الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 507
- بتاريخ: 22 - 03 - 1943
فلسفة الترجمة
للأستاذ عباس محمود العقاد
مر بمصر في الشهر الأخير كاتب من أشهر كتاب السير والتراجم بين الإنجليز العصريين، وهو الأستاذ فيليب جوداللا صاحب سيرة شرشل وسيرة بالمرستون وسيرة نابليون الثالث بطل الإمبراطورية الثانية، وسيرة ولنجتون القائد الإنجليزي المعروف، ويحسبها بعضهم خير ما كتب في مادة السير والتراجم على الإجمال، وهذا عدا التراجم القصيرة التي كتبها لكثير من القادة والأدباء من الإنجليز وغير الإنجليز
وقد دعاه (الاتحاد الإنجليزي المصري) بالقاهرة إلى المحاضرة فيه، فاختار للكلام موضوعاً هو أقرب الموضوعات إليه وأولاها أن يخاطب السامعين والقراء فيه وهو (عمل المترجم) أو عمل الكاتب الذي يُدوِّن تاريخ العظماء ومن لهم تاريخ يستحق التدوين
والحق أنه أدى عمل المحاضر في الأندية العامة أحسن أداء، فلم يكن متعمقاً معاظلاً يتعب السامع الذي يتتبع الحديث ويريد أن يفهمه وهو يصغي إليه؛ ولم يكن هيناً يقول ما ليس يستحق الإصغاء ولا يخرج السامع منه بمحصول يفيد، بل قال ما يفيد ويمتع، وأودع حديثه السهل زبدة الآراء التي يستصوبها من وجهة نظره في صناعة الترجمة وكتابة السير بأسلوب يخيل إلى من يستخفه أنه تسلية ساعة، وهو في الواقع خلاصة حياة، بل خلاصة حيوات إذا نظرنا إلى التراجم الكثيرة التي خرج منها بهذه الخبرة الطويلة
فالترجمة عنده ليست (بقصة) طلقت اللهو والعبث ولبست لبوس الوقار والاحترام!. . . ولكنها تاريخ من التواريخ يطبق على الأفراد بدلاً من تطبيقه على الأوطان والأقوام
وهي من ثم جديرة بأكبر عناية في العصور الحديثة التي شاع فيها تهوين الفرد وتعظيم شأن القوى والعوامل الجامعة، فإن الفرد ولا ريب يدل على شئ كثير، لأنه يرتفع على القمة فيشير إلى اتجاه التيار، فإن لم يكن هو الفعال لكل شئ في زمانه فهو على التحقيق دليل على مجرى الزمن وعلى ما يكمن وراءه من الدوافع والمؤثرات
وقال: إن الفرق بين فرنسا قبل نيف وثلاثين سنة وفرنسا اليوم إنما هو في جملته فرق بين رجلين: بين فوش وبيتان! كما أن تاريخ إنجلترا في السنوات الأخيرة إنما هو مظهر الفرق بين شمبرلين وشرشل
ولما تعرض لفن السيرة أو فن كتابتها حذر الكاتب من فتنتين تغريانه من جانبين مختلفين: أحدهما جانب البلاغة الأدبية، والآخر جانب النظريات النفسية أو (السيكولوجية)
فليس الغرض من الترجمة إخراج قطعة من الأدب البليغ، وإن صح أن تجئ أدباً بليغاً في عرض الطريق
وليس الغرض منها عرض النظريات النفسية التي قلما تفضي إلى يقين، لأنها بين شئ مفروض معلوم من قبل، وشئ لا نفرضه ولا نعلمه على الإطلاق، وفي كلا الأمرين مضلة تستلزم التحذير
إنما الترجمة عمل (يدوي) كما يقال إذا شئنا أن نقابل بينها وبين الخلق الخيالي أو الخلق المثالي الذي يتطوح فيه بعض رجال الفنون. ففي حدود هذا العمل المتواضع ينبغي أن يقبع المترجمون!
ثم حذر الكاتب من خطأين آخرين عند الكتابة عن الأقدمين: خطأ النظر (الفوقاني) أو النظر إلى أعلى وهو ينتهي إلى الإطناب في الحماسيات والبطوليات وتخيل الأقدمين كأنهم جيل من العمالقة أو الملائكة العلويين
وخطأ النظر (التحتاني) أو الترفع عن الأقدمين كأنهم أطفال في حاجة إلى التربيت والإغضاء، مع شئ من الابتسام والاستهزاء
وإنما النظرة الوسطى هي النظرة القويمة، أو النظرة السواء لا إلى الأعلى ولا إلى الأدنى، فنراهم بالعين التي تنظر إلى الحياة اليومية ولا تعيبها مبالغة في الإكبار أو مبالغة في التصغير
وقال: إن الكاتب الذي يشغل ذهنه فترة طويلة بالبحث في سيرة عظيم من العظماءِ لا يلبث أن يشعر عامداً أو غير عامد أنه تقمص ثياب (سكرتير خصوصي) لذلك العظيم. . . فهو يجاريه في ميوله وبدواته، ويترقب ملاحظاته وإشاراته، فيفوته من ثم أن يستقل بذهنه في النظر إليه. وهذه أيضاً فتنة من فتن الترجمة المغرية للكتابة، عليهم أن يتقوها جاهدين ليكتبوا عن عظمائهم عادلين مستقلين
وعلى هذا النمط كانت محاضرته طريفة مفيدة، عليها الطابع الشخصي الذي ينم على تجارب الكاتب نفسه ويصطبغ بصبغة منه، وفيها الأحكام العامة والآراء الأساسية التي
تصلح للمشاركة والاقتباس.
وقد لقينا في منزل صديقنا الدكتور هيكل باشا فسرنا منه أنه مسرور من الجمهور المصري المثقف الذي تحدث إليه، وأنه يلاحظ أنه لم يشعر بفرق قط بين الجمهور الذي كان يتحدث إليه في البلاد الإنجليزية والجمهور الذي تحدث إليه في القاهرة، فالمصريون كما قال يضحكون في مواضع الضحك التي يفطن لها الإنجليز، ويشبهون نظراءهم من السامعين هناك في التفاتات الذهن ومواقف التعقيب عند الإصغاء إلى حديث
قال: والضحك علامة الحضارة، لأن الشعوب البربرية لا تضحك، فذكرنا في تلك اللحظة قولة نيتشه إن الضحك من نكتة واحدة هو أول الدلائل على تقارب فكرين. وقلنا: بهذه العلامة ثق كل الثقة أن المصريين أعظم المتمدنين!
وسألناه: ألا تنوي أن تكتب شيئاً عن مصر بعد هذه الرحلة؟ فقال مبتسماً: لا أزعم أنني أكتب عن وطن بعد رحلة أيام. . . ثم قال: ولعلي أنا الرجل الوحيد الذي قضى في روسيا أسبوعاً ولم يكتب عنها سفراً طويل الصفحات
تلك خلاصة مقربة لجملة الآراء التي تشتمل عليها فلسفة الترجمة في رأي الأستاذ جوداللا، وهي آراء نوافقه على معظمها ولا نكاد نخالفه إلا في الميل إلى البطولة أو إلى الصبغة الأدبية، فإذا استطاع الكاتب أن يستروح نفحة البطولة من مترجمه وأن يبثها في قلوب قرائه فهو في اعتقادنا عمل لا ضير فيه، بل هو واجب مطلوب مفيد لا غبار عليه
وكذلك إذا استطاع أن يرضي ذوق الفن ويرضي الحقيقة في وقت واحد فتلك غاية حرية أن تتطاول إليها أعناق الكتاب، لأن تجميل الحياة بالصدق الفني غرض من الأغراض النبيلة التي نخلص إليها من طريق التراجم كما نخلص إليها من طريق الشعر والنحت والتصوير والغناء، فكل حياة خلت من الجمال الفني ومن الصورة المثالية التي يسبغ عليها ذلك الجمال هي حياة فاترة أو حياة ناقصة لا تستحق أن تعاش، وإنما مقياس الحياة التي تكتب عنها التراجم والسير هي الحياة التي تعاش
وفيما عدا ذلك نوافق الأستاذ جوداللا في فلسفته التي اختارها بعد التجربة الطويلة لصناعة الترجمة وتمثيل العظماء
نوافقه ونحن نعلم صعوبة هذه الموافقة في زمن كثر فيه المنكرون لقيمة الفرد وقيمة
العظمة، وتردد فيه القول بسلطان العوامل الاجتماعية كأنه هو السلطان الذي ليس وراءه سلطان
وقد رأينا فعلاً كاتباً إنجليزياً يعقب على محاضرة الأستاذ جوداللا من هذه الناحية، ويسأله سؤالاً يلخص مواضع اعتراضه فيقول: هل هتلر ظهر في البيئة الألمانية لأنها بيئة مقلوبة أو أن هذه البيئة انقلبت لأن هتلر ظهر فيها؟
والظاهر من سؤال المعترض أنه يأخذ بالقول القائل إن الفرد نتيجة منفعلة، وليس بسبب فاعل في الحوادث التاريخية، وأن العظيم لا ينبغ في أمة إلا إذا تمهدت له دواعي الظهور من تكوين تلك الأمة؛ فالعوامل الاجتماعية إذن هي موضع البحث والالتفات، وليست عظمة العظماء ولا جهود الأفراد
وهذا مذهب مبالغ فيه قد جنح إليه الاشتراكيون على الخصوص لأنهم يردون العوامل كلها إلى المجتمع وعناصر تكوينه ومعيشة أبنائه، ولكنهم مهما يبالغوا في هذا فلن يستطيعوا أن يزعموا أن العظماء والصغراء سواء، وأن النوابغ لا يقدرون على عمل يعجز عنه المحرومون من النبوغ. ومتى كان مسلما أن النوابغ يعملون وأن عملهم لا يذهب سدى فهذا هو المهم الذي يستحق النوابغ من أجله دراسة الدارسين وإعجاب المعجبين
يسأل السائلون الفارغون: من صاحب الفضل في السياحة؟ المركب أو البحر أو الريح؟
وهذا سؤال فارغ كما قلنا لأن السياحة كلمة لا معنى لها إذا انفرد المركب أو انفرد البحر أو انفردت الريح
ففي الساعة التي تلفظ فيها كلمة السياحة البحرية تتمثل لما كل هذه العناصر مجتمعات، ولكنها تتمثل أو لا تتمثل تعجز كل العجز عن إنكار حق المركب في إتمام السياحة، وحق المسافر في الاختيار بين مركب ومركب، وحق الشركات في إنشاء المراكب ورصد المسافات كيفما كانت البحار والرياح.
