الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 51
- بتاريخ: 25 - 06 - 1934
ذكرى المولد
كان الناس في أبريل من عام 571، والطبيعة المشفوفة تنتظر انبثاق الروح المبدع، وانبعاث الربيع الممرع، وانتعاش الحياة الجديدة في الأرض الهامدة؛ والخليقة المئوفة ترسل النظر الحائر في الآفاق الغائمة، ترتقب لمعة النور من الشرق، ونفحة القوة من الحق، وكلمة الهدى من الله؛ والجزيرة المجهودة تصهرها الشدائد، وتطهرها الدماء، وتهيئها الأقدار ليهبط فوقها الوحي، ويتجلى لها الخالق، وتتصل عندها السماوات بالأرض؛ والهواتف الطائفة تعلن في رؤوس الجبال، وسفوح الأودية، ومدارج السبٌل، وسوابيط المعابد، وأواوين القصور، بشرى الرسالة الأخيرة، وظهور الرسول المنتظر؛ والشياطين الآلهة تئن في أجواف الأصنام المنكسة أنين الخيبة والهيبة واليأس؛ وأجنحة الأملاك تخفق من وراء البصر في جو مكة القائض المغبر، فتنفض عليه النور والسرور والدعة؛ وأرواح الأنبياء من حول الكعبة تضوع بالحمد والدعاء احتفالاً بختام النبوة، وقيام الدعوة مرة أخرىفي بيت إبراهيم؛ وومضات من روح القدس وأشعة الخلد تنعقد هالات مشرقات على (شعب بني هاشم) وفوق دار آمنة؛ والنبي الوليد الذي خنس لمولده الشيطان، واعتدل بمقدمه الزمان، وخشع لذكره الكاهن والموبذان، وتصدّع من خشيته الدست والإِيوان، يفتح عينيه للوجود في بيت العُدم، ويلقى ارواقه الكريمة على نهاد اليتم، ولا يظفر بمرضع إلا لأنها لم تظفر آخر الأمر بغيره!!
تبارك الله ما أبلغ حكمة وأجل شأنه! شاء لنوره وبرهانه أن يشرقا في هذا المنزل المتواضع، ولمجده أن يظهرا في هذا اليتيم الوادع، ولعلمه وقراّنه أن ينزلا على هذا الأمي الحي، لتكون آيته أبهر للعيون، ودعوته أبرع في العقول، وكلمته أنْوط بالأفئدة؛ ولو اتخذ رسله من الملوك العواهل لاٌّتهمت المعجزة، والتبس على الناس فعل القدرة.
كان محمد بن عبد الله مثَل الله الأعلى للإنسان الكامل.
صوره خلقاً سويّاً ليرسم الأخلاق بالمثل، ويعلم الدين بالعمل، وينظم الحياة بالقدوة. وإلا فكيف اجتمع فيه ما تفرق في جميع الناس من خصال الرجولة، وخلال البطولة، وخلائق النبل، وبيئته لا تملك من بعض ذلك ما تعطيه؟
رعى على بعض أهله، وسعى لبعض قومه، واتجر بمال زوجه، فكان في جليل الأمر كما كان في ضئيلة صادق العزم، كريم العهد، وثيق الذمة، راجح الحلم، شاهد اللب، لين
العِطف، حلو المعاشرة (يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق)
ثم اصطنعه الله لحقِّه، وحَّمله الرسالة إلى خلقه، فكان في غار حراء، وفي دار الأرقم، وفي جبل ثور وفي دار أبى أيوب، وفي المسجد الجامع ثم في الرفيق الأعلى، مظهرا صحيحا لروح الله، وإعلانا صريحا لسر الدين، ومثالا عاليا لصدق الجهاد، واحتمالا ساميا لمكاره الدعوة، وأسوة حسنة لجميع الناس!
جهر الرسول بالدعوة بعد أن خافت بها في قريش ثلاث سنين، فضلل الأقوام وسفه الأحلام وهاجم الشرك في معقله، وليس وراء ظهره إلا عمه! فتألبت عليه عناصر الشر جمعاء فما أفكتْه عن عزمه، ولا خلجته عن همه. ثم تجلت فيه الكمال الإنساني فحشد للخصومة قوى النفس وقوى الحس فجاهد بالصدق، وجالد بالصبر، وجادل بالمنطق، وصاول بالرأي، وأثَّر باللسان، وقهر باليد، وتلك مزيته الظاهرة على النبيين والرسل، فكل نبي وكل رسول إنما بان شأوه على قومه في بعض المزايا، إلا الرسول العربي فقد تم فيه ما نقص في غيره من معجزات الرجولة، فكان رسولاً في الدين، وعلَماً في البلاغة، ودستوراً في السياسة، وإماماً في التشريع، وقائداً في الحرب.
إن حياة الرسول قانون إلهي خالد لصاحب الدين وصاحب الدنيا، وان وسائل الجهاد التي جدد بها أسلوب العيش وأقام بها ميزان المجتمع لا تزال عناوين ضخمة في صفحات العلم والسياسة والخلق، وان من أساس الإسلام أن نطيع الله في كتابه، ونطيع الرسول في سننه وآدابه، فليت شعري أكان في حدود الإمكان أن يرتطم العرب والمسلمون في مراغة الخمول، فيرضون بالهُون، ويقنعون بالدون، ويتخلون عن مكانهم من صدر الوجود، لو أنهم اتخذوا من أحكام ربهم منهاجا، ومن كلام رسولهم علاجا، ومن حياة السابقين الأولين من رجالهم قوة وقدوة؟؟
أليس من خذلان الله لنشئنا الجُدُد أن يلوكوا جاهدين أسماء فلان وفلان ممن رأى رأيا أو أنشأ قصيدة أو ألف كتابا، ثم يتركوا عامدين اسم محمد الذي جمع العرب من شتات، وأيقظ العالم من سبات، أقام للسماء دينا في الأرض، وأسس للأرض دنيا في السماء؟
احمد حسن الزيات
الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمى النهار، يولد النبي فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمى في الدين وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقق فضائلها.
والشمس خلقها الله حاملة طابعه الإلهي في عملها للمادة تُحَوِّل به وتُغَيِّر، والنبي يرسله الله حاملاً مثل ذلك الطابع في عمله للروح تترقى فيه وتسمو.
ورعشات الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام.
والعامل الإلهي العظيم يعمل في نظام النفس والأرض بأداتين متشابهتين: أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرسل والأنبياء.
فليس النبي إنسانا من العظماء يُقرأ تأريخُه بالفكر مع المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يُدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة؛ ولكنه إنسان نجميٌّ يُقرأ بمثل (التلسكوب) في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان، ثم يُدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.
والحياة تنشئ علم التأريخ ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء صلوات الله عليهم - تجعل التأريخ هو ينشئ علم الحياة؛ فإنما النبي إشراق إلهي على الإنسانية يقومها في فلكها الأخلاقي، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.
ويجيء النبي فتجئ الحقيقة الإلهية معه في مثل بلاغة الفن البياني، لتكون أقوى أثراً. وأيسر فهماً، وأبدع تمثيلاً؛ وليس عليها خلاف من الحس. وهذا هو الأسلوب الذي يجعل إنسانا واحداً فنَّ الناس جميعاً، كما تكون البلاغة فن لغةٍ بأكملها؛ هو الشخص المفسِّر إذا تعسَّف الناس الحياة لا يدرون أين يؤمون منها، ولا كيف يتهدَّون فيها، فتضطرب الملايين من البشرية اضطرابَها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا؛ ثم يخلق رجل واحد ليكون هو التفسير لما مضى وما يأتي، فتظهر به حقائق الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئيّ، أبلغ مما تظهر في قصة متكلمة مرويّة.
وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفس النبي أبلغَ نفوس قومه حتى لَهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي يُنصب لتصليح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء. وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادى الناس: أن قابلوا على هذا الأصل وصححوا ما اعترى أنفسهم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية.
ومن ثم فنبي البشرية كلها من بُعث بالدين أعمالاً مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العلميَّ المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى، وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يغني عنه في ذلك دين آخر، ولا يؤدى تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نَبعٌ في الأرض لمعاني النور بازاء الشمس نبعِ النور في السماء.
وكل ذلك تراه في نفس محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة؛ لا يمكن أن تعرف الأرض أكمل منها؛ ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتأهلين وجعلت في نصاب واحد - ما بلغت أن يجئ منها مثل نفسه صلى الله عليه وسلم. ولكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدرة في محارتها، أو تركيب كتركيب الماس في منجمه، أو صفة كصفة الذهب في عرقه. وهي النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تدبّرتها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتَضحي وتلك هي الشهادة له صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الأنبياء، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير. فهذا الدين في مجموعه إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها، صلابته بمقدار الحق الإنساني الثابت، لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند سبب جبلاً صلداً يشمخ، وعند سبب آخر ماءً عذباً يجري.
وهو دين يعلو بالقوة ويدعو إليها، ويريد إخضاع الدنيا وحكم العالم، ويستفرغ همه في ذلك، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف، ولكن للارتفاع بالأضعف إلى الأقوى. وفرقُ ما بين شريعته وشرائع القوة، أن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكمها، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلبها؛ وتلك تعمل للتفريق، وهو يعمل للمساواة؛ وسيادة الطبيعة وعملها للتفريق هما أساس العبودية، وغلبة الفضيلة وعملها للمساواة هما أعظم وسائل الحرية.
ومن هنا كان طبيعياً في الإسلام ما جاء به من أنه لا فضيلة إلا وهو يطبع عليها صورة الجنة بنعيمها الخالد، ولا رذيلة إلا وهو يضع عليها صورة النار الأبدية وقودها الناس والحجارة؛ فلا تنظر العين المسلمة إلى أسباب الحياة نظرة الفكر المنازع يحرص على ما يكون له، ويَشرَه إلى ما ليس له، ويمكر الحيلة، ويبدع وسائل الخداع، ويزيد بكل ذلك في تعقيد الدنيا - بل نظرة القلب المسالم بخلع الدنيا، ويسخو بكل مضنون فيها فيعف عن كثير؛ ويعرف الانسانية، ويطمع في غاياتها العليا، فيعفو عن كثير؛ ويدرك أن الحلال وإن حل فوراءه حسابه، وأن الحراموإن غر ليس إلا تعلل ساعة ذاهبة ثم من ورائه عقاب الأبد.
ويخرج من ذلك أن يكون أكبر أغراض الإسلام هو أن يجعل من خشية الله تعالى قانون وجود الإنسان على الأرض، فمن أي عطفيه التفت هذا الإنسان وجد على يمينه ويسرته ملكين من ملائكة الله يكتبان أعماله بخيرها وشرها، فهو كالمتهم المستراب به في سياسة النفس لا يمشى خطوة إلا بين جاسوسين يحصيان عليه حتى أسباب النيه، ويجمعان منه حتى نزوات الكبد، ويترجمان عنه حتى معاني النظر. وإذا قامتهذه المحكمة الملائكية وتقررت في اعتبار النفس - قام منها على النفس شرع نافذ هو قانون الإرادة المميزة، تزيد الحسنات وتعمل لها، وتخشى السيئات وتنفر منها، فإذا معا عضها بعضاً، لا لتحقيق الحكومة والسلطة، ولكن لتحقيق الخير والمصلحة؛ وإذا نواميس الطبيعة المجنونة في هذا الحيوان قد نهضت إلى جانبها نواميس الإرادة الحكيمة في الإنسان، وإذا كل صغيرة وكبيرة في النفس هي من صاحبها مادة تهمة عند قاضيها في محكمتها، وإذا كل ما في الإنسان، وما حول الإنسان - لا يراد منه إلا سلام النفس في عاقبتها؛ وإذا معني السلام هو المعنى الغالب المتصرف بالإنسانية في دنياها.
وكل أعمال الإسلام وأخلاقه وآدابه، فتلك هي غايتها، وهذه هي فلسفتها؛ لا يقررها للإنسانية حسْب، بل يغرسها في الوراثة غرساً بالاعتياد والمران الدائم، لتكون علماً وعملاً، فتمكن لسلام النفس بين الأسلحة المسددة إليها من ضرورات الحياة في أيدي الأعداء المتالبة عليها من شهوات الغريزة.
فليس يعم السلام إلا إذا عم هذا الدين بأخلاقه فشمل الأرض أو أكثرها، فان قانون العالم
حينئذ يصبح منزعاً من طبيعة التراحم، فأما انتسخ به قانون التنازع الطبيعي، وإما كسر من شِرتَّه، ويولد المولود يومئذ وتولد معه الأخلاق الإنسانية.
تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر، وضبط ذلك برياضة عملية دائمة مفروضة على الناس جميعاً - هذا هو أساس العقيدة الإسلامية. ولا صلاح للإنسانية بغيره يردّها إلى سبيل قصدها، فان من ذلك تكون الصفة العقلية التي تغلب على المجتمع وتجانس بين أفراده، فتوجّه الإنسانية كلها نحو الممكن من كمالها، ولا تزال توجَّهها نحو ما هو أعلى، وتحكم فاسدها بصالحها، وتأخذ عاصيها بمطيعها، وتجعل الشرف الإنساني غرضها الأول، لأن الله الحقّ غرضُها الأخير؛ فيصبح المرء - وهذا دينه - كلما تقدم به العمر كمل فيه اثنان: الإنسان، والشريعة. ولا يعود طالب السعادة النفسية في الدنيا كالمجنون يجري وراء ظله ليمسكه؛ فلا يدرك في الآخر شيئاً غير معرفته أنه كان في عمل باطل وسعى ضائع.
والإسلام يحرص أشد الحرص وأبلغه على تقرير ذلك المعنى الإلهي العظيم، لا بالمنطق ولكن بالعمل؛ ثم في النفس وعواطفها لا في العقل وآرائه؛ ثم على وجه التعميم دون الاستثناء والخصوص، وذلك هو سر مشقته على النفس بما يفرضه عليها؛ فان فلسفته أن هذه النفس هي أساس العالم، وأن النظام الخلقي هو أساس النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة ولا يبلغ الكسل والإهمال. وللنفس وجهان: ما تعلن، وما تُسرّ. ولا صدق لإعلانها حتى يصدق ضميرها، ولا صلاح لجهرها حتى يصلح السرّ فيها، ولا يكون الإنسان الاجتماعي فاضلاً بِمشَهدهِ حتى يكون كذلك بغيبه. وللعالم كذلك وجهان: حاضره الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له. ولا يفلح حاضر منقطع لا يُوَرِّث ما بعده كما وَرِث ما قبله، وما حاضر الإنسانية إلا جزء من عمل الناس في استمرار فضائلهم باقية نامية. وللنظام أيضاً وجهان: نظام الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنّفْرة منها. ولا يستقيم شأن ليس أساسه الطاعة في النفس، ولا يستمر نظام عليه خلاف من فكر العامل به. وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجادّ يعمل للعاقبة يستيقنها، فلا يجد مما يشق عليه إلا لذة المغالبة للنصر، كل مرارة من قبله هي حلاوة فيه من بعد، ولا يعرف للمحنة يبتلى بها إلا
معناها الحقيقي وهو إيقاظ نفسه، فيصبح الصبر عنده كصبر المحب على أشياء ممن يحبه؛ صبر فيه من السحر ما يكسو الحرمان في بعض الأحيان خيال الاستمتاع، ويذيق النفس في العجز عن بعض أغراضها - لذةّ كلذة إدراكه.
تلك هي فلسفة الإسلام؛ لا قوام للأمر فيها ولامساك له إلا بتقرير الدوام لكل أعمال النفس، ووضع طابع الجنة على أعمال الجنة، وطابع النار على أعمال النار - وحياطة كل فرد من الناس حياطة رياضية عملية بين الساعة والساعة، بل بين الدقيقة والدقيقة، بما يكلف من أعمال جسمه وحواسه، ثم أعمال قلبه ونيته - وتعظيم الشخصية الروحية دون الشخصية المادية، فلا يحاول كل إنسان أن يجعل بطنه في حجم مملكة أو مدينة أو قرية بما ينتقص من حقوق غيره؛ بل تتسع ذاتية كل فرد بما يجب له على المجتمع من الواجبات الإنسانية. وبهذا لا بغيره تتعين مقاييس الأخلاق في الأرض - بالمصلحة لا باللذة - فلا يقع الخطأ ولا التزوير، وتنحل المشكلة الاجتماعية مادامت الحياة لا تجد من أهلها كل ساعة عقدا فيها.
والاستيلاء بذلك المعنى على العقل والعاطفة هو وحده الطريقة لإنشاء طبيعة الخير في الناس على نسقها الطبيعي، كما أنه هو وحده الطريقة لتطهير التأريخ الإنساني من أوبائه الاقتصادية التي جعلته كأنما هو تأريخ الأسنان والأضراس. . وتركت الناس يهدم بعضهم بعضاً، كما يهدم الجار حائط جاره ليوسع بيته!
وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة، فتجعلها العقيدة أقوى من الحاجة، فيكون الفقير معدماً ويتعفف، ويكون الغني موسوراً ويتصدق، ويكون الشرهُ طامعاً ويمسك، ويكون القوي قادراً ويحجم؛ وكما قال العرب في تحقيق ناموس الأنفة والحمية وغلبته على الناموس الاقتصادي: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
تريد الإنسانية امتداداً غير امتدادها التجاري في الأرض، وتحتاج إلى معنى يقود إنسانها غير الحيوان الذي فيه، وإذا قاد الغراب قوما ً - كما قال شاعرنا يمر بهم على جيف الكلاب. .
والإنسانية اليوم في مثل ليل حَوْشىِّ مظلم اختلط بعضه في بعض، وليست معاني الإسلام إلا الإشراق الإلهي على هذه الكثافة المادية المتراكمة، وإذا رفع المصباح لم تجد الظلام إلا
وراء الحدود التي تنتهي إليها أشعته.
وقد علمنا من طبيعة النفس أن إنسانية الفرد لا تعظم وتسُمو وتتخيل وتفرح فرحها الصادق وتحزن حزنها السامي إلا أن تعيش في محبوب؛ فإنسانية العالم لا تكون مثل ذلك إلا إذا عاشت في نبيها الطبيعي، نبي أخلاقها الصحيحة وآدابها العالية ونظامها الدقيق؛ وأين تجد هذا المحبوب الأعظم إلا في محمد ودين محمد؟
وعجيب أن يجهل المسلمون حكمة ذكر النبي العظيم خمس مرات في الأذان كل يوم ينادى باسمه الشريف ملء الجو، ثم حكمة ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة يهمس باسمه الكريم ملء النفس! وهل الحكمة من ذلك إلا الفرض عليهم ألا ينقطعوا من نبيهم ولا يوما واحداً من التأريخ، ولا جزءاً واحداً من اليوم، فيمتد الزمن مهما امتد والإسلام كأنه على أوله، وكأنه في يوم ولا في دهر بعيد. والمسلم كأنه مع نبيه بين يديه تبعثه روح الرسالة، ويسطع في نفسه إشراق النبوة، فيكون دائماً في أمره كالمسلم الأول الذي غير وجه الأرض؛ ويظهر هذا المسلم الأول بأخلاقه وفضائله وحميَّته في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة لاكما نرى اليوم؛ فان كل أرض إسلامية يكاد لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم؛ فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني، وفي بلد المسلم المجوسي، وفي وجهة المسلم المعطل. . . وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنساني.
أيها المسلم!
لا تنقطع من نبيك العظيم، وعش فيه أبدا، واجعله مثلك الأعلى، وحين تذكره في كل وقت فكن كأنك بين يديه؛ كن دائماً كالمسلم الأول؛ كن دائماً ابن المعجزة.
مصطفى صادق الرافعي
(محمد)
للأستاذ علي الطنطاوي
منذ أربعة عشر قرناً ونيف ولد محمد، فلم يكد يفطن إلى ولادته إلا قليل، وبعد أربعة عشر قرناً ونيف - استضاءت فيها الدنيا بنور محمد، واهتدت الإنسانية بهدْى محمد - مرت بالدنيا ذكرى مولد محمد، فلم يكن يفطن إليها إلا قليل!
بل لم يعرف بعدُ من هو محمد!
على أن العظماء في التأريخ كثيرون، وقد عرفهم التأريخ، ولكنه لم يعرف محمداً، لأنه ليس فيهم مثل محمد!
عظمة أولئك أنهم سبقوا أوانهم، فعظموا لسبقهم، ثم جاء أوانهم فساواهم أبناؤه جميعاً، ثم جاء أوان بعده ففاقهم أهله جميعاً، ولم يبق لهم إلا عظمة الذكرى.
وان التلميذ اليوم يعرف من الطبيعة أكثر مما كان يعرف جاليليو، والضابط يعلم من فنون الحرب أكثر مما كان يعلم اينبال وطالب الفلسفة يدرك من حقائقها أكثر مما كان يدرك أفلاطون وكذلك سائر العظماء.
أما محمد فطراز من البشر لا تحتمل الدنيا منه أكثر من واحد، ولا يمتد عمرها حتى ترى مثل محمد، فمحمد عظيم كل عصر، وعظمته لا تبلى على الدهر.
وإن كثيراً من العظماء قد سنوا سنناً، وشرعوا شرائع، ولكنهم سنوها ناقصة فكملت، وقاصرة على زمان واحد فعدلت، ومحدودة ضيقة فوسعت، وما زالت أبداً في حاجة إلى التكميل والتوسيع والتعديل. أما شريعة محمد فجاءت كاملة، وعاشت كاملة، وستخلد كاملة، لأنها من عند الله الكامل، لا من عند العقل الناقص.
وستموت الشرائع كلها، والعاقبة لشريعة الله
إن روحية الشرق ستطحن مادية الغرب، ومادية الغرب ستقتل روحية الشرق، ولا يبقى إلا الأصلح، والأصلح هو الإسلام.
أي دين غير الإسلام يستطيع المرء أن يتمسك بأحكامه كلها، ثم يكون امرأً صوفياً قوياً غنياً؟
أي دين غير الإسلام يعرف للبدن حق البدن، وللروح حق الروح، ويعرف للدنيا حقها،
وللآخرة حقها؟
أي دين غير الإسلام فيه الوحدانية في الإيمان، والشورى في الحكم، والاخوة في الحياة، والجهاد في المبدأ، والقوة والاعتدال في كل شيء؟
أي دين غير الإسلام يحل المشكلة الاجتماعية الكبرى، التي ولدت الشيوعية والفاشية والنازية، وستلد الموت الأحمر، والخراب الأكبر؟
إن العظماء كثيرون، ولكن العظيم عظيم في ناحية، صغير في سائر النواحي، فهو عظيم في العلم، أو في الحرب، أو في الأدب، أو في السياسة. أما محمد فعظيم في كل شيء.
وآثار العظماء في البشر واضحة جلية، ولكن لم يعمل أحد أجل ولا أجمل مما عمل محمد.
نفخ في هذه البادية القاحلة، وهذه الأمة المتفرقة الجاهلة، فاخرج منها أمة قوية عالمة عاملة. . . حملت مشكاة النور، في وقت عم فيه الظلام، وبنورها اهتدى ويهتدي كل إنسان في كل مكان إلى آخر الزمان، ولولا محمد ما كانت أوربة ولا الأميركتان!
كانت الدنيا في نظر قريش مكة، كما أن الدنيا في نظر الفرنسيس باريس، ولكن دنيا محمد أوسع، ومحمد لا تسعه مكة، فأم غار حراء ليشرف على الأفق الواسع، ثم سما على معراج إلى السماء، فرأى الأرض كيراعه مضيئة، فاستصغرها، ولم يحفل بما عليها من ذرات هينة. .
هكذا عاش محمد، وهكذا انتقل
عاش محمد في الأرض وهو أكبر من الأرض، وترك في الأرض أثراً أكبر من الأرض، ولم يعرفه في الأرض أحد من أبناء الأرض - ذلك لأنه كان كما قال لامارتين:
(فوق البشر، ودون الإله، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم
علي الطنطاوي
إحياء المولد النبوي الكريم
بعض رسومه ومناظره في مصر الإسلامية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت ليلة الثاني عشر من ربيع الأول - ليلة مولد النبوي الكريم - دائماً من المواسم والأعياد المشهودة في جميع الأمم الإسلامية؛ ومازال مولد النبي العربي من الذكريات الخالدة في المجتمع الإسلامي؛ ولكن الاحتفال بذلك الحادث العظيم في تأريخ الإنسانية كان يقترن في العصور الخالية، أيام عز الإسلام ومجده، بضروب من الجلال والبهاء والبذخ، ذهبت بها حوادث الزمن وتقلباته، وما انتهت إليه الأمم الإسلامية من الاضمحلال والتأخر. وقد بدأ هذا الاحتفال المقدس في عصر الإسلام الأول بسيطاً متواضعاً، كباقي المواسم والاحتفالات الدينية، فلما بلغت الخلافة ما بلغت من العظمة والبهاء، ظهرت فخامة الملك وروعته في الأعياد والحفلات الرسمية، وجرت الشعوب على سنة ملوكها وأمرائها في هذا الموسم من الظهور والبذخ. وكان شأن مصر الإسلامية في ذلك شأن باقي الولايات الإسلامية في عصر الخلافة الأول من بساطة في الرسوم والمظاهر؛ فلما استحالت مصر من ولاية خلافية إلى دولة مستقلة في عهد بني طولون وبني الأخشيد وقامت فيها قصور ملوكية باذخة، ظهر أثر هذا الانقلاب في رسوم الدولة ومظاهرها العامة، وغدت المواسم والاحتفالات الدينية حوادث عامة يحييها الشعب، كما تحييها الحكومة في كثير من الرونق والبهجة والحبور.
