المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 514 - بتاريخ: 10 - 05 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥١٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 514

- بتاريخ: 10 - 05 - 1943

ص: -1

‌10 - دفاع عن البلاغة

2 -

الأسلوب

من رجال الأدب من يرى أن العلاقة بين المعنى واللفظ كالعلاقة بين الجسم والثوب، لكل منهما على تلازمهما وجود ذاتي مستقل له أوصافه وخصائصه؛ فالجسم يقوَّم بحساب الخلقة؛ والثوب يقوَّم بحساب الصناعة. ومنهم من يرى أن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الروح والجسد، لا يوجد هذا بغير ذاك؛ فإذا انفك أحدهما عن الآخر الحي وفسد الكائن. ونحن كما علمت من قبل على رأي هذا الفريق. فقد قلنا في كلمة سبقت إن الأسلوب هو الهندسة الروحية لملكة البلاغة؛ وإن البلاغة التي نعنيها هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل: إذ الكلام كائن حي روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس

فالفكرة والصورة في الأسلوب كلٌ لا يتجزأ، ووحدة لا تتعدد. وليس أدل على اتحادهما من أنك إذا غيرت في الصورة تغيرت الفكرة، وإذا غيرت في الفكرة تغيرت الصورة. فقولك أعنيك، غير قولك إياك أعني. وقولك كل ذلك لم يكن، غير قولك لم يكن كل ذلك. وقولك ما شاعر إلا فلان، غير قولك ما فلان إلا شاعر. فترتيب الألفاظ في النطق لا يكون إلا بترتيب المعاني في الذهن؛ وإن مزية الألفاظ (ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك). (ولن يُتصور في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير وتخصيصٌ في ترتيب وتنزيل. وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبة. . . فقيل من حق هذا أن يسبق ذاك، ومن حكم ما ههنا أن يقع هنالك. . . فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ، فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده). وإنا حين ذكرنا أن الأسلوب هو الطريقة الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام، كنا نريد بذلك اختيار الألفاظ على الشكل الذي يرتضيه الذوق، وتأليف الكلام على الوضع الذي يقتضيه العقل.

ص: 1

فالأسلوب إذن هو طريقة خلق الفكرة وتوليدها وإبرازها في الصورة اللفظية المناسبة. هو ذلك الجهد العظيم الذي يبذله الفنان من ذكائه ومن خياله في إيجاد الدقائق والعلائق والعبارات والصور في الأفكار والألفاظ، أو في الصلة بين الأفكار والألفاظ. ولهذا الجهد جهتان: جهة موضوعية تتصل بالنظام، وهو حسن الترتيب، وصحة التقسيم، وإحكام وضع القطع في رقعة الشطرنج التي نسميها جملة أو فقرة أو فصلاً أو مقالة. وجهة أخرى شكلية تتصل بالحركة، وهي خلق الكلمات والصور والتأليف بينهما على نمط يحدث الحياة والقوة والحرارة والضوء والبروز والأثر

من ذلك نرى أن الأسلوب خلق مستمر: خلق الألفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الألفاظ. ومن ذلك نرى أن الأسلوب ليس هو المعنى وحده، ولا اللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه. تلك العناصر هي الأفكار، والصور، والعواطف، ثم الألفاظ المركبة، والمحسنات المختلفة

والمراد بالصورة إبراز المعنى العقلي أو الحسي في صورة محسَّة، وبالعاطفة تحريك النفس لتميل إلى المعنى المعبَّر عنه أو لتنفر منه

ففي قول أمير البلاغة علي بن أبي طالب: (ألا إن الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها، وخُلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار؛ وإن التقوى مطايا ذُلُل حُمل عليها أهلها، وأُعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة). تجد صورتين: صورة الفرس الشموس لم يروَّض ولم يلجم فيندفع براكبه جامحاً لا ينثني حتى يتردى به في جهنم؛ وصورة الناقة الذلول قد سلس خطوها وخف عنانها فتنطلق بصاحبها في رسيم كالنسيم حتى تدخل به الجنة. ثم تجد عاطفتين: عاطفة النفور من الألم الذي يشعر به الخاطئ المستطار وقد جمحت به خطاياه الرُّعن في أوعار الأرض حتى ألقته في سواء الجحيم؛ وعاطفة الميل إلى لذة المتقي الوادع وقد سارت به تقواه سيراً ليناً حتى أبلغته جنة النعيم

ذلك من حيث الموضوع؛ أما من حيث الشكل فتجد اختيار الألفاظ المناسبة للفكرة، كالمطايا وما يلائمها من الانقياد والإيراد هنا، وكالخيل وما يوائمها من الشماس والتقحم هناك. والفروق الطبيعية بين هذين الحيوانين في هذين المكانين لا تخفى على ذي لب. ثم تجد بعد ذلك هذا التأليف المتوازن المحكم الرصين، وهذه المقابلة البديعية بين عشرة معان لا

ص: 2

تكلف في صوغها ولا تعسف

أما القائلون باستقلال طرفي الأسلوب فجريرة رأيهم على البلاغة أن الذين فسدت فيهم حاسة الذوق أهملوا جانب اللفظ، والذين ضعفت فيهم ملكة العقل غضوا من شأن المعنى، فضلوا جميعاً طريق الأسلوب الحق؛ فلا هؤلاء سلموا من معرَّة العيّ، ولا أولئك سلموا من نقيصة الهذر

قال أبو هلال: (ليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي؛ وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه. . . مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. . .). وقال لابروبير: (إن هوميروس وأفلاطون وفرجيل وهوراس لم يبن شأوهم على سائر الكتاب إلا بعباراتهم وصورهم). وقال شاتوبريان: (لا تحيا الكتابة بغير الأسلوب. ومن العناء الباطل معارضة هذه الحقيقة؛ فإن الكتاب الجامع لأشتات الحكمة يولد ميتاً إذا أعوزه الأسلوب) وهؤلاء ومن لف لفهم من أنصار الصياغة أقرب إلى الصواب من أولئك الذين كفروا بها وشنعوا عليها. وتعليل ذلك ستقرأه في الحديث المقبل.

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌نزول عيسى

للأستاذ محمود شلتوت

(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون.

فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله

ليشتروا به ثمناً قليلاً. فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم

مما يكسبون)

(قرآن كريم)

في مثل هذه الأيام من العام الماضي ورد إلى (مشيخة الأزهر سؤال عن عيسى عليه السلام: أحيٌ هو أم ميت في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة؟ وعن حكم المسلم الذي ينكر أنه حي: أتبقى له زوجته، وإذا مات أيصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، أم يكون مرتداً فتبين منه زوجته، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين؟

حولت المشيخة الجليلة هذا السؤال إلينا، وطلبت أن نكتب فيه رأينا، فعرضنا للآيات التي وردت في القرآن الكريم متصلة بنهاية عيسى مع قومه، ثم عرضنا للمروي من الأحاديث في هذا الشأن، وبحثنا الجميع على ضوء ما تبحث عليه الآيات والأحاديث، فخرجنا من البحث بهذه النتيجة وهي بنصها:

(والخلاصة من هذا البحث:

1 -

أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها، وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض

2 -

أن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفيه أجله ورافعه إليه وعاصمه من الذين كفروا، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه ولكن وفاه الله أجله ورفعه إليه

3 -

إن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء، وأنه فيها حي إلى الآن، وأنه

ص: 4

سينزل منها آخر الزمان فإنه لا يكون بذلك منكراً لما ثبت بدليل قطعي فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة، بل هو مسلم مؤمن، إذا مات فهو من المؤمنين يصلى عليه كما يصلى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ولا شية في إيمانه عند الله. والله بعباده خبير بصير)

قدمت هذا البحث إلى المشيخة الجليلة، وبعد أن استقر الأمر عليه رأيت أن أنشره على صفحات الرسالة الغراء سداً لباب التكفير بهذا وأمثاله الذي شاع وذاع واتخذه بعض الناس حرفة في التدين، وإعلاناً للورع والتقوى، وتظاهراً بمظهر الغيرة على دين الله وأحكامه. وقد تفضلت الرسالة بنشره في العدد 462 الصادر في الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 1361هـ

وما كنت أظن أن متذوقاً للعلم واقفاً على أصول الاستدلال الشرعي يزورُّ عن هذا البحث ويلتوي عن هذه الخلاصة البينة الواضحة؛ ولكن قوماً لهم من شبه العلماء الزي واللقب قد حاولوا أن يغضوا من هذا البحث أو يثيروا من غبارهم عليه، فنسجوا حوله خيوطاً ضعيفة واهية من الشبه، وأخذوا يكتبون كلاماً مردداً متشابهاً في مجلات وصحف لا تقع عليها عين عالم. ويرجع كل ما موهوا به إلى ما يأتي:

1 -

(أن حياة عيسى الآن ونزوله من السماء آخر الزمان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع)

2 -

(أن من أنكر نزول عيسى كمن أنكر خروج المهدي، كلاهما كافر مرتد عن الإسلام كمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره)

3 -

(أن هذا البحث صدر بروح قاديانية): قصد صاحبه به أو ساير فيه هوى أتباع غلام أحمد القادياني

ونحن نبدأ بالنقطة الثالثة لأن لها شيئاً من الطرافة، ولأنها توضح للقراء أسلوب هؤلاء القوم في البحث وطريقتهم في التفكير والتكفير معا!

يقول (كبيرهم) في مطبوع له نشره:

(ولعل السائل هندي قادياني المذهب أراد الحصول على فتوى من الأزهر تؤيد مذهبه! ولعل مشيخة الأزهر ندمت بعض الندامة على ما سبق لها من تنفيذ القرار الصادر عن هيئة كبار العلماء لطرد الطالبين الألبانيين القاديانيين من الأزهر؛ إذ حولت السؤال إلى

ص: 5

الشيخ كاتب المقالة من بين علماء الهيئة الذي ستعرف القاديانية في المسألة المحولة إليه، فكان جوابه أنه عليه السلام مات في الأرض ورفعت روحه ولم يرفع حياً)

وهنا يكتب تعليقاً في أسفل الصحيفة، يقول فيه سامحه الله:

(وكنت قد سمعت عندما فاوضت هيئة كبار العلماء فيما بينهم للبت في أمر الطالبين المذكورين أن في الهيئة من يشذ ويتردد في الإفتاء بكفر المنكر لكون نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء طعناً منه في حجية الحديث الوارد فيه والإجماع المنعقد عليه وفي دلالة قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحدٌ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) عليه القطعية؛ وقد رددت على هذا العضو الشاذ شذوذه في مقدمة الكتاب (الذي لم ينشر تمامه بعد) والآن أقول: إن كان الشيخ شلتوت لم يتأخر التحاقه بهيئة كبار العلماء عن زمان درس مسألة الطالبين فهو أول من يخطر بالبال أن يكون ذلك الشاذ!)

