الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 516
- بتاريخ: 24 - 05 - 1943
أخطار الطعام الواحد
(رسالة مهداة إلى جار الشجرة الزهراء)
للدكتور زكي مبارك
أكاد أحكم بأن جمال الحياة من صُنع أيدينا، وأن الله لم يجعل الإنسان خليفته في الأرض إلا بعد أن زوّده بالقدرة على تجميل الحياة بأغرب وألطف ألوان التجميل
وملكات الإنسان تؤهله للغرور القائم على أساس، فمن حقه أن يزعم أنه يهب الحياة للحياة، وأن يقول في بعض حالات التمرد إنه خالق لا مخلوق
ولن نؤمن بالله حق الإيمان إلا يوم نعرف على وجه التحديد أو التقريب قيمة ما خصنا به من القدرة على تلوين الوجود بأشتات من الألوان
والواقع أن العزة الإلهية دانت الإنسان بديون تعجز عن حملها الجبال. ولا يعاب على الإنسان إلا غفلته عن استثمار ما في صدره وروحه وعقله من كنوز تفوق الذخائر المعروفة والمجهولة في جميع بقاع الأرض. . . هو يملك ثروة معنوية في غاية من النفاسة، ولكنه قد يجهلها بعض الجهل أو كل الجهل فلا يبذل في استكشافها أي مجهود، ولا يؤذيه أن يعيش على الفطرة كما يعيش سائر الحيوان
كل أمة من الخلائق تنقرض بالموت، إلا الأمة الإنسانية، فهي تترك شواهد خوالد على ما قدمت للحياة من أفانين العقل والذوق، وهل كان من المصادفة أن تتفق الديانات على أن البعث بعد الموت مقصور على الأمة الإنسانية؟
وأنا مع هذا أفترض أن البعث لن يكون عاماً، وسأحرص على هذا الافتراض لغاية أخلاقية توضحها السطور الآتية:
يوم البعث هو يوم الحساب، ومعنى ذلك أنه خاص بمن كانت لهم إرادات ذاتية تدرك معاني الثواب والعقاب، ومعناه أيضاً أن الذين مرّت حياتهم بلا إدراك قد يضافون إلى الخلائق المنسية، إن صح هذا الافتراض
ولكن ما هذا التهيب في عرض هذه النظرية؟
هل أخاف من أن يعترض معترض وبيده الأثر الذي يقول: أكثر أهل الجنة هم البُله والمجانين؟
هذا أثر مصنوع، اختلقه واضعه لغاية مدخولة يراد بها صد الناس عن الاحتكام إلى العقل في مختلف المعضلات، وإلا فما قيمة الجنة إذا كان أكثر ساكنيها من قدماء البُله والمجانين؟
مزية الإنسان هي قوة الشعور بالمسئولية، وهذا الشعور قد يسوقه إلى البحث عما في صدره من المكنونات، فإن فعل فقد يصل إلى منافع لا تخطر في البال
الحياة لا تقاس بالطول والعرض، وإنما تقاس بالخصب المعنوي، وهو أطيب الأرزاق، فمن واجبنا أن نزوّد أنفسنا بالكثير من الأزواد العقلية والذوقية عساها تجود بإبراز تلك المكنونات
النفس كنز تحرسه أقفال وأرصاد. وقد تعب الناس منذ أزمان في التعرف إلى كنوز النفوس، بأساليب تختلف باختلاف الأقاليم والإفهام، فأهل الهند يرون الصوم عن الطعام والشراب هو الوسيلة إلى كشف أسرار النفس، وكان بعض فلاسفة اليونان يرون الطعام والشراب من وسائل الوصول إلى أسرار النفس، وفريق من رجال الإسلام يرون النفس لا تتفتح إلا في إعقاب الصلوات عند هدأة الليل
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص بصراحة على أن الرقي الإنساني لم يبدأ إلا بعد التحرر من الطعام الواحد، وذلك لم يقع إلا بعد أن عرف الإنسان كيف ينتقل من أرض إلى أرض. ودليل ذلك أن الأمم القليلة المعارف والقليلة الحيوية هي الأمم التي ألفت الاستقرار في وطنها الأول، لأن الاستقرار يخمد شهوة التطلع، بسبب الركود الذي يصحب توحّد المطعومات والمرئيات
والمعروف أن حواس الطفل أقوى من حواس الكهل، فكيف يكون ذلك؟
قد يقال أن الحواس تضعف مع الزمن، وذلك أسهل التعاليل، ولكني أرجح أن قوة الحواس عند الأطفال ترجع إلى أن كل شيء في نظرهم جديد، فهم يتطلعون إلى كل أفق، ويتشوقون إلى كل مجهول، ولا كذلك حال الكهل الذي ألف ما حواليه من الأشياء، فهو ينظر ويتأمل بفتور وبطء، ثم ينتهي به الأمر إلى تبلد الإحساس
والمعروف أيضاً أن النبوات لا تظهر إلا في البلاد التي يكثر فيها الاعتراك والاقتتال حول المبادئ والآراء، فما كان يمكن لمكة أن تكون مهبط الرسالة الإسلامية لو أنها كانت قرية منعزلة لا تشتبك فيها المنافع، ولا تصطرع فيها العقول. وهل ننسى كيف منّ الله على
قريش برحلة الشتاء والصيف؟
إن تلك الرحلات هيأت القرشيين لما صاروا إليه فيما بعد؛ وفضلُ الإسلام على العرب لا يقتصر على تزويدهم بعقيدة التوحيد، فهالك فضلٌ عظيم، وهو تمكين العرب من الاتصال بأكثر الأمم المعروفة لذلك العهد، وهذا الاتصال خلق في العرب حيويات جديدة، وأيقظ في نفوسهم كثيراً من القوى الغافية، وأمدهم بأزواد عقلية وذوقية لم يعرف مثلها العرب القدماء
والمدنية الإسلامية تمتاز بهذه الميزة، فهي ليست وليدة العقل العربي الصرف، وإنما هي مدنية دولية أخذت زاداً من كل أرض، فقد كان المسلمون إنجليز زمانهم، وكانت لهم مسالك إلى كل بلد عُرفت أرضه بالثمرات
هل تعرفون السر في أن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام كان يوصي بالزواج من غير القريبات؟
تعليل ذلك سهل: فالتزاوج في البيئة المحصورة ينتهي بضعف النسل، لأن كثرة الألفة تضعف الشهية، ولأن الاكتفاء بالقريبات يضيع فرصة الموارد الجديدة من الطبائع والأذواق.
