المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 508 - بتاريخ: 29 - 03 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٠٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 508

- بتاريخ: 29 - 03 - 1943

ص: -1

‌دفاع عن البلاغة

2 -

الذوق

كان الذوق في العصور الذهبية يتكون في الأديب - كما ذكرنا من قبل - بالدراسة الفقهية لعلوم الأدب، والقراءة النقدية لروائع الفن، والصحبة المتصلة لأمراء البيان، وغشيان مجالسهم، وطول الاستماع إليهم، وأخذ النفس بمحاكاتهم، وامتحان الآراء والأذواق بمحاكهم، بعد أن يجمع الأديب وعاء قلبه على خير ما أثر عن العباقرة الذاهبين من بليغ النظم والنثر في الأحوال المختلفة والأغراض المتنوعة. فلما خلت تلك العصور، وذهب في سبيلها أحبار البلاغة، وجاء هذا العصر الآلي العجول، نشأ عن انتشار الثقافة السطحية فيه نوع من المساواة الظاهرية بين الأذهان في التحصيل والتفكير، فأخذ كل أديب يقرر ولا يستشير، ويجيب ولا يسأل، ويكتب ولا يقرأ. ولماذا يقرأ؟ إن الكتاب المعاصرين لا يكادون في رأيه يتميزون عليه، وإن الأدباء المتقدمين لا يمتون إلى حياته بسبب؛ والأبهاء والأندية لا تسمر بأدب الجاحظ ولا بحكمة المتنبي ولا بفلسفة أبى العلاء؛ وأكثر أولياء الناس لغتهم أجنبية وثقافتهم أوربية فلا يعرفون قيمة الأدب العالي، ولا يعرفون مكانة الأديب الحق

إنما يقرأ متأدبوا اليوم صحف الأخبار ومجلات الفكاهة وأقاصيص اللهو وملخصات العلم. وأكثر ما يقرءون صور منقولة أو مقبوسة عن أدب الغرب لا تربى في القارئ إلا ذوقاً مذبذباً لا يثبت على لون ولا يستقيم على خطة. ومثل هذا الذوق الملفق المستعار لا ينظر إلى (الأمالي) و (الأغاني) و (اللزوميات) إلا كما ينظر إلى العمامة والقباء والجبة؛ فهي في حكمة أشياء قضت عليها (المودة)؛ وللمودة في كل يوم زي يتجدد معه الذوق ويتعدد!

وليس معنى ذلك أن الذوق الأدبي العربي فسد في كل نفس؛ إنما نتحدث عن الكثرة؛ والكثرة في عهد الديمقراطية تتحكم في القلة: تحدد لها المستوى، وتعين لها الاتجاه، وتنصب أمامها الغرض؛ بله العدوى، فإنها إلى الأصحاء مؤكدة سريعة

على أن في كتاب العربية المعاصرين صفوة مختارة لا تزال في وسط هذه الأذواق المتنوعة المتناقصة مخلصة للذوق الطبيعي الخالص، تذود عنه، وتدعو إليه، وتأبى أن تنزل به إلى تمليق الدهماء ولو فقدت في سبيله انتشار الصوت ورواج القلم. وأغلب هذه

ص: 1

الصفوة من أبناء الأزهر ودار العلوم ومن تلمذ لهم، لأن الذوق الأدبي عندهم هدى من الوحي الإلهي أنزله الله في القرآن، وأرسله في الأدب؛ فجرى في النفوس المؤمنة مجرى العقيدة لا يحسن في مكان دون مكان، ولا يصلح لزمن دون زمن

ولكن أصحاب الذوق السقيم يرمون أصحاب الذوق السليم بالقدم والتقليد؛ كأنهم يجهلون أن الجدة والأصالة إنما تكونان في العبقرية لا في الذوق: تكونان في الفكرة والعاطفة والصورة، وفي ابتكار السمات للطبع، والحركات للنفس، والنزعات للهوى؛ وفي استنباط الوسائل للإقناع والإمتاع والتأثير والتشويق والإفادة؛ وفي ابتداع الكلمة الصادقة الشاعرة والجملة البارعة النادرة والأسلوب الحي الذي يلائم الموضوع ويوائم الطبيعة. بذلك استطاع الجاحظ أن يكون غير أبن المقفع، وابن العميد غير الجاحظ، والبديع غير ابن العميد، وأبو نواس غير مسلم ابن الوليد، وأبو تمام غير أبى نواس، والمتنبي غير أبى تمام، وأبو العلاء غير هؤلاء جميعاً؛ ولكن الذوق الذي جمع فهم وفرق بينهم ظل واحداً لا يكاد يختلف

كان المخلصون للأدب في عهد انتشاره وازدهاره يجعلون من ثمار القرائح موضوعاً للنقد الدقيق الصادق، فيؤلفون الكتب في الموازنات، ويعقدون المجالس للمناظرات، ويضعون الموازين القسط للكتاب والشعراء، فلا ينبه شاعر لجاهه، ولا ينبغ كاتب لمنصبه. أما النقد اليوم فأكثره زور وعبث. هو في أغلب الأمر رأى يصدر عن مجاملة أو جهالة، ثم ينتقل من فم إلى فم، ومن مجلس إلى مجلس، ومن بلد إلى بلد؛ والناس في عصر السرعة الآلية والثقافة الضحلة يأخذون الرأي من غير تمحيص، ويعطونه بدون اكتراث. فهذا الكاتب في رأيهم زعيم الكتاب لأنهم يقرءون اسمه في كل صحيفة، ويسمعون ذكره في كل مناسبة! وهذا الكتاب في زعمهم زعيم الكتب لأنه قرر في المدارس أو انتشر في الأيدي أو تحدث به الناس! أما أن ينقدوا الكاتب أو يقرءوا الكتاب فذلك شئ لا يقع في الهوى ولا يدخل في الاختصاص. ومن هنا كان الرأي العام الأدبي في مصر قائماً على التقليد والمتابعة؛ ومن التقليد والمتابعة لا يولد ذوق خاص، ولا يوجد رأي مستقل

إن مستقبل البلاغة منوط بتغلب الذوق الطبيعي المأثور على الذوق المزيف المستحدث. وإذا قلت إن سلامة القومية المصرية موقوفة كذلك على هذا التغلب لم تعد الحق؛ لأن

ص: 2

الأذواق والأخلاق والعادات هي عناصر الشخصية التي تميز فرداً من فرد وأمة من أمة. وسبيل الغلبة والفلج للذوق الحر تربيته وتقويته. وأقرب الوسائل إلى ذلك التعليم الصحيح والمثل العالي. فإذا عنى القائمون على الثقافة بتعليم اللغة على النحو الذي تعلم به اللغات الأوربية في الغرب، وعرضوا على النشء النماذج العليا من الأدب قديمه وحديثه، ورغبوه في قراءتها بالعرض المشوق والطبع الأنيق والمكافأة الحسنة، رجونا أن تنشأ الأذواق على الصحة وتجرى على الطبع، فتعاف الأدب الرخيص، وتستبشع الأسلوب الغث، وتنكر النقد المزيف. وإذن تنقى رياض الأدب من الحشرات والطفيليات فلا تسمع فيها لغواً ولا تأثيماً ولا شعوذة

إن معلمي اللغة في كل أمة هم وحدهم المسؤولون عن تكوين الذوق السليم والخلق القويم في الناشئ. وإن ما نجده في مصر من فوضى الأخلاق والأذواق لدليل على أن في بعض معلمي العربية ضعفاً في الاستعداد أو نقصاً في الإعداد نضرع إلى القائمين على شؤون التعليم أن يعلموا مخلصين لعلاجه. وما نظن (الدراسة العليا) التي فرضت على بعضهم في هذا العام هي وحدها الدواء الناجع في هذا العلاج.

للكلام بقية

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌علوم اللغة العربية في المدارس الثانوية

للدكتور زكي مبارك

تمهيد

جرت وزارة المعارف منذ أعوام على الاستفادة من إجازة نصف السنة بجعلها مؤتمرات للمفتشين يتبادلون فيها الآراء حول مناهج التعليم وأحوال التلاميذ

وحديث اليوم عن الأسئلة التي وجهتها المراقبة العامة للتعليم الثانوي إلى مفتشي التعليم الثانوي، وهي أسئلة دار حولها الجدال يومين، وقيلت فيها أقوال تستحق التسجيل، وقد استشرت زملائي في إعلان بعض تلك الأقوال، فأجابوا بالترحيب

ظاهرة إنسانية

لا أعرف كيف دارت المناقشات بين مفتشي الرياضة والعلوم والمواد الاجتماعية، ولكني أعرف كيف دارت المناقشات بين مفتشي اللغة العربية

كان الشوق إلى الكلام شديداً جداً، وكان كل مفتش يجب أن يتكلم بإطناب، وكأنه يريد أن يكون المتكلم الوحيد!

كان في المفتشين من يقف ليخطب، مع أن الجمهور الذي تألف منا لم يزد عن أحد عشر كوكباً!

ومع أن شهوتي إلى الكلام قليلة لكثرة ما أعبر بالقلم عما يجول في صدري، فقد زاحمت بعنف لأتكلم أنا أيضاً، وقد تكلمت حتى اشتفيت!

فما سر الشوق إلى الكلام حين يتلاقى الناس؟

يرجع ذلك فيما أفترض إلى أن طرائق التفاهم عند الإنسان قد انحصرت في طريق واحد: هو النطق، وبذلك عطلت طرائق التفاهم بالرمز والإشارة والإيماء

والظاهر أن انحصار التفاهم في النطق فضيلة إنسانية، فضيلة دعا إليها اشتباك الأغراض بصورة لا ينفع فيها غير التحديد بالألفاظ

والظاهر أيضاً أن اختراع الكتابة من أعظم المخترعات الإنسانية، لأنه يرمي إلى تسجيل الألفاظ قبل أن تضيع، وإلى تقييد ما فيها من مسئوليات

ص: 4

هل أريد أن أقول إن (المسجل) غاب عن اجتماعات المفتشين، وأنهم لو كانوا يعرفون أن كلماتهم ستسجل كما وقعت لاقتصدوا في الخطابة بعض الاقتصاد؟

أن الآداب الدينية توصى بان نحترس، وتوجب أن نفهم أن الإنسان ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. فالخوف من تدوين الألفاظ باب إلى أدب اللسان

وليس معنى هذا أن المفتشين قالوا كلاماً لا ينبغي أن يقال - لا - ولكن معناه أنهم لو عرفوا أن كلامهم سيسجل لأعدوا كلاماً أقوى من الكلام الذي قيل، مع أنه من الكلام النفيس

كل شئ صائر إلى التحديد، فالإنسان كان يعبر بالإشارة، ثم ارتقى فصار يعبر باللفظ، ثم ارتقى فصار يعبر بالكتابة، وسيرتقى مرةً جديدة فتكون له لغة واحدة، لغة محدودة لا يتطرق إليها لبس، ولا يعتريها غموض

من متاعب الإنسانية أن اللفظ الواحد في اللغة الواحدة قد يختلف مدلوله باختلاف الأذواق، بحيث يكون مدحاً عند هذا وقدحاً عند ذاك

وأعصابنا تتأثر بالألفاظ، أو باختلاف ما نفهم من مدلولات الألفاظ، فمتى تزول أسباب هذا الاختلاف؟

الرأي عندي أن هذه البلبلة الخطرة من أعظم مزايا الإنسانية، ولكن كيف؟

القوة الحقيقية للإنسان هي قدرته الأصيلة على الظفر بأكبر محصول من اشتجار العواطف والأحاسيس والآراء والأهواء ولو توحدت اللغات والتعابير فزالت جميع أسباب الاختلاف لتحول الإنسان إلى صورة آلية لا يسيرها غير ضريم (البنزين)

نحن نختلف أقل مما يجب، ويا ويلنا إذا لم نختلف!