هكذا يقول شيخ الإسلام الذي كفرت به تركيا! فارجع أيها القارئ إلى هذه العبارة ورددها لتنظر ماذا يكتب صاحب (القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون) رددها لتعلم العامل الوحيد الذي جعل دولة إسلامية كبرى تتشكك فيما ينسب إلى الدين عن طريق هؤلاء!

يبيح هذا الشيخ لنفسه أن يرمي وجوه أهل العلم بدون أدنى تثبت بتهم خطيرة في مثل هذه العبارة الركيكة الملتوية، فيزعم أن نزعة كاتب هذا البحث قاديانية، ويزعم أن هناك عضواً في جماعة كبار العلماء شذ فعارض في فصل الطالبين القاديانيين، وأن هذا العضو يتردد في الإفتاء بكفر من أنكر ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يطعن في حجية الحديث الوارد فيه، ويطعن في الإجماع المنعقد عليه، ويطعن في دلالة الآية القطعية عليه. يتصور هذا الشيخ عضواً في جماعة كبار العلماء هذا شأنه وتلك عقيدته، ويؤلف كما يقول كتاباً في الرد عليه لم ينشره بعد، وهو لا يعرف شخصه ولا يكلف نفسه السؤال عنه حتى تسعفه به المصادفة فيجمع في خياله بين بحث شلتوت ومعارضة العضو المجهول في فصل الطالبين، بل يجمع بين شلتوت وكفر هذا العضو المجهول بإنكاره مسألة من أمهات مسائل الدين وأصوله فيقول: (إن كان الشيخ شلتوت لم يتأخر التحاقه بهيئة كبار العلماء عن زمان درس مسألة الطالبين فهو أول من يخطر بالبال أن يكون ذلك

ص: 6

الشاذ!)

ولست في حاجة إلى أن أقول: إنه لا يوجد بين كبار العلماء قاطبة، ولم يكن فيها من قبل، شخص كهذا الذي تصوره الشيخ وألبسه تلك العقيدة ظلماً وعدوانا

ولست في حاجة أيضاً إلى أن أقول: إن زمن التحاقي بالجماعة متأخر عن درس مسألة هذين الطالبين وتنفيذ القرار فيهما

ولكنني بعد هذا أسأله، وقد علم أن هذا العضو ليس بشلتوت: من يكون إذن؟ حتى نعرف على الأقل ثاني من يخطر بالبال في مثل هذا المجال!

أسأله وأنا واثق أنه لا يستطيع أن يجيب لأن هذا الشيخ وأمثاله لا يقولون ما يقولون عن علم أو بحث، ولكن عن خرص وتظنين وتمويه وتشويه (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس و (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً)

وحسب القراء أن يعلموا أن هذا الشيخ لم يكد يسلم منه أحد من قادة العلم والدين في مصر: فهو يتهم الأستاذ الإمام المغفور له الشيخ محمد عبده، ويتهم المغفور له الأستاذ الشيخ رشيد رضا، ويتهم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، ويتهم غير هؤلاء ممن ذهبوا إلى ربهم وممن يعيشون! ولو شئنا أن نضرب للقراء أمثالاً من اتهاماته المضحكة لطال بنا القول، ولكننا نكتفي بإيراد ما نسبه إلى الأستاذين: الشيخ عبده والشيخ المراغي

زعم أن الشيخ عبده رضي الله عنه يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل (من أمثال الذين يثقون بأنفسهم في صحة آرائهم ومبادئهم ويأمل الناس فيهم الصلاح والإصلاح) ينسب هذا إلى تلك الروح الطاهرة التي ذهبت إلى ربها راضية مرضية بعد أن جاهدت في الله حق الجهاد، ويكرر هذا المعنى كثيراً ويقول في لهجة تنم عن الحقد والضغينة في كل ما يتناول به العلماء المصريين:(تفكر في هذا وفي كون صحافة مصر المنحرفة عن الثقافة الإسلامية إلى الثقافة الغربية لا تزال تشيد باسم الشيخ قائل هذا القول)

يقول هذا في الشيخ عبده وهو صاحب رسالة التوحيد التي تكلم فيها عن الرسالة والمعجزة ودلالتها على صدق الرسول وعن الوحي وكونه ممكن الوقوع وواقعاً فعلاً، وعن وظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالخصوص - تكلم عن هذا كله في أكثر من نصف رسالته بعبارات جلية واضحة لا لبس فيها ولا غموض

ص: 7

ولا تدع مجالاً للشك في رأيه العلمي لمن أراد مخلصاً أن يعرف آراء العلماء

أما تهمته التي حاول إلصاقها بفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، فهي تتصل بمقدمته التي قدم بها لكتاب (حياة محمد) الذي ألفه الدكتور هيكل باشا، وفيها يقول فضيلة الأستاذ الأكبر (إن الإسلام أعلى من شأن العقل والبرهان وجعلهما أساس الحكم والعلم وعاب التقليد وذم المقلدين وأنب من يتبع الظن وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها ولم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القاهرة إلا في القرآن وهي معجزة عقلية)

هذا هو قول فضيلة الأستاذ الأكبر. أتدري أيها القارئ ماذا صنع به هذا الشيخ الذي يتصيد التهم للناس تصيداً؟ لقد أعاد فيه وأبدأ في عدة مواضع متفرقة من كتابه بعبارات مختلفة ولوازم منتحلة، ومن ذلك أنه يقول (بهذه العبارة أنكر الشيخ المراغي المعجزات الكونية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويلزمه لذلك أن ينكر الأحاديث الواردة فيها، ويلزمه لذلك أن ينكر المعقل الثاني للتشريع الإسلامي وهو السنة المحمدية، وهو بهذا وذاك يمهد لإلغاء (كلية الشريعة) التي تدرس الفقه وأصول الفقه) قياس متصل النتائج نسج الخيال والتعسف مقدماته حتى انتهى إلى هذه النتيجة التي سود بها صحيفة كتابه!

فإذا كان هذا الشيخ ينتحل هذه التهم وأمثالها ويلصقها بالشيخ عبده والشيخ المراغي وأمثالهما فلا غرابة في أن ينتحل مثلها أو أشد منها ويلصقه بشلتوت وأمثال شلتوت، فتلك شنشنة عرفت من أمثال هؤلاء الذين مني الإسلام بهم في كل عصر، ورأوا أن مسايرة الجماهير في أهوائهم وعقائدهم أجدى لهم وأسبغ للخير والنعمة عليهم!

ومن الأمثلة التي نسوقها تفكهة للقراء، وبياناً لطريقة هؤلاء في البحث ومبلغ إخلاصهم للعلم ونزولهم على حكم البرهان، أن أحد المتمرنين على طريقتهم كتب يقول:

(بل كان يجب عليه - يريدنا - أن يتقرب إلى الله بمخالفتهم - يعني القاديانية - وإظهار موافقة المسلمين فيما يعتقدون، فإن لم يفعل ذلك تقرباً فليفعله مجاملة لأولئك الأبطال العلماء الذين وقفوا أنفسهم للدفاع عن الدين من هؤلاء المعتدين، وإظهاراً لاتحاد كلمة المسلمين حتى لا يجد المعتدى خللاً ينفذ منه. والمثل العامي يقول: (أنا وأخي على أبن عمي، وأنا وأبن عمي على الغريب) ثم يقول: (فبربك قل لي: كيف يكون موقف إخواننا علماء الهند الذين أثبتوا نزول عيسى عليه السلام بسبعين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها

ص: 8

الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وأثبتوا حياته ورفعه بأحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، حين يبلغهم عن طريق القاديانية قبل غيرهم أن الأزهر يخالفهم ويقول ليس في هذه المسائل دليل ولا شبه دليل؟)

وهذا كلام غني بنفسه عن التعليق عليه، فقارئ الرسالة يكفيه أن يقرأه ليعلم أن من أسس البحث عند هؤلاء المجاملة والجري على مقتضى المثل العامي القائل:(أنا وأخي على أبن عمي، وأنا وأبن عمي على الغريب). وهذا أسلوب جديد في التفكير لا نستطيع مسايرته، ولا نحب أن نشغل أنفسنا به، وحسبنا أن نقول:

أولاً: إن الخلاصة التي أسلفنا نقلها من الفتوى صريحة في أن حياة عيسى ورفعه بجسمه إلى السماء ونزوله منها إلى الأرض آخر الزمان لم يثبت شيء منها بدليل قطعي يكوّن عقيدة يطمئن إليها القلب حتى يكفر من أنكرها. وهذا القدر وحده لا اتصال له بمذهب القاديانية في قليل ولا كثير

ثانياً: وعلى سبيل الفرض والتقدير لو اتفقت الفتوى مع رأي القاديانية قطعاً أيلزم من ذلك أن صاحب الفتوى يكتب بروح قاديانية ويؤيد القاديانيين الذين يرون فيما يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس خاتم النبيين، وأن غلام أحمد نبي يوحى إليه؟ وأين هذه من تلك؟ وهل إذا قال المسلمون في مسألة مثل ما يقول اليهود والنصارى يكون ذلك دليلاً على روح يهودية أو نصرانية؟ وهل إذا أنكر عالم من علماء المسلمين وقوع النسخ في القرآن يكون مُصدراً في ذلك عن روح قاديانية؟ وإذا رد علماء الهند على القاديانية في ذلك أتجب عليه مجاملتهم أيضاً؟ وهل إذا قال قائل بأن الجهاد ليس مطلوباً منا بسبب كفر الكافرين ولكن بسبب محاربتهم إيانا واعتدائهم علينا كما ينقل عن الثوري وكما ينسبه ابن العربي إلى الحنفية في تفسيره؛ أيكون بذلك مُصدراً عن روح قاديانية؟

لا. لا. إنكم أيها المموهون لا تريدون بذلك إلا أن تجاروا سلفاً لكم ضعفوا عن الحجة والبرهان، ولم يتعودوا الإخلاص للحق، فراحوا يردون الآراء بتشويهها والتنفير منها: كانوا يقولون: هذا رأي المعتزلة، وهذا يتفق مع قول الفلاسفة، وذاك رأي ابن تيمية. . . الخ. وهاأنتم أولاء تتبعون سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع فتحاولون تشويه الآراء بمثل قولكم: هذه روح قاديانية، هذه مسايرة لآراء المستشرقين، هذا تجديد في الدين. . .