وكذلك العظمة المشهورة كلمة تستلزم وجود الآدميين الذين يشتهر بينهم العظيم بغير فلسفة ولا تعمق ولا استطلاع لمغيبات. ولكن ماذا في هذا مما ينفي أن العظيم أفعل من الصغير، وأن هذه الأفعال جديرة بالتقديم والتأخير في سير الأمور؟
فالفرد شئ والعوامل الاجتماعية شئ، ومن قال إن الفرد لا يهم فقد أنكر الغاية من إصلاح
المجتمع كله، لأن كل إصلاح لا ينتهي إلى الاهتمام بالأفراد فهو إصلاح تركه وإنجازه سواء.
عباس محمود العقاد
الشعب هو المسئول عن الإصلاح الإجتماعي
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
ليتك شهدت المناظرة التي أقيمت بكلية الآداب في مساء الأحد الماضي، لترى مبلغ ما وصلنا إليه من حرية الفكر والرأي، ولترى كيف يستبيح ناسٌ إيذاء إخوانهم بلا استبقاء، ولترى أيضاً كيف تطغى العامية الفكرية على بعض من وُسموا بالتثقيف
وسأصف جوّ تلك المناظرة بإيجاز، أداءً لحق (الرسالة)، فمن قرائها ألوفٌ يحبون أن يعرفوا كيف يشتجر القاهريون في ميادين الحجج والبراهين
كانت المناظرة برياسة معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الشؤون الاجتماعية، وقد سُبِقت بحفلة شاي أعدها عميد كلية الآداب ترحيباً بالوزير وبالمتناظرين وكبار المدعوين
وبعد الشاي رأينا الوزير ينتحي ناحية ليراجع خطبة طويلة متصلة بموضوع المناظرة، فعرفت أننا سنقضي شطراً من الليل في نقاش وجدال، وقد هممت بمراجعة الوزير، ثم تركت الأمور تجري إلى مداها المرسوم في ضمير الغيب
وحين وصلنا إلى المدرّج الأكبر بالكلية رأينا جماهير كثيرة وعانينا قيظاً قد اقتُبست ناره من وهج القلوب. . . ألقى العميد كلمة ترحيب بالوزير، وألقى أحد الطلبة كلمة ثانية، ورأى الوزير أن يطوي خطبته لضيق الوقت، ثم دعا المتناظرين إلى الكلام
كنت الخطيب الأول، وكانت خطبتي مكتوبة، ولكني رأيت الجوّ يوجب أن أعرض الموضوع بصورة خطابية، وفي دقائق، لأستبقي الفرصة الباقية، فرصة المنبر الأكبر على صفحات (الرسالة) الصديق
لن أحدثك عما قوبلت به خطبتي من الإعجاب، وإنما أحدثك عن مُناظر قصر خطبته على مناوشتي بأساليب يمجّها الذوق، مع أن المناظرة في كلية الآداب، وبرياسة وزير الشؤون الاجتماعية!
حضر هذا المُناظر وفي قلبه أشياء، فهو لن ينسى أني أفحمته منذ عامين في محاضرة ألقاها بأحد الأندية تأييداً لفكرة وهمية نبتت في بعض خرائب الرءوس، وهو لا يستطيع نشر تلك المحاضرة بأي حال، لأنها من صنوف البهتان
كان الظن أن يتناسى حضرة المناظر تلك المعركة الأدبية، وأن يجعل همه الأول والأخير في شرح الرأي الذي ارتضاه في مناظرة ذلك المساء، ولكنه جعل همه في التحرش بالدكتور زكي مبارك وتأليب الجمهور عليه بطريقة عدّها الحاضرون ضرباً من التحدي الممقوت
ليست المناظرة قتالاً بين شخص وشخص، وإنما هي نضال بين رأي ورأي، وليست المناظرة فرصة للتشفي، وإنما هي فرصة للتصافي
أترك هذا وأذكر أني أعجبت في ذلك المساء بخطبتين مجّدا الفكر والرأي، أحدهما الأستاذ صالح جودت، وثانيهما الأستاذ حسين دياب، ومع أنها جَرَيا في ميدانين متعارضين فقد استطاعا الظفر بالحمد والثناء
قال صالح: إن اعتماد الشعب على الحكومة تحوَّل إلى طمع في الحكومة. وهذه فكرة دقيقة جدَّا
وقال صالح أيضاً: إن الذين يقيمون الحفلات الخيرية لمعونة الفقراء لا يفتحون مغاليق الجيوب إلا بفضل المراقص المسبوقة بأكواب الصهباء
وهذا كلامٌ يجب أن يقال. ولو مرةً واحدة، عساه ينفع بعض الجمعيات
وقال حسين: إن الحكومة هي التي تُسأل عن الإصلاح الاجتماعي، لأن عندها وسائل يعجز عن مثلها الشعب. . . وقال أيضاً: إن يقظة الحكومة لا تغني الشعب عن الاهتمام بما يجب عليه في تدبير أمور المعاش. . . وهذا وذاك من الكلام النفيس
أما لغة المتناظرين فكانت سليمة، بغض النظر عن اللحن المضحك، اللحن الذي تكرر ثم تكرر من الخطيب اللحان، وهو فلان!
أيهون منبر كلية الآداب إلى الحد الذي يسمح بأن يعلوه خطيب لا يعرف الأوليات من قواعد اللغة العربية؟
اتقوا الله يا ناس في منبر كلية الآداب!
ومن ذلك الخطيب؟
سأذكر اسمه يوم يغيّر ما بنفسه بعد قراءة هذا الدرس
سأذكر اسمه يوم يعرف أن المناظر لا يكتفي بالقصاصات من المجلات
إن خطبة عميد كلية الآداب لم تزد عن أربعة أسطر، وهو مع ذلك تلاها تلاوة ليأمن الخطأ في الإعراب، أما فلان فقد فعل بنفسه ما لا يفعل الأعداء
ثم ماذا؟ ثم أعلن معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق أن رأيه كوزير أن يستزيد الحكومة من المسئوليات. فقلت ومن واجب الشعب أن يتحمل جميع المسئوليات
ثم؟ أسجل خطبتي في (الرسالة) لتُسجَّل في ضمير الزمان، وليعرف من لا يعرف أن للمصريين جذوات فكرية مقبوسة من نار الخلود
أيها السادة:
أحييكم باسم الفكر والرأي، ثم أشكر من تفضلوا فدعوني للاشتراك في هذه المناظرة، فقد هيأوا فرصة جديدة لتوضيح نظرية نفر منها الجمهور حين عرضتها في بعض الجرائد والمجلات وهي النظرية التي تقول بأن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع، وبأن الشعب هو المسئول في جميع الأحوال عما يتعرض له من متاعب وصعاب
وسأعرض تلك النظرية في هذا المساء بأسلوب جديد، راجياً أن تراعوا أننا في رحاب كلية الآداب، فلا يثور من تعودوا الثورة على الحق في المناظرات الماضية، وراجياً أن تذكروا أن ما تضيق به صدوركم اليوم قد يصبح من المألوفات بعد حين
أما بعد فمن المسئول عن الإصلاح الاجتماعي: الشعب أم الحكومة؟
في شرح هذه المعضلة أقول:
أنا أقبل إلقاء جميع المسئوليات على الحكومة، إذا صح عندي أن الشعب طفلٌ لا يفرق بين التمرة والجمرة، على نحو ما كانت الحال في طفولة الشعوب
أما اليوم وقد اكتملت قُوى الشعب وتخطى العهود الفطرية فمن الواجب أن يُسأل عن كل شئ، وأن يكون إليه الأمر في جميع الشؤون
وما السبب في إنشاء الحكومات؟
أفترض جان جاك روسُّو أن الخلائق اجتمعت يوماً للتشاور في الصورة التي تصان بها الحياة الاجتماعية، وأن كل فرد تنازل عن جزء من حريته، ليتكون من تلك الأجزاء قوة تحمي المجتمع من عدوان الأقوياء على الضعفاء
وقد آن أن نسترد ما تركنا من حريتنا باسم صيانة المجتمع. آن أن نكرم الإنسانية بأن
تُسأل أمام الضمائر لا أمام القوانين، فإن من العار على الإنسانية أن يطول احتياج بنيها إلى حكام يصدونهم عن تقارض الظلم والاضطهاد
كل أمة تحتاج إلى وزارة اسمها وزارة العدل، فما معنى ذلك؟ معناه أن الأمم لم تصل إلى الرقي الصحيح، ومعناه أن بغي الناس بعضهم على بعض خطر يرتقب في كل حين
لا مانع من أن تكون في الدنيا محاكم، على شرط أن لا يُحتكم إليها إلا في القضايا التي تحتاج إلى اجتهاد القضاة، أما القضايا التي يقال فيها أن الحلال والحرام بين فاحتياج الإنسانية فيها إلى القضاة ضرب من الإسفاف
المثال الصحيح للأخلاق السليمة هو أن تعرف ما لك وما عليك، فتحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتبغض لأخيك ما تبغض لنفسك، ويكون رأيك في تقدير المشكلات الأجتماعية هو الميزان
قال فلاسفة العرب: (الإنسان مدني بالطبع)، ومعنى هذا أنه يكره التوحد الموحش، ويميل إلى الوداد والإخاء، وكذلك كان حاله بالفعل، لولا بدواة ترده إلى عهود الوحشية من حين إلى أحايين
ويقول التاريخ الاجتماعي: إن الدنيا في عهود الظلومات كان فيها شهود يُستأجرون كما يستأجر الفتاك. وقد انقرض هذا الصنف من الناس أو كاد. وتلك بداية لطيفة، فقد نستغني يوماً عن المحاكم، وقد يصبح كل فرد وهو مسئول أمام الضمير لا أمام القانون
أليس من العيب على الإنسانية أن تحتاج إلى جيوش من القضاة والمحامين في شؤون يحكم فيها الضمير قبل أن يحكم القضاء؟
في بضع مئين من السنين يتحول بعض الحجر إلى مرمر، وقد مرت ألوف وألوف من السنين لم يتحول الإنسان إلى ملك
فبأي وجه تلقى الإنسانية بارئها يوم يقوم الحساب؟
الحكمة اليونانية تقول: اعرف نفسك بنفسك
والحكمة الإسلامية تقول: الإثم ما حاك في صدرك
ونحن مع هذا وذاك لا نسير في الطريق إلا معتمدين على أسندة من رعاية الحكومات. . . كأننا خلائق تحبو في فجر التاريخ!
