الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 515
- بتاريخ: 17 - 05 - 1943
السعادة بعد الحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
طريقة الاستجواب في القضاء الإنجليزي معروفة يذكرها الذين حضروا المحاكم العسكرية بمصر أو قرءوا محاضرها، وهي طريقة يذهب فيها القضاة والمستجوبون مذاهب مختلفة، فيبيح بعضهم الإطالة في الجواب، ويشترط بعضهم أن يقتصر الجواب على كلمة واحدة بالإثبات أو النفي أو الامتناع: نعم أو، لا، أو، ممتنع، ولا زيادة
ويتفق كثيراً أن يتعذر الجواب بكلمة واحدة، ويشعر المحامون بذلك فيطلبون إلى المحكمة أن تأذن لموكلهم ببعض التفصيل. وأذكر من مراجعة إحدى القضايا الهامة في إنجلترا أن المحامي اعترض على توجيه سؤال إلى موكله يتعذر الجواب عليه بكلمة النفي وحدها أو بكلمة الإثبات وحدها، وذكر للقاضي أن بعض الأسئلة لا يجاب عليه بنعم ولا بلا دون تعقيب. فسأله القاضي مثلاً فأجابه المحامي: هبني سألت حضرة القاضي المحترم: ألا تزال تضرب امرأتك؟ فبماذا يجيب؟ إن كان لم يضربها قط ثم قال: (لا) ففي هذا النفي معنى الاعتراف بالضرب فيما مضى وإنكاره الآن. وإن قال: نعم فقد خالف الحقيقة. فكيف يكون الجواب بغير بيان الحقيقة بشيء من التفصيل؟
وعندي أن هذا الجواب القاطع إذا تعذر في الوقائع مرة فهو متعذر في الآراء والمعاني مرات. إذ يندر في الآراء والمعاني ذلك الفصل الجازم بين النفي والإثبات. وتكثر فيها المواضع التي تحتمل الجواب بنعم في بعض الأحيان وبلا في أحيان أخرى
ولكني سئلت منذ أيام جملة أسئلة يتقيد فيها الجواب بكلمة واحدة، ومنها: هل يصبح العالم بعد الحرب أسعد مما كان قبلها؟
فقلت: نعم. لأنه أصدق جواب في كلمة واحدة، لا لأنه أصدق جواب على الإطلاق
أما الجواب الأصدق الأوفى فهو مزيج من القولين يتراوح فيه الإثبات والنفي تارة إلى الزيادة وتارة إلى النقصان في أكثر من مكان
فالذي أعتقده أن العالم سيتقدم بعد الحرب في سبيل الحرية، وأن الحرية نعمة وتبعة في وقت واحد. فمن حيث هي نعمة فهي ولا ريب سعادة ينعم بها الإنسان؛ ومن حيث هي تبعة فهي ولا ريب باب للهموم والشواغل وقرينة للعناء الذي يغض من سعادة السعداء
كل تقدم في الحياة فقياسه الأصدق الأوفى عندي زيادة التبعة لا زيادة السعادة
الرجل أقدر على التبعة من الطفل، والعالم أقدر على التبعة من الجاهل، والقوي أقدر على التبعة من الضعيف، والعظيم أقدر على التبعة من الصغير، وهكذا في كل باب من أبواب التقدم بغير اختلاف وبغير استثناء
أما مقياس السعادة فقد يختلف فيه هذا القياس أبعد اختلاف: قد يكون الطفل أسعد من الرجل، وقد يكون الجاهل أسعد من العالم، وقد يكون الضعيف أسعد من القوي، وقد يكون الصغير أسعد من العظيم؛ بل هذا على الجملة هو الأقرب إلى الواقع والمعهود
فالمرجو من عواقب الحرب أن يزداد نصيب الناس من الحرية، وأن يزداد نصيبهم إذن من التبعة، وهنا موضع المزج بين النعمة والعناء، وبين زيادة الرجاء وزيادة المخاوف والمقلقات
لكننا نحصر المسائل الكبرى التي يرجى أن يتناولها التغيير النافع بعد الحرب الحاضرة لنحصر موارد الخير والشر في المستقبل القريب جهد المستطاع
فلا نخالنا ننسى شيئاً كثيراً إذا حصرناها في ثلاث مسائل كبريات تشتمل على شتى الصغائر والفروع، وهي مسألة التجارة العالمية، ومسألة البطالة، والمسألة النفسية الأخلاقية التي يتفق كثيراً أن تجلب الشقاء لصاحبها وهو في غمرة الثروة والعمل المجيد
فمسألة التجارة العالمية كانت مورد الشر العميم من ناحية التنافس بين الدول على الأسواق وعلى الخامات
وقد نظر الأمريكيون والإنجليز في علاج هذه المشكلة فخرجوا منها بطريقتين لا يصعب التوفيق بينهما على ما بينهما من خلاف:
طريقة الأمريكيين، وهي تقوم على فتح الأسواق بغير تمييز بين الأمم، وعلى تثبيت العملة العالمية بضمان من الذهب والمعادن النفيسة تشترك فيه كل أمة بالمقدار الذي يناسب طاقتها التجارية
وطريقة الإنجليز، وهي تقوم على تعاون الأمم المشتركة في المصالح، وعلى تثبيت العملة العالمية بإنشاء مكتب دولي يتولى الموازنة بين الصادرات والواردات، أو بين المبيعات والمشتريات، على حسب الطاقة الاقتصادية التي تحتمل المراجعة والتعديل من حين إلى
حين
وبين هاتين الطريقتين فرق في التنفيذ وإن كانتا في الجوهر أدنى إلى الاتفاق. ولكن المعول هنا على الضرورات العالمية التي لن تحكمها إرادة الأمم والحكومات. فإذا جاء دور التنفيذ فالمصلحة العالمية لها من القوة والرجحان ما يكفل لها الظهور والغلبة على كل إرادة، وهي خليقة أن تزيل الفروق وتقارب بين المسافات
أما مسألة البطالة فالتأمين الاجتماعي الذي تتسابق الحكومات المتحالفة في استنباط مشروعاته كفيل بتخفيف أعبائها عن كواهل الصناع والفقراء على الإجمال. وعلاج هذه المسألة ضرورة قومية في كل أمة لا محيص عن الاهتمام العاجل بها بعد تسريح الجنود واستئناف الصناعة الإنشائية للتعمير والترميم. وهذه الضرورة القومية وحدها هي التي تلجئ الدولة قسراً إلى علاج مشكلة التجارة العالمية؛ لأن المصانع لن تدار بغير تنظيم الخامات والأسواق، ومسألة البطالة والتأمين الاجتماعي لن تحل بغير إدارة المصانع وإعادتها إلى الإنشاء والتعمير، وهذه الضرورة العاجلة هي إحدى الضرورات التي قلنا إنها كفيلة بتنظيم التجارة بين الأسواق العالمية، وإنها أقوى وأقدر على الغلبة والظهور من إرادة الساسة والحكومات
أما المسألة النفسية أو المسألة الأخلاقية فهي في اعتقادنا أعضل هذه المسائل وادعاها إلى التفكير والتدبير
ومن بواعثها الكثيرة اختلال الأعصاب الذي ابتلى به ألوف الألوف من الجنود المشتركين في القتال، وابتلى به ألوف الألوف من السكان المروعين بالغارات وفقد الأعزاء
ومن بواعثها الكثيرة اختلال التوازن بين عدد الفتيان والرجال، وعدد الفتيات والنساء، واضطرار الملايين من النساء العاطلات إلى المغامرة في سوق العمل أو المغامرة في سوق الشهوات
ومن بواعثها الكثيرة فقد البيوت آباءها وعائليها وأركان التربية والخياطة فيها
ومن بواعثها الكثيرة ضغائن المغلوبين وآلام المستضعفين الذين داستهم القوة وفرّج عنهم النصر وهم لا يملكون منه إلا التشيع والاغتباط
ومن بواعثها الكثيرة خلو النفوس من المذاهب والعقائد التي تبددت في الحرب الحاضرة
وعجزت عن إمداد النفوس بالثقة والعزاء
وأصعب ما في علاج هذه البواعث أنها لا تعالج بالقمع لأن كبت الأهواء هو الدال العضال لمن يصابون بمثل هذا المصاب؛ ولا تعالج بالإباحة لأن (المعاصي) كما قال الأباصيري تقوي شهوة النهم ولا تشبع الشهوات
إنما تعالج هذه الآفة بالإيمان و (إحياء الروح) التي تعصم نوازع الفساد في الأجساد
وإنما يتوطد هذا الإيمان بالإقبال على العمل المفيد، وإقناع كل من خامره الشك في مصير العالم بأن العالم يسعى إلى غاية مقصودة وغاية مستطاعة ولو في مرحلة منها بعد مرحلة، وأن الحرب لم تذهب عبثاً ولم يرجع الناس بعدها إلى مثل ما كانوا عليه قبل فناء ما فني وخراب ما خرّب وضياع ما ضاع وهو كثير لحد كثير. فإذا وجد الناس أنفسهم بعد الحرب عاملين مجتهدين، ووجدوا أن عملهم واجتهادهم عوض صالح لما فقدوه وأصيبوا به من الخسائر والقلق والعذاب، وأيقنوا أن الطامة الكبرى لم تذهب عبثاً في غير مغنم وفي غير صلاح وإصلاح، وأن داء الإنسانية ليس بالداء العضال الميئوس منه أبد الزمان، ففي هذا وأشباهه من دواعي الإيمان والعقيدة ما يبعث العزاء ويشحذ الهمم ويعصم الأرواح من مزالق الشهوات
وهنا تدور الحلقة المفرغة التي لا يُدرى أين طرفاها. فإذا عولجت مسألة التجارة العالمية عولجت مسألة البطالة والتأمين الاجتماعي. وإذا عولجت هاتان المسألتان ثابت النفوس إلى التفاؤل بمصير العالم وتهيأت القلوب للتصديق بغاية شريفة في الحياة، وظفر المصلحون النفسانيون ببلسم الجراح وأكسير الأمل وعنصر العقيدة التي تؤيدها المشاهدات العيانية ومطامح الآمال
ولك أن تقول إن النفوس إذا صدقت عملت وانشرحت لعملها، وإذا عملت وانشرحت لعملها لم تتعاظمها المصاعب ولم يعسر عليها تفريج الأزمات وفض المشكلات
فهما قولان متقاربان
وليس من الضروري أن نعرف أين الابتداء وأين الانتهاء في هذه الحلقة المفرغة. فإن النفس الإنسانية لن تعيش أبداً في طور من الأطوار خلواً من المزيج الذي تتلاقى فيه دواعي العمل ودواعي العقيدة، وبأيها ابتدأت فأنت واصل إلى نهاية تستحق عناء الوصول
إليها
سيصبح العالم بعد الحرب أسعد مما كان قبلها، فإن شككت في ذلك فالذي لا أشك فيه أنه سيتقدم في سبيل الحرية والتبعة وهو غنم جليل يساوي خسارته في الحروب. ورجائي الذي يرجوه معي من يحبون الحياة ألا تقضي سعادة العالم بعد الحرب على أسباب شكواه، لأن القضاء على أسباب الشكوى قضاء على أسباب الحركة وأسباب التجديد وأسباب الطموح إلى المثل الأعلى.