ص: 9

الخ. ولكن أعلموا أن الفكر الإسلامي قد أخذ يستعيد صفاءه ويسترد إخلاصه للحجة والبرهان كما كان السلف الصالح من المؤمنين. وأصبحت هذه الأساليب مكشوفة معروفة، بل أصبحت وبالاً على أصحابها لأنها تنفر منهم وتدل على ضعفهم والتواء عقولهم!

لقد كان جديراً بنا ألا نشغل أنفسنا بأمثال هؤلاء، وأن نمر بما ذكروا كراماً، ولكنهم عمدوا إلى أسلوب آخر من أساليب الخداع والتمويه إذ اتصلوا بقوم عزيز علينا أن نتركهم صيداً في شبكتهم. خدعوهم باسم الدين، ووسوسوا لهم بأن هذه الفتوى تمس العقيدة الثابتة بالقرآن والسنة المتواترة والإجماع القطعي، فهي اعتداء على الدين وهدم لركن من أركانه. وسوسوا بهذا ونحوه، وكان من آثار هذه الوسوسة أن نائباً محترماً له في نفوسنا مكانة ومحبة انخدع بما يقولون وطاوعهم في استكتابه كتاباً في هذا الشأن رفعه إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، وبعث بنسخة منه إلى حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء

وفي هذا الكتاب يقول:

(إني أكتب لفضيلتكم في مسألتين هامتين لكل واحدة منهما خطرها وعظم شأنها لمساسها من قريب أو بعيد بأصل العقيدة الدينية)، ثم يرجو فضيلة الأستاذ الأكبر أن ينشر الرأي الصواب الذي يقرره فضيلته عن هاتين المسألتين في مجلتي الرسالة والإسلام فضلاً عن نشره بمجلة الأزهر. ونحن لا نرى بأساً في الرجوع إلى شيخ علماء الدين أو إلى هيئة علمية دينية في تعرف رأيه أو رأيها في مسألة دينية، ولكننا لا نفهم ما المراد بتوجيه هذا الكتاب إلى حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء في مسألة دينية كهذه: أيراد أن تكون هناك هيئة حاكمة يرجع إليها في حماية نوع خاص من التفكير العلمي والديني؟ إن كان هذا هو المراد فما أشبهه بمحاولة العمل على إعادة صورة من صور محاكم التفتيش الأسبانية البائدة في مصر وعلى يد رئيس حكومتها وشيخ علمائها وفي أحضان الإسلام دين الحجة والبرهان لا دين القوة والسلطان

ألا إننا لا نكتب ما نكتب إلا صوناً لمثل هذا النائب المحترم ولجمهرة من المسلمين قد تروج عليهم حيل هؤلاء الخادعين المتطفلين على موائد العلم، وسنعرض في الفصول المقبلة إن شاء الله إلى شبههم التي موهوا بها وبنوا عليها قصور الخداع والإضلال.

ص: 10

وسيعلم الناس أن الله سبحانه وتعالى كما ابتلى عباده بقوم يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، قضت حكمته - رحمة بعباده وصوناً لدينه - أن يهيئ طائفة يظهرها على الحق، ويدفع بها في صدر الباطل، حتى يكشف عواره، وينسخ آثاره (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون)

محمود شلتوت

عضو (جماعة كبار العلماء)

ص: 11

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

على ميعاد - في بناء الجيل الجديد - ظرف المكان - ضيوف القاهرة - شارع الشريف وغيط الشريف

على ميعاد

مع من؟ مع الربيع بعد أن كاد يخلف الميعاد

في صباح كل يوم من هذه الأيام أطالع وجوه الأشجار الضواحك، عساني أنسى عبوسها في الشتاء الذي طال ثم طال، إلى حد الإملال. ومن العجب أن أرى أشجاراً لم تورق بعد، كأنها تخشى أن يكون انصرام الشتاء خبراً لم يقم على صحته دليل. فلتقرأ هذه الأشجار هذا الكلام، ولتصدق أننا في (مايو) شهر الأزهار والرياحين

لا شتاء بعد اليوم من هذا العام، فلنفرح بقدوم الربيع الأول وهو مطلع الصيف، إلى أن يجيء الربيع الثاني، الربيع الحقيقي في الديار المصرية، وهو الذي يقع في الأشهر الثلاثة: أغسطس وسبتمبر وأكتوبر، وهي أشهر الصفاء والرخاء في هذه البلاد

مرحباً بالصيف، والصيف المصري جدير بالترحيب. فبفضله نتذوق نسمات في المساء لا تجود بمثلها الطبيعة في أي أرض. والقيظ في مصر يُتقى بالطل؛ وفي غير مصر لا يُتقى القيظ إلا بوسائل يغلب عليها الافتعال

وطعم الظل في مصر لعهد الصيف جميل المذاق إلى أبعد الحدود. ولا أدري كيف تركناه بلا تنويه فيما كتبنا عن خصائص الطبيعة المصرية

ولا بد من النص على حقيقتين من حقائق الحياة في مصر قبل أن أنسى وينسى الناس:

الحقيقة الأولى هي جمال الشتاء المصري قبل التمدن الحديث، ولا يعرف قيمة هذا الجمال إلا من نشأ في الريف، فقد كان هنالك طعمٌ لذيذ للدفء في (القاعة المحمية)، وكان لتلك القاعات فضلٌ في خلق شعور السعادة بالتغلب على قسوة الشتاء

الحقيقة الثانية هي جمال الزّير المعلَّق في أيام الصيف، وهو يمنح الماء طعماً لا يمنحه الثلج بأي حال

وبالقرب من دار الرسالة حارة تسمى حارة الزير المعلق، فمن كان يجهل أصل هذه

ص: 12

فليعرف أن (الزير المعلق) هو قصر شيرين باشا. ولعل صاحب القصر سماه بهذا الاسم للمعنى المضمر في لطافة الزير المعلق أيام الصيف. وقد سُجِّل اسم هذا القصر في قصيدة من قصائد الشاعر إبراهيم الدباغ، أنعم الله عليه بالشفاء، فقد سمعت أنه مريض.

أما بعد فماذا أريد أن أقول؟

هذا ربيع، وهذا صيف، وهذه ليالي النسائم الرفيقة بمصر الجديدة والجيزة والمعادي وحلوان والزيتون

فأين صبواتك يا قلبي؟ وأين أيامك؟ وأين لياليك؟ وأين أحبابٌ كنت معهم على ميعاد؟

لقد بخلت الأقدار بالتلاقي، وتركتنا نصطرع في لجج اليأس العجّاج

مضى الشتاء وأورقت أشجارٌ ثم أزهرت، وما لك يا قلبي أملٌ في إزهار ولا إيراق

الوجود كله ربيع، فأين نصيبك من هذا الربيع يا قلبي؟

ربيعك هنالك، فامض إليه إن استطعت، وإن استطاعت تلك الأزهار أن تطمس أبصار الرقباء

سيمر زمن وأزمان، وستفعل المقادير ما تفعل بمصاير ممالك وشعوب، ثم يبقى لك هواك يا قلبي، هواك الذي لا يجوز عليه الخمود، لأنه من أقباس الخلود

وهل يعرف أحبابك هنالك أنك معهم على ميعاد؟ لقد يئسوا من وفائك يا قلبي، لأنك آثرت الكتمان، فمتى تفتضح في هواهم ليعودوا مع الربيع؟

أنتِ على بالي في كل وقت،

يا مَهاةً لا تخطر إلا في البال

ولو أنني أستغفر الله كلما

ذكرتكِ لم تُكتبْ علىّ ذنوبُ

في بناء الجيل الجديد

أعتقد أن الأساس لبناء الجيل الجديد هو خلق الإيمان بالعدل في تقسيم الحظوظ، بحيث يصير من المفهوم عند الجميع أن في مقدور كل فرد أن يصل إلى أعظم المناصب، إذا زوّد نفسه بالزاد الذي يؤهله لما يتسامى إليه، بلا احتياج إلى وسيط أو شفيع

ولكي نصل إلى هذه الغاية يجب أن نروض أنفسنا على فهم المراد من العدل، فقد يصرخ ناس ثم يصرخون بدعوى أنهم لم يؤهلوا أنفسهم لخوض معارك الحياة واقتحام أسوار المجد. وهذه آفة لم يسلم منها الناس في أي زمان

ص: 13

نحن في الغالب نطالب بأكثر مما نستحق، وندّعي لأنفسنا حقوقاً لم نبذل في سبيلها ما يجب بذله من الجهود، ثم نطيل التوجع والتفجع والتحسر على انعدام العدل. وهل عدلنا مع أنفسنا حتى نطالب غيرنا بالعدل؟

لا يجوز تضييع لحظة واحدة بلا استفادة علمية أو أدبية، ولا يجوز تضييع لحظة واحدة في القيل والقال إذا كنا نريد أن يكون لنا في الحياة السامية مكان

ومن آفات الناس في هذا العصر أن تكون المظاهر غاية ما يطلبون، فمن النادر أن نجد من يتشهى أن يكون نعيمه مقصوراً على المغانم الروحية، ومن النادر أن نجد من يفرح لأن جيرانه في رغد وإن كان في حرمان

والاعتماد على الحكومة في جميع الشؤون أخطر آفات هذا الجيل؛ فالحكومة هي التي تصد بغي الناس بعضهم على بعض، والحكومة هي التي تضمن وجود الرغيف في السوق، والحكومة هي المسئولة عن كف يد القريب عن ظلم القريب

نحن نشغل بعدِّ المنافع عن عدِّ المآثم، وننسى محاسبة أنفسنا على الكسل البغيض، الكسل الذي يشل مواهبنا المكنونة ويضيفنا إلى جماعة المتواكلين

ما هذا الذي نعاني من كوارث وخطوب؟

أقول هذا لأني أعرف أننا لا نلتفت لغير المصاعب التي تساق إلينا من بُعد، ونغفل عن المصاعب التي نخلقها بأيدينا، وهي المصاعب الناشئة عن غفوتنا الروحية والذوقية والعقلية. وصدق الرسول حين قال:(أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)

الجهل الدميم بقوانين الوجود هو الذي يجعلنا نلقي المسئولية على من لا يحملون عنا أية مسئولية، والفرار من التبعات هو أعظم شواهد الخذلان

لو أنفقنا في محاسبة أنفسنا معشار ما ننفق في محاسبة الحكومة والمجتمع لوصلنا في جهاد النفس إلى أشياء. ولو تجنَّينا على أنفسنا كما نتجنى على الحكومات والمجتمعات لتكشفت أنفسنا عن حقائق تهدينا في ظلمات الوجود

محاسبة النفس لا تقع إلا عند يقظة النفس، فلنفهم أن رضانا عن أنفسنا في جميع الأحوال من دلائل السبات

