الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 512
- بتاريخ: 26 - 04 - 1943
9 - دفاع عن البلاغة
الأسلوب
لعل ما عرضته عليك من إجمال القول في البلاغة كان توطئة لتفصيل
الكلام في الأسلوب. ذلك لأن الأسلوب هو مظهر الهندسة الروحية لهذه
الملكة النفسية، يبرزها للعيان، ويصل بينها وبين الأذهان، وينقل أثرها
المضمر إلى الأغراض المختلفة والغايات البعيدة. وكتب البلاغة في
لغتنا لم تُعن إلا بالجمل ومل يعرض لها في علم المعاني، وإلا بالصور
وما يتنوع منها في علم البيان؛ أما الأسلوب من حيث هو فكرة
وصورة معاً فقد سكتت عنه سكوت الجاهل به. وكان الظن بمن خلفوا
عبد القاهر وأبا هلال وابن الأثير أن يفطنوا إليه بعد ما دلوهم عليه
بذكرهم بعض خصائصه الفنية وصفاته اللفظية، وإن كان ما ذكروه من
ذلك جاء فطيراً لم يختمر، وخديجاً لم يكتمل، وشائعاً لم يحدد، ومشوشاً
لم يرتب؛ ولكنهم صُّموا عن تنبيه العسكري، وعموا عن توجيه
الجرجاني، ومضوا على نحائزهم الأعجمية يفلسفون النحو والبلاغة لا
لشيء غير الفهاهة والحذلقة. والأسلوب كما قال لهم ابن خلدون في
مقدمته: (لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو
وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التركيب
الذي هو وظيفة البلاغة والبيان. . . وإنما يرجع إلى صورة ذهنية
للتراكيب. . . وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب
وأشخاصها ويصيِّرها في الخيال كالقالب والمنوال، ثم ينتقي التراكيب
الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصها فيه رصَّاً كما
يفعله البناء في القالب والنساج في المنوال حتى يتسع بحصول
التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار
ملكة اللسان العربي فيه، فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به
وتوجد فيه على أنحاء مختلفة. . .) لذلك حسب المدفوعون بطبائعهم
عن موارد البلاغة من طول ما ثرثروا حول الجمل والصور في
عصور العجمة، أن الأسلوب سرد ألفاظ لا تسفر عن معنى، وحشد
أسجاع لا تؤدي إلى غرض
إذن ما هو الأسلوب؟ الأسلوب هو طريقة الكاتب أو الشاعر الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام. وهذه الطريقة فضلاً عن اختلافها في الكتَّاب والشعراء تختلف في الكاتب أو الشاعر نفسه باختلاف الفن الذي يعالجه، والموضوع الذي يكتبه، والشخص الذي يتكلم بلسانه أو يتكلم عنه. ولكن الأساليب مهما اختلفت باختلاف الأفراد، وتنوعت بتنوع الأغراض، فإنها تتسم جميعاً بسمات واحدة من عبقرية الأمة. ومنطق ذلك أن الصفات المشتركة في آحاد الأمة تتلاقى وتتجمع فتكوِّن خصائصها التي تميِّزها من سواها. وهذه الخصائص نفسها تنطبع في لغتها فتكون طرازاً عاماً في كل أسلوب
وعلى قدر ما تكون هذه الخصائص في الأمة تكون قابلية الأساليب فيها للاختلاف. فالصفات القومية في الأمة العربية كانت في جاهليتها شديدة الظهور والعموم حتى لم يكن بين صفات الفرد وصفات الجماعة إلا فروق لا تكاد تلحظ. ومن ثم تشابهت أساليب الشعر والخطابة في ذلك العصر فلا تستبين فروقها الدقيقة إلا للناقد البصير. ومن اختلف أسلوبه من الشعراء الجاهليين فقد اختلف لتغلب صفاته الخاصة، كأمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد. فلما جاء الإسلام أخذت هذه الفروق تتضح وتتباين حتى بلغت غايتها من ذلك في العصر العباسي حين صارت اللغة العربية لغة الإسلام، والأدب العربي أدب الشرق
والفنان العبقري هو وحده الذي يستطيع أن يغلِّب صفاته الخاصة على صفات قومه العامة فيتميز طابعه ويستقل أسلوبه. أما العاديون والمقلدون من حملة الرواسم وحفظة التعابير
فتظل أساليبهم نسخاً منقولة عن الأصول العامة الموروثة لا يختلف بعضها عن بعض إلا بمقدار ما تختلف رسائل التجار وكتب الدواوين
وبهذه الصفات القومية العامة تميزت لغة من لغة، واختلف أدب عن أدب؛ فاللغات الشرقية في جملتها تتميز من الغربية بالزخرف والأبهة والانتفاخ والتبجيل والتهويل والصوفية؛ لأن شعوبها صبغوها بهذه الأصباغ من صفاتهم الخاصة. والفروق المعروفة بين الفرنسية في وضوحها ودقتها، وبين الإيطالية في رخاوتها ورقتها، وبين الإنجليزية في خشونتها وقوتها، هي نفسها الفروق بين أصحاب هذه الأمم الثلاث في أصل الجبلَّة وموروث الطبع
وكما تؤثر صفات الأمة في طبيعة اللغة، تؤثر طبيعة اللغة في أسلوب الكاتب؛ فاللغات التي اكتسبت من مدنية أهلها رقة اللفظ وأناقة العبارة، ومن شاعريتهم جمال الصور وروعة الأخيلة، تغنى الكاتب بموسيقاها وحلاها عن كد القريحة في ابتكار المعاني واستنباط الفكر. أما اللغات التي لم تؤتها الطبيعة حظاً موفوراً من سحر اللفظ وفتون الصياغة، فكتابها مضطرون إلى أن يعوضوا أساليبهم من ذلك، وجازة التعبير، ووزانة التفكير، ومدَّ القارئ بفيض من المعاني يشغله عن الفكر فيما فاته من جمال الأسلوب
واللغة العربية من النوع الأول، طبعها أهلها منذ القدم على موسقة الألفاظ، وتنويع المعاني بصور البيان، وتفويف الجمل بألوان البديع، لا فرق في ذلك بين بداوتها وحضارتها، ولا بين فصحاها وعاميتها، حتى اطمأن كثير من رجال القلم إلى أن يُعفوا طباعهم من جهد التفكير ويحاولوا امتلاك القلوب بروعة الأسلوب، فكانت المقالة أو القصيدة أشبه بالقطعة الموسيقية تخلب الأذن ولا يبلغ النفس والذهن منها غير رجع ضعيف. ومن هنا قرَّ في أكثر النفوس أن الأسلوب إنما يطلق على الجانب اللفظي من الكلام، حتى قال الأستاذ الرافعي طيب الله ذكره:(فصل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، والأديب فكرة وأسلوبها) ففصل بين الفكرة والأسلوب، واعترف بالأسلوب للأديب وأنكره للعالم. ولعلِّي أوفق إلى تصحيح هذا الرأي فيما يلي من هذا الحديث.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بلاء الناس بالناس - ملك الشط والفراتين - زيارة سياسية
بلاء الناس بالناس
تمرّ بنا لحظات كدر وغيظ لا يخلقها غير بلاء الناس بالناس. . . نعم، تمرّ بنا لحظات نحسد فيها سكان المغاور والكهوف، ونتمنى عيش العزلة إلى آخر الزمان
هذه الحرب صنعت ما صنعت بالأرزاق والأقوات، ولم تترك بيتاً بلا متاعب معاشية، فهل تأدب الناس وتذكروا أنهم يعيشون في أعوام حرب؟ وهل تقع العيون على ناس تشهد ملابسهم بأنهم يعانون أزمات الحرب؟
قيل أن المال كثر وفاض، فعند من كثر المال وفاض؟ لم يكثر إلا عند التجار. وكثرة المال عند التجار مفسدة معاشية لا يدرك خطرها إلا الأقلون، وهي ناشئة عن بلاء الناس بالناس. . . ولكن كيف؟
الموظف المحدود الراتب، والمالك المحدود الإيراد، لا يريد هذا أو ذاك أن يقال إن حياته تعرضت لمتاعب الغلاء، فهو كما كان يعيش في أيام الرخاء، وإن كلفه ذلك غمّ القلب وهموم الديون
ما هذه الملابس الجديدة في زمن ليس فيه جديد غير دماء القتال؟ وما هذه العطور والمساحيق والأزياء في أيام لا يتعطر فيها الجو بغير جثث المحاربين؟
لو راعى الناس أنهم يعيشون في زمن حرب فخففوا من بعض المطالب لاعتدلت أسعار الحاجيات وانقشع كرب الغلاء، ولكنهم لجهلهم يأبون الاعتراف بمكاره الحرب، ويصروّن على الظهور بمظهر الوجاهة في كل مجتمع وفي كل ناد
هل عندك أبناء وبنات يتعلمون في المدارس؟
لك الله، إن كان هذا حالك، فلن تستطيع أن تقنع ابنك أو بنتك بأن الدنيا في حرب وكرب، لأن هذا الإقناع لن يتيسر إلا إذا عُقد مؤتمر من آباء التلاميذ يقررون فيه الاستغناء عن الفضول في الملابس والأزياء، ولن يُعقد المؤتمر المنشود إلا إذا وجد في آباء التلاميذ من يجرؤ على القول بأن أعوام الحرب صيرته خفيف الجيب!
وآه ثم آه من بلاء الناس بالناس!
قَدِمَ مندوب المتجر الفلاني إلى المدرسة الفلانية وأخذ مقاس جميع التلميذات بدون استئذان ليعدّ لهن أثواب الصيف، وهو موقن بأن لن يكون في مقدور تلميذة أن ترفض ثوبها (يوم الحساب) لئلا يقال إن أباها من الفقراء!
فما شأن المتجر الفلاني بالمدرسة الفلانية؟
وما الذي يوجب أن تكون ملابس جميع التلميذات كأسنان المشط في اللون والاستواء. وقد نوّع الله الوجوه والملامح أغرب التنويع؟
أفي مثل هذه الأيام نعرف الفروق بين ملابس الصيف وملابس الشتاء؟
كان الظن أن يعرف نظار وناظرات بعض المدارس أن في الآباء من لم يستفد من فرص الحرب، كما استفاد من سيكونون طعام سقر من التجار المنهومين
وكان الظن بالأغنياء الذين يدللون أبناءهم أن يتذكروا أن لأبنائهم رفاقاً لا يملكون من الترف ما يملكون، وأن الأدب مع الله يفرض علينا أن نستر نعم الله، فلا نجأر في كل لحظة بأننا أغنياء، لنكدر عيش الفقراء
وآه ثم آه من بلاء الناس بالناس!
الظواهر لا تشغل الخلائق إلا حين يُحرمون جمال المعاني
والمفاضلة بين تلميذ وتلميذ في هذا العصر مفاضلة بين ثوب وثوب، وليست مفاضلة بين عقل وعقل، ولهذا كثرت خيبة التلاميذ النجباء!
ما لي ولهذا الكلام المزعج؟
هو كلام ساقه جزعي من العجز عن ادخار درهم واحد في مدى شهرين، بسبب الجو الذي يحيط بي وبأبنائي، جوّ الزخرف الذي يحيا فيه الأصحاب والجيران
كنت أوصي تلاميذي في مصر وفي العراق بالادخار، وكنت أقول لهم إن الادخار هو الذي منحني الفرصة لإتمام دراستي العالية في باريس، بعد توفيق الله. واليوم يصعب عليّ أن أوصي أبنائي بما كنت أوصي به تلاميذي. وكيف يسمع أبنائي ما أقول ومن حولهم خلائق عجز عن تأديبها الزمان؟
إن عدوى الترف سريعة الإيذاء، فلنحترس من شرها كل الاحتراس
وكيف نحترس وليس في الدنيا طفلٌ يعرف أن أباه لا يبخل عليه بالترف إلا ليدّخر له ما ينفع في الأيام المقبلات؟
إن أبناءنا لا يريدون أن نطمئن على سلامتهم من الوجهة الروحية، وإلا فكيف جاز أن تكثر رغبتهم في الزخارف وثقل رغبتهم في الحقائق؟
عفا الله عنهم، فهم ضحايا بلاء الناس بالناس!