عباس محمود العقاد
السياسة التوجيهية العلمية
في الأزهر
للأستاذ محمد محمد المدني
ذلكم أيها القراء هو عنوان المحاضرة التي حدثتكم عنها من قبل، وقد كان لهذه المحاضرة شأن لا أجد بأساً في أن أقص عليكم منه طرفا:
عجب الأزهريون أول الأمر حين سمعوا أن محاضرة بهذا العنوان سيلقيها أزهري في دار أزهرية، ثم عجبوا وازداد عجبهم حين علموا أن صاحب هذه المحاضرة هو فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت:
قالوا: هذا موضوع شائك دقيق ينبئ عنوانه عما سيقال فيه مما نعرفه ونشهد آثاره، ولا بد أن يمس الكلام فيه بعض أصحاب السلطان من قريب أو من بعيد، وأصحاب السلطان في كل زمان ومكان يرون أنفسهم في منزلة من السمو ليست لغيرهم: فهم لا يحتملون في أنفسهم ما يحتمله سائر الناس، ولا يصبرون على ما يصبر عليه سائر الناس؛ وهم يغالون فيما لهم من حقوق يجب أن تُرعى، ويغمضون عما للناس من آمال (ينبغي) أن تحقق؛ وهم يرون من حقهم أن يشكّوا في الناس إذا خالفوهم في سبيل الحق والواجب، ويرون من حسن السياسة أن يرفضوا النقد إذا كان صريحاً مسفراً، وأن يعرضوا عن النصح إذا لم يُلف لهم في أوراق من الورد والريحان! فأيّ أزهري يعلم ذلك ثم يعرّض نفسه لما يستلزمه الخوض في مثل هذا الحديث؟
فلما سمعوا اسم (شلتوت) قالوا: هذا أعجب وأغرب! ولم يكن عجبهم إلا لأن صاحب هذا الاسم صديق حميم لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، ونصير قوى لإصلاحه طالما دافع عنه، وأشاد به وأيده بقلمه ولسانه وبحوثه العلمية؛ وهو مع هذا وذاك وكيل كلية الشريعة، وعضو في مجلس إدارتها، بل هو عضو في جماعة كبار العلماء، فكيف يتكلم إذن في هذا الموضوع، وكيف يذكر حقائقه، ويعرض للناس وقائعه؟
عجبوا لذلك كله أول الأمر، وتساءلوا عنه في مجالسهم؛ ولكن هذا العجب لم يطل بهم كثيراً، فقد تأملوا الأمر من جميع جهاته وروّوا فيه فتبين لهم أن الذي أنكروا منه غير منكر، وحينئذ جرت الأحاديث بينهم على نحو آخر:
قالوا: أن الكلام في هذا الموضوع، ولو كرهه بعض الناس، لا بد منه لمصلحة الأزهر ولمصلحة الثقافة الإسلامية العربية. فلو كان الأزهر معهداً من هذه المعاهد المتشابهة المتكررة لهان الأمر، ولجاز لأبنائه أن يجاملوا فيه أو يصانعوا، ولقال الناس: معهد من المعاهد إن ضاع ففي غيره عوض منه، ولكن الأزهر ليس كذلك، وإنما هو الجامعة الكبرى التي تعتز بها الأمة الإسلامية في مصر والشرق، بل يعتز بها العالم كله شرقيّه وغربيّه. هو الجامعة الفريدة في نوعها، القوية بتاريخها التي انحاز إليها تراث الفكر الإسلامي في أجيال بعد أجيال!
وقالوا: إذا كان (شلتوت) صديقاً (للمراغي) فذلك أقرب إلى نجاح دعوته، فإن كلام الصديق أيسر على السمع، وأدخل إلى القلب. وإذا كان (شلتوت) نصيراً للاصلاح، حريصاً على النظام القائم إلى درجة الدفاع عنه فذلك أنفى للتهمة، وأبعد من الشبهة. وإذا كان (شلتوت) متصلاً بالعمل، مكابداً لشئونه فذلك أدنى إلى القسط، وأهدى إلى الرشاد
فلتُقل إذن كلمة الحق، وليقلها (شلتوت) في صديقه ولصديقه، وليصدع بها عالية بريئة يبتغي بها وجه الله، وليؤثر الأزهر على صاحبه وعلى عاطفته في صاحبه، فإن الحق أحق أن يتبع، وإن الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المؤمنين! ولقد كان ذلك فكانت هذه المحاضرة
ولست أريد في هذا المقال أن أثبت شيئاً من نصوصها، فقد سمعها الناس حين ألقيت، وقرأها الناس حين طبعت ونشرت، وإنما أريد أن أذكر أهم المبادئ التي اشتملت عليها:
لقد مهد فضيلة الأستاذ الكبير لموضوعه بمقدمة بين فيها الغرض من الأزهر وعرض لتاريخه العلمي من يوم أن انسلخت عنه الصبغة الشيعية التي أنشئ لتركيزها وتنميتها والقضاء بها على المذاهب الأخرى، ووصف العلل التي ورثتها عن ماضيه الطويل فصرفته عن التفكير والإنتاج وقصرته على غير النافع وغير المستقيم من عناية بالمناقشات اللفظية، وتقديس للآراء والإفهام التي دونها السابقون، واشتغال بالفروض العقلية والاحتمالات التي لا تقع، وباختراع الحيل التي يتخلص بها من الحكم الشرعي، ومن تغليب لروح التعصب المذهبي، وتحريم لتقليد غير المذاهب الأربعة. . . الخ. وبعد أن فرغ من هذا التمهيد وأيد ما ذكره بالأمثلة العلمية أخذ يفيض في موضوعه بما يرجع
إلى المبادئ الآتية:
(1)
كانت أول صيحة أيقظت الأزهر من نومه، ونبهته إلى واجبه، هي صيحة الأستاذ الإمام المغفور له الشيخ محمد عبده. (فكانت مبادئه وأفكاره بمثابة شعاع انبثق في أفق الأزهر. انتفع به من انتفع، وازورّ عنه من ازورّ، ولكنه مع ما قوبل به من محاولات متعددة لإطفائه ظل قويا وهاجا يجذب إليه أنظار المؤمنين، وينفذ إلى بصائر المخلصين. . . وإن الأزهر لينتفع الآن في كلياته ومعاهده، وفي القضاء الشرعي والإفتاء، والوعظ والإرشاد بطائفة كبيرة من العلماء الذين تخرجوا في ظلال هذه النظم التي تستمد من إصلاح الشيخ عبده، لهم أثر واضح في حياة الأمة من جميع نواحيها)
وفضيلة الأستاذ المحاضر ينفي بهذا فكرة ربما فهمت من عبارة ذكرها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في مذكرته الإصلاحية التي وضعها في سنة 1928 إذ يقول في شأن النظم التي تقدمت إصلاحه: (وإني أقرر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم، وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه!)
(2)
إن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي قد وضع في عهده الأول مذكرته الكبرى في إصلاح الأزهر (تلك المذكرة التي لا نعلم مثلها في تاريخ الأزهر - حديثه وقديمه - قوة وفهماً وإدراكا للعوامل المختلفة المحيطة بالأزهر، والتي جعلها برنامجه في الإصلاح المنشود، ودستوره الذي عاهد الناس على أن يسير على مبادئه في النهوض بالأزهر وإعلاء شأنه، وتحقيق آمال الأمة الإسلامية فيه)(تلك المذكرة التي علقت عليه الأمة من أجلها آمالها الكبرى في إعلاء شأن الدين وإنهاض أهله)
وهو يرى في هذه المذكرة رأياً معيناً في الكتب المعقدة (التي لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية)
ويرى فيما يختص بدراسة الفقه أنه (يجب أن يدرس دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة. . . الخ)
ويرى في دراسة التفسير كذا، وفي دراسة الحديث كذا، وفي دراسة اللغة العربية كذا. . . إلى غير ذلك مما سجله في مذكرته
ولقد مضى على هذا الإصلاح أمد هو فيما يرى المصلحون غير قصير، ونحن مع ذلك لم نزل حيث كنا، وإن حدث اختلاف في بعض الصور والمظاهر:
(لم تزل كتبنا هي الكتب المعقدة التي لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية)
(لم نحاول أن نقرب للناس ولا لأنفسنا هذه الكتب، ولم نحاول أن نأخذ النافع منها لنعرضه عرضاً يروج عند أهل العصر)
(ولم نزل ننفق أوقاتنا الثمينة في المناقشات اللفظية، وفي خدمة نصوص المتون وعبارات المؤلفين)
(ولم نزل نشغل أنفسنا بالفروض الفقهية كما اشتغل بها السابقون. ولم نزل نحس ثقل العلم ولا نجد في أنفسنا اندفاعاً إلى تحصيله، ولا رغبة في المثابرة على طلبه. ولم نزل نحضر العلم حضوراً زمنياً لنقطع به أعوامنا الدراسية عاماً في إثر عام)
(ونحن لا نقرأ من المقررات إلا نسباً ضئيلة تافهة لا تكوّن ملكة ولا تعد تحصيلاً)
3 -
يقرر المحاضر أن هذه الحالة المؤسفة هي حالة الأزهر الواقعية، وأن فضيلة الأستاذ الأكبر وجميع معاونيه يعلمونها فيقول (هذه حالتنا التوجيهية الواقعية، وهي حالة عامة تشترك فيها الكليات جميعها على اختلاف بينها في النسب، وهي مسجلة في التقارير التي تقدمها لجان الامتحان إلى الرياسة العامة إثر كل امتحان، وفيها يقول حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الأكبر: (وهناك أمثلة ظاهرة العوار في قراءة المقررات تعلمونها كما أعلم، وتشعرون بأنها أمثلة سيئة لا يجوز أن تبقى ماثلة) ولكنها مع ذلك بقيت ماثلة، وازدادت سوءاً
4 -
يقرر فضيلة المحاضر (أن من المؤلم له أن يصرح في موقفه هذا بأن جهوداً كثيرة بذلت في سبيل إصلاح هذه الحالة، ولكنها لم تقابل بإخلاص ولا تضافر على تنفيذها، فماتت تلك الجهود، واستمرت هذه الحالة)
وهذا تصريح خطير من رجل مسئول. ولعل فضيلته يفصل للناس ما أجمله فيه حتى يعلموا: من هم المسئولون عن موت تلك الجهود!