وأغرب ما نتورط فيه أننا نبالغ في تعقب عيوب الحكومات والمجتمعات، ثم ننتظر أن لا

ص: 14

ترى فينا الحكومات والمجتمعات غير الجميل

وما هي الحكومة؟

هي مجموعة أشخاص يتعرضون لما يتعرض له سائر الناس في المعاملات الفردية والاجتماعية، ومن حقهم أن يعاملوك بالعدل في الإساءة كما تحب أن يعاملوك بالعدل في الإحسان

وما هو المجتمع؟

هو تلك الخلائق المبثوثة في القرى والمدن والأسواق، وهي على تنوعها العجيب قد تلتقي في المشاعر والعواطف من حين إلى حين

وقد نخطئ فنتوهم أن تلك الخلائق تعجز عن تعقب العيوب فيمن لا يرى فيها غير العيوب

والمصلح في الجيل الجديد سيُسأل أمام ضميره عن تجسيم المحاسن الأصيلة في المجتمع، وهي سر التماسك الاجتماعي، وبفضلها استطاع المجتمع المصري أن يقهر مصاعب كثيرة عانتها مصر من جيل إلى جيل

وخلاصة القول أني أدعو إلى محاسبة النفس قبل محاسبة الحكومة والمجتمع، وأرجو أن يؤمن كل فرد بأنه حجر الأساس في بناء الحكومة وبناء المجتمع، إن صحت النية على أن نكون من رجال الأخلاق

ظرف المكان

في يوم واحد ظهر لي مقال في مجلة الرسالة ومقال في مجلة الاثنين رداً على الأستاذ عباس محمود العقاد؛ ومع أن المعاني واحدة أو كالواحدة في المقالين فقد اختلف الأداء كل الاختلاف، فما السر في ذلك؟

يرجع السر إلى ظرف المكان، فقد بدا لي العقاد في (الاثنين) وهو خصم، وبدا لي في (الرسالة) وهو زميل وما أبعد الفرق بين الخصم والزميل!

قال قائل إن اللطف الذي بدا في مقال الرسالة بدد العنف الذي ظهر في مقال الاثنين. وأقول إني لا أندم على كلمة الخير بأي حال. وليس في نيتي أن اصطنع العنف في معاملة زملائي، إلا أن يحرجوني. والرجل الغضبان يستبيح ما لا يباح

وأنا مع ذلك أشعر بفداحة الخسارة في العراك الذي ثار بيني وبين الأستاذ العقاد؛ فلا هو

ص: 15

وصل إلى شيء، ولا أنا وصلت إلى شيء، لأن ذلك العراك لم يزد عن ملاحاة لا أرضاها منه ولا يرضاها مني

خصومتي مع الدكتور طه حسين هدتني إلى حقائق أدبية وفلسفية

وخصومتي مع الأستاذ أحمد أمين كانت السبب في أبحاث جياد أفصحت فيها عن سرائر الأدب العربي

وخصومتي مع الأستاذ توفيق الحكيم كانت السبب في أن أنشئ مقالي عن (رجال الأدب ورجال القضاء)

وخصومتي مع الأستاذ إبراهيم المازني كانت الباعث لبعث مواهبي الشعرية

فما مصير خصومتي مع الأستاذ العقاد؟

إن بوادر لا تبشر بالخير، فهل تقع معجزة تحولها إلى الاختصام حول حقائق تكون دساتير في فهم أصول الأدب والبيان؟

أنا أنتظر أن نخوض في أحاديث تصل بنا إلى نفائس، وأكره أن تكون المعارك الأدبية في مصر مقصورة على مجادلات ينفر منها الذوق في أكثر الأحايين

وإلى اللقاء على صفحات (الرسالة) الصديق

ضيوف القاهرة

كان من المألوف أن يصطاف المصريون في فلسطين أو سورية أو لبنان، لينعموا بالرخاء الذي لا تعرفه مصايف الإسكندرية أو رأس البر أو بور سعيد، فما تمتع بلدٌ قبل هذه الحرب بمثل الرخاء الذي كان يتمتع به أهل فلسطين ولبنان

واليوم نسمع أن تلك البلاد تعاني متاعب عنيفة من الغلاء ونرى بين أعيانها أفواجاً تزور القاهرة لتعيش في رفاهية بضعة أسابيع، فما الذي نصنع في إكرام أولئك الضيوف؟

يعزّ عليّ أن أعترف بأننا لم نتخذ خطة واضحة في استقبال من يزور مصر من أبناء الشرق العربي والإسلامي. وإلى وزير الشئون الاجتماعية أوجه هذا الحديث

شارع الشريف وغيط الشريف

في يناير سنة 1931 شكا إليّ المسيو فوشيه مراسل (الأهرام) في باريس من أن جريدة

ص: 16

الأهرام لا تدعوه إلى الإقامة في القاهرة شهراً أو شهرين من كل عام، ليعرف الجو السياسي فيراعيه فيما يرسل من البرقيات

وفي أغسطس من سنة 941 زرت مدينة المنصورة لأتحدث مع الأستاذ الزيات فيما يجب أن نراعيه من التوجيهات الأدبية والاجتماعية

وفي إحدى السهرات قال فلان: هل سمعتم باسم الشارع الجديد؟

- وما اسم الشارع الجديد؟

- شارع الشريف الرضي

فابتسم الأستاذ الزيات وقال: هذا من وحي الدكتور المبارك

وفي يناير من سنة 1942 رفعت قضية شفعة على غيط يجاور أملاكي في سنتريس. ولم أكن أملك من ثمنه غير دنانير كسبتها من كتاب (عبقرية الشريف الرضي)، وقد كسبت القضية وسميت الغيط (غيط الشريف)

أمر الأرواح عجب في عجب، وما أعجب أمور الأرواح!

كان الشريف يتحدى خلفاء بغداد بأن له في مصر أنصاراً يستنصر بهم حين يشاء، وقد وفت مصر للشريف بعد عشرة قرون، فسمَّت باسمه شارعاً في المنصورة وغيطاً في سنتريس، ولن يموت رجلٌ يحفظ اسمه في المنصورة وسنتريس

الشريف هو الذي يعبِّر عن أشواقي إلى أحبابي في العراق حين يقول:

ومن عجبٍ لا أسأل الركب عنكم

وأعلاق وجدي باقيات كما هيا

ومن يسأل الركبان عن كل غائب

فلا بد أن يلقى بشيراً وناعيا

وقد فجعتني الأقدار بموت الصديقين الكريمين: إبراهيم العمر وصادق الوكيل، وكانا عدوين لا يقرب بينهما غير الاتفاق على ودادي، وما أكثر ما صنعت في تبديد الخلاف بين المتخاصمين من أدباء العراق!

كنت أقول إني أحب العراق لأخلق فيه صداقات لوطني؛ واليوم أقول إني أحب العراق، لأنه العراق

ومن الذي يكره بلداً لا يفارقه بغير الدمع؟

من الذي يكره بلداً رجاله طه الراوي ورضا الشبيبي؟

ص: 17

العراق وطني، لأنه أصدق الأصدقاء لوطني، ولأنه العراق، ولأنه دار الذين يئسوا من وفائي، مع أنني أوفى الأوفياء

أنا الجاني على نفسي، فقد تهاونت في نقل تلك البُنية إلى وطني، ومعها تلك الأم السمراء، ويا لها من سمراء!

جنى الهوى ما جنى، وجنيت ما جنيت، فعلى أيام الهوى وعلى أيامي ألف تحية وألف سلام، إلى أن نلتقي في ظل الموصلية التي تسكن بغداد، وهي ملثوغة الراء، لأنها حواء، وأنا أول الحافظين لعهد الوفاء.

زكي مبارك

ص: 18

‌مجلاتنا الممتازة

ونصيب المسرح والسينما والغناء منها

للأستاذ دريني خشبة

هل تكتب (الرسالة) أو (الثقافة) أو (المقتطف) أو (الهلال) شيئاً في المسرح المصري الحاضر أو السينما المصرية الحاضرة أو الغناء المصري الحاضر أو الموسيقى المصرية الحاضرة؟ وإن لم تكن هذه المجلات تكتب شيئاً من ذلك، فهل هي على حق في خطتها تلك! وهل هي بتلك الخطة التي تلتزمها حيال أرقى فنونها الجميلة تمثل النهضة المصرية أو تنطق بلسان مصر الحديثة؟ وهل هناك فرق أن تصدر الرسالة - وتلك خطتها - في القاهرة أو في بغداد؟ وهل يتغير المقتطف إن كان يطبع في دمشق، لا في القاهرة؟ وإن صدرت الثقافة في مكة، ولم تصدر في مصر، فماذا كان يتغير فيها بحكم تلك البيئة الجديدة؟ وإذا كان الهلال يأتي إلينا من صنعاء اليمن فهل كنا نرى فيه هلالاً غير هذا الهلال الذي يصدر عن القاهرة؟

وما السبب يا ترى في امتناع مجلاتنا الممتازة هذه عن الكتابة في المسرح المصري الحديث والسينما المصرية الحديثة، والغناء المصري الحديث، والموسيقى المصرية الحديثة، وفي سائر الفنون المصرية الحديثة!

هل يستطيع أحد أن يتهم الأستاذ الزيات أو الأستاذين أحمد أمين وعبد الواحد خلاف، أو الأستاذ يعقوب صروف أو الأستاذين أميل وشكري زيدان بأنهم رجال لا يستطيعون أن يزنوا هذه الفنون من حيث تمثيلها للنهضة المصرية الحديثة والذوق المصري الحديث؟

وإن قلنا إن هذه المجلات قد خصصت نفسها للأدب الجد والعلم الجد، فهل نفهم من ذلك أن أصحابها لا يقولون بأن المسرح المصري الحديث ليس من الأدب الجد في شيء، ومثله السينما والغناء والموسيقى!!

وهل العلاقة بين هذه الفنون وبين الأدب الجد لا تصل في أهميتها إلى خطورة العلاقة بين الأدب الجد وبين اشتقاق كلمة (اجلوّز) وما إليها من تلك الببغائيات التي تحفل بها مجلاتنا الممتازة وتفسح لها صفحاتها؟

ولكن. . . ما علة امتناع مجلاتنا الممتازة، هذا الامتناع الإجماعي، عن الكتابة في هذه

ص: 19

النواحي من مقومات نهضتنا الفكرية الأدبية الحديثة؟!

هل هو الاستعلاء كما زعم لي أحد الزاعمين وأنا أحاوره في هذا الموضوع؟

وفيم يا ترى استعلاء مجلاتنا المصرية الممتازة عن الكتابة في المسرح المصري الحديث والسينما المصرية الحديثة؟ هل هي في حاجة إلى من ينبهها إلى خطر المسرح والسينما ومكانهما من الأدب الذي تضطلع بنشره في مصر قاطبة؟!

