رفع المياه إلا لارتفاع قليل. ويشبه التابوت الساقية نوعاً، والفرق الرئيسي بينهما أن للتابوت، بدلاً من عجلة الساقية ذات الأوعية، عجلة كبيرة مجوفة الدائرة ترفع فيها المياه. وتستعمل (القطوة) في الأقاليم نفسها. وهي وعاء مثل وعاء الشادوف يشد إلى حبال أربعة، ويستعمل كثيراً لرفع المياه إلى جرة التابوت. ويحرك القطوة رجلان يمسك كل منهما بحبلين. وتقسم الأرض في نظام الري الصناعي إلى مربعات صغيرة يحدها ارتفاع من التراب أو الأخاديد، فيسيل الماء من الآلة في قناة ضيقة إلى المربعات أو الأخاديد الواحد تلو الآخر

لا تزرع الأراضي (الري) أي التي يغمرها الفيضان، ما عدا القليل منها، إلا مرة واحدة في السنة فيبذر القمح والشعير والعدس والفول والترمس والحمص الخ بفد انسحاب المياه في آخر أكتوبر أو وابتداء نوفمبر تقريباً. ويسمي هذا الموسم (الشتوي). أما الأراضي (الشراقى) وهي التي لا يصل إليها الفيضان لعلوها وبعض الأراضي (الري) فتنتج ثلاث غلات سنوياً بفضل الري الصناعي، وإن لم تكن الأراضي الشراقى جميعها تزرع هكذا. وتنتج الأراضي التي تروى صناعياً أولاً المحصول الشتوي، إذ هي تبذر مع الأراضي الري في وقت واحد، بالقمح والشعير على العموم. وعقب ذلك تبدأ زراعته الصيفي أو ما يسمونه في الصعيد القيضي أو (الجيضي) وتكون عند الاعتدال الربيعي تقريباً أو بعد ذلك فيزرع (الذرة الصيفي) أو النيلج أو القطن الخ. وأخيراً تأتي الزراعة (الدميري) مدة ارتفاع النيل وتبدأ عند الانقلاب الصيفي أو بعده بقليل، فتبذر (الذرة الصيفي) مرة أخرى أو (الذرة الشامي) الخ. وهكذا تجود الأرض بمحصول ثالث. ويزرع القصب على مساحة كبيرة في الصعيد. ويزرع الأرز في الأراضي المنخفضة قرب البحر الأبيض المتوسط

يستعمل المصريون (النورج) لفصل حبوب القمح والشعير وقطع القش للعلف. والنورج آلة على هيئة مقعد تسير على عجلات حديدية صغيرة، أو صفائح مستديرة دقيقة، عددها على العموم إحدى عشرة عجلة مثبتة إلى ثلاثة محاور، أربع عجلات في المحور الأوسط. ويجر النورج بقرتان، أو ثوران يدوران في حلقة فوق الحبوب. أما المحراث وآلات الفلاحة الأخرى، فهي ذات نوع بدائي.

تشغل الملاحة النيلية عدداً كبيراً من المصريين. وأغلب نوتية النيل أقوياء بارزون

ص: 32

العضلات. وهم يقاسون مشقة في التجديف وسحب المراكب ودفعها (بالمدرة)، ولكنهم كثيرو الجذل؛ ويزيد سرورهم كلما كثر عملهم، إذ هم يسلون أنفسهم بالغناء. ويتعرض أكثر الربابنة خبرة إلى جنوح سفنهم نتيجة للتغيرات المتواصلة التي تحدث في مجرى النيل، ويلزم حينئذ أن ينزل البحارة إلى الماء لدفع المركب بظهورهم وأكتافهم، وتصنع المراكب النيلية بطريقة تمنعها من الاصطدام بحيث تغوص مقدمها في الماء عن مؤخرها، ومن ثم يلزم أن تكون الدفة كبيرة جداً. وتكون أحسن أنواع المراكب النيلية، وهي كثيرة العدد، بسيطة الشكل رشيقة. وتكون غالباً على طول بين ثلاثين وأربعين قدماً. ويكون لها ساريتان وشراعان مثلثان كبيران، وقمرة تتلو المؤخرة وترتفع إلى أربع أقدام تقريباً، وتشغل القمرة ربع المركب أو ثلثها طولاً؛ وكثيراً ما تشغل الثلثين أو أكثر. ويستخدم عادة ملاح ليمسك حبل الشراع الرئيسي، إذ أن يترك الشراع يخفق عند أقل إشارة. ويجب أن يكون المسافر حذراً بصفة خاصة مهما اعتدل الجو.

عدلي طاهر نور

ص: 33

‌وداع.

. .!