أقدم أمة أقيمت فيها حكومة هي الأمة المصرية، وكان ذلك من أبواب المجد، يوم كان النظام حلما يداعب خيال الإنسانية
وستكون مصر أول أمة تعيش بلا حكومة، وسيكون ذلك أعظم آيات المجد، لأنه الشاهد على السمو الذي تغنى به الحكماء، جيلاً بعد جيل
نحن سبقنا جميع الشعوب إلى إقامة النظام الحكومي، يوم كان أصلح أداة لكبح الطغيان الفردي والاجتماعي
وسنسبق جميع الشعوب إلى الاستغناء عن النظام الحكومي، لأنه يطعن في قدرة الإنسانية على مغالبة الأهواء
وماضينا في التاريخ القديم يطمعنا في تحقيق هذا الأمل الجميل، فنحن الذين أقمنا النظام الشمسي قبل أن تعرفه أمم المشرق والمغرب. ونحن الذين غزونا بالروح أمماً لم تكن تغزى بغير السيف. وقد وصلت فنون أجدادنا إلى أمريكا قبل أن يكتشفها كولومبوس بأزمان وأزمان. . . ألم تسمعوا أن أمريكا وجدت فيها آثار بها ملامح من الفنون المصرية؟
وتحرش بنا الأوربيون متجمعين عشرات السنين لعهد الحروب الصليبية، فرددناهم على أعقابهم بعد أن زودناهم بأصول المدنية الشرقية، وهي أساس المدنية الغربية
ونحن كنا الحصون التي صدت غارات المغول، ومن قبل ذلك بقرون أوحينا إلى الإسكندر الأكبر أن يتجشم متاعب السفر إلى الواحات ليزور معبداً يجمع بين الرحموت والجبروت، وهو معبد آمون، آمون الذي دخل اسمه جميع اللغات فصار (آمين) التي تقال عقب الدعاء
أرضنا هي الأرض، وسماؤنا هي السماء، ومجدنا هو المجد، وخلودنا هو الخلود
فما الذي يمنع من أن نكون أول أمة تعتز بالقوة الذاتية؟
ما الذي يمنع أن نكون حكام أنفسنا في جميع الشؤون؟
وما الذي يمنع من أن نسبق جميع الأمم إلى فهم الغاية الصحيحة من قوة الروحانية؟
لكل أمة عذر في التخلف، ولا عذر لمصر في التخلف، وهي أقدم حجاز بين الحق والباطل والهدى والضلال
وتاريخنا الحديث لا يقلُّ عظة عن تاريخنا القديم، فقد حيكت حولنا الدسائس الدولية بالألوف، وكانت بلادنا مصطرعاً لأشتات من الجيوش، فهل غُلبنا في الميادين الفكرية،
حين غلبنا في الميادين الحربية؟
أين الدولة التي تستطيع أن تزعم أنها نقلت القلب المصري من مكان إلى مكان؟
أين الدولة التي استطاعت أن تصدّ الفكر المصري عن التغلغل في آفاق الشرق؟
لبلادنا خصائص أصيلة أيسرُها القدرة على قهر عوادي الاضمحلال، وكيف تضمحل أرض نجد فيها الماء في كل بقعة، والله جعل من الماء كل شئ حيّ؟
أول كُفر عرفته الخلائق هو كفر المصريين، وأول إيمان عرفته الخلائق هو إيمان المصريين، وأشهر الأفراح أفراح المصريين، وأشهر الأحزان أحزان المصريين
هل عرف تاريخ الجاهلية أعظم من المعابد المصرية؟
وهل عرف التاريخ الإسلامي أروع من المساجد المصرية؟
وهل يوجد للفلاح المصري نظيرٌ في أي أرض؟
وهل يوجد ماءٌ أعذب من ماء النيل؟
وهل عُرفت العظمة في المباني قبل أن تُعرف في هذه البلاد؟
وهل يوجد في الدنيا ناس يفوقون المصريين في حلاوة الشمائل ولطافة الطباع؟
لم يبق إلا أن نتفرد با لابتكار الأخير، وهو الابتكار الذي عجز عنه من اهتدوا إلى البخار والكهرباء، وهذا الابتكار هو الكشف عن الجوانب المستورة من الأرواح والقلوب، الجوانب النقية، ففي قلب كل رجل غابة عذراء لا تغرّد فوق أدواحها غير بلابل الطهر والصفاء
أجمعوا جموعكم، واستعينوا بمفكريكم، لتكشفوا الواحة المجهولة في الضمائر المصرية، فقلبي بأن في هذا الوادي سرائر مطوية تفوق الأحجار التي يشق في البحث عنها علماء الحفريات!
أنفقوا في البحث عن الضمائر الحية معشار ما تنفقون في البحث عن الأحجار الميتة، واعلموا أن مصر لن تموت، لأنها مؤيدة بروح الحق الذي لا يموت
أين التي عرفناها أو جهلناها، وأين مكانها الأصيل في تاريخ الوجود؟
ستكون أول أمة تعيش بلا حكومة، لتقيم البرهان على أنها فوق الشبهات والأضاليل
قد تقولون: إن واقع الحياة لا يعرف هذا الخيال. . . وأقول: إن الأمر في هذه الأيام ما
تقولون، فلو عاشت الأمة بلا حكومة أسبوعاً أو أسبوعين لانتشرت الفوضى وعمّ الاضطراب وشاع الفساد
ولكني مع هذا أجزم بأن الحكومة لا تستطيع بأي حال رعاية أمة فقيرة في نواحي التماسك الذاتي والاجتماعي، فخضوع الأمم للشرائع والقوانين لا يكون خضوعاً شريفاً إلا إن صدر عن إرادة ذاتية مردّها إلى أدب الأحرار لا أدب العبيد
ونحن في مصر نفهم هذه المعاني، فوزير المعارف يعتمد على ضمائر المدرسين، ووزير العدل يعتمد على إيمان الناس بأدب المعاملات، وكذلك يقال في الأمور التي يعالجها سائر الوزراء
قد سمعتم أو قرأتم أن وزارة الوقاية وزارة وقتية تنتهي مهمتها بانتهاء الحرب، فما المستقبل الذي ينتظر وزارة الشؤون الاجتماعية؟ أنا أقدِّر أن مهمتها ستنتهي بعد أمدٍ قريب، يوم يفهم الشعب واجبه في الإصلاح الاجتماعي، ويوم يدرك أن احتياجه إلى عون الحكومة في تلك الشؤون ضربٌ من الفقر في الروح والوجدان
وهذا المستقبل لن يكون بعيداً كما نتخوف، فالشواهد تنطق بأن ضمير الأمة سيستيقظ بعد طول السبات، ولعله استيقظ بالفعل. ألا ترون أن الأمة تتسامى إلى أمور كانت قبل اليوم من تهويل الخيال؟
قبل أن تشب الحرب ويغلو الورق كان متوسط ما تخرج المطابع المصرية في كل يوم أثنى عشر مجلداً، وكان لصحافتنا المقام الثالث بعد الصحافة الإنجليزية والأمريكية، وكنا أول أمم الشرق في إحياء الذخائر العربية والإسلامية، وسيكون لنا بعد الحرب ميادين يعتز بها العقل والبيان
ومعنى هذا أن يقظة الذكاء المصري يقظة حقيقية، وأن تحليقاتنا في سموات الفكر والرأي لم تكن أضغاث أحلام، فكيف تستبعدون أن يستيقظ الضمير المصري فيغني الحكومة عن التعب في مداواة الأمراض الفردية والاجتماعية؟
إن تعادل الضمير والذكاء في مصر فستصبح الأمة المصرية أمة نموذجية، وستبدع في الأدب النفسي آيات لا نظائر لها ولا أمثال
إن أفضل الفروض في وصف الصلة بين الحاكمين والمحكومين هي أن تشَّبه بالصلة بين
الآباء والأبناء، فهل سمعتم أن أباً يحب أن يكون ابنه عالة عليه في جميع الشئون!
ونحن اليوم في مطلع حياة جديدة، ولا بد لنا من رياضة أنفسنا على الاضطلاع بحمل جميع الأعباء
وسنجاهد ونجاهد إلى أن تشعر الحكومة أنها تعيش في أمة مثالية لا تحتاج إلى حكام في أي ميدان
سنجاهد ونجاهد إلى أن تغلق المحاكم بفضل اعتماد الشعب على الاحتكام إلى الضمائر والقلوب
لن يطول صبر الإنسانية على هذه الحياة الوضعية، وهي الحياة التي لا ينزجر فيها منزجر إلا خوفاً من سطوة القضاء
إن الاستقامة السليمة هي التي تنبعث من النفس، كما يستقيم العود حين تكتمل قواه، أما الاستقامة التي توجبها قوى خارجية فهي استقامة العود الذي يُستر ضعفه بأسندة من الجريد، وهكذا حال الأخلاق التي لا تستقيم إلا بأسندة من القانون
إن الجوارح الروحية تعطلت بسبب الاعتماد على الحكومة في مختلف الشؤون، وإن المواهب النفسية تهدمت بسبب التفريط في رياضتها على النفاذ والمضاء
الأمم الضعيفة تكل أمورها إلى الحكومات لتستريح من الجهاد، وأما الأمم القوية فتنهض بأحمالها الثقال لتتشرف بالجهاد
وآفة الاعتماد على الحكومة آفة مخوفة على الأمة المصرية، ويجب النص على هذه الآفة بذكر بعض الشواهد، عسانا نزهد فيما استمرأناه من التواكل البغيض
التعليم كله ملقىً على كاهل الحكومة، وما فكر فرد أو جماعة في إنشاء مدرسة إلا على نية التبعية لوزارة المعارف، بأي صورة من صور التبعية
وقد نهضت الأمة فأنشأت الجامعة، ولكن النهوض ثقل عليها فأسلمتها إلى الحكومة!