وهل ترفض هذه المجلات الممتازة نشر بحث يقدم لها عن المسرح اليوناني، أو المسرح الإنجليزي، أو المسرح الفرنسي؟ كلا. . . إنها ترحب دائماً بهذا البحث وتعده من واجبها الأول!

وهل ترفض ترجمة لأحد رجال المسرح اليوناني أو المسرح الإنجليزي أو المسرح الفرنسي؟. . . وهل ترفض ترجمة لأحد الموسيقيين من أمثال موزارت وباخ وهاندل وبيتهوفن وهايدن وشوبين وليزت ولتنتايكوفسكي؟ أم ترفض ترجمة لأحد المغنين القدامى من أمثال إسحاق وإبراهيم الموصلي وزرياب وعنان؟

هذه طائفة من الأسئلة كانت وما تزال تملأ التفكير، وتجعل الرأس أشبه بخلية النحل من كثرة ما كانت تتوارد فيه، في شدة وفي عنف. . . بل في شبه ثورة جارفة، مُغثاة بكثير من الهم والاكتئاب!. . . لماذا تستعلي مجلاتنا عن تناول المسرح المصري، والسينما المصرية، والغناء المصري والموسيقى المصرية؟. . . إن أحداً لا ينقم على مجلاتنا الممتازة مظهرها العربي الصميم الذي هو مفخرة الصحافة المصرية، ونحن حين نرى العالم العربي كله يقرأ مجلاتنا ويقبل عليها هذا الإقبال لنحمد الله على أن جعل لنا الصدارة في هذا الباب، وأن هيأ لنا من الزعامة الفكرية ما يجعل مصر نبراساً للأمم العربية جمعاء. . . هذا حسن جداً. . . وهو خير كل الخير، لكن ماذا يضرنا لو أظهرنا شقيقاتنا من الأمم العربية على هذا الجانب الهام من مصريتنا الصميمة؟ لماذا لا نكتب لهم عن مسرحنا وعن هذه النخبة الفاضلة العامة المجدة من رجاله؟ لماذا لا ننقد لهم الروايات المصرية التي يؤديها هذا المسرح ويعالج فيها عللنا الاجتماعية؟ ألم تكن فرقنا تذهب إلى فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وتونس والجزائر وأمريكا الجنوبية لتمثل هنالك تلك الروايات المصرية؟ أليست هذه هي الأفلام المصرية تصدر من مصر إلى تلك الأقطار

ص: 20

الشقيقة فيقبل عليها الأهلون إقبالاً منقطع النظير ليشهدوا مصر الحديثة، وليطالعوا الأدب المصري الحديث، والتمثيل المصري الحديث. وليمتعوا أنفسهم بالغناء المصري الحديث ويشنفوا آذانهم بالموسيقى المصرية الحديثة؟ الحقيقة أن شطراً كبيراً من مسئولية ذلك تقع على عواتق رجال تلك الفنون من المسرحيين ومخرجي السينما وممثليها والمغنين والموسيقيين المصريين. . . وسنكون صرحاء في تحديد هذا الشطر من المسئولية فنقولها كلمة حق إن كثيرين منهم يكادون يكونون أُميين. . . أميين في فنهم نفسه، وأميين في طريقة أدائه، وأميين في منوال حياتهم بوصف كونهم رجال الفنون الرفيعة في مصر. أما أن منهم الأميين في فنهم فهذا هو المشاهد الملحوظ في كثير من الروايات المصرية المسرحية، وأشرطة الصور المصرية تأليفاً وإخراجاً وتصويراً وتمثيلاً - وأنا أكتفي هنا بالإشارة العابرة دون التصريح والتجريح، فما لهذا كتب المقال - ولست تعرف من أين يأتي أكثر العيب؟ أيأتي من المؤلف الذي يتناول الموضوع المصري أو إحدى البيئات المصرية فيشيع فيهما مرض خياله ويمسخها بسقم تصويره ويجعل منها أضحوكة لا تخطر في بال مصري؟ أم يأتي من المخرج الذي يضرب أخماس المشاهد في أسداسها حتى تبرز عرجاء شوهاء مقعدة في كثير من الأحيان؟ أم يأتي العيب من المعمور الذي لم يدرس قط، أو درس دراسة ارتجالية - فن الضوء المسرحي أو السينمائي وزوايا المناظر؟ أم يأتي أكثر العيب من الممثلين وفيهم مهرجون كثيرون فرضوا بطولتهم على الشركات التي ألفوها، وعلى النظارة الذين أفسدوا أذواقهم بالإلحاح عليها بشعبذاتهم ومساخرهم

أما أميتهم في أسلوب حياتهم فذاك أن أكثرهم لا يحاول قط أن يتعلم أو أن يثقف نفسه بمطالعة ما تصل إليه يده عن تاريخ فنه وتراجم أبطال هذا الفن وما يجد كل يوم فيه وما ينضاف إليه من جهود المتخصصين فيه، ثم هم غير هذا يحيون حياة سائبة ليس فيها أي شعور بالكرامة الفنية التي كان يخلق بها التسامي عن التبذل والانغماس فيما يشين الأقدار. وليس يضير هذه الفنون قط أن كثيرين من أبطالها في مصر قد نشئوا من صميم الشعب، فهنا مفخرة هذه الفنون، بل هنا حياتها، لأنه لا يعرف هوى الشعب ولا يدرك علله إلا أفراد منه أوتوا تلك الملكات الشعبية التي يجهلها السراة جهلاً تاماً

وبمناسبة فقر أبطال المسرح والسينما والغناء والموسيقى في ثقافتهم، ذلك الفقر المضحك

ص: 21

المخزي، يذكر الإنسان ما كان يشترط في المغني العربي والمغنية العربية في العصر العباسي من إلمام واسع بنحو العربية وصرفها وعروض الشعر وقوافيه، وما كان ينبغي أن يتوفر له من محفوظ الشعر والبصر بعلله ودقة الذوق في نقده وطول الباع في الوقوف على أخبار الأدباء والكتاب والشعراء والمحبين. ولسنا هنا بمعرض ضرب الأمثال لذلك، فكتب الأدب العباسي والأندلسي تفيض بذلك وتزخر به. ونحن والحمد لله نعيش في مصر في عصر شباب اللغة العربية ورونق مجدها المبين، مما لم تبلغه في أي عصر من عصورها الذهبية الحوالي؛ والمستمع الذي له دراية بنحو هذه اللغة لا يتلف الغناء أو الإلقاء في نفسه ما يتلفه اللحن في القطعة المغناة أو الملقاة. . . إنه يضيق عند ذاك بالغناء وبالمغني. . . بل إنه ليضيق بالدنيا جميعاً ولا يعود يعنيه من أمر الغناء ما يعنيه من جهل المغني بنحو اللغة، ذلك الجهل الذي لا عذر له فيه إلا الكسل عن الإلمام بهذا النحو. لقد كان المغنون في العصر العباسي وفي بلاد الأندلس أدباء من الطراز الأول، وكانوا يحتلون من رواية الرواة ومؤلفي كتب الأدب ما كانوا خليقين به. وحسبهم فخراً وشرفاً أن يسمي أبو الفرج كتابه (الأغاني) ولم يسمه اسماً آخر بالرغم مما حشد فيه من تراجم الشعراء وقصائدهم

وبعد. . . فمتى يعني مديرو مجلاتنا الممتازة ورؤساء تحريرها بالمسرح المصري الحديث وما إليه من سائر الفنون الرفيعة التي ذكرنا؟ إننا حينما ندرس الأدب اليوناني القديم نجد ثلاثة أرباع هذه الدراسة تدور حول المسرح اليوناني وحول شعراء مآسيه وملاهيه؛ ودراسة الآداب الأوربية تكاد تكون قسمة عادلة بين القصص في الشعر في ناحية، والدرامة في ناحية أخرى، بل يكاد بعض هذه الآداب يكون مسرحياً صرفاً. وقد عني أرسطو بدراسة المأساة المسرحية وكرس لها كتابه الخالد (بويتيكا)(الشعر) وعدها مصدر الفضائل ولباب الأدب. فهل أصحاب مجلاتنا الممتازة ورؤساء تحريرها في حاجة إلى أن يذكرهم أحد بكل ذلك؟. . .

قد يجادل رؤساء التحرير المحترمون هؤلاء في حقيقة المسرح المصري الحديث: أموجود هو؟ وهل لدينا الممثلون الذين يستحقون أن يكتب عنهم؟ وهل لدينا مذاهب مسرحية تستأهل أن يعنى بها؟ ثم ما هي عيون الأدب المسرحي أو السينمائي التي تستحق أن تفسح

ص: 22

لها مجلاتهم ميداناً للنقد أو العرض أو التحليل. وقد آن أن نكون صرحاء. . . فالمسرح المصري أصبح حقيقة لا مرية فيها، وأشرطة الصور المصرية تغزو دور الصور في مصر خاصة وفي الشرق العربي عامة. وقد أصبح للمسرح المصري والسينما المصرية والغناء المصري أكبر الأثر في التوجيه الأخلاقي والتوجيه الثقافي الحديث. ورب درامة أو شريط سينمائي للأستاذ يوسف وهبي - كائناً ما كان هذا الشريط - له من الأثر في أخلاق هذه الأمة وفي مزاجها وفي تكييف ذوقها ما لا تستطيع أن تصنعه خمس مدارس أو عشرة أو عشرون. . . ورب أغنية للأستاذ محمد عبد الوهاب أو للآنسة أم كلثوم يكون لها من الأثر في عامة الشعب وخاصته مالا يكون لألف مقالة من مقالات الرسالة والثقافة والمقتطف والهلال مجتمعة. . . هذه حقيقة لا يماري فيها إلا مكابر. . . فإذا كان الأمر كذلك، فكيف تجمع هذه المجلات المحترمة الممتازة على الانصراف عن المسرح المصري والسينما المصرية والغناء المصري والموسيقى المصرية لا تتعرض لها بخير أو شر؟ هل يظن رؤساء تحرير هذه المجلات - وهم قادة الفكر في مصر وفي الشرق العربي - أنهم يؤدون وظيفتهم كاملة على هذا النحو المبتور؟ هل صحيح أن انصرافهم عن هذه النواحي الثقافية التي لها أكبر الخطر في تكييف نهضتنا الفكرية وذوقنا الفني هو صدى هذا الاستعلاء الذي أشار إليه أحد رجال الفكر الذي حاورته في هذا الموضوع. . . على أنني لست أدري سبباً لهذا الاستعلاء؟ أليس هو من باب وضع النعامة رأسها في الرمال إذا حاق بها الخطر؟ هل يماري رؤساء التحرير المحترمون هؤلاء في خطر المسرح والسينما والغناء والموسيقى على الأخلاق والأذواق؟ ألا تستحق الأربعون أو الخمسون رواية التي ألفها الأستاذ يوسف وهبي ومثلها أو أخرجها للسينما وشهدها خمسون أو ستون مليوناً من النظارة في مصر وفي العالم العربي. . . كلمة نقد أو كلمة تقدير أو كلمة تحليل. . . أو حتى كلمة تحذير من إحدى مجلاتنا الممتازة أو المتزمتة. . . لا أدري. . .