إن حال الرجال من هذه الناحية مقبول، فما أذكر أني رأيت مدرساً أو مفتشاً يهتم بملابسه اهتماماً يوجب الاعتراض، وإنما الحال المزعج هو حال بعض المدرسات والمفتشات، حال الفساتين التي لا تجاوز الركبتين، حال الزينة التي تنافي وقار التعليم، وكان مهنة الأنبياء
وفي إحدى المدارس رأيت مدرِّسة ضنت على نفسها بالزينة الزخرفية، فزاد إيماني بعظمة بلادي، وأيقنت أن (ربة البيت) بخير وعافية، وأن مصر في أمان من طغيان الخسران
عندنا مدرِّسات حقاً وصدقاً، مدرسات يتحلين بالعلم لا بالزينة، وبفضل أمثال هؤلاء المدرسات سنبلغ من تعليم البنات ما نريد
المدرسات المصريات في هذا العهد يجاهدن بصدق للتغلب على السخف الذي جلبه الجانب الضعيف من المدنية الغربية، ويحاولن بصدق أن يكن مدرسات لا وصيفات
وقد صار من المألوف أن تجد مدرسات يقهرنك قهراً على بذل تحية التعظيم والتبجيل، وهي تحية أكرم وأشرف من تحية الحسن المجلوب
وأرجو أن يفهم القارئ أن كلامي هذا لا يراد به الإيحاء، فما هو إلا صدق في صدق، بعد ملاحظات ومشاهدات جعلتني من المطمئنين إلى صحة ما أقول
وأنا مع هذا منزعج مما صرنا إليه في مدارس البنات ومدارس البنين
هل عندنا مدرسة توصي تلاميذها بأن لا يكلفوا آباءهم ما لا يطاق؟
هل عندنا مدرسة تفكر في أن تكون من الأسندة للبيوت؟
التلميذ لا ينجح بتفوق إلا إذا أمدته المقادير بالدروس الخصوصية، فمتى نثق بكفاية الدروس المدرسية؟
وما قيمة المدرس الذي لا يتفتح عقل تلميذه إلا إن خاطبه لسان إلى لسان؛ بين أربعة جدران؟
أعوذ بالله من بلاء الناس بالناس!
ملك الشط والفراتين في ضيافة النيل
من مزايا مجلة (الرسالة) أنها تسكت عن الأشخاص ليكون التفاتها كله إلى المعاني، وذلك هو السر في عدم اهتمامها بالإخباريات المتصلة بالأشخاص
قلت لنفسي: ولكن في الأشخاص من يكونون رموزاً للمعاني، فما الذي يمنع من أن أقول على صفحات الرسالة: أهلاً وسهلاً ومرحباً بملك الشط والفراتين!
كانوا يسمونه الملك الطفل، فسميته الملك الشبل، جعله الله أكرم الأشبال!
و (ملك الشط والفراتين) لقبٌ جميل صاغه شاعرنا شوقي في القصيد الذي يغنيه محمد عبد الوهاب في تحية فيصل الأول. والشط هو شط العرب، والفراتان: دجلة والفرات. . . ولو كانت الأقدار سمحت بأن يزور شوقي ديار (الشط والفراتين) لجاد شعره بأطايب لا يجود بمثلها الخيال
وهل كان شوقي يشعر بقيمة المبدأ الذي رسمه حين جعل ملك العراق ملك الشط والفراتين؟
ما أغرب ما سمعت في بغداد سنة 1938
سمعت أن العراقيين دعوا (الملك فيصل الأول) إلى الاحتفاظ بالموصل في المؤتمر الذي عقدوه في (الصُّليخ)، فما الصليخ؟
هو مكان في ضواحي بغداد مرت به لحظة تاريخية. وقد زرته زيارة الطيف في ليلة شاتية لأتنسم الجو الذي قيل فيه بحضرة فيصل الأول: إن العراق لا يستغني عن الموصل بأي حال
ثم زرت الموصل الذي لا يجوز عنه الاستغناء فهالني أن أرى روحانيات مختلفات، وعز عليَّ أن يكون الموصل مما يدخل في الحساب عند تقسيم المغاني، مع أنه كان ولا يزال ولن يزال من صميم الأرومة العربية
وقد زرت الشط، شط العرب، بعد أن شهدت العراك الذي دار في مجلس النواب العراقي حول معاهدة الحدود
وأصغيت بأذنيَّ وبقلبي إلى الصوت الذي قال: من غفلة العرب أن ينسوا الأهواز، مع أنها أحق بالعطف من فلسطين
لقد نفضت يدي من السياسة بعد أن آذتني في وطني.
فكيف جاز أن ألتفت إلى السياسة يوم كنت ضيف العراق؟
هي سياسة روحية تشبه السياسة التي تساور قلبي حين أزور دمياط المصرع الذي انتهى إليه (جامع الفتح) وهو المسجد الثاني في مصر بعد مسجد عمرو بن العاص
دعوت سادن جامع الفتح مرة ومرات فما أجاب؟ وأين السادن لمسجد لا تهتم به لجنة الآثار العربية ولا وزارة الأوقاف؟
ليتني صليت ركعتين على باب ذلك المسجد، وليتني تيممت بما على جدرانه من تراب!
لقد زرت في دمياط مشاهد يجهلها الدكتور علي مصطفى مشرفة ويجهلها الأستاذ عبده حسن الزيات، زرت البلد الذي تحدثت عنه في كتاب (التصوف الإسلامي) قبل أن أراه، لأرفع عن عقلي بعض ما يثقله من أوزار الجهل!
وأين من يعرف حقيقة ما أرويه في هذا الحديث؟
دمياط صورة من البصرة والبصرة صورة من دمياط
الطريق إلى هاتين المدينتين محفوف بالنخيل، وكلتاهما ملتقى للماء العذب والماء الأجاج، مع فروق أوجبها بعد البصرة من دمياط، وكلا البلدين ثغرٌ مخوف، فما يعيش العراق بدون أمان البصرة، ولا تعيش مصر بدون أمان دمياط
هذه السياسة الروحية تزلزل روحي، فلي في كل بلد آلام وآمال، وأنا أجول جولات روحية بكل ما أحب من البلاد في كل مساء، وكأنني أجول في شارع فؤاد. وهل يوجد في أية مدينة شارع له جاذبية شارع فؤاد؟
بالرغم مني أن يكون حظي من المرور بذلك الشارع شبيهاً بمرور الطيف على ديار الأحباب
شارع فؤاد هو طريقي إلى المفوضية العراقية، فهل سمح الوقت بأن أزور فخامة السيد جميل المدفعي وكان رئيس الوزراء حين كنت من الذين يتشرفون بخدمة العلم والأدب في العراق؟
المصري الصادق في خدمة وطنه لا يجد وقتاً لأداء حقوق المجاملات، لأن الشواغل عندنا تفوق الوصف، ولأن في حياتنا متاعب لا يعاني مثلها أحد في سائر البلاد العربية
إذا وفد إلى مصر زائرٌ كريم تلفت عساه يرى من يخفون لتحيته من المصريين، ثم تكون النتيجة أن لا يرى غير آحاد من الذين تسمح أوقاتهم بتحية الضيوف، فينصرف وهو متعجب من تهاون المصريين في المجاملات الإخوانية
أقول هذا لأعتذر لفخامة السيد جميل المدفعي، راجياً أن أراه في فرصة قريبة بالقاهرة أو بغداد.
زيارة سياسية!
ضاق الوقت عن التشرف بمقابلة صاحب الجلالة فيصل الثاني، وكنت أحب أن أعرف البواعث لزيارته الكريمة، فقد سمعت ناساً يقولون إنها زيارة سياسية!
نعيش إن شاء الله ويعيش فيصل الثاني إلى أن يتولى السلطة الدستورية وتُصبغ كل أسفاره بالصبغة السياسية. أما زيارة اليوم فهي زيارة ملك ناشئ لا يرى غير الورود والرياحين
وأنا مع هذا موقن بأن زيارته لمصر زيارة سياسية، فقد أبدع بروحه اللطيف جاذبية أخوية تزيد ما بين مصر والعراق من صلات السياسة ليست مقصورة على النظر في المنافع العاجلة أو الآجلة في حيوات الشعوب، فهناك سياسة أعظم وأرفع، وهي سياسة الحب والوداد. والملك فيصل الثاني يسمع من أخبار مصر ما يسمع، ويقرأ من مؤلفات رجالها ما يقرأ، فكان من الواجب أن يراها بعينيه ليحس روحها بأوفى وأصدق ما يكون الإحساس
انتظروا قليلاً، فسترون يوماً أن هذا الملك الناشئ دوّن في مذكراته البسيطة أشياء، فمن المؤكد أن صدره فاض بالجذل والارتياح والاغتباط حين رأى أن لغة العرب لها مدينة مثل القاهرة، ومن المؤكد أنه اطمأن على مصير العروبة حين رأى أن اشتباك المصالح الدولية لم يزحزح القاهرة عن خطتها العربية
وهنا أقول إنه يجب على كل عربي أن يزور القاهرة وأن يرى ما فيها من المدارس والمعاهد والكليات
عاصمة مصر هي العاصمة الأولى في الشرق، وهي في الحضارة والمدنية أعظم من استانبول، وهي أبقى على الزمن من أخطر حواضر اليابان، فقد نجانا الله من أهوال الزلازل والبراكين، وأنعم على بلادنا بوفاء النيل، وأعاننا على كبح ما فُطر عليه من الطغيان
ومصر التي هدت الإنسانية إلى حقائق لم يعرفها الغرب إلا بعد أجيال وأجيال ستظل على الدهر وطن الابتكار والابتداع في أكثر الميادين. وهل نطق ناطق بحقيقة علمية أو أدبية أو فلسفية إلا وهو مدين لآبائنا الأولين؟
عنا أُخذ الكفر وعنا أُخذ الإيمان، فما كفر كافر ولا آمن مؤمن بدون أن يكون لنا في عقله وقلبه ديون ثقال
وهل يعرف أحد كيف كفر المصريون في طفولة التاريخ؟
لقد فكروا في محاربة السماء، ليبددوا الوهم القائل بوجود السماء، وأين السماء التي يقيم بها الله، كما كان يقال؟
مصر من صُنع الله، والله لا يصنع غير الحقائق الأزلية، وسيشقى من يشقى في محاربة مصر، ثم تبقى إلى الأبد وهي غرة في جبين الوجود
ما أسعد من يرى مصر أول مرة وهو سليم القلب والوجدان!
إن رؤية مصر في كل صباح وفي كل مساء وعلى طول السنين لم تزهدنا في مرآها الجميل، فكيف تكون الانفعالات النفسية في صدر من يراها لأول عهده بقلبها الخفاق؟
وأنا مع هذا أعاني في رحابك يا وطني ما أعاني، فمتى يخف شقائي بك وعتابي عليك؟
أنا أطلب المستحيل إن طلبت في رحابك الأمان كل الأمان، لأنه حظ الأموات، ونحن أحياء
لك يا وطني أن تبدع ما تبدع من تهاويل الحقائق والأباطيل، وعلينا أن نجاري روحك المبدع فنكون من أقطاب الشعر والبيان.
زكي مبارك
ظاهرة جديدة في الأزهر
أمثلة. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
ذكرت في مقالي السابق أن (ظاهرة جديدة) قد ظهرت في الأزهر. تلك الظاهرة هي أحاديث الإصلاح التي كانت حول الأزهر والأزهريين قد أصبحت الآن في الأزهر وبين الأزهريين، وانتقلت من ميدان الرسالة إلى ميادين أخرى في مدرجات الكليات ومجالس الأساتذة ومكاتب الرؤساء، وأنها لم تعد آمالا يُقتصر على ترديدها، بل أهدافا يُرمى إليها، ويقاس القرب والبعد من النجاح بمقياسها.
وقد استبشرت خيراً بهذه الظاهرة لأنها تدل على أن الأزهر قد تنبه واستفاق وأخذ يتساءل عن مصيره، ولأنها تيسر التعاون المثمر بين الدعاة والمدعوين على تحقيق نهضته المرجوة، وأخيراً لأنها صوت الشعب، ولصوت الشعب في الآذان دوىً لا يستطيع أن يتجاهله المتجاهلون
استبشرت خيراً بهذه الظاهرة، وأحببت أن أسجلها على صفحات الرسالة كما هو دأبي، لأني أعتبر (الرسالة) ويعتبرها المخلصون جميعاً مجلة الإصلاح الديني والأزهري ولسان الدعوة إلى إنهاض هذا الشرق وإحياء تراثه المجيد تراث الدولة الإسلامية إبان عظمتها وفي عنفوان شبابها، ولأني أحسب أن تاريخ هذا الجهاد الشريف سيلتمس يوماً ما من مجلداتها فلا ينبغي أن يغيب عنها شيء منه دقَّ أو جلَّ لتكون الصورة كاملة واضحة لا نقص فيها ولا غموض!