العاهات الموروثة تكثر في البيئات التي تتزاوج فيما بينها كثرة تنذر بالخطر المبيد. وقد تعرض اليهود لهذا الخطر في الأزمان الخوالي فكثرت فيهم العاهات الحسية والمعنوية، ثم أنقذتهم الحوادث فشردتهم في الأرض ليجدوا أجواء تطب لمرض القرار والاطمئنان
وقد أكثر اليهود من المطالبة بالوطن القومي، وهو عندهم فلسطين، فإن عادوا إليها جميعاً فستكون عودتهم المرموقة نذير انحلال، ومن قال بغير ذلك فهو يجهل خطر الطعام الواحد على الجسوم والعقول
وقد صرخ اليهود لعهد موسى من الطعام الواحد، كما قص علينا القرآن، فأوصاهم موسى بهبوط مصر، لأن مصر منوعة الفواكه والحبوب والبقول، وهذا سر القوة التي جعلت المصريين بمأمن من طغيان الأمراض الفواتك على اختلاف الأجيال
قال العباس بن الأحنف وقد آذاه تقلب محبوبته فوز:
يا فوزُ لم أهجركُم لملالةٍ
…
مني ولا لمقال واشٍ حاسد
لكنني جربتكم فوجدتكم
…
لا تصبرون على طعام واحد
وقال شاعرٌ آخر:
ومُظهِرةٍ لخلق الله ودّاً
…
وتلقى بالتحية والسلام
أتيت لقلبها أشكو إليه
…
فلم أخلُص إليه من الزحام
أيا من ليس يكفيها محبٌّ
…
ولا ألفا محبٍّ كل عام
كأنك من بقية قوم موسى
…
فهم لا يصبرون على طعام
وبقليل من التأمل ندرك أن هذين الشاعرين في غفلة عن تلوين العواطف والأحاسيس. وهل يتعلق العاشق بمعشوقته إن أمن عليها الشركاء كل الأمان؟
التعقيد في الميول والأهواء هو سبب الحيوية في الميول والأهواء. ومزية الإنسان أنه منوّع المطاعم والمشارب، فهو يأكل ما تأكل السباع والأنعام والحشرات، وهو لذلك يواجه مكاره الحياة بالقوة المستمدة من تلوين الطعام والشراب. إن مزية الإنسان أنه حيوان عارم لا تصده حدود ولا سدود، وأنه يجد طعامه ولو سكن فوق رءوس الجبال
هل سمعتم الوزير الإنجليزي الذي اختبر معدته بالأكلة الهندية، الأكلة المركبة من توابل حِرِّيفة لا يقدر على ابتلاعها غير الهنود؟
كان يقال إن العائلة الإنجليزية إذا استقرت مائة سنة في الهند فستنقرض، لأن جو الهند يخالف جوّ الجزر البريطانية، ثم ظهر أن هذا القول يعوزه الدليل، فقد تأصلت في بلاد الهند عائلات بريطانية ولم تنقرض
والوثائق تحت يدي، فالإنجليزي المقيم في الهند تصل إليه أزواد من كل أرض، فهو هندي الموطن، ولكنه دوليّ الطعام والشراب، وبذلك تأخذ أمعاؤه وقودها المنوع من هنا وهناك
والإنجليزي المقيم في الهند لا يكتفي بقراءة ما تخرج مطابع الهند. وإنما تنتقل إليه المطبوعات الأوربية والأمريكية بأيسر عناء، فيرى وجوه الآراء الغربية قبل أن يرى وجوه الآراء الشرقية، ويعيش بملء روحه وعقله عيشاً لا يعرفه جيرانه من الهنود
قلّت أملاك الآساد في الأرض، لأنها أكلة لحوم، وقلت أملاك الغزلان في الأرض، لأنها أكلة أعشاب
هل تعرفون الظباء في حياتها اليومية؟
إنها تتمرن على الجري في كل وقت، لتحسن الفرار من هجوم الآساد، وكان ذلك لأن فطرة
الظباء فطرة غبية، فهي لا تحب غير حياة التوحش والتوحد، وهذه الحياة فرضت عليها الذل، كما فرضته على الآساد. أليس من بلاء الأسد أنه لا يستطيع العيش بأرض خالية من الحيوان، ولو أخرجت أطيب الثمرات؟
واكتفاء أكثر أنواع الحيوان بالطعام الواحد قضى بأن تعيش في ظل الوهم الأول، فهي جميعاً تخاف من النور حين يسطع بالليل. ولو دخل إنسان غابة وحشية وبيده مصباح لأزعج ما فيها من الكواسر والجوارح، لأن تلك الخلائق ترى أن النور قوة سماوية لا أرضية، وأنه لذلك أمضى سلاح
وقد تحرر الكلب من الطعام الواحد بعض التحرر لا كل التحرر، ولهذا ظل على أشياء من المخاوف الحيوانية، فهو ينزعج من الليل أشد الانزعاج، وهو لا يكف عن النباح إن قضى الليل في العراء
والطعام الواحد يؤذي الأرواح، كما يؤذي الأبدان، والعقل يُعطب بالطعام الواحد كما يُعطب الجسم. فمن الواجب أن نزود عقولنا في كل يوم بأزواد مختلفات. ورياضة العقل على تقبل الآراء لا تقل عنفاً عن رياضة الجسم على تناول الطعام الحرّيف
لاحظت أن البهائم تميز بين الطيب والخبيث من الأعشاب بدون تعليم، وهل سمعنا أن بهيمة أكلت عشباً ساماً فماتت؟
ولكن هذه الغريزة الهادية من أسباب الانحطاط في طوائف من الحيوان، فيها تنعدم فرص التجاريب، والتجربة خصيصة إنسانية وهي أعظم تمرين لتقوية عضلات العقل، وللعقل عضلات!