وقد بلغت هذه المظاهر والرسوم الفخمة ذروة البهاء والروعة في عهد الدولة الفاطمية، وكانت هذه الدولة القوية الشامخة تتخذ من المواسم والأعياد الدينية والقومية فرصاً للظهور في أبدع مظاهر القوة والغنى والترف، وتغمر الشعب في هذه الأيام المشهودة بوافر بذلها وعطائها؛ فكان الشعب يستقبل هذه المواسم باهتمام وحماسة ويكثر فيها من الاحتشاد والإنفاق والمرح، تشجعه الدولة على ذلك وتحثه بقدوتها ومثلها. وكان للاحتفال بهذه المواسم رسوم وتقاليد معينة تختلف باختلاف أهميتها الدينية أو القومية. وقد بلغت في ظل الدولة الفاطمية من الكثرة والانتظام ما لم تبلغه في أية دولة إسلامية أخرى. ذلك أن الخلافة الفاطمية شرعت لنفسها، إلى جانب الأعياد الدينية المأثورة، أعياداً خاصة بها
وبدعوتها ومذهبها الديني، فقررت أن تحتفل إلى جانب المولد النبوي، بموالد خمسة أخرى هي مولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومولد زوجه السيدة فاطمة الزهراء التي ينتسب الفاطميون إليها، ومولد الحسن، ومولد الحسين ابني علي، ومولد الخليفة الفاطمي القائم في الملك؛ هذا إلى مواسم وأعياد أخرى كيوم عاشوراء (عاشر محرم) الذي قتل فيه الحسين، وليلة أول رجب ونصفه وليلة أول شعبان ونصفه وهي ليالي الوقود الشهيرة؛ ثم كانت هنالك أعياد قومية أخرى كيوم فتح الخليج، ويوم الميلاد النصراني ويوم النوروز، ويوم الغطاس؛ ذلك أن الخلافة الفاطمية لم تنس أن تشمل رعاياها النصارى برعايتها وتسامحها في إحياء هذه الأعياد القومية القديمة بصفة رسمية، وفي أن تسبغ عليها من البهجة والبهاء ما يسبغ على الأعياد الأخرى.
وكان المولد النبوي الكريم في مقدمة الأعياد الإسلامية المقدسة، تحتفل به الدولة طبق رسوم معينة، ويحتفل به الشعب في فيض من الضجيج والمرح. وقد وصف لنا مؤرخو الدولة الفاطمية المعاصرين، كابن زولاق، والمسبحي، وابن الطوير، وابن المأمون، طرفاً من هذه المناظر والرسومالشائقة؛ وخلاصة هذه الرسوم، هو أنه إذا حل المولد النبوي، يطلق من الخزينة مبلغ كبير برسم الصدقات، ويطلق من دار الفطرة أربعون صينية فطرة ومن الخزائن سكر ولوز وعسل وزيت برسم خدمة المزارات التي بها - حسب قولهم - بعض أعضاء آل البيت، ويوزع من الحلوى بضع مائة ألف رطل، وكذا من الخبز كمية كبيرة. وفي يوم المولد النبوي - الثاني عشر من ربيع الأول - يخرج الخليفة في موكبه ليجلس في المنظرة الخلافية المجاورة للمشهد الحسيني؛ وهي أقرب المناظر إلى القصر؛ وتكون دار الفطرة قد أعدت ثلاثمائة صينية مجهزة بالحلوى اليابسة لتفرق في كبار الموظفين والقضاة، وفي مقدمتهم قاضي القضاة وداعي الدعاة، وقراء الحضرة وخطباء المساجد الجامعة. وعند الظهر يركب قاضي القضاة في موكبه من عند القصر، ويخلى ميدان القصر من الجماهير، ويترك للجمهور السلوك من ناحية أو اثنينْ، ويقوم والي القاهرة بالمحافظة على النظام مع رجاله؛ ويصل موكب قاضي القضاة من ناحية، ويصل موكب الحاجب الكبير من ناحية أخرى إلى ساحة المنظرة الخلافية وقد فرشت بالرمل؛ ويقف الجميع في الساحة متشوقين لرؤية الخليفة. وبعد نحو ساعة يطل الخليفة من إحدى
الطاقات وعلى رأسه المنديل الخلافي، ومن ورائه بعض الأستاذين المحنكين ويطل أحد الأساتذة من طاقة أخرى ويقول:(أمير المؤمنين يرد عليكم السلام) ويسلم على الحضور؛ ثم يبدأ قراء الحضرة بالقراءة وقوفاً، ووجوههم إلى الجمهور، وظهرهم إلى المنظرة؛ ثم يلقى خطباء المساجد الجامعة خطبهم، فيبدأ خطيب الجامع الحاكمي، ثم خطيب الجامع الأزهر، ثم خطيب الجامع الأقمر؛ وتدور الخطبة حول المولد النبوي وقدسيته وفضله؛ فإذا انتهت الخطابة، أخرج الأستاذ رأسه من الطاقة ويده في كمه ورد على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان. ويحتجب الخليفة والأستاذ، وينتهي الاحتفال، وينفض الناس.
هذا، وإلى جانب الاحتفال الرسمي، يحتفل الشعب في كل مكان بإقامة المآدب الخاصة ليلة المولد النبوي، وفي مساء يوم المولد، وتسطع القاهرة في الليل بالأنوار الباهرة، وتغص الساحات والدروب بالجماهير المحتشدة، وتكثر النفقة والنزهة، وتقام أنواع الملاهي والمطاعم العامة، وتسير السفن في النيل والخليج محملة بالمتنزهين، ويكثر البر بالفقراء والمساكين.
وكان الاحتفال بالمولد النبوي في دول السلاطين المختلفة دائماً من الأعياد الرسمية، تحييه الحكومة والشعب، ويشهده السلاطين أحياناً؛ ولكنه لم يبلغ في ظل هذه الدول ما كان يبلغه من الفخامة والبهاء في ظل الدولة الفاطمية.
وفي عصر الحكم التركي، ذوى بهاء المواسم والأعياد الدينية كما ذوى كل شيء في الحياة العامة المصرية، وغلبت عليها التقاليد السخيفة، ولم يبق لها شيء من تلك الروعة التي كانت تهز قلوب المسلمين، وتبعث إليها الجلال والخشوع.
ويصف لنا الجبرتي طرفاً مما كانت عليه رسوم الاحتفال بالمولد النبوي في أواخر الحكم التركي وأيام الحملة الفرنسية، فيقول مثلاً في وصف احتفال سنة 1214هـ ما يأتي:
(وفي يوم الثلاثاء حادي عشره (أي حادي عشر ربيع الأول) عمل المولد النبوي بالأزبكية ودعا الشيخ خليل البكري ساري عسكر الكبير مع جماعة من أعيانهم وتعشوا عنده وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا حراقة وسواريخ ونادوا في ذلك اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلاً وإسراج قناديل واصطناع مهرجان).
ويقول في وصف احتفال سنة 1216هـ ما يأتي:
(وفيه (أي ربيع الأول) نودي بتزيين الأسواق من الغد تعظيما ليوم المولد النبوي الشريف فلما أصبح الأربعاء كررت المناداة والأمر بالكنس والرش فحصل الاعتناء وبذل الناس جهودهم وزينوا حوانيتهم بالشقق الحرير والزردخان والتفاصيل الهندية مع تخوفهم من العسكر. وركب المشار إليه عصر ذلك اليوم وشق المدينة وشاهد الشوارع. وعند المساء أوقدوا المصابيح والشموع ومنارات المساجد وحصل الجميع بتكية الكلشني على العادة، وتردد الناس ليلاً للفرجة وعملوا مغاني ومزامير في عدة جهات، وقراءة القرآن، وضجت الصغار في الأسواق وعم ذلك سائر اخطاط المدينة القاهرة، ومصر وبولاق. وكان من المعتاد القديم ألا يعتني بذلك إلا بجهة الأزبكية حيث سكن الشيخ البكري لأن عمل المولد من وظائفه وبولاق فقط).
وفي وصف احتفال سنة 1217هـ ما يأتي:
(فيه (ربيع الأول) شرعوا في عمل المولد النبوي وعملوا صواري ووقدة قبالة بيت الباشا وبيت الدفتر دار والشيخ البكري ونصبوا خياماً في وسط البركة ونودي في يوم الخميس بتزيين البلد وفتح الأسواق والحوانيت والسهر بالليل ثلاث ليال، أولها صبح يوم الجمعة وآخرها الأحد ليلة المولد الشريف فكان ذلك) ونستطيع أن نلمح في الاحتفال الرسمي الذي يقام في أيامنا احتفاء بالمولد النبوي الكريم بعض رسوم العصور الخالية، وبالأخص بعض المناظر التي ينقلها إلينا الجبرتي عن هيئة الاحتفال في أواخر العصر التركي، ولكنا لا نستطيع أن نلمح فيه كثيراً من تلك الروعة التي كانت تطبعه في عصور المجد والاستقلال، ولا نستطيع بالأخص أن نلمس آثار ذلك الصدى العميق الذي كان يتردد بين طوائف الشعب ويجعل من المولد النبوي الكريم عيداً دينياً وقومياً عاما يحتفي به الشعب بأسره).
محمد عبد الله عنان المحامي
من وراء البحر
للدكتور محمد عوض محمد
عزيزي الزيات
لقد غادرت القاهرة وأنا حانق عليك، غاضب ثائر. وكان مثلي كمثل هذا البحر - بحر الريفييرا - الذي ما برح هائجاً صاخباً. فاستحال علىّ أن أقضي الوقت في السباحة والاستحمام، واضطررت أن أقطع الوقت في الكتابة إليك كما ترى.
أجل! لقد تركت السواحل المصرية وأنا غاضب منك، ولحسن حظك أن بيني وبينك هذا البحر الطويل المديد العريض وإلا نالك مني بعض الأذى. فانك حاولت في العدد السابع والأربعين من (الرسالة) أن تفسد على عيشي، وتقطع عني الخبز الذي أتبلغ به في هذه الحياة الدنيا،
وتفصيل الحديث - إن كنت لم تدرك بعد ما جريرتك - أنك في العدد الأخير - الأخير بالنسبة إلي - حاولت أن تقطع عني وسائل عيشي؛ بأن تناولت أفاضل الشعراء بالنقد الشديد. لا لسبب سوى أنهم اتخذوا لأشعارهم عنوانات اقتبسوها من بيئة غير بيئتهم وأرض غير أرضهم؛ وقد تناولتهم من أجل ذلك باللوم ما شاء لك ذلك القلب القاسي الذي أتخذ جوانحك مستقراً ومقاماً.
وكأنما جهلت - يا أبا رجاء - أو تجاهلت أنني بحمد الله - الذي يحمد على الخير وعلى الشر - ما أكلت الخبز والملح (ومعهما - أحياناً - قليل من الجبن الدمياطي والخيار المصري) إلا بأمر واحد أؤديه في هذه الحياة، وهو تعليم الناس تقويم البلدان. ولست أدري أدفعتني في هذا الطريق ملائكة الرحمة أم شياطين العذاب. لكنه على كل حال هو الطريق الذي سلكت، والذي آكل منه الخبز والملح فكان الأجدر بمثلك لو انك ترى للمودة عهداً أن تشجع الشعراء على أن يقبلوا ما استطاعوا على تلك البيئات البعيدة، والأقطار النائية، يلتمسون فيها عنواناتهم وموضوعاتهم، فيضطرون إلى دراسة البلدان والأقاليم، ويبحثون في أسفار الجغرافيا عن صفة كل قطر وكل ظاهرة طبيعية، حتى إذا استوعبوا فهمها واستطاعوا الإحاطة بأسرارها سالت خواطرهم في وصفها قريضاً بديعاً. . . وهكذا يصبح الشعراء والكتاب طلبة يدرسون علم تقويم البلدان، ورسلاً لنشر الدعوة الجغرافية وبثها بين
طبقات الأمة. وهكذا تروج بضاعتنا التي نأكل منها الخبز والملح، ومن يدري، فقد ينتهي بنا هذا لأن نصبح قادرين على التنعم بأشياء غير الخبز والملح - مما نجهله الآن كل الجهل.
إن واجب الجغرافيا - يا أبا رجاء - هو أن تدنى البعيد وأن تقرب أطراف العالم بعضها من بعض، وأن تعلمك وأمثالك كيف تتخذون الناس كلهم سكناً، وكيف تجعلون الأرض كلها داراً.
نريد لكم اليسر والسعة، ولا نريد لكم العسر والضيق، نريد أن يطلق سراح الكتاب، وألا يتقيدوا بسلاسل المكان وأغلال الزمان، فتنطلق أرواحهم في العالم الفسيح، وتشرب من كأس الحرية حتى تروى وتشفى.
أن الجغرافيا هي علم الكون، علم الوجود، ولهذا كانت أهم ما في الوجود من علم. ولهذا وجب على من كان مثلك - مهنته نشر الثقافة - ألا يقول كلمة واحدة تثبط همة المشتغلين بهذا العلم العظيم. .
لهذا أريد منك أن ترجع إلى الحق، وأن تعترف معي بأن (وراء الغمام) و (الملاح التائه) وما شابه ذلك عنوانات بديعة، وأنه لا يضير الكاتب الذي يستخدم مثل هذه العنوانات أن ليس في سماء القاهرة غمام كثير - مع أن في سماء الإسكندرية من الغمام ما يكفي لألف عنوان! - كذلك لا ضير على الكاتب أن يتحدث عن البراكين وجبال النار، والزلازل، وأمثال تلك الظاهرات التي لا نحسها في مصر إلا نادراً. ذلك لأننا معشر الجغرافيين نريد أن نبصر ثمار ما بذرناه من علم ونراها تؤتي أكلها في كل مكان.
هذا ما عنّ لي أن أقوله تأنيباً لك على أن حاولت أن تقطع عيشنا في هذا البلد الأمين. وأريد أن أزيد في التنكيل بك بأن أرسل إليك قصيدة كنت نظمتها في وصف (نهر في جبال الألب) فهي كما ترى لم تكتب عن نهر النيل. فإذا أردت أن تلومني في هذا، وليس هذا على جرأتك بعزيز - فاذكر أنني كتبت عن نهر النيل كتاباً كاملاً؛ قد أتعبني في النهار وأسهرني الليل أعواماً طوالاً. أما النهر في جبال الألب فما كان له مني سوى جلسة قصيرة جلستها بجانبه أراقب مجراه، وأصغي إلى خريره وزئيره. لم يسهد له طرف، ولم يدمع له جفن.
وعندي أن الذين يبحثون عن موضوعاتهم في غير بيئتهم لا يضربون لنا مثلاً لما نسميه (الامتيازات) في الأدب؛ بل للاستعمار في الأدب. فمادام الأسلوب عربياً، والصبغة والنزعة عربيتين؛ فلن يضير الشاعر أن يفتش أرجاء العالم في سبيل البحث عن موضوعه، أو عن استعاراته أو معانيه. والذي قد يعاب على الكاتب العربي هو هذا الولع باصطلاحات غربية تبدو للعربي بادية السخف، مثل قولهم (كوبيد رماني بسهم) أو ما شاكل ذلك من الاصطلاحات التي لا طلعت ولا نزلت. وليست عبادة الغربيين مقصورة على شعرائنا بل هي كذلك شائعة في سائر الكتاب ورجال السياسة. فكل نغمة - مهما كانت سخيفة - مطربة لهم مادامت خارجه من قيثارة غربية. وكل حكم نافذ مادام صادراً من محكمة غربية. وأكبر عار على الأديب المصري أن يكون إلمامه بأدب الغرب أكبر من إلمامه بأدب الشرق.
والآن ما خطب تلك القصيدة التي أريد أن أثأر بها منك: والتي موضوعها (نهر في جبال الألب)؟ إنها ليست من جليل الشعر ولا خطيره، ولكني مادمت أرسلها إليك للتنكيل بك فلن أهتم بتنقيحها وتهذيبها. فهاكها:
يحار لبي إذ أرى
…
مَسيلَ هذا الجدول
وإذ أرى انحداره
…
يسبق لَْمح المُقل
لا يستقر في المس
…
سير لحظةٍ بمنزل
كأنه مُندفعٌ
…
بالخوف أو بالأمل
أو سائر لغاية
…
بعزمة لم تُفْلل
ينقض في انسيابه
…
مثل هُوِيِّ الأجدل
مِن مَدْفَع لمدفع
…
وجندل لجندل
فاعجب لماء شبمٍ
…
يجيش مثل المرْجل!
مصطخب مضطرب
…
محتدم منفعل
وهائج في مائج
…
ومدبر في مقبل
وعابس في ضاحك
…
ومنجد في مسهل
وأول في آخر
…
وآخر في أول
مستعجلاً وليس يخ
…
شى زلة المستعجل
وليس يُعييه المسيرُ
…
في الضحى والأصُل
عليه من حبابه
…
ثوب كأبهى الحلل
رذاذه مثل شرار
…
ناره لم تشعل
منتثرٍ منتشرٍ
…
في السهل أو في الجبل
شلاّلهُ يهوى هو
…
ى شُهب ليل أليل
كعمد من فضة
…
أو كملاء مًسدل
أو حائط من مرمر
…
يلمع كالسجنجل
أو ذوب بلور هوى
…
من حالق لأسفل
في صخب ولجب
…
متصل منفصل
يكاد أن يسمع من
…
بالمشترى أو زحل!
زئيره يطغى على=خريره المتصل
مثل زئير الأسد يخ
…
في شدو كل بلبل
أصغي إليه صامتاً
…
في هيبة ووجل
أسمع في خريره
…
ذكرى العصور الأول
كأنه صوت الزمان
…
من قديم الأزل
ينبئ بالماضي وقد
…
يهمس بالمستقبل
سفر يخط الدهر فيه
…
كل سطر منزل
من كل معنى مُذْهل
…
وكل سر مُعضل
يا ليت شعري إذ أرا
…
هـ في سراه المعجل
هل هو رمز للخلو - د والوجود الأزلي
أم هو رمز للفنا
…
يبدو وللتحول؟
وقد أراه قدوةً
…
لنا وخير مَثَل
لو أن فينا بعض ما في
…
هـ الخُلقِِ العلى
من شدة وعزمه
…
وقوةٍ وعمل
إذن لكنا دولة
…
بين كرامِ الدول
والآن أيها الصديق تحية وسلاماً. . . أرجو أن أكون قد نكلت بك كما أردت واشتهيت؛ وان عدتم عدنا. وإلى اللقاء
أخوك المخلص
جوان لي بان في 6 حزيران
محمد عوض
بين العلم والأدب
هل يميت العلم الشعور؟
بقلم محمد روحي فيصل
(العلم يجفف القلب ويميت الشعور)
رأى أملاه على منذ سنوات أحد أساتذتي الأدباء ممن لا بأس بلبه وعقله، ولايتهم في فطنته وبصيرته، ثم سمعته من بعض الشباب الناهض المتأدب وقرأته لغير واحد من كبار الكتاب في مصر والشام والعراق. فإذا الرأي شائع معروف، ثابت الأصول منبسط الفروع يرد أبداً على طرف اللسان وشق القلم، وإذا الناس يخشون العلم ويخافون على قلوبهم ونفوسهم من بأسه وضرره، وإذا هوة سحيقة المنأى بعيدة المستقر تفصل العلم عن الأدب وتباعد بين أسبابهما وأدواتهما، أما أن بعض مصطلحات العلم جاف شديد الجفاف فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، وأما أن قوام العلم المنطق والعقل فهذا حق إلى حد ما، وأما أن العلم ذاته يميت الشعور فهذا ما نحب أن نعالجه الآن في جرأة وإخلاص، ونناقشه في روية وهدوء ونحن نغتبط كل الغبطة حين تعنى الصحف والمجلات بالأدب، تعقد له الفصول الطوال وتدعو إلى تفهمه ودراسته، وتبذل لهذا كله قوتها وجهودها ونرجو ان تكون النهضة الأدبية مقدسة مباركة تحفها أشعة من نور وهالة من بهاء، فليس أدل على حياة الأمة من الفن والأدب يعرض عليك، في وضوح ودقة، ميولها وأهواءها وأفكارها وسائر ما يتردد بين قلبها وعقلها من الخواطر والانفعالات. ولكن مفهومه على النحو الصحيح ما يزال مبلبلاً مهلهلاً. ما هو افقه وغايته؟ ما هو مقياسه وحدوده؟ ما صلته بالعلم؟ ما قيمته في عالم المعرفة؟ هذه أسئلة يختلف كتابنا في الإجابة عليها تمام الاختلاف، ويذهبون فيها شتى المذاهب.
أما نزال بسطاء سذجاً تخدعنا البهرجة الكاذبة، والطلاوة العابثة، وتفتننا الألاعيب اللفظية والأناقة الكلامية؟ ألسنا على ثقافتنا وجلال نهضتنا نجهل مقاييس الأدب الصحيحة، وحدود الجودة والرداءة، ومواطن الجمال والدمامة؟ ألسنا نستحسن ما تغثي منه النفس؛ وما هو حقيق بالنبذ والإهمال، ثم نستقبح ما قد يكون في الذروة من البلاغة الجميلة الرائعة؟
ذلك ناشئ عن فساد في الذوق، وجدب في التربة، وكره للعلم وابتعاد عن دراسته وتحصيله، وعندي أن كل إنتاج في الأدب. لم يبدأ بإصلاح هذا الرأي فإنما هو محاولة
فاشلة فائلة، ومضيعة للجهود المبذولة في غير طائل ولا نفع.
في الدنيا جمال، وفي الدنيا حقيقة، وفي الدنيا خير. أقانيم ثلاثة تتحد في السبب وتتصل في الجوهر والعرض، أو هي مثل عليا متداخلة متشابكة، ففي الجمال حقيقة، وفي الحقيقة جمال وهكذا. . . فالأدب إنما ينبغي أن يستند إلى شئ من العلوم التجريبية والنفسية والاجتماعية، ويعتمد على ما أثبته العلم في مختلف الميادين والموضوعات، والأديب والعالم إنما يجب ان يتصالحا ويتصاحبا فكلاهما ينظر إلى الطبيعة والحياة من ناحية، هذا يكشف عن حقيقتها وذاك عن جمالها، وهما بعد يتعاونان على بحثها واجتلائها.
فالعلماء مجمعون فيما بينهم على ان غاية العلم إنما ينبغي أن تكون البحث عن الحقيقة الخالدة يتحرونها في كل مظهر من مظاهر الوجود، لا لنتائجها العملية يستخدمونها في حياتهم ومعاشهم، بل حباً في الإطلاع وإشباعا للنفس. هم يطلبون العلم لذات العلم لا لآراب أخر، ويلحون في أن يكون خلواً من الأغراض والمنافع، بريئاً من كل نزعة تطبيقية. يريدون ان يكون العلم نظرياً محضاً يستهدف الحقيقة في كنهها وصفاتها ودلائلها ونسبها. يقول هنري بوانكاريه (إن معرفة الحقيقة يجب أن تكون غاية نهضتنا) ويقول شالي (كلما سما العلم وتجرد عن المقاصد والأغراض في العصر الحاضر كان للأجيال الآتية اكثر خيراً وأعظم نفعاً).