المثال الصحيح للاتفاق هو أمة النمل، ونحن نكره التشبه بأمة النمل

الاختلاف هو الذي خلق العلوم والمدنيات، وهو الذي أوجب أن يكون لكل ثمرة مذاق

الاختلاف واجب، أما التعادي فهو بلاء

الإنشاء

قالت مراقبة التعليم الثانوي: أن إنشاء التلاميذ لا تزال تكثر فيه الأنماط النحوية والصرفية والإملائية، ثم دعت المفتشين إلى أن يشيروا بما يرون لعلاج هذه الحال، فماذا قالوا؟

قال الأستاذ جاد المولى بك: إن أهم المظاهر لمعرفة اللغات هو إجادة الخطابة والكتابة،

ص: 5

وإن في المدرسين أنفسهم من يصعب عليه الإنشاء، ولعله يصعب أيضاً على بعض المفتشين! فمن الواجب أن يراض التلميذ على الكتابة والخطابة رياضة جدية وأن تكون قدرتهم على هذين الفنين أول ما يهم المدرسين

وقال الأستاذ منصور سليمان: إن تعليم الإنشاء في المدارس المصرية قد ابتلى بآفة قبيحة، آفة مموقة للفكر، وهي الحرص على الزخرف وعلى الإطناب في جميع الموضوعات. وقد رأيت في أحوال كثيرة أن التلميذ يثاب على التطويل بأكثر ما يثاب على التدقيق. ومن هنا شاع القول بأن اللغة العربية تمتاز بالتهويل والإسراف. وشكوى المدرسين من التعب في تصحيح دفاتر الإنشاء لا تستحق أي التفات، لأنهم مصدر هذا التعب، فهم الذين يوحون إلى تلاميذهم أن الإطالة من علائم البيان

مشكلة الإنشاء

كلام الأستاذ منصور سليمان يتيح الفرصة لأن أفضل رأي في هذه المشكلة، وهي مشكلة أساسية، فما الذي دعا إلى ضعف التلاميذ في الإنشاء؟

السبب الأول هو سيطرة المدرس على لغة التلميذ، ومعنى هذا أن المدرس ينتظر دائماً أن يعبر التلميذ عن غرضه بألفاظ مخزونة في ذاكرة المدرس

وتصحيحات بعض المدرسين تؤيد هذا القول، فهم يدورون حول ألفاظ أعدوها لكل موضوع، وهم يسجلون بالقلم الأحمر تلك الألفاظ تسجيلاً يظهر أثره في جميع الكراريس

بعض المدرسين يملون على تلاميذهم ألفاظاً وتعابير تصلح لكل موضوع، كما يزعمون، وهي طريقة عقيمة، ولا يعتمد عليها غير المدرس الببغاء!

السبب الثاني هو تحكم المدرس في عقل التلميذ، فهو يطلب منه أن يفكر كما يفكر، وأن يرى الدنيا بعينه ويسمعها بأذنيه، ولا يخطر في باله أن كل تلميذ له تصور خاص، وأن التلاميذ يختلفون في الأفكار كما يختلفون في الملامح

وقد يتفق أن نرى التلاميذ في الموضوع الواحد يثبتون أقوالاً وآراءً مقتربة كل الاقتراب، فنفهم أن المدرس أنزل عليهم الوحي الكاذب أو الصادق، وكنا نرجو أن يفكر في تقوية مواهبهم تقوية سليمة، وذلك لا يتم بغير دعوتهم إلى شرح ما يعتلج في صدورهم من المعاني والأغراض شرحاً لا تهيمن عليه قوة خارجية

ص: 6

السبب الثالث هو تقديم موضوعات بعيدة عن مدارك التلاميذ، وأريد بها الموضوعات الميتة، الموضوعات التي لا تأخذ وقودها من الحياة الواقعية

ومرد هذا إلى الجهل بحيوات التلاميذ، فلهم اتجاهات فردية واجتماعية غير اتجاهات المدرسين، ومن الواجب أن تكون موضوعات الإنشاء في شرح تلك الاتجاهات

وهل ينتظر الدرس أن يجيد التلاميذ في كتابة موضوع تلقاه وهو تلميذ قبل عشرين سنة أو تزيد؟

في المدرسين من لا يختار موضوع الإنشاء، وفيهم من ينقل الموضوعات التي ألقيت على تلاميذ المدرسة الفلانية، وفيهم من يكرر الموضوع الواحد بضع سنين

الإنشاء اسمه إنشاء

فاختيار الموضوع إنشاء

واللفتة الذهنية عند المدرس باب من الإنشاء

وخطأ التلميذ، الخطأ المنقول عن طبيعته الذاتية فن من الإنشاء

والمهم هو أن نجد في الصف المكون من ثلاثين تلميذاً ثلاثين صورة من التفكير والأداء، لا صورة منسوخة من حضرة المدرس الفاضل!

السبب الرابع إقبال المدرس على تصحيح الكراريس وفي ذهنه صورة محدودة للإجابات، فهو يهمل كل فكرة منحرفة عن تلك الصورة، ولا يثيب التلميذ إلا بقدر محاذاته للعناصر التي فرضها عليه قبل الشروع في الإنشاء

وهذه الطريقة تقتل شخصية التلميذ، وتميت فيه بواكير الابتداع والافتنان. وما ظنكم بتلميذ يرى الخير كل الخير في محاكاة المدرس، ويهمل ملكاته الإبداعية كل الإهمال؟

ما ظنكم بتلميذ يراض على الإيمان بأن رأي المدرس هو الرأي، وتقضى عليه التجارب المدرسية بأن يفهم أن نجاحه يقاس بمقياس رأي المدرس؟

هذه الظاهرة موجودة بالفعل، وهي السبب في الإكثار من دروس الإنشاء الشفوي، وهى دروس عميقة، لأن الغرض منها توجيه التلاميذ توجيهاً حرفياً إلى الأفكار التي يحب المدرس إثباتها في موضوع الإنشاء

ومن أغرب ما يقع أن يقيد المدرس فوق السبورة ألفاظاً وتعابير تساعد التلاميذ على إبراز

ص: 7

العناصر الأساسية، وتكون النتيجة أن تكثر المبتذلات (الكيشيهات) فنرى في الكراريس جميعاً صوراً موحدة في الأداء، وهذا نقل لا إنشاء

وهنا أقترح أن تقصر دروس الإنشاء الشفوي على المدارس الابتدائية، لأنها توجيه للمبتدئين. أما المدارس الثانوية فلا تجوز فيها دروس الإنشاء الشفوي، لأنها تزيد في اتكال التلميذ على المدرس، والاتكال باب إلى البلادة والخمود

وأقترح أيضاً أن تكتب أكثر الموضوعات في الفصل، ليعرف المدرس قوى تلاميذه على الوجه الصحيح

وهل ننسى أن بعض التلاميذ يعتمدون على غيرهم في الإنشاء ليلقوا المدرس بأساليب مثقلة بالزخرف والتنميق؟

وهل ننسى أن في المدرسين من يغيب عنه ما في كراس التلميذ من سرقات أدبية؟

وهل ننسى أن في المدرسين من لا يفكر في الموازنة بين الموضوع السابق والموضوع اللاحق، ليعرف كيف يتطور تفكير التلميذ؟

السبب الخامس غرام بعض المدرسين بالإكثار من التصحيحات إكثاراً يشهد برغبتهم في التفوق والاستعلاء

وهذا الغرام ينفعهم عند بعض المفتشين، لأنه دليل على التدقيق، ودليل على الفهم لأسرار اللغة العربية، ولعله الباعث على بعض الترقيات!

والحق أن الحبر الأحمر رخيص، فما أذكر أنى استنفذت منه غير مثاقيل لا يزيد ثمنها عن بضعة قروش، مع أني قضيت أكثر من ربع قرن في التدريس والتفتيش

لو غلا الحبر الأحمر لاقتصد المدرسون في تلك البرقشة الحمراء، وهي برقشة ثقيلة الدم، فهي تشعر التلميذ في كل يوم بأنه تلميذ، ولا تتيح له فرصة الشعور بأنه إنسان له وجود مستقل، ولو بعض الاستقلال

إذا كانت الكلمة صواباً في قول وخطأ في أقوال فيجب تركها بدون تصحيح، لأن ورودها على قلم التلميذ شاهد على أن هذا الخطأ أحيا من ذلك الصواب

وإذا وردت كلمة عامية لها أصل بعيد من اللغة الفصيحة فيجب تركها بدون تصحيح

دعانا الدكتور هيكل باشا مرة للتشاور فيما يجب لتقليل الأخطاء في كراريس التلاميذ،

ص: 8

فقلت: إن المدرسين يوجبون حذف (الفوطة) وإثبات (القطيلة)

فقال: وما القطيلة؟

فقلت: هي كلمة يعرفها المدرسون ويجهلها وزير المعارف، مع أنه من كتاب الطبقة الأولى في اللغة العربية

ثم قلت: يوجد مؤلف كبير اسمه ابن الفوطي بالفاء، والجرائد تجهل اسمه فتسميه ابن القوطي بالقاف

فما الذي يوجب الحذلقة بتسمية الفوطة منشفة أو قطيلة؟

مهدوا الطريق للألفاظ الحية، واتركوا الألفاظ الميتة، فما يموت لفظ إلا بعد العجز عن البقاء

السبب السادس هو الهيام بتجميل الموضوعات بالباطل حيثما وقعت، فملعب الكرة فرش بالبساط السندسي، مع أن الأفضل أن يفرش بنبات النجيل. . . والحديقة يجب أن توصف بأنها غناء، ولو كانت فوق سطح البيت. وتحت يدي وثيقة تشهد بأن سطح الفندق الفلاني في المدينة الفلانية وصف بالفرنسية مرة وبالعربية مرة فقيل بالفرنسية إنه منظر يرى به الناظر جميع الآفاق، وقيل بالعربية إنه حديقة غناء، مع أنه لا يتسع لغير شجيرات محبوسة في زهريات!