ولاحظت أن المواليد الحيوانية تعرف طريقها إلى الحياة منذ ساعة الميلاد، فهي تأكل وتشرب وتمشي وتلعب من أول يوم
فكيف ضاع هذا الحظ على المواليد الإنسانية؟
وكيف جاز أن يحتاج المولود الآدمي إلى شهور طوال قبل أن يعرف كيفية الوقوف؟
قالت إحدى الجرائد الإنجليزية في وصف الملك فيصل الثاني (هو طفل في غاية من الذكاء ولكن لا تظهر عليه علامات النُّضج المبكّر)
فما معنى العبارة الأخيرة؟ هل ترونها ترمي إلى التهوين من شأن ذلك الطفل؟
لا، إنها غاية في المدح، لأن النضج المبكر ليس علامة حسنة في حيوات الأطفال
الإنسان الجيد كالشجرة الجيدة، يحتاج في تكوينه إلى متاعب، وقد حدثتكم مرة أن الشجر الجيد هو الذي ينمو في بطء وتمهل. وأحدثكم اليوم أن السوس لا يعض غير الخشب المأخوذ من شجر سريع النماء
أقول هذا لأقرر حقيقة طُفتُ حولها عدداً من السنين، ولم أستطع التعبير عنها بوضوح وبيان
تلك الحقيقة هي أن العقل لا يخاف عليه من اصطراع الآراء إلا إذا فاتته فرص التدريب على الاصطراع، وهذه الفرص تفوت العقل إذا اكتفى بالطعام الواحد في المعقولات، كما يتعرض الجسم للخطر إذا اكتفى باللون الواحد في المطعومات
ألم تلاحظوا أن خواطر الشك والريب والإلحاد لا تساور غير المبتدئين؟
إذا رأيت شخصاً يجادل في آيات الله فاعرف أنه طفل، لأن هذا النوع من الجدال مألوف عند الأطفال
وإذا رأيت شخصاً يناقش في أمور فرغ منها الباحثون فاعرف أنه طفل، والطفولة في العقول قد تطول في حياة بعض الناس!
أما بعد فما الذي أوحى هذه الأفكار بهذا الأسلوب؟
أوحاها ضيفٌ رحل إلى غير معاد، وما أصعب فراق الضيف المحبوب إلى غير مَعاد!
موضوع المقال هو الصفحات الآتية، أما الصفحات الماضية فقد أنشأتها على سبيل التمهيد، على قلة ما أصنع في تحرير المقال على دفعات
وسأترك الصفحات الآتية على ما كانت عليه في الوضع الأول، لأني أخشى أن يصيبها التزييف بالتعديل
وفي ترجمة خبرك، أيها المفارق إلى غير معاد، أسوق الحديث:
في جنح الليلة الماضية مات العصفور. وفي صبيحة اليوم دفناه في حديقة البيت بجوار شجرة زهراء، ضنّا على جسمه اللطيف بأن يكون طعمه لفرد من الحيوان أو لطائفة من النمل، إن ألقينا به في الصحراء. . . فما تاريخ ذلك العصفور الصريع؟
كان هدية من صديق راقه ما كتبت في خصائص الطير والحيوان، يوم كنت أنشر بمجلة
الرسالة قصة آدم وحواء، هدية لطيفة من صديق عُرف أهله بلطافة الأذواق
دخل العصفور المنزل بعد الغروب، وهو يغفو بعد الغروب، ولكنه استيقظ حين بهره نور الكهرباء، فتلفّت حواليه تلفّت المتأمل، عساه يتعرف إلى مأواه الجديد
وانتظر الأطفال تغريده في الصباح، وكانوا سمعوا أنه يستقبل الصباح بالتغريد، ولكنه آثر الصمت، كما يصمت كل غريب!
وبعد يومين بدأ يرسل تغاريده بقوة أغنت الأطفال عن صلصلة (الُمنّبه) وحببت إليهم انتظار تباشير الصباح
كانت حياة هذا العصفور في طعامه عجباً من العَجب، كان طعامه حبّات تُشبه حبات البرسيم، ومع هذا كان يقزقزها قزقزة غريبة فيفصل القشور عن اللباب في لمحات وهو يتناول الغداء، وكانت هذه المهارة من طرائف ما ترى العيون. . .
