الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 510
- بتاريخ: 12 - 04 - 1943
مصر والوحدة العربية
قلنا في افتتاحية السنة الحادية عشرة من حياة الرسالة:
إن الاتحاد العربي على أي صورة يوشك أن يكون مقصداً من مقاصد الحكم في هذا العهد. ولقد قام في سبيل هذا المقصد ما قام منذ تصدع شمل الأمة العربية، من بواثق الاستعباد وعوائق الاستعمار وما تجره سياسة الغزاة من انقطاع الأسباب بين الأخوة، وتشعُّب الآراء بين القادة. فلما تعارضت منافع الأمم المستعمرة، ووثبت النازية تريد استعباد الأمم لأنها بطبيعة عنصرها على زعمها سيدة، وزحفت الفاشية من ورائها تبغي استغلال البلاد لأنها بطبيعة أرضها فقيرة، رأت الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها، أن تستعين فيما تستعينُ على هذا الطغيان الكافر المسلح بقوى العرب المتفرقة؛ فأعلن وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم البريطاني:(أن حكومته تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز وحدتهم الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية؛ ولكن من الجلي أن الخطوة لتحقيق هذا المشروع يجب أن تكون من العرب أنفسهم. والذي أعرفه أنه لم يوضع إلى الآن هذا المشروع الذي سينال استحساناً عاماً)
وبهذا التصريح الرسمي العلني زالت الحوائل السياسية التي كانت فيما مضى تجعل الكلام في الوحدة العربية حُلماً يُرى وشعراً يقال، فإذا تنفس الصبح بالحلم تبدد، وإذا انتهى الشعر إلى الفعل كذب. وكان من غير المعقول أن يرى العالم العربي الخطوب تتواثب على جوانبه، والنوازل تتفاقم في أحشائه، ثم تظل كل دولة من دوله سادرة في مشاعب هواها دون أن تعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل من التجمع والتعاون؛ فما هو إلا أن غامت الآفاق العربية بخطوب الحرب حتى شعرت كل دولة عربية بما تشعر به الشاة الشاردة عن القطيع، فتضاموا من الخوف ليتقي بعضهم ببعض سوء المصير؛ وهبَّ الزعماء المخلصون يقوون ما وهن من صلة الدم ونسب الروح، فسهلوا تزاور الأقرباء، وشجعوا تبادل الآراء، وقرروا توحيد الثقافة. ثم كان من توفيق الله لهذه الوزارة القائمة أن تخطو في سبيل الوحدة العربية هذه الخطوة التي كان ينتظرها وزير الخارجية البريطانية، وأن يسجل صاحب المقام الرفيع رئيسها هذه الخطوة المباركة في مجلس الشيوخ بقوله: (. . . منذ أعلن المستر إيدن تصريحه فكرت فيه طويلاً. ولقد رأيت أن الطريقة المثلى التي
يمكن أن توصل إلى غاية مرضية، هي أن تتناول الحكومات العربية هذا الموضوع. وانتهيت من دراستي إلى أنه يحسن بالحكومة المصرية أن تبادر باتخاذ خطوات رسمية في هذا السبيل، فتبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية المختلفة فيما ترمي إليه من آمال، كل منها على حدة؛ ثم تبذل الحكومة المصرية جهودها في التوفيق والتقريب بين آرائها ما استطاعت السبيل إلى ذلك؛ ثم تدعوها جميعاً إلى مصر في اجتماع ودّي لهذا الغرض، حتى يبدأ المسعى للوحدة العربية من وجهة متحدة بالفعل. فإذا ما تم التفاهم أو كاد، وجب أن يعقد في مصر مؤتمر برياسة رئيس الحكومة المصرية لإكمال بحث الموضوع واتخاذ ما يراه من القرارات محققاً للأغراض التي تنشدها الأمم العربية.
(. . . وقد أخذتُ أنفذ هذه الخطة، فوجهت بالفعل إلى رئيس حكومة العراق دعوة رسمية. . . حتى إذا ما وافق فخامته على هذه الخطوات بحثنا رأي العراق في هذا الموضوع من جهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وسأوجه بعد ذلك الدعوة تلو الدعوة إلى الحكومات العربية وأستقصي من مندوبيها واحداً بعد واحد رأيها في الموضوع نفسه. فإذا ما انتهيت من هذه المباحثات التمهيدية ورأيت منها ما يبشر بالنجاح كما أرجو، دعت الحكومة المصرية إلى عقد المؤتمر في مصر. . .)
وبهذا التصريح الرسمي الآخر أصبح السعي للوحدة العربية حقيقة من حقائق السياسة لا خيالاً من أخيلة الشعر، وعملاً رسمياً من أعمال الحكومات لا أملاً وهميَّا من آمال الأفراد.
وظنُّ العروبة بحكامها وأعلامها أن يخلصوا لها السعي والرأي في هذه المحنة العالمية التي عبثت الشياطين فيها بأنظمة الكون، فاختل التوازن، واضطرب العيش، وذل الحق، وأفلس المنطق. ولا جرم أن سلامة العروبة وحريتها في أن تكون يوم يجتمع الناس للصلح القريب أو البعيد، وحدةً سياسية تنتظم دولها جمعاء من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، وجملتها لا تقل عن ثمانين مليون نفس. ذلك لأن الدويلات الضعيفة كان لها فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة. فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حرة آمنة، لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني. فلما نُكس بعض أمم الحضارة وعاودها داء الهمجية الأولى فتحلبت أشداقها على حدود هذه الدول الصغيرة، لم يعد لها عاصم من
عدوانها إلا أن ينضم بعضها إلى بعض، ويتقوى بعضها ببعض.
أما نوع هذا الاتحاد فقد كنا اقترحنا في عدد مضى من الرسالة أن يكون على مثال الاتحاد الأمريكي؛ ولكن تحقيق ذلك الاقتراح يقتضي من الوقت والجهد والاستعداد والمرونة ما لا يحتمله الزمن المضطرب ولا تسعه الفرصة العجلى. إذن فلتكن بداية هذا الأمر مثلاً أن تؤلف عصبة من الدول العربية في القاهرة على نحو ما كانت عصبة الأمم في (جنيف) لتقرب المصالح الخاصة، وتوحد المآرب العامة، وتوجه السياسة المشتركة، ثم تستعد للصلح المقبل، وتمهد للاتحاد التام.
على أن في المؤتمر الذي اقترحته مصر ودعت إليه مطالعةً لحال العرب: تُستشف فيه الدخائل، وتُكشف به الحوائل، وتُستنبط له الوسائل؛ فلندع مواضعة الرأي لأولئك الذين ادخرهم الله لهذا المسعى الخطير الذي لم يُتح لأحد بعد محمد؛ ثم لنقف نحن بجانب التاريخ نرصد وننقد ونسجل.
احمد حسن الزيات
ظاهرة جديدة في الأزهر
للأستاذ محمد محمد المدني
انتهى العام الدراسي في الأزهر أو كاد، وانصرف الطلاب عن فصولهم إلى المذاكرة والإعداد لمرحلتهم المقبلة، وابتدأ الأساتذة فترة استجمامهم التي ألفوا أن ينعموا بها في كل عام إثر الدراسة وبين يدي الامتحان؛ أما أنا فقد عدت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: عدت من دراسة (علم الأصول) في كلية الشريعة بين طلاب عليّ كرام، أحبهم ويحبونني، وأفهمهم حق الفهم ويفهمونني، وأبثهم نصحي وإرشادي فيستمعون إلى نصحي وإرشادي. غايتهم العلم فهم عنه باحثون، وبغيتهم الحق فهم له مخلصون؛ لم تطرف عيونهم الدنيا، ولم تسد مسامعهم الشهوات. رجعت من هذا الجهاد الأصغر، بل من هذا الجهاد الحبيب إلى النفس الذي نجد فيه معاشر الأساتذة لذتنا، وننشد بالتعب فيه راحتنا، إلى جهاد من نوع آخر قد حف بالمكاره، وأحاطت به الأهوال والصعاب من كل جانب: عدت إلى (الرسالة) الغراء أبثها آلامي وآمالي، وأسجل على صفحاتها آرائي وأفكاري، وأتعرض بذلك لسخط الساخطين، ولوم اللائمين، وكيد الكائدين.
عدت إلى (الرسالة) اخطب على منبرها العالي قوما تناط بهم الآمال في إصلاح هذه الأمة، ويرجى منهم النهوض بما حملهم الله من أمانة حين جعلهم حملة هذه الشريعة
عدت إلى (الرسالة) أنادي قوماً يحسبون صيحاتي لهم صيحات عليهم، فيثقل عليهم نصحي إذا نصحت، ويُحفظ صدورهم نقدي إذا نقدت، وتهيم بهم الظنون في أمري إذا سكت، وتنطلق الوشاة بي من حولهم كما تنطلق الصلال الرقطاء في الرمال البيضاء، ينفثون سمومهم، وينشرون شكوكهم، ويقولون: هذا شاب مغرور بنفسه، متطفل على ما ليس من شأنه. ليس هذا بكاتب يصور قلمه ما يشعر به قلبه، إنما هو فتى يردد ما يسمع أو يعلَّم ما يقول. ليس هذا بناصح أمين، وإنما هو عدو مبين. . . قالات سوء يرجف بها المرجفون، ويمكر بها الماكرون حتى لتطيش منها أحلام ما عهدناها أن تطيش، وتفتر بالهُجر من القول شفاه لم تكن تفتر إلا عن الحكمة والموعظة الحسنة!
فاللهم عونا على هذا الجهاد. أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير!
انتهى العام الدراسي في الأزهر أو كاد. ولسنا ننظر إلى الأزهر كما ننظر إلى أي معهد
من معاهد التعليم فحسب، وإنما ننظر إلى الأزهر وينظر المسلمون جميعاً إليه على أنه الحصن الأخير الذي لم يبق سواه لشريعة الإسلام وثقافة الإسلام، فيجب أن نلتفت إليه في كل مناسبة، ويجب أن نهتم به في كل حركة، ويجب أن نتابع أخباره فلا يشغلنا عنها شيء.
وهاهو ذا قد أمضى اليوم عاماً من أعوامه الدراسية، فمن حق كل مسلم أن يعرض تاريخه في هذا العام، وأن يحاسبه على ما قدم أو أخر في شئونه الخاصة والعامة، ومن الحق على الأزهر أن يثبت لهذا العرض، ويصبر على هذا الحساب!
فما هو إذن تاريخ الأزهر في عام؟
لقد مضت قبل هذا العام أعوام كان الناس يتحدثون فيها عن أشياء كثيرة: كانوا يتحدثون عن (جماعة كبار العلماء) وما يرجى من نشاطها للقيام بواجبها. وكانوا يتحدثون عن (برنامج الإصلاح) الذي اقترح لها. وكانوا يتحدثون عن الكتب والمناهج الدراسية وما يرجى من إصلاحها وحسن الانتفاع بها. وكانوا يتحدثون عن المقررات التي يمضي العام ولا يقرأ منها إلا القليل. وكانوا يتحدثون عن نظام (المراقبة العامة) على التعليم العالي ولأي غرض أنشئت. وكانوا يتحدثون عن الفقه الإسلامي وواجب الأزهر في وصله بالحياة العامة وعرضه عرضاً يوافق روح العصر. وكانوا يتحدثون عن نظام التخصص وعيوبه التي ضج منها الطلاب وغير الطلاب. وكانوا يتحدثون عن مجلة الأزهر التي هي لسانه وعنوان ثقافته وأداة الدفاع عنه. وكانوا يتحدثون عن واجب الأزهر في الاتصال النافع بمراكز الثقافة وأندية العلم ولجان التشريع. وكانوا يتحدثون عن مكتبة الأزهر وكنوزها الدفينة التي كاد يأتي عليها البلى بعد أن أتى عليها النسيان. وكانوا يتحدثون عن رسائل الجماعة الموقرة، تلك الرسائل التي تكتب لتختبئ فلا تراها عين ولا تسمع بها أذن!