ألا يستحق هؤلاء الأبطال: يوسف وهبي وحسين رياض وأحمد علام وزكي طليمات وسليمان نجيب وعباس فارس وعمر وصفي وحسين صدقي وأنور وجدي ومحمود ذو الفقار ومنسي فهمي ومحمود المليجي وأحمد جلال ومختار عثمان ونجيب الريحاني وفوزي الجزايرلي وعلي الكسار. . . ألا يستحق هؤلاء أن تقدمهم مجلاتنا الممتازة إلى قرائها

ص: 23

فتحلل لهم شخصياتهم أو تقفهم على مزاياهم أو تنقد لهم مذاهبهم في التمثيل أو طرائقهم في الأداء؟

ألا تستحق أمينة رزق وزينب صدقي وفاطمة رشدي وعزيزة أمير وآسيا ودولت أبيض ومن إليهن أن تترجم لهن مجلاتنا الممتازة، أو أن تقدمهن لجمهور قرائها بما ينبغي لنساء المسرح من عرض ونقد وتحليل؟

ما هذا؟ ألا يستحق محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطي والقصبجي وزكريا أحمد وعبد الغني السيد وصفر علي والنقاد والرشيدي وسامي شوا وفاضل شوا وعبد المطلب والسروجي وأحمد عبد القادر ونور الهدى ورجاء وفتحية وأسمهان ونجاة. . . ألا يستحق هؤلاء أن يترجم لهم والعالم كله ينتفع بهم ويلتذ غناءهم وموسيقاهم وألحانهم؟

إني وأنا أكتب هذه الأسماء ألمح الابتسامات العريضة ترقص على شفاه رؤساء التحرير وعلى قسمات الكثيرين من القراء. وليست هذه الابتسامات من الغموض بحيث يخفى معناها على أحد. . . إنها ابتسامات الاستعلاء. أو الاستهزاء. ما في ذلك شك. . . وهو استعلاء ظالم. . . بل هو استعلاء أناني أثر، وأمسك عن وصفه بشيء آخر

لقد آن أن تكون مجلاتنا الممتازة صادقة في التعبير عن مصر الحديثة. ولقد آن أن تعرف مجلاتنا الممتازة حق المسرح المصري الحديث، والسينما المصرية الحديثة، والغناء المصري والموسيقى المصرية. . . هذه المظاهر الأربعة الهامة التي تصور للعالم العربي مصر الناهضة التي تتزعم ممالكه ودويلاته، وتصدر إليها الفكر الجديد والثقافة الجديدة. ليكن بعض رجال هذه الفنون كما وصفنا في هذا المقال؛ ولكن لتكتب مجلاتنا عنهم لتقوم اعوجاجهم، ولترد إليهم كرامتهم، ولتصل أسبابها بأسبابهم، فإنه إذا استمرت تلك القطيعة بينها وبينهم وبين رجال الفنون على هذا النحو صار سواء أصدرت مجلاتنا تلك عن القاهرة أو عن مكة أو عن دمشق أو عن بغداد أو عن صنعاء. وربما جاء يوم تصبح فيه مجلاتنا صحائف أرثوذكسية لا تعبر عن شخصيات العصر الحديث. . . ولست أدري لماذا ألغت الرسالة باب الفنون وباب الموسيقى والموسيقيين وقد كانا من أجمل أبوابها؟

هذه كلمة سريعة وربما كان لنا عود إلى الموضوع.

دريني خشبة

ص: 24

‌خيال الرافعي

(هدية إلى روح الرافعي في ذكرى وفاته)

للأستاذ عمر الدسوقي

إذا تحامت الأقلام القديرة النقادة تراث الرافعي حتى اليوم، ولم تحاول عرض ما فيه من نفائس وعجائب على جمهرة المتأدبين في العالم العربي؛ ليكون لهم ينبوع إشعاع يلهم ألبابهم، ويستثير عقولهم، ويستحث خيالهم، ويحكم بيانهم؛ وإذا لم يتقدم بعد الناقد الضليع، والكاتب العبقري الذي ينفذ إلى نفسه العميقة وخياله المغرب، فيحلل أدبه، ويبوئه منزلته في سفر الخلود؛ فما أظن ذلك عن تهاون بهذه الذخيرة الفذة، ولكن هيبة ورهبة وفرط إعجاب

ومعذرة إلى الإمام الرافعي إذا تطاول يراعي إلى الخوض في أدبه، فلقد طال - علم الله - تردده وإحجامه، ووقف دهشاً يملكه البهر أمام هذا النور الفياض الذي هتك الخدور عن أبكار المعاني، وهذا الذهن الثاقب الذي نفذ إلى أسرار الحقائق فتخير أطيبها عنصراً، وأكرمها جوهراً، وأجملها رواء، ثم كساها البيان الساحر أكمل حلة، فغدت فتنة المتأمل ومحراب الأديب. وإنما حفز هذا اليراع - على ضعف منته، ووهن عدته - لتسطير هذه الكلمة ذكرى ارتحال الرافعي، عليه الرحمة والرضوان، إلى جنة الخلد. وهي نفثة إعجاب ووفاء، وإن ضن على الزمن بمعرفة شخصية إلا أني مدين لروحه الكبير بالشيء الكثير

وبعد، فما أخترت الكلام عن خيال الرافعي، لأنه أبرز ما فيه، وأجمل ما خلفه؛ ولكن لأن الرافعي نشأ شاعراً ملهماً مشبوب الخيال، ذا عبقرية فنية مبدعة، وهو وإن آثر النثر فيما بعد للإفصاح عما يختلج في نفسه من فكر ومعان، فقد لازمه خيال الشاعر في أكثر ما دبجه قلمه في الأدب الإنشائي؛ فكثير من مقالاته الوصفية قصائد نادرة في عالم الشعر والخيال؛ وهو مصور قدير دقيق الحس، يعرض لك المعنى البكر في أروع صورة وكأني به عنى نفسه إذ يقول:(أما الذهن العبقري فليس له من المعاني إلا مادة عمل فلا نكاد نلابسه حتى تتحول فيه وتنمو وتتنوع وتتساقط له أشكالاً وصوراً في مثل خطرات البرق)

وخيال الأديب النابغة له مظاهر شتى يتمثل فيها: فإما أن يصور ما في الطبيعة، وينقل عنها ويحاكيها؛ وليس سر نبوغه في هذا النوع جودة المحاكاة وإتقان التصوير، ولكنه

ص: 26

يستشف من وراء ما يحاكيه أسراراً لا تخطر إلا له، ويختار مالا يقف عنده إلا عين شاعر، أو يحس جماله إلا ذوق فنان، ثم يعرضه للناس بعد أن ينفث فيه من شخصيته وموهبته، ويسبغ عليه من خياله وبيانه ما يجعله صورة جديدة نادرة المثال

وإما أن يكون مرآة مصقولة تنطبع فيها الصورة المختارة فتعكسها وتبرزها وحدها؛ ويكون سر نبوغه في حسن ذوقه واختياره، وفي صفاء نفسه وقدرتها على إظهار الصورة خالية من الشوائب واضحة مجلوة

وإما أن يخترع مالا وجود له في الخارج، ويخلق صوراً وأشكالاً هي وليدة عقله وصنع خياله، وبمقدار ما تكون مبتكرة جميلة أخاذة يكون تفوقه ونبوغه

وإما أن يوازن بين صور الطبيعة بعضها وبعض، وينظمها في سلك، ويأتي بالمفارقات التي تبهر العقول، ولا تتأتى إلا لصاحب الخيال الشرود، ومن تحسبه قد وضع الأشكال والمعاني بين يديه يؤلف منها ما يشاء، وينتقي منها كما يشتهي

وإما أن يوضح المعنويات بالمحسوسات، ويضرب الأمثال التي تقربها إلى الأذهان؛ وإما أن يتخيل في الجماد حياة فينطقه وينسب إليه - بالاستعارة والمجاز - وأفعال الأحياء، ويرتفع بالطبيعة إلى درجة الإنسانية، وكلما كانت استعاراته ومجازاته طبيعية محبوكة طريفة برهن على سر نبوغه

والرافعي رزق من سمو الخيال، وتوقد القريحة، وإرهاف الحس، وكمال الذوق، ما مكنه أن يبتكر في كل هذه الأنواع وأن ينمي الثروة الأدبية دون أن يجري في مضمار غيره من السابقين أو يسطو على معاني سواه. وإذا حاكى غيره فشخصيته وروحه تنفحان ما يأتي به سمة خاصة ترتفع به عن التقليد

ولقد عرف الرافعي الخيال الأدبي تعريفاً دقيقاً، وألزم نفسه في جل ما كتب أن تتمثله ولا تحيد عنها فيقول:(والخيال: هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة، وتخيل الشاعر إنما هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به، فهو بهذا يرفع الطبيعة درجة إنسانية، ويرفع الإنسانية درجة سماوية)

وإذا كان الخيال سامياً، والمعاني التي ينفذ إليها رائعة جديدة قيمة، كان لا بد من صيغة تناسب ذاك الخيال وهذه المعاني، ولا بد من عبارة طلية قوية تزيد المعنى روعة، والخيال

ص: 27

جمالاً. والرافعي كان معنياً بعبارته أتم العناية، يقدها وفق المعنى، ويأتي بها رصينة جميلة منتقاة الألفاظ؛ وفي هذا يقول:(ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ أكبر مما هي، كأنها شبت في نفسه شباباً، وأقوى مما هي كأنما كسبت من روحه قوة، وأدل مما هي كأنما زاد فيها بصناعته زيادة)

ويقول: (والكاتب الحق لا يكتب ليكتب، ولكنه أداة ي يد القوة المصورة لهذا الوجود تصور به شيئاً من أعمالها فناً من التصوير)

أقرأت مقالة (الربيع) في (وحي القلم)! ألا تحس كأن الرافعي اتحد بالطبيعة، وفهم لغتها، فجاءت إليه بأسرارها ثم جاء يترجم عنها فنقل ما لم يتح لكاتب قبله!. أسمعه يقول:(خرجت أشهد الطبيعة كيف تصبح كالمعشوق الجميل لا يقدم لعاشقه إلا أسباب حبه، وكيف تكون كالحبيب يزيد في الجسم حاسة لمس المعاني الجميلة!)