كان مُقامه في مدخل البيت، وهو مكان يواجه هواء الشمال، ويشعر من يقيم فيه بقسوة الشتاء، فاقترحت أن يقيم ساعتين من كل صبُحيه بشرفة الغرفة الشرقية، وهي مأوى في الشتاء
فرح العصفور بالشمس فغرّد وغرّد، والتفتُ فرأيت جماعة من العصافير تحيط بالقفص لتستمع بالحفلة الموسيقية، الحفلة التي تُقدم كل صباح بالمجان!
عند ذلك أشرت بأن يبقى العصفور في تلك الشرفة ساعات من كل يوم، إكراماً لهذه العصافير المرهفة الأحاسيس!
ثم وقع ما لم يكن في الحسبان، فقد سُمع صراخ العصفور، سُمع من الدور الأول وهو يصرخ بشرفة في الدور الثاني، مع أن التليفون لا يسمع في الدور الأول إلا بتوصيله كهربائية تمنح التليفون لقب الهتّاف
أسرعت الروح التي تهيمن على البيت لتعرف سبب الصراخ فرأت صقراً بسط جناحيه على قفص العصفور، وأخذ ينقره من جانب إلى جانب، والعصفور يعلو ويهبط في ذهول، فلطمت الصقر لطمة قهرته على الفرار، ثم أنزلت العصفور إلى مكانه بالدور الأول، بعد أن ترك الصقر برأسه جرحاً صار في صورة (الشوشة) التي تزدان بها رءوس بعض الشبان
بدا لي بعد ذلك أن أقيم العصفور في الشرفة لحظات من كل صباح وأنا أتهيأ للخروج، لعل الصقر يدنو فأصطاده، وأنا مولع باصطياد الصقور والنسور، ولكن الصقر كان أمكر مني فقد كان يقف من بعد، ثم ينصرف حين يعرف ما أريد
قلت لأبنائي: إن الصقر لن ييأس، وهو يتحرق شوقاً إلى لحم العصفور المغرد، وفي هذه المنارة لوح من الزجاج حطمه رصاص المدافع أيام الغارات الجوية، فانتظروا نزول الصقر من هذا المكان لتصطادوه، إن اجترأ على النزول
ثم كانت العجيبة الآتية:
جاء عيد الفصح، ومضى أبنائي إلى سنتريس، لشهدوا مطلع الربيع في الحديقة التي تنتظر قدومهم في كل صباح، الحديقة التي أعدّ أشجارها من أبنائي
ونظرت فرأيتني في البيت وحدي، ورأيت العصفور في إملاق، فلم يكن أمامه غير حبات لا تدفع غوائل الجوع، وهو أضعف من أن يحتمل الجوع
مضيت إلى دار ابني الأكبر أستشيره فيما أصنع، وكان العصفور غرّد بعد الغروب، وهو لا يغرِّد بعد الغروب إلا في توسل الملهوف
وخرجنا فطوفنا بشوارع مصر الجديدة وبعض شوارع العباسية فلم نجد طعام العصفور في أي مكان
وبعد متاعب وجدنا نوعاً من السمسم يصلح لاقتيات العصافير، فيما قيل
أقبل العصفور على السمسم يلتهمه بلا احتراس، ليأمن غائلة الجوع، ألم أكن أقدم إليه أغصاناً يابسة فينقرها بشهية لأنها تذكره بعهد أجداده في حضانة الغابات؟
ولكن نشاط العصفور أخذ يضعف من يوم إلى يوم، وانتهى الأمر بموته في جنح الليلة الماضية، فما العبرة من ذلك الموت، ولكل موتٍ عبرة؟
أماته الاكتفاء بالطعام الواحد، والطعام الواحد يميت الجسوم والعقول
الآن عرفت كيف كان يغرّد بأسلوب رتيب لا يعرف تلوين الألحان
الآن عرفت كيف تقترب طرائق الصوت عند أكثر صنوف الحيوان، فما كان ذلك إلا لأن كل أمة حيوانية لها طعام واحد، ولو بَعُد ما بينها بعد الشمال من الجنوب
الآن عرفت كيف امتاز الإنسان باختلاف الألوان في الملامح والطبائع والأصوات، وكيف
يختلف رجل عن رجل وأمة عن أمة في طرائق التعبير عن المعاني
تلوين الطعام يلون الأهداف والأغراض والآراء والأهواء
وذلك كنز وصلت مفاتيحه إلى بعض الشعوب فهي تُلقي بأبنائها في مجاهل الشرق والغرب، لترتاض أمعاؤهم على الحياة، ولو فوق متون البراكين
كم تمنيت أن أعيش أياماً في سفح فيزوف، وكان يستهويني حين تمر عليه الباخرة بالليل. . . ولكن لا بأس، فقد أمتعتني الحياة بصنوف من المضجرات والمزعجات والأحابيل.
هل يمر يوم بلا متاعب على من يمتشق القلم في كل يوم؟
زكي مبارك
العقيدة الدينية وطريق ثبوتها
للأستاذ محمود شلتوت
التكاليف علمية وعملية - العقائد - طريق ثبوتها - النظريات الخلافية الاجتهاد فيما لا قاطع فيه يمنع التأثيم - أثر التعصب المذهبي - تطبيق
قال العلماء: إن للإنسان قوتين؛ إحداهما نظرية، وكمالها في معرفة الحقائق على ما هي عليه؛ والأخرى عملية، وكمالها في القيام بما ينبغي من الشئون في الحياة. وقد قرر الإسلام هذا المبدأ أساساً لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة فجاءت تكاليفه نوعين: منها ما يطلب علماً، ومنها ما يطلب عملاً. ونرى ذلك واضحاً جلياً في هذه الكثرة من الآيات القرآنية التي تجمع بين الإيمان والعمل وتربط بهما النجاة والسعادة:(من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)، (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً). (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات). . . الخ.