وليست المادة وحدها بالتي يتناولها العلم فيدرسها وإنما هو يبحث أيضا في حياة النفس وأحداثها، فهي في نظره موضوع للتفكير كالمادة سواء بسواء. . فالعلوم على اختلافها إنما هي دروب ما تتشعب وتنحرف إلا لتلتقي في نقطة واحدة هي (الحقيقة). أفتظن إن معرفة هذه الحقيقة التي يبذل العالم لها جهوداً جبارة هي سبيل لتجفيف قلبه، وإطفاء معنى الشعر فيه!! لا! لعمري إن العالم الذي يصل إلى حقيقة من الحقائق إنما تمتلئ نفسه في الحال بهذا السرور وهذه النشوة العلوية، فليس أدعى للذة ولا اكثر مجلبة للسعادة من عرفان الحقيقة!! أذكر عالماً من العلماء - وأظنه الكيميائي داوي قد أخذ نفسه بدراسة (البوتاسيوم) في مخبره، فلما عرف حقيقة الجسم قام حول الطاولة يرقص بهجاً طروباً!! وكان أرخميدس يوماً في الحمام يجري عمليته في سبيكة المعدن ليعرف مقدار الذهب فيها والفضة، حتى إذا لاحت له الحقيقة خرج في شوارع المدينة عارياً حافياً يصيح: وجدتها. ففي خروجه على
هذه الحال من العرى والحفاء، وفي صراخه القوي البهيج، صورة جامعة تامة الخطوط والألوان للذهول الشديد الناشئ من اللذة الفجائية الطافرة التي بعثت في قلبه المشاعر والعواطف، وأسالت منه أقصى حدود الفرح والبشر، وطبعت على شفتيه المنفرجتين بسمة حلوة مشرقة!!
ولعل الحقيقة النفسية اكثر الحقائق مدعاة للسرور، فهي التي تهمنا قبل كل شيء لأنها تتصل بنا وتؤلف الجانب الأكبر من حياتنا، فالكشف عنها إنما هو اجتلاء أفق فسيح عجيب، ملؤه الجمال والجلال.
إن العلوم التجريبية تسمو دوماً من الحوادث والواقع إلى القانون. هي تعلو وتعلو في جو التجريد حتى تحصر مظاهر الكون في هذا الرمز الصغير المدعو (قانون). فالقانون علاقة بسيطة تريك هذا النظام الدقيق الذي تتقيد به الطبيعة، وتخضع له من غير شذوذ ولا مصادفة. فنحن حين نقرر سقوط الأجسام كلها نحو مركز الأرض نوضح هذا التجاذب القوي العام الذي يحصل بين الكتلات، نوضح ناحية من نواحي الوجود لها قيمتها ولها أثرها. وهذا التجاذب هو في الحق حلقه من سلسلة النظام الطبيعي. فالقانون هو، على حد تعبير هنري بوانكاريه، أحدث وسيله لجأ إليها العقل البشري للتعبير عن هذا النظام الطبيعي. أفلا يروقك أن تلحظ أن في هذا العالم الذي تعيش بين جوانبه، والذي أنت عنصر كريم من عناصره العديدة - اتساقاً وانسجاماً بديعينً؟!
لقد كان الناس في العصور الخوالي يتطلبون من آلهتهم معجزات خوارق يثبتون بها وجودهم وقدرتهم، وإنما الأعجوبة الرائعة حقاً ألا يكون هناك أية معجزة خارقة، وأن يكون كل شيء في الطبيعة يسير على خط منتظم في حركة منتظمة، لا اعوجاج في الخط ولا تزايد في الحركة!! فنظام الطبيعة الذي يكشف عن العلم شيئاً فشيئاً هو مصدر كل جمال وكل شعر، يبعث في القلب أسمى الشعور وأدق النزوات. . .
لعل الذي يقول بتجفيف العلم للقلب إنما ينظر إلى هذه المجازر البشرية، وإلى تلك الشرور والآثام التي كان العلم فيها عاملاً قوياً لهتك الفضيلة وسفك الدماء. . هذا صحيح، ولكن العلم في ذاته لا يبغي إلا هدفاً شريفاً منزهاً عن كل النزعات البشعة، فهو يصلح للخير ويصلح للشر، ويستخدم لرفع مستوى الإنسانية ويستخدم لتدنيسها، فليس الذنب ذنبه وإنما
هو ذنب من حمله! فأنت تستطيع أن تنقم عليهم، وتستطيع أن تكيل لهم أشنع النعوت والصفات ولكنك، مضطر إلى أن تقف في محراب العلم خاشعاً متصدعاً، تتلو آي الحمد والإجلال، وترتل أناشيد الحب والإعجاب!!
أو لعل الذي يقول بتجفيف العلم للقلب إنما يزن الحقائق التي اجتلاها الإنسان خلال هذه العصور الطويلة، فوجدها ضئيلة هزيلة لا تعدل ما بذل في سبيلها من جهود. . وهذا صحيح أيضاً، فالحقيقة لا تطفو على ظاهر الأشياء ولا تستبين بارزة عارية وإنما هي خيال ما يكاد يتراءى للعين والبصيرة حتى يختفى، ولقد يضطر العالم إلى اللحاق به فيعدو ويعدو ثم يعود في الأعم من الأحوال خاسراً خائباً. فتحري الحقيقة عمل شاق مضن، ولذا اشترط على العالم الصبر والأناة والجلد. على أن ما علمناه يزيد في ثراء خزانة المعارف، ويهيب إلى القول أن الإنسان الحاضر أرقى من الإنسان الأول، واكثر منه كمالاً. أقول كمالاً ولا أقول سعادة، لأن السعادة غير منوطة بالعلم أو ناتجة عنه، ولعلها بالجهل أجدر واليق، ولعل العلم يبعث القلق والاضطراب، ويثير أحلام النفس لغافية ووساوسها الكامنة.
اكتشاف الحقيقة لا يتم إلا بالخيال والعاطفة، وهما أهم مقومات الشعر والأدب، يتخذهما العلم في البداءة جناحاً يطير به، ووسيلة يلجأ إليها، فهما أداتان لا غنىله عنهما، أفيستطيع العالم تبيان مجاهل الكون إلا بالتخيل والتصور، يرسم حدودها وأشكالها على صحيفة مخيلته قبل أن يعرفها بالواقع والمحسوس؟ أفلم تكن العاطفة والرغبة حافزاً للمعرفة وداعياً إلى الإحاطة بها؟. . ومع أن العلماء حددوا مدى الخيال، وألزموا الحس بالبرهان فلقد راضوهما كثيراً واستنهضوهماً كثيراً.
فالمعهود أن ملكة التخيل والفرض قوية نامية عند العلماء والمفكرين، والمعهود أن كبار الأدباء كانوا علماء أو مثقفين ثقافة علمية متينة واسعة. فهذا جيتي الأديب العبقري كان عالماً من علماء القرن الثامن عشر، له في النبات نظرية (التحور) وله في طبقات الأرض والأحجار الكريمة آراء محترمة، يعتقد ببساطة النور ويقول إن جمجمة الرأس إنما هي حلقة من حلقات العمود الفقري تطورت ونمت فصارت إلى ما هي عليه الآن من التجسم والضخامة. أما بساطة النور فلا يؤمن بها أحد من العلماء اليوم، وأما نظرية الجمجمة فلا تتلاءم مع علم الرشيم الحديث فعدل عنها، وان شئت فقل أنها تحورت إلى نظرية أخرى.
كان جيتي أديباً كبيراً وكان عالماً حقاً، لم يمنعه علمه من الإنتاج في الفن والأدب، ولم يمنعه علمه من الاسترسال وراء الخيال الصادق الصحيح، وهل الخيال الصادق الصحيح إلا ظل الحقيقة وصورة الواقع؟؟
إنما يكشف العلم عن مصادر خصبة للجمال يجدر بالأديب أن يتأملها ويستوحيها، يهيج الخيال وينشط العاطفة ثم يسبغ عليها من روعة الحقيقة ما يلهبها ويؤججها.
حمص
محمد روحي فيصل
في الأفق الدولي
جبهة أوربية جديدة
كان اعتراف دول الاتفاق الصغير بروسيا السوفيتية واجتماع السينور موسوليني والهر هتلر أهم الأحداث الدولية التي وقعت في الأسبوعين الأخيرين. وتوجد بين الحادثين صله وثيقة، وكلاهما يرجع إلى نفس البواعث والظروف التي تدفع أوربا اليوم إلى منحدر شديد الحلك. وقد بينا في مقال سابق في الرسالة أن التأريخ يعيد نفسه، وأن أوربا القديمة تعود فتبدو للعالم كما كانت قبل الحرب مسرحاً للتنافس الحربي وعقد المحالفات السرية، وتنظيم الجباه الخصيمة. وقد بدأت فرنسا مذ رأت تصميم ألمانيا على تسليح نفسها بتنظيم جبهه سياسية عسكرية تستطيع ان تعتمد عليها في مقاومة ألمانيا إذا ما نشبت بينهما الحرب؛ ولما كانت العلائق قد فترت بين ألمانيا وروسيا على أثر قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا وسحقه للحركة الديمقراطية ومجاهرته بخصومة روسيا السوفيتية، فقد رأت فرنسا أن تعود فتتقرب من روسيا وأن تحاول إحياء التحالف الذي كان معقوداً بينهما قبل الحرب ضد ألمانيا. فبعثت مسيو هريو رئيس الوزارة الأسبق إلى روسيا ليمهد السبيل لهذا التحالف، ورأت روسيا من جانبها أنها في حاجة لتوطيد مركزها بين الدول الغربية، وتأمين سلامة حدودها الأوربية لكي تستطيع التفرغ نوعاً لمقاومة الخطر الياباني في الشرق الأقصى، فرحبت بهذه الخطوة؛ واستمرت فرنسا في سعيها لتنظيم هذه الجبهة الشرقية ضد ألمانيا، حتى استطاعت أن تحمل دولتين من دول الاتفاق الصغير هما رومانيا وتشيكوسلوفاكيا على الاعتراف بروسيا السوفيتية تمهيداً لعقد التحالف بينهما وبين روسيا. وقد جاء اعتراف الدولتين بروسيا على أثر الزيارة التي قام بها مسيو بارتو وزير الخارجية الفرنسية لكل منهما. ونفوذ فرنسا في رومانيا وتشيكوسلوفاكيا معروف، وهو الذي يوجه سياستهما الخارجية منذ نهاية الحرب الكبرى. ونستطيع أن نقارن بين رحلة مسيو بارتو التي أسفرت عن التمهيد لهذا التحالف برحلة مسيو بوانكاريه التي قام بها قُبيل الحرب الكبرى في روسيا وما انتهت إليه من توثيق التحالف بين روسيَا وفرنسا.
اجتماع هتلر وموسوليني
وقد كان لهذه الحركة التي قامت بها فرنسا في تنظيم الجبهة الجديدة وقع عظيم في ألمانيا
لأنها هي المقصودة بها قبل كل شيء. وقد شعرت ألمانيا الآن بخطر العزلة السياسية والاقتصادية التي انتهت إليها، وكان للسياسة الهتلرية وما أبدته من العنف وقصر النظر أكبر أثر فيها. ففي عام ونصف عام فقط، منذ قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا، فقدت ألمانيا كثيراً من عطف الرأي العالمي، وفقدت صداقة روسيا السوفيتية وما كانت تتمتع به فيها من مركز اقتصادي ممتاز، وأثار عنف السياسة الهتلرية عليها كثيراً من الأحقاد في النمسا وتشيكوسلوفاكيا، ودفعها بسرعة إلى طريق الخراب الاقتصادي. وقد شعر الهتلريون بخطورة المأزق الذي دفعوا إليه ألمانيا، ولم يجدوا قبلة يتجهون إليها اليوم في أوربا غير إيطاليا. والسياسة الإيطالية تشعر بعطف خاص نحو ألمانيا الهتلرية أولا لما بين الطغيان الفاشستي والطغيان الإيطالي من وجوه الشبه في الوسائل والغايات، وثانياً لاتفاق الرأي بينهما في بعض المسائل الخارجية مثل وجوب تنقيح معاهدة الصلح، وميثاق عصبة الأمم، وتسوية مسألة نزع السلاح على قاعدة المساواة بين الدول العظمى. هذا وإيطاليا تشعر نحو السياسة الفرنسية في القارة بغيرة شديدة وتتوجس من عواقبها ولاسيما في أوربا الوسطى، وتحقد على فرنسا لأنها تحول دون توسعها الاستعماري في أفريقية؛ والخلاصة أن هنالك أسبابا وبواعث كثيرة تجمع بين ألمانيا وإيطاليا في الظروف الحالية؛ وتقرب بينهما في الرأي والغايات.
تلك هي العوامل التي حملت هتلر زعيم الوطنية الاشتراكية الألمانية، وموسوليني زعيم الفاشستية على اللقاء بسرعة للبحث والتفاهم. وقد تم اللقاء بين الزعيمين في مدينة البندقية (فنيزيا) وأستمر يومي 14و15يونيه. ولم تذع تفاصيل شافية عما دار عليه البحث أو تقرر؛ ولكن المفهوم أنه تناول كل الوسائل الخطيرة التي تهم البلدين، وفي مقدمتها مسألة التوازن الأوربي، ومقاومة السياسة الفرنسية في تنظيم الجبهة الخصيمة، ومسالة نزع السلاح وعصبة الأمم، ومسألة استقلال النمسا وضمان السلم في أوربا الوسطى. وقد أفاضت الصحف الألمانية في أهمية هذا الاجتماع وخطورة أثره في مستقبل السياسة الأوربية؛ وكانت الصحف الإيطالية أكثر تحفظاً. ولا ريب في أهمية الاجتماع وخطورته؛ ولكنه من جهة أخرى دليل على خطورة المأزق الذي صارت إليه ألمانيا في ظل الوطنية الاشتراكية، وعلى جزعها من عواقب العزلة السياسية التي انتهت إليها، وشعورها بالحاجة
إلى التعاون الخارجي.
(ع)
صور من الحياة البائدة
للآنسة أسماء فهمي درجة الشرف في الآداب
على ضفاف (بحر يوسف) حيث قام في العصور السحيقة قصر (التيه) أو (اللابرنته) وفي وسط الحقول النظرة ظهر في جلال على ربوة تناثرت فوقها نباتات برية مزدهرة يقوم قصر آل عباد الفخيم. ولم يشأ القصر أن ينسجم مع ما يحيط به من بساطة فأغرق في الزخرف والزينة وأبى إلا أن يجمع بين إسراف الفن القوطي من تماثيل رمزية وأبراج، وروعة الفن العربي من نقوش وعمد، فبدا وكأنه الحسناء التي طمعت أن تزداد حسناً فأسرفت في الزينة والتبرج، فهوى جمالها النظر في خضم من الأصباغ والمساحيق الجامدة. . . ولكن سكان القصر واغلب زائريه كانوا يقفون مبهوتين أمام فخامته، لأن البذخ والإسراف كانا لديهم مقياس الفن والجمال.
ولم يكن داخل القصر بطبيعة الحال اقل زخرفا أو إغراقاً في التجمل من خارجه. وكان المبدأ الذي أتبع في تأثيث القصر المنيف هو اقتناء أثمن الأشياء من بلاد الشرق وممالك الغرب وتكديسها في الغرف دون مراعاة لما بين أنواعها من تفاهم أو تنافر، والواقع أن أثاث المنزل كان دوليا بكل ما في الكلمة من معنى التباين والتنافر! وسكان الدار؟ كانت أيضاً خصالهم وعاداتهم خليطاً من صفات الشعوب في عصور التاريخ المختلفة، فلقد جمعوا بين ديمقراطية العرب وسخائهم وتعصب أهل القرون الوسطى في الدين واحتقارهم للمرأة، وبين زخرف القرن الثامن عشر وانغماسه في التزين ، وأضافواإلى كل ذلك تفانى أهل القرن العشرين في عبادة المادة. .
وكان رب هذه الدار عميد آل عباد الشهيرة في الفيوم شيخاً مسناً معروفاً بالتقى والكرم في عناد وصلابة. ولكن على الرغم من تقواه كان لا يتورع من أن يزيد في ثروته الطائلة بأي وسيلة تصادفه، وكان إذا اصبح الصباح بادر بالجلوس على حصير متواضع في أحد أجرانه الفسيحة، وسرعان ما يجتمع حوله فلاحوه واتباعه يبسطون أمامه خصوماتهم ومشاكلهم فيقضي بينهم في وقار وحزم كما كان يفعل النبيل في عهد الإقطاع. . حتى إذا ما حان وقت الغداء، أمر بإعداد الموائد للاتباع والفقراء، ويأبى السيد إلا أن يأكل معهم برغم احتجاج أبنائه الذين أخذوا بقسط من مظاهر المدنية الحديثة، ودرسوا علم الجراثيم
الاجتماعية ووقفوا على أن الفقراء والمعوزين من أفتك أنواعها! ولكن الشيخ كان يرد على مثل هذا الاحتجاج باسماً قائلاً: إن الفقراءأحباب الله. . وإذا ما نادى مناد للصلاة هرول الشيخ إلى مسجد القرية تتبعه جموع الرجال. وقد أدى ورع السيد إلى تورع الأتباع حتى أكثر الأشقياء جبروتاً وعتواً. .
أما زوجة السيد فلم تكن على شيء من نشاطه وبساطته؛ قضت حياتها كلها قعيدة دارها لم تخرج منه إلا يوم وفاة أمها من أكثر من عشرين عاما. وكانت على جانب عظيم من البدانة لا ترتدي من الأثواب غير الحرائر النادرة التي يطول ذيلها أمتاراً وراءها. . وتحمل حول عنقها وأناملها ومعصميها وفي أذنيها أرطالا من اللؤلؤ والماس والذهب، فضلا عما أكثرت من الأصباغ المختلفة الألوان في الرأس والوجه واليدينوالقدمين فغاصت شخصيتها في ضخم من المساحيق والحرائر والجواهر. . وبدت في مجلسها كصنم هائل تكدست فوقه قرابين الحلي والجواهر وضعت حيثما اتفق لإرضاء عاطفة الورع.!
وقد كانت بطبيعة الحال لفرط بدانتها وثقل أحجارها الكريمة بطيئة الحركة تشتد ضربات قلبها لأقل مجهود، وقد ترتمي على مقعدها إعياء لمجرد محاولتها النهوض، فيأتي رهط من الخدم للأخذ بيدها وإنهاضها كما لو كانت عجوزاً شمطاء قد قطعت شوطاً بعيداً في طريق العدم.
وعلى مقربه من الأم كانت تجلس أبنّتها (سمر) وهي غادة هيفاء لولا ضعفها البادي وشحوبها لما بخل عليها حتى أقسى حسادها بوصف الحسن الرائع، ولكنها كانت كالزهرة التي أقصيت عن الضوء والهواء فذبلت وتهدلت أوراقها. ولم تحاول الفتاة أن تخفي الشحوب بالأصباغ (وإن قد اجتهدت في إخفاء النحول بكثرة الكرانيش والذيول) لأن ذلك العهد لم يبح للمرأة أن تتجمل إلا إذا كانت ذات بعل. . أما المذهب الذي يدعو إلى الاهتمام بالفن للفن، فلم يكن مألوفاً عند بنات ذلك العصر، وإنما من مستحدثات هذا القرن!
كرت الأعوام على هذه الأسرة والحياة تسير على وتيرة واحدة لا تنوع فيها إلا تغيير أنواع الطعام الكثيرة، وتبديل الملابس والجواهر التي اكتظت بها الصناديق والخزائن - ولكن لم تلبث الأيام التي تلد العجائب أن تمخضت عن حادث هام أدخل في حياة الأسرة الراكدة انتعاشاً وجدة. . وحول تفكيرها إلى مجرى غير مجرى الطعام والشراب والملبس. . فلقد
خطب الشاب مراد ابنة عمه (سمر) إلى أبيها، وقبل الشيخ عباد راضياً مسروراً، لأن مرادا كان يمتاز بأسمى صفات الرجولة من نبل وشجاعة وقوة فوق جاهه العريض وجماله. وقد فرحت الفتاة سمر عند وقوفها على هذا النبأ، لأن مراداً كان رفيقها في عهد الطفولة، وهي وان كانت لم تره منذ زمن بعيد كانت تسمع الكثير عن خصاله وجماله.
وكانت الأم منذ إعلان الخطبة لا تطيق ابتعاد ابنتها عن مجلسها، وفي ذات يوم فاضت عاطفة الأم عند ما تذكرت انه لم يبق على زفاف ابنتها سوى أيام قلائل، فجّرت نفسها نحوها بمجهود غير يسير، ووضعت ذراعها الغليظة حول جسم الفتاة النحيل، وقالت وهي تلهث من التعب: - أواه يا ابنتي! عما قليل ستزفين إلى ابن عمك مراد، لا يحزنني أمر فوق ما يحزنني منك هذا النحول. . أتوسل إليك يا سمر أن تأكلي وتشربي كل ما آتيك به. . وليس هناك من دواء للنحول كشرب كوبه من السمن الخالص أو المحلى بالعسل كل صباح وكل مساء. . انظري إلى أمك! إنها لم تستمتع بهذا الهيكل العظيم من اللحم الذي يحسدها عليه جميع نساء آل عباد إلا بفضل هذا الدواء الناجع الذي أشير به عليك الآن. .
فقالت الفتاة وقد توردت وجنتاها حياء لذكر موضوع الزفاف، آسف لإيلامك يا أماه. . سأحاول مرة أخرى تعاطي هذا الدواء، ولكني أوثر البقاء بجانبك طول الحياة. . . إني لأرتعد فرقا عندما أفكر أني سأغادر هذه الدار المحبوبة قريبًا لأذهب إلى دار غريبة لا أعلم من أمرها أو من أمر ساكنيها إلا ما أسمعه من أفواه الرواة. . أني لم أر عمي (قاسما) إلا مرات معدودة، كنت فيها لا أجسر على مخاطبته أو النظر في وجهه استحياء. . أهوَ طيب القلب يا أماه؟ وزوجه؟ أحقاً ما نسمعه من أنها شديدة الورع؟. .
أجابت الأم وهي تحاول إخفاء تأثرها: عمك يا ابنتي كأبيك نبيل كريم. أما زوج عمك فهي شديدة التقى كثيرة التعبد، ولكن ذلك قد لا يمنعها من أن تتصف برذائل الحماة. . وما أدراك يا سمر ما الحماة. . إنها نار الله الموقدة، أو أحد شياطين الجحيم المردة. . أني يا ابنتي لم أتذوق طعم الحياة الرغيدة إلا بعد أن ماتت حماتي!
ارتعدت فرائص الفتاة عند سماع هذا القول وأبرقت عيناها ببريق الكره والخوف معاً، وقالت والعبرات تكاد تحبس صوتها: - وماذا أنا فاعله يا أماه؟. .
اخضعي لحكم القدر، واستعيني برب الفلق على شر ما خلق!. .
انهمرت عبرات الفتاة على الرغم من أيمانها الشديد. ودخل أبوها مهرولاً في تلك اللحظة فانقطع مجرى الحديث، لان الفتاة أسرعت بالاختفاء إذ أصبحت لا تجرؤ على مواجهة أبيها منذ خطبتها مدفوعة بعامل الحياء الشديد. . . ولم يحاول الأب استبقاء فتاته وان كان الموضوع الذي أتى ليعالجه مع امرأته يعني الفتاة دون سواها، لأنه أتى طبعاً ليتكلم في موضوع العرس، هذا الأمر الذي كان محور حديث الأسر، ماعدا الفتاة قضت عليها التقاليد بكتمان آرائها ورغائبها وعدم الخوض في موضوع الزواج. .
قال الأب بعد فترة سكون لم تحاول ألأم بدء الحديث في أثنائهابرغم تشوقها للوقوف على احدث تفاصيل موضوع العرس، لأنها كانت تهاب الزوج وتخشاه.
سيتم كل شي بعد أيام بأذن الله على رغم تجدد الخلاف بيني وبينهم أخي قاسم من جراء اقتسام تركه أمنا المتوفاة. انه يصر على أن يأخذ منها ما وقع عليه اختياره، وينتهز فرصة العرس ليحملني على التساهل. . كلا. . ومن بيده الملك، ولو آل الأمر إلى دك أعلام الزينة وإطفاء أنوار الأفراح. .
قالت ألام بصوت خافت لا يخلو من رعشة الوجل: - ولكنا لا نجد عريساً لأبنتنا خيرا من مراد، فلا تحجم عن التضحية من اجله.
فأجاب الأب وهو يرتجف من شدة الغضب: انك شديدة الغباوة يا (مُنى). . أني قادر على مصاهرة من يدفع لي من المهر أضعاف اضعاف ما دفع أخي لابنتي - لقد كانت على عيني غشاوة عندما قبلت هذا المهر من اللئيم أخي. .
أخذت الأم تحس بالجبن والخوف أمام غضبه، فقالت باستسلام انك على حق دائماً يا سيدي. .
نهض الشيخ بخفة الشباب وأسرع للإشراف على معدات العرس، إذ كان قد وطد العزم على إتمامه في اليوم التالي منتظراً من ورائه إتمام صفقة رابحة، وهذا نفس ما كان يرجوه أخوه. .