وأنشأت الجمعية الخيرية الإسلامية بضع مدارس، ثم أسلمتها إلى الحكومة
ومنذ أعوام تعرضت مدرسة الأقباط بالقاهرة لمتاعب مالية، فخذلها أعيان الأقباط ولم ينجدها غير الحكومة
فما الفقر المدقع في العزائم والنفوس؟
أتكون أحوال التعليم كهذه الأحوال في البلاد الإنجليزية والأمريكية؟
وكيف والتعليم في تلك البلاد ترجع أكثر شؤونه إلى هيئات مستقلة عن الحكومة كل الاستقلال أو بعض الاستقلال؟
واعتمادنا على الحكومة ظهر بصورة بشعة يوم خيف على (بنك مصر) من زعازع الحرب، فالحكومة هي التي تقدمت لحماية البنك، وبذلك ضاعت فرصة على أغنياء الأمة، وأي فرصة؟
لقد كان في مقدور الأغنياء أن يتعاونوا على رعاية تلك المؤسسة القومية، وهي رعاية مضمونة الربح، وكان من المؤكد أن تدر عليهم الخيرات في أعوم الحرب، ولكنهم تهاونوا تهاون العاجزين عن إدراك ما ينتظر من المنافع، وتركوا الحكومة تدبر الأمر كما تريد
وآفة الاعتماد على الحكومة زلزلت الثقة بالكفاية الفردي، وهل يتهالك المتعلمون على وظائف الحكومة إلا ليقال إنهم وصلوا إلى شئ في بلد الوظيفة كل شئ؟
كل ما رأيناه من هذه النواحي أهون من الناحية التي تساق في مناظرة هذا المساء، فان ناساً يرجون أن تنوب الحكومة عن الأمة في الإصلاح الاجتماعي. وقد يرجون غداً أو بعد غد ان توزع الإصلاحات الاجتماعية والفردية في بطاقات؛ وقد يرجون أيضاً أن تنوب الحكومة عنهم في اختيار ألوان الطعام والشراب!
الأساس الذي أراه لبناء المستقبل أن تكون روح الشعب وروح الحكومة ممثلة في كل فرد، فيكون الرجل حاكما ومحكوماً في آن، حاكما لهواه ومحكوماً لنهاه، ثم تتلاقى قوى الأفراد كما تتلاقى القطرات الطاهرة من الغيوث فتخلق نهراً في مثل عظمة النيل
أنا أنتظر اليوم الذي يقال فيه على سبيل التفكه بحوادث التاريخ: كان في الدنيا حكومات وبرلمانات، وكانت الدنيا في بعض العهود ميادين قتال بين الآراء والأهواء
فإن لم نر ذلك اليوم، وهو في رأيي قريب، فلنخلقه في صدورنا، ولنكن رجالاً يستفتون ضمائرهم في جميع الشؤون، لا يخافون الناس، لأن النزاهة الروحية تخلق الأمان والأطمئنان، ولأن الصدق يحمي صاحبه من عدوان الباغين والظالمين.
وسبحان من لو شاء لحقق هذا الرجاء.
زكي مبارك
قلمي!!
للأستاذ (د. خ)
إلىّ إلىّ يا قلمي فاكتب صلاتي وخُطَّ نُسُكي!
إن غِناءَك القديم يُفعم قلبي بذكريات الجمال والحب، فاصدحْ، كعهدك، ورقرق أناشيدك،
وأسكبْ في روحيَ الظامئةِ أغاريدك!
طالما غَنّيتَ يا قلمي الحبيب فأصْغَتِ السماء، وتهلل البدر، ورقصت الملائكة، واهتز
الورد. . . فماذا أصابك؟
هات يا قلمي كأسَ بيانك نشرْبها على ذِكَرِ الماضي الجميل الفِضّيّ الذي غدا أحلاماً
كالحمائم البيض، ترد ظِماءً وتصدُر ظماءً، فأين ماؤك؟
هل حقٌّ أن جنَتَّك أوشكت أن تُصَوّح، وأن يَنبوعك كاد أن يغيض؟ إذن فأين أنتَ في هذه
الدنيا الصّاخبة التي تُدَوّي في المشرقين، وتضطرب في المغربيْن، وأنت مُنْطَوٍ على نفسك، عاكفٌ على أحزانك، سادرٌ في آلامك، يُشجيك أن أعز الإخوان عليك قد هجرك، وأن مرضاً ألم بصاحبك فقطعه عن الدنيا قد كدّر عليك صفو الحياة، وأن المروءة والوفاء قد ذهبا أدراج الرياح، فلم يكتب إليك حبيب، ولم يحن إلى لقائك إلف، وألم يُسْلِكَ في وحدتك الموحِشةِ مواس!!
لله يا قلمي ما أبدعت لأحبّائك من جناتٍ، وما فجّرتَ في جنّاتك من عيون، وما جعلت
فيهن من حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون!
ألم تصور لهم شباباً لا يعرف الهرم، وجمالاً لا تمتد إليه يد الدبول؟
ألم تلهب أفئِدتهم بالحرارة التي أشَعْتَها في كلماتك، والأحرف العاشقة التي نفثتَها من
شبَاتك؟
ألم تُجوِّد لهم ألحاناً أرْويت بها نفوسهم الصادية، وأسكنتهم منها في قصور عالية، من نور
وبَلُّور؟
ألم تُبدع لهم طوبى من وَرْد وريحان، وبهار وسُوسَان، فمنحتهم دمك، وخعلت على
شيخوختهم شبابك، وأعْشَيتَ بطول السهر من أَجلهم عينيك، وجلبْتَ على صاحبك العناء ليستريحوا، والشقاء لينعموا، والمرض ليصحوا. . . وأنت مع ذاك متنفّسي الذي لا أعرف
أن أشكوَ إلا إليك. . . ولا أستمد العَوْن إلا منك، ولا أفرّج الكربة عن صدري إلا بك، ولا أستروح الحياة إلا في ظلك، ولا أجلو صدأها إلا بشدوك، ولا أنير حلكتها إلا بنور إيمانكَ، حتى تَنقشعَ ظلماتُها بما ترقرق فيها من ضوء بيانك، وتنجاب غياهُبها بفيضٍ من لآلاءِ عرفانك!!
لماذا صمتّ هكذا يا قلمي الحبيب؟ ألست تُحسِن أن تغنّي مع هذه الأقلام التي تملاء
الوادي دَوِيّا؟ ألست تُجيد أن تنبت الزهر يانعاً في قلوب العذاري؟ ألست تستطيع أن ترقرق الدمع في عيون المحبين؟ ألست تقدر أن تسكب في قلوبهم رضى ورحمة؟ ألا يسعك أن تَشْدُوَ في هدأة الليل النائم فتلين أفئدة وتتسلى أفئدة! هل هكذا تنسى أَودَّاءَك المكلومين والمحزونين؟ تخاف علىّ؟ لماذا؟ لأن الأطباء آثروا عافيتك؟ وأي أديب لا تساقط نفسه من قلمه أَنْفُساً؟ ثُرْ على الطب يا قلمي جعلت فداءك!! إن الذي يقتلني هو هذا الصمت وذاك السكون!! ما قيمة الحياة التي تنقضي في مثل العزلة الرخيصة والركود الآسن؟! لقد مللتُ من طول ما قرأتُ فلا تجعلني أنانياً! لماذا أعيش في سجن هذه الوحدة لنفسي فقط، فلا يكاد الوجود يحس بي؟ لماذا آخذ ولا أعطي؟ لماذا جمدت الدموع في عينيّ، والرحمة في قلبي، والشعر في روحي، فلست أبكي في هذه الزحمة من البكاء والآلام والدم؟ أبأمر الأطباء تصمت عامين طويلين يا قلمي الحبيب؟ هل انتفعت إذن بهذا الصمت الطويل؟ هل رد جمودك برد الشباب على جسمي المحطم؟ هل أسا العلة تخلّفك عن موكب الحياة؟ تصمت عامين كاملين في أحفل حقبة من عمر الإنسانية، وخلال مأساتها الدامية: ألا ما أرخص الحياة التي يبقى عليها أطباءك، وما أحبّ إلىَّ أن تتخذ من ذمائها مداداً يكفي لكتابة سطر في سجل محنتها!
منعك أطباءك من إدمان السهر، فهل نمت؟ وحظروا عليك طول الإكباب على الكتب فهل
سلوت؟ وقالوا لك أرح ذهنك فهل منعوا أطياف المعرفة من الإلمام به؟ لشد ما ضحكوا عليك ولهو بك يا قلمي الحبيب! ولشد ما أضحكوا عليك هوميروس وإسخيلوس وصحبهما الآخرين!!
أستيقظ إذن!
فتح أكمام الورد آماق النرجس وحدق البنفسج، وأرو روح الحديقة الظامئ مما عندك من
أمواه الغزل والحب والجمال!
أستيقظ إذن وأطلق بلابلك تخفف من أشجان العذارى بالتسجيع والترجيع، وتملأ الدنيا
غناءً وموسيقياً!
تطمع أن تعيش عمراً طويلاً راكداً هكذا؟ إذن ما فائدة هذا العمر الطويل الذي لا يصلك
فيه بالعالم شئ؟ ما قيمة هذا الظلام الذي لا يتألق فيه نجم؟ ما أشبه خطأ الأطباء في هذا بالغلطة التي وقعت فيها أورورا!! هل تذكر أورورا؟ هل تذكر ربه الفجر ذات الأنامل الوردية؟ هل تذكر حينما أحبَّت الفتى تيتون حبَّا دلَّه فؤادها وأرق نومها وسعّر أنفاسها وجعلها تخر تحت أقدام الآلهة في أولمب طالبةً له الخلود، فلما أوتيت سؤلها وفرحت به، وراحت تحتسي وإياه أفاويق الغرام أياماً. . ذكرت أن تيتون من بني الموتى. . . وانه لا بد أن تدركه الشيخوخة يوماً ما. . . ثم كان ما خافت أورورا أن يكون. . . وشرع الشيب ينبت إبره في راس فتاها الحبيب. . . فلما تنهدت. . . و. . . صبرت! لكن الوجه الجميل المشرق، والفم الرقيق الباسم، والجسم القوى السامق، والأذرع الملفوفة العاتية، والنفس المتدفقة الحارة. . . و. . . والشباب الفينان الذي كانت تلف حوله ألصبوات والأماني. . . كل ذلك أخذ يخبو ويخمد، ويتغير ويتبدل، حتى أمسى تيتون كومة من الحطام. . . والذكريات!! فزهدته أورورا وعافته، بعد ما أسفت على أنها لم تسأل له الآلهة مع ذلك الخلود الذي لانهاية له، شباباً لا آخر له. . . ولما ضاقت به، تمنت على الآلهة الأماني فمسخته!. . . وهكذا كانت خاتمة تيتون!