كانوا يتحدثون عن ذلك كله، وكانوا يتحدثون عن غيره مما لست أذكر الآن، وكانت (الرسالة) سجلاً واعياً لهذه الأحاديث، ولساناً ناطقاً بهذه الآمال، بل كان البرلمان بمجلسيه يتحدث عن بعض ذلك، ويتقدم أعضاؤه فيه بالأسئلة والاستجوابات، وترسل لجانه إلى مشيخة الأزهر بملاحظاتها على التعليم ومستواه، وعن (الأمثلة البادية العوار) التي لا ينبغي أن تبقى ماثلة تتأذى بها العيون. . . الخ. الخ.
كان ذلك كله في الأعوام الماضية، وكان أصحاب الرأي والنظر البعيد يعدونه بداءة طيبة للدعوة إلى نهوض الأزهر، فإن الأزهر إذا سمع الناس يتحدثون عنه، ورأى الناس يهتمون به، ووجد بعض أبنائه والمخلصين له يشاركون في هذه الأحاديث، ويلفتونه إلى هذا الاهتمام، لم يلبث أن يفكر في أمره كما يفكر الناس فيه، ويومئذ تجد دعوة الإصلاح من النفوس قبولاً، ومن الآذان إصغاء، فيتعاون على نجاحها الداعون والمدعوون على سواء.
وقد بدت في هذا العام تباشير تلك الخطوة الثانية في سبيل النهوض، وانتقلت أحاديث الإصلاح من ميدان (الرسالة) إلى ميدان آخر هو ميدان الرؤساء والعلماء والطلاب من أبناء الأزهر المخلصين: شعروا بأن الأزهر في حاجة إلى تكاتف الهمم، وتناصر العزائم، ورأوا تيار العلم في الجامعات الحديثة يوشك أن يكتسح الأزهر اكتساحاً، وعلموا أن الأمة قد تنبهت إلى ما تفعله كل طائفة من أبنائها، وأن الدولة قد أصبحت حريصة على أن تجعل دور العلم للعلم فقط، وأن الأزهر حين انحرف عن طريقه العلمي وانغمس في الحركات، وسُخر في سبيل الأهواء والنزعات، غض ذلك من مهابته، وجرأ الأصدقاء قبل الأعداء عليه، وأزال صيانة الذي كان ينبغي أن يبقى له. علم أبناء الأزهر المخلصون ذلك كله، وعلموا أن عليهم واجباً لمعهدهم العظيم ألا يقفوا منه موقفاً سلبياً، والعيون ترمقهم، والألسنة تتحدث عنهم، والأصابع تشير إليهم، فعقدوا العزم على أن يجعلوا من أنفسهم جنوداً للاصلاح، وخداماً مخلصين للأزهر حتى ينهض نهضته، ويسترد في العالم الإسلامي مكانته، ويعود إليه سابق مجده!
عقدوا العزم على أن يخلصوا للأزهر أكثر من إخلاصهم للأشخاص، ووطنوا أنفسهم على أن يكونوا صرحاء في الجهر بالعلة، أقوياء في المطالبة بالعلاج؛ وسرت هذه النزعة الجديدة في نفوسهم جميعاً: سرت في نفوس الشباب الأزهري كما تسري الحياة في الأزاهير الناشئة، وسرت إلى نفوس الشيوخ كما يسري الماء إلى الجذوع المتعطشة، بل سرت إلى الرؤساء المسئولين الذين يلون المناصب الكبرى في المعاهد والكليات، فأصبح هؤلاء جميعاً مؤمنين بها، متلاقين عندها، متناسين كل شيء من خلافاتهم في سبيلها!
ولست أقول هذا الكلام جزافاً، أو توسعاً في الآمال، فإن له لشواهد حاضرة، وآثاراً بادية، ربما تناولتها في مقالاتي الآتية تباعاً. وحسبي اليوم أن أقول للذين كانوا يظنون أن دعوة
الإصلاح صرخة في واد، أو نفخة في رماد، وللذين كانوا يؤثرون اطراد الأمور على أي نسق كان ابتغاء الراحة والهدوء، ثم للذين بذروا البذر ولم يتعهدوه حتى ينبت:
إن الإصلاح لا يعرف الرجوع، ولا يعرف الركود. إنه كشعلة من نار يخفضها الخافضون فتأبى إلا ارتفاعاً. إن قوة الإيمان لا تغلب ولا يقاومها إلا مخذول. وإلى اللقاء في حديث بعد هذا الحديث.
محمد محمد المدني
كيف نعلم أبناءنا؟
وما الغرض من التعليم؟
للدكتور زكي مبارك
متاعب!
هي المتاعب التي يعانيها من يواجه الحقائق بأساليب صريحة بريئة من الرياء. . . ومن أعجب العجب أن الناس يطالبون الكاتب بأن يحدثهم عن كل شيء، مع أنهم لا يسمحون له بشيء من الصدق إذا تحدث عن أشياء تمسهم من قريب أو من بعيد. وهذه الظاهرة من أسباب ضعف الروح البيانية، ومن أسباب قصور الأدب عن وصف المجتمع الحديث.
إن الأمم المحاربة لم تشغلها الحرب عن التفكير في شؤون التعليم والتثقيف، لأن تلك الأمم عهدت إلى كل طائفة من الطوائف جانباً من جوانب الحياة القومية، فبقي الجندي جنديَّا، والتاجر تاجراً. إلى آخر ما هنالك من الطوائف، وصار لزاماً أن يبقى المعلم معلماً في حدود ما يملك من القُوى النفسية والروحية والعقلية.
ونحن لم نشترك في الحزب من جانبها الدموي - وإن كان أذاها وصل إلى كثير من مرافقنا الحيوية - وهذا الحياد قد استبقى قواها وادّخرها لإنجاز شؤون التعليم في مراحله المختلفات، فمن الواجب أن نبذل جميع الجهود الممكنة في خلق التعليم خلقاً جديداً، بحيث نواجه تقلبات ما بعد الحرب، ونحن على بينة من مطالب العصر الجديد.
قال معالي الهلالي باشا في خطبته بحضرة جلالة الملك يوم افتتاح جامعة فاروق الأول: إن هذه الجامعة هي الجامعة الوحيدة التي أنشئت في العالم كله أيام الحرب
وهذا صحيح، ولكن ما السبب في تفرد مصر بهذه المزية؟
يرجع السبب إلى أن إعفاءنا من الحرب الدموية لم يدعُنا إلى إعفاء أنفسنا من حرب الجهل والجمود، فنحن نقاتل في ميدان هو أصعب ميادين القتال، ونحن نواجه مصاعب تزلزل القلوب والعقول، وهذه محمدة قليلة الأمثال
أكتب هذا وقد تعتَّب ناسٌ وتغضّبوا لأنهم رأوا في المقال الأسبق عبارات في نقد الطرائق المتبعة في تعليم الإنشاء. . . فهل كان يجب أن أقول إن كل شيء على ما يرام، وليس في
الإمكان أبدع مما كان؟
الكاتب يحاسب على المجاملات، ولا يطالب بالمجاملات، وأول طائفة خليقة باحترام حرية الرأي هي طائفة المدرسين، لأنهم دعاة الحرية الفكرية، ولأن واجبهم الأول هو خلق اليقظة العقلية، فما يجوز لأحدهم أن يعتب أو يغضب إذا رأى كاتباً يدعوه إلى التفكير في وزن ما درج عليه من طرائق التعليم، عساه ينتقل من حال إلى أحوال في الإفهام والتفهيم والشرح والبيان.
واجب المدرس أن يصغي لكل قول، وأن يحترم كل رأي. واجبه أن يدرك أن كل شيء في تجدد، وأن يفهم جيداً أن للتعليم سياسات تتغير من يوم إلى يوم، وأن التلميذ الواحد قد يساس في درس الأدب بغير ما يساس في درس الإنشاء، وأن التدريس هو في الأصل رياضة مختلفة المسالك والألوان.
وإذا ضاق صدر المدرس بما يقرأ أو يسمع من ضروب النقد، فعند من ننتظر رحابه الصدور ورزانة الأحلام؟
وتأذَّى فلان من أن يقال إن الإنشاء قد يصعب على بعض المفتشين. . . فما عيب هذا القول وفيه شيء من الحق؟
وبماذا نجيب إذا سئلنا عن جهود مفتشي اللغة العربية في خدمة الحياة الأدبية؟
هل يكفي أن يكون الكاتب كاتباً بالقوة لا بالفعل، كما يعبّر علماء المنطق؟
إن المفتشين رُفعوا إلى مراكزهم باسم التفوق في علومهم، فهل نلام إذا دعوناهم إلى زكاة ذلك التفوق؟
مصر غنية بالثروة العلمية، فهل نراها غنية بالثروة البيانية؟
وهل من الحق أن رجال التعليم عندنا أكثروا من الجهاد العلمي والأدبي إكثاراً ليس بعده زيادة لمستزيد؟
كم كتاباً صدر عن رجال التعليم في مدى عشر سنين؟
وما هذا الزهد في البحث والتأليف، الزهد الذي يسمح بأن تنتهي حياة الرجل قبل أن يدين أمته بكتاب جيد؟
إني أخشى أن يضيع زمام الحياة الأدبية من أيدينا إن تركنا الإبداع في الأدب، واكتفينا
بوضع الموجزات في القواعد والتطبيق، كما يفعل بعض الزملاء.
صلة المدرس بالحياة
قبل أن أواجه مشكلات التعليم أفصِّل مسألة شغلتني منذ أعوام، وهي مسألة القلق الذي يساور المدرسين من الوجهة المادية، وهو في رأيي قلق يبشر بالخير، ولا ينذر بالشر كما تعوَّد بعض الناس أن يقول.
لو أحصينا مطالب المدرسين لرأيناها في الجملة متصلة بالمطالب المعاشية، فهل يكون في هذه الظاهرة برهان على أننا نواجه عصراً أفضل من العصور الخوالي؟
أنا أقول بذلك، ولا يؤذيني أن أرى مدرساً يرجو أن تنصفه وزارة المعارف ليعيش في رخاء
ولكن هذا الكلام يحتاج إلى شرح، فلنقدم الشرح:
كان التعليم من أعمال الكهَّان والأحبار والرهبان، وحيوات هؤلاء كانت مريحة، لأن الجمهور كان مسئولاً عن تزويدهم بما يشتهون، فلم يكونوا في احتياج إلى مزاولة أعمال المعاش.
يضاف إلى ذلك أن التعاليم التي كان يقدمها أولئك الأقوام إلى الناس كانت ترمي إلى غاية أخروية لا دنيوية، فكان من المعقول أن يعيشوا عيش الزهاد ليفلحوا في أداء رسالتهم الروحية.