ثم ماذا؟. . . عندي كلام كثير في العوائق الذي تصد التلاميذ عن إجادة الإنشاء، وأنا أكتب مقالاً لا كتاباً، فمن الواجب أن أكتفي بالتلاميح

وأنا أختم هذا المقال بالحقيقة الآتية:

هل يوجد مدرس يراقب ما يقرأ التلاميذ من الجرائد والمجلات ليجعل موضوعات الإنشاء في حدود المشكلات التي تثيرها تلك القراءات؟

أسمعوا، ثم اسمعوا

الإنشاء ليس تمريناً على إضافة لفظ إلى لفظ، وإنما هو رياضة ذهنية يراد بها تقوية المواهب الروحية والذوقية والعقلية

اخلقوا الشوق إلى الإنشاء بأن تقترحوا على التلاميذ موضوعات يحبون أن يكتبوا فيها. خاطبوهم بأذواقهم لا بأذواقكم وأدعوهم إلى أن يكشفوا من سرائر الحياة ما تجهلون، فهم

ص: 9

أعرف منكم بسرائر هذا الزمان

دعوهم يفكرون كما يريدون، لا كما تريدون، ورحبوا بجهلهم لأنه تباشير العصر المقبل، ولا تنسوا أن الطفل لا ينمو إلا إن تركناه يتصرف في حدود ما يريد

عندي كلام وكلام في تعليم الإنشاء، ولكن المجال لا يتسع للإسهاب

أما بعد فماذا قال مفتشو التعليم الثانوي؟ سأرى وسترون

للحديث شجون

زكى مبارك

ص: 10

‌من الأستاذ محمد كامل سليم إلى الأستاذ توفيق

‌الحكيم

(الأستاذ محمد كامل سليم بك أديب مبدع ومحدث مقنع، وله

في الأدبين العربي والإنجليزي مكانة سامية. ولعل هذا من

الأسرار التي حدت بزعيم مصر سعد زغلول أن يختار الشاب

كامل سليم سكرتيراً خاصاً له أيام الجهاد برغم صغر سنة

وعظم المركز وجلاله؛ فزاده ذلك صقالاً على صقال. وقد

أهدى إليه صديقه الأستاذ توفيق الحكيم كتابه (عصفور من

الشرق) فأرسل إليه هذا الخطاب)

عبد الرحمن

صديقي توفيق الحكيم

تفضلت فأهديت إلى كتابك (عصفور من الشرق) وقد فرغت من مطالعته أمس في متعة وأنس للعقل والنفس. ذلك لأنك أقمته على دعامتين: الأولى عاطفة قوية جارفة، لا يعادل اختلاجها وسذاجتها إلا صدقها وشدة وطأتها. والثانية: عقل مفكر ساخط يتضور من عالم الحقيقة، ويفزع إلى عالم الخيال، في ألم يزيده الشك تعقيداً، وفي أمل يزيده اليقين تجديداً

وإن كتابك هذا لحقيق بأن يحرك في نفس القارئ العليم بحقائق الأمور عواطف وخواطر شتى: من إشفاق ضاحك على العصفور الحساس الشاعر، إلى عطف باسم على قلبه الخفاق الثائر، إلى رثاء ظريف لحاله المضطرب الحائر، إلى غبطة تثير الذكرى لما لقي من حب مدوخ فائر، أشعله جمال فتان ساحر؛ حتى أصبح هذا المخلوق البريء ريشة في مهب الأجواء، تلعب بها الأهواء، فلا تستقر على حال، ولا يهدأ لها بال؛ وأمسى وهو لا يرى ولا يسمع نصح الناصحين ولا إرشاد المرشدين:

ص: 11

وما تبصر العينان في موضع الهوى

ولا تسمع الأذنان إلا من القلب

وأخيراً هذا المفكر البائس (إيفان) يتشكى ويتسخط، ويتفلسف ويتورط، ويسمع الإنسان في صوته رنيناً من الحق، وأنيناً من الأسى، ويشهد في أقواله طغيان الفكرة وقوة الإيمان بفساد الغرب وصلاح الشرق، وبما في المادة من شقاء وضلال، وبما في الروح من أنس وجلال؛ فلا يسع الإنسان - سواء أقره أم خالفه - إلا أن يشعر نحوه بعطف كله إشفاق، ورحمة تضاعفها لوعة، ولوعة يخالطها ألم.

وبعد، مرة ثانية: هل تريد أن أكشف اللثام عنك في ضوء هذا الكتاب الذي وصفت فيه حالات المحب واختلاجاته، ونزوات الحب ونزعاته، حركاته وسكناته، خطراته وخفقاته؟

إذن فاسمع يا صديقي، لقد جاء وصفك لهذا كله وصف العارف المجرب. وما ينبئك مثل خبير؛ فلست أنت عدو المرأة كما يزعم الزاعمون ويتصور الواهمون، وإنما أنت عاشقها المتيم الهائم، وعابدها في محراب العزلة والجمال.

ولقد وددت بعد فراغي من مطالعة كتابك لو امتد بك الصبر فأطلت فيما أوجزت، وأسهبت فيما سردت، وبسطت طرفاً آخر من تجارب الحياة. وتبسطت في ذكر حوادث أخرى أو مغامرات. . . إذن لكان صاحبك مثلاً فذاً للمفكرين ولكان عصفورك مثلاً حياً لعصافير المصريين.

فوا رحمتاه للعصافير السمراء، حين تحب الحمائم الجميلة البيضاء! ويا لها من نشوة دونها كل نشوة، فيها عذوبة وفيها عذاب؛ ولكنها حياة لا تعدلها حياة.

قد يسأل سائل: أليس من العجيب أن يحب العصفور الآدمي الصغير الحمامة الآدمية الجميلة؟ أليس بينهما تفاوت قائم وتباين؟ فكيف يتم بينهما توافق دائم ووئام؟ بلى إنه لعجيب؛ ولكنه عجيب في حكم العقل والمنطق وحدهما؛ ولكنه في حكم الطبيعة والعاطفة مفهوم ولا يفهم سواه. والحب لغز من الألغاز تجري في دائرته المرنة عملية الجذب والانجذاب، فلا ملام ولا عتاب.

على أني كثيراً ما تمنيت لو أن كل عصفور من الشرق أو الغرب أدرك حكمة الأيام في كل زمان ومكان وهي أن المرأة إذا استقوتك استعطفتك ببكائها، وإذا استضعفتك قتلتك بكبريائها. إذن لكان نصيبه من متع الحياة أعظم وأكمل، ولكانت شقوته بها أقل وأضأل.

ص: 12

ولكن كيف يدرك العصفور، حكمة الدهور، قبل أن ينتقل بين الزهور؟

إليك يا صديقي خالص التهنئة على ما أدركت من توفيق ظاهر في كتابك الخفيف الظريف. وإليك كذلك خالص الشكر على الهدية وعاطر الثناء على كرم الإهداء والسلام.

10 مارس سنة 1943

(محمد كامل سليم)

ص: 13

‌على هامش (أحلام شهرزاد)

قضية اليوم

للأستاذ دريني خشبة

قالت فاتنة: (عجباً لك يا صديقي! لست أعرف سبباً لترددك هذا الذي طال، وخوفك ذاك الذي سمج، وإشفاقك الذي لم تعد له علة؛ فها أنت ذا تعيش ملء القاهرة، وهاهم أولاد أخذان الشباب من حولك ما تزال قلوبهم عامرة بالشباب؛ ونفوسهم ممتلئة بالفتوة. وهاهي ملاعب أنسك، ومراتع هواك، يرقص فيها ماضيك ريان كما عهدته فينان كما حلمت به، فإلام تظل راكداً هكذا؟ وحتام تخفو عيناك وكل ما حولك صحو؟! أخشى أن يكون إشفاقك من الكتابة عني، وقد ملأت أذنيك شدوا، ومهجتك غناء، هو ما ترى من القطيعة الشاحبة التي قامت بين أئمة الأدب في هذا البلد، وقالات السوء التي يرسلها الأبالسة المغرضون لتعبس الجنة الباسمة، ويصمت الطير الصادح؛ وليكون نعيهم وحده هو المسموع في الآذان، المدوي في الأذهان، مهما يكن شأنه من الهوان. . . كلا يا صديقي. . . لا عليك من هذا أبداً، فأئمة الأدب في هذا البلد أعظم من أن تمزق وحدتهم الأقاويل، وأجل من أن تذهب بريحهم عصبة الأبالسة من مروجي الأكاذيب. . . يحب أن تكتب عني إذن وأنت آمن مطمئن، فقد بلوت من ألوان الأساطير وفنون القصص ما ينبغي أن يوقظ فيك جمالي، ويلفتك إلى سحري، وينبه فيك روعتي التي أبدعها خيال صاحبك الصناع الفنان. . . ولن يعفيك من الكتابة عني ما أرجف به المرجفون عقب أن تلهوا بقراءتي في سيارة أو في عرابة تزام، فلست من الهوان بحيث أقرأ هكذا، وبحيث يفرع القارئون مني على هذا النحو، فأنا قطعة أدبية خالدة، ولن يسأمني الناس مهما أكبو علي، ومهما أدمنوا تلاوتي. . . إنني أروع لوحات الفن في الأدب المصري الحديث. . . وأعيذك من أن تظن بي الظن، أو تأخذ علي اعتداداً بشخصي القوي، ولن أقول الضعيف تواضعاً، فإن عرفاني بقيمتي يباعد بيني وبين التواضع. . . والتواضع أكبر رذائل الأديب ما لم يكن مصدره الغرور، إذ يصبح فضيلة يجمل أن يتحلى بها ليريح الناس منه. . . أنت أذن تخشى شيئين. . . أولهما هذا الفتور الذي قام بين (صاحبي القصر المسحور) فباعد بينهما إلى حين، وجعل الكلام عنهما كهذا الشوك الذي ينبت في أعواد الورد، فيخيف الأيدي الناعمة من أن تمتد،

ص: 14

والأرواح الظامئة من أن تتطلع. . . أما ثانيهما فهو كتابتك في (الرسالة) عن صاحبي، أي عني. . . و (الرسالة) هي التي نشرت تلك الكليمات التي نفثها صاحب (شهرزاد) فيما شجر بينه وبين صاحب (فاتنة) أي صاحبي. . . والرسالة أيضاً لها (وعكتها) التي فترت العلاقة بين صاحبها وبين أعز أصحابه عليه، وأحبهم إلى نفسه، لأنه زميل الصبا، وخدن الشباب، وصاحب الحق الأول في فؤاده، والشريك الذي بنى معه مسرح هذا الأدب في مصر. . . لا لا يا صديقي، دع ما يريبك من أمر الصداقات إلى ما لا يريبك من أمر الأدب، فللصداقات عتاب يحلو أو يمر، وللأدب نقد يسلس أو يقسو، وينعم أو يعنف؛ والصداقة شئ، والأدب شئ آخر. ولن يقبل النقد صداقة من الصداقات فيجعلها عداوة إلا في الأمم الصغيرة الفقيرة من القلوب الكبيرة، فإذا عرفت لما أرجف المرجفون عن (شهرزاد) وعن (أحلام شهرزاد) وما تخرصوا به من أخذ هذه عن تلك، فإنما تعرض لموضوع أدبي لم يشد منه المتخرصون إلا ألفاظاً أو عبارات لا كيل لها ولا وزن. وهم قد أوردوها، حينما أوردوها، ليوهموا أنهم بلغوا بها لباب النقد الصراح، وقطعوا بسقطها جهيزة كل خطيب. . . أما صاحب الرسالة، والكليمات التي نشرها لصاحب شهرزاد، فصحيفته كانت وما تزال صحيفة الأدب والنقد الخالص البريء. . . وآية ذلك أنني تعمدت أن أختارها لك لتكتب عني فيها، لتقطع ألسن المرجفين والخراصين، ولتفتح أعينهم التي غشيت إن لم تكن قد عميت، على صورتي الرائعة التي هي ابتكار جديد لم يسبق أحد صاحبي إليه، ولا استطاع أحد أن ينبت في جنة شهرزاد زهرة أينع منها، ولا أعبق من شذاها شذى. . . هذه كلمات سيضيق بها النافسون على صاحبي أشد الضيق، ولكن قلها ولا عليك مما ينفسون من شئ، فلن يضر زحار الغل إلا أهله، ولن يأكل إلا قلوب أصحابه. . . ثم لا تنس أن صاحب الرسالة هو الرجل الذي أثار موضوع النقد منذ أعوام فجلاه أحسن تجليه، واستبقت الأقلام وراء قلمه تؤيد ما يقول، وتفصل ما يجمل، وأنك أنت يا صاحبي كنت أحد الكاتبين فيه، المؤيدين لوجهة نظر صاحب الرسالة. . . ثم أذكر أنه صرح لك بجمالي، واعترف بروعتي، وحسبك أن يصرح الزيات بجمال فاتنة، وروعة فاتنة، لتكتب أنت عن فاتنة. . . أما أختي. . . أما شهرزاد التي ملأت أحلامها، فأنت الكفيل بأن تنافح عنها، وتكافح في سبيلها، وأنا ضامنة لك أنك منصفها من هراء ما أرجفوا

ص: 15

به عن غير علم، وجفاء ما شقشقوا به بغير هدى ولا كتاب منير. . . ويدعي الخراصون أن صاحب شهرزاد قد أصبح أنانياً، وذلك أنهم قالوا إنه غضب لأن زميله في القصر المسحور قد كتب في (شهرزاد) كتاباً مستقلاً ترجم به عن أحلامها؛ كأن شهرزاد لم تكن موجودة منذ قرون ثم وجدت، أو كأنها شئ من ابتكار هذا الجيل فلا يصح إلا أن تكون حبساً على فلان أو فلان من زعماء الأدب الحديث. . . ولو عقلوا لتأدبوا أولاً، ثم لعلموا أن الوقعية على هذا النحو شئ خسيس لا يليق بكرامة نهضتنا ثانياً، ثم لذكروا أن صاحب شهرزاد ليس أنانياً وأنه صاحب فطنة ونباهة، وأنه ليس من الخفة بحيث ينطلي عليه ما زعموه له من السرق

وإن الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي. . . . . .