واليوم أذكر (أمثلة) لتلك الظاهرة التي وصفت. أمثلة يعرفها كثير من الناس في الأزهر وفي غير الأزهر. ولست أقول: ماذا أذكر منها وماذا أدع، لأنها لم تعد سراً تنطوي عليه الجوانح، وتغلَّق دونه الأبواب؛ ولكن أقول: ماذا أقدم منها وماذا أؤخر؛ لأنها جميعاً أمثلة جديرة بأن تتقدم وبأن يلتفت الناس إليها، ويتفهموا مغزاها، ويدركوا عواقبها. وربما كان من الرأي أن ندع الآن جهود الطلاب ونشاطهم الذي لا يكل في المناداة بتنفيذ خطة الإصلاح، وما يعقدونه ويدعون إليه في مدرجاتهم من اجتماعات أسبوعية يخطبون فيها ويتناظرون، وما يكتبونه من رسائل مفعمة بحماسة الشباب وحرارة الإخلاص يتوجهون بها
إلى أساتذتهم ورؤسائهم، وما يبعثون من وفود إلى ولاة الأمور في الحين بعد الحين، لا هاتفة بالمال، ولا ملتمسة الرزق، ولكن هاتفة بالإصلاح راغبة في العلم النافع الذي يصل الأزهر بالحياة. ربما كان من الأوفق أن نترك هذا ونحوه الآن، وأن نلتمس ما نريد من الأمثلة في محيط غير هذا المحيط ليعلم الناس أي مدى بلغته دعوة الإصلاح. وإنا لفاعلون:
(1)
قالوا: إن طائفة من أبناء الأزهر المخلصين، فيهم شيخ كبير يشغل منصباً هاماً من مناصب الدولة، وله صلة وثيقة بالأزهر، وفيهم وكيل لإحدى الكليات الأزهرية معروف بإخلاصه وغيرته وصداقته لفضيلة الأستاذ الأكبر، وفيهم شاب مثقف بالثقافة الإنجليزية إلى جانب ثقافته الأزهرية - ضم هذه الطائفة مجلس مع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، وكان مجلساً صافياً مباركاً: فكروا فيه في الأزهر، وذكروا ما آلت إليه أحوال الدراسة وشئون العلم في معاهده وكلياته وتخصصاته، واستعادوا ذكريات ماضية ما زال الناس يذكرونها لفضيلة الأستاذ الأكبر، وقيل لفضيلته في هذا المجلس: إن الناس ينتظرون منه أن يعيد عهد المراغي الذي كان على رأس الأزهر في سنة 1928. ينتظرون منه أن يعيد عهد المراغي القوي الجريء الذي كان يكتسح العقاب، ولا يعبأ بالصعاب، ويغار على فكرته الإصلاحية ويدافع عنها دفاع الأسد الهصور. وقيل له في هذا المجلس أيضاً: إن الناس لا يريدون منه أكثر من أن ينفذ مذكرته الإصلاحية الكبرى بالروح التي وضعها بها، بالقوة التي تمثلت فيها، بالصراحة التي تتجلى في كل سطر من سطورها! وأذن فضيلة الأستاذ الأكبر لهذه الكلمات المخلصة التي تفيض عن قلوب للأزهر والدين مخلصة. أذن لهذه الكلمات، وفتح لها قلبه، واستعاد ذكرى ماضيه المجيد الذي تشير إليه، ثم قطع على نفسه عهداً ليكونن كما يريدون فلا يأتي أول العام الدراسي (يريد فضيلته العام الماضي) حتى تبدو آثار ذلك لهم وللناس أجمعين!
وانطلقت البشرى بهذا الحديث في مجالس الأزهريين وغير الأزهريين، وقرت به عيون واطمأنت إليه قلوب، وترقب الناس أول العام الدراسي متلهفين.
ولست أريد أن أعجل فأسأل: ماذا كان في أول العام الدراسي؟ وإنما أوثر الآن أن أستمر في عرض المثل لهذه الظاهرة حتى لا أخرج عما رسمت لنفسي في هذا المقال:
(2)
وقالوا أيضاً: إن طائفة من العلماء قد اجتمعت على سبيل المصادفة في مكتب فضيلة الأستاذ الأكبر، وكانت هذه الطائفة تضم بعض ذوي المناصب في الأزهر، وكان اجتماعها قبل ظهور فكرة الاحتفال بالعيد الألفي بزمن يسير، وجرى الحديث في شئون مختلفة ونواح شتى، ثم جرى حول الأزهر وحالة الدراسة في كلياته ومعاهده فأشار فضيلة الأستاذ الأكبر بأن يتناظر اثنان عيَّنهما في هذا الموضوع:(هل الأزهر القديم خير أو الأزهر الحديث؟) فقال أحدهما: ينبغي أولاً أن نحرر على طريقة الأزهريين موضع النقاش في هذه المناظرة، فنعرف من أين يبدأ الأزهر الحديث؟ أيبدأ بعهد الإمام الأول المغفور له الشيخ محمد عبده، أم يبدأ بعهد الإمام الثاني فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي؟ فإن كانت الأولى فالأزهر الحديث خير من الأزهر القديم، وإن كانت الأخرى فإلى أن يخرِّج الحديث أمثال المراغي وعبد المجيد سليم ومن إليهما يظل الأزهر القديم خيراً من الأزهر الحديث!
ووافقه صاحبه على هذا الرأي. فأما فضيلة الأستاذ الأكبر فلم يفته، وهو الرجل الذكي الألمعي، ما تقصد إليه هذه الإشارة فقال: لقد مضى على الأزهر ألف عام كان فيها بين التقدم والتأخر، وتقلبت عليه فيها نظم كثيرة، فإذا كانت الأعوام العشرة الأخيرة ليست من أعوام النجاح في تاريخه الطويل فهي أعوام تجربة، فأسقطوها من حساب هذا التاريخ، واعتبروها كذلك، وانظروا في تعديل هذا النظام على وجه تصلح به شئون الأزهر. قال قائلهم: لا. ليس السر فيما يشكو منه الناس راجعاً إلى النظام، فإن النظام في ذاته صالح وليس فيه عيب جوهري، ولكن هذا النظام لم ينل حظه من التنفيذ كما ينبغي أن ينال. وهذا هو السر في أنه لم يثمر ثمراته التي كان الناس يرجونها منه. قال فضيلة الأستاذ الأكبر: نعم هذا صحيح!
ولا شك أن هذين المثالين يدلان على ما عنيت بوصفه من تلك الظاهرة الجديدة التي بدت في الأزهر، وفي استطاعتي أن أمثل بكثير من نوعهما، مما يدور في المجالس الخاصة، ويتناقل الناس الأحاديث عنه، ولكني أورد مثالاً ثالثاً هو أجلى في بيان تلك الظاهرة وأدنى أن يعد من آثارها:
(3)
ذلك أن رجلاً مسئولاً من رجال الأزهر هو فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود
شلتوت عضو جماعة كبار العلماء دعا في يوم من أيام شهر فبراير الماضي إلى محاضرة يلقيها في دار كلية الشريعة موضوعها (السياسة التوجيهية العلمية في الأزهر) ولست أريد الآن أن ألخص للرسالة هذه المحاضرة، ولا أن أنقل شيئاً منها، ولكني أريد أن أصف للقراء كيف أقبل الناس على سماع هذه المحاضرة وكيف استقبلوها عندما سمعوها، ليعلموا أن عيون الأزهريين قد أصبحت متطلعة، وأن آذانهم قد أصبحت مصغية، وأن نفوسهم قد أصبحت مستعدة.
فأما إقبال الناس على هذه المحاضرة فقد كان رائعاً: إنه لم يكد عنوانها ينشر على الناس مقترناً باسم صاحبها حتى جعلوا يتساءلون: ماذا عساه يقول في هذا الموضوع. وكيف يذكر حقائقه، ويعرض للناس وقائعه؟ تساءلوا عن ذلك لأن العنوان وما عرف به صاحب المحاضرة من حب للصراحة وجهر بالحق قد أثار في نفوسهم معاني شتى هم بها يشعرون. ولبوا دعوة الداعي خفافاً سراعاً حتى بلغت عدتهم قريباً من أربعة آلاف بين علماء وطلاب، واكتظت بهم مدرجات الكلية وحجراتها وأفنيتها، واستعين على إسماعهم بمكبرات الصوت التي بثت في نواحيها، وكان فيهم صفوة من الأزهريين الذين يشغلون المناصب في الإدارة العامة وفي الكليات وفي غيرهما، وألقى فضيلة الأستاذ الكبير محاضرته فكان يقاطع بالتصفيق الحاد والهتاف المدوي في أثنائها. ولما انتهى منها هنأه فضيلة الأستاذ الكبير مفتي الديار المصرية على ما وفق إليه من وصف حالة الأزهر العلمية وسياسته التوجيهية، وعانقه فضيلة الأستاذ الكبير وكيل مشيخة الأزهر مقبلاً إياه بين عينيه على ملأ من الناس أجمعين، وعلا التصفيق والهتاف لهذا المظهر الرائع، وأبى الطلاب إلا أن يحملوا فضيلة المحاضر على أعناقهم إلى فناء الكلية فتم لهم ما أرادوا، وكان يوماً في الأزهر عظيما!
ولكن ما هي هذه المحاضرة التي استقبلها الأزهر: شيوخه ورؤساؤه وطلابه هذا الاستقبال العظيم؟ وماذا قال فيها صاحبها حتى ملك هذه القلوب جميعاً؟ سؤال تسألونه أيها القراء الكرام وحق لكم أن تسألوه. ولتعلمن نبأه بعد حين.
محمد محمد المدني
وعصفور من الشرق أيضاً.
. .
للأستاذ دريني خشبة
لو لم يتعمد الأستاذ صاحب الرسالة فيضع هذه التحية الرقيقة التي بعث بها الأستاذ الجليل محمد كامل سليم بك إلى الأستاذ الحكيم قبالة أولى مقالاتي عن (قضية اليوم)، ولولا ما جاء في هذه الكلمة من نفي عداوة الأستاذ الحكيم للمرأة. . . لولا ذلك كله لآثرت إغلاق هذا الباب الذي اضطرني إلى كثير من القسوة والمرارة في التعبير، وإن كنت على حق كل الحق في جميع ما ذهبت إليه، وما أيدته بكلمات الأستاذ الحكيم نفسه مما لا يُعقل أن ينكره أو يماري فيه. فقد أثبت من صميم شهرزاد للأستاذ الحكيم - وذلك في المقال الثاني - أنه عدو للمرأة في كل زمان ومكان ما في ذلك شك، وأثبت أنه ينظر إليها نظرة تسفل دائماً ولا تعلو أبداً، ويعدها مصدراً للشرور التي تحيق بالعالم وتجعله جحيماً لا يطاق، وسواء أعاملها الإنسان كما عاملها شهريار الأول الذي قتل زوجه ورجم روحها بأرواح العذارى البريئات من بعدها، أو عاملها شهريار الثاني (الديوث!) من الصفح عن أوزارها، أو الغض عما تأتي وما تدع من تلك الأوزار، فالمرأة هي المرأة في الحالين في نظر الأستاذ الحكيم، وهذا هو رأيه فيها، الذي أيده في (القصر المسحور) وادعى التوبة منه، والإنابة مما ذهب بصدده إليه. . . لكن الأستاذ كامل سليم نفى عنه تلك العداوة للمرأة، وبرأه من الموجدة عليها (كما يزعم الزاعمون) بل ذهب إلى أبعد من هذا، فاتهم الأستاذ الحكيم بأنه (صديق المرأة والمنافح عنها!) وقال ذلك بعد أن فرغ من قراءة (عصفور من الشرق) التي لم أكن أن أتعرض لها بخير ولا بشر لما كنت أوثر أن أحصر فيه موضوع (قضية اليوم) وقصرها على ما يتصل بشهرزاد وبأحلام شهرزاد. . . ولكن ما الحيلة، وقد حدثني الأستاذ الزيات قبل نشر المقالين فلمّح في حديثه إلى أنه متعمد أن يضعهما جنباً إلى جنب مبالغة منه في تأكيد ما للرسالة من حرية في النشر أو حرية في الرأي أو حرية في النقد. . . لست أدري أي الحريات الثلاث أراد، ولعله قد أرادها جميعاً
وبعد، فما هي قصة عصفور من الشرق؟ وهل تؤكد تلك القصة شخصية الأستاذ الحكيم التي تظهر جلية في أكثر قصصه، خصوصاً مسرحية (شهرزاد)؟ وسؤال ثالث: هل الأستاذ الحكيم في تلك القصة عدو للمرأة كدأبه أم هو صديق للمرأة كما يتهمه الأستاذ
الجليل كامل سليم بك؟
1 -
أما قصة عصفور من الشرق فتتلخص في أن الطالب الشاب (محسن) كان يشدو العلم في باريس، وأنه كان يسكن مع جماعة باريسية لاحظت عليه ما يلاحظ عادة على المغرم المبتدئ (ولا سيما إن كان شرقيَّا) من شرود وانقباض وقلق، فإذا عرفت منه أنه يحب شجعته وعلمته أن باريس لا تعرف التردد في الحب وأن قارورة من العطر أو باقة من الزهر تكفي لغزو قلب أية باريسية.