وقد اصطلح العلماء على تسمية التكاليف التي تطلب علماً (بالعقائد) أو (أصول الدين) كما اصطلحوا على تسمية التكاليف التي تطلب عملاً (بالشريعة) أو (الفروع)
ولما كانت الحقائق التي يمكن أن يعلمها الإنسان كثيرة، وكان أكثرها لا يتصل من قريب بالسعادة التي يقصدها الشارع قضت الحكمة أن يبيَّن للناس ما يجب عليهم أن يؤمنوا به في سبيل الحصول على تلك السعادة. وذلك عند التحقيق يرجع إلى الأصول التي اشتركت فيها الأديان السماوية جميعها من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. . . الخ
حدد الشارع هذه الأمور، وطلب من الناس الإيمان بها. والإيمان هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل. ومن الواضح أن هذا الاعتقاد لا يحصله كل ما يسمى دليلاً، وإنما يحصله الدليل القطعي الذي لا تعتريه شبهة
وقد اتفق العلماء على أن الدليل العقلي الذي سلمت مقدماته، وانتهت في أحكامها إلى الحس أو الضرورة يفيد ذلك اليقين ويحقق الإيمان المطلوب
أما الأدلة النقلية فقد ذهب كثير من العلماء إلى إنها لا تفيد اليقين ولا تحصل الإيمان المطلوب، ولا تثبت بها وحدها عقيدة. قالوا: وذلك لأنها مجال واسع لاحتمالات كثيرة
تحول دون هذا الإثبات. والذين ذهبوا إلى أن الدليل النقلي يفيد اليقين ويثبت العقيدة شرطوا فيه أن يكون قطعياً في وروده، قطعياً في دلالته. ومعنى كونه قطعياً في وروده ألا يكون هناك أي شبهة في ثبوته عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك إنما يكون في المتواتر فقط. ومعنى كونه قطعياً في دلالته أن يكون نصاً محكماً في معناه، وذلك إنما يكون فيما لا يحتمل التأويل. فإذا كان الدليل النقلي بهذه المثابة أفاد اليقين وصلح لأن تثبت به العقيدة. وأمثلة ذلك فيما ورد إلينا آيات القرآن التي تحدثت عن التوحيد والرسالة واليوم الآخر وما إلى ذلك من أصول الدين؛ فقد جاءت - كما هي قطعية في ورودها - قطعية في دلالتها، لا تحتمل أكثر من معناها:(فاعلم أنه لا إله إلا الله). (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد). (قل بلى وربي لتبعثن). (قل يحيها الذي أنشأها أول مرة). (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله). (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين)
هذا هو شأن العقائد وطريق ثبوتها. ولا بد أن يعم العلم بها جميع الناس ولا يختص بطائفة دون أخرى، لأنها أساس الدين وبها يكون المرء مؤمناً فكيف يتصور في مؤمن أن يجهلها؟ ومن مقتضيات هذا العلم العام بها ألا يقع خلاف بين العلماء في ثبوتها أو نفيها
ومن هنا نستطيع أن نقرر أن العمليات التي لم ترد بطريق قطعي، أو وردت عن طريق قطعي ولكن لابسها احتمال في الدلالة فاختلف فيها العلماء، ليست من العقائد التي يكلفنا بها الدين، والتي تعتبر حدَّاً فاصلاً بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون!.
وإنك لتجد كثيراً من هذا النوع في كتب التوحيد إلى جانب العقائد التي كلفنا الله أن نؤمن بها، فهي تذكر إلى جانب وجود الله ووحدانيته والرسل واليوم الآخر مسائل: رؤية الله بالأبصار، وزيادة الصفات على الذات، ومرتكب الكبيرة، وما يكون آخر الزمان من ظهور المهدي والدجال والدابة والدخان ونزول عيسى وما إلى ذلك مما يذكر في مثل (خريدة الدردير) و (جوهرة اللقاني) وغيرهما
والتاريخ العلمي يدل على أن هذه مسائل جر إليها البحث في العقائد حين تعددت الفرق وكثرت الآراء والمذاهب الكلامية، فكانت محل اجتهاد بين العلماء كل يرى رأيه فيها، ويدلي بحجته على ما يرى ملتمساً الوصول إلى ما يلائم في نظره العقيدة المتفق عليها
وأمثلة ذلك كثيرة، منها أن المسلمين جميعاً قد اتفقوا على أن الله تعالى منزه عن كل نقص، متصف بكل كمال. فهذه عقيدة قاطعة يعلمها كل مؤمن ولا يختلف فيها عالم مع عالم، ولكن البحث جر إلى مسائل تتصل بها: هل يجب على الله أن يفعل الأصلح لعباده؟ هل العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية؟ هل المعاصي التي يفعلها العباد مرادة لله؟ فاختلف العلماء في هذه المسائل: رأى المعتزلة أن ترك الأصلح، وتعذيب العبد على شيء لم يفعله، وإرادة القبيح، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى وجوب الأصلح على الله، وإلى أن العبد خالق لأفعال نفسه، وإلى انه لا يريد المعاصي. ورأى غيرهم أن إيجاب نفسه، وإلى أنه تعالى لا يريد المعاصي. ورأى غيرهم أن إيجاب شيء على الله، وعجزه عن خلق ما يفعله العبد، وحصول ما لا يريد في ملكه، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى أن الله لا يجب عليه فعل الأصلح، وإلى أنه خالق أفعال العباد، وإلى أنه يريد المعاصي. فأنت ترى أن هؤلاء جميعاً لم يختلفوا في الأصل الذي كلفنا الله الإيمان به وهو تنزيه الله تعالى عن النقص ووصفه بالكمال، ولكنهم اختلفوا في أشياء: هل هي نقص فلا يتصف الله بها، اوليست بنقص فيتصف بها، وقد ذكرت كتب التوحيد ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وأوردت الأدلة النقلية التي استدل بها كلٌ على ما يرى.