نصب السرادق وسطعت الأنوار، وصدحت الموسيقى، وأطلقت البنادق وزغردت النساء، وظهر قصر آل عباد في حلة قشيبة من الزينة والبهاء في ليلة الزفاف. أسرع وجهاء القوم بالحضور إلى الفيوم من الدلتا والصعيد، ليروا ابرع نموذج في البذخ والإسراف، إذ كان
لآل عباد من الشهرة ومن الثروة ما كان لخمارويه وكافور الأخشيد. . واكتظت حجرة العروس بكرائم العقائل وكرائم الجواهر، وتعالت أصوات المغنيات البدينات بالغناء، وأخذن في الرقص والانثناء أمام العروس كالحيات. .
ولكن العروس كانت عن كل ذلك في شغل، فقد غلب عليها الخوف فتركت العنان لعبراتها، ولم يستغرب منها أحد هذا الأمر، لان بكاء العروس في ليلة الزفاف كان من الأشياء المألوفة المرغوبة، إذ كان يعد رمز الحياء ودليل الوفاء والطهر. . . ومن جفت دموعها في تلك الليلة فقد حكم عليه بالجرأة وغلظة القلب. .
ولم تلبث الحياة أن استعادت مجراها الطبيعي الهادئ وانقشعت سحب الرهبة والخوف التي طالما تجمعت في سماء حياة الفتاة قبل الزواج، إذ وجدت في قرينها من العطف والود ما أنساها شكوكها وملأها سعادة وحباً وإخلاصًا له. وفي ظل زوجها ورعايته نسيت أقوال أمها عن الحماة الشريرة، بل إنها وجدت في حماتها قديسة طاهرة لا تحمل في نفسها إلا التسامح والعطف. .
وهكذا نعمت الفتاة بعيشها، وساعدتها وداعتها ورقتها وطيب عنصرها على إدخال السرور من حولها. .
ومضت اشهر قلائل والفتاة لا تفكر في مرور الوقت ولا تكترث لمعرفة الايام، اذ لم تكن ترقب حدوث تغييًر أو وقوع جديد، لأنها كانت راضية عن حياتها كل الرضا، لا تعرف ولا تطمع في خير منها. . ولكن هل يغر بطيب العيش إنسان؟
خرج مراد كعادته مبكراً مشرق الجبين للإشراف على شؤون مزارعه، وجلست الفتاة في ردهة فسيحة أنيقة تخيط بعض الثياب لأطفال الفقراء، إذ كان لا يسعدها اكثر من رؤية ابتهاج الأطفال عند ارتدائهم الثوب الجديد، وإذا بها تسمع جلبة أصوات في فناء الدار، فأرهفت السمع، وسرعان ما تبينت صوت أبيها يتهدج بالغضب وعمها يجيبه بحدة، ثم انقلبت المحاولة إلى شجار عنيف وتقاذف بالتهم والعبارات الجارحة، فاضطرب فؤادها ونزلت مسرعة تبحث عن من يأتي بزوجها، إذ توقعت حدوث أمر رهيب، وشعرت بحاجتها لحمايته. ولكنها لم تكد تخطو خطوات حتى سمعت أباها يناديها بصوته الهائل الأجش فوقفت مذعورة لا تبدي حراكا. .
وسرعان ما وقعت على مسامعها كلمات كانت كالحكم عليها بالموت (هيا معي يا سمر. . ليس لك بقاء بعد اليوم في هذا البيت. . الترمل خير لك من العيش في هذا الجو الموبوء بالخداع واللؤم. . عمك يأبى إلا الاستيلاء على أطيب جزء من ميراث جدتك. . لقد أنذرته بفسخ زواجك من قبل إن هو أصر. .)
ولكن يا أبت. . ألا ننتظر عودة مراد؟. أليس له في الأمر شيء. .؟
له في الأمر شيء؟! ما هذا الجرأة يا بنية؟ أتجرئين على مجادلة أبيك ابتغاء مرضاة زوجك؟ - لا تزيدي حرفاً. انطلقي أمامي إلى دار أبيك.
أصابت الفتاة رعشة واعتراها دوار، فسارت أمامه متثاقلة وضاق أبوها ذرعاً بهذا البطء، فجذبها مسرعاً إلى حيث كانت بانتظاره المركبة. .
انطلقت الخيل تنهب الأرض نهباً، ولزمت الفتاة الصمت، بينما كان أبوها يصب جام غضبه على الحوذي ويتهمه بالبلادة والبطء ويتوعد باستعمال السوط!
تزاحمت الأفكار السوداء في رأس الفتاة الصامتة فداخلها الندم، لأنها تذوقت طعم السعادة، وودت لو أنها كانت تعسة في حياتها الزوجية، حتى كانت تفرح بالفرار منها والعودة إلى دار أبيها. . وأحزنها أنها لم تجد في حماتها شيطاناً مريداً، وأن زوجها لم يكن جبارا عتياً. .
وأخيراً عندما لاحت أبراج القصر خاطب الوالد فتاته بعطف إذ كانت قد بردت ثورة الغضب:
ألا تبتهجين بمرأى أمك يا سمر؟
ولما لم تنجح الفتاة في تكلف الانشراح خاطبها قائلا:
لا أشك في أن عمك قاسما وزوجك مراداً سيحضران إلينا خاضعين ذليلين عندما يشعران بفقدك، ولا أخالهما إلا قادمين قبل انطواء أسبوع واحد. .
ولكن مرت أسابيع واشهر، واكتملت دورة الأرض حول الشمس ومراد وأبوه لم يقدما، على أن الفتى كان يرغم إرغامًا على الخضوع لأبيه، إذ كان كالفتاة عبداً للتقاليد الجائرة.
وكانت الفتاة تتظاهر بالشجاعةوالابتهاج عندما شعرت بحزن أمها من اجلها. ولكن مجهود التكلف المضني والآلام المبرحة التي كانت تأكل قلبها سرعان ما أنهكت قواها وأفسحت
الطريق للمرض العضال الذي لا يعرف الرفق بالشباب ولا الجمال، ولما اشتد بها أشفق عليها ملاك الموت فأسرع لنجدتها وبسط على تلك النفس الطيعة الوفية جناح الرحمة الأبدية. .
أسماء فهمي
العلم يبحث عن الله
ترجمنا هذا المقال لكاتبإنكليزي بالعنوان المتقدم، وعنينا كل عناية بالمحافظة على معانيه وبإفراغها في قالب عربي أقرب ما يستطاع من القوالب الأصلية، ولزمنا هذه القوالب أحياناً إذ لم نجدها مختلفة عن العربية، لأننا كثيراً ما نرى الترجمة تخالف الأصل في المعاني وفي الألفاظ. وليس لذلك من سبب سوى مبالغة المترجم في تقريبها من العربية فتكون النتيجة شرودها عنهما جميعاً
جلست ذات ليلة شديدة البرد بجانب الأب رولند العالم اليسوعي عند قاعدة التلسكوب الكبير في مرصد ستونيهرست في آكام لنكشير.
ولم يكن هناك نور سوى وهج سيجارتينا وبعض النجوم المتلألئة التي كنا نرعاها من الشق المعقوف في قبة المرصد.
ولم يسمع حس سوى دوي الجهاز المعد لإدارة التلسكوب وجعل حركته مطابقة لدوران الأرض.
وكنت قد رأيت جبال القمر ومجموعة الكواكب الذرية المعروفة باسم الثريا. فجعلت الآن أمتع بصري بذلك السدام الغريب في برج الجوزاء، وأنا بين عاملين من الخوف والدهش مما لا تجلبه المناظر الأرضية.
فالتفت إلى صاحبي وقلت: (تعلم عن هذا الفلك المدار ما لا يعلم معظم الناس، لأنك قضيت ردحاً من عمرك في رصد النجوم فأصبحت لذلك أكثر إدراكاً منهم لصغر شأن الإنسان بالنسبة إلى سائر الكون. فان الأرض ليست سوى ذرة من الغبار وهي عائمة في الفضاء الخصم غير المحدود، والنوع الإنساني كله صغير القدر بالنسبة إلى قدر الأرض. فلست أفهم كيف تؤمن أنت من بين سائر الناس بالله واهتمامه بأناس مثلنا).
ولما فرغت من سؤالي هذا بقي القسيس العالم صامتاً هنيهة ثم قال:
(أفهم حقارة شأن الأرض لا حقارة النوع الإنساني ولا حقارة أرواح الناس).
فلم أحِرْ جواباًحينئذ، ولاجواب عندي الآن، لأني أدرك اكثر مما أدركت قبلاً أنه إذا كان العالم متديناً كان احسن ديناً لأنه عالم. وهو يرى حيثما كان أن البرهان يدعم إيمانه لا لأنه يحتاج إلى البرهان، ولكنه يسرّ إذ يجده هناك
طالعت منذ عهد قريب كتاباً اسمه (القصد الأعظم) وفيه فصول كتب كلا منها عالم
معروف، أبان في الفصل هذا كتبه إن يد الله وعقل الله وراء كل نظام ورقي في الطبيعة. وقد جاء في مقدمته (إن غرض الكتاب أن يبين أن العلم ليس بهادم للدين ولا بحال محله، بل انه يكشف له الحجاب عن عالم للغيب أوسع من عالم الشهادة هذا واجل شأناً فيضع بذلك أساساً اثبت للإيمان)
إن الكون بالرغم من عظم اتساعه وتعقد تركيبه وتعدد محتوياته إلى ما لا حد له هو جسم كلي عضوي متسق التركيب، ومصنوع من عناصر واحدة جوهرية، وخاضع لنواميس واحدة.
ومن أدلة النظام والعقل في الكون إن عقل الإنسان استطاع أن يستخرج هذه القواعد العظيمة العامة ويتوسل بها إلى بلوغ قوة الأنباء بالمستقبل. فهذا الكون كون مصحوب بالفكر واكثر من الفكر - كون يمثل روح واجب الوجود وغير محدود.
كتب البروفسور كروذر من جامعة رد نج فصلاً عن الإشعاع فعرفه بأنه (المادة الأساسية التي صنع الكون منها) فالنور والحرارة وأمواج اللاسلكية وأشعة اكس - هذه كلها صور للإشعاع واقعة تحت حسنا. والمادة نفسها مصنوعة من إشعاع مقيد بقيود كهربائية. قال:
(في زمان بعيد جداً اهتز ذلك الخلاء الفارغ فظهر فيه البروتون والإلكترون فتكون من بعضها تلك النظم الثابتة المعروفة باسم الجواهر الفردة التي صنعت المادة منها. وانحل البعض الآخر على مر الزمان إلى إشعاع صرف. وقد قطع العلم منذ ابتدائه أجوازاً كثيرة وكشف بقاعاً كثيرة كانت مجهولة، ودار دورته حتى جابه العلم الحديث سر عمل الخلق فلا يجد لوصفه كلاماً اكثر مطابقة له من قول الشاعر العبري (وقال الله ليكن نور فكان نور)(يريد بالشاعر العبري موسى الكليم)
وخذ البروتوبلازم - أي المادة التي تكونت الحياة منها. فقد عرف تركيبها الكيميائي، ولكننا لم نستطع تركيب الحياة: فالأميبا أدنى أنواع الحيوان وابسطها تركيباً مؤلفة من بروتوبلازم صرف، وهي قطرة صغيرة من المادة الجلاتينية تعيش في الماء. وقد حاول كثيرون أن يصنعوا الأميبا من المواد الكيمائية التي يتألف البروتوبلازم منها فعجزوا عن ذلك. فالمواد مضبوطة والنسبة بينها صحيحة والأحوال المحيطة بها ملائمة تمام الملاءمة، ولكن الشرارة الحيوية لاوجود لها، إذ الله وحده هو الذي يصنع الحياة.
قال البروفسور آرثر طمسن: (لامناص لنا من التسليم بالأولية التي وضعها أرسطو طاليس وهي انه في كل سلسة من الأعمال المتصلة لا يمكن أن يظهر في آخرها شيء لم يكن نوعه موجوداً في أولها. ولذلك فان عقلنا وقصة تحرره يقوداننا راجعين بنا شيئاً فشياً إلى العقل الأعظم الذي بغيره لم يكن شيء مما كان)
وبعبارة أخرى انه كيفما فحص العالم تركيب الكون ونواميس الطبيعة ونشوء الحياة حتى عقل الإنسان لم ير مفرا من التسليم بأن وراء القصد الأعظم يد الله.
ق. س
5 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
الشيخ محمد العباسي المهدي الحنفي
هو ابن الشيخ محمد امين، ابن الشيخ محمد المهدي الكبير الشافعي، كان جده المذكور من الأقباط، فأسلم على يد الشيخ العلامة محمد الحفني، وقرأ عليه وعلى أخيه الشيخ يوسف الحفني وغيرهما حتى صار من كبار العلماء، وترشح لرياسة الأزهر بعد الشيخ الشرقاوي ولكنها لم تتم له، وتولاها الشنواني، وقد أطال الجبرتي في ترجمته. ثم نشأ ولده الشيخ محمد أمين عالماً حنيفاً وتولى الفتوى بمصر زمناً، وتوفي سنة 1247.
وولد المترجم بإسكندرية سنة 1243 فقرأ بها بعض القرآن، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1255 فأتم حفظه، واشتغل بالعلم سنة 1256 فقرأ على الشيخ إبراهيم السقاء الشافعي، والشيخ خليل الرشيدي الحنفي، والشيخ البلتاني وغيرهم، ثم صدر أمر إبراهيم باشا بن محمد علي بتوليته إفتاء الديار المصرية في منتصف شهر ذي القعدة سنة 1264 وهو في نحو الحادية والعشرين من سنيه، ولم يتأهل بعد لمثل هذا المنصب الكبير، ويقال انه السبب في ذلك عارف بك الذي تولى القضاء بمصر، وكانت له الصلة بأبي المترجم. فلما ذهب إبراهيم باشا إلى القسطنطينية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر قابله عارف بك، وكان إذ ذاك شيخاً للإسلام وأوصاه خيراً بذرية الشيخ المهدي، وان يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه، فكان همه السؤال عنهم عودته لمصر، وطلب المترجم لحضرته فصادفوه في درس الشيخ السقاء يحضر مقدمة مختصر السعد، فركب إليه وهو بين الخوف والرجاء، ولما قابلة أثنى عليه لاشتغاله بالعلم، ثم أنباه بأنه ولاه منصب الفتوى بمصر، وعزل عنه الشيخ احمد التميمي الخليلي وخلع عليه خلعة هذا المنصب، ثم عقد له مجلساً بالقلعة حضره حسن باشا المنسترلي والشيخ مصطفى العروسي وغيرهما، فأقروا على إقامة أمين للفتوى يقوم بشؤونها حتى يتأهل صاحبها لها ويباشرها بنفسه، واختاروا له الشيخ خليلاً الرشيدي الحنفي بدل الشيخ علي البقلي أمين فتوى التميمي، ونزل المترجم من القلعة بموكب كبير من العلماء والأمراء ووفد الناس على داره للتهنئة، ومدحه الشعراء، فمن ذلك قول الشيخ محمد شهاب:
عز يا عزة الحمى أن تقاسي
…
بمهاة الصريم فيما تقاسي
ومنها قوله:
تب مفتي الهوى وتبت يداه
…
ضل شرعي نهجه والسياسي
فدعيه يا عز اصطباري
…
إن فتواه فتنة للناس
ولئن قلت أي فتوى البرايا
…
حكمت بالنصوص دون التباس
وارتضاها الزمان قل لي وأرخ
…
قلت فتوى مهديه العباسي
1264
وهي قصيدة طويلة ألحق بها هذه الأبيات الثلاثة مشيراً فيها إلى التميمي وإلى الرشيدي أمين الفتوى الجديد.
قلت لما أن تمبدر التميمي
…
واعتراه نقص الخسوف الشديد
رجع الدر بالفتاوى إلى ما
…
كان فيه من المكان المشيد
فلنعم الرشيد يا ابن أمين
…
ولنعم الأمين يا ابن الرشيدى
وروى الفاضل محمد أفندي التميمي في الترجمة التي جمعها لأبيه الشيخ احمد التميمي أن سبب عزله عن الإفتاء أحقاد قديمة كانت في صدر إبراهيم باشا منه بسبب معارضته له في أمور تخالف الشرع كان يريدها ويعارضه الشيخ فيها، فلا يجد بداً من الإذعان بسبب إقبال أبيه محمد علي على الشيخ، فلما تخلى عن ولاية مصر وتولاها إبراهيم كان اكبر همه عزله عن الإفتاء. انتهى.
ثم أكب المترجم على الاشتغال بالعلم خصوصاً الفقه حتى نال منه حظاً وفيراً، وجلس للتدريس بالأزهر لاقراء الدر المختار فقرأ منه إلى كتاب الطلاق وأكمل قراءته في داره، وقرأ الأشباه والنظائر في داره أيضاً، وباشر أمور الفتوى بعفة وأمانة وتدقيق وتحقيق، واشتهر بين الناس بالحزم والعزم وعدم وممالأة الحكام، وحسبك وقوفه في وجه عباس باشا الأول وتعريضه نفسه للتهلكة صيانة لما استودع من أمانة العلم، وسبب ذلك ان هذا الوالي أراد أن يمتلك جميع ما بيد ذرية جده محمد على مدعياً انه ورد مصر لا يمتلك شيئاً، فكل ما خلفه لذريته إنما هو من مال الأمة يجب رده إليها، ووضعه بيد أمينها المتولي شؤونها، واستفتى المترجم فلم يوافقه وأصر على الامتناع، ولم يحفل بوعيده وتهديده حتى طلبه فجأة
إلى بنها فسافر إليها وهو موقن بالهلاك، وكان معه عند طلبه الشيخ أبو العلاء الخلفاوي، فسافر معه لمؤانسته ومواساته، فلما وصلا قصر بنها روجع المترجم في الفتوى فأصر على قوله الأول، فأُمر بهما فانزلا إلى سفينة بخارية سافرت بهما ليلاً لنفي المترجم إلى أبى قير؛ واعتراه لشدة وجله زحير كاد يودي به وهو مع ذلك مصر على قوله، والشيخ أبو العلاء يهوُن عليه الأمر ويؤانسه بالكلام إلى أن صدر الأمر بإرجاع السفينة، وانزلا منها وأمرا بالسفر إلى القاهرة وسلم الله. فكانت هذه الحادثة سبباً لعلو المترجم في النفوس وأعظام الولاة فمن دونهم لشأنه؛ وتسبب منها إقباله على الشيخ أبي العلاء المذكور وسعيه له في المناصب التي تولاها وعظم بها أمره بعد ذلك.
ثم لما كانت سنة 1287 والمتولي على القطر الخديو إسماعيل باشا، وكان انحرف عن الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر، فأراد عزله ولكنه خشي الفتنة، لأنه شيء لم يقع من قبل لأحد من مشايخ الأزهر، فأخذ في جس نبض العلماء وسبر غورهم في ذلك، فهون عليه الشيخ حسن العدوى الأمر، وأوضح له انه وكيل الخليفة أن يعزل من يشاء والوكيل له ما للأصيل، فسر الخديو وبادر إلى عزل الشيخ العروسي في أواخر السنة المذكورة، وكان العدوى يطمع فيها، وما قال ما قال إلا توطئة لنفسه فأخلف الله ظنه، وصدر أمر الخديو في منتصف شوال بتولية المترجم والجمع له بين منتصب الإفتاء ومنصب الأزهر، فاستدعاه وخلع عليه وأنزله من عنده بالموكب المعتاد. فباشر شؤون منصبه بحزم وعزم وتؤدة وتعقل، وكان أول ما صدر منه سعيه لدى الخديو بإعادة ما كان لأهل الأزهر من المرتبات التي أبطلت زمن عباس باشا، فوافقه على ذلك وأعيدت المرتبات الشهرية والسنوية، ثم استصدر أمراً من الخديو بوضع قانون للتدريس، فأجابه إلى ذلك ووضع قانون الامتحان، وكانوا قبل ذلك لا يمتحنون بل كان من تأهيل للتدريس تصدّر له، فيحضر له، فيحضر أول درس له شيوخه وغيرهم من كبار العلماء، ويناقشونه فان وجدوه أهلاً أقروه وإلا أقاموه.
ولم يزل المترجم سائراً في طريقة المحمود، ملحوظاً بعين التبجيل من الحكام، وبين الخاص والعام، حتى ثارت الثورة العرابية المشهورة، ورأى فيه العرابيون أنه ليس بالرجل الذي يوافقهم ويساعدهم في مطالبهم، فكان من جملة ما طلبه عرابي باشا من
الخديو لما زحف بالجيش على قصر عابدين عزل المترجم من الأزهر، فعزل عنه المحرم سنة 1299، وتولى عليه بدله الشيخ محمد الانبابي، وانفرد هو بالافتاء، ثم تجسمت الفتنة وجاهر العرابيون بطلب عزل الخديو، وكتبوا قراراً بذلك اجبروا العلماء والوجهاء على التوقيع عليه، فامتنع المترجم من موافقتهم على ذلك، وقال لحامل القرار: أنا لا أوقع بيدي، فإذا كان في الأمر غصب فان خاتمي معه خذوه ووقعوا انتم بأيديكم كما تشاءون.
فانحرف عنه العرابيون وضايقوه وبثوا عليه العيون حتى احتجب في داره التي على الخليج بالقرب من مدرسة الفخري المشهورة بجامع البنات، وتحامى الناس زيارته، وصار لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه؛ ومرت عليه أيام وليال قضاها في انتظار حتفه في كل ساعة تمر به، حتى كانت الهزيمة الكبرى على العرابيين، وتشتت شملهم، وعود الخديو إلى مقر ملكه في 12 ذي القعدة من تلك السنة، فذهب المترجم فيمن ذهب للسلام عليه وتهنئته بالظفر، ودخل مع العلماء فخصه الخديو بترحيب ورعاية زيادة عمن معه من العلماء تقديرا لحسن بلائه في الإخلاص له مدة الفتنة؛ ولحظ الشيخ الانبابي شيخ الأزهر إغماضا عنه من الخديو، وخشي أن يعزله ليعيد العباسي، فقال بيدي لا بيد عمرو، واستقال بعد أيام؛ فأصدر الخديو أمره يوم الأحد 18 منه بإعادة المترجم إلى الأزهر، علاوة على منصب الإفتاء الذي بيده، ونصه موجها لرئيس النضار:
(انه بناء على استعفاء حضرة الأستاذ الشيخ محمد ألانبابي من وظيفة مشيخة الجامع الأزهر، ووثوقنا بفضائل وعالمية حضرة الأستاذ الشيخ محمد العباسي المهدي، قد اقتضت إرادتنا توجيه هذه الوظيفة لعهدته كما كانت قبلا، علاوة على وظيفة إفتاء السادة الحنفية المتحلي بها من السابق، وصدر امرنا للمومى إليه بذلك في تاريخه، ولزم إصدار هذا لدولتكم إشعارا بما ذكر في 2 أكتوبر سنة 82 الموافق 18 ذي القعدة سنة 99)
فتمت للمترجم رياسة الأزهر على رغم انف كثيرين، فان بعض علماء الأزهر سعوا لتنصيب الشيخ عبد الهادي نجا الابياري، وكتبوا كتابة بذلك واخذوا يوقعون عليها، ويطوفون بها علىالعلماء، فلم يشعروا إلا وقد فاجأهم الأمر بإعادة المترجم، وذهب سعيهم وتعبهم أدراج الرياح.
ثم استمر المترجم جامعاً للمنصبين قائماً بشؤونهما أتم قيام، حتى كانت سنة 1304 وفيها
بلغ الخديو أن جماعة من الأعيان والتجار مثل محمد باشا السيوفي، وأخيه احمد باشا يجتمعون للسمر بدار المترجم في اغلب الليالي، فيتكلمون في الأمور السياسية ويظهرون أسفهم من وجود الإنجليز بمصر، وموافقة الحكومة لهم فيما يحاولون، وغير ذلك من هذه الشؤون، فحنق الخديو أرسل لمحمد باشا السيوفي بالحضور فلم يجدوه، بل وجدوا أخاه احمد باشا، فحضر إلى القصر وقابل الخديو، فوبخه توبيخاً شديدا وقال له: يخيل إليً أنكم تريدون إعادة الثورة العرابية، فتبرأ من ذاك وحلف أن اجتماعهم لم يكن إلا بقصد السمر واللائتناس، ثم قابل الخديو المترجم في إحدى المقابلات الاعتيادية فلم يهش له كعادته، بل قال له وقت الانصراف: يا حضرة الأستاذ، الأجدر بالإنسان أن يشتغل بأمور نفسه، ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويجمع الجمعيات بداره. فلميجبه المترجم إلا بقوله: أطال الله عمر أفندينا وأدام عليه العافية، إنني ضعفت عن حمل أثقال الأزهر، فأساله أن يعفيني منه. ولم يكن الخديو يتوقع منه هذا الكلام، بل كان يظنه يجيب بجواب يصرف المسألة بسلام، فغضب وقال مستفهما: ومن الإفتاء أيضاً؟ فقال له نعم يا أفندينا ومن الإفتاء أيضاً، ثم انصرف.