2 -
أما من هي التي شغفت أخانا محسناً حباً، فهي (جابية أو محصلة، أو عاملة) أو ما شئت فسمها، من عاملات دور الصور، كان الفتى محسن يهواها، بل يتعبدها، وكان منصرفاً، مذ أحبها، عن كتبه، بل عن مدرسته، لا يبرح واقفاً بالقرب من الشباك الذي تعمل فيه حتى تفرغ من عملها، فإذا قال لها (عمي مساءً يا آنسة) ردت عليه التحية بإغلاق الشباك في وجهه. . . ثم ما يزال يترصدها حتى يعرف مسكنها فيهجر مسكنه ويأوي إلى الفندق الذي تسكنه سوزي - وهذا هو اسمها - وتكون غرفته فوق غرفتها. . . أما أول التعارف فقد كان (خبطة عشواء!) إذ ادعى السيد محسن الإفلاس فكان أن أدت عنه سوزي حسابه للغسالة. . . ولا ندري كيف دفعته وهي لا تعرفه. . . يُسأل عن هذا فن الأستاذ الحكيم. . . أما كيف رد الثمن فقد أهدى إليها ببغاء وضعه في قفص - لعله من جريد لا من ذهب، وعلقه في حبل ثم دلاه من نافذته إلى نافذتها - فكان تعارف وكان شكر. . . وكان حب. وكانت سهرات وكان (أنس). . . وكان لا يصحو الأخ العزيز (العاشق الشرقي) محسن إلا على رنين قبلات سوزي، وربما كان لا ينام إلا على رنين قبلاتها كذلك. . . وكانت مقابلات يُضرّجها دم الغيرة الشرقية إذا تأخرت سوزي عن ميعادها. . . وإنهما لفي مطعم يوماً ينعمان ويأكلان ويشربان ويعبثان، إذا شاب يدخل فجأة فتذهل سوزي، وتكاد الأرض تسوخ من تحتها، وإذا سر قلبها يطفر فجأة من عينيها. . . وإذا العاشق الشرقي يعرف كل شيء. . . إنه ليس وحده في هذا القلب المزدحم! إنه طفيلي. . . لقد ركع في محراب هذا القلب عشاق معاميد من قبل
هذه هي القصة، لا ينقصها إلا خطابان أحدهما من محسن، والآخر رد من سوزي عليه. وإليك الآن هذه المقتطفات:
1 -
نظر محسن إلى سوزي مرة فسألته:
- لماذا تنظر إليّ هكذا؟
- أصبت، أرى الآن أني على خطأ، ما الذي يعنيني من أمر حياتك أنت؟ ما أنت إلا (حلم) يحيا فيه. . . الآخرون. . .
- ومن هم الآخرون؟
قالتها في ابتسامة ذات معنى، وأناملها تعبث بصفحات كتاب. . .
2 -
ولما فاز محسن بالوصول إلى فتاته وأخبر صديقه الفرنسي (أندريه) بذلك، ابتسم الفرنسي وقال له:
- أرأيت أنها فتاة ككل الفتيات، وعاملة كآلاف العاملات؟ تلك التي أسكنتها قصراً من قصور ألف ليلة وليلة، وجعلتها تنظر من عليائها إلى مواكب الناس المتدفقة تحت شباكها، آه أيها الصديق، اقتنعت الآن أن الأمر أقل خطراً مما كنت تتصور، وأن وقوع امرأة بين ذراعيك مسألة بسيطة لا تحتاج إلى كل هذا الوقت، ولا إلى كل هذه الخيالات والتأملات؟
فأحس الفتى إحساس من يهوى إلى الأرض، وكأن قيم الأشياء في نظره قد تضاءلت، وكأن الحياة نفسها قد تجردت من غطائها فبدت كتمثال مصبوب من السخف. وشعر محسن بفراغ في مادة نفسه لا يدري بعد اليوم ماذا يملؤه. .
(حدث هذا والحب في إبانه قبل أن يقع ما فصل بينهما)
3 -
وانظر إلى هذه الروح المتجهمة في العبارة التالية:
التفاحة هي التفاحة، ولكنها تفاحة أرض جديدة! تفاحة الأرض. . . حلوة لكن داخلها الدود! (والعياذ بالله!)
4 -
ويقول بعد ذلك في الصحيفة نفسها:
(ولم يكن محسن يطيق إبطاء سوزي خمس دقائق عن موعدها، ولم يكن يحتمل رؤيتها تبتسم لأحد معارفها وهي تحني رأسها بالتحية، ولم يعد يرى صورتها في أحلامه ممتزجة بأنغام الأنترمتزو - و - رقصة الفراندول، ولكنه يراها في نومه تعانق رئيسها هنري الذي عرف منها بعض أخباره، أو يراها تقبل شاباً زنجياً تلك القبلات الملتهبة، فينهض منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسدها بأسنانه!!)
فهل رأيت إلى شهريار الدموي كيف يتنبه في أعماق محسن؟ ومحسن هنا هو الأخ الكريم الأستاذ توفيق كما لا يخفى. . . توفيق الشاك الذي تملأ رأسه أشباح العبيد والزنوج وقبلاتهم الملتهبة، وغدر شهرزاد التي لا تشبع من عبدها ولا تريد أن تشبع منه. . . وهل رأيت كيف ينهض شبحه (محسن) منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسد سوزي بأسنانه؟!
5 -
وقصة الملكة سميراميس التي هي صورة فاجرة من صور شهرزاد الآثمة التي تخيلها الأستاذ الحكيم: (يوم دعت أسيرها إلى ليلة من ليالي النعيم، مهدت فيها الفرش، وأقيمت الموائد. . . وتلاقت الشفاه. . . إلى أن لاح الصباح، فتغير وجه الملكة الجميل، ووضع الأسير في الأغلال، ومشى به إلى الموت، وهو ذاهل ما زالت في رأسه بقية من نشوة الليل. . .،. . .، ولكن ملكات العصر الحديث يفعلن بأسراهم غير ذلك. كل شيء عندهن مستتر مقنَّع (فهي) تضع على وجهها ذلك القناع الحريري الأسود الذي يلبس في المساخر. . . إلى آخر المهزلة. . . . . .
6 -
ثم إليك هذه النفس السوداء المريضة المتشائمة: (. . . لا ينبغي أن نبني شيئاً جميلاً فوق هذه الأرض!! هذه الأرض المتغيرة المتحركة برمالها ومائها وهوائها!!
ويرى بعد ذلك أن يكون البشر جميعاً في كل زمان ومكان زهاداً كزُهاد الهنود، زهاداً مضعوفين مسلولين لا يذوقون إلا حبات من الأرزكي تصفو نفوسهم وترتفع إلى الملأ الأعلى. . . يريد أن يكون الناس كلهم - أو المصريون على الأقل - من (مقاطيع السيدة زينب)! لأن مقاطيع (الست) وحدهم هم المتصلون بالسماء. . . والفضل في ذلك لروح الزهد والتقشف والفول (النابت!!)
ولن يصغي شرقي واحد إلى الأستاذ الحكيم؛ فقد شبع الشرق من الفقر وما جرته عليه فلسفة الفقر والقناعة والتقشف من قبول الذل والخنوع وموت روح المقاومة التي لا توجد إلا في الأقوياء بدناً وروحاً في وقت معاً. . . وديننا الحنيف هو دين القوة الذي لا يعرف الرهبانية ولا التصوف الهندي الذميم، وهو الدين الذي أحل لنا مناعم الحياة حلالاً طيباً، وفرض الإفطار على الصائم المحارب كما حرم الجوع الذي يضر الجسم، وقام على محاربة الفقر بإطعام الطعام على حب الله من أوسط ما يطعم الناس وبالزكاة والتعاون المنظم الذي يمحق الفاقة، ولا يأذن لمقطوع واحد من (مقاطيع) الست الطاهرة بالوجود في
هذا الوجود! وأما قول المسيح عليه السلام: (ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله) فقد قصد به ما قصد إليه الرسول الكريم حين قال: (اللهم توفني فقيراً ولا توفني غنياً واحشرني في زمرة المساكين) فقد قصد المسيح أن يحض الأغنياء على عمل الخير، كما قصد الرسول أن يخفف ألم الفقير في نفوس الفقراء - وليس يعقل أن الرسولين الكريمين كانا يريدان انتشار الفقر في العالم وتحكم الفاقة في الوجود
7 -
أما هذه الثورة على أوربا، التي هي جميلة رشيقة ذكية، لكنها خفيفة أنانية لا يعنيها إلا نفسها واستعبادها غيرها، فهي ثورة أحدثتها في نفس النكسة التي جرها عليه غرامه الخائب، فلو أنه نجح في هذا الحب، لكانت أوربا في نظره شيئاً آخر
8 -
ولست أدري ما هذا الذي انزلق إليه الأستاذ الحكيم - في معرض الطعن على أوربا - من القذف في حضارتها، وفي ضرورة ما تراه أوربا من وجوب نشر التعليم ومحاربة الأمية والإزراء على الديمقراطية؟ ما هذا؟ أيريد أن يظل جمهور العالم جاهلاً لا يقرأ ولا يكتب؟ أيريد لهذا الجمهور أن يظل مسكيناً ذليلاً مستعبداً؟ أيريد أن يقوم الطغاة في كل فج يسيمون الجماهير سوء العذاب مما نرى أثره في ألمانيا وإيطاليا واليابان؟
ولكن، لا علينا من ذلك فليس من أجله كتبنا هذا المقال فهذه المقتطفات التي أثبتناها هنا تدل على أن الأستاذ الحكيم هو في (عصفور من الشرق) كما كان في (شهرزاد) من حيث رأيه في المرأة ومن حيث عداوته لها. . . ومن حيث أنها ملك مشاع للجميع، ويكذب من يقول بوفائها وعفافها وإخلاصها لرجل بعينه وإن يكن هذا الرجل هو زوجها؛ فهي حلم يحيا فيه. الآخرون. . . وأن وقوعها بين ذراعي أي إنسان مسألة بسيطة لا تحتاج إلى وقت وخيالات وتأملات وأن التفاحة هي التفاحة. . . تفاحة أرض جديدة. . . تفاحة الأرض. . . حلوة. . . ولكن داخلها الدود، وأن شخصية شهريار الدموي الفظيع الناقم كانت دائماً تتقمص روح الحكيم كلما أبطأت عليه حبيبته فيراها فيما يرى النائم وهي تقبل شاباً زنجياً تلك القبلات الملتهبة فينهض منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسدها بأسنانه. . . ولست أدري إن لم يكن مؤلف شهرزاد هو نفسه مؤلف عصفور من الشرق قلباً وقالباً كما يقولون فلماذا ساورته أشباح العبيد الغلاظ والزنوج الذين يقبلون تلك القبلات الملتهبة وهو كان يحب في باريس. . . باريس اللعوب المفتان. . . ولم يكن يحب في جزائر واق
الواق ولا في بلاد نيام نيام ولا بين قبائل الشيلوك والدنكا. . . إن لم يكن توفيق الحكيم مع سوزي في باريس هو توفيق الحكيم مع شهرزاد في بغداد، أو في فاس أو الهند لست أدري، فلماذا ذكر هذا الزنجي الذي لم تكن تؤثر عليه شهرزاد أحداً، وكانت لا تشبع منه ولا تريد أن تشبع منه، وكانت تريده أسود غليظاً. . . ولماذا كان ينهض من نومه منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسد سوزي الجميل الغض بأسنانه (والعياذ بالله!) إن هذه خبيئة من خبيئات العقل الباطن برزت في غفلة من غفلات وعي توفيق الحكيم ففضحت رأيه في المرأة، وأكدت مذهبه فيها على صفحات عصفور من الشرق، كما تأكد هذا المذهب في شهرزاد من قبل. . . وما هذا الذي ربط بين الحلم الذي يحيا فيه الآخرون، وبين سهولة وقوع أية امرأة بين ذراعي أي إنسان، وبين تفاحة الأرض الحلوة التي داخلها الدود، وبين الحلم الذي يرى فيه الحكيم فتاته مستسلمة لزنجي أسود يقبلها تلك القبلات الملتهبة، وبين نهوضه من النوم مضطرباً منزعجاً يود لو يمزقها بأسنانه،. . . ما هذا الذي يربط تلك الصورة كلها بصورة سميراميس الملكة الفاجرة التي أرادت أن تبالغ في انتقامها من أحد أسراها المولعين بحبها فدعته إلى ليلة ناعمة راقصة، ومنحته من نفسها وعرضها ما لا يقدر على وصفه إلا. . . الأخ المسكين البائس. . . محسن!. . . على أن يصبح فيتسلمه الجلاد بأمر الملكة ليضرب عنقه؟! ما هذا الذي يربط تلك الصورة كلها، وهي مفرقة على الكتاب، متباعدة عن بعضها فيه، موزعة على مشاهد القصة وفصولها من قبل أن يفضح محسن غش سوزي وخداعها إلى أن وقف منها على ذلك السر المهول!؟
وبعد. . . فهل الأستاذ توفيق الحكيم بعد ذلك كله صديق المرأة وليس عدوها - كما يزعم الزاعمون - على حد تعبير الأستاذ الجليل كامل سليم بك؟!