أما التعليم في هذه الأيام فله غاية تخالف تلك الغاية، هو تعليم يراد به فهم الحياة الواقعية ليكون أداة من أدوات التملك والاستيلاء
نحن نعلم أبناءنا ليسودوا في دنياهم، ولا نرضى لأبنائنا أن ينتظروا الثواب من المحسنين ولو كانوا في سماحة الأنبياء
نحن نرجو أن تكون يد أبنائنا هي العليا بفضل التعليم الصحيح. نحن نحب لهم أن يتسلحوا بأسلحة العصر الحاضر، عصر النضال والصيال، ونكره أن يذلوا باسم الزهد في الدنيويات
ومن الذي يوحي إليهم تلك المعاني؟
أهو المعلم المترهب الذي ينتظر إفضال المفضلين؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، والمعلم الذليل
لا ينشئ تلاميذ أعزاء يجب أن يكون المعلم ابن زمانه بالقول والفعل، وأخلاق هذا الزمان لا تمنح العزة لمن يعيش بفضل الصدقات
كانت غاية المعلمين من الرهبان أن يخلقوا طوائف جديدة من الرهبان، وكان التشرد في أقبح صوره يجد من يسمه بوسم التوكل على الله، فأين نحن من تلك الغاية العجفاء؟ إنها منا بعيد
وإذن يتحتم أن يكون المعلم رجلاً موصول الأواصر بالمنافع الدنيوية، ليوجه تلاميذه إلى المنافع الدنيوية
يتحتم على المعلم أن يدرك ما في الحياة من تعقد واشتباك، ليروض تلاميذه على مغالبة ما في الحياة من تعقد واشتباك
كان المعلم راهباً، وقد بقيت من هذه النزعة بقايا نجدها في بعض البيئات، ولكنها لا توائم العصر بأي حال
يجب أن تُسبق الأبوة الروحية بأبوة حسية. . . ومعنى هذا أني أرى أن المدرس لا يعرف حقوق تلاميذه عليه إلا إن كان له أبناء
المعلم الحق في هذا الزمان هو المعلم الذي يعيش كل العيش، فيكون له مصالح تفرض عليه أن يفهم الاتجاهات المختلفة في هذا الجيل
والعيش على هامش الحياة عيشٌ ضائع، ومن عاش كذلك فليس بأهل لأن يخلق ذوق الحياة في صدور التلاميذ
وأين التلميذ الذي يحترم أستاذاً فقير الجيب؟
الأصل أن تقول لتلميذك: تعلم لتكون في مثل جاه أستاذك؛ والجاه في هذا الزمان يُجرح بأيسر بادرة من بوادر الإفلاس
والأصل أيضاً أن يكون العلم تاج المنافع. . . فإن افتقر العالم فسيكون افتقاره شاهداً على أن قوة العلم هباء في هباء.
وهنا مشكلة تستحق الدرس، وهي تحديد المراد من العلم، فما هو العلم المنشود؟
هو العلم الذي يمنح صاحبه السيطرة على ناصية هذا الزمان
هو علم العصر الحديث، ولو تمثَّل في فهم أساطير الأولين
أنا لم أتعود خداع قرائي، وأنا أوصيهم بما أوصي به نفسي، فليسمعوا هذا الكلام إن كانوا لأنفسهم أوفياء
ونحن لا نطالب الدولة بحق الإنصاف، إلا إن أقمنا مئات البراهين على حقنا في الإنصاف
ولن يكون ذلك إلا إذا وثقت بنا الدولة ثقة تغنيها عن تلك الجيوش من المفتشين
إن احتاج المدرس إلى رقابة المفتش فليس بمدرس
والأساس أن تكون المدرسة غزواً روحياً للبيت، فيكون الطفل أستاذاً لأبويه، لأن له أسندة من روحانية أساتذته الفضلاء
والأساس أيضاً أن يُخوَّف التلميذ بسلطان المدرسة عليه، فلا يشكوه أهله حين ينحرف لغير السلطة المدرسية
ومتى يتيسر ذلك؟
أيكون غنى المدرس هو الوسيلة كل الوسيلة إلى السيطرة على التلاميذ؟
وكيف وفي آباء التلاميذ من يكون إيراده أضخم من مرتب وزير المعارف؟
هيبة المدرس ترجع إلى التمكن من المعلم الذي يدرسه التمكن الفائق الذي يشعر التلاميذ بأن أستاذهم من أكابر العلماء
إن استطاع المدرس أن يلقى تلاميذه كل يوم وفي يده كتاب جديد فليفعل. . . وإن استطاع المدرس أن يدل تلاميذه على جميع ما يجدّ من الآراء العلمية والأدبية فليفعل. . . وإن استطاع أن يرشدهم إلى طيبات الحياة الفنية فليفعل.
المهمُّ هو أن يسيطر على تلاميذه سيطرة روحية تصغر بجانبها سيطرة الجاه والمال
وإذا وصل إلى هذه الغاية فلن يضيره أن يقال إنه من الفقراء
وأنا لا أطالب بإنصاف المدرس من الوجهة المادية إلا لأضمن صلاحيته لفهم مطالب الحياة، لأني أعتقد أن الرجل المنسحب من ميدان الحياة لا يصلح لشيء، وأكاد أجزم بأن حب الحياة يزيد في قوة الأخلاق.
المعلم الذي أنشُده لأبناء هذا الجيل هو رجل مزوَّد بمواهب إيجابية لا سلبية، هو رجلٌ يسبق زمنه بأزمان، هو رجلٌ يرجو تلاميذه أن يكون هاديهم إلى صراط الحياة في معناها المنزّه عن الغفلة والجمود.
إن وزارة المعارف أنشأت معهداً جديداً هو معهد الدراسات العالية، وبه أرادت أن تزدّد المدرسين بأزواد علمية وأدبية لم يذوقوها من قبل.
فما مصير هذا المعهد؟
إن بقاءه رهينٌ بأحوال المدرسين، وقد قيل إنهم في احتياج إلى مزيد من التثقيف
وأقول: إن من العيب أن نحوج وزارة المعارف إلى أن تُشغل بتثقيفنا بعد أن شببنا عن الطوق منذ زمان
لا يجوز أن نحوج وزارة المعارف إلى شيء من هذا القبيل، وإنما يجب على كل مدرس أن يكون نائياً عن وزير المعارف في أداء الواجبات الوطنية من الوجهة التعليمية.
يجب أن يقترب اليوم الذي يستغني فيه المدرس عن رقابة المفتش.
ولن يقترب ذلك اليوم إلا حين يوجد التلميذ، التلميذ الذي يحب أن يتعلم، التلميذ الذي يقهر المدرس على أن يستعد للدرس كل الاستعداد.
ومتى يوجد ذلك التلميذ؟
متى يوجد التلميذ الذي يخلق المدرس؟
متى يوجد الفتى الذي يعزّ عليه أن تمر أيامه بلا انتفاع؟
سنرى محاولات لبعث الروح المكنون في صدر التلميذ. . . فإلى اللقاء في الأسبوع المقبل وهو قريب.
زكي مبارك
على هامش أحلام شهرزاد
3 -
قضية اليوم
(القصر المسحور)
للأستاذ دريني خشبة
قالت فاتنة: (أرأيت إذن كيف مسخ صاحب (شهرزاد) تلك الصورة العلوية الفردوسية التي رسمها الكاتب العبقري الأول للمرأة الكاملة التي طبَّت لشهريار وعالجت اعوجاجه؟ وهل رأيت كيف أسلم جميع أبطاله للشيطان، فليس فيهم بطل رشيد!؟
فشهرزاد شهوانية مخادعة هلوك. . . وقمر يفتتن بجسدها البض ويراه في صورة إيزيس وعيني بيدبا الفيلسوف الهندي. . . ثم يقتل نفسه من أجل أنه رآها تخدعه عندما شهد العبد يخرج من مخبئه في مخدعها. . . وشهريار ينسى فحولته بل يتبدل بها فسولة عندما يضبط العبد نفسه في مخدعه فلا يثور ولا يتسخط ولا يفور دمه في رأسه، ولا يأمر برأس العبد ورأس شهرزاد، ولا تعود إليه جبلته القديمة المغرمة بسفك الدماء. . . ولماذا تعود تلك الجبلة وقد كلت حيلته في المرأة عامة، لأن المأساة بعينها تتجدد، ودورة الفلك تبدأ من حيث تعود، وتعود من حيث تبدأ. . . ثم هذا هو الجلاد يبيع سيفه أو يرهنه. . . وأبو ميسور يهذي من كثرة ما دخَّن القنب. . . والعبد يتسور الجدار إلى شهرزاد في فحمة الليل فلا تشبع منه ولا تريد أن تشبع منه. . . فهل رأيت بلاء في قصة كهذا البلاء؟ وهل اجتمعت لقصة عصبة من الأبطال المناكيد كهذه العصبة من الأبطال المناكيد؟
وهل يكفي في الاعتذار عن هذا أن يعترف المؤلف في (القصر المسحور) بقصوره، والتسليم بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد، لا ليبلغ الكمال، بل ليدنو منه؟ وهل يكفي أن يعترف ببعد الأمد أمامه حتى يصل إلى ترقية فنه وتجديده واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً؟. . . هل يكفي أن يعترف مؤلف شهرزاد بكل ذلك ليكون بمنجاة من النقد الذي يزيف أدبه مهما اعتذر له عميد الأدب العربي وشريكه في القصر المسحور، ومهما دافع عنه بوصف كونه أديباً له أن يبرز أبطاله في الصورة التي يراها، ومهما اعتذر له بوجوب حرية الرأي والدفاع عن
حرية الرأي وتقديس حرية الرأي؟! على أن عميد الأدب قد احتاط للأمر، فلم يرسل هذا القول على عواهنه، بل كان حصيفاً حين قال في القصر المسحور (ص17) على لسان شهرزاد:(هو إذن هنا هذا الآثم!! ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد) وحين قال على لسانها أيضاً (ص21): (وسيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد) وحين قال على لسانها ولسان غيرها من أبطال مسرحيته ص57: (. . . كيف أعفو عن هذا الذي اتهمني فيما لا ترضى امرأة حقيرة أن تُتهم فيه.، فكيف بملكة كريمة مثلي متسلطة على القلوب خالدة على الأزمان. وقمر يقسم ما أضمر لمليكه غدراً ولا أدار في خلده شيئاً يستحي أن يظهره. والعبد - وويل لصاحبك من العبد - إنه ثائر فائر، إنه مرغ مزبد. إنه مبرق مرعد. إنه يريد أن يمزق صاحبك بأنيابه وأظافره. إنه لا يطيق التفكير في هذا الرجل الذي جعله صورة بشعة لأبشع ما يتسلط على العقول والأبدان، وهو يغريني ويحرضني، ويريد أن يضرم النار في قلبي، لولا أن قلبي أهدأ من أن تضطرم فيه النار. وهو يسألني كيف أترك الحياة لرجل صورني في هذه الضعة، وجعلني أهبط من أعلى عليين لأكلف بهذا المخلوق البشع الدنيء. . . والساحر يقسم ما سحر، والجلاد يقسم ما باع السيف لينفق ليلة هنية، وأبو ميسور يقسم ما أظلت حانته إثماً قط. . . حتى زاهدة تقسم ما عرفت سراً ولا سألت عنه ولا باحت به ولا اتخذت وسيلة إلى معرفته. . . فكل هؤلاء مغيظ محنق يلح على في أن أنتقم له، وأنتقم لنفسي من صديقك البائس المسكين. . . ومع أني كنت ضيقة به ساخطة عليه حين قرأت كتابه. . . الخ)
أرأيت إذن يا صاحبي كيف كان عميد الأدب العربي حاذقاً أشد الحذق حينما احتاط لنفسه وهو يدفع سخط الناقمين على مؤلف (شهرزاد)، فراح يبعث الطمأنينة على شهرزاد في نفوسهم ويعدهم برد شرف هذه الفتاة، وذلك بما قاله على لسانها في الصفحة السابعة عشرة والصفحة الحادية والعشرين والصفحة السابعة والخمسين من القصر المسحور. . . (ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد!). وسيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد!) إي والله؟. . . ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد. . . وقد بر العميد بما أكد. . . فكتب أحلام شهرزاد، التي يجد فيها صاحبه علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد. . . ولكن لهذا الحديث حينه، فخذ في حديث القصر المسحور.
ولكن ماذا في القصر المسحور من أقوال صاحب (شهرزاد) التي تؤكد رأيه في هذه الفتاة التي ظلمها، وفي أبطالها الذين ظلمهم كما ظلمها، والتي تؤكد آراءه المريبة في المرأة خاصة، وفي الناس بوجه عام؟! أقرأ إذن في الصحيفة الحادية عشرة بعد المائة هذا الجزء من الحوار مكتوباً بقلمه:
توفيق - دخلنا منطقة الكلام الفارغ الذي لا تحذقه غير المرأة
طه - (صائحاً): استغفر الله استغفر الله!
شهرزاد - (لطه) دعه! فإن عداوته للمرأة سوف تكلفه ما لا يطيق.
ثم ارجع إلى هذا الحوار لتسمع توفيقاً يقول: (إنه من فصيلة لا تغرد إلا فوق أطلال نعمة ذاهبة وآثار هناء ضائع!)