فهل تريد لي عمراً طويلا كعمر تيتون يا قلمي الحبيب؟ لشدَّ ما يفزعني ذلك! لشدَّ ما
تفزعني هذه الشيخوخة التي يثقل فيها الأب على الأبناء، ودبيب القدم المتهالك على أديم الغبراء! إطو عشرين حجة في غيابه المستقبل ثم ابحث عن بريق عينيك تجد فيهما ظلاماً، وعن تألق وجنتيك تر فوقهما قتاماً، وعن آمال الفؤاد تجدها ملئه آلاماً!!
انفذ يا قلمي إلى حديقة الحياة فوسوس في آذان الورد، واطبع القبَل فوق أجياد الزنبق،
وانفث السحر في صفحة الغدير، وسقسق مع البلابل لتسلى المنْبوذين، وغنِّ فالقافلة قد جدَّ بها المسير!
حذار يا قلمي الحبيب أن تكون متجهماً للحياة أو ناقماً على الناس، فأنت هنا لتبدع شيئاً
جميلاً في هذه الدنيا، أو لتكمل نقصاً من كثير من أوجه النقص التي تعيبها. . . وماذا تنقم من الناس؟ ولماذا لا تنال شرفك بأن تكون خادمهم المتواضع؟ ألست ترى إلى هذه الأقلام المتهافتة التي تنفث السم في أخلاق ذويك؟ ألست تراها كيف تغازل الشهوات النائمة، والعواطف الرخيصة، والألباب الشاردة، والقلوب الضالة؛ تفتنها بالأدب المخنث، وتهيجها بالأسلوب الماجن، وتمزق حياءها بالغرام الذي لا يخجل، والفسوق الذي لا يرعوي، والرذيلة التي جثمت على صدر فرنسا فأوهت بنيانها وزلزلت أركانها وأسلمتها للهوان والخذلان!. . . يكتبون للشرق عن غادات بلزاك، وقيان شاتوبريان، والعبد الأسود الذي تَسَوَّّرَ إلى شهرزاد في فحمه الليل ليطفئ ما في قلبها ولتطفئ ما في قلبه. . .!! يا للهول!! ماذا يكتب هؤلاء الضالون لهذا الوطن المنكوب بهم؟! متى كانت مصر في حاجة إلى فولاذ ينصب في أخلاق بنيها كما هي اليوم، بدلاً من هذا السم الذي تتجرعه ولا تكاد تسيغه؟. . . وأنت مع ذاك يا قلمي تغط في سباتك العميق لا توقظك أحداث الزمن، ولا تدميك صرخة الإنسانية، ولا يُفزعك أنين السماء، ولا يُشجيك بكاء الملائكة، ولا يُروِّعك أن يأكل الإنسان لحم أخيه الإنسان! لقد انتهت الإنسانية إلى المأساة التي أفزعت أفلاطون وأوحت إليه أحلام الطوبى، وروَّعت توماس مور ووسوست إليه برُؤى الفردوس. . . الفردوس الجميل الشعري الذي يلهم المفكرين ويغازل ألباب المصلحين!! لماذا تغمض هكذا أيها القلم كما يغمض الطفل المفزوع يرى المنظر المروّع فيطير له لبه، وينخلع له قلبه، وتطير نفسه شعاعاً؟ ألا يجد يداً عطوفاً فتنقذه، ولا نجدة من السماء فتباعد بينه وبين ما يرى؟!
أَلا لقد أصبحت خشيتك الأطباء تعلة، هي أقسى على صاحبك من العلة؛ وصار خوفك
على صحته من الداء، داء أشق على روحه من جميع الأدواء. . . وها أنتذا قد أصابك الصمم، وجرَّ عليك سكوتك البكم، فلست تتوجع لأبناء وارسو، ولا يضنيك أن يحصد الموت شعب روتردام، ولا يهمك أن تنشق الأرض تحت كوفنتري، ولا أن تبيد ستالينجراد، ولا أن يبلع اليم جواريه؛ ولست ترثي لعذارى كييف، ولا يفزعك ما أنزله المثأورون بكولون. . . ثم ها هي ذي اليونان العزيزة، هيلاس الخالدة، جنة الأولمب وفردوس الخالدين. . . اليونان التي حَبَسّتُك عليها طويلاً يا قلمي، فعلمتك الجمال وألهمتك الفن وجرى منها في عودك ماء الحب. . . اليونان التي وهبَتْك أحلامها واستودعتك
أسرارها وتفيأت تحت شباتك ظلالها. . . هل ذكرتها في تلك المحنة الظالمة التي لطمت فيها قفا المتشدق، وهزمت جيوش باعة الإسفنج، حتى أتاها الهون فأضاعوا شجاعتها بكثرة العَدد، وطفوْا فيها على مارسْ بالعُدد، فأذلوا الأولمب، ودنسوا رحاب زيوس، ونشروا سمادير الكآبة على جبين مينرفا، وأطاشوا سهام كيوبيد، وفجروا الدمع من عيني فينوس!!
أما تزال تبكي يا قلمي الحبيب؟! أما تزال تؤثر الصمت إشفاقاً على صاحبك، ورثاء لأخيك؛ إذن. . . فإليك البشرى التي تأسو علتك، وتمسح عَبْرتك، وترد عليك ما فاتك من شباب. . . ها هو ذا صاحبك يتفيأ ظل الجنة التي تحوطه فيها القلوب الحبيبة. . القلوب التي تطب له ما لم بطب الأُساة النُّطس، وتعالجه في جنباتها الأرواح الطاهرة التي سلمت من كل رجس، فهي لصاحبك من علته شفاء.
(د. خ)
إلى الأب أنستاس ماري الكرملي
لا. . . بل النحاة واللغويون ثقات!
للأستاذ عبد الحميد عنتر
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
القسم الرابع
فعلول (المفتوح الأول)
1 -
جاء في (الرسالة) بالعدد (504) بين قوسين هكذا (المفعول الأول)، بعد لفظ (فَعْلول) ولعله تحريف، وصوابه (المفتوح الأول).
2 -
أثبت الأب هنا قول اللغويين: إنه لم يجئ على زنة (فَعلول) إلا لفظ (صَعفوق) وهو اللئيم من الرجال، أو بلدة باليمامة؛ ثم أخذ ينفخ في بوق (توت عنخ أمون الحربي) حتى أثارها حرباً شعواء، أشنَّها على جميع اللغويين: القدامى منهم والمحدثين. قائلاً: لقد فحصت ونقبت، وحققت ودققت، فإذا الكلمات التي جاءت على هذا الوزن تبلغ الثلاثين أو تزيد، وإذن فيجب نقض القاعدة القائلة:(ليس لفعلول في اللغة سوى حرف أو حرفين) وتذريتها في الهواء هباء منثوراً. انتهى كلامه ببعض تصرف.
قلت (وهو ختام القول): إن الذي قاله اللغويون وتبعهم النحاة صحيح مستقيم، وإن القاعدة التي أسسوها متينة سليمة.
وإيفاء بما وعدت من الإنجاز أجمل ردي فيما يلي:
1 -
إن ال 29 حرفاً التي زادها الأدب على كلمة (صعفوق) موزعة كما يأتي:
(بعضها) منكر لم يثبت إلا بطريق الاستنتاج ، وهو (صعقول) لضرب من الكمأة!
(وبعضها) روى بالضم والفتح، ولكن الضم أفصح وأشهر. من ذلك: عُصفور ودسُتور وبرُغوث وخرنوب (الخروب) وبرشوم (أبكر النخل بالبصرة)
(وبعضها) على وزنه (فَعَلول) بفتحتين، وهو (قَربَوس)، وسكون الراء لغة ضعيفة.
(وبعضها) على زنه (فَعْلون) لا (فعلولّ!) ومنه: حمدون وسعدون وخلدون، والضم في هذا أفصح، وعبدون، ويكثر هذا الوزن في الأعلام الشخصية.
2 -
عجبت كل العجب كيف يذكر الأب حمدون وما على شاكلته، ممثلاً به لما جاء على (فَعلول)، مع أن قواعد الميزان الصرفي تأبى ذلك كل الأباء.
وإنما هي على زنة (فعلون) كما بنيت، وكما هو مسطور في كتب التصريف!!
3 -
أتحدى (الأب) أن يأتي بكلمة واحدة، عربية أو معربة، جاءت على وزن (فَعْلول) بفتح فسكون باتفاق علماء اللغة غير صَعْفوق المعرب من اليونانية كما قيل. إن فعل ذلك كنت به من الشاكرين.
4 -
كثرة ممارستي لتدريس (علم الصرف) تسمح لي بأن أستنتج السر في امتناع العرب من النطق بألفاظ على زنة (فَعْلول) استقلالاً.
وبيان ذلك، أن العرب أكثرت من استعمال الألفاظ التي على وزن (فَعْلول) بضم الأول، أصيلة ومعربة، كالشمروخ (فرع العِذق)، والأُثكول والعثُكول (كلاهما بمعنى الشمروخ، والعنقُود والعصفور والدّستور، وغيرها كثير في اللغة، ولم تستعمل على زنة فَعْلول إلا صعفوق المعرب، ومع ذلك روى فيه ضم الأول وإن كان ضعيفاً. والسر في هذا خفة الانتقال من ضم إلى ضم بينهما سكون. فالضم في الأول يناسب الواو قبل الطرف. وأما بناء (فَعْلول) الذي كلامنا فيه، فأوله مفتوح. والفتحة لا تناسب الواو التي هي بنت الضمة، ففيه الانتقال من الفتح، وهو خفيف، إلى الضم وهو ثقيل، ولم يحفل العرب بالسكون المتوسط الذي يخفف أمر الثقل؛ لأن الضم بعده سكون ثم ضم، أسلس في لسانهم من فتح بعده سكون ثم ضم؛ لذلك كان فتح الأول في الكلمات التي ورد فيها الضم لغة ضعيفة متروكة. وهذا تعليل لما اقتضاه ذوق العرب آمل أن يكون صحيحاً.