دريني خشبة
حانة الشعراء
للأستاذ علي محمود طه
(من ديوانه الجديد (زهر وخمر) وقد صدر اليوم)
هي حَانٌة شَتى عَجَائُبهَا
…
مَعْرُوشةٌ بالزَّهرِ والقَصَبِ
في ظُلةٍ باتَتْ تُدَاعُبها
…
أنفْاَسُ لَيْلٍ مُقْمُرِ السُّحُبِ
وزَهَتْ بِمصْبَاحٍ جَوَانُبِها
…
صَافي الزُّجاجِة رَاقِص اللَّهبِ
بَاخُوس فيها وهو صَاحُبهِا
…
لم يَخْلُ حين أفَاقَ مِنْ عَجَبِ
قدْ ظَنَّهِا، والسحْرُ قَالَبُها،
…
شِيَدتْ مِنَ اليَاقُوتِ والذَّهبِ
إبْرُيقهُ حلْيٌ مِن الدُّرَرِ
…
يُزْهى به قَدحٌ مِنَ الْمَاس
وكأنَّ مَا حَوْليِه مِنَّ صُورِ
…
مُتَحركَاتٌ ذَاتُ أنْفاسِ
تَرَكَتْ مَوَاضِعَهَا من الأُطُرِ
…
وَمَضَتْ لَهُ في شِبْهِ أعْرَاس
مِنْهُنَّ عاِزفةٌ على وَتَرِ
…
مُتفَجرٍ بأَرَقَّ إحْسَاسِ
وَغَريرةٌ حَوْرَاءُ كالْقَمرِ
…
تَحْنُو على شَفَتْيه بالْكَاسِ
أو تِلكَ حَانُتهُ؟ فَواعجبَا!
…
أم صُنْعُ أحْلَام وأهوَاء؟
وَمَنَ الَخْيالُ أهَلَّ وَاَقَتربا
…
(فيْنُوس) خَارجَةً من الماء!
في مَوكبٍ يتمَّثلُ الطَّربا
…
وَيميلُ من سِحْرٍ وإغْراء
وَبكلِّ ناَحِيِةٍ فَتًى وَثبَا
…
مُتَعَلقاً بِذِرَاعِ حَسْناَء
يَتَوَهَّجُونَ صَبَابَةً وَصِبَا
…
يتمثلونَ غَرِيب أَزْيَاء
حُمْرُ الِثَيابِ تِخِالُ أنَّهُمُو
…
يَفِدونَ مِنْ حَاْنوتِ قصَّابِ!
جَلَسُوا نَشَاَوى مِثْلمَا قَدِمُوا
…
يترقَّبونَ مَناَفِذَ الَبابِ
يَتَهَامسُونَ وَهَمْسُهُمْ نَغَمُ
…
يسري على رَناتِ أكْوَاب
إنْ تَسأَلِ الخمَّارَ قَالَ هُمُو
…
عشَّاقُ فَنٍ أهْلُ آدَابِ
لولا دُخَانُ التَّبغِ خِلْتَهُمو
…
أنْصَافَ آلهةٍ وأَرْبَابِ
وَتَلَّفتُوا لما بَداَ شَبَحُ!
…
فَنَّانةٌ دَلَفَتْ من البابِ
سَمْراءُ بالأزْهَار تَتَّشحُ
…
أَلَقَتْ غُلَالتَهَا بإِعْجَاب
وَمَشَتْ تُراقِصَهُم فما لَمَحُوا
…
إلا خُطَى رُوحٍ وأعْصَابِ
َوَسَرى بِسِر رَحِيقِه القَدَحُ
…
في صَوتِ شَاجِي الّلحْنِ مِطْرابِ
وَشَداَ بجو الْحانَةِ الفَرَحُ
…
لإلهةٍ فَرَّتْ منْ الْغَابِ
هِيَ رَقْصَةٌ وَكأَنَّها حُلمُ
…
وإذا (بفينوسِ) تمدُ يدَا
الكأَس فيها وهي تَضطَرمُ
…
قَلْبٌ يَهُزُّ نِدَاؤُهُ الأبَدَا:
زِنْجَّيةٌ في الفن تَحْتَكُمُ؟
…
قَدْ ضاَعَ فَنُ الَخْالِديِن سُدَى!
فَأجَابَتْ السَّمْراءُ تَبْتسِمُ:
…
أَلفْنَُّ رُوحاً كان؟ أمْ جَسَدَا؟
يَا أيَّها الشُّعَراءُ وَيَحْكُمُ
…
الّليْلُ ولّى وَالنهارُ بَدَا!
علي محمود طه
سليمان الحكيم
لتوفيق الحكيم!
للأستاذ سيد قطب
- 2 -
يلتقي الصياد الساذج القانع الطيب القلب بالعفريت الطامح المتمرد العاصي (داهش بن الدمرياط) حين يجذب شبكته أول مرة فتخرج حماراً ميتاً، ويجذبها ثاني مرة فتخرج زيراً مملوءاً بالرمل، ويجذبها ثالث مرة فتخرج أحجاراً وقوارير. حتى إذا طلب من الله أن يرزقه من فضله في الرابعة خرج له قمقم نحاسي مختوم بخاتم سليمان، وفيه هذا العفريت الملعون الذي حبس في هذا القمقم جزاء عصيانه أمر الملك وإبائه أن يذهب لجلب الأرز وخشب السرو لبناء بيت الرب، لأنه عفريت طموح مهيأ لأكبر من هذه الأعمال التافهة!
ويهم العفريت بقتل الصياد الذي أنقذه لأنه كان قد نذر أن يقتل من يخرجه في هذه اللحظة (وهنا ينسج المؤلف الخيط الأول في شخصية العفريت) لولا أن يحضر سليمان وجنوده فيرجو العفريت الصياد في أن يعيده إلى القمقم وأن يستشفع له عند الملك، ويستنجد العفريت بشرف الصياد فلا يجد هذا مفراً من القبول (وهنا ينسج الخيط الأول في شخصية الصياد)
ويقبل سليمان الشفاعة على شرط أن يكون الجني محسوباً على الصياد بخيره وشره، وأن يعدهما شخصاً واحداً أمامه في السراء والضراء (ومن الصياد الطيب والعفريت الشقي يتألف الإنسان). ويقبل الصياد - وأمره لله - ولكنه يختار أن يكون مع عفريته في خدمة النبي سليمان! (وتلك أول بذرة من بذور الحكمة في نفسه)
ويسمع سليمان من الهدهد الغائب (حسب رواية القرآن) عن ملكة سبأ وعظمة ملكها وعن جمالها أيضاً. ويكون حاضر هذا الحديث صادوق الكاهن وآصف الوزير. فأما صادوق فمشغول بالسؤال عن معبود الملكة وقومها، وأما آصف فمشغول بالسؤال عن عرشها وملكها، وأما سليمان فمشغول بهذا كله، ولكنه مهتم كل الاهتمام بما يسمع عن الملكة الجميلة (وهنا ينسج الخيط الأول في هذه الشخصيات الثلاث. ويمهد للصراع الذي ينتظر
قلب سليمان)!
ويعمل سليمان على استزارة الملكة فتسير القصة حسب نصوص القرآن تقريباً، من إرسال الهدهد إليها وإرسالها هدية لسليمان ترد إليها، ومن التشاور بين الملكة ورجالها. وفي هذا التشاور يدور حوار طريف لا نستطيع أن ننقله هنا. ولكنه يصور طبيعة المرأة وأحاسيسها الخفية ووسائلها الغامضة، ويصور طبيعة الوزير السياسي، وطبيعة القائد الحربي في بضع كلمات (وتلك براعة توفيق الحكيم في الحوار. وهي براعة تفوّق وتفرّد في هذا المجال. فما هي إلا لفظة من هنا ولفظة من هناك، وجملة عابرة هكذا، وجملة خاطفة كذلك. حتى تستوي القضية التي يريدها أو الشخصية التي يرسمها، كأنما مستها عصا ساحر فانتفضت من بين الركام. فهو من هذه الناحية متفوّق ومتفرد حتى اليوم بلا جدال.)
ونعلم هنا أن للملكة أميراً أسيراً هو (منذر). وإنها لمشغوفة به حباً، وإنها لتواري هذا الحب عنه في مشقة وعسر لتعترف به متهالكة ناسية كل أبهة الملك أمام جاريتها (شهباء) وإنه هو لمشغوف حباً بشهباء، وإنه لا يعبأ بقلب الملكة الآسرة. وإن شهباء لتبادله هذا الحب في الخفاء، ولا تظهره له ولا للملكة على السواء!
فإذا ما جاءها رسول سليمان، وإذا ما ردت إليها هديتها، أدركت بغريزة المرأة التي تشم من بعيد أن سليمان لا يبغي ملكها ولا ثروتها إنما يريدها هي لذاتها. فتنعش لهذا وتنشط وتحس أنه يرد عليها شيئاً من كبريائها المحطمة مع الأمير الأسير فتجيب الدعوة. ولكنها تحب أسيرها ولا تستطيع فراقه، فهي تحتال عليه لتأخذه معها في رحلتها.
ونلمح هنا بين ما يشبه الضباب - أو بين السطور - غريزة المرأة التي تحب ويمتلئ قلبها بمن تحب، ولكنها ترحب بكل لفتة من قلب رجل! ونلمح أغراضاً شتى متداخلة مبهمة في نفسها من استصحاب أسيرها معها. أهي تفعل هذا لأنها لا تصبر على فراقه؟ أهي تفعله لتري حبيبها المعرض كيف يعجب بها سليمان العظيم فتوقظ إعجابه هو بها وتثير في نفسه الغيرة عليها؟ أم إنها تريد أن تقول لسليمان: إنك لست المعجب الوحيد فلي أيضاً حبيب؟! أم تريد أن تصد سليمان عنها مع تمتعها بإعجابه بها؟. . . إلى آخر هذه الاحتمالات؟
كل ذلك نستطيع أن نلمحه وراء ستار من الضباب أو من السطور والكلمات. وتلك مقدرة من مقدرات الحوار.