ويقول: (لاحت لي الأزهار كأنها ألفاظ حب رقيقة مغشاة باستعارات ومجازات، والنسيم حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبير من لابسته، وكل زهرة كابتسامة تحتها أسرار وأسرار من معاني القلب المعقدة). ويقول: (ويكون الهواء كأنه من شفاه متحابة يتنفس بعضها على بعض)

ولا يتسنى لي في هذه الكلمة الموجزة أن أحلل وأعلق وأبين مطارح الجمال في عباراته وخياله، وحسب القارئ أن يتأمل ويتذوق ويحكم. إن الرافعي تمثل الطبيعة عاشقة جميلة تترضى حبيبها، ولها من القدرة والغنى ما يمكنها من إرضائه، بل لا يظهر منها إلا ما يرضيه ويفتنه؛ وتأمل قوله:(أسباب حبه) وفسرها كما تشاء، وعلل لماذا اختار الرافعي هذه الكلمة دون سواها؛ الآن أسباب الحب شتى من عطف وجمال وزينة وإبهاج. . .

وانظر كيف رأى الأزهار (ألفاظ حب رقيقة)، وهل رأيت تشبيهاً أحلى وأرق وأوفق من هذا التشبيه؟ أو لا تراه لا يزال على خياله من أن الطبيعة حبيبة تبادله ألفاظ الحب الرقيقة على لسان أزهارها المختلفة الشكل واللون والشذى؟

ثم تأمل كيف يصور الشتاء فيقول: (وكانت الشمس في الشتاء كأنها صورة معلقة في السحاب، وكان النهار كأنه يضيء بالقمر لا بالشمس، وكان الهواء مع المطر كأنه مطر غير سائل، وكانت الحياة تضع في أشياء كثيرة معنى عبوس الجو، فلما جاء الربيع كان

ص: 28

فرح جميع الأحياء بالشمس كفرح الأطفال رجعت أمهم من السفر!)

تالله إن هذا وصف يفسده الشرح وأولى به أن يترجم ويذاع بين أمم الأرض ليبرهن على أن الأمة العربية لم تصب بالعقم في الخيال كما يدعي المفترون، وأن فيها أمثال شكسبير، وجيته، وهوجو، وأناتول فرانس.

أقرأت مقالة (عرش الورد) في زفاف ابنته؟ ألا ترى أنه يستشف من وراء الموصوفات أسراراً لا يقف عليها إلا العباقرة الملهمون؟

أسمعه يصف تاج الورد الذي عقد حول عرش العروسين: (وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر سطوعاً يخيل إليك أن أشعة من الشمس التي ربَّت هذا الورد لا تزال عالقة به)

أو أسمعه يصف لون الكرسيين اللذين نُصَّا على العرش: (ويكسوهما طراز أخضر تلمع نضارته بشراً، حتى لتحسب أنه هو أيضاً قد نالته من هذه القلوب الفرحة لمسة من فرحها الحي)

ليت شعري! أكانت للرافعي حاسة زائدة يقف بها على هذه الأشياء فيرى أشعة الشمس لا تزال عالقة بالورد وسط الليل، ويلمس فرحة الطراز الأخضر، أم هو خياله الخصب ونشوة السرور صَّورا له ما رأى!

ويقول: (وأقبل العذارى يتخطرن في الحرير البيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافات حول العرش حاملات في أيديهن طاقات من الزنبق، تراها عطرة بيضاء ناضرة حيية كأنها عذارى مع عذارى)

وما أشبه الزنبقة بالعذارى الهيفاء في لينها، وهيفها، ونضارتها ورائحتها وطهارة قلبها!

وماذا عساي أن أقدم إليك من هذه القصيدة المثالية، وحسبي ما اقتطفت منها وعليك بالرجوع إليها والوقوف لديها ملياً؛ لتحملك على أجنحة الخيال إلى عوالم من السحر والفتنة والفن. . .

أقرأت مقال (البحر) و (الربيع الأزرق)، تأمل في قوله:(والقمر زاه رفاف من الحسن كأنه اغتسل وخرج من البحر)، وقوله: (نظرت إلى هذا البحر العظيم بعيني طفل يتخيل أن البحر قد مليء بالأمس وأن السماء كانت إناء له فانكفأ الإناء فاندفق البحر، وتسرحت مع

ص: 29

هذا الخيال الطفلي الصغير فكأنما نالني رشاش من الإناء)

وقوله: لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال، عرفت ذلك حينما أبصرت قطرة من الماء تلمع في غصن فخيل إلى أن لها عظمة البحر لو صغر فعلق على ورقة)

وقوله: (الحياة في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف، والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البلور الساطع، ذاك يحتوي الماء، وهذا يحتويه ويبدي جماله للعين. . .

هذه صور من ذياك الخيال الفريد الفياض فيها ابتكار، وفيها جمال وفيها دقة وروعة؛ وأكتفي بعرضها فهي غنية عن التوضيح، ولعلها تنبه بعض أدبائنا إلى ما عليهم من التبعة إزاء هذا الأدب الرفيع.

عمر الدسوقي

ص: 30

‌خواطر على شاطئ النيل

إذا أثقلتني هموم الحياة

وناء بها كاهلي المرهف

وضقت وضاق بقلبي مداه

على شاطئ النيل لي موقف

يفيض السكينة في خاطري

هنالك والماء ضاحي الجبين

بوجه ضحوك المحيا طروب

تخالجني غبطة المستهين

بدنيا شرور ودنيا لغوب

تغيب عن القلب والناظر

جرى الخصب حيث جرى والجمالِ

فلا بِدْع أن تخصب الأنفس

إذا قهرتها صروف الليالي

ففي شاطئيه لها مَنْفس

يفرج من همها القاهر

أبٌ أنت يا نيل منذ الأزل

فلي في لقائك عطف الأبِ

إذا غاب عني حنان الأمل

فحسبي حنانك من مأرب

تطيب به مهجة الشاعر

سعادة قلبي معي ههنا

ترفرف فوق صفاء المياه

إذا رمتها لم يحل بيننا

ظلام الجدود وعسف الطغاة

هي المِلْك في راحة الظافر

وإن أقبلت راقصات النسيم

تصافح موجك في موكب

تنبه في النفس وجد مقيم

يشاطرها نشوة المعجب

ويرقص في أفقها الساحر

تزاحم قوم لأجل المحال

وكدوا ولكن بلا آخر

وفي وقفة تحت ظل الخيال

جمعت السعادة في خاطري

على شاطئ بالمنى زاهر

محمد طاهر الجبلاوي

ص: 31

‌من أزهار الشر

لشارل بودلير

إلى عذراء

(نذر بروح أسبانية)

إنني أود أن أشيِّد لك، أيتها العذراء عشيقتي، حرماً سارباً في قرارة بؤسي، وأن أحفر لك في سويداء قلبي، بعيداً عن الشهوة الدنيا والنظرة الساخرة، محراباً لونه من زرقة السماء، وزينته من الذهب لتنصبي نفسك فيه أيها التمثال الرائع

وسأضع لهامتك تاجاً فخماً من أشعاري المصقولة، مضفراً بأصفى المعادن ثم أُرصعه بقواف بلورية

وفي غيرتي سأحيك لك، أيتها العذراء الفاتنة، معطفاً متصلباً ثقيلاً، على الطراز الهمجي، ثم أبطنه بالشك ليكون كملاذ يحمي محاسنك الفاتنة

ولن أزيّن هذا المعطف باللآلئ بل بكل مدامعي!

وسيكون رداؤك شهوتي المرتعشة المتموجة، شهوتي التي تعلو وتُسف فتتأرجح على الذرى وتستقر في الوهاد، كما تغمر جسدك الناصع الوردي بقبلة واحدة

وسأضع لك من إجلالي واحترامي نعلين من الأطلس تطأهما قدماك المقدستان فتضمهما ضمة لينة كقالبين وفيين يحتفظان بآثار إذلالهما

وإذا عجزت، رغم مهارتي وفني، أن أصوغ لك قمراً فضياً كدرج تخطرين عليه. فسألقي تحت قدميك، أيتها الملكة الظافرة التي تُفدى بسخاء، الحية التي تنهش أحشائي لتسيري عليها عابثة بهذا الوحش الذي يطفح بالبغضاء واللعاب

وستلمحين خواطري مصطفات أمام مذبح ملكة العذارى الساطع المتألق، تعكس أشعتها على الغماء الأزرق فترصعه بالنجوم وهي ترنو إليك بلحاظ من اللهيب

ولما كانت كافة جوارحي تحبك وتعجب بك فإنها ستتحول إلى عود وبخور ولبان ومُر، وستستمر روحي العاصفة تصعد كالبخار إليك أيتها القمة الناصعة المكللة بالصقيع

ولكي تكوني في النهاية، عذراء كمريم، ولكي تمزجي، أيتها اللدة السوداء الهوى بالوحشية،

ص: 32

سأصنع مثل جلاد يشعر بالندامة سبعة أسنة مشحوذة من الكبائر السبع، ثم أتخذ - كمشعوذ لا يُحس - أبعد أغوار حبك هدفاً، فأطعنها جميعاً في فؤادك الخافق، في فؤادك النائح، في فؤادك الذي يسيل منه الدم. . .!

ترجمة

عثمان علي عسل

ص: 33

‌البريد الأدبي

حول معركة الآزور

عندما قرأت نقد الأستاذ محمد التونسي لما نشرته من ترجمة قصيدة معركة الآزور لآلفريد تنيسون، أحسست برغبة يسيرة في ولوج باب مثل هذا النقاش اللغوي الذي ما أراه ينتهي. . . والذي أخشى أن أقول إنه أقرب إلى اللجاج والمماحكة منه إلى البحث اللغوي الصحيح.

على أني أكتفي هنا بمناقشة الفقرة الأولى من كلامه فقط؛ ليصحَّ عنده أن هذا النقد الذي أورده أوهن من أن يثبت لدى النقاش عند التمحيص، فأقول: قلتُ في ترجمة المطلع: ;

كان السير رتشارد جرانفيل مرفئاً بسفينته إلى جدةٍ من جدد شاطئ الفلورز. . . وقال الأستاذ: بينما كان السير رتشارد جرانفيل عند فلورز.

فكأنه يستكثر عليَّ قولي: مرفئاً بسفينة إلى جدة. . . وأنا أسأله بدوري: أين ترجمة الفعل فيما كتب؟

إن الذي يستكثره عليَّ هو ترجمة هذا الذي نسيه، مع شيء من التوضيح لمعناه.