على هذا النحو جرى الخلاف بين الفرق الإسلامية في المسائل التي جر إليها البحث في العقائد، وهو خلاف كخلاف الفقهاء في أحكام الفروع التي لم يرد فيها نص قاطع محكم. خلاف لا يصح أن يُرمى أحد فيه بأنه حاد عن الصراط المستقيم، أو ضل، أو فسق، أو أنكر مسألة من مسائل الدين. . . الخ ولكن عصور التعصب المذهبي العنيف حملت للمسلمين تراثاً بغيضاً من التراشق بالتهم، والترامي بالفسوق والضلال، فتبادل الفقهاء أصحاب الفروع نوعاً من التهم، وتبادل المتكلمون أصحاب العقائد مثل ذلك، وتلقف المخدوعون من الخلف هذه التهم وملأوا بها كتبهم، وأسرفوا في الاعتداد بها حتى جعلوها مقياس ما يقبل من الآراء أو يرفض
من هذا كله يتضح:
1 -
أنه لا بد في العقيدة من أن يكون دليلها قطعياً في وروده وفي دلالته
2 -
وأن ما لم يكن دليله قطعياً، فاختلف فيه العلماء، لا يصح أن يعد من العقائد، ولا أن
يكون رأيُ طائفة معينة فيه هو الحق دون سواه
3 -
وأن كتب التوحيد لم تقتصر على ذكر العقائد التي كلفنا الشارع بها، وإنما ذكرت بجانبها بعض النظريات العلمية التي تعارضت فيها ظواهر النصوص فكانت محل اجتهاد بين العلماء ونتيجة هذه كله: أن القول بأن كذا عقيدة يجب الإيمان بها لأن ظاهر الآية أو المروي من الحديث يدل عليه، أو لأنه رأي أهل السنة والجماعة مثلاً، أو لأنه مذكور في كتب التوحيد. كل ذلك قول من لا يفهم معنى (العقيدة) ولا يعرف أساسها الذي تبنى عليه.
لاشك أن هذه المبادئ التي ذكرنا تنير سبيل البحث لمن يريد معرفة الحق فيما هو من العقائد وما ليس منها، وهي مبادئ مسلمة عند العلماء يعرف كل مطلع على كتبهم ومناقشاتهم أنه لا نزاع فيها. وعلى ضوء هذه المبادئ نستقبل قول الذين زعموا (أن رفع عيسى ونزوله آخر الزمان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع) ولنا في ذلك نظرات ثلاث: نظرة فيما ذكروا من آيات، ونظرة فيما ساقوا من أحاديث، والنظرة الثالثة فيما ادعوا في هذا المقام من إجماع
فأما الآيات التي تذكر في هذا الشأن فنحن نرجعها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: آيات تذكر وفاة عيسى ورفعه، وتدل بظاهرها على أن الوفاة قد وقعت، وهذه الآيات هي:
1 -
قوله تعالى في سورة آل عمران (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ)
2 -
قوله تعالى في سورة النساء: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم) إلى قوله: (وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه)
3 -
قوله تعالى في سورة المائدة (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم)
وقد تناولنا هذه الآيات في الفتوى ودرسناها دراسة علمية واضحة، وعرضنا إلى آراء المفسرين فيها، وبينا أنه ليس فيها دليل قاطع على أن عيسى رفع بجسمه إلى السماء، بل هي - على الرغم مما يراه بعض المفسرين - ظاهرة بمجموعها في أن عيسى قد توفى لأجله، وأن الله رفع مكانته حين عصمه منهم، وصانه وطهره من مكرهم. ولسنا في حاجة إلى أن نعيد شيئاً مما ذكرناه
النوع الثاني: آيات ما كان ليخطر بالبال أن لها صلة بموضوع البحث، فلذا لم نفكر فيها،
وحسبنا الآن أن نمثل لهذا النوع بما قال أحدهم:
(ولك أن تضم إلى ما ذكرناه قوله تعالى عنه عليه السلام (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين). ففي قوله (ومن المقربين) إشارة إلى رفعه إلى محل الملائكة المقربين)
والشيخ يريد السماء طبعاً، وهو ليٌّ للكتاب غريب، فقد وردت كلمة (المقربين) في غير موضع من القرآن الكريم:(والسابقون السابقون أولئك المقربون). (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم). (عيناً يشرب بها المقربون) وإذن فليس عيسى وحده هو الذي يعيش بجسمه في السماء، بل معه أفواج من عباد الله يعيشون فيها ويزداد عددهم يوماً بعد يوم. وهكذا فليكن المنطق!