5 -
يقرر فضيلة المحاضر (أن العامل الذي وقف بالأزهر هذا الموقف لا يرجع إلى
الطلاب ولا إلى الأساتذة، فإن هؤلاء جميعاً خاضعون لنظام يظلهم وتوجيه يوجههم. ولا يمكن أن يرجع إلى المناهج، لأن المناهج في جملتها قوية صالحة لتخريج نوابغ من العلماء في الفقه والتشريع وفي غير الفقه والتشريع) وإنما يرجع إلى أن الإصلاح لم ينفذ بالروح التي وضع بها، ولم يتعهد حتى يؤتي ثماره، ولم يتهيأ له ما ذكره فضيلة الأستاذ الأكبر في مذكرته الإصلاحية حيث يقول:
(يجب أن تكون الخطوة إلى ذلك الإصلاح خطوة جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ، وقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة)
ويقول فضيلة الأستاذ المحاضر: (وإلى أن تحدث هذه الخطوة الجريئة التي يقصد بها وجه الله، ولا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ سيبقى الأزهر في عزلته عن الأمة، لا يسعفها بحاجتها، ولا تقدره في وجوده ولو سُنّ له ألف قانون!)
أما بعد:
فهذه هي المحاضرة التي وعدتكم بها - أيها القراء - كمثال من أمثلة الظاهرة الجديدة التي ظهرت في الأزهر هذا العام، وقد تبينتم منها حالة الأزهر الواقعية، وسياسته التوجيهية، ولو كان فضيلة الأستاذ الأكبر لا يعلم، أو كان مع علمه لا يرى أن يعمل، أو كان مع عزمه لا يقدر، لكان الأمر مفهوماً؛ ولكن فضيلته يعلم هذه الحالة حق العلم، ويعترف بها في أحاديثه وكتبه الرسمية، ويعد من يكلمه فيها بأنه سيتداركها ويسرع إلى إنقاذ الأزهر من سوء مغبتها، وهو مع ذلك كله مالك لأمره غير مغلوب عليه، تحترمه الأمة والحكومة ويعطف عليه المليك حفظه الله. أليس هذا موقفاً تحار فيه العقول؟ وهل يطلب منا أن نقول فيه كما يقول الراسخون في العلم عن المتشابه:
(آمنا به كل من عند ربنا)
لا. لا، ولكنا نقتبس ما اقتبسه الأستاذ الزيات حين نشر مذكرة فضيلته في إصلاح الأزهر فنقول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
…
فإن فساد الرأي أن تترددا
محمد محمد المدني
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
تجميل القاهرة - قطار بور سعيد - قطار الديزل - القيظ في أسيوط - المدينة المهجورة - كلمة صريحة إلى أهل أسيوط
تجميل القاهرة
المعروف أن رجال الهندسة لا يرون من حق رجال الأدب أن يتحدثوا في شؤون هي في الأصل من أعمال المهندسين، ولكني مع ذلك سأسوق ملاحظة تبين أن تخطيط المدن يقوم على قواعد ذوقية قبل أن يقوم على قواعد هندسية، إن جاز الفصل بين الهندسة والذوق!
هل سمعتم حديث (نفق شبرا) وقد انتظرناه عدداً من السنين؟
لا أدري كيف سمحنا بأن ننفق في إنشائه ألوفاً مؤلفة من الدنانير، ثم تكون النتيجة أن يبقى جسر شبرا في حالة لا تريح من يسيرون على الأقدام، لأنهم مضطرون إلى استعمال تلك السلالم المتعبة في الذهاب والإياب، بغض النظر عن المتاعب التي يتعرض لها من يريد ركوب ترام شبرا وهو في ميدان باب الحديد
منشأ هذه المضجرات أننا أردنا أن تكون محطة القاهرة محطة واحدة، وكان يجب أن تكون فيها محطة لقطارات الشمال ومحطة لقطارات الجنوب، ولو فعلنا ذلك لظفرت القاهرة بميدان جديد، ولكان من السهل أن تُرفع متاعب من يتجهون إلى شبرا، وهي اليوم منطقة تموج موجاً بالسكان، وستكون مصدر نشاط صناعي واقتصادي في المستقبل القريب
يجب أن نبادر إلى رفع جسر شبرا، وأن نفصل محطة الشمال عن محطة الجنوب، وهذا لا يمنع من بقاء الطريق الذي تمر به قطارات البضائع، وهي قليلة العدد، وأغلبها يمر بالليل، فلا يعرقل حركة المرور إلا في لحظات لا يُحسب لها حساب.
لقاء القاهرة
خطر في البال هذا الخاطر وأنا أمتطي قطار الديزل إلى الصعيد في عصرية الخميس الماضي، ثم خطر في البال أيضاً ما تعاني المنطقة التي يمر فيها قطار الصعيد بين باب الحديد وجسر امبابة، وهي منطقة لا تقع فيها العين على منظر جميل، لأنها من ذيول
بولاق، وكان الظن أن نفهم أنها أول ما يرى القادم على القاهرة من ناحية الصعيد
منذ ثلاث سنين كتبت كلمة في مجلة الرسالة أدعو فيها إلى تجميل مدخل القاهرة في نظر القادم من الإسكندرية أو بور سعيد فما استمع مستمع ولا استجاب مستجيب، وأنا اليوم أعجب من أن تبقى منطقة بولاق على ما كانت عليه قبل التمدن الحديث، مع أن لبولاق تاريخاً من أعظم التواريخ، فهي التي أنشأت المدافع لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وفيها أقيمت أول مطبعة لإحياء المؤلفات العربية والإسلامية. وهل في العرب من لا يدين لمطبعة بولاق، ولو كان في أقاصي الصين؟
قطار بور سعيد
الواقع أننا لا نفكر في خلق الجاذبية في صدور من يفد على الديار المصرية. . . هل تعرفون شيئاً عن قطار بور سعيد؟
وهل تصدقون أن أجرة الباخرة من مارسيليا إلى الإسكندرية أرخص من أجرة المثل في السفر من مارسيليا إلى بور سعيد؟
لذلك أسباب، ولكني أحب أن أجعل قطار بور سعيد من أهم الأسباب
هو قطار سخيف، وهو لسخفه يجهل أنه يقاسي زوابع الصحراء نحو ساعتين، فليس بالدرجة الثانية ستائر تمنع هجوم الرمل والتراب. أما الدرجة الثانية فطعام ركابها عجاج في عجاج. . ويا ويل من يركب قطار بور سعيد وهو خفيف الجيب!
وبهذه المناسبة أذكر أن الدرجة الثانية بقطار الصعيد ليس فيها مراوح، فماذا يصنع الركاب في وهج الصيف، إذا كتب عليهم أن يصطلوا القيظ بين الأقصر وأسوان؟
شيئاً من الرحمة، يا مدير سكك الحديد، فقد سمعت أنك من الرحماء؟
وما حال المقصف الذي يوجد في بعض القطارات لا كل القطارات؟
هو محرم على ركاب الدرجة الثالثة تحريماً قاطعاً، وقد يكون فيهم من يحتاج إلى تناول الطعام في مكان مريح ليدفع مشقة السفر وهو قطعة من العذاب
يا ناس، يا ناس، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء!
قطار الديزل
سمي باسم المخترع وهو ألماني الأصل، وليس بقطار الديزل مقصف، مع أنه خاص بركاب الدرجة الأولى والثانية، ومع أنه لا يقف إلا في محطات قليلة، وهو حين يقف لا يتمكث غير دقيقة أو دقيقتين
بهذا القطار حنفية تجود بالماء لمن يقبل الجود من الأشحاء، وما قيمة الجود بماء لم يسمع بأخبار الثلج، ولا يعرف الطريق إلى تنسم الهواء؟
جرّبوا السفر بهذا القطار بعد الظهر في مثل هذه الأيام وفي طريق الصعيد، لتعرفوا كيف يبخل القطار على ضيوفه الأعزاء بكمية من الماء المثلوج لا تتكلف خمسة قروش
وقف الديزل في محطة بني سويف، فتصايح الركاب يطلبون من الباعة إمدادهم بأكواب الليمون، ليبتلعوها في مثل ومضة البرق، ويقوم القطار قبل أن يتناول المسافرون ما يخفف وقدة الظمأ، وبعد لحظات يقف القطار، وننظر فنعرف أنه وقف إكراماً لصاحب (بوفيه المحطة) وكان بقي في القطار إلى أن يتسلم ما له عند المسافرين من نقود!