ومختلف جداً ما جاء في شهرزاد وما جاء في أحلامها، وشهرزاد تلك مغايرة لهذه في طبيعتها وفي خلقها. وفي شهوتها البهيمية وفي وسائلها وفي أصحابها، وفي الملعب الذي شهد حياتها مذ وجدت ومن قبل أن توجد، بل هي مغايرة لهذا في كل شئ؛ حتى في الهواء الذي تنفسته. بل هي مغايرة لها في كل شئ حتى في المؤلف الذي كتبها، وفي القلم الذي كتبت به. . . وإلا فأين عدو المرأة من صديق المرأة؟ وأين الرجل الذي يعد المرأة دمية، من الرجل الذي يعدها نصف هذه الحياة على الأقل؟ أين الرجل الذي يحسب أن المرأة مما يستخف اللعب به، والإزراء عليه، ووضعه في إطار لتعليقه فوق جدران الصالونات، من الرجل الذي يعرف أن المرأة خلقت لما هو أسمى من اللهو، وأهم من اللعب، وأقمن بالجد! نحن هنا نقول لا لنغضب أحداً، ولا لنرضى أحداً. . . فأمامنا رجلان لكل منهما مؤلفات ولكل منهما كتب، ولكل منهما مذهب في الأدب لم يعد من الهين السهل إنكاره أو تجاهله. . . أما أحدهما فيباهي بأنه عدو للمرأة، فهو دئب في الإزراء عليها والتنديد بها والغض من نصيبها في الحياة، وأما الآخر فهو في الجانب الآخر من صاحبه، لأنه يعد المرأة شيئاً عظيماً جداً إن لم يكن أهم من كل شئ، فهو دائب في الإشادة بها، والثناء عليها، وإحلالها المكان الذي يسمو فوق الرقاعات. والعجيب أن كلا الرجلين في مركز يبيح له ذلك، فالأول غير متزوج وليس له أبناء، ولم يقع على كاهله من مسئوليات الحياة ما يفسد عليه طريقته في التفكير التي قد يراها حقاً، ويراها الناس بلاء. ثم هو لم يعرف هذا الشعور الأبوي

ص: 16

الجليل، ولم يسمع بعد مخلوقاً ظريفاً فصل عن قلبه يناديه ذلك النداء الثمين:(بابا!) أو باللغة العربية الفصحى: (يا أبي!) ذلك النداء الذي يوشك أن يكون الفرق بين الرجلين، والذي هو خليق أن يغير الوسيلة التي يفكر بها كل شخص في هذا الوجود. أكتب هذا يا صديقي عني. . . أكتبه عن فاتنة. . . أكتبه معتقداً أنه الحق، وهو بذلك لن يغضب أحداً ولن يرضي أحداً. . .! إن لم يرض الجميع. . . فأكبر الظن أن الجميع عقلاء. ثم هذا هو الوضع الصحيح لكلا الرجلين. فأي غضب وأي رضى، وأي سخط وأي بشاشة؟ لماذا يسخط صاحب شهرزاد إذا غضبت شهرزاد الحكيمة الحازمة حين ترى كاتباً يسلم جسمها للعبيد السود، ويدعي أنها هي التي تصنع هذا وتتشهاه راضية! لقد حق لشهرزاد أن تثور وأن تسخط إذا كانت شهرزاد رمزاً للمرأة في كل زمان ومكان. لقد حق لها أن تثور وأن تسخط إذا كانت حقاً رمزاً لبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا وزوجاتنا. . . بل رمزاً للمخلوقة المقدسة التي تصنع سعادتنا وشرفنا وتبنى منزلنا وتغدو أرواحنا، وتقيم لنا حياة العزة التي نصبو إليها ونحلم بها، وتملأ دائماً خيالنا وتستأثر بعبادتنا لأنها من الله بل هي جماع ما يأمرنا به الله. . . شهرزاد هذه تغضب أشد الغضب، وتثور أعنف الثورة إذا انحط بها كاتب إلى صفوف العاهرات. وكل رجل لا يغضب معها ويثور لثورتها هو زوج فقد نخوته، أو أب لا يهمه شرفه، أو أخ ليس فيه مروءة، أو أبن معدوم المجدة، أو قريب ليس عنده نحيزة. . . ولا يصح أن يكون هؤلاء آدميين إذا أخذوا بوجهة النظر الخسيسة

هذه في شهرزاد. . . حينما تكون شهرزاد رمزاً للمرأة. . . ثق يا صديقي أن أحداً لن يغضب من هذا الكلام الذي تقوله بلساني، لأن أحداً لا يرضى أن ينتسب إلى هذا الصنف من صنوف شهرزاد إلا إذا كان فسلا أو أفيكا أو مدخولاً في عقله. لن يرضى أحد أن ينتسب إلى هذا الصنف من صنوف شهرزاد بأبوة أو أخوة أو بنوة أو قرابة. . . واليوم الذي يرضى فيه أحد بشيء من هذا هو اليوم الذي تنعكس فيه معايير الأخلاق وتكون الفضائل والرذائل صفات اعتبارية وشعبذات لا قيمة لها إلا في إفهام النوكي والقعاديد. . . وإذا صح أن يكون الناس قد صاروا نوكى وقعاديد، صح أن تؤلف لهم قصة عن شهرزاد تهدف بالمرأة إلى هذا الهدف الوضيع الذي يجعل بيوت الناس مواخير فسق، وأسواقاً للبغايا. . . هاأنت ذا تشيع في وجهك حمرة الخجل يا صديقي لمجرد ذكر هذه الألفاظ التي

ص: 17

لم تتعود إيرادها في أي مما كتبت، ولكن ما حيلتك وأنت تريد أن تكتب حقاً. ثم ما حيلتك وقد لقيت شهرزاد هذا ذاك الرواج الذي لقيت بين جمهور القراء فهبطت بهم ولم تعل، واشتركت العوامل التي أوشكت أن تفسد الاتجاه الأدبي في نهضة هذا الأدب، إن لم تكن قد أفسدت بالفعل. فإذا جاء كاتب أب. . . كاتب له زوج وأبناء وبيت ليكتب عن شهرزاد كتاباً جديداً يدفع به تلك الوصمة التي أخجلت، وينبغي أن تخجل الأمهات والأخوات والزوجات، إذا جاء هذا الكاتب ليكتب ذلك الكتاب، هب الخراصون يتفيهقون ويقولون إنه إنما سرق، وإنه إنما سوغ لنفسه أن يدعي لنفسه ما لغيره، وأن يعيث فساداً في بستان أخيه، وأن ينفش في زرعه؟ ولماذا؟ لأن عبارة أو عبارتين اتفقتا في الكتابين، وتواردتا في القصتين! ناسين أن الكتابين قد اشتركا في مصاحبة شهرزاد في قصرها المسحور، فكتبا عنها كتاباً يترجم عن فهما، ويشرح طريقتهما، ويحكم لأحدهما وعلى الآخر، ويتناول بالتفسير ما ذهبنا إليه من عناصر تلك القضية. ما هذا؟ كيف يفهم هؤلاء الأدب؟ أيكفي أن يقرءوا القصة من القصص في سيارة أو عربة ترام ليصدروا عنها حكمهم وهم يهزلون؟! لا. لا. . . ينبغي عليهم أولاً أن يفهموا أن الذي بين صاحب شهرزاد وصاحب أحلام شهرزاد، مختلف جداً. فأحدهما مشرق والآخر مغرب، وأحدهما يرمي إلى غرض يهدف الآخر إلى ضده. أحدهما يعد المرأة شهوة تفسد كل شئ. المرأة عند أحدهما شيطان مريد، وعند الثاني ملاك بار رحيم. فليفهم الخراصون قضية الكاتبين على هذا النحو. ثم ليقرءوا القصتين من جديد على هذا النور الجديد. ليضعوا عناصر القضية مرتبة أمام بصائرهم. ليقرءوا شهرزاد أولاً، ثم ليقرءوا القصر المسحور ثانياً، ثم ليقرءوا أحلام شهرزاد بعد ذلك، وليذكروا من هو كاتب شهرزاد وما مزاجه في المرأة، وما رأيه الذي يفرق به بين جسدها وبين روحها، وليذكروا، مالا يني يكتبه عنها، وما يفخر دائماً أنه مذهبه في كل ما يتعلق بها. ثم ليذكروا من هو كاتب أحلامها وما طريقته في الأدب، وما رأيه في المرأة، وماذا كتب وما يزال يكتب عنها

ليفعلوا هذا، أو فلينتظروا حتى نعرض لهم كل ذلك.

قالت فاتنة: (أكتب ذلك يا صديقي عني، فقد آن أن تجد المرأة من ينافح عنها، ويكافح في سبيلها.)

ص: 18

درينى خشبة

ص: 19

‌ثورة في الأخلاق

للأستاذ محمد يوسف موسى

كان من حكمة الله ورحمته بالإنسانية أن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم للعرب خاصة وللناس كافة على فترة من الرسل، والناس في عمى عن الحق. وضلال عن الهدى، وجهالة شملته من أدناه إلى أقصاه. فقد كان من الناس قبل بعثة المصطفى من قال: ما يهلكنا إلا الدهر، ومن زعم أنه لا يبعث من يموت، ومن يعبد إلهين اثنين واحداً للخير وآخر للشر، ومن جعل يقيم من الأحجار أوثاناً وأصناماً يعبدها ويقدم لها القرابين حتى من أبنائه وأفلاذ كبده! هذا في ناحية العقيدة. أما في ناحية الخلق والأجتماع؛ فكان البغى والعدوان، وأكل مال اليتيم، وهضم حق الضعيف، ونصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، واستبداد الأكسرة والقياصرة بمن استرعاهم الله من خلقه. كان الأمر كذلك وشراً من ذلك، حتى نظر الله للإنسانية المهضومة، والقلوب الحائرة، والنفوس المتطلعة لنور يهدي به الله خلقه بعد ضلال، ورشد يخرجهم من الظلمات، ورحمة تعمهم جميعاً، فكان محمد هو الهدى والرشد والرحمة والنور، وبه تمت نعمة الله على خلقه وقامت حجته عليهم، بما جاء به من عقيدة وتشاريع وأخلاق، بها صلاح العالم ما أخذ بها ومشي في ضوئها.