ثم يقول: (بل في قوله تعالى (وجيهاً في الدنيا والآخرة) إشارة إلى ذلك، لأن الوجيه بمعنى ذي الجاه، ولا أدل على كونه ذا جاه في الدنيا من رفعه إلى السماء)
وهذا كلام لا يقال، فإن وجاهة عيسى في الدنيا هي الرسالة المؤيدة بالمعجزات البينات (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل: أنى قد جئتكم بآية من ربكم) فكيف تذكر بجانب هذه الوجاهة قصة الرفع إلى السماء التي يرغمون هذه الآية على إفادتها أو الإشارة إليها؟ وكيف يكون وجيهاً في الدنيا من غادر الأرض وترك أهلها الذين يحسون وجاهته؟ وهكذا ينتزع القوم من كل عبارة إشارة أو تلميحاً ليؤيدوا ما زعموا أنه عقيدة يكفر منكرها؟
النوع الثالث: آيتان قد اختلفت آراء المفسرين في بيان المراد منهما، وجاء في بعض ما قيل أنهما تدلان على نزول عيسى وهما:
1 -
قوله تعالى في سورة النساء: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته)
2 -
وقوله تعالى في سورة الزخرف: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها)
ولا نحب أن يطيل اليوم على القراء بالبحث في هاتين الآيتين وبيان درجتهما في الدلالة على ما زعموا، فليكن ذلك في حديثنا المقبل إن شاء الله.
محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء
أدباؤنا والمسرح
للأستاذ دريني خشبة
أخذنا على مجلاتنا الممتازة، في كلمة سابقة، انقطاع الصلة بينها وبين الفنون المصرية الحديثة، وأكبر مظاهرها المسرح والسينما والغناء والموسيقا؛ ونريد في هذه الكلمة بحث العلل التي تصرف كبار أدبائنا عن التأليف أو محاولة التأليف، للمسرح المصري
والملاحظ في مصر اليوم تلك الحركة الطيبة في كتابة القصة، وإقبال القراء على القصة المصرية ذلك الإقبال الكبير المشجع الذي أوشك أن يكون منافساً خطراً لقراء القصة المترجمة. ولدينا ولله الحمد عدد لا بأس به من كتاب القصة المصرية الشائقة التي لا تقل رونقاً ولا بهاء عن القصة الأجنبية وإن لم تبلغ مرتبتها بعد في الطول ولا في التماسك ولا في الصبر على معالجة الأدواء الاجتماعية. . . ولا بأس من أن نسجل هنا أن جل كتابنا، إن لم يكن كلهم، أميل إلى كتابة الأقصوصة منهم إلى تأليف القصة، وقد بلغ بعضهم في ذلك حد الكمال، وهو ما يفخر به الأدب المصري الحديث
وقد يحار الإنسان في انصراف أدبنا هؤلاء عن التأليف المسرحي، وإمداد المسرح المصري بما يفتقر إليه من المسرحيات التي تساعده في شق طريقه بين مسارح العالم الناجحة المحترمة. ولعلنا سائرون في نهضتنا الأدبية الحديثة في مثل الطريق التي سار فيها الأدب الإنجليزي خاصة والآداب الأوروبية على العموم؛ فلقد لاحظ مؤرخو الأدب الإنجليزي أنه لم يتفق أن ازدهرت القصة إلى جانب ازدهار الدرامة في عصر ما من عصور هذا الأدب، ففي عصر إليزابث مثلاً كانت الدرامة هي التي تحتل المقام الأول في إنجلترا، بينما كانت القصة متخلفة نوعا ما. أما في العصر الفكتوري، فقد حدث العكس، إذ ازدهر أدب القصة، وغاض أو كاد يغيض الأدب المسرحي، حتى رد إليه برنارد شو وسير جيمس باري، وطائفة أخرى من الكتاب المسرحيين شبابه الذي ولى، ويتنبأ بعض مؤرخي هذا الأدب أن نهضة التأليف المسرحي الحديثة التي بدأها شو ونفخ فيها باري وجولزورثي وموجهام وكوارد، ومن إليهم دورة من هذه الدورات في تاريخ الدرامة والقصة، تلك الدورات التي تجري إحداها في إثر سابقتها حتى إذا حلت محلها لم تلبث أن تخلي لها الطريق ردحاً من الزمن لتعود إلى مسرح الحياة مرة أخرى، وهكذا دواليك. . .
ويعللون ذلك بروح العصر أولاً، وبما كان من تحريم التمثيل وإغلاق جميع المسارح الإنجليزية خلال الحروب الأهلية ثانياً؛ لكنهم لم يعللوه قط بكسل الأدباء، أو تكاسلهم، أو ازدرائهم للمسرح كما يخيل للإنسان أن يعلل كساد الإنتاج المسرحي عندنا، وتراخي كبار الكتاب في مصر في مد المسرح بما هو جد محتاج إليه من الدرامات بأنواعها. . .