وبعد، فقد أثبت البحث اللغوي، أن النحاة واللغويين، كانوا على يقين لا يخالجه شك، حين قالوا:(ليس في اللغة اسم على وزن فعلول غير (صعفوق) وقد انعقد الاجتماع على أنه معرب دخيل! وإن فليس للأب أنستاس، ولا لغيره من أرباب البحوث اللغوية بعد هذا البيان - أن يرفع عقيرته فوق المنبر الأدبي العلمي العالمي منبر (الرسالة) بقوله:(لماذا لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين) بل الأجدر به والأليق بمنزلته أن يقول: إن اللغويين والنحاة، أعلام أثبات ثقات
وأقول أخيراً: إني لا أجد مثلاً للنحاة واللغويين مع الأب أنستاس، إلا قول من قال:
أوردها سعد وسعد مشتمل
…
ما هكذا يا سعد تورد الإبل
وقول الآخر:
أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي
…
فلما قال قافية هجاني
جّملنا الله بحلية الأدب، وجنبنا مواقع الخطل والزلل، بمنه وكرمه.
عبد الحميد عنتر
أستاذ بكلية اللغة العربية
للذكرى والتاريخ
طيبة تستقبل فرعون مصر
للكاتب الفرنسي تيوفيل جوتييه
في كتابه قصة المومياء (إلى جانب المصريين نحن حقاً
برابرة)
تيوفيل جوتييه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 2 -
بالقرب من سلسلة جبال ليبيا يقع حي ممنون الذي يسكنه من يهيئون حاجات الموت، لأن عمله لا ينقطع أبداً، وعبثاً تنتشر الحياة بضوضائها، فالعصائب تجهز، والتوابيت تغطى بالنقوش الهيروغولوفية، وبعض الأجداث الباردة ممتد على سرير الموت ذي القوائم التي تحاكي أرجل الأسد أو ابن آوى وينتظر أن يزين الزينة الأبدية. ولدى الأفق الجبال الليبية تتضح قممها الجيرية فوق صفحة السماء النقية، ويبدو جسمها الأجرد الذي نحتت فيه النواميس والقبور.
وعندما يتجه المرء ببصره إلى الجانب الآخر من النهر لا يجد المنظر أقل من ذلك جمالاً: فأشعة الشمس تكسو باللون الوردي سفح سلسلة جبال العرب، والهيكل الضخم الهائل لقصر الشمال استطاع البعد أن يصغره قليلاً، وقد نهضت أبراجه من الجرانيت، وأعمدته الهائلة فوق منازل المدينة؛ وأمام القصر تمتد ساحة فسيحة تسلم إلى النهر بسلمين على الجانبين، وفي الوسط طريق الكباش يقود إلى برج ضخم، يسبقه تمثالان هائلان وزوج من المسلات العالية يقطع رأساهما الهرميان زرقة السماء الصافية.
وإلى الخلف من أعلى حائط السور يبدو جانب معبد آمون، وإلى اليمين قليلاً ينهض معبد (خنسو) ومعبد (أفت) ويرى وجه برج ضخم، ومسلتان طولهما ستون ذراعاً تبينان مبدأ هذا الممشى الهائل، ذي الألف من التماثيل التي جسمها جسم أسد ورأسها رأس كبش،
ويمتد هذا الممشى من قصر الشمال إلى قصر الجنوب، وعلى جانبيه نرى هذه التماثيل الكبيرة مستديرة النيل
وبعيداً من ذلك يتراءى غير واضح في الأشعة الوردية أفاريز عليها قرص الشمس الساحر ناشراً جناحيه الواسعين، ورءوس التماثيل الضخمة ذات الهيئة ألوادعة، وزوايا الصروح العالية، والطنوف المنضدة، ومسلات من الجرانيت، ومجموعات من النخيل يتفتح سعفها كأنه باقات من العشب، وقصر الجنوب قد زها بحيطانه العالية الملونة، وسوارية المزينة بالأعلام، وأبوابه المائلة ومسلاته، وقطعان أبي هوله؛ وفضلاً عن هذا كلما امتد الطرف استطاع أن يرى طيبة تمتد بقصورها وكليات كهنتها ومنازلها، ويجد خطوطاً زرقاء ضعيفة، تِشير في نهايات الأفق إلى قمم الأسوار ورءوس الأبواب.
كان ميدان العرض شاسعاً قد مهد بعناية لإبداء العظمة العسكرية، وبه أطوره يجب أن تكون قد استخدم فيها طيلة سنوات عديدة عشرات الأجناس التي قيدت إلى مصر مستعبدة؛ وهذه الأسطورة تكون إطاراً بارزاً لهذا المستطيل العظيم، وخلفها حيطان من اللبن مصنوعة بانحناء، ويقف عليها، على ارتفاعات متفاوتة مئات الآلاف من المصريين الذين يظلون في اضطراب دائم، هذا الاضطراب الذي يميز الجمهور، حتى حين يبدو أنه لا يتحرك، وتلمع في الشمس ملابسهم البيضاء أو المزخرفة بألوان ناصعة.
وخلف هذا النطاق من النظارة تجد العجلات والعربات والهوادج، يحرسها الحوذيون والسائقون والعبيد ولها منظر شعب راجل، فقد كان عددها عظيما جداً، وإن طيبة عجيبة العالم القديم كان بها من السكان ما يربي على بعض الممالك
وكان الرمل المجتمع الدقيق للميدان الواسع المحاط بمليون رأس، يلمع كأنه معدن براق تحت ضوء يسقط من سماء زرقاء، كأنها مينا تماثيل أوزيريس
إلى الجانب الجنوبي من ميدان العرض ينقطع البناء، وينفتح طريق محاذ لسلسة جبال ليبيا، ويمتد إلى بلاد النوبة العليا، وفي الجهة المقابلة ينشق الجدار، ويسمح للطريق أن يستمر حتى قصور رمسيس، عابراً بين الحيطان الضخمة
سمعت من بعيد ضجة عجيبة مبهمة قوية، كضجة البحر، حين يقترب، وغلبت ضوضاء الجماهير. وهكذا يصمت زئير الأسد مواء جماعات ابن آوى. وبعدئذ أخذت تتميز أصوات
الآلات من بين هذه العاصفة الأرضية التي أثارتها عربات الحرب والمشية المتزنة للرجال من المحاربين؛ وقد ملأ هذه الناحية من السماء غبار مصفر كهذا الذي تثيره ريا ح الصحراء؛ ومع ذلك كان الجو راكداً فلم تكن تهب نسمة واحدة؛ وأدقُّ سعف النخل ظل ساكناً لا يتحرك، كما لو كان منحوتاً من الجرانيت على رؤوس أعمدة من الصخر؛ ولم ترتعش على الخدود الندية للسيدات شعرة واحدة، والعصائب المزخرفة التي زينهن بها الحلاقون تمتد متكاسلة خلف ظهورهن
هذا الغبار الناعم قد أثاره الجيش وصار فوقه كسحاب أشقر زادت الضوضاء، وانشقت عاصفة الغبار، وبدأت الصفوف الأولى من الموسيقيين تبدو في الميدان الواسع لتنعش الجمهور الذي بدأ من الانتظار تحت شمس تذيب الجماجم إلا جماجم المصريين
وقفت طليعة الجيش من الموسيقيين بضع لحظات، وأخذ جماعات القسس والمنتخبون من أعيان مدينة طيبة يعبرون ميدان العرض ليستقبلوا فرعون، واصطفوا على هيئة سياج، عليهم أعظم مظاهر الاحترام، وتركوا الطريق حرّاً لمرور الموكب
لقد كانت الموسيقى التي تستطيع وحدها أن تكِّون جيشاً صغيراً، تتألف من الطبول والطنابير والأبواق والصلاصل
مرت الفرقة الأولى تغني لحناً مدوياً هاتفاً بالنصر، في أبواق قصيرة من النحاس اللامع كأنه الذهب، وكل واحد من الموسيقيين يحمل نفيراً آخر تحت إبطه، فكأنه الآلة هي التي تتعب لا الرجل
كان زي هؤلاء الجند مكوناً من نوع من السراويل قصيرة، مضمومة بمنطقة طرفاها العريضان يتدليان إلى الأمام، ومن عصابة غرس فيها ريشتان من ريش النعام، مختلفتا الاتجاه، وهذه العصابة تضم شعرهم الثقيل ووضع الريش كذلك يذكرنا بقرون الجعارين، ويمنح الذين يتزيون بها منظراً غريباً كالحشرات
وضاربوا الطبول يلبسون دروعاً مثناه فحسب، ويضربون بقضيب من خشب الجميز جلد حمر الوحش لطبولهم المعلقة بحمالات من الجلد، متبعين النسق الذي يعينه رئيس لهم يضرب بكفَّيه وكثيراً ما يتجه إليهم
تأتي بعد ضاربي الطبول اللاعبون بالصلاصل، هؤلاء يهزون آلاتهم بحركات عنيفة
منقطعة، ويدقون في نظام حلقاتهم المعدنية على قضب أربعة من البرنز.
وحاملو الطنابير يعرضون أمامهم طنابيرهم المستطيلة والمحمولة بعصابة خلف أعناقهم، ويدقون عليها بقوة بمقابض أيديهم
كل جماعة من الموسيقيين ليست بأقل من مائتي رجل، ولكن عاصفة الضوضاء التي تنتج من الأبواق والطبول والصلاصل والطنابير ليست بذات خطر، ولا هي مخيفة تحت قبة السماء الواسعة، وفي وسط هذا آلفضاء الشاسع، وبين طنين هذا الشعب، وعلى رأس جيش يتقدم وله عجيج المياه الثجاجة
وهل كثير أن يتقدم ثمانمائة من الموسيقيين ركب فرعون، محبوب آمون - رع، والذي أقيمت له التماثيل الضخمة من البازلت والجرانيت ترتفع إلى ستين ذراعاً، وقد نقش اسمه على الآثار الخالدة، ونحت تاريخه وصور على حيطان ردهات المعابد ذات الأعمدة، وعلى جدران الأبراج، والأفاريز التي تنتهي، وصوراً لا حصر لها؟ أيكون كثيراً على ملك قابض على ناصية مائة شعب مغلوب؟ على حاكم يؤدب الممالك بسوطه من أعلى عرشه؟ على شمس حية تبهر الأعين وتزيغها؟
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين
من معارج الروح
نحن؟!