ولست أريد الآن أن أفصل ما ذكرت، أو أن أوضح ما أجملت، فحسبي في مقامي هذا الإشارة والإجمال، وفي ذلك بلاغ لقوم يعلمون. إنما الذي أرجو أن ألفت إليه النظر بقوة هو أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت ثورة بكل معنى الكلمة؛ ثورة على العقائد الباطلة، والفوضى الشاملة، والأخلاق الرذلة السيئة. كانت ثورة على هذا كله؛ وإن في بعضه ما كان طيباً في أصله، ثم لما طال به الزمن تغير على أيدي الناس شيئاً فشيئاً، حتى القلب سوءاً وشرا! فما أجدرنا إذاً أن نبحث التراث الذي وصل إلينا، بلا تفرقة بين منبعه وأصحابه، ونأخذ بما فيه من حق، ونثور على ما اندس إليه من باطل فنبعده عنه، وبخاصة في ناحية العقيدة التي بها صلاح المرء وسلامه، والأخلاق التي يتعايش بها الناس ويحكمونها في حياتهم وعامة أحوالهم.

وأرى، قصداً في القول والورق، ألا أتحدث الآن على ناحية العقيدة وما شابها من باطل بفعل بعض المتصوفة وغيرهم من الذين أفسد تفكيرهم فلسفات تلقفوها من هنا وهناك،

ص: 20

دون أن يعنوا بالفحص عنها والتثبت منها، فحادوا عن سواء السبيل. وإذاً فلتكن هذه الكلمة مقصورة على ما يجب من ثورة في ناحية الأخلاق.

ورثنا عن رجالاتنا وفلاسفتنا المسلمين - أمثال ابن مسكويه والفارابي والغزالي - مذاهب في الأخلاق، بينت لنا الفضائل والرذائل بياناً فلسفياً، وحددت السعادة التي يصح أن نسعى إليها، ورسمت لها الطرق والسبل، مستعينة في ذلك كله بهدى القرآن والحديث وبآراء من الديانة المسيحية والفلسفة الإغريقية فكان من هذا المزيج ما نعرفه من الأخلاق الفلسفية التي نتوفر على دراستها في الأزهر والجامعة علها تهدينا السبيل السوي، والتي جمدنا عليها فما غيرنا منها شيئاً، غافلين عن الزمن وتغيره وما جد من تطورات ونظم تقضي بأن نعيد النظر في هذه الأخلاق هذه الغاية - أو السعادة القصوى - التي حددتها تلك المذاهب هي العلم التام والمعرفة الصحيحة بالعالم والله والملأ الأعلى. والوسائل إليها في رأي الغزالي - الذي يعتبر إلى حد كبير ممثل هذا الضرب من الأخلاق - هي التحلي بفاضل الأخلاق، والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة. وهنا موطن من المواطن التي أدعو إلى الثورة عليها.

لم يجئ الإسلام ليمهد سبيل الراحة والسعادة الخاصة لقوم يقبعون في الزوايا والمساجد يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ويقنعون بالتافه من الطعام والمرقع من الثياب والضروري من حطام هذه الحياة الدنيا، طلباً لما في الدار الآخرة من جنات عرضها السموات والأرض! لقد جاء الإسلام، وقد بلغت الإنسانية رشدها، فكان ديناً وسطاً لم يفضل الجسم ولا الروح بل عرف لكل حقه؛ فلم يوجب التقشف. ولم يحرم التمتع بما أودع الله من خير في بطن الأرض وعلى ظهرها:(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)!

(الحديث موصول)

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين

ص: 21

‌للذكرى والتاريخ

طيبة تستقبل فرعون مصر

للكاتب الفرنسى تيوفيل جوتييه

في كتابه قصة المومياء

(إلى جانب المصريين نحن حقاً برابرة)

تيوفيل جوتييه

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

يأتي بعد الموسيقى، الأسرى من البربر بسحنهم الغربية، ووجوههم البهيمية، وجلودهم السوداء، وشعورهم المجعدة؛ وإنهم ليشبهون القرد أكثر مما يشبهون الإنسان، ويلبسون زي بلادهم: قباء إلى أسفل الدف، مطرز بزخارف ذات ألوان مختلفة، وتمسكه حمالة واحدة، ويسود في غل هؤلاء الأسرى قسوة غربية ماهرة؛ فبعضهم جمعت كيعانه خلف ظهره، والبعض ربطت يداه مرفوعتين فوق رأسه في أكثر الأوضاع مضايقة، وقسم وضعت يداه في محابس خشبية، وآخرون ربطت رقابهم في حبل يضم صفاً طويلاً، وقد عقدت عقدة عند كل أسير، ويسير إلى جانب الأسرى حرس ينظمون سيرهم بضربات من العصا، ويسير في الخلف بخجل وانحناء سيدات سمر بضفائر طويلة مسترسلة، ويحملن أطفالهن في خرق من نسيج معقود على جباههن؛ وأخريات حسان ذوات جلد أقل سمرة من هؤلاء قد زين أذرعتهن بحلقات ضخمة من العاج، وآذانهن باسطوانات واسعة من المعدن؛ وقد ارتدين أقبية طويلة ذات أردان واسعة، يزينها تطريز لدى العنق، وتنزل إلى أعقابهن، مثناة ثنيات دقيقة مكوية، ويلبسن خلاخيل في أقدامهن، ويصحب هؤلاء الجند ويحفظونهن من الاختلاط بالجمهور

يأتي بعد ذلك حاملو الرايات، رافعين أعلامهم مذهباً قضبانها، وعليها رسوم رمزية؛ من صقور مقدسة، إلى رءوس هاتور يعلوها ريش النعام إلى لقالق ذات أجنحة، إلى أختام منقوشة باسم الملك، إلى تماسيح ورموز أخرى دينية أو حربية؛ وقد عقد بهذه الرايات

ص: 22

أربطة بيضاء زينت بنقط سوداء، تجعلها حركة السير ترفرف برقة

لدى رؤية حاملي الرايات الذين يعلنون مقدم فرعون، أخذ نواب القس والأعيان يمدون أيديهم نحو فرعون في هيئة احترام تام، أو يتركون أيديهم على ركبهم مديرين راحاتهم للهواء، وبعضهم ينحني شاداً مرافقه إلى جسمه، وجبهته منحنية تبدي الخضوع المطلق والتقديس العميق؛ بينما النظارة يحركون في كل جهة ما معهم من سعف النخل

بين حاملي الرايات وحملة المباخر الذين يسبقون هودج فرعون، مناد يتقدم وحده وبيده منشور تغطيه الرموز الهيروغليفية؛ يعلن هذا المنادي بصوت قوي رنان، كأنه صوت من النحاس، انتصارات فرعون ويتحدث عن الحظ الذي صادفه الملك في مختلف مواقعه، وعدد الأسرى وعربات الحرب التي أخذت من العدو، وقدر الغنيمة، وقيمة برادة الذهب، وأسنان الفيل، وريش النعام والعطور، وعدد الزراف والأسد والفهود والحيوانات الأخرى النادرة؛ ويذكر أسم رؤساء البربر الذين قتلوا بحراب جلالته أو سهام ذلك الملك القادر على كل شئ محبوب الآلة، ولدى كل خبر يهتف الشعب هتافاً عالياً، ومن أعلى الجدران يرمون في طريق المنتصر سعف النخل الذي يلوحون به

وأخيراً يظهر فرعون.

بعض الكهنة يضعون البخور على الفحم المتقد في كوب صغير من البرنز، له يد على هيئة صولجان ومن الناحية الأخرى ينتهي برأس حيوان مقدس، ويسيرون باحترام بينما الدخان المعطر الأزرق يصعد إلى أنف المنتصر الجالس في هيئة من لا ينتبه إلى هذه التشريفات كأنه إله من البرنز أو البازلت

اثنا عشر رئيساً حربياً يغطي رؤوسهم خوذات خفيفة، عليها ريش نعام، أنصافهم العليا عارية، والسفلى يغطيها منطق ذو ثنيات عريضة، ويضعون أمامهم تروسهم معلقة بأحزمتهم، هؤلاء يحملون نوعاً من الهوادج عليه عرش فرعون، وهو كرسي له أذرع وأرجل على هيئة الأسد، وله ظهر مرتفع، وعليه حشية عالية، وقد زين جانبه بشبكة من الورد الأحمر والأزرق، وذهبت يدا العرش وأرجله وجوانبه، أما الأماكن التي خلت من التذهيب فيملؤها ألوان زاهية

وعلى كل جانب من المحمل يحرك أربعة رجال مراوح ثقيلة من الريش على شكل نصف

ص: 23

دائرة، وعيدان هذه المراوح مذهبة؛ ويحمل قسيسان قرناً مزخرفاً زخرفة باهرة، ويسقط منه باقات اللوتس الضخمة

كان فرعون يضع على رأسه تاجاً به فتحة ينفذ منها صوان الأذن، ثم ينسدل على العنق ليحميها، وفي القسم الأزرق من التاج يلمع كثير من النقط التي تشبه أهداب الطائر، وهي مكونة من ثلاث دوائر سوداء وبيضاء وحمراء، وله إطار قرمزي وأصفر بين حافته. والثعبان الرمزي عاقفاً حلقاته الذهبية على الجزء الأمامي من التاج يتدلى وينفتح فوق الجبين الملكي، ويتهدل على الأكتاف خصلتان من الشعر المصفف طويلتان لهما لون أرجواني، ويكملان غطاء الرأس ذا الأناقة والعظمة

ويتدلى على صدر فرعون عقد ذو سبعة أدوار من الميناء والحجارة الكريمة والدرر والفصوص الذهبية التي لها في الشمس بريق وهاج خاطف

ويلبس الملك نوعاً من الأقمصة به مربعات وردية وسوداء، وينتهي بأربطة تلتف مرات عدة حول جذعه، وتضغطه بقوة؛ وكماه المشقوقتان من أعلى تدور عليهما خيوط ذهبية، وحمراء، وزرقاء، تريان ذراعين عظيمتي العضل قويتين، وباليد اليسرى مقبض من المعدن مخصص، ليخفف من احتكاك الوتر عندما يرمي فرعون سهماً من قوسه، واليد اليمنى يزينها سوار مكون من ثعبان يلتف عدة مرات على نفسه، وتقبض على صولجان من الذهب ينتهي بزهرة لوتس؛ وباقي جسمه ملتف بنسيج من أدق أنواع الكتان ذي ثنيات كثيرة، ويثبته على الخصر حزام عليه صفائح من الميناء والذهب، وبين القميص والحزام يبدو الجسم مضيئاً مصقولاً كأنه جرانيت وردي نحتته يد صناع، ويلبس في قدميه الدقيقتين الطويلتين صندلتين محنيا لسانهما، ويشبهان قبقاب التزحلق، ويجلس واضعاً إحدى قدميه قريبة من الأخرى، كما نرى في أقدام الآلهة المنقوشة على حيطان المعابد

وجه فرعون مصقول أمرد ذو سمات نقية، يبدو أنه ليس في مقدرة أي انفعال أنساني أن يغيرها، وشفتاه نابنتان، وعيناه واسعتان يزيد في سعتهما الخطوط السود، وأهدابهما لا تطرف كأهداب الصقور المقدسة. وإنه ليوحي بسكونه الرهبة والاحترام؛ ويقال إن عينيه الثابتتين لا تريان إلا الخلود واللانهاية، أما ما حولهما من الحوادث فيبدو أنه لا ينعكس فيهما. وإن الاشمئزاز من اللذائذ والتعب من الرغبات التي تجاب حالما تبدى، والتفرد بان

ص: 24

يكون نصف إله لا نظير له بين البشر، والضجر من طول ما عبد، والملل من النصر، عقدت إلى الأبد هذا الوجه الجميل الصافي. وإن أوزيريس القاضي بين الأرواح ليس أكثر منه عظمة ولا هدوءاً

إلى جانب فرعون، يرقد فوق المحمل أسد خاص به، ماد إلى الأمام مخالبه كأنه تمثال أبى الهول فوق قاعدته، ولكنه يطرف بعينيه الصفراوين.