واقرأ بعد هذا في الصحيفة الثالثة والسبعين بعد المائة:
القاضي - ما أقوالك؟
شهريار - أقوالي: أن هذا قد قذفني بالباطل وافترى عليّ كذباً وزوّر واقعة لم تكن، فقد جعلني دّيوثاً، أدخل على شهرزاد فأجد عندها العبد فلا أقتله ولا أشرب من دمه!
توفيق - (مهتاجاً) كنت تريد أن أجعل منك قاتلاً سفاكاً يشرب الدماء؟ نعم، لقد آذيت وجرمت وأسأت إليك، إذ لم أجعلك كما كنت تريد مخلوقاً سخيفاً
ثم اقرأ في الصحيفة التي تليها هذا الحوار:
قمر - (وقد سأله القاضي عن أقواله) أقوالي يا سيدي القاضي: أن هذا المتهم قذفني وحط من قدري، فلقد جعلني أقتل نفسي من أجل امرأة، في الوقت الذي يخرج فيه العبد من مخدعها وينكشف لي إثمها ودنسها
وبعد. . . فالكلام الفارغ (في نظر توفيق) لا تحذقه غير المرأة. . . وعداوة توفيق للمرأة ستكلفه (باعترافه) ما لا يطيق. . . وتوفيق لا يحسن التغريد إلا فوق أطلال نعمة ذاهبة وآثار هناء ضائع. . . أي أنه رجل مظلم الطبع ذو مزاج سوداوي حالك منقبض متشائم. . . ومن هنا عداوته للمرأة وقلة ثقته بها. . . ومن هنا تجريحه لتلك الصورة التي افتن في خلقها لشهرزاد الخالدة الكاتب العبقري الأول القديم الخالد. . . ثم إن توفيقاً ينطق بنفسه شهرياراً ليشكو مما افترى عليه وزور، حينما جعله ديوثاً - وابحث أنت في المعاجم عن
معناها لأن الرسالة أطهر من أن تحمل إليك معناها - وتوفيق مصمم على أن يظل شهريار ديوثاً مهما ثار، فهو يداعبه أمام القاضي بقوله إنه أخطأ إذ لم يجعله قاتلاً سفاكاً، ولو كان القتل في سبيل الشرف الرفيع الذي لا يسلم. . . حتى يراق على جوانبه الدم. . . في رأي المتنبي ورأي شهريار.
قالت فاتنة: فبماذا تملأ يديك من مذهب هذا الرجل إن أنت جمعت ما كتب في (شهرزاد) إلى ما كتب في (القصر المسحور)؟ إطمئن، فإنك تتأبى أن تملأهما بشيء. . . وكيف تملؤهما بما يصر عليه من هذا الحنث العظيم، والإصر الذي ليس وراءه إصر، مما يذيعه في الناس أنه مذهبه، وأنه معتقده، في شهرزاد التي يرمز بها للمرأة في كل زمان ومكان. . .
ومن هنا هذه المباهاة الطويلة العريضة بأنه عدو المرأة الذي لا يعترف لها بعفاف، ولا يأبه أن يُذال لها عرض، لأنها ليس لها عرض؛ والذي يفترض فيها الأنانية المطلقة لأنها لا تفكر إلا في خلاصها ولا يعنيها أن تهلك نساء العالمين ما دامت مستطيعة أن تكون بمنجاة من الهلاك، والتي تخاتل وتخدع وتجعل بيتها مأوى للعبيد الفُتاك الذين لا تشبع منهم ولا تريد أن تشبع منهم، وتؤثر أن يكون عبدها خسيساً غليظاً خشناً وضيعاً لأن هذه كلها مزايا تضاعف - في رأي السيد توفيق - من شهوة شهرزاد كما تضاعف من التذاذها.
لمن يكتب هؤلاء الناس؟!
وفي أي بلد يكتبون؟! وما هي حرية الرأي هذه التي يحض عليها عميد الأدب العربي لحماية هذا اللون الوضيع من ألوان الأدب والتي غلا في الحض عليها والحماسة لها في الصحيفة الثانية والسبعين والصحيفة السابعة بعد المائتين من القصر المسحور؟!
هذا كثير. . . هذا كثير جداً مهما احتفظ العميد لمن شاء أن ينقد هذا الضرب من ضروب الأدب أو ذاك. . . وما جدوى النقد بعد أن يتمكن (سل) هذا الأدب من صدور قرائه؟! وإذا كان عميد الأدب العربي قد أحس هذا الخطر ونبه إليه فكيف كان يرى - وأظنه ما زال يرى - أن النقد الأدبي كاف لتزييف هذا اللون المهلك من ألوان الأدب، الذي إذا قدر له أن ينتشر في بلد - أتى على أخلاق أهله وعرضه للانحلال والاضمحلال. نحن هنا لا نقسو على أحد، فمصر أعز علينا من ألف ألف كاتب، وهي في عصر الحديد والنار، في حاجة
إلى أخلاق الحديد والنار، لا إلى الأخلاق المائعة الرخوة التي شاعت قبل الحرب الحاضرة في أوربا التعسة نتيجة للأدب المائع الرخو الذي سمم به الأدباء المنحطون أخلاق ذويهم فسمموا به كل شيء، وقضوا به على كل شيء. ونخشى أن تظن طائفة من القراء أننا نقصد إلى السب أو إلى ما يشبه السب حينما نذكر الأدباء المنحطين - كلا - ليس إلى السب قصدنا - ولكنا مخلصون جد مخلصين في إشفاقنا من أن يشبع الانحطاط في أدبنا الغض الحديث - والانحطاط مذهب من المذاهب الأدبية التي شاعت في أوربا بعد الحرب العظمى، فعصفت بأخلاقها وبدينها، ونشرت في ممالكها روح الرخاة والطراوة والاستهتار. ومن الإملال ضرب الأمثال فما تزال فرنسا بمأساتها الخلقية الدامية تنكأ القلوب لوعة عليها وأسى. وفرنسا هي البلد الذي كان يطلق لحرية الرأي العنان؛ فكان أحد الأدباء المنحطين إذا ضاقت به أرض بريطانيا، ولم تصرح له الحكومة البريطانية بطبع قصته الرخوة ولا ينشرها في المملكة أو في المستعمرات (أي والله في المستعمرات!) انطلق إلى فرنسا (بلد الحرية المطلقة) فطبع فيها كتابه؛ وقد يعيد فيه نظرة ثمة فيزيده رخاوة ويشيع فيه من الفاحشة ما يضمن له الذيوع والانتشار.
نحن نشفق إذن من الانحدار إلى مزالق الأدب المنحط لأننا فقراء إلى أدب القوة، وليس في الدنيا، في الوقت الحاضر، أمة هي أفقر إلى أدب القوة من هذه الأمة التي ذاعت فيها قصة شهرزاد بأبطالها المنحطين جميعاً. وبهذا العبد الأسود الخسيس الوضيع الذي لا تشبع منه شهرزاد ولا تريد أن تشبع منه.
قالت فاتنة: (وأكاد أنزلق بك يا صاحبي إلى الكلام في المذاهب الأدبية، مبعدة عن القصر المسحور. فإذا كان عميد الأدب العربي قد قالها قولة على لسان شهرزاد، هي، ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد. . . و. . . سيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد. . . وقد جاء الوقت الذي بر فيه عميد الأدب العربي بما وعد، فأصدر قصته البارعة (أحلام شهرزاد) نافح فيها عن ذكاء المرأة وسموها وحسن مقاصدها، وجميل حدبها على الإنسانية وعملها المتصل على إسعادها. . . فإذا كان عميد الأدب العربي قد صنع هذا. . . أفيليق أن يتخرص الخراصون ويرجف المرجفون بأنه سرق من الأستاذ توفيق؟ وماذا - لا درّ درهم - سرق؟ إن طه لم ينحدر بالمرأة إلى البؤرة التي انحدر بها صاحبه إليها، بل هو قد
ارتفع بها إلى أعلى عليين وهو في هذا كان مخلصاً لرأيه في المرأة حسن العقيدة في عفافها وسموها، وأنها مصدر السعادة في هذه الدنيا. . . فهو في الصحيفة السادسة والستين من القصر المسحور لا يتمنى ملكاً وسلطاناً كما كان المتنبي يتمنى ملكا وسلطانا، ولا يشتهي كما كان يشتهي ثروة وغنى، إنما يتمنى لقاء شهرزاد والاستمتاع بجوارها القريب (وأي ملك يشبه الخضوع لها ويعدل الإذعان لأمرها؟ وأي ثروة تشبه الشعور بأنه قريب منها ليس بينه وبين الغني الذي يمتع القلب والعقل إلا أن يتجه إليها فيسمع منها ويحسن قربها منه) وفي الصحيفة الثامنة والستين يقول هذه القولة المشجية: ثم أشار الفجر بإصبعه الوردية التي أريتها أنت يا سيدتي لضرير اليونان منذ ثلاثين قرناً، فإذا الليل الجاثم ينهزم، وإذا الشمس تقبل فتبسط الضوء والحياة على كل شيء وفي كل نفس - ولكني أظل محروماً ضوء الشمس وحياتها لأنك أنت الشمس والحياة. وفي الصحيفة الثانية والأربعين بعد المائة يقول: ماذا؟ تشكين في قوتك وتنكرين سلطانك وذكاءك، وأنت التي تمنح أمثالنا القوة والسلطان والذكاء؟ وفي الصحيفة الثالثة بعد المائتين يقول على لسانها أيضاً: لا أقف هذا الموقف لأدافع عن نفسي، فلست أعرف لأحد الحق في أن يتهمني بإثم مهما يكن، وأنا الحرية كلها، الحرية التي تشيع النشاط في العقول، وتذيع الحياة في القلوب وتبعث الحرارة في العواطف والمشاعر والأهواء. . .
هذا هو رأي طه في المرأة، وهو رأيه فيها من قديم، وهو رأيه الذي أذاع به في القصر المسحور كما أذاع به في أحلام شهرزاد، وهو ضد ما أذاع به توفيق الحكيم في معظم كتبه، بل في كل كتبه، بل في كل ما كتب. . .
قالت فاتنة: اذكر للناس يا صاحبي إذن أن مشروع أحلام شهرزاد مشروع قديم، وأنه كان وعداً موعوداً في القصر المسحور، وأنه قصد به إلى الدفاع عن المرأة والترفع بها عما وصمها به توفيق. . . فإذا أرجف المرجفون بأن زيداً سرق من عمرو فماذا يملك المرجفون ما داموا لا أحلام لهم، وما داموا يخلطون بين الفردوس وبين الجحيم، وبين الملاك وبين الشيطان الرجيم.
دريني خشبة
شاعر الغزل
للأستاذ عباس محمود العقاد
بقلم الأستاذ سيد قطب
يبدو أن العقاد - في هذه الأيام - يهز الشجرة الناضجة هزاً رفيقاً، فتساقط ثمارها في يسر ورخاء. وإنها لشجرة الجهد الموصول، والاطلاع البصير، والتجربة العميقة، قرابة أربعين عاماً من عمر فنان موهوب، لم يكد يراهق حتى بدأ حياته الأدبية في جد واحتفال، وحتى كان الاطلاع عمله الأول، والحياة الفنية وجهته الأصيلة.
وهذا ما يفسر لنا ذلك الخصب في إنتاج السنوات الأخيرة، بل السنة الأخيرة وحدها؛ ففيها أخرج (عبقرية عمر) و (شاعر الغزل)، وهو يتهيأ لإخراج كتاب عن (أبي بكر) في هذه الأيام. فضلاً عن (أعاصير مغرب) ديوانه الغنائي الأخير.
وفي هذه الكتب جميعاً - على تفاوت بينها - يبدو أن الثمار الناضجة تساقط بأيسر جهد، وأن الشجرة متهيئة ما تكاد تلمس حتى تعطي الجني الشهي في رفق ولين!
ظهر كتاب (عبقرية محمد) فقلت: (هذا كتاب العقاد) ثم ظهر كتاب (عبقرية عمر) فقلت: (لا! بل هذا هو كتاب العقاد!) ثم هاأنذا أكاد أعيدها وأنا أقرأ كتابه الصغير (شاعر الغزل) في الشهر الأخير.