ولم يكن المترجم ممن يعزب عنهم أن مثل هذا السبب لا يدعو إلى الاستقالة، وخصوصاً أن الخديو صرفه بالحسنى مع من اتهم معه، ولكن كان هناك سبب أقوى أغضب رئيس النظار نوبار باشا الأرمني، وذلك لحادثة رفعت عنها دعوى أمام المحاكم الأهلية، واستدعى الأمر طلب كشف وجه إحدى المخدرات للتحقق منها فامتنعت عن الأسفار محتجة بعدم جوازه في الشريعة، واستفتى المترجم في النازلة، فأفتى بعدم الجواز وشدد في المسألة؛ فشكا رئيس النظار للخديو وأوضح له أن الشيخ أصبح عقبة أمام القضاة معارضاً لأحكام القضاء؛ ويقال انه طلب منه إما أن يقيله من الوزارة، أو يعزل المترجم. فلما قال الخديو للمترجم ما قال تيقن أن المراد عزله فاستقال. فأمر الخديو يوم الثلاثاء 3 ربيع الثاني من السنة المذكورة بإعادة الشيخ محمد الانبابى للأزهر، وإقامة الشيخ محمد البناء للإفتاء.
وبقى المترجم بداره التي على الخليج واشتغل بإصلاح قسم منها تشعث فأعاده إلى رونقه الأول، وصبغ حيطانه بالأصباغ، وهو القسم المطل على الخليج، وصار يمضي وقته بالنظر في شؤونه الخاصة والاشتغال بالعلم، إلى أن أعيد إلى الإفتاء فقط في. . .
فبقى به إلى وفاته، وأصيب في آخر أيامه بفالج وهو يتوضأ لصلاة الجمعة أبطل حركته، ثم تعافى قليلاً وصار يخرج في عجلته للتنزه بدون فرجية بل بعباءة بيضاء من الصوف، وأشير عليه بالإقامة بحلوان لجفافها، فانتقل إليها وأقام بها برهة لم يستفد فيها شيئاً، فعاد لدارهبالقاهرة، ووافته منيته في الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء 13 رجب سنة 1315 عن اثنتين وسبعين سنة، بعد أن لازمه المرض نحو أربع سنوات، فأذن له على المآذن، وحزن الناس لموته حزناً شديداً، وتكاثرت الجموع على داره لتشييع جنازته، فقيل إن عدد المشيعين بلغ نحو أربعين ألفاً، والمصلين عليه نحو خمسة آلاف، ثم دفن بقرافة المجاورين في زاوية الأستاذ الحفني جنب أبيه وجده، ورثاه كثير من الشعراء جمعت مراثيهم في رسالة ألفها الشيخ عثمان الموصلي نزيل القاهرة، وسماها (المراثي الموصلية في العلماء المصرية)، لأنه أضاف إليها ما رثي بها الشيخ عبد الرحمن الرافعي مفتي الإسكندرية، والشيخ سليم القلعاوي شيخ مسجد القلعة، والشيخ محمد المغربي المتوفون هذه السنة أيضا.
وكان المترجم رحمه الله ربعة إلى الطول، مليح الوجه، منور الشيبة، معتدل القامة، ذا هيبة ووقار، مات عن ثروة طائلة وولدين هما الشيخ عبد الخالق المهدي والشيخ أمين، ماتا بعده الواحد تلو الآخر. ولم يؤلف من التأليف سوى مجموع فتاواه الذي سماه (الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية)، طبع بمصر سنة 1301 في ثمانية أجزاء كبار. وعاش في عز وتبجيل مدة حياته، وتولى الإفتاء مدة إبراهيم باشا وعباس باشا الأول وسعيد باشا وإسماعيل باشا وتوفيق باشا، أي أربعين سنة من سنة 1264 إلى سنة 1304 لم يعزل فيها، فلم تحفظ عليه بادرة خطأ أو مخالفة للشرع، وسبب ذلك انه تولاه وهو صغير والعيون شاخصة إليه، فكان لا يفتي فتوى إلا بعد المراجعة والتدقيق والتعب الكثير، فحصلت له بذلك ملكة فيه حتى صار معدوم النظير، لا يجاريه مجار في هذا المضمار وأضيف إلى ذلك ما كان عليه من التقوى والتشدد في أمر الدين، حتى كانت مواقفه أمام الولاة لا تزيده إلا رفعة في عيونهم لعلمهم أنه لا يريد إلا نصرة الحق، فأحبوه وأغدقوا عليه بالإنعام. ومن مواقفه غير ما ذكرناه أن الخديو إسماعيل باشا أراد مره ان يستولي على الأوقاف الأهلية ويعوض عنها أهلها ما يقوم بمعاشهم، فاستفتاه في ذلك فتوقف، وأفتاه بعضهم بالجواز، فتكدر منه وجمع بينه وبين مخالفيه، فناظرهم وفاز عليهم بعدما ألفوا
رسائل في الحادثة وأكثروا من الجلبة. ولم يقتصر الولاة على مشاورته في الأمور الدينية المختصة بمنصبه، بل كانوا يستشيرونه في غيرها من معضلات الأمور لما عرفوه فيه من سعة المدارك وجودة الرأي، حتى أن إسماعيل باشا لما عزل عن مصر قال لولده توفيق باشا فيما أوصاه به: احتفظ يا بني بالشيخ المهدي فأنه رجل لا نظير له. وبالجملة فمحاسن المترجم كثيرة، ولم يكن فيها ما يشينه، سوى ما كان يرميه به بعض شانئيه من الإمساك والتقتير، ويضعون عليه النوادر الخارجية عن حد المعقول، والمعروف عنه المشاهد للقاصي والداني أن داره كانت مفتوحة للصادر والوارد، لا تخلو مائدته يوماً عنهم، وحسبنا أنه كان يخرج زكاة أمواله كل سنة ويفرقها على المستحقين رحمه الله رحمة واسعة وأكثر في الأمة من أمثاله.
وكان حائزاً لكسوة التشريف من الدرجة الأولى، ومنحه الخديو عباس باشا الثاني الوسام العثماني الأول في 21 صفر سنة 1310 وهو شيخ الأزهر الشيخ محمد الانبابي، وقاضي القضاة جمال الدين افندي، وسبب ذلك ان السيد توفيقاً البكري نقيب الأشراف سافر في هذه السنة إلى دار السلطنة، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، فلما بلغ مسامع الخديو أحب أن لا يكون ممتازاً من كبار الشيوخ وهم القاضي والمفتي وشيخ الأزهر، فأنعم عليهم بهذا الوسام، وأرسل إلى السلطان ملتمساً الأنعام على المفتي وشيخ الأزهر برتبة قضاء عسكر الأناضول، وعلى القاضي برتبة قضاة عسكر الرومللي، لأنه كان حائزاً لرتبة الاناضول، لكن طلبه لم يصادف قبولاً.
أحيل على المترجم قديماً أمر انتقال القضاة الشرعيين والمفتين الذين يقامون في ولايات القطر ومراكزه، فكان يختار ذوي الكفايات يتحرى فيهم النجابة والذكاء والديانة، ويحامي عنهم لدى الحكام، ويشد أزرهم، فحصل له بذلك مقام لدى أهل العلم المرشحين لهذه المناصب، وقصدوه ووجهوا وجوههم شطر داره، وهو مع ذلك لا يميل مع الهوى في تنصيبهم، ولو كان ممن يمد اليد لجمع من هذا الوجه شيئاً كثيراً، ثم رأت الحكومة أن يكون أمر تنصيبهم منوطاً بلجنة تؤلف من بنظارة الحقانية برياسة وكيلها إذ ذاك بطرس غالي باشا، وعرضوا على المترجم أن يكون من أعضاء تلك اللجنة فأبى.
وكان له في المحاماة عن أهل الأزهر ومساعدتهم القدح المعلى، ونروي عنه مواقف في
ذلك: منها أن الشيخ مصطفى العروسي مدة توليه على الأزهر استصدر من الخديو إسماعيل باشا أمراً بنفي الشيخ حسن العدوى إلى أسنا وكاد ينفذ فيه لولا أنه استغاث بالمترجم فقام بناصره وذهب للخديو مستشفعاً، ولجّ وألحّ حتى عفى عن الشيخ.
الأديب الحائر
قصة تمثيلية للأستاذ توفيق الحكيم
للدكتور طه حسين
لم يكتبها بعد، ولست ادري إن يرد أن يكتبها أم لا؟ ولكن الشيء الذي لاشك فيه هو انه قد مثلها ومثلها تمثيلاً رائعاً، احب أن تشعر بروعته في هذا الحديث الذي أسوقه اليك، ولست آسف إلا لشيء واحد، وهو أنك ستشعر بهذه الروعة جملة وفي وقت قصير هو وقت نظرك في هذا الحديث، على حين شعرت أنا بهذه الروعة واستمتعتُ بلذتها الفنية تفصيلاً وفي وقت طويل، يبلغ العام أو يكاد يبلغه.
ولم يمثل الأستاذ توفيق الحكيم قصته هذه التي لم تكتب بعد، في ملعب من ملاعب القاهرة المعروفة، ولو قد فعل لشهدتها أنت وغيرك من الناس من النظارة. فأي الناس يستطيع أن يتخلف عن شهود قصة للأستاذ توفيق الحكيم يمثلها بنفسه، ويشترك معه في هذا التمثيل جماعه من المصريين المعروفين، أنا أحدهم. لم يمثلها إذن في ملعب ضيق محدود، وإنما مثلها في ملعب واسع جداً بعيد الأقطار والآماد هو ملعب الحياة. وما دام لم يمثلها في ملعب معروف، ومادام لم يخرجها للناس في كتاب، فأنا بالطبع عاجز عن أن أحدثك برأي النقاد فيها. لأن النقاد أو لأن كثرة النقاد لم يشهدوها.
وأنا أريد أن أحتاط فلا أحدثك برأي في هذه القصة، من جميع وجوهها وأنحائها لان الحر شديد، ولأن للحر الشديد تأثيراً في نفس الأستاذ توفيق الحكيم وقلمه. والناس جميعاً يعلمون أنى محبٌ للأستاذ معجب بقلمه، وأقل ما يوجبه على الحب والإعجاب أن أكون رفيقاً شفيقا، حين يشتد القيظ ويخشى من شره على الرؤوس والنفوس والأقلام. وهذا العنوان الذي وسمت به هذه القصة لا يعدو أن يكون اقتراحاً قد يعدل عنه الأستاذ توفيق الحكيم إن خطر له أن يكتب قصته فما ينبغي لمثلك ولا لمثلي، بل ما ينبغي لخير منك ولا خير مني، أن يقترح على الأستاذ أو ينصح له، فالأستاذ اكبر من ان يقترح عليه مقترح، وأن ينصح له ناصح، مهما يكن مخلصاً أميناً.
وما دامت هذه القصة لم تمثل في ملعب محدود، ولم تخرج للناس في كتاب، فان نظامها وترتيب فصولها وتنسيق مناظرها وما يكون بين أشخاصها من حركاتُ متكلفة، وحوار
مصطنع، كل ذلك مشكوك فيه، قابل للتغيير والتبديل، إن أراد الأستاذ توفيق الحكيم. وإنما الشيء الوحيد الذي لاشك فيه هو هذا الهيكل الذي تقوم عليه القصة ان صح هذا التعبير، فهذا الهيكل يفرض نفسه على الأستاذ الأديب وعليّ أنا الناقد المسكين فرضاً، لأنه شيء لا تملك له تغييراً ولا تبديلاً، شيء قد كان وليس للإنسان حيلة في تغيير ما كان، حتى ولو كان هذا الإنسان أستاذنا وكاتبنا الأديب توفيق الحكيم.
أما الفصل الأول من هذه القصة كما كانت لاكما ستكون يوم يكتبها الأستاذ توفيق إن أراد، فيقع في العام الماضي في أوائل الربيع في حجرة من حجرات البيت الذي كنت اسكنه في هليوبوليس. إذ يقبل علي صديقان يحبان الأدب لأنهما أديبان، ويعجبان بالأستاذ توفيق الحكيم لأنه أديب. وهما يتحدثان إلى عن هذا الأستاذ الذي لم أكن أعرفه ولا سمعت من حديثه شيئاً. فيثنيان عليه بما هو أهله، أو بما هو أهل لأكثر منه، ثم يدفعان إلى كتاباً وضعه الأستاذ توفيق الحكيم، وكان يود أن يهديه إلي بنفسه لولا أنه لايعرفني، ولايريد أن يلقاني حتى اقرأ كتابه وأكون لنفسي رأياً فيه، ثم يقصان عليّ الكثير من أطواره الغريبة حتى يثيرا في نفسي الشوق إلى لقائه، وإلى النظر في كتابه، فإذا انصرفا اقبل صديق ثالث فلا أكاد أحدثه بما كان من أمر الصديقين حتى يثني على الكاتب ويثني على الكتاب، ويزعم لي انه قرأ الكتاب مخطوطاً قبل أن ينشر، لأن صاحبه لا ينشر شيئاً حتى يستشير فيه أصدقاءه، وينبئني كذلك بأن هذا الكتاب لم ينشر إلا نشراً ضيقاً، لأن صاحبه يريد ان يعرف رأي المثقفين قبل أن يعرض نفسه على كثرة القراء.
فإذا كان الفصل الثاني فقد أخذت اقرأ في الكتاب فأرضى عنه، ثم أعجب به، ثم أكتب عنه فصلاً في (الرسالة) أسجل فيه هذا الإعجاب، وذلك الرضى، وملاحظات يسيرة لا بأس منها على الكاتب ولا على الكتاب. وما يكاد يلقى الستار على هذا الفصل، ويستريح النظارة في وقت الراحة بين الفصول، حتى أتلقى رسالة برقية ملؤها الشكر وعرفان الجميل ومصدرها الأستاذ توفيق الحكيم.
ثم يكون فصل ثالث والخير في ألا نقسم القصة إلى فصول، بل إلى مناظر يتبع بعضها بعضاً، وليعذرنا الأستاذ توفيق الحكيم فنحن لا نحسن الكتابة في التمثيل. يكون منظر ثالث أو رابع لا أدري، وإذا الأستاذ توفيق الحكيم قد سعى إلى من إقليمه الذي كان يعمل فيه،
وهو يشكر لي تشجيعي له، ويغلو في هذا الشكر ثم يلقى أموره الأدبية كلها إلي، ويطلب مني أن أكون له مرشداً وحامياً، فأقبل منه هذا كله سعيداً به، مبتهجاً له، وأتحدث إلى الأستاذ حيث الصديق المحب المعجب، ويتكرر هذا المنظر مرات كلما اقبل الأستاذ من إقليمه الذي كان يعمل فيه إلى القاهرة ليقضي فيها بين أصدقائه يوماً أو يومين، والحديث والود يتصلان ويشتد اتصالهما بيننا وتظهر آثار هذا الاتصال فيما يكون من كتب تنشرها لنا (الرسالة)، ومن لقاء يشهده الأصدقاء. ثم يكون منظر آخر من هذه المناظر الكثيرة التي سيؤلف الأستاذ منها قصته إن أراد. نجتمع فيه مع أصدقاء لنا يعرفهم الأستاذ، ونتشاور في أمره هو لا في امرنا نحن، فهو يريد إن ينتقل من الأقاليم إلى القاهرة، لأنه ضيق بحياة الريف التي لا يجد فيها ما يلائمه من البيئة المثقفة المتحضرة وما يحتاج إليه من الكتب، ولأنه يلقى فيها بعض العناء، فحياة وكلاء النيابة في الأقاليم مضنية شاقة، وفي وزارة المعارف عمل قد يلائمه وهو يميل إلى هذا العمل، ولكني أنا لا أميل إليه، وأنا أوافق على ان بيئة القاهرة وحياتها خير للأستاذ من بيئة الأقاليم وحياتها، ولكني أشفق عليه من وزارة المعارف لأني اعلم الناس بوزارة المعارف، ولاني واثق بأن الهواء الذي يملأ غرفاتها وحجراتها لا يلائم حياة الأديب المنتج وإنما هو هواء خانق لكل أدب ولكل إنتاج. والأستاذ وأصدقاؤه يلحون في العرض وأنا ألح في الرفض، ثم اقترح مكاناً آخر يستطيع الأستاذ أن يعيش فيه عيشة تلائم الإنتاج الأدبي، فيظهر أن تحقيق هذا الاقتراح غير ميسور، ثم يلقى الستار ويتم انتقال الأستاذ من الريف إلى القاهرة في هذه الراحة التي تكون بين الفصول، ثم يكون منظر آخر أو مناظر أخرى نجتمع فيها لنقرأ بعض الكتب التي يريد الأستاذ إخراجها للناس، ومنها شهرزاد.
فالأستاذ شديد الشك في نفسه، ضئيل الثقة بفنه، لا يظهر آثاره إلا إذا أقرها أصدقاؤه الأقربون. وهو لا ينشر فصلاً في (الرسالة) إلا إذا قرأته وأذنت بنشره. وهو لا يرى أنه قادر على أن يحتمل وحده تبعة الإذاعة والنشر. ثم نقر من هذه الكتب ما نقر، ونرجئ منها ما نرجئ ونتحدث عن أهل الكهف وعن طبعة ثانية تذاع بين الناس. فاقترح أنا أن أقدمها إلى الجمهور فيظهر الأستاذ وأصدقاؤنا الرضا بذلك والابتهاج له، ثم يلقى الستار ويرفع وقد تمت الطبعة الثانية من أهل الكهف، وأبطأت أنا بالمقدمة أسبوعين أو نحو أسبوعين.
فينشر الكتاب بغير مقدمة، وبغير أن يتحدث إلى أحد في ذلك، فيسوءني ذلك بعض الشيء فيسعى إلي الأستاذ في منظر جديد، ويعتذر إلي بمحضر من بعض الأصدقاء، فأسمع منه وأبسم له وأتجاوز عن استعجاله، وينصرف راضياً. فإذا أصبحت تلقيت منه هذا الكتاب باللغة الفرنسية وأنا أترجمه فيما يأتي:
أنا محزون حقاً. فقد فكرت، فإذا خطيئتي بديهية: فقد كان يجب على الأقل أن أستشيرك قبل أن أخرج كتبي.
فماذا ترى في موقفي منك؟ ويزيدني حزناً لطفك حين تجاوزت في سهولة وكرم عن كل هذا.
إنما أنت في حقيقة الأمر فنان كبير، فنان حقاً وإني لأعترف بأني لم امنح هذه النفس، ولست أنا خليقاً بالفن ولا بك.
واليك الآن ما تمت عزيمتي عليه إذا احتفظت بغضبك على فسأعرض عن كل حياة أدبية.
وتقبل
ت. الحكيم
وأخشى أن أكون قد أسأت الترجمة فأنشر معها النص الفرنسي لهذا الكاتب الكريم:
، -
- ? ' ، ' ' '
، ' ' ' ،
ثم يكون منظر آخر يراني الله فيه حزيناً أسفاً ومشفقاً جزعاً لأني صدقت هذا الكلام، وخفت أن يكون صاحبه جاداً فيه فأنكرت من نفسي ما أظهرت من غضب، وهأنذا أسرع إلى التليفون فألتمس صاحبي في مظاله كلها، حتى يصلني به التليفون، فأداعبه ألاعبه، وأترضاه، وأتلطف له، وأقبل منه، وأهدي إليه حتى يرضى. وتطمئن نفسه الثائرة أو التي كنت أحسبها ثائرة، ويهدأ قلبه المضطرب أو الذي كنت أظنه مضطرباً، ويستريح ضميره المتعب أو الذي كنت أراه متعباً.
ثم تكون مناظر أخرى تجرى الحياة فيها بيننا كما تجري بين الأصدقاء الذين تؤلف بين قلوبهم المودة والحب والإعجاب، الا منظراً واحداً انكرته، ولكني لم اظهر إنكاري له، كان في مجلس لنا بغرفة من غرفات لجنة التأليف وكنا كثيرين، وكنا نتحدث عن الكتاب والشعراء المحدثين، وعن أصحاب القصص خاصة، وكنت أريد ان أعنى بآراء هؤلاء الكتاب والشعراء وان أتبين وأبين للناس مالهم من المحاسن والعيوب او ما أرى لهم من المحاسن والعيوب. وهنا يثور ثائر الصديق الأديب ويأبى لي العناية بهذا الأدب الحديث لأنه لا يصلح أن يكون أدباً حديثاً أو قديماً، ولأن الطابع الفني الصحيح ينقصه، فنختلف في ذلك ونفترق على غير اتفاق؟
ثم يكون منظر آخر وما اكثر هذه المناظر التي ستتألف منها هذه القصة، والتي ستقيم لأصدقائي ولخصومي أدلة قاطعه على أني من المكر والدهاء والحذر بحيث يظنون. أراني في حجرة من حجرات البيت الذي أسكنه الآن في الزمالك، وقد أقبل الصديق الأديب ومعه اثنان من أصدقائنا، وكنا على موعد لنقرأ فصلاً كان الصديق الأديب يريد أن ينشره في الرسالة. ولكن أصدقاء آخرون قد اقبلوا، وليس يعنيهم أن يقرأوا آثارنا الأدبية أو يسمعوها قبل أن تذاع فنتحدث إليهم، ونسمع منهم، ويطول الحديث حتى إذا تمت الساعة التاسعة انصرف الأصدقاء، وبقينا نحن فنقرأ الفصل على طوله، ونحاور فيه، ثم لا نفترق حتى تنتصف الساعة الحادية عشرة، وشهد الله لقد كان في بيتي تلك الليلة مرض هو آثر عندي من ألف أدب وأدب ومن ألف أديب وأديب، ومن الحياة والأحياء جميعاً، فما ترددت مع ذلك في أن أسمع، وأحاور، وأقترح التغيير والتبديل، كما لو كنت مستريحاً فارغ البال:
ثم تكون مناظر أخرى أسمع في بعضها اللوم لأني احب توفيق الحكيم واقرأ في بعضها الشتم لأني اكبر توفيق الحكيم، وأنا أبسم للوم اللائمين، وأضحك لشتم الشاتمين، لأني لم أحب هذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الحب، ولم أعجب بهذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الإعجاب:
ثم أكتب إلى المصور فصلاً عن الأدب التمثيلي في مصر فلا يكاد ينشر حتى يتحدث إلي من يتحدث بأن الكاتب الأديب مغضب من هذا الفصل لأني لم أنصفه فيه، ولأني زعمت أن قصصه التمثيلية على جمالها وروعتها قد لا تلائم الملعب المصري. فلا أحفل بحديث المتحدثين، ولا بنقل الناقلين، واقرأ في المصور بعد ذلك رداً من توفيق فيه عوج كثير
فأقوم هذا العوج مداعباً لصاحبه، ملاطفاً له، ثم يبلغني أنه قد سعى إلي في بيتي مساء الاثنين الماضي فلما لم يجدني فيه ترك لي تحيته ومودته وانصرف. ثم أكتب عن شهرزاد، فلا يكاد يظهر حديثي عن شهرزاد حتى أتلقى من صديقي توفيق هذا الكتاب صباح الخميس. لا يحمله إلي البريد، وإنما يحمله ساع خاص ولا يكتبه توفيق بخطه وإنما يضربه على الآلة الكاتبة ضرباً، ويتفضل الصديق فيمضيه بخطه. ولست اعرف آية في الأدب والمودة والوفاء وصدق الرأي في الأدب والنقد، والصلة بين الكتاب والناقدين تشبه هذا الكتاب. ولا غرابة في هذا، فتوفيق قد عاهدنا على ألا يكتب إلا كان مبدعاً مبتكراً. وأنا أنشر نص هذا الكتاب لأنه سيكون باقياً على الدهر، ولأنه سيقع من الكتاب والناقدين في هذا العصر موقع تلك الوصية التي زعموا أن عبد الحميد قد أذاعها في الكتاب القدماء آخر أيام بني أمية.