يصل هودج فرعون بالعربات الحربية لزعماء المغلوبين حبل، وهم مقودون خلفه كأنهم حيوانات ذات مقاود، وإنهم بهيئتهم الحزينة الوحشية، قد جمعت مرافقهم بالعصائب، ويكونون منظراً شنيعاً، ويهتزون بغير نظام كلما اهتزت عرباتهم التي يقودها حوذيون من المصريين.

بعدئذ تأتى العربات الحربية للأمراء الشبان من الأسرة المالكة، ويجر هذه العربات خيول من جنس أصيل وهيئة جميلة، وسيقان دقيقة، وأقدام كثيرة الحركة، وأعراف منظمة، ويسرج كل اثنين منها معاً، وقد زينت رءوسها بالريش الأحمر. وعلى جباههما يلمع المعدن وفى فمها شكيمة منه. ويستند إلى كواهل الحصن عريش منحن ذو حلقات متفرقة، وعلى كل حصان ميثرتان عليهما كرتان من النحاس اللامع، يجمعهما نير دقيق منحن إلى الداخل، ويكمل سرج الحصان بحزام وسير صدري مخيط، ومزخرف زخرفة كثيرة، وجلال عليها خطوط كثيرة زرقاء وحمراء، ولها هداب وخمل؛ فسرج الحصان متين جميل خفيف.

أما العربة فمطلية بالأحمر والأخضر، ولها صفائح وأنصاف كرات من البرنز تشبه وجه الدرع، وهى مجهزة بكنانتين كبيرتين موضوعتين بانحراف، إحداهما تحوي حراباً والأخرى سهاماً، وعلى كل وجه أسد منحوت مذهب، مخالبه ساكنة، وفمه مفتوح كما لو كان يزأر ويبغي الوثوب على الأعداء.

ويلبس شباب الأمراء على رءوسهم شريطاً يضم شعرهم، ويلتف عليه الثعبان الملكي نافحاً أوداجه، ويرتدون قميصاً مزخرفاً لدى العنق والأكمام زخرفة باهرة، ويحيط به لدى الخصر منطقة من الجلد يربطها مشبك من المعدن، قد حفرت عليه نقوش هيروغليفية، ويعلق بهذه المنطقة خنجر كبير، حافته مثلثة من النحاس، ويده مضلعة تنتهي برأس صقر؛

ص: 25

وفى كل عربة يجلس بجانب كل أمير حوذي مكلف بأن يقود العربة في أثناء المعركة، وتابع يحمل سلاحاً، وهو مكلف بأن يدفع بالترس الضربات الموجهة إلى الأمير المحارب عندما يكون هذا رامياً بالسهام، أو مهيئاً الحراب التي يأخذها من الكنانة الجانبية

عقب الأمراء تأتي عربات الفرسان المصريين، وعددهم عشرون ألفاً، كل ثلاثة في عربة يجرها حصانان، وتتقدم العربات عشرة عشرة، وتكاد أقطاب عجلاتها تتماس، ولكنها لا تحتك أبداً، لأن مهارة الحوذيين عظيمة.

بعض العربات خفيف خصص للمناوشات والاستطلاع، ويسير في المقدمة، ولا يحمل إلا محارباً واحداً، ولكي تكون يداه حرتين في أثناء المعركة يلف زمام عربته حول جسمه، ويجذبه إلى اليمين أو إلى الشمال، أو إلى الخلف، ليدفع أو يوقف حصنه، وعجيب جداً أن ترى هذه الحيوانات النبيلة التي تبدو كأنها متروكة لنفسها تحفظ في سيرها اتجاهاً منتظماً لا يتزعزع

مشي الخيل المكبوحه بعنف، وضوضاء العجلات ذات الإطار البرنزي، وقعقعة الأسلحة المعدنية منحت هذا العرض شيئاً من الوقار والخوف، حتى ليقذف الرعب في اكثر القلوب بسالة؛ والقبعات والريش والتروس، والأدرع المزينة بفلوس خضراء وحمراء وصفراء، والأقواس المذهبة والسهام النحاسية، تضئ وتلمع مخيفة في ضوء الشمس الساطعة في كبد السماء فوق سلسلة الجبال الليبية، كأنها عين كبيرة لأوزيريس - كل ذلك يشعر أن مثل هذا الجيش يجب أن يمحو الأقطار أمامه إذا اصطدمت به، كعاصفة تطرد أمامها عوداً من التبن ضعيفاً.

تحت هذه العجلات التي لا عد لها، ترن الأرض وترتجف خفية كأن ظاهرة طبيعية تحركها

بعد العربات تأتي كتائب المشاة سائرين في نظام، يحملون تروسهم في اليد اليسرى ويحمل بعضهم في اليد اليمنى رمحا، وبعضهم قوساً، وطائفة نبالاً، والأخرى أفؤساً؛ ويلبس هؤلاء الجند على رءوسهم خوذات يزينها ضفيرتان من شعر الخيل، وأجسامهم مشدودة بدروع من جلد التماسيح

عدم التأثر الذي يلوح على هؤلاء الجند، والنظام التام في حركاتهم، ولونهم النحاسي الداكن

ص: 26

الذي كستهم به غارة حديثة في الأقطار المحرقة من أثيوبيا العليا، وغبار الصحراء الدقيق على ملابسهم؛ كل أولئك يوحي الإعجاب بهم وبشجاعتهم وإنه بمثل هؤلاء الجنود استطاعت مصر أن تفتح العالم

بعدئذ تأتي الجيوش الحليفة، ومن السهل معرفتها من النظام البربري في المغافر التي تشبه تيجاناً مقطوعة أو عليها أهلة مجتمعة في طرف. وإن رماحهم ذات الحدود القاطعة وفئوسهم المشقوقة يجب أن تحدث جراحاً لا أمل في الشفاء منها.

يأتي بعد ذلك العبيد يحملون ما أعلنه المنادي من جزية على أكتافهم، أو على محامل؛ وبعض المروضين يقود نموراً وفهوداً تفحص الأرض كأنها تريد أن تختفي، ونعاماً يصفق بأجنحته، وزرافاً يرتفع على الجمهور بطول عنقه، ودببة رمادية يقال إنها مجلوبة من جبال القمر

منذ وقت طويل عاد الملك إلى قصره، بينما كان الموكب لا يزال يسير

أحمد أحمد بدوي

مدرس بحلوان الثانوية للبنين

ص: 27

‌روسيا والحرب الخاطفة

لليوزباشى حسين ذو الفقار صبري

يتساءل الكثيرون عن السر في تحول أداة الحرب الألمانية عن نجاحها الخاطف أثناء فترة الحرب الأولى إلى هجومها الجاهد المكدود عبر الفيافي الروسية خلال الصيف الماضي

فقد رأينا بولندا وفرنسا تنهاران في لمح البصر تحت ضربات خاطفة، بهرتهم ثم صعقتهم، ورأينا جيوش يوغسلافيا واليونان تتمزق إرباً، ثم رأينا نفس الأمر يتكرر في روسيا، خلال الأسابيع الأولى من القتال؛ ثم. . . ماذا؟ كنا قد كونا رأياً عن نتيجة خلناها محتومة، فلما تلفتنا شاهدنا عكس ما تعجلنا استنتاجه فماذا كانت الأسباب؟

إن الحرب الخاطفة هي الحرب الاستراتيكية المثلى، هي الحرب التي ترمي إلى تفكيك أوصال العدو دون قتال، تفصل القوات عن قواعدها، تحيط بها دون أن تشتبك معها، تهدد العدو في مؤخرته عندما تكون أسلحته في المقدمة، تراوغه عندما يتقدم فتورطه هنا وهناك وفي كل مكان، فلما تتباعد قواته وتتفرق، وتتفتت إلى فئات منفصلة، فاقدة كل اتصال، غير محتفظة بأدنى تماسك، مقبلة على الانحلال، تعطى الكلمة عندئذ للطائرات بينما تضغط عليها بعض القوات، فما أسرع أن تبادر الجيوش المنحلة إلى التسليم، أو تصمد فتباد.

وما أسهلها عملية لجيش ميكانيكي حديث، لا يركز مجهوده إلا أمام أضعف المراكز، ما يكاد يخترقها حتى ينفذ إلى المؤخرة مسارعاً إليها على شكل مروحة ضخمة، شعابها مهما تفرعت فهي ما تزال يدفعها تصميم مشترك، إنجازاتها متنوعة وأوامرها هي هي، لا تفقد اتصالها اللاسلكي ببعضها، تستمر في ضغطها حتى يتفتت أمامها مجهود العدو استعداده لمثل هذه الأحوال التي ما كانت تخطر على البال

تعتمد الحرب الخاطفة على مقدرة الدبابات على اختراق الاستحكامات بأقصى سرعة، ثم النفاذ منها إلى ما وراءها، ثم استمرار القوات الراكبة في التقدم السريع حتى تنحل أوصال الجيش، ولكن هذا الانحلال لا يطرأ إلا بعد وقت يتحتم على القوات المتقدمة أن تظل أثناءه مستمرة في حركاتها الهجومية، وهذه الحركة المستمرة لها حدود، يحدها أولاً قوة احتمال الجنود، وثانياً كمية الوقود، ثم ضرورة تعهد الآلات بين الحين والحين، ولذا لم

ص: 28

تنجح الحرب الخاطفة إلا عندما كانت أغراضها في الميدان داخل نطاق مجهودها؛ فالقوات الألمانية التي اخترقت سيدان توقفت بعد بضعة أيام عند المانش، وتلك التي هاجمت (سكولبي) توصلت بعد بضعة ساعات إلى قلب مواصلات البلقان وقبضت على محورها العتيد؛ وعلى عكس الرأي السائد، لا تبقى الدبابات في المقدمة طوال المعركة، بل إنها بمجرد اختراقها الاستحكامات الرئيسية ترتد إلى الخلف كاحتياطي ثمين، لا يستعمل إلا للضرورة القصوى عندما تصمد بعض الموانع الطارئة في طريق المتقدمين المكونين من (وحدات راكبة).