إن هذا الكتيب يستقل بإنشاء مدرسة جديدة في النقد الأدبي باللغة العربية. مدرسة لها طريقها ولها قواعدها ولها أدواتها، وكل ذلك في يسر ووضوح يكادان يغريان كل قارئ بأن يسلك الطريق ويتخذ القواعد والأدوات، ويروح ينشئ في النقد الأدبي ما أنشأ العقاد!
لقد قلتها مرة: إن العقاد دارس الشخصيات الأول، حين لاحظت أن أفضل مواهبه تنصرف إلى هذا اللون من الإنتاج، وأن ميزته فيما يدرس أن يعطيك (مفتاح الشخصية) التي يتناولها، تعرف على الفور (من هو) هذا الإنسان الذي يحدثك عنه، وتتبين سماته وملامحه من بين الملايين أو من بين الألوف الذين ينتمي إليهم ويندمج فيهم؛ كما تستطيع أن تجزم بصحة الأخبار والحوادث والأعمال التي تنسب إليه أو عدم صحتها، ولو لم ترد في دراسة العقاد له، لأنك أصبحت تعرفه، وتدرك خصائصه، وتلحظ مزاجه؛ وتعلم ما يمكن أن يأتي أو يدع من الأمور؛ شأنك في هذا شأن الصاحب الذي أطال عشرة صاحبه، فعرف أعمق
خوالجه وأدق (لوازمه)!
هذا اللون من الدراسة يستهويني أكثر من السِّير التي تتناول حياة الأشخاص بالسرد، وتجمع حولهم كل المعلومات التي لابست هذه الحياة. ذلك أن اللون الأول يمنحني حياة آدمية نابضة، واللون الثاني يضع بين يدي معلومات في حيز من الزمان والمكان. وكلا اللونين ضروري للتراث الفني، ولكن أولهما آثر عندي لميزته تلك.
وفي كل ما كتب العقاد عن الشخصيات تتضح هذه الميزة، وإنها لتنضج في كتب الدراسة الكاملة أمثال:(ابن الرومي) و (سعد زغلول) و (تذكار جيتي) و (هتلر في الميزان) ثم تبلغ أقصى درجات النضوج في الكتب الثلاثة الأخيرة التي تقدم الحديث عنها حين يجتمع إلى عمق الدراسة وقوة المنطق، ذلك اليسر العجيب وتلك الحركة السريعة في التفكير وفي الأداء على السواء.
و (شاعر الغزل) - على صغره - نموذج كامل لهذا اللون الحي من الدراسة الناضجة؛ ففي خلال ثلاث وأربعين ومائة صفحة فقط من قطع الجيب، ينتفض (عمر بن أبي ربيعة) من بين ركام الأجيال، حيَّا نابضاً شاخصاً بسمته وزيه ومزاجه وفنه؛ وينبعث في حياته على الورق صورة مكتملة لحياته على الأرض؛ حتى ليخيل إليك أنك وشيك أن تلقاه وتصافحه وأن تجلس إليه وتبادله الحديث!
وذلك هو الإبداع! الإبداع الذي يصور (عمر بن أبي ربيعة) في هذا الحيز الصغير، كما لم يصور قط في الأدب العربي كله بلا نزاع.
والعقاد في عملية البعث والإحياء لا يأتي بحادثة واحدة ليست معروفة في سيرة هذا الشاعر، ولا بقصيدة أو بيت أو شطرة لم ترو من قبل له، ولا بخبر من أخباره أو أخبار عصره لم يدون في الكتب المتفرقة؛ ولكنه يصنع من هذه الخامات البسيطة المعروفة مادة أخرى جديدة، ويهيئ منها هيكلاً قائماً للعصر وللبيئة وللشاعر، ثم ينفخ في هذا الهيكل من روحه، فإذا هو خلقة سوية، تحيا وتتنفس كما كانت تحيا وتتنفس من قبل، في هذه الدنيا الفانية!
وإنه ليهمني هنا أن أبرز هذه الحقيقة، فنحن في مستهل نهضة في البحث العلمي والفني. ولكنني لاحظت على الإنتاج الجامعي الحديث بلا استثناء أنه يتجه إلى السرد والجمع
والموازنة، ولا يتجه مرة إلى الخلق والتكوين والإحياء، في تصوير العصور والبيئات والشخصيات؛ وتلك ظاهرة خطرة، فإنها تدل على أن عقلية التسجيل والتدوين والجمع هي التي تسيطر على العقلية الجامعية في مصر. وهذا اللون من البحث ضروري كما قلت، ولكنه لا يفي وحده، ولا بد من اللون الآخر الذي يصور الحياة أو يهب الحياة!
وليس هذا اللون عدواً لذاك، وإنهما ليجتمعان عند الاقتضاء، وقد اجتمعا معاً في كتاب (ابن الرومي. حياته من شعره) للعقاد، وفي كتاب ذكرى أبي العلاء للدكتور طه حسين على أفضل ما يكون الاجتماع.
إن طبيعة الشخصية التي يقدمها لي المؤلف ولون مزاجها، وصورة حياتها، لآثر عندي ألف مرة من جميع الحوادث التي وقعت لها، ومن جميع المعلومات التي تتصل بها، وحسبي من الحوادث والمعلومات، ما يكشف لي عن الطبيعة والمزاج، وما أتعرف به إلى هذه الشخصية من بين مئات الشخصيات!
يتحدث العقاد عن عصر (عمر بن أبي ربيعة) فنحس أن الغزل كان وظيفة ملحة في هذا العصر تتطلب العضو الذي يقوم بأدائها، وأنه لم يكن مفر من وجود شاعر غزل يلبي هذه الحاجة، فكان هذا الشاعر هو عمر بن أبي ربيعة في هذا الأوان.
كيف أحسسنا بروح العصر هذا الإحساس الواضح الملح؟ حكاية من هنا ونادرة من هناك، مما هو معروف مذكور، ومما يمر به القارئ بين الكتب مرات، فإذا صورة العصر بارزة واضحة على النحو الذي أراد!
وهنا يقتضيني الإنصاف - وقد ذكرت البحوث الجامعية والعقلية الجامعية بما ذكرت - أن أثبت أن للدكتور طه حسين بحثاً قيماً عن طبيعة العصر الذي عاش فيه عمر بن أبي ربيعة وعن نشأة الغزل وأسبابها في هذا العصر، وعن تلوين هذا الغزل بالألوان التي اصطبغ بها إذ ذاك، في كتاب (حديث الأربعاء)
وفي هذه الفصول التي عقدها الدكتور عن الغزل وعن عمر ابن أبي ربيعة خاصة يلتقي مع الصورة التي رسمها العقاد حيناً ويختلف حيناً، ولكنه يرسم على طريقته صورة مكتملة للعصر وللغزل فيه، هي إحدى الصور التي نتطلبها في الدراسات الأدبية الناضجة.
ثم نعود إلى (شاعر الغزل) فنرى العقاد ينتهي من صورة العصر ومن وظيفة عمر فيه،
ومن حدود هذه الوظيفة، وهي التعبير عن طبقة خاصة في العصر لا عن العصر كله على السواء، ليبحث عن طبيعة غزله؛ فهو غزل البدوي المتحضر، غزل الفطرة التي تخلقها الحياة في مكة، وقد فارقتها الحكومة والسلطان، ولم تفارقها الثروة والسراوة.
ثم يدلف إلى الحديث عن طبيعة شعره، فيفرق في وضوح ويسر تكاد تلمسها بين طبيعتين من طبائع شعراء الغزل: طبيعة المحب الذي يتوجه بحبه إلى المرأة الواحدة في الوقت الواحد، و (يفرزها) بحبه من بين جميع النساء. وطبيعة اللاهي الذي يتغزل في الأنثيات، وينصرف همه إلى المناوشة والمعابثة. ويكون عمر من الفريق الثاني حين يكون عروة وكثير وجميل من الفريق الأول. وهو فصل من أمتع فصول الكتاب
هذا المتاع لا يتضمنه ذلك الفصل لأنه يذكر أن طريقة عمر وإخوانه الغزليين غير طريقة عروة وإخوانه العذريين، ولكن لأنه يوضح الفارق الإنساني الحاسم بين طبيعة هؤلاء وطبيعة هؤلاء (لأن علاقة رجل بامرأة واحدة يبقى على حبها زمناً طويلاً أو يبقى على حبها مدى الحياة هي حادث لا يتكرر كل يوم، ولا بد فيه من عامل الشخصية التي تفرز المرأة من سائر النساء، ويصح أن يقال: إن هذه العلاقة (إصابة حب) كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان فتطول أو لا تطول، وتصيبه وهو مستعد لها أو تصيبه على غير استعداد؛ فإنما المهم في تمييزها أنها إصابة عارضة وحادث من عوارض الأحداث.
(أما حب الغزل بالنساء عامة فهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الأمزجة للطبائع ولو لم يتصل بنساء معروفات، فهو مخلوق على هذا المزاج كما يخلق الإنسان بلون من الألوان أو صفة من الصفات)
(فالمدرستان مختلفتان أيما اختلاف في مقاييس الشعور ومقاييس الأخلاق، ولا يجمع بينهما إلا تشابه الكلام في ظاهره دون التشابه في الباعث والاتجاه). . . الخ
وأحب أن يعود القارئ هنا إلى ص392 من الجزء الأول من (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين، فسيجد في هذا الموضوع كلاماً آخر تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام.
ونعود إلى (شاعر الغزل) لنقع على نقطة جديدة كل الجدة لم يطرقها - فيما أذكر - طارق في اللغة العربية لا عن (عمر بن أبي ربيعة) ولا عن سواه. تلك هي النقطة التي يعرض فيها العقاد لبحث عوامل الاتصال بين (عمر) وبين الأنثيات اللواتي كان يناوشهن بالغزل
والحديث، وبين أشباه عمر وبين النساء في جميع العصور. فهو يقول:
(وربما رشحه للسبق في هذه الصناعة جانب أنثوي في طبعه يظهر للقارئ من أبياته الكثيرة التي تنم على ولع بكلمات النساء واستمتاع بروايتها والإبداء والإعادة فيها، مما لا يستمرئه الرجل الصارم الرجولة. وأدل من ولعه بكلمات النساء على الجانب الأنثوي في طبعه أنه كان يشبههن في تدليل نفسه وإظهار التمنع لطالباته. . . (ثم يذكر الأمثال)
(ولعل جانب الأنوثة فيه لا يظهر من شيء كما يظهر من تدليل اسمه بين تلقيب وكناية وتسمية كما يعهد في أحاديث النساء؛ فهو تارة أبو الخطاب، وتارة المغيريّ، وتارة عمر الذي لا يخفى كما لا يخفى القمر، وأشباه هذه الأنثويات التي يقارب بها المرأة في المزاج ويسايرها في الحديث)
(إنما تأتي خبرة ظرفاء المجالس من تقارب الإحساس بين المرأة وبين هذه الطائفة من اللاهين والمتغزلين، فهم يحسون كما تحس أو على نحو قريب مما تحس، وهم يشبهونها بعض الشبه فيصدقون في الحكاية عنها، والتحدث بخوالج نفسها. وفرق بعيد بين هذا وبين الرجل الذي يعلم طبع المرأة وهو يخالفها في طبعها، ويستجيش ضمائرها، لأن هذه الضمائر تجاوبه مجاوبة الأنثى للذكر، فيعرف من مجاوبتها كيف تضطرب نفسها وتتقلب هواجسها وخواطرها. هذا يرى أثر الرجل في طبع المرأة فيعرفه، وذاك يعرف ما في طبعها لأن الطبعين غير مختلفين في جملة الشعور). الخ
فهذا كلام جديد، وكلام قيم، وكلام يفتح العين والنفس على ملاحظة مفيدة للملامح والسمات في النفوس الإنسانية الكثيرة التي تصادفنا في الحياة، والنفوس الإنسانية الكثيرة التي نلقاها في صفحات الكتب، لنجد في هذه الملاحظة لذة وأنساً وحياة
وأحب مرة أخرى أن يرجع القارئ هنا إلى الجزء الأول من (حديث الأربعاء) ص394 ليجد في هذا الموضوع كلاماً آخر تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام.