قال الصديق توفيق الحكيم:
عزيزي الدكتور طه حسين
يظهر أني سيئ الحظ معك أو أنك سيئ الحظ معي هذا الأسبوع، فلقد قرأت مقالك عن شهرزاد وما أحسبنا تلاقينا فيه عند رأي، فأما قولك أنى أدخلت في الأدب العربي فناً جديداً وأتيت بحدث لم يسبقني إليه أحد، فهذا إسراف سبق لي أن أشرت إليه في خطاب مني إليك عن أدب الجاحظ ذكرت فيه يومئذ أن للجاحظ ملكة في إنشاء الحوار تذكرنا ببعض كتاب المسرح من الغربيين. فما أنا إذن بمبتدع وإنما أنا أحد السائرين في طريق شقه الشرق من قبل. وأما نصيب قصصي من البقاء فلست اعتقد أن لنا قد معاصر حق الجزم به، وما بلغت من البساطة حد تصديق ناقد يتكلم في هذا. فان الزمن وحده هو الكفيل بالحكم للأعمال بالبقاء. فأنا كما ترى لا اسمح لنفسي بقبول مثل هذا الثناء. كذلك لست اسمح لأحد أن يخاطبني بلسان التشجيع، فما أنا في حاجة إلى ذلك، فإني منذ أمد بعيد اعرف ما اصنع. ولقد أنفقت الأعوام أراجع ما أكتب قبل أن انشر وأذيع. كما أنى لست في حاجة إلى أن يملي علي ناقد قراءة بعينها، فإني منذ زمن طويل اعرف ماذا اقرأ. وما أخالك تجهل إني قرأت في الفلسفة القديمة والحديثة وحدها ما لا يقل عما قرأت أنت: - وما أحسبك كذلك تجهل أني اعرف الناس بما عندي من نقص، واعلم الناس بما احتاج إليه
من أدوات، فأرجو منك أن تصحح موقفي أمام الناس وألا تضطرني إلى أن أتولى ذلك بنفسي.
توفيق الحكيم
وأنا أسرع قبل كل شيء إلى تصحيح موقف توفيق لا أمام الناس، بل أمام نفسه وأمام رؤسائه في وزارة المعارف. فقد كنت أشفق عليه من هؤلاء الرؤساء كما كنت أشفق عليه من نفسه إذا اتصل بهؤلاء الرؤساء. فالذين يعملون في وزارة المعارف لا ينبغي أن تظهر الصلة بينهم وبيني، لان هذه الصلة خطرة حقاً. وما رأيك في قوم يعملون في هذه الوزارة ثم يتصلون برجل لا يزال من يوم إلى يوم ينال هذه الوزارةورؤساءها بالنقد الشديد. وأؤكد لصديقي توفيق إني لم انشر كتابه هذا إلا تصحيحاً لموقفه أمام رؤسائه وأمام نفسه، فسيعلم رؤساؤه منذ اليوم انه قد أساء إلي عمداً وفي غير ما يبيح الإساءة، وانه قد قطع ما بينه وبيني من صلة، وانه قد سجل هذه القطيعة في كتاب، أني قد سجلت هذه القطيعة في صحيفة سيارة. ليشيع أمرها بين الناس. واضن أن رؤساءه منذ اليوم سيرفقون به، ويعطفون عليه، ويحسنون الرأي فيه. وأظن انه سيحس منهم ذلك فيطمئن على منصبه ويستريح إلى رضى رؤسائه عنه، ويبتسم له الأمل بالمستقبل القريب والبعيد.
والآن وقد صححت موقف توفيق أمام نفسه وأمام رؤسائه أريد أن أصحح موقفه أمام الناس وأمام الأخلاق وأمام الأدب أيضاً. فموقفه أمام هؤلاء جميعاً في حاجه إلى تصحيح لم يخطر لصديقنا ببال فيما يظهر لانه كان مشغولاً بنفسه ورؤسائه، ولعله كان مشغولاً بذلك القيظ الشديد، الذي أخرج كثيراً من الناس عن أطوارهم منذ أيام.
فأما قول توفيق إني قد أسرفت حين زعمت انه احدث بالأدب العربي حدث لم يسبقه إليه احد، فإني احمده له وإني كنت اعرف أن هذا الكلام كان يرضيه، وانه كان يحب أن يسمعه وأن يقرأه قبل هذا الأسبوع الذي هاجمت فيه وزارة المعارف مهاجمة عنيفة، ومن الحق انه تحدث إلي بان للجاحظ ملكة حوار ولكن من الحق أيضاً أنه نبهته إلى أن الحوار شيء والتمثيل شيء آخر، وإلى أن الكاتب يستطيع أن يكون محاوراً مجيداً دون أن يبلغ من التمثيل شيئاً. فإذا كان الجاحظ قد أتقن الحوار وبرع فيه فلا ينبغي أن يفهم من هذا بحال أن الجاحظ قد عرف التمثيل أو ألم به أو كان يمكن أن يخطر له التمثيل على بال. وانه
لمن المؤلم حقاً أن احتاج إلى أن أسوق مثل هذا الكلام إلى كاتب أديب كتوفيق قرأ من آثار القدماء والمحدثين مثل ما قرأت على الأقل.
وأما أن توفيقاً ينكر على أن احكم لقصصه بالبقاء، فهذا إسراف منه كثير، فنحن الناقدين أحرار فيما نعرف من ذلك وما ننكر، وفيما نثبت من ذلك وما نمحوه، ومادام الزمان هو الحكم الأخير في هذا كله فيما يضير صاحبنا أن نحكم له أو أن نحكم عليه. واغرب من هذا كله أن يرفض توفيق ما أهديت إليه من ثناء، فليعلم إني لم اهدِ الثناء إلى شخصه ليرفضه أو يقبله، وأن شخصه لا يعنيني إلا قليلاً منذ الآن، وإنما أهديت الثناء إلى فنه ومازلت أهديه اليه، ولن يستطيع هو أن يرده. وكنت احب له أن يرفق بين شخصه الفاني وفنه الباقي.
وأما أنه لا يسمح لأحد أن يحدثه بلغة التشجيع فقد كنت أحب أن يكون أذكى في حياته العملية من أن يشارك رئيس الوزارة في لغته، (فلا أسمح) هذه كلمه يملكها رئيس الوزراء القائم وحده. ولكن الذي يجعل نفسه دولة لا يتردد في أن يستعير لغة الوزراء وهو بعد حر في أن يسمح أو لا يسمح فسنشجعه على رغم منه، لأن فنه يستحق التشجيع، ولأن واجبنا الأدبي يفرض علينا تشجيع المجيدين فرضاً. وأما أنه لا يسمح لأحد بأن يدله على ما يقرأ، وأنه قرأ في الفلسفة القديمة والحديثة مثل ما قرأت على الاقل، فإنني احب أن يعلم أن ما قرأته لا يرضيني لنفسي ولا لغيري، وإني ابذل ما أملك من جهد لأقرأ أكثر مما قرأت ومما قرأ غيري. وأسأل الله أن يقيني وأن يقيه شر الغرور، فهو مهلك للنفوس حقاً. وأما انه اعرف الناس بما ينقصه، وأعلم الناس بما يحتاج إليه من الأدوات وانه لا يحتاج مع ذلك إلى نقد ناقد، فهذا رأيه في نفسه منذ الآن ولا يشرفه ولا يرفع منزلته عند أحد. أما أنا فأرى لنفسي الحق في أن أدل كل كاتب يخرج للناس كتاباً على رأي فيما ينقصه وفيما يحتاج اليه، وهو حر في أن يقبل أو يرفض، ولكني حر كذلك في أن أقول له ما أريد.
أما بعد، فهل صححت موقف توفيق أمام الناس، أم هل ما يزال مضطراً إلى أن يصححه بنفسه؟ أحب أن يعلم توفيق إني لن أرد عليه بعد الآن، ولن أحفل به إلا يوم يخرج لنا كتاباً نقرؤه، ويومئذ سأعلن رأيي في هذا الكتاب سواء رضى توفيق أو سخط، وأنا أرجو أن يكون رأي في كتبه المقبلة حسناً كرأيي في أهل الكهف وشهرزاد. وأرجو بعد هذا كله
أن يتدبر الكتاب والشعراء هذه القصة التمثيلية فان فيها عبراً وعظات، وأن أمثالها مع الأسف في مصر ليس بالقليل.
طه حسين
من طرائف الشعر
عطيل
للأستاذ فخري أبو السعود
قليل رقاد الليل نابي المضاجعِ
…
يبيت على مضٍّ من الشك لاذعِ
على حُرَقِ: لا الظن قاتلُ حُبِّهِ
…
ولا حُبُّهُ للظن عنهُ بِدَافِعِ
دجا عَيْشُهُ جَرّاَء من كان ذكرهُا
…
ضياءًَ له في داجيان المعامعِ
أطاع مقالاً للحسود أهاجه
…
ولم يك لو قال النصيحُ بِطَائع
يقول: إِذَنْ قد نازعتْها صبابةٌ
…
وغَىُّ فألقَتْ قيدَها للنوازع
وأصبحَ عِرضي في بني الرُّوم مُثْلَةً
…
وهُزْأةَ مِهْذَارٍ وَمَلْهاةَ صافِع
جَزَائَيِ هذا: إنني كنت غافلا
…
فأقحمتُ نفسي في وخيم المراتع
حسبتُ قلوبَ الغيدِ بالبأس تُستَبَي
…
وتُملك بالبِيض الخفاف القواطع
جَزَائَيِ عَدْلَا: مالمِثْليِ وللهوى؟
…
لقد قذفتْ بي في المرامي مطامعي
ولم يك وجهي للحسان بفاتن
…
ولا لونُ جلدي في الغرام بشافعي
ألا ليتني لم ألق أشْرَاكَ حُسْنها
…
فقد كنتُ في أشراكها شَرَّ واقع
ألا ليتني لم أدِْر أنباَء بغيِها
…
وكفَّتْ جفوني دونه ومسامعي
لقد أنكرتْ خَلْقي وضاقت بِكَبْرتي
…
ومنظر شَيبْاتٍ برأسي طَوَالع
وماسَرَّها أني بلوْنَي مُعْلَمٌ
…
لَدَى الحرب بَطَّاشٌ بكل مُقارع
ولاغُدُوَاتى في البحار زواخراً
…
ولا دَلجَاتي في الفَلا والبلاقع
ولا أَوبتى بالغار في كل موكب
…
ولاخطرتي بين السيوف السَّوَاطع
فلم يَثْنها عهدٌ وجٌنَّ جنونُها
…
بغَضِّ الصِّبا من قومها الصُّفرِ يافع
سباها بطبع منه هَيْنٍ ومنظرٍ
…
طَرِيرٍ وخلاَّبٍ من القول رائع
تهيم به دونى وإن يك خادمي
…
وتمنحه حقَّي وإن يك تابعي
ولم يَبقَ لي في قلبها اليومَ موضعٌ
…
وما كان فيه أمس إلا مَوَاضعي
نعم هي تلقاني بنظرة مُغْرَمِ
…
وبسمةِ مفتونٍ وعَطفةِ خاشع
نعم وَهْيَ تسقيني خَدُوعَ رُضابها
…
كما مَجَّت الأفعى الخَؤُونُ بناقع
وتوهمني الطُّهْرَ الذي يدعينه
…
وليس سوى آلٍ بصحراَء لامع
وتُوشك - لولا الرشد - أن تَسْتِخَّفنيِ
…
ويَسْتَلَّ حقدي سِحرُها من أضالعي
ويوُشك ذاك الحُسْنُ أن يستهزني
…
فأنسي لديها كيدَها وهَو فاجعي
أتْبسَمُ لي غِشاَّ ومحضُ ودادها
…
لَدَى قاهري في حُبهِّا ومنازعي؟
لَعمَرْىَ ماذا يدعُوَاني إذا خلَعتْ
…
إليه بمنأى عن رقيب وسامع؟
أتدعِينَني فَدْماً؟ أتُفُضْيِنَ للفتى
…
بشجوِى ولأَوائي وجَمِّ مواجعي؟
أيَضْحك من جهلي؟ أيزعم أنني
…
بليدٌ غليظ الحِسِّ غيرُ مُدافع؟
حَنانَيْكُما - قد جُرْ تُما وغلوتما
…
ورفقاً بهذا المسْتغَرِّ المخادَع
سيأتيكما أمري فيَدْري كلاكما
…
بأنَّ حِمَى الوَحْشِيِّ ليس بضائع
سأنقع ممن خانت العهد غُلتَّي
…
وهيهات ما غيرُ الحِمام بِناقع
سأمنحها كأس المنية مُوقفاً
…
بأني لتلك الكأْس أوَّلُ جارعُ
سأُسلِمُها للموتِ أوَّلَ نادمِ
…
لتلك الحُليَ تَقْضي وتلك البدائع
سأقتل مَن لو أستطيع فديتها
…
بِبَتِّ نِيَاطي أو بِقَطْعِ الأخادع
فخري أبو السعود
الإنسان الآلي
للأستاذ محمود غنيم
ماذا أُشاهد؟ لا طيناً ولا ماَء
…
وليس هذا الفتى من نسل حواَء
لا يشبه الناس إحساساً وعاطفة
…
ويشبه الناس تركيباً وأعضاء
فتى عريق بحبل العلم متصل
…
إن عدد الصيد أجداداً وآباء
هي الحضارة أُمٌّ أنجبته وما
…
زالت كمريم ذات الطهر عذراء
خلق جديد إذا شاهدت طلعته
…
تكاد تومئ بالتسليم إيماء
لا يشتكى مثلما يشكو الورى سقما
…
ولا يهاب رسول الموت إن جاء
يرى ويسمع لكن لا يحس وإن
…
هم قطعوه بحد السيف أجزاء
فياله ساعياً يمشي على قدم
…
لا تشتكى إن شكت أقدام وجناء
وياله خازناً لا تستبيه ولا
…
تغريه بالمال إن حاولت إغراء
وياله حارساً لم يشك من أرق
…
ليلا ولا حاولت عيناه إغفاء
لن ترهب العقم بعد اليوم والدة
…
أو يعدم الشيخ بعد الشيب أبناء
للشيخ ما يشتهيه الشيخ من عقب
…
ولليتيم من الآباء ما شاء
لينفخوا الروح فيه مثلما خلقوا
…
له يدين وشقوا العين حوراء
قم سائل العلم إذ سوى جوارحه
…
هل رام هدماً به أم رام إنشاء؟
يشكو البطالة غادينا ورائحنا
…
فهل نضيف إلى أدوائنا داء؟
أما ترى الأرض قد ضاقت بمن حملت
…
فثارت الحرب حول القوت شعراء؟
حسب البرية أن الطب يكلؤها
…
وأن سهم الردى يخشى الأطباء
يا أيها الرجل الآليّ هل لك في
…
ود أساقيكه ماء وصهباء
تشابه الناس عندي في المذاق وإن
…
تعدد الناس ألواناً وأسماء
لأَنت أسلم يا ابن الصلب عاقبة
…
من أنفس ملئت حقداً وبغضاء
أقسمت أنك بين الناس أنزههم
…
يداَ وأطهرهم قلباً وأحشاء
حببت فيك فتى ما قال فاحشة
…
يوماً ولا عاب إنساناً ولا ساء
محمود غنيم
فولتير العظيم حتى بموته 1694 - 1778م
بقلم مهدي الجم الطرابلسي
ما أنا أول الذين يتحدثون إليك عن فولتير ولا آخرهم. بل أنا من هؤلاء الذين تلح على عواطفهم إشعاعات من أرواح العظماء فتبعثهم حينا راضين وآخر كارهين لينشروا ماضي هؤلاء العظماء ويتغنون بعبقريتهم ويسجلونهم في سجل الأفذاذ الخالدين.
أطل فولتير على الحياة سنة أربع وتسعين وستمائة وألف فشب ورأى من حوله فساد الحكومة والبيئة فعظم عند نفسه أن يرى أفراد الشعب يتضورون جوعاً والملك والحاكم ينزلون بهم أنواع العذاب عاتين جائرين. وكان كاتباً رائع الكتابة رائق الأسلوب قوي العارضة سيال القريحة سياسي المبدأ لاذع النقد. وكانت الصحف التي تنشر رسائله رائجة نافقه اكثر من غيرها، لان الشعب كان يُقبل على كل رسالة له أو كتاب فيطالعه، فتنشيه نغمة العبارات ولحن الأسلوب فيعيد مطالعته، فيؤثر في نفسه، فيهيج هياجاً شديداً، لأنه ضد الحكومة. وقد كان الشعب الباريسي يضمر لفولتير حباً شديداً حتى أضحت كلمته فوق كل كلمة، وأسمه فوق كل اسم، وحتى أضحى رسمه زينة، تحلى بها الأكاليل والمتاحف، وحتى أضحى الشعب يمحص كل كلمه من كلماته تمحيصاً ويعربها ويردها إلى اصلها مستمتعاً مغتبطاً بذلك.
وهكذا استأثر فولتير بقلوب أبناء وطنه وجعل من نفسه قائداً محبوباً يشير فيطاع. والشعب لم يقبل على فولتير ومؤلفات فولتير ولم يهتف له إلا لنقده الملك والملكة والبلاط وما فيه، النقد اللاذع الذي دعا الملك أن ينفيه من اجله.
كانت الكونت لدلنفيليه قد تكهن أن فولتير صديقه سيموت في الثلاثين من عمره، لكن فولتير الجبار لم يكن ممن يتأثرون بتنبؤات الكهنة والمنجمين، فأستمر لا يحيد عن سمته في النقد والفلسفة، ولما جاوز الثلاثين كان يداعب صديقه الكونت قائلاً:(لقد خدعتك أيها الصديق بثلاثين عاماً وخدعت نفسي بالباقي)
وأخيراً لم يرى الملك بداً من إخراجه عن فرنسا. وهكذا قضى فولتير حياته شريداً طريداً يتنقل من بروسيا إلى إنكلترا إلى غيرهما.
وقد قضى اكثر أيامه على ضفاف بحيرة جنيف في (فرني) وغيرهما حيث سالت نفسه
حنينا إلى وطنه، فرق أسلوبه كثيرا وبرعت ديباجه.
ألف فولتير من الكتب والقصص (محمداً، زاير، ميروب، عصر لويس السابع عشر، تأريخ شارلي الثاني عشر، كالديد، ميكروموكاس، زاديك، القاموس الفلسفي، ملاحظات على نظريات باسكال) وغير ذلك من المؤلفات التي جعل بعضها قصصاً تخيل وقائعها في بلدان شرقية وعصور خاليه، فقصته (زاديك) جعل وقائعها في بلاد فارس في عصور ما قبل الميلاد، فقارئها يرى من طرف خفي وظاهر ان فولتير ينتقد الملك والبلاط النقد الجارح الأليم.
لأضرب لك مثلاً في كتابه زاديك: - (زاديك شاب غني فيلسوف هجر المجتمع الخاطئ واعتزل في قصر له في البرية، فانه ليتجول يوماً في الغابة إذ مر به خصيان البلاط والحرس الملكي يسألونه متلهفين أريت كلب الملكة وحصان الملك؟ فيقول هي كلبة لا كلب، ولكن لم أرها، فيكبلونه إلى الحاكم فيحكم عليه بالجلد والنفي إلى سيبيريا فما يكاد يفعل حتى توجد الكلبة والحصان فيعفو عنه، ولكنه يحكم علية بغرامه قدرها أربعمائة من الذهب) وهكذا يريد فولتير أن ينقل البلاط وأن يقولَ إن الداخل فيه خاسر ما في ذلك شك، مدعياً كان أو مدعى عليه.
لقد كان منظر فولتير يدل على غير ما يختلج في نفسه، فقد كان الناظر إليه يحسبه سعيداً مغتبطاً، على حين أن فولتير قضى حياته بين عبرة مهراقة، وزفرة مصعدة، بدليل عبارات تقرأ في رسائله. وكان فولتير هزيلاً ناحلاً، وكثيراً ما كان يشكو ألماً في جسمه يقول ان الأطباء لم يهتدوا إليه بعد. فكان يئن في نفس، فتبدو انته على ثغره ابتسامة عذبة هادئة تجتذب إليه النفوس، وقد نعته، فكتور هوجو بالرجل الكئيب الباكي. وفولتير وان كان أكثر الشعب مناصراً له فقد كان له أعداء كثيرون يتسخطون عليه ويتبرمون بكتاباته النارية الحماسية التي كانت إحدى الشرارات الرئيسية التي أضرمت نار الثورة الكبرى من بعد. فكان هؤلاء السادة يجادلونه فلا يقف عن مجادلاتهم، ويغالبونه فلا يفتى عن مغالبتهم، وهو مع ذلك لم يهن، فهم ما كانوا ليزدادوا إلا موجدة عليه، وهو ما كان ليزداد إلا استهزاءً واستخفافاً بهم.
ولما مات لويس الخامس عشر وتربع على العرش لويس السادس عشر كان فولتير في
منفاه، فاستأذن الملك الجديد العودة إلى وطنه فإذن له، ولكن بعد ان تهدده الملك وتوعده بالنفي والتشريد إن هو عاد سيرته الأولى. فعاد إلى باريس برفقته كاتبه الخاص. وكانت قد سبقته إليها زوجه والمدام دنس حفيدته التي كان يحبها كثيراً وصديقه المركيز دي فيلت ليعدوا المنزل ويهيئوا المستقر.
وفولتير إذا أتى باريس فقد أشرقت باريس وهب الناس كلهم هبة واحدة محللين فرحين. فلما أن أقبل كانت المحطة مزدحمة بالناس حتى لا مسير. وقد أخذ مخبرو الصحف يكتبون عنه الرسائل المسهبة الطويلة ويصفونه جزءاً جزءاً فقالوا انه اقبل وكان على رأسه قلنسوة أرجوانية صوفية. وانه كان مرتدياً برداء من الفرو المخطط، وانه زار صديقه الحميم القديم (دارجنتال) في شارع (اورسه)، وانه خرج بعد ذلك يقصد منزله، وان الأولاد الصغار إذا رأوا منظره الغريب أخذوا يهتفون بحياته ويصفقون، وانه لما انتهى إلى منزله اخذ الناس يفدون عليه أفواجاً فيستقبلهم بثياب المنزل معتذراً بمرضه.
وحقاً لقد امتلأ المنزل افناؤه وحجراته وأروقته بالناس من جميع الطبقات. فكان فولتير يبسم لهم ويستقبلهم بأحسن ما يستقبل مزور زائراً، وقد قيل انه لم يبق أحد في باريس إلا واقبل يهنئه بالعودة السالمة ويدعو له بطول العمر. وذلك مما دعاه أن يسن دستوراً للزيارة. فأمر حفيدتهأن تقيم في القاعة الكبرى ففعلت تستقبل الزائرين عوضاً عنه وتعتذر لهم بمرضه إلا العظماء منهم فقد كانت تقدمهم إليه فيجالسهم ساعة ثم يعود إلى غرفته يتسلى بالقراء والكتابة. وممن زاره منهم سفير إنكلترا وفرانكلن الشهير وغيرهما، لكن كان يستقبل الكل بثوب المنزل لا يخلعه إلا للنساء فقد كان يجهلن. فلما زارته الكونتيس دي باري لم يشأ أن يبدو إليها بهذا الثوب، فلم يقابلها اولاً، فرجته وألحت في الرجاء، ورجاه أصدقاؤه وألحوا في ذلك أيضاً أن يفعل فاقبل كارهاً متعثراً، فقال له من حوله انك تقول أن ثوب العقل خير من ثوب الجسد فماذا دهاك اليوم؟
ولقد كان الناس يجتمعون حول منزله كل يوم فلا يزالون يهتفون به حتى يخرج إلى النزهة فيركب عجلته فيزدحم الناس من حولها ويقبل بعض المتحمسين يدفعون الناس بمناكبهم يريدون أن يحملوا العجلة فلا يمتنعون حتى يرجوهم فولتير الامتناع شاكراً، لكن وا أسفاه! إن هذه الاستقبالات والمهرجانات أمرضته، ولا سيما حين سمع إن صديقه (لكن)
قد قضى. ولقد كان مرضه انحباس البول، وتورم الرجلين، وقد منع طبيبه كل إنسان، وحال بينه وبين أصدقائه، فعكف فولتير في سريره يؤلف القصص ويكتب الرسائل، ويئن بين الحين والحين أنة لاشك سامعها، في أنها أنة عظيم.
عناية طبيب فولتير بفولتير وعنايته بنفسه بدت نتيجتها، فابل ونقه، وشرع يطبع روايته التي وضعها أثناء المرض وسماها - أرين - وقبل أن تعرض للتمثيل جهد فولتير جهداً عظيماً في تدريب الممثلين وتعليمهم إتقان ادوارهم، ولم تكن صحته قد عادت إليه كاملة، فرماه الكد والتبذل في سرية، فإذا الحمى تدور في جسمه، وهذا صداع شديد يهز جمجمته، وهذا ورمشديد في قدميه، وانحباس موجود في كليتيه، ثم هذا دم يخرج من رئتيه، ثم هاهو ذا يهذي ويصرخ الصرخات الداوية: وطبيبه لم يدر أصل الداء ومنبت العلة، فلجأ إلى الحكمة والدراية. فاستأجر ممرضة صبية جميلة أعجبت فولتير وسر بها كثيراً. أما الصحف فكانت تملأ أعمدتها في الحديث عنه، فإذا أكل فولتير دوى في أفق باريس إن فولتير أكل وإذا شرب فولتير قد شرب. ولم يزل الداء يلح به ويضعف من جسمه ومن حواسه حتى كاد لا يقدر أن يقرأ كتابا أو صحيفة ولا أن يستوي جالساً في سريره. لكن ماذا؟ ها هو ذا فولتير يصح وينشط فلا دم يبصق ولا قدم تتورم وها هو ذا الطبيب قد أذن له بأكل بيضة وقطعة من الخبز، وحسو كأس من الماء ومثلها من الخمر كل يوم. وإذا عادت إلى فولتير صحته فقد عادت إلى الناس المسرات والأفراح. وأما الأطباء فوقفوا وقفة الحائر أمام هذا المرض العجيب وسرعة شفائه. وكان تمثيل الرواية قد تأجل ليشهده فولتير بنفسه، فلما شفى حكم الأدباء والفلاسفة فيها فأعجبوا بها إعجاباً شديداً فمثلت، ولكن فولتير لم يشهد التمثيل فقد سقط مرة أخرى وخيف أن تكون السقطة الأخيرة الهائلة. فعاده الأطباء فوصفوا لبن اتانٍ يتناوله فشفى بعض الشيء، وخرج إلى متنزه الشانزلزيه بعربته، فالتف الناس من حولها هاتفين: ليعش فولتير! ليعش فولتير! وقد كان السعيد منهم من يحظى بشعرة من ردائه.