إن أول ما واجه الألمان من العقبات في روسيا هو انبساط المساحات، فرموا إلى التغلب على ذلك بتقسيم هجماتهم على دفعات، أهداف كل هجمة مراكز المواصلات القريبة منها، إذ باحتلال هذه تشل حركة إعادة تنظيم الصفوف الروسية في ميدان القتال بينما يكون الألمان قد أسرعوا في إعادة الاستعداد للخطوة التالية، وهكذا دواليك. وقد ساعدهم مساعدة كبرى مجهود الدكتور (فرتز طود) الذي خلفه (شبير) بعد وفاته في إنشائه، أولاً فأولا، خطوطاً خلفية للمواصلات، مقاطعة لاتجاه الزحف، فأصبحت القوات الألمانية قادرة على الانتقال من قطاع إلى قطاع تبعاً لمقتضيات الحال دون كبير عناء.

زحفت الجيوش الألمانية حتى احتلت روسيا البيضاء وجزءاً من أكرانيا؛ وكانت الفصائل الروسية، في حالة انعزالها عن بعضها البعض، تقاوم مستميتة بدلاً من أن تستلم مستيئسة، وذلك لأن الروس كانوا قد فطنوا الحقيقة بديهية، هي أن المناطق المزدحمة بالمساكن خير ما يقاوم نطاح الدبابات، فعملوا على أن تكون فصائلهم مكيفة بمئونتها وذخيرتها، لا تحتاج إلى أن تمون أمداً من الزمان، فما تكاد تحس بخطر التطويق حتى ترتد إلى وكرها المخصص وتنكمش فيه، مدافعة عن نفسها في كل اتجاه، محتفظة بعدد مناسب من الدبابات، تدفعه إلى الخارج من حين إلى حين، مقطعة مواصلات العدو، مربكة إياه، لا يكاد يعرف أهو الذي أحاط بها أم هي التي اندست في جوفه، وهل هو الذي فصلها عن قواعدها أم هي التي تعارض سيل تموينه، يهاجمها بمشاته المختارة فتشتتهم بدباباتها، يحاول اقتحامها فتصليه ناراً حامية؛ فيضطر أخيراً إلى إخراج ما في جعبته من دبابات وطائرات منقضة فيلقى هذا الاحتياطي الثمين في صميم المعمعة، تلك الدبابات وهذه

ص: 29

الطائرات التي كان يود أن يحتفظ بها للأوقات العصيبة، يطلقها الآن من معاقلها على نقط متفرقة متناثرة، كل نقطة منها تستلزم لإخضاعها اشتباكاً عنيفاً، خسائره مرتفعة ونتائجه الإيجابية فقيمة، ولكنه إن أهملها انقلبت عليه شراً وبيلاً.

إذا أشرفت عندئذ القوات الزاحفة في المقدمة على استحكامات جديدة تلتفت لدباباتها، فتجد أنها منشغلة عنها في مائة معركة صغيرة، فيعجز الجيش عن شق طريقه إلى الأمام حتى تعود إليه أسنته القاطعة، وهى لا تعود، أو قد تعود مضمحلة العدد مكلومة النصل، مستلزمة من العناية الكثير حتى تعود لسابق عهدها، ومن الزمن ما طال حتى يعاد تنظيمها.

توصلت الجيوش الروسية إلى تحويل سلاح العدو الاستراتيكي الأمثل إلى وحدات تكتيكية صغيرة، وفقدت الدبابة وظيفتها العامة وانقلبت منها إلى العمليات المحلية الخاصة، وهكذا انهارت دعامة الحرب الخاطفة. . .

أرجو ألاً يفهم القارئ أنى أقرر أن نجم الدبابات قد أفل أو قارب الأفول، فما أبعد ذلك عما أقول. . . بل الأمر بالعكس، فقد أصبحت الجيوش تطالب بأضعاف أضعاف ما عندها من دبابات، بل وحتى بتحميل المدافع الضخمة على الجرارات، فإذا ألقت ببعضها في الاشتباكات لمحلية، تبقى لها البعض الآخر لمتابعة التحركات الاستراتيكية

لما أتى الصيف الماضي تراجعت القيادة الألمانية عن الخطط الخاطفة، وأحلت محلها خطة جديدة، قد يحسن أن نسميها بخطة (الكتل الميكانيكية)؛ لم تعد القيادة الألمانية تسمح لآليات الدبابات بالاستمرار في التقدم تاركة لها حرية التصرف، بل أصبحت تحدد أهداف هذه داخل نطاق ضيق حتى ينفسح لبقية الجيش الوقت الكافي لإخضاع مراكز العدو الحصينة المتروكة في الخلف، يهاجم هذه بقلاع متحركة من المشاة الراجلين داخل مثلثات من الدبابات الثقيلة ذات المدافع الضخمة والدروع السميكة

أصبحت تلك المراكز الروسية المنعزلة متحكمة في شبكة المواصلات، لأن مراكز المقاومة هذه تتجمع عادة حول القرى والمدن التي هي دائماً نقط التقاء الطرق وخطوط الحديد المتشعبة منها في كل اتجاه، وأصبح تأثيرها - كما رأينا - عظيما، وذلك لأن الجيوش الألمانية التي كانت في ذاك الوقت أحدث الجيوش تنظيماً وتسليحاً، لم تكن قد التفتت إلى اصطناع وسائل نقل للتموين تتحرك على جرارات، بل ظلت جميع وسائلها سيارات على

ص: 30

عجلات، ففي وسع الأولى أن تنفذ عبر أي أرض خلاء، أما السيارات فهي مرتبطة بالطرق المعلومة وخطوطها المرسومة.

والآن وقد بدأ الألمان يتقهقرون فهل تراهم إلى خطط الروس ملتجئون؟ لا أظن الأمر كذلك، إذ أن الروس انكمشوا في قراهم ومدنهم التي ولدوا وعاشوا فيها طول الحياة، فاندمجوا بارتدادهم إليها وسط الأهل والإخوان، ثم يجب ألا ننسى أيضاً أن القتال في الدور والمساكن يعتمد أكبر الاعتماد على سكانها المدنيين المسلحين بروح الكراهية والعداء لكل غريب دخيل.

سيطر على الحروب في روسيا من قديم الزمان عامل واحد هو هو لم يتغير ولم يتبدل، يقف دائماً أبداً حجر عثرة في سبيل كل مغير، وهذا العامل المؤثر إلى أبعد حدود التأثير هو روسيا نفسها بمساحتها الشاسعة، ولن يتمكن أي قائد مهما أوتي من مهارة وخبرة أن يتغلب عليها إلا عن طريقين لا ثالث لهما: احتلالها تماماً وهذا مستحيل، أو تدمير جيوشها وهذا أمر مستعص عسير.

ظن نابليون أن احتلال موسكو التي هي مركز شبكة المواصلات كاف لإيهان الروس، وغامر ففشل. . .، وحاول الألمان تحطيم جيوشهم في الحرب الماضية بهجوم عنيف، فأخفقوا أمام حيطة الروس؛ ثم تفتق ذهن الجنرال هوفمان عن خطة ما كرة، وهي سحب القوات الروسية إلى جيب ضخم بالانسحاب أمامهم فيندفعون وراءه، وقد أسكرتهم نشوة الظفر وذهبت بحذرهم الأول، فيطبق عليهم فجأة من كل جانب لإبادتهم عن آخرهم. وكانت خطته تستلزم إخلاء أراض فسيحة شرق ألمانيا أول الأمر، منها سيلزيا الغنية بمناجمها؛ فرفض هندنبرج احتمال تبعة ما قد يترتب عن هذا الانسحاب من نتائج مادية وأدبية في سبيل نتيجة مشكوك فيها، ولم يرض بتنفيذها؛ ثم أتى لودندرف فحور من الخطة قليلاً، وحصن حدود الأراضي المزمع إخلاؤها داخل نطاق ضيق، واحتج هوفمان وأشار إلى أنها تصبح عندئذ خطة عرجاء لا تجتذب من جيوش الروس إلا جزءاً يسيراً، ولكن لودندرف تمكن من إقناعه بأنها ستكون أقصى ما قد يوافق عليه هندنبرج. ولما نفذت الخطة الجديدة نتجت عنها (تاننبرج) حيث أبيد زهرة الجيوش الروسية. . .؛ وظل بعدها العملاق الروسي يترنح دون أن يسقط سنتين من الزمان، ولكن خطره العاجل كان قد زال،

ص: 31

ثم حلت عليه مشكلات السياسة، فسلم لألمانيا، وأمضى صلح (برست لتفسك)؛ وظل هوفمان بعد الحرب ينادى بأعلى صوته وفي كل مكان بأن خطته الأصلية كانت كافية لإخراج روسيا من الحرب في التو بضربة واحدة، فهل كان يا ترى على صواب؟.

حسين ذو الفقار صبري

ص: 32

‌قطرة في بحر.

. .

للدكتور عزيز عبد السلام فهمي

تعاليتَ يا بحر هذا جلا

لك سرُّ الزمان ولغز الحقبْ

تصاحب هذا الزمان وتس

خر منه وتطويه طيَّ الكتب

تنادم حالكَ منه القرونُ

ويمضي الندامى مُضِىَّ الحبب

فيا لك قبراً وسعت الزمان

ولاذ الزمان بذيل الهرب

ويا بحر كم فيك من آية

تساءلتُ عنها ولم تَسْتَجِب

تهمُّ بأمر وترتد عنه

وتطمع فيه ولا تقترب

ففيم اندفاعك كالمطمئن

وفيم ارتدادك كالمضطرب

ويا بحر ماذا يراقص مو

جك منك وماذا وراء الحجب

تلين وتسكن عند الليان

وطبع الحليم بطئ الغضب

وتشرَس حتى تئِنُّ الصخور

ويطفو من الرمل ما قد رسب

وتجمع بين النقيضين جمعَ

ك بين اللآلىْ والْمُخَشْلَب

يشاطرك الآدميُّ الغموضَ

وترتبطان بحبل النسب

ولن يسبر الغورَ منك الرجالُ

ولن يكشف النفسَ علم وطِب

تعاليت يا بحر هذا جما

لك ثغر الطبيعة وهي الغبب

تعربد نشوان حتى المجون

وتمجن سكران حتى الصخب

تغازلك الشمس عند الغروب

فأنت اللجين وفيك الذهب

وتشرق منك على صفحة

ترقرق بين سناها اللهب

وتضفي عليك أكاليلها

دماءً، وتنشق منك القُضُب

ويجمعك الأفق بالنيرات

فأنت السماء وفيك الشهب

يسامرك البدر من شرفة

تَبَرَّج فبها ذوات الذنَب

فتعكسهن على ضوئه

ويلحظك البدر كالمرتقب

دعاني حنين خَفيُّ إليك

فلبَّيتُ يا بحر لما غلب

ويا بحر جئتك أفضي بنفسي

وأشكو الزمان وماذا جلب

ص: 33

وأُغرق فيك همومي وأنْ

قَعُ يا بحر جرحاً بجنبي وثب

ومَن شاغب الدهر مثلي فما

له الدهرَ إِن زلَّ يا بحر حِب

وغدر الزمان كختل الرجال

ووقع السهام كلسع الرُّقُب

حنانيك يا بحر! يشكو إليك

غريب تشرَّد حين اقترب. . .

غريب تشرَّد في داره

وضاقت به الأرض لما اغترب!

تعاليت يا بحر هذا الجلال

وهذا الجمال وهذا العجب

وهذا نشيدك لحن الحياة

فغنِّ الحياة ونح وانتحب

عزيز فهمي

ص: 34

‌من أزهار الشر

لشارل بودلير

العمى

أنعمي النظر أيها النفس في هؤلاء العمى. حقاً إن صورتهم بشعة! وإنهم ليشبهون تماثيل الأزياء ويثيرون في النفس هزؤاً غامضاً. وإن هيئتهم مخيفة، وإنها لفريدة كهيئة هؤلاء النائمين الذين يسيرون وعيونهم مفتحة

هم ينظرون وما أحد يعلم أين أحداقهم التي تغشاها الظلمات. كما أن عيونهم التي فارقتها الشرارة الإلهية تظل شاخصة إلى السماء، كأنما تبصر على بعد، وما من أحد رآهم يحنون إلى الثرى في ذهول رءوسهم المكدودة.