فما الذي يمنع من أن يقف القطار بالمحطة نحو ثلاث أو خمس دقائق، ليستغني عن هذا التلطف في معاملة صاحب البوفيه، وليضمن راحة المسافرين من بعض هذا العناء؟
أيكون من الصعب إمداد ثلاجة القطار بزادها من الثلج، ولو بإضافة زيادة على أثمان التذاكر؟
أما بعد فهذه شؤون تبدو من التوافه في نظر بعض الناس، ولكنها شؤون على جانب من الأهمية، والاهتمام بها قد يغيّر ما درجنا عليه من الغفلة عن تذوق الحياة
وهل كان البدوي الذي يعاني متاعب السفر في البيداء أشقى من الحضري الذي يمتطي قطار الديزل، وهو على ما وصفت؟
لقد ظمئت بهذا القطار ظمأ لم أشعر بمثله وأنا أخترق البادية من دمشق إلى بغداد، لأن مطية نيرن تفكر فيما لا تفكر فيه مطية ديزل، ولأن الشركات تصنع في ملاطفة الزبائن ما لا تصنع الحكومات. . . وما أحب أن أزيد!
القيظ في أسيوط
دخلت أسيوط وقد انتصف الليل أو كاد، فرأيتها في حال من القيظ لا تطاق، فماذا صنعت
الأيام بجو هذه المدينة الفيحاء؟
إنها بعيدة من النيل بعض البعد، فكيف أنشئت على هذا الوضع، وما كان لمدينة مصرية أن تُنشأ إلا على ضفاف النيل؟
كانت أسيوط في الأصل على شاطئ نهر يجاورها من الغرب، نهر يساير الجبل من الجنوب إلى الشمال، وقد انطمر هذا النهر، ولم يبق ما يدل عليه غير بقايا من قناطر محطمة كان لها شأن فيما سلف من الزمان
وكان بأسيوط برك واسعة، كالبرك التي كانت بالقاهرة، من أمثال بركة الأزبكية وبركة الرطلي وبركة الفيل
والبركة كانت كلمة مقبولة في الأيام الخوالي، ولها في أشعار البحتري مكان، وقد أخذتها اللغة الأسبانية عن اللغة العربية، وابتذال هذه الكلمة جديد في حياتها اللغوية، فهي اليوم ترادف كلمة المستنقع، ومن هنا قيل (بطينة ولا غسيل البرك)
البركة قديماً هي البحيرة، والبحيرة تصغير بحرة مؤنث بحر، والبحر في أصل اللغة هو مجتمع الماء الغزير، بغض النظر عن العذوبة والملوحة، فما يخطئ المصريون في تسمية النيل بحراً، مع أنه عذب لا أجاج
وأقول إن البرك التي كانت بالقاهرة وأسيوط هي بحيرات، فقد كانت تأخذ مددها من النيل في أيام الفيضان، ثم يبرك فيها الماء بعد انحسار الفيضان، فهي بركة من أجل هذا، إن صح هذا التخريج، وهو صحيح
كانت برك القاهرة كثيرة المنافع، فقد كانت مجالاً لنزهات الأصيل والعشيات في السفائن اللطيفة، وكانت منادح لتوالد الأسماك. وكتلك كانت برك أسيوط، وإن لم يسجل الأسيوطيون بركهم في الأشعار كما صنع القاهريون
والذي يهمني في هذا المقام هو النص على أن برك أسيوط طُمرت كما طُمر النهر الذي كان يساير الجبل، وهذا من أسباب عنف القيظ في أسيوط
لقد حاول عبد السلام الشاذلي باشا تحويل تلك البرك إلى حدائق فتم له ما أراد في بركة واحدة، وبقيت البرك الأخرى في حال من الجفاف تزيد وقدة القيظ
أنا أعرف أن من العسير نقل أسيوط إلى شاطئ النيل في سنة أو سنوات، فلم يبق إلا أن
نقترح المبادرة إلى تزويدها بالحدائق الكثيرة ليخف عذابها بلوافح الصيف
المدينة المهجورة
هي مدينة أسيوط فقد زهد فيها كبار أهليها من المسلمين والأقباط، وكادت تفقد اللقب الذي يجعلها عاصمة الصعيد
ومن يصدّق أن أسيوط كانت قبل عشرين سنة أنضر مما هي اليوم؟
ومن غريب ما لاحظت أن أسيوط أقل الحواضر المصرية مسايرة للحياة الأدبية، ولولا الرعاية لحق هذه المدينة لقلت إنها لا تعرف من مطبوعات القاهرة بعض ما تعرف دمشق أو بيروت أو بغداد.
هل تتغير هذه الحال بإنشاء الجامعة الثالثة جامعة أسيوط؟
إن الجلال السيوطي وهو أشهر من مجّد اسم أسيوط في العهد الإسلامي لم يتخذ هذه المدينة دار مقام في الحياة ولا بعد الممات، فهل كان يعرف زهدها في المجد العلمي والأدبي؟
كلمة صريحة إلى أهل أسيوط
في أسيوط وحدها يمر اليوم وأيام بلا مدد من الجرائد والمجلات، فكيف يقع ذلك ومدينة أسيوط هي الثالثة أو الرابعة بين كبريات المدائن المصرية؟
اتقوا الأدب في مدينة كان لها في الأدب تاريخ
عزيز على أن أقول في أسيوط كلاماً كالذي قلت، ولكن ماذا أصنع وأنا موقن بأنها أقل اهتماماً بالأدب من حواضر السودان، وبيننا وبينه أبعادٌ طوال؟
زكي مبارك
على هامش النقد
الأدب (المهموس)
والأدب الصادق
للأستاذ سيد قطب
حكاية أن (الأدب تعبير عن الحياة) حكاية معروفة من معاد القول الحديث عنها. وإن كان تفسيرها وتطبيقها لا يزالان موضع اختلاف عند استعراض النماذج. والنموذج في الفن أبلغ دائماً في بيان المذهب من النظريات العامة.
وقد تحدث الأستاذ (محمد مندور) في مقالات ثلاث بالثقافة عن (الشعر المهموس) ثم تحدث في العدد الماضي عن (النثر المهموس) وأعاد قصة (الشعر المهموس)
وفي جميع هذه الكلمات كان مندفعاً لأن يثبت أن أدباء المهجر هم (شعراء اللغة العربية) وأن (بين شعرهم وشعر الكثير من شعراء مصر قرونا) وكذلك نثرهم الشعري
وليس يسوءني ولا يسوء أدباء مصر أن يكون الأمر كذلك حقيقة، فالتعصب هنا لا محل له؛ ولكن الذي يهمني ويهم أدباء مصر ويهم الأدب في ذاته، أن (النماذج) التي جاء بها والدعوة التي يدعو بها إلى هذه النماذج هي توجيه مؤذٍ في فهم الأدب وفهم الحياة!
وأنا أفهم مثلا أن يحب الأستاذ مندور أو سواه لوناً خاصاً من ألوان الأدب، فتلك مسألة مزاج؛ ولكن الذي لا أفهمه أن يصبح هذا اللون الواحد دون سواه هو الأدب الصحيح الراقي المتقدم، وأن يكون ما عداه من الألوان مرة (سخيفاً) كما يقول عن شاعر كبير معاصر، وطوراً خطابياً كما يقول عن شاعر كبير قديم. . . فذلك ضيق في الإحساس، يجوز أن يقنع به قارئ يتذوق ويلذ له لون واحد من الغذاء الروحي؛ ولكنه لا يصلح لمن يتصدى للنقد والتوجيه
وما اللون المفضل الذي يدعو إليه الأستاذ؟
من جميع النماذج التي اختارها حتى الآن - والنموذج كما قلت أكثر دلالة من الشرح العام - أستطيع أن أسمي هذا اللون باللون (الحنيّن) حسب تعبير أولاد البلد من القاهريين!
الذي تحس فيه (بالحنيّة) أو بالهمس والوداعة الأليفة حسب تعبيره هو!
وهذا الأدب الحنيّن قد يكون فيه الصادق السليم، وقد يكون فيه الكاذب المريض. ولكنه على كل حال لون واحد من ألوان الأدب، يعبر عن مزاج واحد من الأمزجة، في حالة شعورية واحدة من حالات الشعور
فإذا نحن جعلنا همنا أن نهمس فقط، وأن نكون وديعين أليفين فقط، وأن تكون الحنية هي طابعنا فقط؛ فأين نذهب بالأنماط التي لا تعد من حالات الشعور وحالات النفوس وحالات الأمزجة، في هذه الحياة الحافلة بشتى الأنماط؟
يسمي الأستاذ شعر المتنبي شعراً خطابياً، ويعني أن المتنبي لا يهمس ولا يلقي إلينا تعبيره في دعة وفي حنيّة أو في همس كما يقول مثلا ميخائيل نعيمة
أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه
وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه
. . . إلى الآخر
وإن الأستاذ مندور ليقف معجباً أمام صورة هذا الجندي المنهوك الذي يلقى بجسمه في أحضان خلانه، وهي صورة وديعة منهوكة قد تكون جميلة في مكانها؛ ولكن أي خطأ ينتظرنا حين نطالب المتنبي العارم الطبع، الصائل الرجولة، بأن يحدثنا في وداعة كوداعة ميخائيل نعيمة؟
أنا لا أحاول (مؤقتاً) المفاضلة بين الطبيعتين، ولكني أحاول فقط أن أقول: إن الصدق هو الذي يجب أن ننظر إليه حين نقف أمام عمل الشاعر أو الفنان بوجه عام. وإن المتنبي لصادق أجمل الصدق، وهو يجلجل ويصلصل في شعوره وفي أدائه، لأنه هو هكذا من الداخل. وتلك صورة لنفسه ولمزاجه، وإنها لنفس صادقة، وإنه لمزاج أصيل
يجب أن نوسع آفاقنا ولا سيما حين نقف موقف النقاد - فلا نحكم مزاجنا الخاص، الذي قد لا يكون أصدق الأمزجة، بل الذي قد يكون ثمرة (عقدة نفسية) أو حادثة عارضة من حوادث حياتنا الشخصية
وإنه ليستلفت نظري أن جميع النماذج التي استعرضها الأستاذ مندور هي من اللون الذي يشيع فيه الأسى المتهالك المنهوك. فهل أفهم أن هذه عناصر محببة إليه وحدها، وأن الشاعر لا يكون شاعراً حتى تشيع هذه العناصر في شعره؟
أعرض هنا تعبيراً أفلت منه، وله دلالة خاصة على هذا المزاج. ففي قصيدة (لنسيب عريضة) ساق الحديث هكذا:
يا نفس مالك والأنين؟
…
تتألمين وتؤلمين؟
عذبت قلبي بالحنين
…
وكتمته. ما تقصدين؟
(وهانحن منذ المقطوعة الأولى في جو الشعر (فالنفس تئن)!