وتقدم الملكة على سليمان في موكبها العظيم، فيحس قلبه من بعيد بما هنالك (وهنا تشترك الأسطورة والنبوة والغريزة في رسم الصورة وتقريب الإحساس) وعندئذ يبدأ في محاولة بهرها ولفت نظرها بخوارق الأمور؛ فيطلب استحضار عرشها من بلاد سبأ. ويتبارى في ذلك أتباعه. وعندئذ تعرض الفرصة للجنيّ (داهش) صاحب الصياد ليأتي بالعظائم ويلبي الطموح، فيعرض أن يأتي به في غمضة عين أو يقتل هو والصياد! ويعارض الصياد بطبيعة الحال، ولكن طموح الجني ورغبة سليمان يغلبان. وينجح (داهش) فيظهر الصياد الساذج مشاركاً في النجاح، وترتسم للصياد صورة فيها كثير من الدعابة والفكاهة تلازمه في معظم الأحوال! ويسر سليمان ويستقبل الملكة ومعها الأمير الأسير، فترى عرشها وتعجب بهذه المقدرة، ولكنها تشم بغريزتها لماذا يحاول سليمان أن يبهرها! ويختليان بسرعة فتلاحظ هذه السرعة، وتصارحه بها، فيفاجئها بما ساور نفسه من أسيرها، فتعترف! ويصدم سليمان صدمة عنيفة فينسحب لتنال راحتها! وتبتهج هي في دخيلة نفسها بما تم حتى الآن!
فإذا خلا سليمان إلى نفسه فهو منقبض قلق ضيق الصدر، في حاجة إلى السلوى وإلى التسلية، فهو يلتمسها عند أضعف أتباعه وأشدهم سذاجة. عند الصياد! وإنه ليسأله إذا كان قد ذاق طعم الحب؟ وهنا يروي الصياد قصة حب خائب لم يدم إلا لحظة. أدى ثمنها ثروة مفاجئة كان يملكها. وقد ضحى بحبه ليفسح لمن أحبها طريق السعادة، لأنه ليس كفئاً لها فهي كفء لملك! (وفي هذه القصة ينسج خيطاً آخر من شخصية الصياد فهو رجل طيب ذو ضمير نقي وقلب كريم)
ومرة أخرى يجد الجني أن الفرصة سانحة لإرضاء طموحه، وللنزغ في قلب النبي سليمان، وتلبية رغبته في آن! فيعرض خدماته - على كره كذلك من الصياد - ويرسم خطة لتحويل قلب الملكة وانتزاع إعجابها. ويستجيب سليمان، تدفعه الرغبة الإنسانية الجارفة؛ فإذا الجني مفوض في استخدام جميع السلطات وجميع القوى، وإذا هو يسخر بساط الريح ليحمل الملكة مع سليمان في الفضاء؛ وإذا هو يبني الصرح الممرد من قوارير وتحته ما يشبه اللجة، لتبهر الملكة، وليجد سليمان الفرصة متاحة ليحملها بين يديه ويتخطى بها اللجة الموهومة! وماذا يصنع محب محروم إلا أن يلتمس كل وسيلة للتمتع بمثل هذا
الفتات؟!
ثم ماذا؟
ثم إذا المرأة التي تحب أقوى من جميع هذه المغريات؛ وإذا القلب الإنساني الذي يحب أقدس من جميع هذه المظاهر؛ وإذا هو يسخر بجميع قوى الأرض وجميع مظاهرها؛ وإذا الملكة على حبها لأسيرها أمام كل جهود سليمان وجهود الشيطان!
ثم ماذا أيضاً؟
ثم إذا سليمان غاضب على الجنيّ وعلى الصياد؛ وإذا الصياد خائف مذعور، عاتب لائم لهذا الجنيّ الذي لا يعرف الهدوء ولا يني عن المحاولة، ولا يكف عن الطموح؛ وإذا (داهش) يعرض عروضاً جريئة، وينزغ نزغات شريرة. إنه يعرض اقتحام الحصن الذي لم تفتحه المحاولات، وتحطيم القلب الذي لم تحوله المغريات!
ويشفق الصياد ويضطرب ضميره؛ ويتردد سليمان وتتحرك قداسته. ولكن الرغبة الملحة تغلبه، فإذا الجنيّ مفوّض في عمل ما يشاء!
فلما نفذت الخطة الجديدة الجريئة، فمنذ رقد الأمير مسخ تمثالاً في حوض الرخام؛ ولن تعود إليه الحياة إلا إذا بكت عليه حبيبته حتى تغرق جسده بالدموع. وإذا الملكة ترسل الدمع مدراراً بجانب التمثال الحبيب، وإذا سليمان يرسل الضحكات كلما أطل عليها سخرية وشفاء (ونلمح هنا جو ألف ليلة وليلة. ولكننا نلمح التضحية الأسطورية للحب، والشر الذي تثيره الرغائب الجامحة في قلب إنسان).
حتى إذا ما أوشكت المعجزة أن تتم، تدخّل الجنيّ فهدى سليمان إلى حيلة يبعد بها الملكة قليلاً عن التمثال، ولم تبق إلا دمعتان حتى تصل الدموع إلى قلبه فينبض ويحيا. وزيّن لشهباء أن تنتهز الفرصة السانحة وتحيي حبيبها لنفسها. وأغرى الصياد أن يذهب - هو الآخر - إلى الحديقة ليجد حبيبته الضائعة فهي الآن من نساء سليمان (وبهذا يضرب الشيطان جميع هذه القلوب في لحظة واحدة!)
فأما الملكة فتؤخذ بالحيلة. وأما الصياد فيتردد ثم يذهب ولكنه يحجم عن مخاطبة حبيبته تحرجاً وتورعاً. وأما شهباء فتتمنع ثم تدمع عيناها في الحوض، فإذا حبيبها يحيا، وإذا هو يراها بجانبه تبكي فيحسبها صاحبة التضحية في سبيله وواهبة الحياة له، فيطوقها بذراعيه.
ولكن ضميره يتحرك فتخبره بالمضحية الحقيقية التي ملأت الحوض بالدموع، وإن هما إلا دمعتان منها لا سواهما. ولكنه هو (لأنه يحب) يرى الدمعتين الأخيرتين اللتين وصلتا إلى قلبه أغلى وأعظم من جميع دموع (بلقيس)!
وحين تعود الملكة ومعها سليمان تقع عيناها على المنظر الفظيع فتصدم صدمة عنيفة ويجلجل صوت سليمان ضاحكاً. ولكن الملكة تتهدم بين يديه وتنهار. وهنا يدرك عظم الكارثة وفظاعة الجريمة، فيأخذه الوجوم. . . إنه أفاق ولكن بعد فوات الأوان!
وهنا يستعرض الناقد من المنظر عدة لوحات
فلوحة يتجلى فيها الصراع بين الخير والشر في نفس الصياد وقد تغلب الخير في النهاية على نزغات الشيطان، لأنها نفس محدودة المطامع ضيقة الرغبات!. ولوحة يتجلى فيها هذا الصراع في نفس شهباء وقد تغلب الحب المكتوم على همسات الضمير، لأنها امرأة تحب!. ولوحة يتجلى فيها هذا الصراع في نفس سليمان وقد غلب الشر حين أججته الرغبة والمقدرة، ثم غلب الخير حين كشف الجرم وتبين العجز، لأنه نبي وإنسان!
وهناك لوحة منزوية يتراءى فيها جحود الحب الأعمى، بجانب نبله المقدس؛ فدمعتان اثنتان من عيني شهباء يقومهما المحب بالدموع الغزار والليالي الطوال فترجحان، وهما وحدهما اللتان تبلغان قلبه لأنهما ممن يحب!. وعظمة سليمان وملك سليمان ومحاولات سليمان كلها لا تحول قلباً يحب لأن هذا الحب فوق الملك والقوة والسلطان!. ونبوة سليمان وحكمة سليمان لا تعصمانه من الشر الذي اندفع إليه، ولا من نزغ الشيطان في قلبه؛ لأن الشيطان يستخدم الحب الذي يذهب بالعقل وبالحكمة جميعاً
هذا الجحود العجيب بجانب الوفاء العظيم، بجانب الاندفاع المريد: لوحة فاتنة لأنها صادقة
وإلى هنا كان يمكن أن تنتهي التمثيلية، فلا تفقد شيئاً كثيراً من وقعها النفسي ومن أهدافها الإنسانية. ولكن توفيق الحكيم يؤثر الحوار الفلسفي ويؤثر ألا يكتفي بالإشارة عن العبارة؛ فهو يسجل في فصلين تاليين تسجيلاً مفصلاً في حوار ذهني ما سجلته الحوادث حتى الآن في تصرف حيوي، وما يستشف من هذه الحوادث في بساطة وبغير انتباه
وموعدنا ببيان هذا العدد المقبل فقد بلغنا اليوم أقصى الفراغ
سيد قطب
أثر المرأة في علي محمود طه
للأستاذ إدوارد حنا سعد
الحرمان من المرأة - كدافع نفسي - ليس خيراً في ذاته ولا شراً؛ ولكن الخير أو الشر إنما يتعلقان بالوسيلة التي يتبعها لإشباع رغباته: وهو في الفن خير محض لأنه كان نبعاً فياضاً استقى منه الملهمون وخرجوا على الناس بذخائر خالدة على الزمن
والأدب المصري مدين للحرمان بنبوغ الشاعر الرقيق الأستاذ علي محمود طه، فقد لمس نفسه الحساسة فأذكى شاعريتها ومرَّ على قيثاره الشاجي بأعذب الألحان
على أنه مما يلفت النظر في الأدب المصري المعاصر ذلك التباين الواضح بين ضآلة أثر الحرمان في نتاج الأدباء المعاصرين ممن نسميهم شيوخ الأدب. . . وعمقه ووضوحه في نتاج الطائفة التي تأخرت عنهم في السن أو تاريخ الظهور الأدبي، ومرجع ذلك فيما أعتقد إلى تحجب المرأة قبل الحرب الماضية، ثم ثورتها على الحجاب يعيد تلك الحرب، واشتراكها في كثير من مناحي الحياة الاجتماعية
قد ينشأ الحرمان عن خيبةٍ قوية في حب قوي فيكون من أثره ولوع صاحبه بإعلان عدائه للمرأة، فإذا وجد أن في ذلك منافاةً لما درج عليه الناس اندفع بطريقة لا شعورية إلى تسفيه الآراء الشائعة والتعالي بقيمته الذاتية. وأثر هذا الضرب من الحرمان شديد الوضوح في الأستاذ توفيق الحكيم عدو المرأة وصاحب الرأي المعروف في تفضيل الجاهلة على المتعلمة كزوجة، وكاتب المقال الذي يقول فيه إن الزواج من أربع نساء أمر تحتمه الطبيعة، وذلك حين رأى التفكير متجهاً إلى سن تشريع يمنع ذلك إلا عند الميسرة وضمان العدل بين الزوجات. ثم يقول عن نفسه إنه (خالق)، وعن الأشخاص الذين يصورهم في قصصه إنهم مخلوقاته، ويقول عن أحد قرائه (زارني هذا الطبيب الفاضل ثلاث مرات دون أن يحظى برؤيتي)
وقد يكون الحرمان ناشئا عن خيبة في إنشاء علاقات غرامية في فجر الشباب، فيولع صاحبه بالتحدث عن علاقات غرامية موهومة أو مبالغ فيها؛ وقد يصدر كتاباً - كما فعل الأستاذ الصاوي - يتحدث فيه عن حياة قلبه وتكون عناوين فصوله:
(وأما السابعة. . . وأما الثامنة. . . وأما التاسعة)
وقد يولع الشاب بفتاة من طبقة معينة ولا تستجيب لغرامه فيكون منه قصصي كالأستاذ محمود كامل معظم بطلات قصصه من خريجات المدارس الفرنسية، وكلهن من بنات الباشاوات وعلى الأخص كبار الضباط المتقاعدين. ولكل فتاة من هؤلاء محب يُشترط فيه أن يكون محامياً له إلى جانب مهنته شهرة أدبية أو فنية وله سيارة صغيرة يقودها بنفسه
هذه المقدمة لازمة لكي نفهم منها فهماً واضحاً أثر المرأة في الأستاذ علي طه، ففي نفسه الشاعرة رواسب من حب خاب، وعلاقات فشل في إنشائها، وطبقة لم تلتفت إليه بناتها هي على الأغلب طبقة الفنانات. هذه الرواسب كونت منه رجلاً فيه من توفيق الحكيم بعض تعاليه، وفيه من الصاوي بعض تفاخره، وفيه من محمود كامل اهتمامه بطبقة معينة تبدو من كثرة حديثه عن مخادع المغنيات والراقصات
وقد امتزجت هذه العناصر وتفاعلت فإذا به في شعره - وقد يكون في حياته الخاصة - زير نساء يطلب المرأة لأنها إحدى النساء، وليس بعاشق يميز امرأة واحدة من دون النساء
والمفروض في زير النساء أنه رجل مستهتر، قوي، كثير التنقل بين (الحبيبات)، مشغول البال بالمرأة، شديد الالتفات إلى نواحي جمالها وزينتها، محبوب منها وأنيق
وكل هذه الصور واضحة في شعر علي طه ونثره أشد وضوح فهو مستهتر لا يبالي أن يقول:
حلفتُ بالخمر والنساء
…
ومجلس الشعر والغناء
أو يقول:
فاعذري الروح إن طغى
…
واعذري الجسم إن ثأر
ثمر ناضج الجني
…
كيف لا نقطف الثمر
وهو رجل قوي، استغفر الله بل فتىً قوي، يقول عن زملائه ركاب السفينة (كانوا يعجبون من هذا الفتى الأسمر الذي يقتحم غرفة المائدة ليملأ معدته بالطعام بينما هم مستلقون على ظهورهم من دوار البحر أو ممسكون بمعداتهم من الألم والاضطراب!)