هكذا يشقون الظلام اللانهائي شقيق الصمت الأبدي

إيه أيتها المدينة! انظري، إنني لأعاني ما يعانون، وإنك لترددين الأغاني حولنا، وتغرقين في الضحك، وتصرخين صراخ البهائم، كما تحملك اللذات إلى الفجور.

غير أنني، وأنا أكثر غفلة منهم وذهولاً، أقول:(هؤلاء العمى، ما الذي يبحثون عنه في السماء؟)

ترجمة عثمان علي عسل

ص: 35

‌البريد الأدبي

الشيخ عبد العزيز البشري

في فجر يوم الخميس الماضي استأثر الله بابن من أبناء العربية، وجندي مخلص من جنود الأدب، وهو المغفور له الأستاذ عبد العزيز البشري؛ فكان لنعيه المفاجئ موجة من الحزن الشديد غشيت أندية الأدب لما امتاز به الفقيد من حسن المحاضرة، وحلاوة الفكاهة، وطلاوة الأسلوب، ودقة الوصف، والإطلاع الواسع على أخلاق الناس وأحوال المجتمع، والعلم الشامل بأسرار الجيل الأدبي المنصرم، تهيأ له بطول الملابسة وحسن المداخلة؛ فكان أعلم من يتحدث عن الأدب والأدباء في العصر الحديث

نشأ رحمه الله في بيت رفيع من بيوت العلم والدين؛ فكان والده الشيخ سليم البشرى شيخاً للأزهر، واخوته طلاباً أو علماء فيه؛ فدرس هو كذلك في الأزهر حتى نال شهادة العالمية، ثم ولى القضاء الشرعي حيناً من الدهر، ثم تقلب في بعض المناصب المدنية حتى أتاه اليقين، وهو المراقب الإداري لمجمع فؤاد الأول للغة العربية

نكتفي اليوم بنعي الفقيد الكريم، وسنعود للكلام عن أدبه وعلمه في فرصة مناسبة. نسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يعوض الأمة العربية من أدبه وفضله خير العوض

ذو القرنين ليس الاسكندر الأكبر

قرأت بالعدد 507 نبذة لأستاذ فاضل عن ذي القرنين يريد بها أن يفند نظريتي الجديدة التي أعلنتها أخيراً على صفحات الرسالة الغراء، وأثبت فيها أن ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم ليس الإسكندر الأكبر، وإنما هو لقب ملوك دولة فارس التي أسسها الملك كورش العظيم، وتنتهي بالملك دارا الثالث الذي قضى الإسكندر الأكبر على دولته في عهده. واستندت في ذلك إلى رواية التوراة. وأثبت أن وثنية الإسكندر وسيره المعوج وأخلاقه لا تتفق ووصف القرآن الكريم لذي القرنين الذي كان مؤمناً

ويظن الأستاذ أن ديانة الفرس كانت الوثنية، والحقيقة غير ذلك؛ إذ كان الملك كورش ومن جاء بعده إلى الملك دار الثالث على دين زرادشت نبى الفرس الذي كان يقول إنه رسول الله بعثه ليزيل ما علق بالدين من ضلال وليهدى إلى الحق، وكان لهم كتاب مقدس يسمى أوستا ولما انتصر الإسكندر على الفرس كان ذلك ضربة لهذه الديانة، ثم انتعشت بعد ذلك

ص: 36

في العصور الأخرى وظلت باقية إلى وقت دخول المسلمين فارس برغم ما طرأ عليها من التحريف. ولقد عاملهم المسلمون في الفتح معاملة أهل الكتاب وعدوا كتابهم كأنه كتاب منزل. وجرى سيدنا عمر رضى الله عنه على ذلك لما روي له الحديث (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) (اقرأ كتاب المسعودى وكتاب ودين زرادشت يؤمن بوحدانية الله والجنة والنار والصراط والأعراف (اقرأ كتاب صبح الأعشى وكتاب الأستاذ والملك كورش هو الذي أمر بإعادة بناء معبد أورشليم لليهود، وكان قد هدمه أحد ملوك بابل من قبل. وجاء بعده الملك قمبيز الذي بمجرد أن فتح مصر هدم معابد المصريين وحطم أصنامهم ومعبوداتهم وقتل بنفسه العجل أبيس (اقرأ كتاب

أما الإسكندر الذي يريد الأستاذ أن يلصق به لقب ذي القرنين بالإكراه كما فعل بعض المؤرخين من قبل، فلقد كان متهتكا يميل إلى النساء والترف وحب الشهوات وشرب الخمر وقسوة القلب وسفك الدماء؛ وكانت قسوته تزداد حتى تصير ضرباً من الجنون إذا شرب الخمر. ولقد قتل وهو نشوان كليثوس صديق أبيه وكثيرين غيره. ولم يكن موته وهو في عنفوان الشباب إلا نتيجة شراهته في الشراب، فلقد تراهن مع قواده على شرب الخمر طول النهار فمرض بحمى قضت عليه. وأوصى وهو على فراش الموت أن يدفن في معبد الإله (مون بسيوة) لأنه كان يدعى انه ابن هذا الإله (كتاب وكتاب فهل بعد هذا نقول عنه إنه غير وثنى. وهل يتفق هذا مع ذي القرنين المذكور في القرآن الكريم الذي جعله الله في مصاف الأنبياء تقريباً؟ فلو وافق على ذلك مؤرخو العصور القديمة، عصور الجهل والظلام فنحن لا نوافق عليه الآن ونحن في القرن العشرين عصر العلم والعقل والنور والمدنية

وآيات القرآن الكريم تنطبق على الملك كورش بشكل مدهش، فلقد أسس دولة عظيمة واتجه غرباً أولاً، حتى وصل إلى البحر واستولى على روسيا وآسيا الصغرى، ثم اتجه بعد ذلك شرقاً، حتى وصل إلى بلاد الهند وبلاد التركستان حيث توجد آثار السد القديم ولا يزال مكانه بين جبلين ويسمى دربندر أي السد. أما الإسكندر فإنه اتجه شرقاً أولاً ثم اتجه جنوباً ولم يتجه غرباً إلا عند فتحه مصر، ومرة أخرى عند عودته من الهند. مع أن القرآن الكريم ينص على أن ذا القرنين اتجه غرباً أولاً ثم بعد ذلك اتجه شرقاً. وهذا خلاف واضح

ص: 37

صريح. ومع ذلك فالتوراة صريحة في ذلك أيضاً. وهى تنص صراحة على أن المقصود بذي القرنين ملوك دولة فارس؛ والمقصود بذي القرن الواحد ملك من ملوك اليونان. فكيف نكذب التوراة ونصدق الآخرين، في حين أن التوراة هي مصدر هذا اللقب. ولقد نزلت آيات القرآن الحكيم عن ذي القرنين بناء على سؤال اليهود للنبي عن ذي القرنين المذكور عندهم في التوراة. فهل بعد هذا دليل أو برهان؟

وأخيراً أصحح كلمة تيمورلنك التي ذكرتها سهواً في مقالي السابق وكنت أقصد جنكيزخان زعيم التتار الذي قضى على الدولة العباسية هو وهولاكو من بعده.

الدكتور إبراهيم الدسوقي

حول تراث اليهود

اطلعت في عدد مضى من الرسالة الغراء على ما كتبه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي رداً على الأستاذ طه الساكت الذي يدعى رجوع الإسرائيليين إلى مصر بعد خروجهم، وحكمهم لها استناداً إلى ما جاء في بعض أقوال المفسرين، وبياناً للحقيقة أقرر أن اليهود لم يعودوا لمصر بعد خروجهم منها رغم أنهم طلبوا ذلك من الرسول موسى عليه السلام، بع أن تأكد لديهم اعتزاز الكنعانين في بلادهم وتحصين مدنها، فما جعلهم يجبنون عن محاربتهم. كما بين ذلك القرآن الكريم في قوله:(قالوا يا موسى أن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها ما داموا فيها)

وفي تاريخ برستد في الجزء الخاص بالخروج يحدثنا فيقول: ولما خرج الإسرائيلين من سينا ساروا رويداً حتى وصلوا إلى حافة الصحراء التي تحد عبر الأردن، وأراد موسى الدخول بقومه إلى أرض كنعان، فأرسل رجالاً يتجسسون له، فأتوا، جدون (الخليل) ثم عادوا إليه عبر الأردن وقالوا: إن الشعب في عزة والمدن في مناعة. ويؤيد ذلك القرآن

وهنا يبكي الشعب ويطلب الرجوع إلى مصر، فيحكم عليهم الرب بالتيه أربعين سنة يرعون الغنم في البرية، حتى يموت ذلك الجيل. ثم يذكر رحلتهم إلى أرض أدوم، وموت هرون، وتركهم عبادة الله إلى الأصناف وتعذيبهم بسبب ذلك، ولا يذكر عن رجوعهم إلى مصر شيئاً ولو حدث لما أهمله. ويقول الأستاذ شاهين مكاريوس بك في كتابة تاريخ

ص: 38

الإسرائيليين:

وأصابهم في مدة تيههم هذا أمور ومحن كثيرة يضيق بنا المقام عن استقصائها، أخصها فناء الجيل الذي خرج من مصر، إلا رجلين فقط. وقيامهم على موسى يطلبون العودة إلى مصر واطراحهم عبادة الله والاستعاضة منها بعبادة الأوثان، فنزلت بهم الضربات والأمراض حتى تابوا، ولما صاروا على مقربة من أرض الوعد توفى موسى، وعهد بالقيادة إلى يشوع بت نون.

دار العلوم

كامل السوافيرى

إلى الأستاذ محمود تيمور

سيدي الأستاذ الجليل

في 19 مارس 1943 كتبت إلي تقول: (. . . ويؤسفني أن أخبركم بأنني فوجئت بمرض أبني (سعيد) ونقله إلى المستشفى لإجراء عملية استئصال (الزائدة الدودية) له؛ فأرجو أن أتمكن من الاتصال بكم بعد أيام وأنا مطمئن القلب منشرح الخاطر. . .)

وفي 22 مارس، أي في اليوم الثالث لهذه المفاجأة هصرت المنية غضن (سعيد)!. . . فأي أسى ألم بساحتك، وأي إحساس طاف بقلبك، وأنت تشهد هذا المصاب الأليم؟. . . وكيف انتزعت يد الموت السوداء هذا الغصن الرطيب من دوخته لتزين به فردوس السماء؟

حقاً إنها فاجعة، ولكنك يا سيدي رجل عظيم، والعظماء غرض الأقدار ومطمع الأيام، يبتليهم الدهر فيصبرون، ويمتحنهم فيصمدون، ويصارعهم فيصرعونه؛ فاصبر صبراً جميلاً، فلك عظيم المثوبة والأجر، ولابنك الراحل إلى جوار ربه رفيع الدرجات وخالد الذكر؛ والله من قبل ذلك ومن بعد ذلك يقول:(ولنبلونكم بشيء من الخوف والرجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون) صدق الله العظيم

أحمد الشرباصي

ص: 39