إذن كانت النغمة التي استرعت سمعه وجعلته يحس بأنه دخل في جو الشعر هي أن (النفس تئن). ولهذا دلالته، وهي الدلالة التي تنطق بها جميع مختاراته حتى الآن. وهو (مزاج) خاص له أن يتذوق ما يحبه من الألوان، ولكن ليس له أن يتولى مهمة النقد والتوجيه كما قدمت
وأريد أن أسأل: ألا ندخل في جو الشعر إلا إذا سمعنا هذا الأنين؟ و (الهمس) بالسرور والفرح والانطلاق؟ ألا يكون شعراً على هذا الأساس؟
إن الأستاذ مندور لم يقل هذا بالضبط، ولكن النماذج التي جاء بها جميعاً تكاد تنطق فذلك إذن توجيه مؤذ، يكاد الدافع إليه يكون دافعاً (مرضياً) وهو ما يدعو إلى الحذر الشديد!
ولا أحب أن أقف من الشعر المهموس والنثر المهموس موقف العداء المطلق كما وقف الأستاذ مندور من جميع ألوان الشعر الأخرى. وكذلك لا أريد (مؤقتاً) أن أفاضل بين هذا اللون وبين الألوان الأخرى.
ولكن هذا لا يمنعني أن أقول إنه كان موفقاً في اختيار بعض النماذج، وغير موفق في اختيار بعضها. فقصيدة (يا أخي) لميخائيل نعيمة وقصيدة (ترنيمة سرير) لنسيب عريضة يعدان نموذجاً طيباً لهذا اللون الذي يحبه. وأقول نموذجاً طيباً لهذا اللون بذلك القيد. ولكن ما عداها من مختاراته كان نماذج رديئة للشعر عامة ولهذا اللون من الشعر كذلك، لا في الأداء وحده، ولكن في حقيقة الشعور
والفرق بعيد والمسافة طويلة بين هذين النموذجين وبين سواهما. ولكن الذي يجمع بينه هو مجرد (الحنية) ومجرد الأسى المنهوك. ويهمني أن أبرز هذا المعنى إبرازاً خاصاً؛ فهو دليل عندي على هذه (الحالة الخاصة) التي أكاد أعزو إليها ولعه بهذا اللون، فهذه الحالة هي التي تجعله يستجيد كل ما ينطوي على هذه العناصر جيدة ورديئة على السواء. وهذا
ما يدعوني للشك العميق في أن (مزاج) الأستاذ الخاص هو الذي يملى عليه آراءه لا ذوقه الفني
إن المسألة ليست مسألة ضيق في أفق الذوق الفني فقط، ولكنها (حالة مزاجية) خاصة تتحكم في هذا الأفق الضيق بطبيعته. وأخشى أن تكون حادثة ما أو عدة حوادث كامنة في ماضي الأستاذ مندور تتحكم في نفسه دون شعور. وهذا ما يدعو إلى الحذر الشديد في تقبل هذه الآراء!
وقصة (النثر المهموس)؟ إنها كقصة (الشعر المهموس). وأريد أن أقول للأستاذ مندور إن الفقرات الأخيرة من قطعة (يا أمي) لأمين مشرق هي فقرات طيبة في إحساسها وفي أدائها، ولكن الفقرات الأولى (تقليدية) من أدب (القوالب) المحفوظة. وكناقد كان يستطيع أن يفرق بين هذا وذاك؛ ولكنه كصاحب مزاج خاص لم يستطع التفرقة. ففيها جميعاً تشيع روح (الأسى المنهوك) وهذا يكفي!
وإذ انتهيت إلى هذا الحد أحب أن أعرض على الأستاذ مندور وعلى القراء ألواناً من الشعور البسيط الأليف الذي لا تفقده بساطته وألفته قوته وسلامته وصحته. وهو من عمل أدباء مصريين من أولئك المتخلفين قروناً في نظره
وهذا النموذج الأول لأديب شاب من رثاء لأمه: (وقد اخترتها لمناسبة قطعة أمين مشرق):
(من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا؟ ما عنواننا الذي نحمله في الحياة ونعرف به؟
(إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان. بل أصبحوا يقولون: هذا فلان. وهذا أخوه. وهاتان أختاه!
(اليوم فقط مات أبي؛ واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً. وإني لأضم اليوم إلى صدري ابنكما وابنتيكما. أضمهم بشدة لأستوثق من الوحدة، وأشعرهم بالرعاية. ولكن هيهات هيهات. فأنا وهم بعدك أيتام يا أماه!
(لقد شعرت اليوم فقط بثقل العبء. وعلمت أنني لم أكن أنهض به وحدي، وأنني كنت أرعاهم وأرعاك معهم، لأنني قويٌّ بك. أما اليوم فالعبء فادح، والحمل ثقيل، وأنا وحدي ضعيف هزيل!
(إن الشوط لطويل. وإني لوحدي في الطريق، وأخي وحده كذلك، وأختاي وحدهما أيضاً، وإن كنا نقطعه جميعاً!
والعش الذي خلفته ستظل فراخه زغباً مهما امتد بها الزمن، لأن يدك الرفيقة لا تمسح ريشها وتباركه، وكفك الناعمة لا تدرب أجنحتها على التحليق، وروحك الحنون لا تكلؤها في أجواز الفضاء!
نحن اليوم غرباء يا أماه
لقد كنا - وأنت معنا - نستشعر في القاهرة معنى الغربة في بعض اللحظات، وكنا نشبه أنفسنا بالشجرة التي نقلت من تربتها، والتي ينبغي لها أن تكثر من فروعها لتتقي الاندثار في غربتها!
أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها. نحن الأفرع القليلة ذوى غصنها، بعد اغترابها من تربتها. وهيهات أن تثبت أغصان في التربة الغريبة. . . بلا أم!
(أماه. . .
من ذا الذي يقص عليّ أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب، ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود؟
لقد كنت تصورينني لنفسي كأنها نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً! وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسيج خيالك ووحي جنانك! فمن ذا يوسوس إلي بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟ ومن ذا يوحي إليّ بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟
لمن أصعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن الذي يفرح بي ويفرح لي وأنا أصعد الدرج، ويمتلئ زهواً وإعجاباً وأنا في طريقي إلى القمة؟
قد يفرح لي الكثيرون. وقد يحبني الكثيرون. ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده. . . وحبك أنت عجيب، لأنه حب مزدوج: حبك لي، وحب نفسك في نفسي. . .!
أماه. . .
عندي لك أنباء كثيرة. كثيرة جداً ومتزاحمة. تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد
بغيبتك. وإنه ليخيّل إليّ في لحظات ذاهلة: أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدثك بما جد في غيبتك من أحداث؛ وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه. ولن تدب فيها إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات فسيدركها الفناء، وستغدو إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى. . .
أماه. أماه. أماه. . .)
وموعدنا العدد التالي لتقديم نماذج أخرى من الشعر المصري (المتخلف قرونا)
سيد قطب
في التصوير الإسلامي
ليلى والمجنون
للدكتور محمد مصطفى
- 2 -
جاء قيس محققاً ما تمناه والداه، لا يعرف قلبه سوى أخلص الحب. . . يعشق الجميل ويحب الجمال. . . فكان وهو في مهده يتطلع إلى الفتيات الجميلات المليحات، ويرنو إليهن في شغف ونهم، كأن في منظرهن ما يجلب السرور إلى قلبه، أو ما هو غذاء لنفسه الصغيرة، يصيح في طلبهن إذا ابتعدن عنه، ويبكي في توجع وتوسل ليقترب منهن إذا لم يستطع رؤيتهن. ثم صار يجالسهن ويحادثهن ويستنشدهن الشعر، حتى حفظ منه الكثير، فاكتسب حديثه طلاوة ولباقة، وأسلوبه أناقة وطرافة، وأخذ على صغر سنه يقرض شعر الغزل وينشده، ويغازل به الفتيات ويشبّب بهن، وكأنه جاء من عالم آخر لا يعرفه بنو عامر، ولا عهد لهم به، فالحب والغزل في رأيهم (إنما يكون في اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رءوسها).