نشرتْ على الأفقِِ البَعيدِ قلاعَها

تلك السفينة ازمعت إقلاعَها

قد خلَّفتني كالغريب بشاطئٍ

أودعتُ أسراري به فأضنها

السحْبُ أحبابُ تمزَّق شملهم

والشمس غاربةُ تذيب شعاعها

يبدوا على الموج اللعوب ويختفي

كسراب قافلة تذيب شعاعها

وسلوُّ ثاكلةٍ وأمنِ مضلِّلٍ

وكدمع عاشقة، دعت فأطاعها

تذرى مدامعَها فإن مسَّ الأسى

بردُ التجلد، حاولت إرجاعها

مضت السفينة بالكنوزِ وودعت

أرض الصبابة: شطها وبقاعها

ضمت جوانحُها هناءةَ عاشقٍ

لو يُسأل الدنيا بديلاً، باعها

وضياء مكفوفٍ وغفوةَ ساهد

ومباه قافلةِ الهوى ومتاعَها

كيف استحال هناؤهن مواجداً

بل كيف غيَّرتْ السنونُ طباعها

أين الهوى، وشكوك ويقينه؟

كانت رؤى حلم جفتْ هجّاعها

أيام كان لنا جنيناً يُرتجي

ملأ الجوانح بالنعيم وراعها

ومساء مولده السعيد بجنةٍ

تفتِ الرقيب وغيبَّت مناعها

بل أين يومَ حبا على بُسُط المنى

طفلاً تبيح له الجنان رضاعها. . .

. . . أغرت به أرض الشقاء ضباعها

حسداً وأضرتْ بالغرير سباعها

وا رحمتا للمستظل بدوحةٍ

لا ظلها يلفي ولا أسجاعها

وا رحمتا للقلب بات نعيمه

ناراً تزيد على الندى لذَّاعها

مضت السفينة بالكنوز وودعت

أرض الصبابة: شطها وبقاعها

أخفت بخفاق المياه صفاحها

ورمت لخفاق الرياح شراعها

يهفو إلينا بالشجون وطالما

أهدي البشائر باللقا وأشاعها

طوراً تُحَجَّبُه الدموع وتارةً

يهتز رفاَّفَ المنى لمَّاعها

فإِخالها ألقت هنا مرستها

وإخالها مدَّت إليَّ ذراعها

ما أضعف الجبار في أوهامه

طفلاً وما أقوى الرؤى وصراعها

حيناً تغرد للغرام وتارةً

تبكي الصبابة: وُجْدَها وضياعها

(الإسكندرية)

ص: 34

إدوارد حنا سعد

ص: 35

‌أنشودة الحرب لأبليس

أنشودتي ترقص ألحانها

على هوى رقص بنيَّاتي

نوافراً حولي كبعض الدمى

يعلن في الليل مسراتي

على الدم المسفوح أقدامها

وفوق أجسام وهامات

إرادة الله لها قيمة

والحرب هذى من إرادتي

هيأتها سراً وأطعمتها

شراً وألوان العداوات

حتى إذا ما اضطرمت نارها

وأسفرت عن وجه سعلاة

قمت على آثارها ضاحكاً

وابؤس أحياء وأموت!

مصباحي الأحمر أوقدته

وأقبلت نحوي فراشاتي

أطعمها الموت فلا تثني

تقول لي هات لنا هات

وأمة فرقت ما بينها

حتى غدت أشتات أشتات

وعفت بعد الأمن نسوانها

شوارداً في عرض موماة

كشف عنها الستر في ليلة

رهيبة من بعض ليلاتي

بكى لها السرحان من رحمة

ولم يكن فيها بمنجاة

وبلدة صيرتها بلقعاً

من بعد أنهار وجنات

يصيح فيها الموت مستشعراً

خوفاً ويمضي تحت راياتي

وطفلة أطعمت أحشائها

ذئباً ونسراً في العشيات

ودار أنس قد رعاها الهوى

هدمتها بالمدفع العاتي

فهل درى آدام بعض الذي

يلقي بنوه من نكاياتي

وهل درت حواء شكري لها

من يوم عهدي في السموات

بناتها ما حدن عن نهجها

كلا ولا عفن وصياتي

يقتدن بالرفق قلوب الورى

إلى منى حمر ولذات

أنشودتي تقطر ألحانها

دماً من ضحياتي

هدية لله قدمتها

ولم يزل يخشى هدياتي

صاعدة بين دخان الوغى

حاملة بعض ابتساماتي

(حلب)