وقلتُ: عندما أقبل زورق ذو مجاديف يهوى من بعيد كأنه الطائر يزف بجناحيه. . . فقال الأستاذ: إذ أقبل من بعيد زورق حربي يخفق خفقان الطائر. والخلاف في صفة الزورق هل هو حربي أو ذو مجاديف؟ وإذا رجعنا إلى معنى كلمة في المعاجم الإنجليزية وجدناه هكذا، وبنفس الترتيب: مركب صغير له مجاديف وأشرعة - زورق ذو ثمانية مجاديف (غالباً) - زورق حربي.

لكن لا يظن الأستاذ أنه ساواني هنا في فهم المعنى؛ فإن في اختياري المعنى الذي فيه ذكر المجاديف دون غيره، التفات إلى قصد الشاعر من تشبيه الزورق بالطائر! إذ أي شبهٍ يرمي إليه إن لم يكن يقصد هذه الحركة التي تحدثها المجاديف، مما يشبه حركة أجنحة الطائر عند طيرانه؟

وقلت: وارتفع صوت من داخله يقول: السفن الحربية. . . الخ فحذف الأستاذ الجملة الفعلية برمتها (وارتفع صوت. . . الخ) وهي كلام ليس له ذكر في أصل القصيدة؛ ولكني

ص: 34

أعجب للأستاذ كيف يشوه الأساليب العربية بمثل هذه السهولة. . .

إن مقول القول لا بد أن يُسبق في كل كلام منثور بالإشارة إلى القائل. ولكن قد يُتجاوز عن ذلك في الشعر فقط نظراً لضروراته المختلفة. ألا ترى إلى الأستاذ الفاضل علي محمود طه كيف يقول في قصيدته حانة الشعراء (عدد 512 من الرسالة):

زنجيةٌ في الفن تحتكم؟

قد ضاع فن الخالدين سُدى!

وهذا كلام يقوله على لسان روَّاد الحانه دون أن يرى ضرورة النص على ذلك. ولكن عندما يجد في الجواب أن الأسلوب يُسعده على ذكر اسم المتكلم، يذكره فيقول:

فأجابت الحسناء تبتسم: الفن روحاً كان؟ أم جسداً؟ الخ

فإذا كان تنيسون قد أعفى نفسه (في هذا الموضع فقط) من الإشارة إلى القائل نظراً للضرورة الشعرية، فليس ثمة ما يعفي المترجم الناثر من أن يوضح الكلام فيقول (وارتفع صوت من داخل الزورق يقول). وكان بودي أن أناقش سائر النقط التي أوردها الأستاذ؛ ولكن صفحات الرسالة لا تتسع لمثل هذه المناقشات اللفظية، فأرجو أن يعاود الأستاذ النظر فيما كتب على ضوء هذه القاعدة؛ وهي أن المترجم مقيد بالأفكار وبالمعاني، بل وأكثر من هذا بالروح الشائع في القطعة المترجمة؛ ولكنه مطلق الإرادة فيما سوى ذلك من الألفاظ والأساليب والتعبيرات، تلك التي لا تزيد على كونها أوعية خارجية للأفكار والمعاني.

(جرجا)

محمود عزت عرفة

الكلمة الأخيرة في ضبط الخلاف بين العربية والعامية

قرأت في العدد (513) من الرسالة، رد الكاتب الفاضل (. . .) على ردي عليه بالعدد (512). وفيه يقول: إنني حكمت باستحالة الضبط المذكور، بينما أتيت بضابط لهذا الخلاف!. . .

وردي عليه الآن أن لفظ مستحيل في عنواني، ينصب على رأيه الجديد في ضبط الخلاف، لا على الضابط الذي نقلته عن العلماء، والذي عليه المعول في التمييز بين العربية والعامية، منذ 1342 عاماً هجرياً بوجه التقريب! وعلى ذلك فلا تناقض في كلامي كما

ص: 35

ادعي

وقوله: إن ردي لا يمت بصلة إلى عنوانه، لا أجد أسطع برهان على دحضه غير إحالة القراء على الرد في العدد السالف الذكر. . .

أما قول الفاضل: إن ردي عليه ينقل الضابط المتواضع عليه بين العلماء، مصادرة لا تصلح في مقام الرد، فالجواب عليه أني اعتبرت هذا الضابط مجمعاً عليه عند العلماء الذين يؤخذ بآرائهم في مثل هذا الشأن. فإذا جاء أحد العلماء أخيراً برأي جديد متطرف - عد هذا الرأي خارجاً على الإجماع، فلا يعتد به. إذن فليس هناك مصادرة، وإنما ذلك نقض للاقتراح من أساسه

وقد تخلص الفاضل من إلزاماتي الموجهة إليه بما لا يجديه نفعاً، ولا يشفع له عند أهل النظر!

وبعد فقبل أن يقول المجمع كلمته في قيمة هذا الاقتراح أظن أن الجدل بيننا قد يطول، فأرى أن نتحاكم إلى القراء في آينا على صواب فيما يقول. وما أكثر قراء الرسالة من العلماء والأدباء، فإليهم نطلب الكلمة الأخيرة.

عبد الحميد عنتر

زهر وخمر

ذلك عنوان الديوان الجديد الذي أخرجه للعالم العربي شاعر اللذة والجمال، وعاشق التيه والضلال، ونحيُّ الأرواح والأشباح، الأستاذ الكبير على محمود طه؛ فكان ببديع خياله ورقيق نسجه وأنيق وشيه وبارع تصويره وجمال طبعه، طاقة عطرية من ألوان الربيع، ومجموعة عبقرية من ألحان الحب، ونشوة علوية من رحيق الشباب، لا يزال العقل والذوق والشعور منها على لذة لا تنقطع، ومتعة لا تنفد

وإن إخراج هذا العمل الفني البارع في وسط هذه الزعازع الحربية والاقتصادية والسياسية دليل على خلوص العقيدة الفنية في نفس الشاعر. وإن القيثار الذي لا تضطرب به اليد ولا يتهدّج عليه الصوت في هذا البحران العالمي، شاهد على صلابة العود وسلامة الطبع في الفنان

ص: 36

يشتمل هذا الديوان الجميل على عشرين قصيدة من آيات الشعر ومبتكراته، تستطيع أن تتخيل طرافة موضوعها من وحي هذه العناوين: ليالي كليوبطرة، ميلاد زهرة، حانة الشعراء، سارية الفجر، أغنية الحب، حديث قبلة، خمرة الشاعر، المدينة الباسلة، حلم ليلة الهجرة، ليلة عيد الميلاد. الخ.

وقد عرضنا عليك نماذج من هذا الشعر الرائع في بعض أعداد الرسالة؛ وهي نماذج خليقة أن تغريك باقتنائه ومطالعته. والديوان يباع في جميع المكاتب المعروفة وثمنه عشرون قرشاً.

شعر منشور!

نشرت مجلة الثقافة في عددها الأخير قصيدة للأديب مصطفى محمد الشكعة بكلية الآداب هالني منها ألا ترتفع العين من خطأ في الوزن فيها إلا لتقع على خطأ. وإلى القارئ الفاضل ما علق بالفكر منها:

هاجني الشوق والولوع اشتياق

(حائر ساهر في سماء القلوب)

وقال أيضاً منها:

إيه يا قلب كم قضيت الأماني

(راقصاً صادحاً كالهزار الطروب)

والقصيدة من بحر الخفيف وهو (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) وإذن فالشطرتان اللتان بين القوسين خطأ يبده المتأمل لأول نظرة. وليس هذا فقط بل إن في البيت الآتي (واواً) زائدة وهو:

مجمع الصحب والأحبة والخلا

ن (و) مأوى لكل فكر خصيب

والأعجب من كل ذلك هو هذا البيت الغريب التركيب والوزن:

(عصف الدهر بالكؤوس وبالمحراب والح

سان والرجاء الرطيب)

وبعد فجدير بالمبتدئ أن يتمهل ولا يتعجل النشر؛ وحقيق بالناشر أن يتأمل فيتجنب الزلل.

حسين محمود البشبيشي

رواية (زينات) تأليف الأستاذ حسين عفيف

هي قصة حب عذري حوت من الغزل أرقه ومن الخلق أقومه ومن المواقف أعنفها، كل

ص: 37

ذلك في أسلوب هو إلى الغناء أقرب، وجمل حاسمة تهز النفس هزَّا.

مغزاها أن الإنسان في هذه الحياة إنما يكفِّر عن ذنوب لم يجنها. ويحاول المؤلف تعليل ذلك فيقول: (فهل تُرى نكفر عن ذنوب نجهلها، اقترفناها في عوالم سابقة، وعاشت فينا خلال حيوات وموتات عدة، حتى إذا ما آن ان نتطهر منها، انتهى بنا المطاف إلى هذا المبكى لنغتسل عليه؟)

وفي سياق الوصول إلى هذا المغزى الرهيب، تعرض الرواية لمشكلات اجتماعية خطيرة كمشكلتي الفقر والزواج، ومشاعر إنسانية دقيقة كالتضحية والصراع بين الروح والجسد.

ومن جميل ما جاء في هذه الرواية قول زينات لمختار قبيل يفرها: (أذاكري أنت يا مختار؟)

فيجيبها: (وما شغلي غيرك؟ نعم سأذكرك يا زينة. سأذكرك كلما غرد طائر، فأبلغني منك رسالة، أو نشرت زهرة عطرها، فنشقت فيه أنفاسك. سأذكرك كلما سمعت حديثك في خرير الجدول، أو أنصت لهفهفة شعرك في حفيف الغصون. سأذكرك في كل وقت، وأراك في ركاب كل شيء جميل: في مواكب الضياء التي يجرجرها الصبح، وفي القمر المطل على المروج مساء، سأراك، نعم سأراك يا زينات.)

فتجيبه: (وأنا أيضاً سأذكرك. وسأبعث إليك بشوقي الجريح في مغرب كل شمس. وبالتحايا مع الطيور العائدة إلى أوكارها. فإذا ما رأيت الدماء في الشفق تسيل، فاعلم أنها أشواقي. أو طرق سمعك نوح حمامة، فاعلم أنه بثي ترجّعه. وسأقطف الأزهار في الصباح، وأضعها في الجدول ليحملها إليك. وأضمخ بالعطر النسيم الساري ليملأ به جوَّك. ارقبني يا مختار في كل شيء. وانظرني في كل شيء. وإذا ما رأيت كوكباً يتهاوى، فاعلم أنني خررت صريعة حبك، ولا تترقبني بعد ذلك.)

والرواية كلها تكاد تكون على هذا النسق. وهي وإن أغرقت أحياناً في الخيال، إلا أن جوّها الساحر الذي يوقعك تحت سلطانه، ينسيك ذلك. كما أن أصحاب المزاج الشعري يجدون فيها بغيتهم. ولقد فازت في مسابقة القصة التي أجرتها وزارة المعارف، كما عنيت بنشرها مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة.

(م. ع)

ص: 38