نَسَخَتْنِي رُوحِكِ السَّمْحَةُ شِعْراً وَمُنَى
وَشَدَتْ بي في الْمَحَارِيبِ صَلَاةً وَغِناً
ثمَّ نَدَّتْ أُفقَ الرُّوحِ جَلَالاً وَسَناً
أَنْتِ يَا دُنْيَايَ مَنْ أَنْتِ؟ وَآهاً! مَنْ أَنَا!
أَنَا فِكْرٌ عَاشَ في ظِلِّكِ فَناً سَامِيَا
أَنَا طَيْفٌ رَفَّ في وَادِيكِ مَعْنىً شَاكِيَا
أَنَا نَايٌ ذَابَ في قُدسِكِ لَحْناً شَادِياً
أَنَا رُوحٌ طَارَ في الْحُبِّ فَرَاشاً صَادِياً
أَنَا هَذَا، مَرَّةً أُخْرَى، فَمَنْ أًنْتِ إِذَنْ؟
أَنْتِ مَنْ تَسْمُو وَتَسْتَعْلِي عَلَى فِكْرِ الزَّمَنْ
أَنْتِ مَنْ طَهَّرْتِ مِحْرَابي بِأَقْبَاسِ الْفِتَنْ!
أَنْتِ مَنْ فَجَّرْتِ عُودِي في سَمَواتِكِ فَنْ
ثُمَ مَنْ نَحْنُ جَميِعاَ؟ نَحْنُ خَمَّارٌ وَشَرْبُ!
نحن مَسْحُورَانِ يَا دُنْيَايَ: عَيْنَانِ وَقَلْبُ؟
نَحْنُ قِدِّيسَانِ في الْمعْبَدِ: قُرْبَانٌ وَرَبُّ!
نَحْنُ في الدُّنْيَا، كما شِئْنَا، صَبَابَات وَحُبُّ!
(القاهرة)
محي الدين صابر
دمعة على الماضي!
ثَارَتْ بِقَلْبِي ضَيْعَةُ الْحَيْرَان
…
فِي الّليْلِ وَامْتَصَّتْ دَمِي أَحْزَاني
وَوَجَدْتُنِي سَأْمَانَ لَيْسَ يُحيِطُ بي
…
إِّلا طُيُوفُ مَتَاعِبِي وَهَوَاني!
// لَهْفَانَ أَرْسُفُ فيِ قُيُودَ مَوَاجِعِي
…
وَتَشُوقُ نَفْسِي فَرْحَةَ الطَّيَرَانِ
أَجْتَازُ أَشْجَاني التي قَدْ أَغْرَقَتْ
…
أَسْرَارَهَا رُوحِي إِلى أَشْجَانِ!
فَكأََنَّ رُوحِي مَوْجَةٌ مَدْفُوعَةٌ
…
غمَرَتْ صُخُورَ الْحُزْنِ في شُطْآني
لَكِنْ أُحِسُّ بُرُوزَهَا لَا يَنْثَنِي
…
مُتَجَمِّداً باليَأْسِ في أَرْكاني!
وَكأَنَّ عُمْرِي شَاطِئٌ مُسْتوحْشٌ
…
قَدْ بَاعَدَتْهُ غَمْرَةُ النِّسْيَانِ
فَسَعَتْ مِنَ الْمَاضِي إِلَيْهِ زُمْرَةٌ
…
مِنْ ذِكْرِيَاتي عَذْبَةُ الألْوَان
أَذْكَى تَخَطُّرُهَا بِنَفْسِي حَسْرَةً
…
أَبَدِيَّةً مَشْبَوبَةً النِّيرَانِ!. . .
مَا مَاتَ مَاضِيَّ الذَّي أَحْبَبْتُهُ
…
لكِنَّهُ يَمْشِي عَلَى وُجْدَاني!
إِني أَرَاهُ! غَيْرَ أَنَّ زَمَانَهُ
…
وَلّى، وَعَزَّتْ خُدْعَةُ الْسُّلْوَانِ
وَكأَنَّ ذَاكَ العَهْدَ أَيْكٌ سَاحِرٌ
…
أَنَا مِنْهُ مَطْرُودٌ عَنِ الأَكْنَان
وَلَئِنْ يُحَلِّقُ بي حَنِينِي فَوْقَهُ
…
فإلَيْهِ مِنَّى دَمْعَةَ الْحِرْمَانِ
تِلْكَ العِشَاشُ سَكَنْتُهْا وَحَبِبْتُهَا
…
هِيَ مَا مَضَى مِنْ رَاحِتِي وَأَمَاني
أَوَّاهُ لَوْ حَنَّتْ إِليَّ وَأَوَمَأَت
…
لِي أَنْ أَعِيشَ بِظِلِّهَا الْفَيْنَانِ
وَحَطَمْتُ هَذَا السَّدَّ عَنِّي عَابِراً
…
نَحْوَ القَدِيمِ مَفَازَةَ الأزْمَانِ
مُتَخَطِّياً أَسْوَارَ عَيْشٍ حَاضِرٍ
…
قَدْ خَصَّنِي بِالظُّلْمِ وَالنُّكْرَانِ
وَجَثَوْتُ في أَظْلَالِهِ مُتَمَنِياً
…
لَوْ أَنَّه بَاقٍ! بلَا دَوَرَانِ!
لَكِنَّ شِرْعَةَ هذِهِ الّدُنْيَا جَرَتْ
…
بالْعُمْرِ نَحْوَ نِهَايَةَ الإنْسَانِ
هَيْهَاتَ أَحْيَا فِي القَدِبمِ، فَقَدْ مَضَى
…
وَأَفَقْتُ مِنْهُ عَلَى الأَسَى أَبْكاَني
عبد الرحمن الخميسي
عودة (الرسالة)
جنّ بي شوقي إِلى طيف الرسالة
…
فتلفّت عسى ألقى خيال!
مهبط الإلهام والسحر العجيب
ومنار العلم والفنِّ الحبيب
والهدى البسّام في ليل الكروب
كم أضاءت ظلمة الشك الرهيب
بالذي يفتن من سحر الأديب
والذي يبهر من فنٍّ خصيب
كيف غابت عن عيونٍ وقلوب
علَّمتها كيف تشدو بالنسيب
جن بي شوقي إلى طيف الرسالة
…
فتلفّت عسى ألقى خياله
فرحة غنّت بأشواق الأماني
للذي أُلهم أسرار المعاني
والذي أيقظ وسنان الأغاني
وأشاع الفن في كل مكان
وأحال الفن ذَوْباً من جنان
مهبط الإلهام من سحر البيان
مُجتْلى الخلد على مرّ الزمان
عاد!! ها قد عاد لي طيفُ الرسالة!
…
فانتشى قلبي ونادى. . . يا جلاله!
حسين محمود البشبيشي
البَريدُ الأدبَيّ
ذو القرنين هو الاسكندر المقدوني
ظهر في العدد - 506 - من مجلة الرسالة الغراء مقال لبعض الفضلاء تحت عنوان - هل الاسكندر الأكبر هو ذو القرنين المذكور في القرآن، وقد أنكر فيه أن يكون ذو القرنين هو الإسكندر، وذهب في ذلك مذهباً يكفي في ظهور بطلانه أن لأدلة التي أتى بها لإبطال المذهب الأول تبطله أيضاً. ولا أضعف من مذهب تقوم أدلة صاحبه على بطلانه، فقد أنكر أن يكون ذو القرنين هو الإسكندر لأنه كان وثنيا، وذو القرنين بنص القرآن كان مؤمناً، ولأن ذكر القرآن لذي القرنين كان جواباً عن سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم عن شخص لم يذكر اسمه، جاب الدنيا شرقاً وغرباً وكان له ملك عظيم، وهم يقصدون بذلك ما ورد في رؤيا دانيال أنه رأى كبشاً ذا قرنين، وقد فسر ذلك بمملكة فارس التي لم تكن ظهرت بعد، ثم رأى كبشاً ذا قرن واحد يهجم على الكبش ذي القرنين ويقتله، وقد فسر ذلك بملك من اليونان يظهر ويقضي على دولة الفرس؛ وعلى هذا يكون المقصود بذي القرنين دولة الفرس، وبذي القرن الواحد الإسكندر المقدوني
فالدليل الأول إذا أبطل أن يكون ذو القرنين هو الإسكندر يبطل أيضاً أن يكون هو دولة الفرس، لأنها كانت دولة وثنية غير مؤمنة. والدليل الثاني إذا أبطل أن يكون ذو القرنين هو الإسكندر، لأنه كان في تلك الرؤيا ذا قرن واحد، يبطل أيضاً أن يكون ذو القرنين هو دولة الفرس، لأن سؤال اليهود كان عن شخص لا عن دولة، والقرآن صريح أيضاً في أنه كان ملكا واحداً لا ملوكا متعددة. وحمله مع ذلك على دولة الفرس بمكان من التهافت، وهو أضعف ما قيل في ذي القرنين من الأقوال الكثيرة
هذا ولا شك أن رؤيا دانيال كما لم تقتض أن يلقب الإسكندر بذي القرن الواحد، لا تمنع أن يلقب بذي القرنين لسبب من الأسباب. وقد جاء في مجلة المقتطف أنه عثر على نقود مقرونة في عهده، فوجد فيها صورته والتاج بقرنيه على رأسه، ولا أدل من هذا على أنه كان معروفاً بذلك اللقب. وقد ذكر ابن العبري المؤرخ السرياني أن الإسكندر المقدوني هو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج، وأنه شرع بعده في بناء السد الأعظم بمدينة باب الأبواب، فوضع له أساساً عظيماً، وقد بحث عنه ملوك الفرس حتى عثروا عليه، وبنوا عليه ذلك
السد الذي فرغوا منه في عهد كسرى أنوشروان. وكاتب ذلك المقال يرى أن هذا السد هو سد يأجوج ومأجوج، فإذا صح ذلك فهو من بناء الإسكندر كما ذكره ابن العبري
وقد وفقت في مقالة الأخير من مقالاتي - الحضارات القديمة في القرآن الكريم - بين إيمان ذي القرنين في القرآن وبين ما ورد في تاريخ الإسكندر مما لا يتفق ظاهره مع ذلك وأزيد على ذلك هنا أنه ورد في كتاب مناهج الألبلب المصرية لرفاعة بك، أن الإسكندر كان يتظاهر باتباع ديانة ما يفتحه من الممالك إن لم تكن صحيحة في رأية، يقصد بذلك التقرب إلى أهلها، وحملهم على حب حكمه. على أن تلك الآلهة كانت في أصلها رجالاً من عظماء قومهم أو صلحائهم، ومن الممكن أن يكون تعظيم الإسكندر لها بالنظر إلى أصلها، وأنه لم يكن يعتقد أنها آلهة، وهذا يكفي في نفي الوثنية عنه. ولا يفوتني أن أنبه صاحب المقال إلى أن هولاكو كان أسبق من تيمورلنك
عبد المتعال الصعيدي
1 -
فتاوي السيد رشيد رضا
نشرت الرسالة في العدد (504) أن معالي وزير العدل قد أقر جمع فتاوى فضيلة الديار مفتي الديار المصرية الحالي، ورأى (أن الفائدة تكون أتم والنفع أعظم إذا انضم إلى ذلك مقارنة هذه الفتاوى بما هو محفوظ من فتأوي المغفور لهم مفتي مصر السابقين وخاصة فتاوى الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ بخيت)
وهذا الذي أقره وزير العدل إنما هو ولا ريب عمل جليل يستأهل من أجله كل ثناء وحمد؛ بيد أننا نرغب زيادة في تمام الفائدة والنفع أن تشمل هذه المقرنة فتاوى المغفور له العلامة الجليل محمد رشيد رضا من أحكم الفتاوى التي صدرت في الثلث الأول من هذا القرن شاملةً لكل باب من أبواب الفقه الإسلامي. وأن الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم الأول من يعرف فضل هذه الفتاوى ويقدرها حق قدرها، وقد كان يطلب من صاحبها قبل موته جمعها وطبعها.