ص: 36

عمر أبو قوس

ص: 37

‌البريد الأدبي

رجعة إلى المذاهب الصوفية

اطلع القراء الكرام على فتوى (الإمام الطرطوشي)(في المذاهب الصوفية) وغيها يقول: مذهب الصوفية بطالة وجهالة. . . ثم كان أن عززنا هذه الفتوى بنشر رأي أئمة الفقه في هذه المذاهب. وفي الحق أن فتوى الطرطوشي وفي رأي أئمة الفقه الدليل القاطع على بطلان تلك الطرائق القدد التي أفسدت على الناس عقائدهم، ومكنت للوثنية من نفوسهم، حتى إذا ما جئت لتردهم إلى دين الفطرة من توحيد الالوهية والربونية لو وراء منهم واستغشوا ثيابهم ثم قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آبائنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟

وإن في هذه الطوائف من يعرف الحق ولكنه ينكره عناداً وحرصاً على ما ينعم من مال وجاه، كدأب الذين من قبلهم:

وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا. وهؤلاء الرؤساء (المسلكون) الذين اتخذوا الانتساب إلى تلك الطرق حرفة لأكل أموال الناس بالباطل. أما عدا هؤلاء من الطالبين أو المريدين، فإن للشيخ (المسلك) سلطة خاصة حتى قالوا يجب أن يكون المزيد مع الشيخ كالميت بين يدي الفاسل، حتى لو أمره بمعصية لكان عليه أن يعتقد أنها لحيره وأن فعلها متعين عليه. فكان من قواعدهم التسليم المحض، والطاعة العمياء. وقالوا أن الوصول إلى العرفان المطلق لا يكون الا بهذا.

ومن ثم زادوا أمراً آدا في الدين هو أظهر من كل ما عداه قبحاً وهدماً للدين (وهو زعمهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر، فإذا اقترف أحدهم ذنباً فأنكر عليه منكر قالوا في المجرم أنه من أهل الحقيقة فلا اعتراض عليه، وفي المنكر أنه أهل الشريعة فلا التفات اليه. كأنهم يرون أن الله تعالى أنزل للناس دينين، وأنه يحاسبهم بوجهين، ويعاملهم معاملتين - حاش لله ولدينه - نعم جاء في كلام بعض الصوفية ذكر الحقيقة مع الشريعة، ومرادهم به أن في كلام الله ورسوله ما يعلو إفهام العامة بما يشير إليه من دقائق الحكم والمعارف التي لا يعرفها الا الراسخون في العلم فحسب العامة من هذا الوقوف عند ظاهره، ومن آتاه الله بسطة في العلم ففهم منه شيئاً أعلى مما تصل إليه إفهام العامة فذلك

ص: 38

فضل الله يؤتيه من يشاء ممن يجد ويجتهد للتزيد من العلم بالله وسننه في خلقه.

فهذا ما يسمونه علم الحقيقة لا سواه، وليس فيه شيء يخالف الشريعة أو ينافيها) أهـ

أما ما يموه به المتصوفة على العامة وأشباه العامة بحيلهم ودجلهم لإثبات ما يزعمونه لأنفسهم من كرامات فهو ضرب من ضروب السحر كان يقوم بمثله الكهان من العرب في الجاهلية (وكانت أكثر مخاريق الحلاج من باب المواطآت).

وموطآت الحلاج هي أنه كان يتفق مع أناس من رجاله على ما يلبسون به على الناس بدعوى الكرامات. وقد اكتشف ذلك في عصره كما بينه التنوخي في جامع التواريخ (نشوار المحاضرة) ومنه أن رجلاً جاء بصفة مسترشد وإنما هو مختبر فقال له الحلاج: تشه على ما شئت فقال: أريد سمكاً طرياً وكانوا في بعض بلاد الجبل البعيدة عن الأنهار والبحر، فدخل بيتاً خالياً من داره وأغلق عليه بابه، وعاد بعد ساعة طويلة وقد خاض وحلاً إلى ركبتيه وبيده سمكة تضطرب وزعم أنه دعا الله فأمره أن يذهب إلى البطائح قال: فمضيت إلى البطائح فخضت الأهواز وهذا الطين منها حتى أخذت هذه. فقال الرجل: تدعني أدخل البيت فإن لم ينكشف لي حيلة فيه آمنت بك. فقال: شأنك. فدخل وبعد عناء وتنقيب اهتدى إلى دار كبيرة فيها بستان عظيم فيه صنوف الفاكهة والثمار والنوار ومنها ما ليس من وقته ولكنه محفوظ بحيلة صناعية، ووجد فيها خزائن مليحة فيها أنواع الأطعمة الناضجة والحوائج لما يهيأ بسرعة ورأي في الدار بركة ماء مملوءة سمكاً فأخذ واحدة منها وخرج. . . فتبعه الحلاج فرمى بالسمكة وجهه وصدره وهرب. وأقسم الحلاج ليقتلنه إن حدث أحداً بذلك ولو في تخوم الأرض. ولم يحدث بها الرجل الا بعد قتله لعلمه بأنه لو أمر المفتونين به أن يقتله فأنه يفعل).