وينتهي هذا الفصل بحديث عن الصدق الفني: ما معناه وما حدوده، فيبين أوضح بيان أنه شيء آخر غير الصدق الخلفي والصدق التاريخي قد يلتقي معهما وقد لا يلتقي. وأنه في صميمه هو صدق الحكاية عن (المزاج الخاص) الذي لا يتوب عنه صاحبه ولا يملك الانحراف عنه ولو تاب عن دفعاته وملابساته، ولو انحرف عن حكاية الواقع إلى حكاية
الخيال.
وفي هذا الفصل يلتقي العقاد والدكتور في بعض المواضع، وإن سار كل منهما على طريقته وطبيعته في النظر إلى الأشياء، وفي الحديث عن هذه الأشياء
ثم ينشئ فصلاً عن صناعة عمر ابن أبي ربيعة فنعلم منه أن عمر كان إمام مدرسة في طريقته، ولكنه لم يكن إماما في صناعته؛ فهو يمثل الطريقة أكمل تمثيل، وإن لم يساعفه حسن الأداء وكمال الأداة (فالأكثر من شعره يبدو عليه الجهد والإعياء في تقويم البيت والوصول به إلى القافية) وليس هو من فحول الصناعة الذين (ربما كثر الرديء في أشعارهم وأربى على الجيد في معظم الأحيان؛ ولكن الإتيان بالرديء غير الإعياء الذي يكشف مدى الطاقة وينم على الفاقة)
وبمثل هذه النصاعة يمضي إلى نهاية الكتاب، فيفرق بين القصة وبين الحوار القصصي الذي عرف به عمر، ويلقى أشعة أخرى على طبيعة المحب وطبيعة المتغزل وعلى الصدق الفني والصدق الخلقي والتاريخي. ثم يتحدث عن ذوق عمر في جمال المرأة، فإذا هذا كله دراسة من أبرع الدراسات النفسية في إطار فني جميل، وإذا هي خلاصات من تجارب العقاد وحياته الفنية وذوقه الإنساني. ثم يعقد فصلاً لنوادر عمر وأخباره، وفصلاً لمختارات من شعره، يشترك كلاهما في تلوين صورة الشاعر وتوضيح سماتها، وإطلاق الأبخرة المناسبة في جوها، حتى تكتمل لها جميع عناصر الحياة!
أحب أن يقرأ الناس هذا الكتاب للعقاد، وأن يقرءوا معه (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين، فسيجدون فيهما طبيعتين وطريقتين: طبيعة التعمق وطبيعة الاستعراض؛ وطريقة التحليل وطريقة التصوير. وسيرون كلا من هاتين الطبيعتين والطريقتين تلازم صاحبها في كل ما يكتب، فهي أصيلة في خلقهما أصالتهما في فنهما، وإن كان لكل منهما وزنه الذي لا يتسع المجال له هنا، بقدر ما أرجو أن يتسع له في كتاب!
سيد قطب
ثورة في الأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
(تتمة)
على أنه ما بالكاتب من حاجة إلى الإلحاح في بيان أن هذا الزهد البالغ الذي يدعو إليه مذهب الغزالي ومن نحا نحوه لا يتفق والدين والعقل، وأنه من معوقات الأمة عن النهوض. لا يحتاج الكاتب لشيء من هذا، فإننا شغلنا بالدنيا حتى لا يخطر لنا الزهد فيها على بال، ولكنا في حاجة لبيان أن بعضاً من الفضائل التي دعت إليها تلك المذاهب وأكبرت من شأنها لا تعد اليوم من الفضائل في شيء، بل بعضها انقلب بسوء الفهم والتطبيق إلى رذائل، وصار أحجار عثرة في طريقنا للرقي والنهوض.
وحسبي أن أمثل لهذا بصفة القناعة
لقد اتفقنا منذ عصور طويلة على أن القناعة فضيلة، وقلنا في بيان مكانتها إن القناعة كنز لا يفنى، فكانت العاقبة شراً ووبالاً على الشرق ومنه مصر!
قنع الفلاح بغلة ما ورثه من الأرض فلم يغير - إلا قليلاً - من طرق استغلاله لما يملك، ولم يعمل بجد على تنمية ثروته، قانعاً بما يرزقه الله من دخل لا يزيد عن معيشته معيشة الكفاف!
وقنع الصانع بأجره اليومي الذي لا يرتفع به في حياته إلا قليلاً عن مرتبة الحيوان، فلم نجد من صناعنا إلا خولا وأُجراء لأصحاب الأعمال الغربيين الذين وضعوا أيديهم على أكثر موارد ثرواتنا، والذين استغلوا ما يحيط بنا من صحارى فيها الزيت والحديد والذهب والمعادن الأخرى!
وقنع جمهرة تجارنا بالربح الزهيد الذي يتبلغون به من يوم ومن عام لآخر، فقلّ منهم المغامرون أصحاب المتاجر الضخمة الواسعة!
وإذا تجاوزنا الحياة المادية للحياة المعنوية، وجدنا الحال أمر وأدعى للألم. فقد قنعنا بما ورثنا عن الأسلاف من علم فلم نحاول أن نزيد فيه، بل لم نعمل على تمحيصه! وإنما قنعنا بما وصل إلينا من كتب ومؤلفات، فأقبلنا على دراستها دون أن نجعلها أساساً نبني عليه، حتى صار منا ونحن في القرن الرابع عشر الهجري من يعيش بعقلية القرون الوسطى!
كما قنع التلاميذ بالفهم السطحي دون العميق، وبالنجاح في الامتحان دون العمل للعلم لأنه في ذاته حسن وجميل وعامل من أقوى العوامل على المعيشة في عز وكرامة وسعادة! ولا أظنني مبالغاً في شيء من هذا الذي أقول! وإلا فأين ما تخرجه هنا دور الطباعة من المؤلفات في العلوم التي نقرأها ونتدارسها منذ مئات السنين؟ لكم تمنيت أن ناراً تنزل من السماء فتلتهم أكثر ما نملك من أسفار قديمة، على ما فيها من خير كثير ليكون ذهابها حافزاً لنا على الإنتاج في العلم، وعلى التخلص من الآثار الوبيلة لما جره علينا اعتقادنا بأن القناعة من الفضائل! فقد أمات هذا الاعتقاد منا الهمم والعزائم، وكان عاملاً من عوامل التثبيط والركود، وسبباً من أسباب وقوف أولياء أمورنا في السياسة والإدارة والعلم عند حد عدم النزول عن المستوى الموجود الذي يقنعون به، ويقولون في أنفسهم حسبنا أن تسير القافلة فيما رسم لها من طريق قبل أن نلي ما ولينا من أمور هذا البلد!
وأخيراً، لست أدعو بهذه الكلمة إلى أن يكون المرء شرهاً لا يقف عند حد في رغباته، فهذا أيضاً رذيلة كالقناعة بالدون سواء بسواء، إنما أدعو إلى أن نتأسى بالرسول الكريم والصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فنبذل الجهد في طلب كل ما يمكن من خير لأنفسنا وأمتنا، مستغلين في هذا خير استغلال ما وهبنا من قوى مادية ومعنوية في سائر نواحي الحياة، ثم بعد ذلك نقنع بما نصل إليه بعد طرح الكسل وبذل المجهود، ففي هذا خير الدين والوطن والسعادة الخاصة والعامة. هكذا كان صنيع الصحابة الراشدين حين لم يقنعوا بالعيش آمنين في جزيرة العرب، وتعدوها إلى ممالك الروم والفرس ففتحوا منها ما شاء الله، وعاشوا أعزة سعداء، ضاربين لمن أتى بعدهم وللعالم أجمع في هذا أحسن الأمثال. والله يهدي للرشد، ومنه الخير والتوفيق والسداد.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
معركة الآزور
للشاعر الإنجليزي ألفريد تنيسون
بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة
تقديم
في عام 1558م توفيت (ماري تيودور) ملكة إنجلترا الكاثوليكية التي كانت زوجاً لفيليب الثاني ملك أسبانيا. وتولت بعدها عرش إنجلترا أختها من قبل أبيها الملكة اليصابات (وهي ابنة هنري الثامن من زوجته آن بولين). وكانت اليصابات تعتنق المذهب البروتستانتي في اعتدال؛ وقد حاولت خلال حكمها إرضاء الكاثوليك والبروتستانت على السواء، فأثارت بذلك حفيظة أسبانيا وفرنسا وغيرهما من الأقطار الكاثوليكية
وزاد في توتر العلاقة بين إنجلترا وأسبانيا عوامل أخرى متعددة: منها رفض الملكة اليصابات التزوج من فيليب الثاني ملك أسبانيا، وقد عرض عليها ذلك عقب وفاة الملكة ماري. . . ومنها ما كان من انحياز إنجلترا إلى ثوار الأراضي المنخفضة ضد أسبانيا، وإيوائها الأغنياء منهم ممن خلصوا إليها عبر القنال بأموالهم وثرواتهم وكل ما تيسر لهم حمله
يضاف إلى ذلك قصة: ماري استيورت ملكة اسكتلندا الكاثوليكية، تلك التي لاذت بإنجلترا عام 1568م عقب ثورة الشعب الاسكتلندي ضدها، فقضت هناك عشرين عاماً شبه أسيرة؛ ثم ظهر من دسائسها ضد الملكة اليصابات، وكانت ماري استيورت وريثتها الشرعية على عرش إنجلترا ما استوجب التخلص منها بالإعدام عام 1587م؛ فقد أثار هذا التصرف ثائرة فيليب الثاني وحفزه للعمل. وكانت قوة إنجلترا البحرية خلال هذه الحوادث المتلاحقة تنمو في اطراد، وقد نشط البحارة الإنجليز في جوب البحار بحثاً عن كنوز الذهب والفضة التي سبقهم إلى اكتشافها الأسبان؛ أو اقتناصاً للسفن الأسبانية العائدة بهذه النفائس من مستعمراتهم في العالم الجديد.
وفي عام 1588م سحق الإنجليز قوة أسبانيا البحرية بتحطيم الأرمادا التي حشدها فيليب الثاني لغزو بلادهم، فرجحت كفتهم في البحار رجحاناً زاد على مدى الأيام ظهوراً
وبعد معركة الأرمادا بثلاثة أعوام حدثت موقعة الآزور (أغسطس 1591م) التي سجلت للإنجليز صفحة خالدة من البطولة في عالم البحار.
فقد صارعت فيها سفينة واحدة صغيرة، ثلاثاً وخمسين سفينة إسبانية كاملة العُدة والعدد، في ملحمة استمرت خمس عشرة ساعة لا يعتورها فتور.
وقد أوحى هذا الحادث إلى كتّاب الإنجليز وشعرائهم قديماً وحديثاً، بما لا تستوعبه المجلدات الضخمة من فائق المنثور ورائع المنظوم.
ومن أشهر من كتب في ذلك: السير والتر رالي (1552 - 1618م)؛ وجيمس أنتوني فرويد (1818 - 1894)؛ وروبرت لويس ستيفنسون (1850 - 1894)، ثم شاعر التاج لورد آلفرد تنيسون (1809 - 1892) ونحن نترجم هنا قصيدة هذا الأخير التي نظمها بعنوان (: الانتقام) - وهو اسم السفينة التي أبلت هذا البلاء - مجتزئين بتفاصيل القصيدة الرائعة عن الإفاضة في هذه المقدمة أكثر مما أفضنا؛ معتمدين - في إيضاح بعض الحقائق فقط - على ما أورده الكتّاب الثلاثة الذين أشرنا إليهم، ولا سيما أولهم: والتر رالي، فهو من معاصري السير ريتشارد جرانفيل بطل المعركة، بل هو أحد مواطنيه من إقليم ديفون، وذوي قرابته الأدنين. . .