ولما كبر الصبي وفات سن الطفولة، أرسله أبوه إلى المدرسة مع أقرانه الصغار من الفتيات والفتيان. وبين الفتيات كانت فتاة تسمى (ليلى)، كان أبوها شيخاً لبطن أخرى من بطون بني عامر، ووقعت ليلى موقعاً حسناً من قلب قيس فمال إليها وأحبها وقال في وصفها:
بيضاءُ خالصةُ البياض كأنها
…
قمرٌ توسطُ جُنحَ ليلٍ مُبرَدِ
موسومةٌ بالحسن ذاتُ حواسدٍ
…
إنَّ الجمالَ مَظِنةٌ للحسَّدِ
وتُرى مدامعُها ترقرُقَ مُقْلَة
…
سوداء ترغبُ عن سواد الإثمِدِ
خوْدٌ إذا كثُرَ الكلام تعوذت
…
بحِمى الحياء وإن تَكلَّم تقصد
ووقع لقيس في قلب ليلى مثل ما وقع لها في قلبه، فكانا يجتمعان كل يوم في المدرسة ليدرس كل منهما ما يتجلى في نظرات صاحبه وقسماته من الحب والهيام. وحاولا أن يخفيا حبهما عن أصحابهما. . . ولكن عبثاً. . . فإن الحب يشبه الطيب أو المسك إذا وجد في
بيت لا يمكن إخفاء رائحته. ففي ذات يوم أرادت ليلى أن تعلم ما لها في قلب قيس، فأعرضت عنه، وأقبلت بحديثها على غيره، فلما رأى ذلك جزع جزعاً شديداً حتى خافت عليه فقالت له:
كلانا مظهر للناس بغضاً
…
وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون بما أردنا
…
وفي القلبين ثمّ هوى دفين
فلما سمع قولها سرى عنه وعلم ما له في قلبها، وانصرف عنها وهو من أشدّ الناس سروراً وأقّرهم عيناً، وقال:
أظن هواها تاركي بمضلة
…
من الأرض لا مال لدي ولا أهلُ
ولا أحدٌ أفضي إليه وصبتي
…
ولا صاحب إلا المطيّة والرحل
محا حبها حب الأُلى كن قبلها
…
وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
ولما سمع جلساؤهما ذلك فطنوا إلى أمرهما، وشاعت قصة غرامهما بين الناس حتى بلغت مسامع والد ليلى، فأبعدها عن المدرسة وحجبها عن قيس، ومنعه من رؤيتها والتحدث إليها، وتوعده بالشر إذا اقترب منها، فقل قيس في ذلك:
ألا حجبت ليلى وآلي أميرُها
…
عليَّ يميناً جاهداً لا أزورُها
وأوعدني فيها رجالٌ أبوهم
…
أبى وأبوها خُشّنتْ لي صدورها
على غير جُرم غير أني أحبُّها
…
وأن فؤادي رهنها وأسيرها
وفي (شكل 1) منظر داخلي للمدرسة يبين قبة يجلس تحتها المعلم بلحيته البيضاء الطويلة، وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي يده عصا لتأديب (أشقياء) التلاميذ، وأمامه تلميذ يتلو عليه ما حفظه من الدروس. ونرى قيساً جالساً إلى اليمين في معزل عن زملائه، يسند رأسه على ذراعه غارقاً في تأملاته كأنه يفكر في حبيبته ليلى التي تجلس إلى اليسار بجانب صديقة لها تواسيها وتعطف عليها. ويقرأ أو يكتب بعض التلاميذ الآخرين في كتبهم ويتجادل آخرون. وإلى اليسار يتقاذف (شقيان) بأدواتهما المدرسية، غير عابئين باحتمال إصابة (زير الماء) الموضوع في الركن الأيسر على كرسي حامل له، وما قد تجلبه هذه الإصابة على جسديهما من آثار عصا المعلم. ولم ينس المصور أن يخفف من حدّة (عصا) المعلم ببيت شعر كتبه على مدخل القبة يناشده فيه ألا يعلم الفتاة الشقراء ذات الوجه الجميل
سوى كل شيء حسن هي جديرة به. وهذه الصورة في مخطوط من المنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوى كتبه الخطاط سلطان محمد نور، ومؤرخ سنة 931 هجرية (1525 م)، وقد اختلف مؤرخو الفن الإسلامي في نسبة الصور التوضيحية التي به، ولكنا نرجح ما يقوله الأستاذ كينل في نسبتها إلى المصور شيخ زاده تلميذ المصور الكبير بهزاد الذي هاجر معه إلى مدينة تبريز. وهذا المخطوط محفوظ في متحف المتروبوليتان للفنون الجميلة بنيويورك
- 3 -
بعد أن حجبت ليلى في منزل أبيها، حزن قيس وضاقت الدنيا في عينيه، ولما لم يجد في المدرسة ما يرفّه عن نفسه الحزينة ويسري عنه، هجرها وهام على وجهه يبحث عن حبيبته في منزل والديها. ولما أعياه ذلك عمد إلى الحيلة فتزيا بزي درويش عجوز أعمى قد أناخ عليه الدهر بكلاكله، وسار يتلمس طريقه بعكاز في يده حتى وصل إلى بيت ليلى، فألقى بنفسه على عتبته متصنعاً الإعياء. وخرج أهل الدار لمساعدة هذا الدرويش البائس الذي أنهكه السير الطويل وشقة الطريق، وكانت بينهم ليلى فعرفته وأمسكت يده وشدت عليها لتعلمه أنها ما زالت على عهده بها، ولكي تجدد ما قطعته على نفسها من ميثاق الإخلاص له في الحب. ولاحظ والدها ذلك وتعرّف على قيس، فنهر ابنته وطرد قيساً، فزاد ذلك من شدة حزنه ويأسه. وعاتبه أصحابه ورموه بالجنون لما رأوه في مسلكه من شذوذ، فقال لهم:
وإني لمجنونٌ بليلى مُوكَّلُ
…
ولستُ عَزوفاً عن هواها ولا جَلْدَا
إذا ذُكرْت ليلى بكيتُ صبابة
…
لتَذكارها حتى يبل البكا الخدَّا
وسماه أصحابه (المجنون) وصار يعرف بين قومه بهذا الاسم.
واشتد به الحزن واليأس فاعترض على قضاء الله بقوله:
خليلي لا والله لا أملك الذي
…
قضى الله في ليلى ولا ما قضي ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحبّها
…
فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
فسلب عقله، وهجر أهله وذويه، وانفرد في جنبات الحيّ عارياً، لا يلبس ثوباً إلا خرقه، يخطط بإصبعه في التراب، ويجمع العظام حوله، ولا يجيب أحداً سأله عن شيء إلا إذا
ذكروا له ليلى، فيرجع إليه عقله ويخاطبونه فيجيبهم جواباً صحيحاً. ولما يئس من لقاء ليلى بارح الحيّ ولجأ إلى البرية وهو يقول:
فمن أجلها ضاقت عليّ برحبها
…
بلادي إذا لم أرض ممن أجاوره
ومن أجلها أحببت من لا يحبني
…
وباغضت من قد كنت حيناً أعاشره
وكان المجنون وليلى وهما صبيان يذهبان إلى جبل قريب يقال له (التوباد) فذهب إلى هنالك وجلس على ربوة منه فأتته ذكريات الصبا فقال:
هذه الربوة كانت ملعبا
…
لشبابينا وكانت مرتعا
كم بنينا من حصاها أرُبعا
…
وانثنينا فمحونا الأربعا
وخططنا في نقا الرمل فلم
…
تحفظ الريح ولا الرمل وعى
لم تزل ليلى بعيني طفلة
…
لم تزد عن أمس إلا إصبعا
(شوقي)
وخرج الملوح بن مزاحم ومعه بعض أولاده وذويه يبحث عن ابنه قيس، فوجده هائماً على وجهه في جبل التوباد، وكان في حالة يرثى لها، عارياً، نحيل الجسم، طويل الأظافر، يخط بإصبعه في الرمل وهو تائه الفكر، وقد طال شعر جسده وتوحش وألفته الظباء والوحوش فكانت تجالسه وتلازمه، فلما اقترب ذووه منه لم يعرفهم ونفر منهم، فناداه أبوه: قيس، أنا أبوك الملوح وهذا أخوك، فطب نفساً وابشر فقد وعدني أبو ليلى أن يزوجكها. فأقبل إليهم وأنس بهم، فقال له أبوه: يا قيس، أما تتقي الله وتراقبه؟ كم تطيع هواك وتعصيني، فقد كنت أرجى ولدي، أفضلك علتهم وأوثرك، فأخلفت ظني ولم تحقق أملي، فليت شعري ما هي أراها ممن يوصف بالجمال والحسن، وقد بلغني أنها فوهاء قصيرة جاحظة العينين شهلة سمجة، فعدّ عن ذكرها ولك في قومك من هو خير لك منها. فلما سمع ثلبه فيها أنشأ يقول:
يقول لي الواشون ليلى قصيرة
…
فليت ذراعاً عرض ليلى وطولها
وأن بعينيها لعمرك شهلة
…
فقلت كرام الطير شهل عيونها
وجاحظة فوهاء لا بأس أنها
…
مني كبدي بل كل نفسي وسولها
فدق صلاب الصخر رأسك سرمدا
…
فإني إلى حين الممات خليلها
فاضطر أبوه أن يعده بالسعي لدى والد ليلى كي يزوجه إياها، واستطاعوا بذلك أن يأخذوه معهم ويردوه إلى الحيّ وأهل بيته.
ولما رأته أمه بكت لحالته البائسة التعسة، وحاولت جهدها أن تروّح عن نفسه، فألبسته ملابس جميلة، وأصلحت من شكله وهندامه، وجعلت تواسيه وتشمله بعطفها ورعايتها عساها تجلب إلى قلبه العزاء والسلوة.
وفي (شكل 2) ينام المجنون إلى جانب مجرى ماء، ويسهر على حراسته الوحوش من كل جانب، فيربض الأسد والفهد إلى اليمين، والثعلب والظباء والوعول إلى اليسار. وجاء ذووه وضربوا خيامهم بالقرب منه، وقد خرج الرجال وانتشروا في المكان، بينما نرى والده بلحيته البيضاء قادماً نحوه. وقد أجاد المصور تصوير الحياة المنزلية لنساء البدو في بيوتهن، فرسم إحداهن وهي تحلب بقرة، وأخرى تغزل على مغزل أحضرته معها وهي تستعين في عملها بيديها وقدميها، واثنتين جالستين في مدخل إحدى الخيام وقد احتدم بينهما الجدل. وهذه الصورة من تصوير المصور الإيراني قاسم علي أحد تلامذة المصور الشهير بهزاد، وهي في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوي كتب في سنة 900 هجرية (1494 م) باسم أحد أمراء السلطان حسين ميرزا. وهذا المخطوط محفوظ في المتحف البريطاني.
(يتبع)
محمد مصطفى
مساعد فني دار الآثار العربية
أغرودة الليل
(إلى وردتي الشقراء!)
لشاعر العاطفة والوجدان جان ريشبان
بقلم الأستاذ عبد العزيز العجيزي
أواه ألحاني، غردي، غردي! واسكبي الخمر عذباً، صداح الأغاني، إلى من تغنى بها الحبّ في روض جناني، وسكبت نشيد الهوى في كأس وجداني!
هام النور على جيد ليلاي، ناشراً حلو الضياء، وغنى سناه على جبين دنياي، شادياً لحن الصفاء، وداعب السحاب غصن مناي، بأنامل النور والبهاء، لما ارتقينا معراج السماء، صوب المشرق الوضاء، فانتشت بسلافه أفاويق الطرب، ومراشف السرور، واحتست شعاع النور بأقداح البسمات!