لكن مما يؤلم أن فولتير أمسى بعد ذلك هائج البال، فاسد الرأي فقد سأل ان يبدلوا الممرضة بأخرى غيرها قائلاً أنى استحي أن اخلع ثيابي أمام تلك الفاتنه، فأبدلت بأخرى. ولكن هاهو ذا المرض يطل عليه زائراً مرة اخرى، ولكن هاهو ذا الشفاء يأتيه عائداً ثانية.
أما الرواية (ارين) فقد مثلت ست مرات، وفي الأخيرة تجلت عظمة فولتير وكبر نفسه واضحين وقد شهدها فولتير، فلما انتهى التمثيل قام الشباب وجعلوا يتمسحون به ويلثمون يديه ويهتفون باسمه، ووصل إلى منزله تلك الليلة وما احسب أن أحداً وصل في الدنيا ليلاً إلى منزله وصوله.
أفاق الناس صباح 23 أيار من سنة ثماني وسبعين وسبعمائة وألف، فإذا هم يتحدثون أن فولتير قد تورمت قدماه وانحبس بوله واصبح يبصق أفلاذ كبده وانه لا يرجى له شفاء.
وحقاً لقد وقع فولتير هذه المرة ويأس طبيبه من نجاته، أعاده الماريشال ريشيليو، وصف له دواءً يدفع عنه الأرق فتناوله فولتير دفعة واحدة فتعقد داؤه وعز دواؤه.
أضحى فولتير بعد هذه السقطة فارغ الصبر ضيق الصدر، هلوع النفس متلكئ الجسم يسب من حوله، ويضرب ممرضته، ويجافى حفيدته، وينظر إلى الناس بغير العين التي كان ينظر بها إليهم وكان يصرخ بين الحين والحين صراخاً عظيماً احتار في تعليله الأطباء، ولم يعرفوا إلى شفائه من سبيل. وممرضته كلت وملت وأسلمته إلى يد القدر إلا قليلاً. وأشار عليه صيدلي أن ينشق الأفيون، ففعل دون أن يدري طبيبه. والأفيون أنامه إنامة طويلة استفاق بعدها فإذا معدته لا تهضم اللبن الرائب. ومر به جراح شهير يدعى (ترى) وفحص مثانته وكليتيه وتوصل بحيلته وحدة ذكاءه ان يفتح للبول طريقاً بواسطة أنبوب طبي. وارتفعت درجة حرارته بعد ذلك كثيراً فأرقدوه في الجليد فما أفادوا شيئاً!!
وا حسرتاه! لقد فقد فولتير عقله أو كاد! لقد أضحى يرجع إلى أحشائه من فيه ما يخرج من احشائه، فكانت حفيدته تبكي كثيراً وتقبل عليه وتقول: مسيو فولتير! مسيو فولتير! لقد كنت مثال النظافة فانظر إلى أية حال مؤلمة قد صرت.
ومن الأطباء الذين اعتنوا بفولتير كثيراً ترونشين طبيبه الخاص وبلوري وتياري. وقد بذل هؤلاء الأطباء الحكماء أقصى ما وهبوا من حيله وذكاء لشفائه، فخاب سعيهم وما ازدادوا إلا جهلاً بالداء. ودخلوا عليه ذات ليله فإذا هو حائل اللون، ازرق الشفتين متصلب اليدين والقدمين، فأخذوا يعالجونه ساعة حتى أفاق وقال: آه! دعوني أسير إلى ربي. ثم اخذ يصيح صياحاً شديداً تهتز له النفس، وتسيل له الأفئدةهولاً وجزعاً. فعلل أطباؤه صراخه بوجع شديد لا يعرفون مصدره، وخافت الممرضة إذ رأته على هذه الحال، وخاف الأطباء
أيضاً ولبثوا حتى منتصف الليل يعالجونه وينضحون جسمه بالماء فما أفادوه. وفي تلك الساعة المظلمة فاضت نفساً عظيمة بعد أن سجلت آثارها في سجل الخلود.
قيل إن فولتير مات مسموماً وأن يداً لم تعرف بعد قد دست له السم، وقال الأطباء نعم لقد مات مسموماً، ولكن اليد التي دست له السم هي يد دائه.
حماه
مهدي الجم الطرابلسي
في الأدب الفرنسي
8 -
الدوق دي لارشفوكو
للدكتور حسن صادق
ولكي يخفف من حدة الإنكار قال في مكان آخر من كتابه (الحسد تقضي عليه الصداقة الحقيقية)(موعظة رقم 376).
(مهما يكن الحب الصحيح نادراً، فانه أقل ندرة من الصداقة الخالصة)(موعظة رقم 473). أيأنه يؤمن بندرة الصداقة النقية ولا ينكرها إنكاراً تاماً.
وحكمه على الصدق والوفاء ليس بأقل غرابة من حكمه على الفضائل السابقة: (الصدق هو إخلاص القلب ولا يتصف به إلا عدد قليل من الناس. أما الصدق الذي يرى عادة فهو مداهنة بارعة ترمي إلى اكتساب ثقة الغير)(موعظة رقم 62)(بغض الكذب هو في الأغلب طموح دقيق غير محسوس إلى جعل أقوالنا تكسب منزلة رفيعة واحتراماً كالذي يلهمه الدين)(موعظة رقم 63)(الوفاء الذي يبدو من كثرة الناس هو حيلة ابتكرها حب الذات لاجتذاب الثقة)(موعظة رقم 247).
ولنذكر الآن ما قاله عن الحب: (لا يوجد إلا نوع واحد من الحب، ولكن منه صور زائفة لا حصر لها)(موعظة رقم 74)(الحب كالنار لا يستطيع أن يحتفظ بوجوده إلا بالحركة المستمرة. ويصيبه العفاء في اللحظة التي يكف فيها عن أن يأمل أو يخشى)(موعظة رقم 75)(مثل الحب الصحيح كمثل ظهور الأشباح، جميع الناس يتكلمون عنها، ولكن قليلاً منهم من رآها)(موعظة رقم 76)(كثير من الناس لو لم يسمعوا أحاديث الحب، لما أحبوا)(موعظة رقم 136)(الغياب يخفف من وطأة الأهواء الضعيفة ويورث نار الأهواء القوية، كالريح تطفئ الشمعة وتوقد النار)(موعظة رقم 276)(إذا اعتقد الإنسان انه يحب صاحبته فهو مخطئ)(موعظة رقم 374).
ثم قال عن الغيرة: (الغيرة تستمد غذاءها من الشك، ويمحوها اليقين)(موعظة رقم 32)(مبلغ ما في الغيرة من حب الذات، اكثر مما فيها من الحب)(موعظة رقم 324)(الغيرة أكبر الشرور، واقلها استدراراً لشفقة الذين ينسجون أسبابها)(موعظة رقم 503)
وهذا الرجل الذي كان يبجل النساء في حضرتهن، ولا يقول كلمة تؤذي شعورهن، قسا
عليهن في مواعظه: (تمنع النساء نوع من الزينة يضفنه إلى جمالهن)(موعظة رقم 204)(عفة النساء هي في الأغلب الحرص على سيرتهن وراحتهن)(موعظة رقم 205)(الغرور وخشية العار وعلى الأخص المزاج، تعمل في الأغلب قيمة الرجال وعفة النساء)(موعظة رقم 220)(الكثرة من النساء يبكين عشاقهن الذين يقضون نحبهم، لا لأنهن أحببن هؤلاء العشاق، ولكن ليظهرن أنهن جديرات بالحب)(موعظة رقم 362)(قليل من النساء الشريفات من لم يسأمن عفتهن)(موعظة رقم 367)(كثرة النساء الشريفات كنوز مخبأة، ليست في مأمن من العبث إلا لأن الرجال لا تبحث عنها)(موعظة رقم 368)(الخليعات يفخرن بغيرة عشاقهن ليخفين الحسد الذي يضمرنه لغيرهن من النساء)(موعظة رقم 406).
وحكمه على التواضع ليس بأقل قسوة من حكمه على العواطف والفضائل السابقة (لا يمدح الإنسان غيره عادة إلا ليمدح)(موعظة رقم 196)(قليل من الناس من يملك الحكمة التيتجعلهم يفضلون النقد الذي ينفعهم على الثناء الذي يخدعهم)(موعظة رقم 197)(رفض الإنسان المديح معناه الرغبة في ان يمدح مرتين)(موعظة رقم 199).
ويستمر لاروشفوكو في أحكامه على الأعمال والفضائل الإنسانية حتى يصل إلى هذا الحكم العام (تدخل الرذائل في تركيب الفضائل، كما تدخل السموم تركيب الدواء، التبصر يجمعها ويخفف من وطأتها ويستخدمها بنفع في مغالبة شرور الحياة وآلامها)(موعظة رقم 182).
وهو يعتقد أن الإنسان في حياته عبد لأهوائه وليست الإرادة شيئاً مذكوراً (في القلب جيل من الأهواء لا يفني، حتى أن زوال أحدها هو في الواقع طغيان هوى آخر عليه)(موعظة رقم 10). فالنضال الذي نعتقد انه قائم في دخيلتنا بين الهوى والعقل، بين الرغبة والواجب، هو سراب محض. (الحظ والشرف يحكمان العالم)(موعظة رقم 435)(مهما يفخر الناس بأعمالهم العظيمة، فإنها في كثير من الأحيان ليست نتيجة تدبير عظيم، ولكنها نتيجة المصادفة)(موعظة رقم 57)(جمع صفاتنا تقريباً تحت رحمة الظروف)(موعظة رقم 170)(يخيل إلى أن لأعمالنا نجوماً سعيدة وأخرى شقية ندين إليها بكثير من الثناء أو اللوم الذي يوجه إلينا)(موعظة رقم 58).
وإذا كانت المصلحة الذاتية تقود الفرد والجماعة، فكيف نفسر هذا الشعور المعقد الذي يتبع
ارتكاب أعمال مضادة للفضيلة، وهو الندم؟ يفسر لاروشفوكو الندم الخارجي، أي الاعتراف بالزلل بقوله:(إننا نعترف بخطايانا لنصلح الفكرة السيئة التي علقت بأذهان الغير عنا)(موعظة رقم 184). ويفسر الندم الباطني بقوله: ندمنا ليس أسفاً للشر الذي فعلنا بقدر ما هو خوف شر يصيبنا من جراء ما فعلنا) (موعظة رقم 180).
وبما أن المنفعة هي غرض الإنسان الوحيد، إذن يكون الخير الوحيد هو الخير المحسوس في إغفاله. وبما ان الموت هو نهاية كل شر، إذن الموت اكبر شر:(الشمس والموت لا يستطيع الإنسان ان يحدق فيهما)(موعظة رقم 26).
وقد ظن بعض الناس أن لاروشفوكو يستعمل هذه الكلمات: في الاغلب، عادة، تقريباً، كثرة الناس، لياقة ومجاملة حتى يعتقد كل قارئ انه من المستثنين، ولكنه يستعملها على الأرجح لأنه يؤمن بوجود الفضيلة الخالصة، ولكنها نادرة. والدليل على ذلك انه لا يذكرها في بعض مواعظه. ولنضرب مثلاً:(الصدق إخلاص القلب. . . موعظة رقم 62) فهو لا ينكر وجود الصدق، ولكنه يؤمن بندرته. وهو يتعدى بطريقته إلى كشف اللثام عن الفضائل الكاذبة التي يدعيها اكثر الناس.
ومواعظ لاروشفوكو على قسوتها تنفع الإنسان لأنها تجعله يتأمل نفسه ويراقب فضائله ويطهرها من الرذائل التي تختلط بها.
ولهذه المواعظ اثر كبير في تفكير فلاسفة أوربا النابهين أمثال كانت، وشوبنهور، ونيتشه، وبنتام، وستيوارت مل، وبييربايل وهلفسيوس وغيرهم. وسنتحدث عن هذا الأثر في فرصة أخرى أن شاء الله.
تم البحث
حسن صادق
العلوم
استحالة الأجسام
بقلم منير غندور ليسانسييه في العلوم
لو سألت أحداً ممن لم ينالوا من العلم شيئاً من هو الكيميائي؟ لأجابك إن الكيميائي رجل يستطيع أن يحول الرصاص ذهباً، وهذا لا وجود له.
وهكذا علق في ذهن كل منا عندما قرا القصص القديمة إن الكيميائي هو الذي يستطيع ان يحول معدناً خسيساً إلى معدن ثان نفيس تحت تأثير قوة روحية سحرية.
الانتقال من عنصر إلى عنصر كان حلم الكيميائيين القدماء.
غلت المراجل أياما وليالي، واستحضر الكيميائيون الأرواح واستنجدوا بالأسرار، واوهم أناس أناساً بأنهم توصلوا إلى سر هذه المهنة، وأتت القصص تستعمل هذه المواضيع، وقضى بعضهم حياته ساعياً وراء هذا السراب الخلاب لينتظر قوة يجهلها تحول رصاصه ذهباً، ومضى عصر ثم عصر وعصور، دون أن يستحيل درهم من رصاص إلى عشر درهم من فضة أو ذهب!
واليوم وأين نحن من تحقيق هذه الفكرة؟ أين نحن من تحقيق خيال كيميائيينا القدماء؟
لسنا بعيدين قط عن تحقيقها، وان كنا لا نزال نقف أمام رصاصنا وقفة ذلك الكيميائي القديم يستنزل القوة. نعم لقد أصبحت استحالة الأجسام شيئاً خاضعاً للقوانين العلمية الثابتة.
ولكن القوة التي كانت تنقص الكيميائي القديم ليحقق خياله لا تزال تنقصنا لنحقق يقيننا العلمي. ومن يدري؟ فلعل ذلك الخيال كان في الحقيقة إلهاماً علمياً!
أثبت (ايفيزيك) أن المادة مركبة من وحدات متناهية الصغر تدعى كهارب، تدور بسرعة هائلة حول نواة وسطية كما تدور السيارات حول الشمس، وكل نظام من هذه النظم الصغيرة يشبه ما نسميه ذرة. هذه الكهارب هي نفسها في كل ذرة وفي ذرة أي عنصر. وإنما الذي يختلف إذا انتقلنا من عنصر إلى اخر، من النحاس مثلاً إلى الذهب، أو من الأزوت إلى (الهيدروجين) هو عددها والترتيب في مركبات النواة. (النواة بدورها مركبة من أجزاء صغيرة جداً تقسم إلى كهارب وإلى بروتون. وهي تحمل، أي النواة، كهربائية إيجابية.) فالانتقال إذاً من عنصر إلى عنصر شيء ممكن إذا استطعنا تبديل عدد هذه
الكهارب أو تبديل الترتيب داخل النواة.
ان تركيب الذرة ودرس خصائصها هو في الحقيقة معقد اكثر من هذا بكثير على الأخص مع ما يكتشف في كل يوم في هذا الميدان، ودرس الذرات اصبح اليوم علماً مستقلاً بنفسه يقوم بالتنقيب فيه رجال كثيرون. ولكني اقتصر على هذا الشرح البسيط حرصاً إظهار الغرض الرئيسي من هذه الكلمة وهو إمكان استحالة الأجسام.
وهذه النظريات التي تقدم لنا الذرة على الوجه الذي شرحت لم تكن معروفة إلى عهد قريب. إذ كان من الثابت أن الذرة هي اصغر شيء يمكن الحصول عليه من عنصر ما فهي وحدة لا تتجزأ. والذي سمح للعلم أن يأخذ طريقه الجديد في شرح الذرات هي النتائج العظيمة التي قدمها درس الأجسام (ذات الإشعاع الفعال) - واكتشاف هذه الخاصة في هذه الأجسام يدين به العلم إلى فهو قد لاحظ قبل أن يكتشف مسيو كوري وامرأته الراديوم أن ملحاً من أملاح الايرانيوم يستطيع أن يعطي دون أي تأثير خارجي معروف أشعة مؤلفة من ثلاثة أقسام: أشعة ألفا (?) وهي مركبة من أجزاء مكهربة إيجابيا، من أشعة باتا (?) مركبة من كهارب ومن اشعة جاما وهي كأشعة
هذه الأجسام ذات الأشعة الفعالة تتفكك عندما تذيع ألفا (?)(وهذه مؤلفه من أجزاء مكهربة إيجابيا والآن أزيد على أنها من الهاليوم) وأشعة باتا (مؤلفة من كهارب سلبية كما رأينا) وتعطى ذرات جديدة مختلفة. وهكذا فالراديوم يتفكك عندما يذيع أشعة الفا وينتج ذرة جسم جديد كانوا يسمونه ذرور الراديوم ويدعى اليوم رادون ولكن هذا يتفكك بدوره فيصبح راديوم ثم راديوم ثم راديوم. . . وهكذا إلى أن يصبح رصاصا. وهناك أجسام أخرى من ذوات الإشعاع الفعال كالايرانيوم والطوريوم (وقد عرف من هذه الأجسام أربعون تقريباً) تتحول إلى أن تصير رصاصاً.
ولكن كيميائي هذه الاستحالة هو الطبيعة، ولا يمكننا أن نؤثر على هذا الكيميائي في شئ، فنحن لا نستطيع أن نجعل سير هذه الاستحالة اكثر أو اقل سرعة، ولا نستطيع تسبيبه ولا إيقافه.
يظهر لنا من هذا المثل أن الأجسام ذوات الإشعاع الفعال، وهي كلها ذوات وزن ذري مرتفع، هي في حالة توازن وقتي فتنفجر ذراتها تحت تأثير نجهله وتتحول إلى أجسام
اضعف وزناً ذرياً وتحصل عندها على توازن مطلق.
غير أن الطبيعة تقدم لنا أمثلة في الاستحالة غير هذه تدلنا على أن تحول الأجسام يمكن أن يحصل دون انهيار أو تدن في الثقل الذري. ولنا في الأجرام السماوية آية على هذه الاستحالة: فالسدم يتركب كما يظهر من فحص طيفها على الأخص من هيدروجين ومن هاليوم. وإذا تتبعنا تطورها نرى أنها تتحول تدريجياً لتؤلف كواكب فيها اكثر العناصر التي نعرفها في الكيمياء. فهاليوم السدم وهايدروجانها قد تحولا إلى عناصر جديدة اقل بساطة وارفع ثقلاً ذرياً. ودرس الكواكب ونشوئها ومعرفة ما تتركب في مختلف حالات تطورها هو الذي جعل لوكيار يقول بتحول المادة قبل ان تكشف خصائص الأجسام ذوات الأشعة الفعالة.
ولكن هذه الاستحالة كتلك كيميائيها هو الطبيعة، والقوى التي يستخدمها لا قدرة لنا على إيجاد مثلها. فالحرارة التي تسود في تلك الطبقات والضغط الهائل هما القوة المستعملة ليتألف من تلك العناصر البسيطة كل باقي العناصر.
الآن وقد ظهر لنا كيف كان من الممكن استحالة ذرة إلى ذرة وكيف أن الطبيعة تعطينا أمثلة من هذه الاستحالة أريد أن أقول كلمة في المحاولات التي أجريت لتحقيق فكرة استحالة العناصر عمليا.
إن ما يصح أن نعتقد به الآن كتجربة علمية لاشك فيها هو ما قام به العالم الإنكليزي ريتفورد لقد سلط ريتفورد مقذوفات جسم ذي إشعاع فعال، أجزاء الفا، على بضعة عناصر: الأزوت، البور، الفوسفور، الصوديوم، الألمنيوم والفليور. فتفككت هذه العناصر تحت تأثير هذه القذائف التي تسير بسرعة 20 ألف كيلومتر في الثانية وأعطت هيدروجين. غير أن كمية الهيدروجين كانت متناهية القلة.
وما عدا هذه النتيجة فكل ما قام به المجربون، وهم كثيرون، لا يزال يشك في صحته، ولذا لا أرى لذكره فائدة.
نشط العلماء في جميع أنحاء العالم يواصلون جهودهم للتوصل إلى نتيجة نهائية. وليس من العسير علينا أن نفهم اندفاع هؤلاء العلماء في هذه المضمار، فالوصول إلى استحالة الأجسام بطريقة ما يتغير فكرتنا عن المادة وعن الحياة، نستطيع أن ننتقل من عنصر إلى
عنصر، لقد ألغيت الحاجة! الحاجة كما يصورها مجتمعنا الحالي لأنه سوف تخلق حاجات لاوجود لها الآن.
لا نحتاج لنحمل إلى البشرية اختراعاً (لا يقل أهمية عن اكتشاف الرجل القديم للنار) إلا قوة اشد مما عرفنا إلى الآن، قوة من أي نوع كانت. ولنا الحق في الأمل بأننا سوف نصل قريباً، فالكهرباء تعطينا في كل يوم قوة لم نكن نتخيل الوصول إليها.
وقد توصل الدكتور (فان دي جراف) إلى توليد مجرى كهربائي تحت ضغط عشرة ملايين (فولت) وسيزيد عدد (الفولتات) ويزيد. . أو سنكتشف قوة جديدة لا نشك بوجودها فنمزق الذرة كيفما شئنا ونتصرف فيها كيفما أردنا ونحقق حلم كيميائيينا القدماء.
منير غندور
2 - إسحاق نيوتن1642 - 1727
للأستاذ مصطفى محمود حافظ
رجوعه إلى كامبردج:
تركنا نيوتن في مقالنا السابق يغادر مزرعته ذاهباً إلى كامبردج للمرة الثانية، بعد أن احتجزه الطاعون مدة سنتين بعيداً عن مكتبة الجامعة ومعاملها، مما كان سبباً مباشراً في عدم ظهور قانون الجذب العام في هذه الفترة، وظهر متأخراً بين عاصفة من المناقشات والأحقاد
نال الأستاذية بعد سنة من رجوعه، ثم اختارته الكلية زميلاً وقد كان لهذه الزمالة فوق ميزة الشرف ميزة أخرى مادية كان نيوتن في اشد الحاجة إليها في ذلك الوقت الذي لم يكن له فيه من مورد سوى ما كانت توفره له أمه من دخلها الصغير.
اشتغل نيوتن بإتمام صنع تلسكوبه العاكس الصغير وكان طوله ست بوصات، وتمكن بواسطته من رؤية المشتري وأربعة من أقماره (المشترى له تسعة أقمار). ولكنه كان يعمل دائماً على تحسين هذا التلسكوب العاكس. وكان عدا اشتغاله بإجراء التجارب الكيميائية يقوم بمساعدة أستاذه (إسحاق بارو) في إعداد محاضراته في الرياضة، وقد ساعده أيضاً في تصحيح محاضراته الضوئية، ولكنه لم يجرؤ على أن يخطئ أستاذه فيما كان يعتقد في طبيعة الضوء الأبيض على أساس ما وصل إليه هو من تجربة المنشور الثلاثي وفي سنة 1669 غادر الأستاذ (بارو) كامبردج تاركا كرسيه في الجامعة مرشحاً خلفاً له فيه إسحاق نيوتن الشاب، وقد عين فيه، فكان يحاضر في البصريات والجاذبية وعلم الجبر، ولكنه ظل يعني بأبحاثه العلمية وإصلاح تلسكوبه الأول.
الجمعية الملكية بلندن وعضوية فيها:
نشأت هذه الجمعية في سنة 1645 من نفر من ذوي الميول الفلسفية، كانوا يجتمعون في مواعيد معينه في لندن في كلية (جراشام). وفي سنة 1660 بلغ عدد أعضائها 41 عضواً واتفقوا على ان يدفع العضو عشرة شلنات رسما للدخول في الجمعية وشلناً أسبوعيا قيمة الاشتراك فيها.
وقد ساعد الملك (تشارل الثاني) هذه الجماعة لميله إلى العلوم وفي سنة 1661 اصبح عضواً في هذه الجمعية الناشئة التي سميت الجمعية الملكية.