ترجمة القصيدة
كان السير رتشارد جرانفل مرفئاً بسفينته إلى جُدَّة من جدد شاطئ الفلورز إحدى جزر الخالدات، عندما أقبل زورق ذو مجاديف يهوى من بعيد كأنه الطائر يُزف بجناحيه. وارتفع صوت من داخله يقول: السفن الحربية الأسبانية تمخر العباب. . . لقد رأينا منها ثلاثاً وخمسين!
فهتف لورد توماس هُوارد قائلاً:
ليشهد الله أني لست بالجبان، ولكني لا أستطيع أن ألقاهم على هذه الحال، فأسطولي على غير أهبة، ونصف رجالي قد نهكتهم العلل. حقيقٌ بي أن أعرِّد عن لقائهم ولكن لأقتفي آثارهم في أقرب حين. . . إن لدينا ستا من السفن المقاتلة، فهل نستطيع أن نناجز بها ثلاثاً وخمسين؟
عندئذ تكلم سير رتشارد جرانفيل قائلاً: أعرف أنك لست بالضَّرَع ولا الجبان، وأنك لا
تنحاز عنهم لحظة إلا لتعود إليهم من قريب، فتزلزل أقدامهم وتطيش سهامهم. أما أنا فلدي تسعون مريضاً ونيفاً قد استلقوا على الشاطئ القريب يعالجون غصة الداء؛ وسأعد نفسي الجبان، يا سيدي لورد هوارد، إذا أنا تخليت عنهم لهذه الطغمة من أوغاد محاكم التفتيش، وشياطين أسبانيا المتمردين. . .
. . . وهكذا انسحب لورد هوارد بخمس من السفن الحربية في ذلك اليوم، وانطلق موغلاً في اليم حتى ذاب كما تذوب السحابة في صفحة الأفق الغارق في الصمت، المتشح بالدفء والسكون. أما سير رتشارد فقد حمل من الشاطئ رجال سفينته الإعلاء، من مواطنيه أبناء بدفورد في إقليم ديفون. وأضجعهم برفق تام وعناية بالغة فوق الهواجل من قاع السفين، فراحوا يدعون له ويباركونه في ساعات آلامهم الممضة على أن انتاشهم من هذه المحنة، فلم يتركهم فريسة للأسبان يمثلون بهم أشنع التمثيل، ويسومونهم بمعدات نكالهم سوء العذاب.
كان لديه مائة من البحارة لا أكثر، عليهم أن يضطلعوا بإدارة السفينة وتدبير القتال معاً؛ فأقلع مبتعداً عن الفلورز حتى أصبح على مرمى البصر من الأسبان الذين اعترضوا مهب الريح إلى سفينتنا بقصورهم العوائم الفخمة وجواريهم المنشئات كالأعلام. وارتفع صوت منا يقول:
ألا أخبرنا يا سير رتشارد، أنكرّ أم نفِرّ؟. . . إن اشتباكنا في هذا القتال لا يعني غير الهلاك؛ وما نحسب أن سيكون منا في عداد الأحياء إلا القليل عندما تجنح شمس هذا النهار إلى مغربها.
وتحدث سير رتشارد مرة أخرى فقال: نحن جميعاً من أبناء إنجلترا الأنجاد وفتيانها المصاليت؛ فدعونا نسدد الطعن وخضاً إلى هذه الكلاب (الإشبيلية) الخواسيء، أبناء الأبالسة ونسل الشياطين. . .
لا جرم أني حتى اليوم لم أُولِّ الأدبار أمام أحد اثنين: دُونٍ أو شيطان!
نطق السير رتشارد بهذا ثم افتر فمه عن ابتسامة ساخرة. وانفجرنا جميعاً نهتف في صوت مدوٍّ: مرحى، مرحى!. . . وهكذا صمدت (الانتقام) صمد عدوها دون محاشاة، وعلى ظهرها مائة مقاتل، وفي جوفها تسعون مريضاً قد أداءتهم العلل وبرَّحت بهم الأسقام.
وانشعب الأسطول الأسباني حول (الانتقام) شطرين راحا يكتنفانها عن يمين وشمال، بينا اندفعت هي في الشقة الضيقة من الماء بينهما لا تلوى على شيء. وشهدنا ألوفاً من جنودهم قد أوفوا علينا من ظهور سفائنهم وهم يضحكون، وألوفاً آخرين من بحارتهم يسخرون من المركب الصغير الذي ركب فيما زعموا متن الغرر، وأقحم نفسه بلقائهم المتالف. وراحت (الانتقام) تندفع وتندفع، وتوغل في تقدمها وتوغل، حتى بجدت في موضعها ما تريم؛ وقد سدت عليها السبيل خليَّتهم الضخمة (سان فيليب) تلك الناهضة كالطود الشامخ، والحاملة جُماءَ ألف من الأطنان وخمسمائة. فقد أوفت علينا بهيكلها الرائع من علٍ مصوِّبة نحونا صفوفاً من المدافع فاغرات الأفواه، وصرفت وجه الريح عن أشرعتنا فوقفنا مُبلسين.
(البقية في العدد القادم)
محمود عزت عرفة
من شجو الربيع
أغاني غرام
(إلى. . . . . . . . .)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
أنِينُ اللْيلِ يُشْجيِنِي
…
وَنَوْحُ الرِّيح يُبْكيِني
هُناكَ صَدىً يُناَدِينِي
…
وَرُوحٌ رَفَّ يَدْعُونِي
أأنتِ هُنا. . .؟ أجِيبِينِي!
جَمَالُكِ ذَلِك الْفَاتِك
…
إلهٌ شَعَّ مِنْ ذَاتِك
خُذِينِي بَيْنَ رَاحَاتِكْ
…
وَطيِري في سَمَاَوَاتِكْ
وَأفْنِينِي، وَأحْيِينِي!
وَسِحْرُكِ يَسْرقُ الآجَالْ
…
وَلوْ يَسْكُنَّ طَيْفَ خَيالْ
شَرِبْتُ بكأْسِه الْقتَّالْ
…
شَقَاء العُمرِ والأهْوَالْ
وَأَوْهَامَ الْمَجَانِينِ!
عَبَدْتُكِ فْتَنةً كُبْرَى
…
عَشِقتُكِ كَرْمَةً سَكْرَى
رَأيْتُكِ هَاَلةً حَيْرَى
…
سَمِعْتُكِ نَغْمَةً حرّى
تَهِيجُ دَمِي، وَتَكْزينِي!
سَعِيرُ دَمِي بِكَفَّيكِ
…
تَضَرَّعَ وَالِهاً يَبْكِي
وَجاَء لنورِ عَيْنَيْكِ
…
يُذِيبُ مَرَارَة الشَّكِّ
أَذِيِبيهَا. . . أَذِيِبِيِني!
أنا الأَشَواقُ في جَسَدِك
…
أنَا الِّنيرَانُ في كَبِدك
أنَا الْمَاضي حَرِيقُ يَدِك
…
أنَا الآتِي رَحِيقُ غَدِك
وَجُودكِ سِرُّ تَكْويِني. . .
دَعِي أيَّامَنا تَجْرِي
…
بما تَهْوَى مِنَ الأَمْر
فإنَّ الدَّهرَ لا يَدْرِي
…
غَرَامَ النَّارِ باَلْجْمرِ
فَكَيْفَ بَما تُذِيِقيِني؟!
دَعِيني طَيْرَ جَنَّاتِك=أُسبِّحُ في خَمِيلاتك
وأسْبَحُ في صَباَباتِكْ
…
هَوى يَجْري بآهاتِكْ
وَيَفْنَى في الرَّياحينِ!
على شَفَتَيْكِ أنْهَارُ
…
مُحَرَّمةٌ، وأثْمَارُ
وَفي عَيْنَيْك أسْرَارُ
…
وإبْرِيقٌ، وَخَمَّارُ
فَمَالكِ لا تُرَوِّينِي؟!
لِمَنْ إلا لقْيَثاركْ
…
يْوَسوسُ مُوَجُْ أنْهَاركْ؟
أنَا الظَّامي لأنْوَارِكْ
…
أنَا الْبَاكِي لأزْهَارِكْ
فَلَيْتَ شَذَاكَ يَطْويِنِي!
عَشْقتُكِ. . . وَالْهَوى غَلاّبْ
…
نَشِيداً في دَمي يَنْسَاب
فَصَوتُكِ كانَ هَمْسَ رَبَابْ
…
وَكانَ حَفيفَ خَمْرٍ ذَابْ
عَلَى كَبدِي ليُشْجِيني!
وَكَنْتِ كزَنْبَقِ الأَسْحَارْ
…
شَذَاهُ يُحيِّرُ الأَسْرارْ
إِذا نَاشَدْتُكِ الأَشْعَارْ
…
ضَلَلَتُ، وَضَلَّتِ الأوْتَار
بأَيِّ صَدىً تُناَجِينِي!
وَكَنْتِ كآيةٍ عُلْيَا
…
شُغِلْتُ بها عَن الُّدنْيَا
تُطِلُّ بِنَورِهَا وَحْياً
…
وَتَنْشرُ سِحْرَهَا رُؤيا
عَن الأَهْوالِ تُلْهيِني!
وَكَنْتِ صَلاةَ أَحْزَاني
…
وَكَنْتِ مَتَابَ عِصْيَاني
وَكَنْتِ رَبيِعَ أكْوَاني
…
إذا مَا الدَّهرُ أظْمَاني
يُعَاندهُ، وَيَسقِينِي!
وَكَنْتِ الشَّجْو والأحلامْ
…
وَكَنْتِ الدَّمْعَ والأَسْقَامْ
وَكَنْتِ مَتَاهَة الأَوْهَامْ
…
وَكَنْتِ مَضَّلة الأيَّام
تُحيِّرُني وَتَهْديِني!
وَكَنْتِ الَخْمرَ والأقْداحْ
…
وَكَنْتِ الَّليْلَ وَالإصْبَاحْ
وَكَنْتِ الصَّمْتَ وَالإفْصَاحْ
…
وَكَنْتِ على يديَّ جِرَاحْ
أُقلِّبُها فَتُدمِينِي!
وَكَنْتِ الْمَوْجَ والشُّطآنْ
…
وَكَنْتِ الجُرحَ والسُّلوانْ
وَكَنْتِ النَّايَ والأَلْحَانْ
…
وَكَنْتِ الذِّكْرَ والنسْيَانْ
عَلَيْكِ الدَّهرُ يَطْوينِي!
وَكَنْتِ شُجُنَ أيَّامي
…
وَكَنْتِ جُنُونَ أحْلَامي
وَكَنْتِ غَديِرَ إلهْامي
…
وَكَنْتِ هَديرَ أَنْغَامي
يُفجِّرُني ويُبْلِينِي!
وَكَنْتِ عَيَاهِبَ الآفَاقْ
…
وَكَنْتِ تَوَهُّجَ الأعَماقْ
وَكَنْتِ تَمرُّدَ الأشواقْ
…
وَكَنْتِ تحيُّرَ الإحْدَاقْ
أدُورُ بِهَا فَتُغْوِينِي!
وَكَنْتِ ضُحىً وإشْراقاً
…
وَكَنْتِ هَوىً وَأشَواقاً
وَكَنْتِ سَناً وَإبْرَاقاً
…
وَكَنْتِ مُنىً وآفَاقاً
بِنَارِ هَوَاكِ تُغْرينِي!
وَكَنْتِ وَكنْتُ. . . ظِلَّيْنِ
…
نُرَفْرِفُ في خَمِيليْنِ
نَعِيشُ بقَلْبِ طِفْلِين
…
علَى الدُّنْيَا غَرِيَريْنِ
كاطْيارِ البَسَاتِين. . .
وَدَاَرَتْ بالْهَوى الأْحلَامْ
…
فَعَادَ صَبِاهُ نَعْشَ غَرَامْ
وعُدتُ أنُوحُ بالأَنْغَامْ
…
كأنِّي مِنْ يَدِ الأيَّام
طُعِنْتُ بَحِدَّ سكِّينِ!!