وبعد فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمين ببركة كالتصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرع - اتخذوا الشيوخ أندادا، وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق بعد أن كانت للعبرة وتذكر القدوة. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

(كفر المندرة)

احمد احمد القصير

ص: 39

مثل الحقيقة في رأى أفلاطون

أورد التوحيدي في مقياساته مقالة لأفلاطون جاء فيها (إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه، ولا أخطأوه في كل وجوهه، بل أصاب منه كل إنسان جهة. ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل، وأخذ كل واحد منهم جارحة منه، فجسها بيده ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والرابية المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره. فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك، وكل ما يكذب صاحبه ويدعى عليه الخطأ والغلط والجهل فيما يصفه من خلق الفيل.

فانظر إلى الصدق كيف جمعهم، وانظر إلى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حنة فرقهم؟

وأنت إذا امتثلت قول أفلاطون هذا خير امتثيل، استطعت أن تجد فيه تفسيراً لما يقوم بين الناس من نزاع في كل مجال فلا يكاد الناس يتفقون في أية ناحية من نواحي الفكر والوجود على الرغم من أن الحقيقة في ذاتها واحدة. والسر في هذا الاختلاف، أن الذهن البشري لا يستطيع - لفرط قصوره وعجزه - أن يحيط بالأمر الذي ينظر إليه إحاطة وافية، ولذلك نراه يقصر نظره على ناحية واحدة من نواحيه، فلا يصيب منه إلا جهة واحدة، ومن ثم تفوته جهاته الأخرى التي عمى عنها. والذي يحدث أن الجهة التي يصيبها الفرد الواحد تكون مغايرة لما يصيبه غيره من الأفراد، فينشأ من ذلك الاختلاف والتنازع. وليس ثمة شك في أن كل ما يقوم بين الفلاسفة والمفكرين من خلاف في الرأى، إنما يترتب على اختلاف (الجهات) التي ينظر منها كل واحد منهم. وكثيرا ما تكون آراؤهم جميعاً صحيحة صائبة على الرغم من التعارض الذي يوحي به ظاهر القول. ولعل المرء لا يعدم لذلك في الطبيعة نفسها، مثالاً حياً صادقاً: فإن المنظر الطبيعي الواحد، يختلف أشد الاختلاف تبعاً للجهة التي ينظر منها الإنسان إليه حتى إنك لترى صورتين قد أخذتا لمنظر واحد، فتتوهم أنهما تمثلان منظرين مختلفين، وما ذلك الا لأن الجهة التي أخذت منها الصورة الواحدة، مختلفة عن تلك التي أخذت منها الصورة الأخرى.

(مصر الجديدة)

ص: 40

زكريا إبراهيم

فتاوى المفنى الأكبر

أقر معالي وزير العدل جمع فتاوى فضيلة مفتى الديار المصرية الحالي، وتبويبها مع مقارنتها بالمحفوظ من فتاوى مفتى مصر السابقين ووضع ذلك كله في كتاب يطبع على نفقة الوزارة وقد جاء في مذكرة هذا القرار ما يلي:

كتب الواقعات والفتاوى من أقوى الدعائم التي قام عليها بناء الثروة الفقهية الإسلامية وقديماً عنى الملوك والوزراء وسواهم بجمع فتاوى المفتين ونشرها حتى تكونت منها موسعات فقهية عظيمة النفع جليلة القدر، غير أنه منذ بداية هذا القرن لم يظهر بمصر شيء منها ومكانة مصر من العالم الإسلامي تدعوها إلى أن تكون أول من يعمل على تتابع حلقات هذه السلسلة الفقهية العظمى.

وحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الحنفية ومفتى الديار المصرية الحالي قد قضى في منصب الإفتاء قرابة خمسة عشر عاماً اصدر في خلالها مجموعة ثمينة من الفتاوى اشتملت على بحوث ضافية وتحقيقات قيمة، وجمع النصوص الفقهية وتحريرها وتطبيقها أحسن تطبيق على حوادث هذا العصر فكانت من أفضل المراجع الفقهية حتى لقد رغب الكثيرون من رجال القضاء وسواهم في ترتيب هذه الفتاوى ونشرها وتكرر إبلاغ هذه الرغبة إلينا. وقد رأينا أن الفائدة تكون أتم، والنفع أعظم إذا انضم إلى ذلك مقارنة هذه الفتاوى بما هو محفوظ من فتاوى المغفور لهم مفتى مصر السابقين وخاصة فتاوى: الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي.

ص: 41