ولما أتم نيوتن صنع تلكسوبه الثاني في سنة 1671 آثار به اهتماماً كبيراً، ونصح له أن يقدمه إلى الجمعية الملكية، ففعل، ولا تزال تحتفظ به الجمعية إلى الآن. وقد انتخب عضواً فيها في يناير سنة 1672 فكان أول ما قدمه إليها رسالة عن طبيعة الضوء الأبيض، فكانت أول حلقة في سلسلة المتاعب التي لازمته طول حياته.
لقد كانت نظرية نيوتن تقول بان الضوء الأبيض ليس في الواقع إلا عدة ألوان تؤثر كلها في شبكية العين فتعطي تأثير اللون الابيض، ويمكن تفريق اللون الأبيض إلى هذه الألوان المتعددة بإمراره في منشور ثلاثي من الزجاج مثلاً. ولكنه اخطأ واعتبر أن مقدار الانكسار لا يتغير لكل من مكونات الضوء الأبيض غير ملاحظ ما يسببه اختلاف نوع الزجاج المستعمل في تغير هذا المقدار.
عارضه في ذلك من معاصريه العالم (روبرت هوك) الذي ظل منافساً قوياً له فيما بعد، والفيلسوف الهولندي (كرستيان هيجز) صاحب النظرية الموجية في الضوء، والفلكي المشهور (فلامستيد). كما عارض فكرته من غير معاصريه الشاعر الألماني العظيم (جوت) رغم قصر باعه في العلوم الطبيعية.
نظرية نيوتن في ماهية الضوء
وقد جر الجدال حول هذه النقطة نيوتن إلى أن يضيع بضع نظريته في الطبيعة الضوء، وهي نظرية (الدقائق) التي قضت على النظرية الموجية بالاختفاء قرناً كاملاً.
قال نيوتن في تفسير الضوء انه عبارة عن (دقائق) صغيرة تنطلق من الجسم المضيء وتسير بسرعة كبيرة في خطوط مستقيمة، وقد فسر على هذا الأساس ظاهرتي (الانعكاس) و (الانكسار) وذلك بأن رأى لدقائقه أطواراً تجعلها تنعكس مرة وتنكسر أخرى. وقد شرح على أساس هذه النظرية كل الظواهر الضوئية التي كانت معروفة في عصره كالحيود والتداخل بشروح تتراوح بين البساطة والتعقيد وقد دافع نيوتن عن نظريته هذه بكل ما أوتي من ذكاء، فظلت مأخوذاً بها عند اغلب علماء الطبيعة حتى أوائل القرن التاسع عشر، حينما بدأت النتائج العلمية تؤيد النظرية الموجية، فاختفت نظرية نيوتن ولم يعد يؤبه لها
مما جعل البعض من المتحيزين إلى نيوتن يقولون انه لم يكن يقصد إلى وضع نظرية كاملة لطبيعة الضوء، إنما كان يقصد الرد على معترضي فكرته في الطبيعة اللون الأبيض فوضع ما يقرب من أن يكون نظرية. ولكن الأبحاث الأخيرة في (نظرية الكم) التي وضعها (بلانك) تكاد تؤيد (دقائق) نيوتن، وهي أن فعلت فان نيوتن يكون قد سبق معاصريه بما يقرب من ثلاثمائة عام.
وقد أراد نيوتن أن يثبت علمياً دوران الأرض حول نفسها فأرسل إلى الدكتور هوك، وهو سكرتير الجمعية الملكية في ذلك الوقت، يقترح تجربة لإثبات ذلك، بإلقاء جسم من مكان عال. فإذا كانت الأرض ساكنة فان الجسم يسقط في خطر رأسي، وإلا فانه يحيد عن ذلك الخط بقليل. وقد وافقه هوك ملاحظاً أن ذلك يتوقف على موضع إجراء التجربة على سطح الأرض.
ظهور قانون الجذب العام:
ذكرنا في المقال السابق أن نيوتن اعرض عن قانون الجذب العام حينما وجد أن العمليات الحسابية الخاصة بحركة القمر لا تتفق مع ما ذهب إليه من أن القمر يتحرك حول الأرض بقوة جاذبيتها له، وكان ذلك الاختلاف راجعاً كما قلنا إلى الخطاء في تقدير نصف الكرة الأرضية، وانه بتجاربه في الكيمياء والبصريات وبإلقاء المحاضرات. ولكن لما وصل إلى الجمعية الملكية نبأ قيام العالم الفرنسي (بيكار) بقياس طول محيط الكرة الأرضية وذلك بقياس المسافة بين كل درجتي طول متتاليتين (69 ميلاً) وضرب ذلك في 360 (عدد درجات الطول) أدرك نيوتن خطأه في تقدير نصف قطر الكرة الأرضية، فرجع إلى كامبردج وأكب على ما ذهب إليه في (وولثورب)، وهو أن قانون الجاذبية هو قانون كوني عام. فالأرض تجذب كل جسم على سطحها بقوة تتناسب طردياً مع حاصل ضرب الكتلتين، وتتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينهما. وكذلك الأرض تجذب القمر بنفس هذه القوة. والشمس بدورها تجذب الأرض وبقية الكواكب السيارة، فيتسبب عن ذلك دوران هذه الكواكب حول الشمس بدلاً من انطلاقها في خطوط مستقيمة كما ينص على ذلك قانون القصور الذاتي
ولن ينقص من قيمة هذا القانون ما يقول به (اينشتين) من أن الجاذبية شيء نسبي، وأن
التفاحة التي لاحظ نيوتن إنها تنجذب إلى الأرض يمكن اعتبارها جاذبة الأرض إليها، وان الشخص الجالس في مصعد يهوي بتأثير ثقله لا يشاهد سقوط التفاحة إلى ارض المصعد أن هو تركها من يده، بل يلاحظ بقاءها معلقة في مكانها، وان ظواهر الجاذبية يمكن تعليلها كلها بفرض تكور الكون؛ لا يمكن أن ينقص كل ذلك من قيمة قانون الجذب العام مادام هذا القانون يفسر لنا جل الظواهر الكونية. ولا صحة مطلقاً للقول الشائع بان (اينشتين) قد هدم نيوتن، فكل ما فعله هو انه نظر إلى قوانين نيوتن من ناحية غير الناحية القديمة.
اثبت نيوتن هذا القانون في سنة 1682، ولكنه لم ينشر آراءه خوفاً من حملات النقد التي كان يتحاشاها قدر جهده، وفضل ان تنشر بعد موته: وفي سنة 1683 وصل الدكتور (هوك) ودكتور (هالي) وسير (كرستوفريرن) إلى جزء من قانون نيوتن، وهو أن قوة جذب الأرض تتبع قانون التربيع العكسي وأخذوا يبحثون لإيجاد مسير كوكب متحرك إذا كان منجذباً إلى نقطة معينه بقوة تتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينهما، وكان الأمل الذي يجول في قرارة أنفسهم هو إثبات ان حركات الكواكب حول الشمس ترجع إلى ما يشبه قانون الجاذبية على سطح الارض، ولكنهم لم يفلحوا. فوعد سير (كرستوفريرين) بإهداء كتاب قيمته جنيهان لمن يعين هذا المسير، فقال دكتور (هوك) بان هذا المسير سيكون قطعاً ناقصاً ولكنه لم يقدم البرهان على ذلك. فقصد (هالي) إلى كامبردج وعرض الأمر على نيوتن فوجده قد اشتعل بهذه المشكلة وحلها، وأخبره أن هذا المسير يكون قطعاً ناقصاً ووعده بالبرهان بعد قليل. وقد بر نيوتن بوعده فأرسل بالبرهان إلى (هالي) بعد ثلاثة اشهر. ولكن (هالي) أراد التأكد من بعض نقط فرحل مرة أخرى إلى كامبردج، ثم طلب من نيوتن أن يقدم بحثه إلى الجمعية الملكية فوافق بعد إلحاح
مصطفى محمود حافظ.
مدرس بمدرسة المعلمين بانبابة
من القصص الشعري
إسلام حمزة
بقلم فريد عين شوكه
مر أبو الحكم بن هشام (أبو جهل) برسول الله عند الصفا فأذاه وشتمه ونال منه، فلم يرد عليه. ثم انصرف أبو جهل وعاد الرسول إلى بيته وعاد حمزة بن عبد المطلب من صيده فمر بالصفا فحدثته مولاة لعبد الله ابن جدعان بما كان من أمر أبى جهل مع الرسول؛ فغضب حمزة وراح يبحث عن أبى جهل حتى إذا بصر به في ناد من قريش ضربه بقوسه فشج رأسه شجة منكرة، ثم أعلن إسلامه في هذا الجمع، وعلمت قريش أن الرسول قد عز وامتنع بإسلام عمه حمزة.
الرسول يجلس على الصفا مطرقاً إلى الأرض، تراه المولاة فتقول:
لك الله من ناصب مُتَعب
…
يجاهد في بلد مشغَب
تحمل فيه صفوف العذا
…
ب فلم يستبد ولم يغضب
وأوذى من أهله الظالمين
…
وشرّد في حيّه الأقرب
وقاسى بمكة ذل الغريب
…
وذاق من المهد يُتمَ الأب
(تسعى إليه تستضيفه عندها)
محمد (ينظر إليها)
لا تسترح بيننا
…
على ذلك الحجر المجدب
ونحن جوارك تحت الظلا
…
ل بوادٍ وفير الجنى مخصب
يطالعنا بشهي الثما
…
ر ويجري بمورده الأعذب
الرسول (إليها):
دعيني هنا أسترح ساعة
هي (مستنكرة)
…
على ذلك الجامد الملهب؟
وكيف تطيق لهيب الرما
…
ل وترتاح في وهج السبسب؟
هُلمَّ إلى حيّنا فاسترح
…
قليلاً بمربعنا الأرحب
يظلك فيه وريف الغِرا
…
س فتغفو على ظله الطّيب
الرسول (شاكراً):
رعتكِ العناية، لن أستطيع
…
ثواءً بواديكُم المُعشبِ
هي (متضرعة): أطعني
الرسول (زاهداً): دعيني
ترثي له الفتاة ثم تمضي عنه في صمت، ويطرُق ثانية إلى الأرض؛ ثم يمر به أبو جهل فيرفع رأسه بشدة:
أنت هنا
…
فريداً عن الصحبة الهُرَّب
تجالد وحدَك ذل الخرو
…
ج على دين آبائك الأشهب
الرسْول (في هدوء): معي الله
أبو جهل (ساخراً):
خلك من فرية
…
يضيق بها صبية الملعب
وأسطورة جئت تسعى بها
…
وتزعم أنك فينا نبي
وانك قائدنا في الحيا
…
ة وهاد لمن ضل في الغيهب
ألا ما أضلك من قائد
…
وأخسفك اليوم من كوكب
فمن أنت حتى تقود الأنام
…
وتهد يهمو وضع المذهب
ومن أنت حتى نصيخ إليك
…
ونمشي على نهجك الأنكب
وكيف وأنت مهيض الجنا
…
ح ومن ذلك النفر المترب
أليس لدى الله من يصطفيه
…
سواك من المرد والشيب
محمدُ أسرفت فيما دعوت
…
ولكن غرسك لم يعقب
وأشفق منا عليك الرجال
…
فجاءوك بالمال والمنصب
وأقبلتَ تسخر من عطفهم
…
وتزرى برأيهم الأصوب
فلم نسعَ بعدُ بعُتب إليك
…
فما أنت والله بالمعتب
ولكن سنصليك سوط العذا
…
ب ونفريك بالناب والمخلب
ينصرف عنه الرسول غير مجيب فيهدده أبو جهل صارخاً:
فأما نكصت وإما هلكتَ
…
وموتك ليس بمستصَعب
ثم ينصرف أبو جهل ويمر حمزة عائداً من الصيد يقول:
يوم أغرُّ على الجزيرة مشرقُ
…
كالبدر في جنح الدجى يتألق
عالجت فيه الصيد جد مظفر
…
ورجعت منه مجلياً لاُ يلحق
كم صدت من ظبي به وكواسر
…
عصماَء كانت في السماء تحلّق
تسمع صوته المولاة فتخرج إليه فتستوقفه لترى ظبيه:
أرنيهِ حمزةُفينعطف عليها فتراه وتقول:
ياله من شادن
…
تهوى رشاقته النفوس وتعشق
دعه لدىِّ أبا عمارة منحةً
حمزة (في تيه): أمل لعمرك سوف لا يتحقق
إن كنت تائقة إليهِ مشوقة
…
بجمال بزَّته فإني أشوق
هي: بل خلّه
حمزة (وهو يأخذه منها):
لن أستطيع فإنما
…
هو كل ما أبني وما أتعشق
هي (وقد جدت بعد هزل)
تالله ما يغنيك ظبي صدته
…
وحماك صيد مستباح مطْلق
حمزة (غاضباً):
كذباً زعمتَ فإنما أنا قسور
…
تعنو لطلعته القلوب وتفرق
وأنا اعز شباب مكة كلها
…
وحماي ارفع ان ينالَ واشهق
هي (ساخرة):
خفف عليك فقد تصدع شمله
…
وغدا على عبث الحوادث ينتِقِ
حمزة (هائجاً):
كيف استبيح؟
هي: أما رأيتَ محمدا
…
يرمي بما يوهي الجبال ويمحق
ومحمد أبن أخيك كيف يصيبه
…
هذا العذاب وفيك قلبُ يخفق
حمزة (غاضباً):
منَ ذا استطال عليه أم من ناله
…
بأذىً؟
هي (متحسرة): أبو الحكم الجهول الأحمق
لاقاهُ قبلكَ بالسفاهةِ والأذى
…
وقسا عليه وهو مغض مطرق
يرنو إليه بمقلتى متضرع
…
فيفيض في سفه الحديث ويُغرق
سفنه تضج له السماء العلى
…
والأرض من غلوائه تتشقق
وأذى تخر له الجبال صريعة
…
وتهى لمسمعه النفوس وتصعق
حتى إذا ضاق النبي بكل ما
…
لاقاه من عنت يؤود ويرهق
ترك الصفا ثبت الجنان وكله
…
شكوى تفيض وأدمع تترقرق
حمزة (وقد بلغ به الغضب):
ويل لعمرٍ ومن حسام في يدي=قاسي الطعان يشيب منه المفرق
ويل له حتى يصير فريسة
…
تفرى حشاها الضاريات وتعرق
لو كنت حاضره على هذا الصفا
…
لأصاب مني مارداً لا يرفق
صبراً نبي الله سوف يصيبهم
…
مما رموك به شواظ محرق
ثم يذهل عما كان معه من ظبي الطيور ويهم بافتقاد أبي جهل، ويشرف على ناد بقريش فيراه أحدهم من بعد فيحادث جلساءه وهو مرتاع:
انظروا حمزة:
فينظر ثم يقول أكثرهم:
شر مدلهْم
…
بين عينيه ونار تضطرمْ
بعضهم:
ويحه أي مصاب هاجه
…
فأتى يعبس كالخطب الملْم
يأتي حمزة فيقول إليه:
إنه يا حمزة:
حمزة (ثائراً): الهوبُ لظى
…
بين أحشائي قاس يحتدم
ثم ينظر فيهم:
أين هذا الوغد
هم (إليه): من ذا تبتغي
هو (في اضطراب):
…
أخبروني أين يا قوم جثم
يقبل أبو جهل من جهة أخرى فيراه حمزة فيضربه بقوسه قائلَا:
أنت أقبلتَ؟ فخذها ضربة=يرتوي منك بها قوسٌ نَهِم
أبو جهل (وقد وقع على الأرض):
أدركوني
…
(فيقبل البعض عليه)
حمزة (وقد أحاط به بعض الشجعان يمنعونه):
بل دعوني أسقه
…
أكؤس الموت وأكواب العدم
واحد منهم:
اصطبر حمزة لا تهتج فم
…
سكن المهتاج إلا وندم
ثم يتحايلون عليه حتى يجلس فيتحادثون:
ما الذي نالك من عمرو
حمزة: لقد=نال مني قومي كثيراً وظلم
كل يوم يشتفي في ابن أخي
…
بسباب دونه أقسى الحمم
وإذا ما شامه أغرى به
…
صبية الحيّ وأوشاب الخدم
هم (في ترفق):
سوف نرجوه فلا يقربه
…
بأذى
حمزة (مستنكرا) =ترجونه فيما اجترم؟
هانت الدنيا إذا لم احمه
…
أينما حل وأيانَ قدم
من أناسيّ كربع دارس
…
كاد من فرط البلى أن ينهدم
أسد في غير ساحات الوغى
…
وهُم إن جدت الحرب نَعَم
ثم يسكت قليلاً ويهم واقفاً:
بلغي يا ريح عني واحفظي
…
أيها الصحراء واشهد يا حرم
أنني أسلمت لله فلن
…
أخفض الهامة مني لصنم
وسأعلي دينه الحق على
…
مفرق العُربْ وهامات العجم
(ثم يمضي والقوم في لغط واضطراب)
فريد عين شوكة
الكتب
تحضير الميزانية المصرية
للدكتور محمد توفيق يونس
نشر الدكتور محمد توفيق يونس رسالته التي نال بها أخيراً إجازة الدكتوراه في الحقوق من الجامعة المصرية بدرجة (جيد جداً) مع شرف الامتياز بتبادلها مع الجامعات الأجنبية.
وموضوع الرسالة (تحضير الميزانية المصرية) وهو موضوع من أقوى الموضوعات المالية نفعاً، أعظمها خطراً، وأشدها اتصالاً بعمل الحكومة والبرلمان، أعمقها أثراً في حياة البلاد وتقدمها.
وعلى الرغم من ذلك كله ظل هذا الموضوع مجهولاً حتى جاءت هذه الرسالة القيمة أزاحت الستار عنه وألقت عليه ضوءاً ساطعاً أنار جوانبه جميعاً.
ويزيد هذا البحث جلالاً وخطراً انه بني على أبحاث قيمة عميقة، ومشاهدات واقعية ودقيقة، ووثائق أصلية ثمينة، تستفرغ الجهد المضني وتستنفد الوقت الطويل.
وقد رتب المؤلف أبحاثه ترتيباً منطقياً سليماً وصور للقارئ الميزانية المصرية تصوراً علمياً سديداً، فأرجع موضوعاتها إلى أصولها العلمية وسماها بمسمياتها الصحيحة، وطبق عليها مبادئ علم المالية العامة، أخضعها للبحث العلمي الدقيق، وجعل منها مجموعة متماسكة الأجزاء، محكمة الارتباط، واضحة المعنى.
بيّن للجمهور الحالة الحاضرة للميزانية المصرية من الوجهتين العلمية والعملية بعد ان تكلم عن حالتها في الماضي ومختلف تطوراتها. وقد درسها فوق ذلك دراسة نقدية، ووقف إزاء ما يعرضه من مسائل موقفا إيجابيا، وبين ما يراه من الوسائل المؤدية لحلها، فمهد بذلك الطريق لمن يتبعه من الباحثين، أعطى كل من يهمه أمر الميزانية المصرية من الشيوخ والنواب والموظفين والطلبه مرجعاً قيماً ثميناً، شديد الأهمية جزيل الفائده، خصوصاً ولم يكن أمامهم قبل ذلك أي بحث آخر يعبد السبيل وينير الموضوع.
وليس أدل على موضوع هذا البحث مما يقوله المؤلف في ختام مقدمته: (على هذا الأساس الواقعي بنيت رسالتي جاعلاً نصب عيني أن أرى القاريء، في تحضير الميزانية، كيف تصبح مجموعة من التقديرات الأولية المبعثرة مجلداً ضخماً منسقاً؛ وأن أصور له الميزانية
المصرية تصوير الكائن المستقل له أجزاؤه ومميزاته مقدماً إليه بياناً عن جميع ألادوار التي تمر بها في مرحلة التحضير محدداً ومحللاً المبادئ والقواعد التي تتصل بها وتقوم عليها).
ولقد حقق المؤلف غرضه أتم تحقيق، وبلغ ولاشك غايته على خير ما يكون، فقدرت الجامعة المصرية رسالته اعظم تقدير ومنحته أسمى درجاتها، وصادف عمله نجاحاً عظيماً واهتماماً شديداً في الأوساط العلمية والدوائر الحكومية. والكتاب أنيق الطبع جيد الورق يباع في جميع المكاتب الشهيرة وثمنه عشرون قرشاً.
زعامة الشعر الجاهلي
بين امرئ القيس وعديّ بن زيد
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
الأستاذ عبد المتعال الصعيدي أديب مجتهد واسع الاطلاع، يعجبك منه إذا حادثته دماثة خلقه، ورقة طبعه، وسرعة بديهته، ومن آثاره الأدبية هذا الكتاب الذي أحدثك عنه، وهو يقع في نحو مائة وثلاثين صفحة من القطع الكبير.
ابتدأ الأستاذ كتابه بفصل من ميزان الشعر وقد تساءل في هذا الفصل (هل يوزن الشعر بموضوعه او يوزن بألفاظه ومعانيه أو يوزن بهما معاً؟ وإذا كان يوزن بهما معاً فما الذي ينظر إليه قبل غيره منهما؟) ثم تكلم في هذا الفصل عن الشعر وأغراضه، وعقد فصلاً آخر عن الشعر الحضري والشعر البدوي ثم وصف نجداً وتكلم عن كندة وتغلب، ثم ترجم لامرئ القيس وشرح عقيدته وتعرض للغته وشعره، وأورد طرفاً من شعره في لهوه وجده، وبعد ذلك انتقل إلى عدي ابن زيد فتكلم عن الحيرة وعن حياة عدي ولغته وشعره، وأورد أيضاً شيئاً منه، ثم تكلم عن منزلة الشاعرين إجمالاً ووازن بينهما في النهاية فجعل الزعامة لعدي بن زيد.
فالكتاب كما ترى جدير بان يقرأه الأدباء، فسيجدون في قراءته متعة، وسيظفرون منه بكثير من المعلومات الشيقة المفيدة ولهم بعد ذلك أن يوافقوا الأستاذ فيما ذهب إليه أو يخالفوه.
أما أنا فأخالفه وأراه متحيزاً في حكمه، وأرى هذا التحيز نتيجة لازمة لمقدمته عن ميزان الشعر فقد جعل الأساس في وزن الشعر أغراضه، وقسم هذه الأغراض إلى شريفة وغير شريفة، دون أن يحدد هذا التقسيم، ثم اظهر ميله إلى شعر الحضر ونفورة من شعر البادية فجعله غليظاً خشناً ليس فيه من المحاسن إلا وصف جمال الطبيعة إن كان ثمة من جمال في البادية! وعلى هذا الأساس قدم عدياً لشرف أغراضه ورقته التي اكتسبها من الحضر مع انه يقول في صفحة 14 (ولا نريد من هذا ان الأدب الحضري في جملته كان خيراً من الأدب البدوي في جملته، وقد يوجد من أدباء البدو من كان خيراً من بعض أدباء الحضر ومن أدباء الحضر من كان خيراً في أدبه اقل من بعض أدباء البدو) ولكنه أراد ان يقدم عدياً فتكلف، واضطر إلى أن يغمط امرأ القيس كثيراً من محاسنه، هذا إلى أنى أخالف الأستاذ الفاضل في قوله عن الشعر (ان موضوعاته هي أغراضه وألفاظه هي معانيه، ومعانيه هي ألفاظه، ولا يمتاز اللفظ عن المعنى إلا في مظهر وجوده في اللسان ووجود المعنى في الذهن).
لا أستطيع أن اقره على هذا الرأي، ولا أجده يحتمل المناقشة أو بعبارة أخرى أجد المناقشة فيه لا تنتهي، فإن المناقشة في البديهيات تخرج عن الموضوع إذ أنها تبدأ من قضية مسلمة ومن نقطة نهائية.
أما عن قياس الشعر بأغراضه فإني أرى الأمر على عكس ما يراه الاستاذ، فلم تتسنى الموازنة بين شاعرين، إذا أردنا تفضيل أحدهما على الآخر إلا إذا اتفقا في الغرض، أو على حد تعبير أدبائنا إلا إذا اتحدا في المدرسة، أما أن يختلفا في البيئة والغرض فنجعل من ذلك مقياساً للموازنة بينهما فما لا أسلم به إلا إذا استطعنا أن نوازن موازنة تنتهي بحكم تفضيلي بين أبي نؤاس وعمر بن أبي ربيعه مثلاً أو بين البحتري والمعري أو بين شوقي والبار ودي. . . الخ.
ولكني إذا خالفت الأستاذ في بعض آرائه فلا يسعني إلا أن أعلن إعجابي بدقته في البحث واستقصائه لتفاصيل الموضوع وإلمامه به، هذا إلى جمال عبارته ودقة أدائه مما يجعل كتابه جديراً بالاقتناء، خليقاً بالدرس في روية وإمعان.
محمود الخفيف