البريد الأدبي
إلى الأستاذ سيد قطب
لست أدري يا أخي كيف قرأت شهرزاد وكيف فهمتها؟ ألم تقف قليلاً
عند المنظر الخامس من تلك المسرحية الفاجرة؟ أكبر الظن أنك نسيت
هذا المنظر فارجع إليه لتغير رأيك، ولتعذرني فيما أوردت من الألفاظ
التي تحرجت من إيرادها في صلب المقال نفسه الذي جعلت أنت مادته
من تلك الألفاظ.
يا أخي:
لقد خجلت الرسالة من إثبات ما نقلته من هذا المنظر فحذفته من مقالي وإن تكن قد أوردت منه القليل الذي يغنى عن الكثير، فلماذا فعلت ذلك؟
يا أخي:
هل تذكر (بالضبط) متى أطلق الأستاذ الحكيم على نفسه لقبه الخالد (عدو المرأة)؟ وهل تذكر لماذا راح الأستاذ يباهي بهذا اللقب؟
يا أخي:
متى نصبت من نفسك مرشداً عاما للناقدين فتبصرهم بآداب هذا الفن؟ ومن ألقى في روعك أنك إمام هذه الصناعة في العصر الحاضر؟ وكيف تظلم رجلاً أن يقول إن شهرزاد الأستاذ الحكيم خطر أخلاقي يجب أن يحارب بأقذع مما قلت فيها؟ هل نسيت بهذه السرعة نضالك الرائع عن أدب القوة ممثلاً في شخص الأستاذ العقاد؟
يا أخي:
إن ما أوردت من أنني حديث العهد بالعمل تحت رئاسة المستشار الفني وأنك قديم العهد به هو صغار لم أكن أوثر لك لانزلاق إليه أو الوقوع فيه، لأن جميع القراء فهموا ما أردت أن تكسر عليه قصدك، وتلوى به كلامك. . . على أن قدم عهدك هذا لم ينفعك في ذاك الموقف الذي أدميت فيه كرامة كان الأولى أن تصان، ألا فلتعلم إذن أننا تلاميذ الأستاذ وحواريوه منذ أكثر من ربع قرن من الزمان. . . وأننا كنا نقف من حوله صفاً في زمن الأزمات التي
كانت الجن تشفق من مظاهرته فيها فكنا نشرع للذود عنه أقلام الملائكة في أوجه الطغاة. ولولا أن شيئاً مما كتبناه في ذلك لا يصح أن ينشر اليوم، لأن الفتنة نامت، والقلوب صلحت. لأذعته عليك. . ولكنه هنا. . . تحت يدك. . . فإن شئت أطلعتك عليه. . . على أن رأيك في الأستاذ طه رأي فج فطير، وأنا أعرف به منك. وأنا ما كتبت الذي كتبت إلا وأنا عالم بأني مستثير سخطه، بل منته إلى تبرمه. على أنه سواء عندي أسخط أم رضي، فقد أصبحت قضية اليوم قضية الأخلاق وقضية الأدب في وقت معاً. ولما كنت لا أحسن التسلق على أكتاف الأبطال كما تعود أناس آخرون. فسيان عندي إن عملت تحت رئاسة المستشار الفني، أو تحت رئاسة أحد نظار المدارس الأميرية كسابق عهدي. وإن لي لقلماً وإن لي لآثاراً تغنيني عن التشبث بهذه المظاهر الجوفاء، ورغم أنف من رغم.
دريني خشبة
تأييد الاسكندر من السماء عند اليهود
اختلف المؤرخون في ديانة الإسكندر اختلافاً كبيراً، وعندي أن أسوأ تقدير في ديانته لا يمنع أن يكون هو ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم، لأنه بقطع النظر عن ديانته كان فاتحاً عظيماً. وقد ابتدأ به التاريخ عهداً جديداً في سير الفاتحين، فلم تكن فتوحه كفتوح الملوك قبله، إذ كانوا جميعاً يدمرون البلاد، ويهلكون الأمم (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أما الإسكندر فكان كلما فتح مملكة أسس فيها وجدد، وبنى وشيد، وأوجد وسائل العمران، وأحيا قلوب أهالي البلدان. وكان يرمي بفتوحه إلى غرض عظيم، وهو أن يجعل من شعوب الأرض أمة واحدة لا فرق فيها بين شعب وشعب، وقد ألف بهذا بين الشعوب الأوربية والأسيوية ومزج بعضها ببعض، فتعرف كل فريق روح الآخر في العلم والحكمة والعادات والأخلاق، ونشأ من ذلك حضارة جديدة أرقى من الحضارات التي سبقتها، ومثل هذا يستحق التنويه بقطع النظر عن دولة صاحبه، ولا شيء في أن ينوه القرآن الكريم به.
ومن المهم هنا أن نبين رأي اليهود الذين سألوا عن ذي القرنين في ديانة الإسكندر، فقد ذكروا أنه لما قصد أورشليم لفتحها سار في بعض الطرق فرأى رجلاً بهيَّا لابساً ثياباً
بيضاً، وبيده سيف مثل البرق اللامع، وهو يشير به إليه كأنه يريد قتله، ففزع منه وعلم أنه ملاك مرسل من الله تعالى، فسقط على وجهه وسجد، وقال: يا سيدي لماذا تقتل عبدك؟ فقال: لأنك تريد أن تمضي إلى القدس لتهلك كهنة الله وأمته، وأنا الملاك الذي أرسلني الله لنصرتك على الملوك والأمم. فقال الإسكندر: يا سيدي، أغفر لعبدك فقد أخطأت، وإن كنت لا تشاء أن أسير في طريقي فإني أعود إلى بلادي. فقال له: أما وقد استغفرت عن مآثمك فلا ترجع، وإذا وصلت إلى أورشليم ورأيت رجلاً على صورتي، فانزل عن فرسك واسجد له، واقبل جميع ما يأمرك به. فمضى الإسكندر في طريقه إلى أورشليم، ولما وصل إليها قابله كاهنها على صورة ذلك الملاك، فنزل الإسكندر عن فرسه وسجد له وسلم عليه وعظمه؛ وحمل إلى بيت الله مالاً كثيراً، ثم سأل الكاهن أن يتوسل إلى الله فيما عزم عليه من محاربة داريوس ملك الفرس، فقال له: أيها الملك، امض في طريقك فإن الله معك، وهو يظفرك بداريوس ومملكته. وقد سار الإسكندر بعد ذلك في فتوحه إلى أن ملك أقاليم الدنيا السبعة (تاريخ يوسيفوس ص26 - 38)
فالإسكندر عند اليهود كان ملكاً يشبه أن يكون نبياً، وقد جاب الدنيا غرباً وشرقاً حتى ملك أقاليمها السبعة، ولا شك أن هذا يتفق كل الاتفاق مع الشخص الذي ذكره اليهود في سؤالهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويتفق كل الاتفاق مع ما جاء عن ذي القرنين في القرآن الكريم، وهكذا نجد الاتفاق بينهما قريباً على أي وجه فرضناه، ولست أرى بعد ذلك وجهاً لإعادة الكلام فيه.
عبد المتعال الصعيدي
حول ذكرى السيد جمال الدين
أشكر للأستاذ محمود أبو رية ما نوه عني في بريد (الرسالة) بيد أني لا أتفق معه فيما ذهب إليه وسماه رعاية لحرمة الأمانة العلمية. ذلك لأني لست من تلامذة الفيلسوف (جمال الدين) - وليتني كنت منهم - وإنما حز في نفسي أن ينسى الشرقيون عباقرتهم في سرعة مخزية، فذكرتهم علهم يذكرون، وعرضت عليهم صورة قبست خطوطها مما قال عنه معاصروه، ونسيت - وهذا يؤسف حقَّا - أن أذكر المرجع الذي عنه أخذت.
محمود شلبي
رواية الأصمعي وحماد لشعر زهير
قرأت في العدد 222 من (الثقافة) كلمة للأستاذ الفاضل (قاف) تحت عنوان: الأدب المنحول؛ أورد خلالها قصة فحواها أن الرشيد سأل حماداً الرواية عن المقصود من قول زهير (دع ذا وعدَّ المدح في هرم)
فاصطنع حماد (بيتين) نسبهما إلى زهير، وزعم أنهما أول قصيدته وأنهما المشار إليهما بقوله: دع ذا. . . الخ
ثم أعاد الرشيد السؤال على الأصمعي للتثبت من صحة قول حماد فأجاب: بل هذا أول مقالة زهير، ولعله كان مشتغلاً بأمر في نفسه أو مع غيره حين بدا له أن ينشئ في مدح هرم؛ فكان أن قال (مبتدئاً غير منقطع مما كان فيه): دع ذا وعد المدح في هرم. إلى آخر ما قال
ونحن نسجل هنا أن الرواية بهذا الوضع دليل على غفلة حماد والأصمعي، وقلة تثبتهما من قصيدة زهير، إذ البيت المذكور وهو بتمامه:
دع ذا وعد المدحَ في هرِم
…
خير البُداة وسيدِ الحْضر
يقع الرابع من قصيدة رائية لزهير يقول في مطلعها:
لمن الديار بُقنةِِ الحجر
…
أقوينَ من حججٍ ومن شهْر؟
وهذه رواية الأعلم الشنتمريّ (410هـ - 476هـ) وهو أشهر من جمع ديوان زهير وقام على شرحه
على أنه إن صحت إجابة الأصمعي كان معنى ذلك أن الأبيات الثلاثة الأولى - لا بيتين فقط - من نظم حماد الراوية دون زهير
ونحن لا نميل إلى الأخذ بهذا الرأي، لما نلحظه من شدة التواؤم بين الأبيات جميعاً؛ ثم لأن القصة نفسها تشير إلى أن حماداً جُوبه بمقالة الأصمعي فأقر بزلته واعتذر، وأذيع أمر ما كان منه في مربد البصرة، فلم يبق إذن مجال لرواج كذبته ونفاق أبياته المصطنعة على رواة شعر زهير وشارحي ديوانه ممن جاءوا بعد ذلك.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
انصفوا المعلم الإلزامي
الأستاذ الجامعي مسئول عن كل ما يقول لأنه موضع الالتفات في كل ما يقول. ومن ثم فلا بد لنا من الرد على قولة نحمد الله على أنها لم تك مدعمة بالأسانيد ولم تك صادرة عمن لابس التعليم الإلزامي وسبر أغواره. . .
فلقد راعنا حقاً أن يقوم في محاضرة عامة الأستاذ توفيق الطويل مدرس الفلسفة بجامعة فاروق فيطلق حكماً غريباً جريئاً على التعليم الإلزامي إذ يقول: (إن التعليم الإلزامي يجب أن يلغى فما له من نفع ولا فائدة. . .) لا. لا يا سيدي الأستاذ فما بمثل هذه الأحكام المرسلة تعالج مشكلة التعليم الإلزامي
ولقد والله شهدت للتعليم الإلزامي تلك الأزاهير اليانعة من أطفال النيل التي فتحتها يد السحر من التعليم الإلزامي فانتقلت من الظلام إلى النور، فما من طفل في الريف إلا وهو يقرأ أو يكتب. . . وما نريد ممن يقيده الفقر عن إتمام أقل مراحل التعليم سوى أن يحسن القراءة والكتابة حتى يخلص من مشاكل الجهل بهما
وثمة ناحية أخرى يا سيدي وهي أن للمعلم الإلزامي فضلاً آخر يتمثل في صورة القدوة الحسنة في روعة النظافة ودقة النظام. وإننا لنحمد الله على أن أكابر كتابنا الاجتماعيين وخاصة في (الرسالة) التفتوا إلى فضل المعلم الإلزامي؛ فقد كتب الأستاذ الكبير الزيات مقالاً صادقاً جعل فيه المعلم الإلزامي (جندياً مجهولاً) كما شهر الأستاذ الفاضل العقاد قلمه مدافعاً عنه.
وبعد فما نظن أن هناك من ينكر فضل هذا الجندي المجهول ممن يقيمون الأحكام على أسس من الاختبار والاستقراء.
حسين محمود البشبيشي