الدجى وسنان، والليل سكران، والكون نعسان، والوسن هيمان، وشمسي الذهبية أشرقت في رقة وحنان، وبدت غدائرها العسجدية تهفو بنفح العبير وشذى الربيع النشوان. فدانيتها عن كثب مازجاً أشواقي بأزهار جمالها، ناهلاً النور من نجوى محياها، راشفاً الضياء من سحر سناها، الهاتك حجب الدجى وجحافل الظلام.
ويصوغ خاطري نجوم الكواكب الساطعة من درر ذلك النهر الباهرة، قلادة ماسية متألقة، ذات فتنة ووضاء، وظلال ساحرة زرقاء، ودرة يتيمة رائعة تزهر بسناها فوق أديم جيد الحبيب، الندى الرطيب.
أواه ألحاني، غردي، غردي! فروض ليلاي زاهر بأنواره كسنا التاج، باهر بجلاله كأبهة المُلك، وحبيبتي بين أطيافه ملك تحف به سراته. . .
ليلاي! أنا هائم بترتيل أبهى الأغاني، والترنم بأعذب الألحان! فحسبك أن تكوني يا حبيبتي وحي أشعاري، ولحن قيثاري، ومحراب إلهامي، وناي أنغامي!
حنانيك حنانيك يا وردتي الشقراء! كوني لجمالك راعية، ولدلالك رانية؛ وابسمي، وهيمي بنغم القوافي الراقصة في موكب حبنا، ولحن الأغاني الشادية حول أجسادنا! اسمعي أغاريد
الصبوة الهائمة، وأناشيد قيثارة الأشعار المترنمة! استمعي إليها. . . فقد هصرتها كلها من جنى الخيال، وشهى الجمال!
أرهفي السمع لسحر الأغاني، وشيق المعاني، وحلو النغم وجرس الكلم. . . قد ملأت أقداحي بها من سلسبيل الفكر، وعناقيد الغزل؛ فارشفي منها رحيق القبل واقطفي منها جني الثمر! وأذني لورد شفتيك بالتفتح، ليفضي عبيره بسر حبك، ويهفو أريجه عن مكنون سحرك، فيسعد طالعي، وينعم خاطري. . .
وتنساب الأناشيد إثر وقع خطواتك الراقصة، تناجي خيالك، وتناغي جمالك في حنان الأم لرضيعها. . . فتصدح الأشعار بغرامك، منشدة أهازيج هيامك. . .؛ أني شاقتك الأغاني، وطاب لك النغم. . .
ليلاي! ثغرك النضيد حلو كالزهرة الباسمة، ذات الفتنة والنقاء، والسحر والصفاء. . . قد مزج بها منذ فضت عنك التمائم: ترنمت الأشعار بسنا جمالك وسجعت أغاريد الصيف البهي لصدى ضيائك وبهائك، ولرجع جلالك ودلالك
ترنمت الأشعار بجمال صدر فينوس الكاعب لصدى روعة ثديك الناهد؛ سجعات قلبك الباسم، وخطرات قدك النامي هي تآلف أنغام غصنك الغاني وفرعك الداني باللحن السامي
ترنمت الأشعار بخمر لحظك الوسنان، وسلاف سحرك الفتان، فسكرت الروح الهائمة بوصلك، وثملت النفس الولهى بقربك، وانتشت بخمر آثر من عتيق المدام. . . ترنمت الأشعار ياليلاي بفتنة غدائرك الذهبية المترجرجة؛ وروعة خصلات شعرك الأرجواني المنساب على عنقك العاجي. . . فهام القلب بالشعر العسجدي، وقدّم العمر قرباناً على مذبح الحب القدسي، في معبد الهوى العذري!
وأخيراً صدحت الخواطر شجي الأغاني، وغرّدت الأشعار رقيق المعاني، مشدوهة هالعة عندما تغنيّتُ مترنماً:(أنا المتيّم بهواك، المعذّب بضناك، الشادي بجمالك، الملحن عذب ألحانك!)
واهاً من الحب والهوى! الأشعار ظمأى لسلاف أغانيه، وألحان مغانيه، وشدو أنغامه على قيثار قوافيه! ولا تسخري يا حبيبتي من حمق مجاليه؛ إذا تآلف لحنها ولم يتباين سجعها
ليلاي! اهجعي أنى طاب لك الرقاد! فالأشعار هي وثير فراشك ومثوى جسدك بين رياشك،
وحلم راقص على أهدابك الوطف الساجية، بين أنغامه الحالمة، وألحانه السامية. . .
أواه ألحاني؛ غردي، غردي! واسكبي الأحلام صداحة الأغاني! وانشدي الأنغام سكرى بخمر الوصال في دنيا الخيال؛ ليتغنى النسيم على مسارح الغابات، ويهفو بعبير النفحات! ويصفق الهزار بجناحيه غرداً، معرباً عن شجوه، ويرقص الموج طرباً، مغنياً في كرنفال غديره.
عبد العزيز العجيزي
إلى زهرتي اليتيمة
(من دموع لم تذرف)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لَئِنْ مَاتَ حَوْلَكِ نُورُ الضُّحَى
…
وَرَانَتْ عَلَيْكِ سُتُورُ الظَّلامْ
فَلَا تَحْزْنِي. . فَالْهَوَى فِي دَمِي
…
صَبَاحٌ يُزَلْزِلُ هَذَا الْقَتَامْ
وَفَجْرٌ مَدَى الدَّهرِ يَبقَى لَكِ
تُشَعْشِعُ أَنْوَارُهُ حَولَكِ
وَتَسقِي أَبَارِيقُهُ لَيْلَكِ. . .
. . . سَناَ خَمْرَةٍ لَمْ يَذْقْهَا اْلأَنَامْ!
وَإِنْ مَاتَ حَوْلَكِ سَاقِي النَّدَى
…
وَفَحَّتْ لَدَيْكِ أَفَاعِي الْهَجِيرْ
فَلَا تَجْزَعِي. . . إِنَّ رُوحِي بِهَا
…
لآِهَاتِ رَوْضِكِ نَبْعٌ غَزِيرْ
يُفَجَّرُهُ عَاتِياً سِحْرُكِ
وَيُسْكِرُ أَمْوَاجَهُ عِطْرُكِ
فَتَجْرِي وَيَجرِي بِهَا نُورُكِ. . .
. . . إِلى أَنْ نُلَاقِي الرِّكَابَ الأخِيرْ!
َوإِنْ مَاتَ حَوْلَكِ سَاجِي الظِّلَالْ
…
وَنَاحَتْ بأَرْضِكِ ثَكْلَى الرِّياَحْ
فَلَا تَجْزَعِي. . . فأَنَا نَسْمَةٌ
…
وَظِلٌّ عَلَيكِ رَطِيبُ الْجِناحْ
وَطَيْرٌ نَمَا عُودُهُ فِي يَدَيْكِ
فِإِنْ أَوْمَأَ الْحُزْنُ يَوْماً إِلَيْكِ
عَصَفْتُ بِلَحْنِي وَعُشّي وَأيْكِي. .
. . . لأِفنَى وَأَشْرَبَ عَنْكِ الْجِرَاحْ
وَإِنْ مَاتَ حَوْلَكِ زَهْرُ الرُّبَى
…
وَكُنْتِِ الْيَتِيمَةَ فَوْقَ الْهِضَابْ
فَلَا تَذْرُفِي دَمْعَةً. . . إِننِي
…
خُلِقْتُ لأِحْمِلَ عِنْكِ الْعَذَابْ
كِلَانَا غَرِيبٌ يَتِيمُ الزَّمَانْ
فَهَياَ نُجَدِّدُ زَهْرَ الْجِنَانْ
وَنَقْطِفُ مِنْ قَبْلَ يَمْضِي الأَوَانْ. . .
. . . . وَتَقطِفُنَا قَبْضَةٌ مِنْ تُرَابْ
وَإِنْ مَاتَ حَوْلَكِ مِنْ فِي الثّرى
…
وَأَصْبَحْتِ مُفْرَدةً في الْجِبَالْ
فَلَا تَنْدُبِي فَانِياً. . . إِننِي
…
أَرَى فِيكِ خُلْداً يُذِيبُ الزّوَالْ
فِفِيكِ الإِلهُ الَّذِي أَعْبُدُ
وَفِيكِ الْخَيَالُ الَّذي أَنْشُرُ
وَفِيكِ الهَوَى وَالصِّبَا وَالْغَدُ. . .
. . . دَعِينِي أُسَبِّحْ بِهَذَا الْجَمَالْ
محمود حسن إسماعيل
البريد الأدبي
إلى الأستاذ دريني خشبة
قرأت في مقالكم القيّم عن (مجلاتنا الممتازة ونصيب المسرح والسينما والغناء منها) فعنث لي الملاحظات الآتية:
1 -
التأليف - سواء في المسرح أم في السينما - لم يتحقق وجوده بعد. ومن يعرفون بالمؤلفين في هذين الفنين يعيشون في الواقع عالة على الترجمة والاقتباس ولا أقول أكثر من ذلك!