2 -
حول ذكرى السيد جمال الدين
لقد أحسن الأستاذ محمود شلبى فيما كتبه بالرسالة عن السيد جمال الدين، ذلك الذي قال فيه
الفيلسوف الفرنسي أرنست رنان (كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن سينا أو ابن رشد أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين)
وقال فيه الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرزاق باشا (حسبُه من عظمة ومجد أنه في تاريخ الشرق الحديث أول داع إلى الحرية وأول شهيد في سبيل الحرية) وذكر عنه الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك (أن الأمم الشرقية جمعاء مدينة بنهضتها السياسية والفكرية إليه) ولا نُفيض في القول لأننا الآن على غير طريق دراسة شخصية هذا الرجل الذي كان أمة وحده، وإنما نذكر أنه إذا كان إحياء ذكرى العظماء هو بعض ما يجب لهم على الناس، وأن الكاتب الفاضل قد أحسن فيما كتب عن ذكرى هذا العظيم الذي جحدنا فضله ونسينا ذكره فإننا نبين مضطرين - خدمة للحق - أنه قد نقل إلى كلمته الوجيزة أكثر من خمسين سطراً بنصها مما كتبه الأستاذ الإمام محمد عبده وأديب إسحاق وسليم العنحوري والسيد رشيد رضا في تأريخ السيد الأفغاني ولم يشر إلى هذا النقل (يراجع الصفحات 27، 28، 30، 32، 33، 34، 40، 46، 73 من الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام)
ولقد كان الأجدر بالكاتب أن يشير إلى ذلك رعاية لحرمة الأمانة العلمية وتنويهاً بمن سبقونا إلى ترجمة السيد وبيان فضله.
(المنصورة)
محمود أبو رية
توضيح شبهة في كتاب عبقرية عمر
عبقرية عمر شاهد عدل كبقية الشواهد على عبقرية الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد. فقد حلل ووجه كثيراً من أقوال عمر ومواقفه، ولم يترك في ذلك مغمزاً لغامز أو اعتراضاً لناقد. وعهدي بالأستاذ أنه ثبْت، وما نجح إلا النادر في الاعتراض عليه؛ وذلك يرجع لترويه في كتابته؛ ولكنه استوقفني قول الأستاذ في عبقرية عمر صفحة (285) أن المتعة كانت حلالاً أيام النبي عليه السلام، وأن سيدنا عمر هو الذي نهى عنها وضرب عليها، وأتى بقول سيدنا عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله، أنا أنهي عنهما واضرب عليهما.
والواقع ليس كذلك، لأن المتعة حرمها النبي عليه السلام عام حجة الوداع ولم يتركها حلالاً
إلى خلافة عمر؛ وفي الصحيحين ما يؤيد هذا. نعم إن المتعة كانت حلالاً في صدر الإسلام للمضطر، ثم حرمت عام خيبر، ثم أبيحت عام الفتح، ثم حرمت عام حجة الوداع، وهذا رأي الشافعي، وقال ما معناه أنه لا يعلم شيئاً تكرر فيه النسخ إلا المتعة. والبيهقي يصحح تحريمه عام الفتح لئلا يلزم النسخ مرتين. وللأستاذ بعد هذا خالص تقديرنا وإعجابنا
(فلسطين)
رضا محمد ديباجة
إمام الفرعون
السعادة في نظر ديكارت
كتب ديكارت إلى الأميرة اليزابيث رسالة بتاريخ أول سبتمبر سنة 1645، قال فيها:(إننا لسنا نجد فرداً واحداً لا يرغب في أن يكون سعيداً، ومع ذلك فإن عدد الذين ينالون السعادة فعلاً عدد ضئيل، لأن كثيرين من الناس لا يعرفون الوسيلة التي بها يحققون لأنفسهم السعادة). وليست سعادة الإنسان - في نظر ديكارت - متوقفة على الحظ أو الظروف الخارجية، وإنما تتوقف أولاً وبالذات على الفرد نفسه. ولذلك نرى ديكارت في رسائله التي كتبها إلى الملكة كريستين، يحاول أن يثبت لها أن (كل إنسان عاقل يجب أن يفحص عن خيره وسعادته إلا في نفسه، وأننا نستطيع أن نحْصل على كل ما يلزمنا بأقل جهد وأدنى تكاليف)
' - ، ' ;
وكان تأثير ديكارت على الملكة كريستين تأثيراً قوياً فعالاً، حتى أنها كتبت تقول في 27 فبراير سنة 1654، بعد تنازلها عن عرش السويد:(إنني في هدوء واطمئنان، لأن خيري ليس في يد القدر، وسعادتي ليست تحت سلطان الحظ. أجل، فأنا سعيدة مهما تكنْ الظروف ومهما يحدث لي)
وقد كتب ديكارت إلى الأميرة اليزابيث، في شهر مايو سنة 1645، يقول (إنني أميل دائماً إلى أن أنظر إلى الأشياء التي تتمثل أمام ناظري، من (وجهة) نظر تبديها لي حسنة تجلب الرضى، بحيث أن في وسعي أن أقول: إن سعادتي الأولى تتوقف عليّ وحدي)، وفي هذه
العبارة ينحصر سر السعادة في نظر ديكارت، لأنه (ليس هناك أحداث أليمة ممعنة في الشر - في نظر الناس -، إلا ويستطيع الإنسان بعقله وفطنته أن ينظر إليها من (وجهة) تُبدِيها له مواتية نافعةً) وفضلا عن ذلك فإنه (ليس ثمة شر، لا يستطيع المرء أن يستخرج منه وجهاً من الخير أو المنفعة، إذا كان لديه عقل سليم)
(. . . ' ، ، 55.
وأما خير وسيلة لتحصيل السعادة، فتلك هي أنه (إذا وجد الإنسان نفسه حيال اعتبارات مختلفة، كلها صحيحة، ولكن بعضاً منها يحملنا على أن نكون سعداء، والبعض الآخر - بخلاف ذلك - يحول دون تحصيل السعادة؛ فإنه يبدو لي أن الحكمة تتطلب أن نسارع إلى أن نأخذ بالاعتبارات التي توفر لنا السعادة وتكفل لنا الرضى. . . وإذا كانت كل أمور الحياة هي مما يمكن أن يُنْظَر إليه من جانب فيبدو حسناً طيباً، وينظر إليه من جانب آخر فيبدو ناقصاً معيباً، فإني أعتقد أنه إن وجب على المرء استخدام مهارته في أمرٍ ما، فذلك أولاً وبالذات في أن يعرف كيف ينظر إلى أمور الحياة من (وجهة) تبديها له محققة لفائدته ومصلحته، بشرط أن لا يكون في ذلك خادعاً لنفسه) (من رسالة إلى الأميرة اليزابيث بتاريخ 6 أكتوبر سنة 1645)
زكريا إبراهيم
أسد أباد: لا أسعد أباد
نشر الأستاذ محمود شلبي كلمة طيبة حيا بها فقيد الشرق السيد جمال الدين الأفغاني بمناسبة ذكرى وفاته. إلا أنه اشتبه على مؤرخي السيد موطن ميلاده
وقد ولد السيد في شهر شعبان 1254هـ في قرية (أسد باد) لا (أسعد أباد) فقرية (أسد باد) هي التي تقع على الساحل الشرقي لوادي (كُنَوْ) مديرية في الشرق لعاصمة أفغانستان (كابل)
وهذه القرية الآن خربة ولم يبق منها إلا الأثر. فوالد السيد هو معروف السيد صفدر الشريف: وأما والدته فمن جهة الأم من أشراف أهل البيت، وأما من جهة الأب فمن قبيلة (يوسف زائ) الأفغاني
محمد عبد الغفار الهاشمي الأفغاني
تصويب
حدثت أخطاء مطبعية في القسم الأول من مقال (لا. . . بل النحاة واللغويون ثقاة) أنبه على أهمها هنا، مراعياً أن اللفظ الأول من كل اثنين خطأ، وما بعده الصواب وهي:
كأنه يفسر - كأن يفسر. قريب - مريب. مراجع - مرجع. ظرِبى - ظرْبى. يدلها - يدخلها. يفّهم - تفّهم.
عبد الحميد عنتر