ويقول:
الثلاثون قد مضت
…
في التفاهات والهذر
فهذه الصورة قد تتفق مع صورة دون جوان، ولكنها قد لا تتفق مع الحقيقة. ففي مقال
الأستاذ الزيات عن أرواح وأشباح يقول: (وبين اللقيا الأولى للصديق والقراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة). (وكان إذ ذاك في إبان شبابه وكنت في عنفوان شبابي) ومن هذا يتضح أن لفظة (الثلاثون) هذه لم تأت إلا لضرورة الشعر
ثم هو رجل كثير التنقل بين الحبيبات، فهو في الجندول مع البولونية الحسناء، وهو في بحيرة كومو مع الأديبة الأمريكية الفاتنة، وهو على الرين مع (صديقة سويسرية التقى بها في ذلك الجو الساحر الخ. . . وهذا بالطبع عدا عذارى وادي النخيل وقاهرياته الغرر
وهو مشغول البال بالمرأة يغازلها في كل مكان؛ وقد يغازلها وإلى جانبها زوجها (الليلة الأولى في أرواح شاردة) وكتبه كلها فياضة بهذا الاهتمام الذي يقيمه ويقعده؛ ولكني أود أن ألفت النظر إلى نشيده الأفريقي (عودة المحارب) الذي يقول فيه:
حين ألقى زوجي على باب كوخي
…
وأناغي على ذراعيّ طفلي
فهذا التصوير الصادق للقلب الظمآن إلى حنان الأسرة لم ينج من سمادير الاهتمام بالمرأة على العموم، ذلك الاهتمام الذي يملأ قلب الشاعر، فيقول على لسان ذلك المحارب العائد إلى زوجه وطفله:
يا عذارى القبيل انتن للمجد (م)
…
على عفةٍ صواحب بذل
حسبُ روحي الظامي وحسب جراحي
…
رشفةٌ من عيونكن النجل
وابتساماتكن فوق شفاهٍ
…
بمعاني الحياة كم أومأت لي
وصحيح أن البطل العائد يسر بالحفاوة التي يلقاها من قبيلته رجالها ونسائها، ولكن لعل حفاوة الرجال به أبعث لسروره، وأقدح لمكامن الزهو في نفسه.
ونستطرد في توضيح الصورة التي أوجزناها في مقدمة حديثنا فنقول إن التفاته إلى نواحي الجمال في المرأة كثير في شعره ونثره إلى درجة أستبيح لنفسي معها أن أغفل إيراد الشواهد عليها، والتفاته إلى زينتها دقيق (صففت شعرها على طريقة القرن الثامن عشر، وقصت جانبيه على طريقة القرن العشرين) ويقول عن أخرى إنها (ارتدت زي القرويات من سكان الأديج الأعلى وغطت رأسها بمنديل احمر موسوم بصور متناسقة لزهرات برية)
أما أنه محبوب من المرأة فشواهد ذلك كثيرة في دواوينه وكتبه وأجتزئ هنا بمقتطفات من حديث نشره بمجلة الاثنين عن ذكريات الصيف، تحدث فيه عن جارة له في الفندق قابلته
في الردهة. . . (لم يطل بي النظر ولم يطل بها الوقوف، فقد ابتسمت لي وأحنيت رأسي تحية لها، وسرعان ما وجهت لي عبارة لطيفة قائلة:
- منذ أمس وأنا أعجب من هذا الغريب المنفرد بنفسه الذي لا يجد في هذه المدينة الصاخبة اللاهية ما يزعجه عن النوم ويشغله إلى ما بعد منتصف الليل. أقول هذا وأتساءل كيف لا أعجب من نفسي أنا أيضاً، فقد حضرت ليلتين، فلم أجد ثمة حذاء واحداً على باب واحد، ووجدت حذاءك منفرداً بنفسه على باب غرفتك. وقلت لنفسي وأنا أضع بدوري حذائي على باب غرفتي، فليظل الحذاءان هكذا قريبين من بعضهما في الليل وإن لم يتعارفا. وفي الحق أني عندما أغادر غرفتي إلى الحمام في الصباح الباكر أجد أن منظر الردهة قد تغير، فأمام كل باب حذاءان أحدهما ضخم خشن، والآخر دقيق رقيق، فأحدث نفسي لم لا يتفق حذاءانا نحن أيضاً فنجدهما ذات صباح على باب واحد. . .)
فياما أشد إغراء هذا الفتى الأسمر، لقد أنسى تلك الحسناء أنها امرأة يسرها أن تُصاد وأن ترى الشباك منصوبة من حولها. . . أنساها هذا وأنساها حياءها الغريزي فبدأته بهذا الحديث الطويل واقترحت عليه أن يشاركها غرفتها.
بقي الحديث عن الصفة الأخيرة وهي الأناقة وتكاد تكون أظهر صفات شعره الموسيقي العذب، ثم هي تبدو أيضاً في طبع كتبه وتقديم قصائده، ويرجع السبب في شدة وضوح هذه الصفة إلى أنها ارتوت من رافدين نبعا في صدر شبابه: أولهما الحرمان الجنسي، وثانيهما الحرمان الأدبي، لأن المجد الأدبي لم يوات الأستاذ علي طه في السن التي كان ينتظره فيها، بل تأخر عن ذلك. وفي مقال الأستاذ الزيات عن (أرواح وأشباح) ما يكشف عن ذلك الجانب، فهو يقول إنه منذ إحدى وعشرين عاماً كان يشرف بالاشتراك مع حضرة الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق على قسم الشعر في مجلة السفور، ودفع إليهما البريد بقصيدة لعلي طه (فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغي على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السل وصححنا ما فيها من الخطأ وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن). . .
ثم لقيه في المنصورة. . . (وطلب إليه صديقنا أن ينشدنا بعض شعره فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفسنا من كربه أو خففنا من عبئه، وقال: نشرت لي السفور هذه القصيدة
وقدمت لها بهذه المقدمة. . . ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب). . . (وكان حين عرفته في إبان شبابه وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي)
ففي هذه الأسطر نرى علي طه وهو ناشئ مغمور ينشط لإلقاء شعره ويرتاح، ويحفظ عن ظهر الغيب مقدمة فيها تنبأ ونصيحة، ثم يعرف صاحب هذه المقدمة التي احتفي بها كل الاحتفاء فإذا هو شاب لا يكبره كثيراً في السن. وتلك مقدمات تصل إلى نتيجة واحدة هي شدة إحساسه بأنه مغمور وأن قريحته في حاجة إلى أن يرفدها بمادة اللغة وآلة الفن. وربما تأثر بأسلوب الزيات الأنيق، فما زال يتحرى الأناقة ويتوخاها حتى أصبح أكثر الشعراء المصريين أناقة غير مدافع. وقد واتته الشهرة الأدبية سخية فياضة؛ ولكن نفسه الحساسة لم تسلم وما كان لها أن تسلم من عقابيل هذا الشعور القديم، فيقول في مقدمة إحدى قصائده:(ألقاها الشاعر في حفل كان من خطبائه الأساتذة الإجلاء: لطفي السيد باشا، الدكتور طه حسين بك، مصطفى عبد الرازق بك، أنطون الجميل بك). وقد جعل هذا دأبه في تقديم كل القصائد التي ألقيت في حفلات عامة كأنه يستكثر بطريقة لا شعورية أن يلقى شعره بين هؤلاء الذين كانوا يملئون أفق الأدب أشعة وشهرة وهو ناشئ مغمور في المنصورة. بل هو يلجأ إلى أغرب من ذلك في تقديم الجندول (تغريدة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب) كأن عبد الوهاب لا يتغنى إلا بجيد الشعر ومختاره، مع أنه غنى الجندول وغنى بعدها (ماتهونش)، (وبلاش تبوسني)
وهذا الأثر الذي أتحدث عنه يبدو كذلك في كثرة حديث الأستاذ علي طه عن الشاعرية ومناجاته لها في (ميلاد شاعر) و (غرفة الشاعر) و (قبر الشاعر). . . ثم في حديثه عن نفسه بقوله (الشاعر)، فهو بهذا وذاك يمدح نفسه وشاعريته عن طريق غير مباشر ولا شعوري
وألاحظ هنا كثرة لجوء الشعراء الشبان إلى الحديث عن أنفسهم بقولهم: (زار الشاعر قرية كذا وقال فيها) مثلاً، والشاعرية كموهبة لا يجوز أن يفخر بها صاحبها بل يدع للناس أن يتحدثوا عنها ويمدحوه بها وإلا جاز لكل صاحب موهبة أن يتحدث عن نفسه فنسمع مثلاً (قال الذكيُّ في حديثه) أو (قهر القويُّ خصمه في الملاكمة) ولن يكون هذا أغرب من ذاك
وأعود فأكرر ما قلته في أول هذا المقال من أن الأدب العصري مدين للحرمان بنبوغ
الشاعر الموهوب الأستاذ علي محمود طه وبضلال الملاح التائه في بحار الجمال والخيال، وهو ضلال حبيب إلى النفوس المرهفة الحس، وهو أعود بالفائدة من هداية القابعين المتزمتين.
(الإسكندرية)
إدوارد حنا سعد
البريد الأدبي
ذو القرنين
قرأت بالعدد (509) نبذة للأستاذ عبد المتعال الصعيدي يرد بها على نظريتي الجديدة عن ذي القرنين التي هدمت بها النظرية القديمة التي كانت تقول إن ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم هو الإسكندر الأكبر، وأثبت بالأدلة القاطعة (بالعدد 508) أن ذا القرنين كان مؤمناً، في حين أن الإسكندر كان وثنياً فاسد الأخلاق سفاكاً للدماء سكيراً قاسياً. وينص القرآن الكريم على أن ذا القرنين اتجه غرباً أولا ثم اتجه شرقاً، في حين أن الإسكندر اتجه شرقاً أولا ثم اتجه جنوباً ولم يتجه غرباً إلا أخيرا.