2 -
صلة المسرح بالأدب وثيقة بل ذاك فرع من هذا ولذلك أشارك الأستاذ رأيه في وجوب عناية مجلاتنا الممتازة به والاهتمام بنقده وتقويمه، وفضلاً عن ذلك فللمسرح رجاله من الممثلين الذين يستحقون التنويه والذكر
3 -
أما السينما فبحكم مواجهتها المباشرة للملايين من الشعب تنقطع بها الأنفاس دون أهداف الأدب السامية، ففكاهتها تهريج، وعلاجها للمشكلات الاجتماعية يقوم على التعمل والمبالغات السخيفة والأخيلة السقيمة، وفيما عدا هذا من الغايات الأدبية فهي عاجزة عنه غاية العجز. ألا ترى يا سيدي الأستاذ أن السينما الأمريكية والأوربية نفسها 90 % منها غث تافه إذا قومته بحساب الأدب الفني، وأن الـ 10 % الذي يتصدى لإخراج أعمال فنية عالمية يعرض جسدها دون روحها، أو بمعنى آخر يظهر الحادثة التي توافق (الحركة السينمائية) دون التحليل والوصف، وهما لباب الفن الأدبي عامة، والحديث منه خاص؟. . . فالسينما في الواقع إخراج وتمثيل، وصلتها بالأدب الرفيع مقطوعة أو واهية
4 -
أرجو ألا ينسى الأستاذ أن مجلات لا حصر لها - وهي في انتشارها تسبق المجلات الممتازة وأسفاه بمراحل - لا هم لها إلا تسويد صفحاتها بأخبار أبطال السينما والمسرح سواء من يستحق منهم الذكر أو غالبيتهم الكبرى الغارقة في أمية اللغة وعامية العقل والذوق، وهي أخبار لا تشرف مجلة لها من الاحترام والوقار ما لمجلاتنا الممتازة
5 -
وأما الغناء فمن نجومه فئة يسمو بها فنها إلى مرتبة الأساتذة الإجلاء الذين يغذون المجلات الممتازة بنفحات أرواحهم وعقولهم وعلى رأس هؤلاء أم كلثوم وعبد الوهاب والقصبجي وزكريا والسنباطي!
والسلام عليكم ورحمة الله.
حافظ القاهري
إلى الأستاذ العلامة الشيخ محمود شلتوت
في العالم كله تنتشر المصارف المالية لتقرض الناس لأجل معين بفائدة صريحة تقل وتكثر قيمتها بين 6 - 9 % بحسب درجة عملاء البنك
والاقتراض من البنك يفيد المقترض فائدة مادية عظيمة إذا تيسر له القيام بمشروع له في بنائه وتغذيته وإدارة شؤونه خبرة وإلمام كبير، وخصوصاً في أيام الحرب التي بها أصبح منتوج الأرض ذا قيمة كبيرة
فهل ما يأخذه البنك من الفائدة هو الربا كما يفهمه الناس: آكله ملعون وموكله ملعون، وملعون شاهده وكاتبه، أم هذه الفائدة الخفيفة ليست أضعافاً مضاعفة، ويحل التعامل على صورتها؟ وإذا ثبتت حرمة الفائدة سواء أقلت أم كثرت فهل يستثنى من ذلك أحد من الناس أو طائفة من الناس لسبب من الأسباب أو في حالة من الحالات أو لغرض من الأغراض؟ ومتى وكيف يباح ذلك؟ وفي حالة التحريم القطعي هل يعد المال المقبوض من البنك من المال الحرام كأن يكون مسروقاً مثلاً ولا يحل الانتفاع به أم يصبح ملكاً حلالاً للمستدين مع تحريم المعاملة؟
(قلقيلية - فلسطين)
محمد عبد الفتاح محمود الحسن
إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
كيف يمكن التوفيق بين الآية الكريمة: (يُخرج الحي من الميت، ويُخرج الميت من الحي) وبين قول علماء الحياة: (الأحياء لا تنتج إلا من أحياء)؟
(القدس)
حافظ عبد النبي
(أرواح وأشباح) على المسرح
أقام الفرع المدرسي لمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية حفلته السنوية لتوزيع الشهادات على طلابه المتخرجين، وكان أطرف ما في برنامجها الحافل فاصل تمثيلي غنائي عنوانه (ابن السماء) من كتاب (أرواح وأشباح) للأستاذ الشاعر علي محمود طه، وضع ألحانه وموسيقاه الفنان الدكتور محمد شرف الدين، وتولى إخراجه الفنان عثمان أباظة، ومثله طلاب المعهد، فكان تأثيره على النظارة عجيباً دعا القائمين على شئون الفرقة المصرية أن يفكروا في إخراج هذه الملحمة الجميلة على مسرح دار الأبرا الملكية لتكون أروع إخراجاً وأبرع تمثيلاً وأكمل عدة؛ وهي فكرة موفقة نرجو أن يصاحبها العزم حتى تصل إلى دور التنفيذ.
كلمة أخيرة أيضاً في ضبط الخلاف بين العربية والعامية
قرأت ما كتبه الأستاذ الفاضل عبد الحميد عنتر في العدد (514) من مجلة (الرسالة) الغراء، فوجدته يعتمد في إبطال الاقتراح المقدم إلى المجمع اللغوي في ضبط الخلاف بين العربية والعامية على أنه يخالف الضابط الذي أجمع عليه العلماء منذ 1362 عاماً هجرياً، ويقوم على رأي جديد متطرف لا يعتد به لخروجه على ذلك الإجماع، وما كنت أظن أن مثله يفوته أن صاحب الاقتراح يعرف أن رأيه يخالف ما أجمع عليه العلماء قبله، ولكنه يؤمن مع هذا بما قاله الأُولُ: كم ترك الأول للآخر. وبما قاله الإمام علي رضي الله عنه: لا تكن ممن يعرف الحق بالقائلين له، اعرف الحق تعرف أهله
وقد كان إجماع العلماء القدماء على أن العناصر البسيطة أربعة، فلم يمنع هذا مخالفة المتأخرين لهم، وأن يثبتوا أن هذه العناصر الأربعة مركبة لا بسيطة ' وأن العناصر البسيطة لا تحصى ولا تعد. وبعد فإن ذلك الاقتراح ليس فيه إلا مخالفة ذلك الإجماع، ولا شك أن هذا لا يجعله من الاستحالة في شيء.
(. . .)
تراجم المعاصرين
أُثير هذا الرأي في إحدى المجلات المصرية منذ زمن غير بعيد؛ ولقد انشرح صدري لتقبُّل المجلة التي أثير فيها أن تساهم في هذه الغاية بنشر هذا اللون من الأدب المؤرخ. وأيقنتُ أن ذلك سيعود على تاريخ الأدب العربي بفوائد جمة إن يشرع في تحقيقه. ذلك لأن تدوين حياة الأديب الكبير ودراسة أدبه: أفكاره وأسلوبه، في حال حياته، أسهل وأصدق مما لو عُمد إلى ذلك بعد موته. فإن دراسته إذ ذاك تكون أوفى وأقرب إلى الحقيقة.
أقول هذا وبين يديّ الآن العدد الأخير من مجلة (الصباح) الدمشقية (عدد 29 آذار 1943) أطالع فيه دراسة مستفيضة عن الشاعر احمد الصافي النجفي.
حرّر هذا العدد الخاص الأستاذ فؤاد الشائب فاستخلص شخصية الصافي من دواوينه التي أشهرها (الأمواج) و (أشعة ملونة) فتحدث عن حياة الصافي الحر البعيد عن الدنيا، القريب منها، وقدّم لبحثه بهذه الكلمات:
(قرأت في حياته، وقرأت في ديوانه، فلم أجد أحفل منها حياة، ولا أصدق منه كتاباً. . . نغمتان أختان، وصورتان توأمان للنفس البشرية في أعمق شعورها وأصدق حكمتها. . . فلا أدري أيهما كتاب الشاعر، وأيهما حياته. . .)
تكلم الأستاذ الشائب عن خصائص الصافي الشعرية، وعن تحرره وعدم تقيده وإبداعه وعن روحه الشعرية، ودلل على أنه شاعر لا ناظم، ووصف شعره (بالبساطة الحلوة النافذة إلى غرضها بلا عنف أو جهد) وأوضح أنه اقترب أعظم الاقتراب من الإنسانية، وأنه وإن لم يبل الحب ويخبره، فقد بلا الألم وخبره أكبر الخبر، فجاء شعره وليد نفس ثائرة متألمة ملتاعة
نرجو أن نستمع إلى من يحدثنا عن العقاد، والزيات، وطه حسين، واحمد أمين. . . وغيرهم من زعماء الأدب العربي. . .
أما الدكتور المبارك، فلا بأس من أن نستمع إلى من يحدثنا عنه، ولو أنه هو نفسه تحدث كثيراً عن نفسه، وكتب ما ينبغي أن يُكتب عن حياة أديب، بل وأكثر. . .
(بيروت)
سهيل ادريس
تصحيح أجزاء بحر الخفيف
كتب الأديب حسين البشبيشي تحت عنوان شعر منشور بالعدد 514 من قصيدة للأديب مصطفى محمد أن الشطرتين اللتين بين القوسين خطأ، وذلك لأن القصيدة من بحر الخفيف
وقد أصاب في ذلك ولكنه أخطأ في أجزاء البحر حيث قال إن أجزاءه (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن). والصواب (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن) بالوتد المفروق وهو ما كان ثلاثة أحرف وسطها ساكن. وكم من فرق بين مستفعلن بالوتد المجموع ومستفع لن بالوتد المفروق فقد قال العروضيون هناك فرق بينهما من جهة موقعهما في البحور، ومن جهة الخط، ومن جهة اللفظ، ومن جهة الحكم. أما من جهة الفرق في موقعهما في البحور أن مستفعلن أحد أجزاء البسيط ومخلعه والرجز والسريع والمقتضب. والثاني أحد أجزاء الخفيف والمجتث. والفرق بينهما في الخط أن الأول وهو مستفعلن لا وقف فيه. والثاني يوقف على آخر وتده المفروق. والفرق بينهما في اللفظ أنه يجب صناعة على قارئ الأول ألا يقف على الرابع ليعلم السامع أنه ذو الوتد المجموع بخلاف الثاني فيجب عليه أن يقف ليعلم السامع أنه ذو الوتد المفروق، وأما من جهة الحكم أن الأول يجوز طيه وهو حذف الرابع الساكن بخلاف الثاني فلا يجوز طيه. لهذا كله ولما لهذه الفروق من الأهمية كتبت هذا إعلاناً للحق. وإلى الأديب عاطر التحية وأزكى السلام
(الإسكندرية)
عبد الفضيل يوسف
جماعة نشر الثقافة
تواصل جماعة نشر الثقافة نشاطها الأدبي لتساهم بجهودها في تقوية الحركة الفكرية بالإسكندرية، وستقيم مهرجاناً للربيع بمسرح نادي موظفي الحكومة عند الساعة الخامسة من مساء يوم الاثنين الموافق 24 مايو 1943؛ إذ يشترك الفن والأدب في الاحتفاء بفصل الجمال والحياة.