وأثبتُّ أيضاً (بالعدد 506) أن كلمة ذا القرنين ما هي إلا لقب ملوك الفرس ابتداء من الملك كورش إلى الملك دارا الثالث بدليل أن آيات القرآن الحكيم عن ذي القرنين نزلت بناء على سؤال اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام عن ذي القرنين المذكور عندهم في التوراة (سفر دانيال) والتوراة تنص صراحة على أنه لقب ملوك دولة فارس التي أسقطها ملك من ملوك اليونان. وإذا بحثنا في التاريخ عن ملوك هذه الدولة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف نجدهم ابتداء من الملك كورش العظيم إلى الملك دارا الثالث الذي في عهده قضى الإسكندر على دولة الفرس. والملك كورش اتجه غربا أولا واستولى على سوريا حتى وصل البحر الأبيض (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة). ثم اتجه بعد ذلك شرقا حتى وصل بلاد التركستان حيث توجد إلى الآن آثار السد القديم (اقرأ العدد 506) والملك كورش وخلفاؤه كانوا على دين زرادشت نبي الفرس الذي كان يؤمن بوحدانية الله والجنة والنار والصراط والأعراف (اقرأ العدد 508)
وبعد هذه الأدلة القويمة نجد الأستاذ يقول بالعدد الأخير إن وثنية الفرس واضحة، في حين أنه لو كلف نفسه قراءة كتاب تاريخ فارس كما أوضحت بالعدد 508 لاقتنع بهذا الرأي ووجد أن الملك كورش كان على دين زرادشت. ولو اطلع على كتاب صبح الأعشى وكتاب تاريخ حياة زرادشت تأليف من أن دين زرادشت يؤمن بوحدانية الله والجنة والنار والصراط والأعراف. ولقد كان زرادشت قبل الملك كورش بسنين قلائل، ولذلك كانت مبادئ هذا الدين لا تزال سليمة لم يطرأ عليها تحريف بعد
ويقول الأستاذ إن سوريا تقع شمالاً بالنسبة لفارس. في حين أن نظرة بسيطة إلى أي مصور جغرافي تثبت لنا أن خط عرض 35 يمر في وسط فارس وسوريا. أي أنهما على خط عرض واحد. وعلى ذلك فالملك كورش عندما ذهب لفتح سوريا اتجه غرباً بكل تأكيد.
ويعتقد الأستاذ إن سوريا لا يقال لمن يصل إليها أنه بلغ مغرب الشمس لأنها في قلب المعمورة. وليسمح لي أن أسأله عن المكان الذي تغرب فيه الشمس على سطح الأرض. أليست كل بقعة على سطح الأرض تصلح لأن تكون مغرب الشمس لأن الشمس تغرب فيها كل يوم. كما تصلح لأن تكون مشرق الشمس لأن الشمس تشرق عليها كل يوم. فمعنى مغرب الشمس جهة الغرب بالنسبة للمكان الذي هو فيه. وليس المقصود بلاد المغرب فقط كما يظن. فالملك كورش اتجه غرباً حتى وصل سوريا فوجد الشمس تغرب في عين حمئة أي البحر
ويقول الأستاذ إن الملك كورش قتل ببلاد التتار وذو القرنين لم يقتل. ومن أين عرف أن ذا القرنين لم ُيقتل في حين أن القرآن الكريم لم يأت إلا بجزء يسير من تاريخه: (ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا)، أي جزءاً من تاريخه ولم يذكر تاريخ حياته كلها. ومع ذلك فالقتل لا يمنع الشخص من أن يكون مؤمناً أو عظيماً
ويقول الأستاذ إنه وجدت دنانير عليها صورة الإسكندر يلبس قرني آمون. وهل عندما يلبس الإسكندر شعار الإله آمون نقول عنه إن له قروناً. وهل كل من يلبس على رأسه قروناً نقول عنه إنه ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم؟ ومع ذلك فالتماثيل العديدة التي للإسكندر في جميع متاحف العالم ليس منها تمثال واحد بقرون
وأخيراً ألفت نظر الأستاذ إلى أن كلمة ذي القرنين ليست شخصاً وإنما هي لقب عدة أشخاص، وهم ملوك دولة الفرس كما قلت ابتداء من الملك كورش إلى الملك دارا الثالث.
دكتور ابراهيم الدسوقي
نظرات في كتاب
أصدر الدكتور عبد الدايم أبو العطا البقري كتاباً جديداً عن (اعترافات الغزالي) ضمّنه اتهاماً خطيراً للإمام، وحملة عنيفة على كتابه المنقذ من الضلال. ولست أريد أن أعرض
لنقد هذا الكتاب الجديد، فإن مؤلفه قد كفانا مؤنة النقد، حين تجاوز الوضع والتصنيف إلى النقد والتقريظ. ولكنني أريد فقط أن أسجل ظاهرة عجبت لها عجباً يستنفد كل العجب! فقد ذكر المؤلف في الخاتمة التي وقفها على الحديث عن قيمة بحثه وما له من أثر، أن في وسعنا أن نجمل أثر بحثه في أن (المنقذ من الضلال. . . ليس بتاريخ حقيقي لتدرج الغزالي الفكري، ولتطوره العقلي والنفسي، ولن يعتبر بعد اليوم مصدراً لذلك)(كذا!). وهذا القول فيه من لهجة التوكيد والتظاهر بالدراية والتثبت، ما يثير الابتسام العريض! فإن العالم الحق لا يجيز لنفسه مطلقاً أن يتحدث بمثل هذه اللهجة التي لا تخلو من تجاف عن الروح العلمية. ولعل الأستاذ المؤلف يعترف بذلك، إذا أنعم النظر في مقدمة الدكتور زكي مبارك التي ارتضى أن يُثبتها في أوّل كتابه. فقد ورد فيها ما نصه:(أنا أعتقد أن الغزالي صادق في كل ما رواه. . .) وهذا القول ينقض ما ادعاه المؤلف من أن المنقذ لن يعتبر بعد اليوم مصدراً لمعرفة تاريخ حياة الغزالي.
وثمة ظاهرة أخرى تعرض لقارئ كتاب الاعترافات؛ وتلك هي غرابة الأسلوب. فإنني أستطيع أن أؤكد أن أحداً لم يسبق الدكتور عبد الدايم إلى الكتابة بالأسلوب الذي آثره هو. وأي باحث علمي يرتضي لنفسه أن يملأ صفحات كتاب له بمثل هذه العبارات: (الله؛ الله؛ أيها الشيخ؛ إنك لرجل قوي وبطل، نعم قوي؛ لأنك احتملت ما لم يحتمله الناس. . . الخ) ص96؟ أو يقبل باحث أن يستعمل مثل هذه العبارات التي لو أوردها كاتب في مجادلة كاتب آخر لانتقصت من قدره في نظر الناس؟ هذا سؤال أترك الإجابة عنه للأستاذ المؤلف نفسه، فإنني أحسب أنه يوافقني على أن البحوث العلمية لا تكتب بمثل هذا الأسلوب.
أما إذا تركنا (الشكل) وانتقلنا إلى (الموضوع)، فإننا نأخذ على الكتاب عدة مآخذ. والمأخذ الأول عندنا أن المقارنة التي عقدها المؤلف بين الغزالي وديكارت، مقارنة فاسدة لا أساس لها. وكان الأجدر بالمؤلف أن يقارن بين الغزالي والقديس أوغسطينوس فإن ديكارت ليس فيلسوفاً متديناً يقيد نفسه بعقيدة ما من العقائد، وإنما هو فيلسوف حر الفكر، لا يعطي لمشكلة العقل والنقل من الأهمية ما يقفه عليها رجل مؤمن كالقديس أوغسطينوس. وديكارت لم يكتب لنا (اعترافات) يصوّر فيها حياته تصويراً دقيقاً كما فعل رجل كأوغسطينوس الذي كتب اعترافات رائعة، أدرك البعض قيمتها فاشتغل بترجمتها.
والمأخذ الثاني أن المؤلف يضارب أقوال الغزالي بعضها ببعض، في سبيل التوصل إلى الحكم على اعترافات الغزالي بأنها كذب وافتراء. وهذا منهج خاطئ لا يوصّل إلا إلى نتائج فاسدة، لأن الأقوال التي يضاربها المؤلف بعضها ببعض، ذُكرت في عهود مختلفة، والتطور يفرض على الغزالي أن يغير من رأيه تبعاً لتغير حالته، فلا يمكن إذن أن نستنتج شيئاً من تعارض الأقوال واختلاف الآراء، كما أراد المؤلف.
زكريا إبراهيم
ضبط الخلاف بين العربية والعامية مستحيل
اطلعت في البريد الأدبي من (الرسالة) على كلمة موجزة، تحت عنوان:(ضبط الخلاف بين العربية والعامية)
وخطأ هذه القاعدة الجديدة أنها بنت كون اللفظ العاميّ عربياً مقبولاً على مجيئه موافقاً في الضبط لأصل من أصول المفردات العربية. وهذا ظاهر الفساد؛ فإن المتواضع عليه بين العلماء أن اللفظ العامي ما لم ينطق به عربي، سواء في الصوغ أو في الشكل. وهذا محل وفاق قطعاً، وأن المدار في تمييز العربي من العامي على النقل عن المعاجم اللغوية. وإلا لجاز أن يخترع العامي ألفاظاً لا حصر لها، على نمط الأوزان العربية. فهل نقول: إنها عربية لأنها وافقت أصلاً من أصول الكلمات العربية؟
وبنت كون اللفظ عامياً غير صحيح على مجيئه مخالفاً لقواعد الصرف. ولو أخذنا بهذا القول على إطلاقه لخطأنا نحو ربع اللغة العربية من الألفاظ الشاذة عن القياس الصرفي كمصادر الثلاثي وجموع التكسير، وبعض صيغ النسب والتصغير!
وأما خطأ التمثيل فقد مثل الكاتب لما يجب أن يكون عامياً غير صحيح بقول العامة: عباية في عباءة، ثوب في ثوب، جعر في جأر، معللاً بأن إبدال الهمزة ياء، وإبدال الثاء تاء، وإبدال الهمزة عيناً لا يرجع شيء منها إلى قاعدة صرفية.
أما عباية فقد نقل الثقات من أهل اللغة، أنها عربية مسموعة. نعم إن استعمالها بالهمزة أكثر وأشهر.
وأما جعر في جأر فذلك إبدال مطرد في لغة بني تميم، فقد حكى ابن مالك في شرح الكافية:
أنهم يبدلون الهمزة المتحركة عيناً، وأما توب بالتاء فهو من تحريف العامة، ولكن لا لأنه إبدال غير قياسي فحسب، بل لأنه لم ينقل عن العرب، ولو نقل عنهم لقبل، فقد ورد في اللغة تاب إلى الله وثاب إليه بمعنى واحد لتقارب مخرجي التاء والثاء، ولكنهم لم يقولوا في ثوب لما يلبس: توب بالتاء لئلا يلتبس بتوب مصدر تاب بالتاء المثناة. بهذا ظهر أن ما جعله عامياً برأيه الجديد، عربي صحيح، وأن قواعد الصرف جُعلت لضبط الكثير المسموع من كلام العرب، لا للتحكم في اللغة بجعلها كلها خاضعة لهذه القواعد. ولذلك ورد الشاذ والنادر مما لم يمكن ضبطه بقاعدة
ومثل لما هو عربي صحيح بقول العامة: تِرمس (بكسر التاء)، وقولهم: حُصان (بضم الحاء)، وقولهم: معدَن (بفتح الدال)؛ لأن هذا كله لم يخالف قاعدة من قواعد العربية. وذلك أوغل في الفساد من سابقه، لأنه إذا جاز للعامي أن يقول في حِصان بكسر الحاء: حصان بضمها، جاز أيضاً أن يقول: حَصان بفتح الحاء؛ لأنه على أصلك الذي جريت عليه على وزان (غزال). وفي ذلك خلط بين الأبنية العربية
نعم إن كسر التاء في لفظ ترمس ونحوه لا ينشأ عنه اختلاط في الأبنية ولا تأثير في المعنى، ولكننا إذا فتحنا هذا الباب على مصراعيه للعاميّ، تجرأ على التحريف في ضبط سائر المفردات حتى المتواتر منها.
وهاهنا ملاحظة جديرة بالنظر، وهي أن حضرة الكاتب ترك التمثيل لما يميز فيه بين اللفظ العربي والعامي بقواعد النحو والبلاغة. ويغلب على ظني أنه لا وجود لشيء من ذلك إلا في مخيلة الكاتب!
عبد الحميد عنتر
أستاذ بكلية اللغة العربية
نزول عيسى
تنشر (الرسالة) ابتداء من العدد المقبل إن شاء الله بحثاً في نزول عيسى يرد به فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء على الشبه التي أثارها بعض الناس على فتواه السابقة التي نشرت بالعدد (462) من الرسالة فنلفت إلى ذلك
أنظار القراء.