وبعد، فلنكن صرحاء في تعليل عقمنا في الإنتاج المسرحي، هذا العقم الذي يضع أدبنا في مؤخرة آداب العالم بالرغم من تقدم فن القصة المصرية الذي لا يسع المنصف إلا أن يعترف به
فأول أسباب ذلك العقم هو تأخر الترجمة في مصر، وضآلة النقل الفني المسرحي، إن لم نقل انعدامه. . . ويحار الإنسان على من تقع جريرة تأخر الترجمة وضآلة النقل الفني المسرحي؟! أتقع جريرة ذلك على الأدباء المصريين ذوي الثقافة الأجنبية والبصر بمختلف آداب العالم! أم تقع على كلية الآداب المصرية؟ أم تقع على وزارة المعارف العمومية وإدارة الترجمة بها؟ أم تقع على دور النشر ولجان الترجمة والتأليف؟ أم تقع على أغنيائنا الذين يصمون آذانهم عن الحركات الأدبية في مصر؟ أم تقع على أمرائنا الذين لا يشملون بالرعاية (مساكين الأدباء) كما كان يصنع أمراء أوروبا في عصر النهضة؟
1 -
على من تقع جريرة تأخر الترجمة في مصر؟ لا جرم أن شطراً كبيراً من تلك الجريرة يقع على عاتق الأدباء المصريين الذين لهم دراية كاملة بالتيارات الأدبية الحديثة في العالم كله. . . فأولئك الأدباء - وهم كثيرون جداً والحمد لله - يعلمون مما درسوا من آداب الأمم المختلفة أن لابد لكل نهضة أدبية في مدارج ارتقائها الأولى من لقاح أجنبي تستفيد به، وينير لها السبيل إلى الكمال، ويوقيها الوقوع في التجارب الفاشلة التي مرت بها الأمم الأخرى - وهم يعلمون كذلك أن الأمة التي لا مسرح لها لا أدب لها، مهما كثر عندها كتاب المقالات ومؤرخو الأدب العربي وناظمو القصائد والموشحات، فالمسرح اليوم عند جميع الأمم، وكما كان في معظم العصور، هو المظهر الأول من مظاهر النشاط الأولي عند أي شعب من الشعوب، وقد أسلفنا القول في كلمة سابقة أن نصف، أو ثلاثة أرباع الآداب العالمية هو أدب مسرحي صرف. فإذا كان الأمر كذلك، فإلى متى يا ترى نظل بأدبنا الحديث في مؤخرة آداب العالم؟. . . ليس معقولاً ولا مقبولاً أن يماري أحد في قيمة
المسرح ومساسه بالتربية الشعبية، ومجرد المماراة في ذلك ضرب من الجنون أو النقص الذهني لا يليق بأمة ناهضة طامحة إلى الكمال. . . فلماذا لا يترجم كبار كتابنا مع ما لهم من الإلمام باللغات الأجنبية؟. . . إن الذي له دراية بأية لغة أوربية من اللغات الكبيرة يستطيع أن يقرأ روائع الآداب العالمية منقولة إلى تلك اللغة نقلاً يشبه الأصل إن لم يفقه جمالاً وروعة. . . فمتى يستطيع القارئ العربي الاطلاع على روائع آداب العالم منقولة إلى اللغة العربية؟ متى يستطيع أدباء الأزهر ودار العلوم وطلاب الثقافة العامة من جمهور القراء الاتصال بالأذهان العالية دون أن يتجشموا تعلم اللغات الأجنبية؟ متى يستطيع المسرحيون في مصر الاطلاع على تاريخ المسارح العالمية وروائعها وتراجم أبطالها، ومعظمهم على ما نعرف من الأمية والعجز والفقر الأدبي والثقافي؟. . . ثم ماذا يمنع كبار أدبائنا من الترجمة وأنا أعرف منهم أربعين أو خمسين على الأقل يستطيع الواحد منهم أن ينقل إلى العربية ثلاث مسرحيات كل عام على أن يشغل كل يوم ساعة، فإذا انتهى العام قدموا للقارئ العربي وللمسرح المصري مائة أو مائة وخمسين من روائع درامات العالم. فماذا تكون هذه الثروة الأدبية يا ترى؟ وماذا يكون أثرها في خلق النهضة المسرحية وتوجيهها في مصر؟. . . وأعود إلى التساؤل عما يمنع هؤلاء الأدباء الكبار من الترجمة؟ إني أجلهم عن أن يكون ما يحول بينهم وبين ذلك هو الكسل، أو التعلل بالعوامل المثبطة التي سنتناولها فيما بعد!
2 -
أما نصيب كلية الآداب من جريرة تأخر الترجمة في مصر فهو كبير بلا شك، وإن كان في رأيي في المرتبة الثالثة أو الرابعة بعد نصيب الكبار من أدباءنا. فخريجو كلية الآداب ولا سيما خريجو أقسام اللغات الأجنبية. ما يزالون قلة في مثقفي هذه الأمة، ولست أريد أن أنتقص من أقدار هؤلاء الخريجين حين أقرر أن معظمهم ضعاف أشد الضعف في اللغة العربية، وأن كثيرين منهم - إن لم يكن أكثرهم - ينصرفون عن القراءة وإدمان المطالعة والاتصال بما أخرجته المطابع الأوربية، وما تزال تخرجه من روائع الأدب، والأدب المسرحي بوجه خاص. على أن كثيرين من هؤلاء الخريجين يجيدون أكثر من لغة أجنبية، كما يجيدون العربية إجادة تامة، فماذا يمنع هؤلاء من النقل المسرحي إلى اللغة العربية؟ إنهم أعرف من جمهور القراء بما نقوله هنا عن المسرح والأدب المسرحي، فهل
الذي يحول بينهم وبين هذا العمل هو نفسه ما يحول بين كبار الأدباء في مصر وبين المسرح والدرامة المسرحية؟ على أننا نعفي من ذلك هيئة خريجي قسم اللغة الإنجليزية التي تنفي عن نفسها تهمة الكسل بما تقدمه لنا أحياناً من إذاعات تمثيلية جيدة وإن تكن مقتضبة. . .
3 -
أما جريرة وزارة المعارف في تأخر الترجمة فهي بلا شك أعظم شأناً من جريرة كبار الأدباء ومن جريرة كلية الآداب؛ ومن المؤلم جداً أن يكون ذلك كذلك، وفي وزارة المعارف إدارة للترجمة يرأسها مدير مجد صبور على العمل، ويشرف عليها رجل ارتبطت به نهضتنا الأدبية الحديثة إلى حد بعيد، وكان من حسن حظ هذه النهضة أن يتزعمها من نحو عشرين عاماً. . . ذلك هو عميد الأدب العربي، ومؤلف (مستقبل الثقافة في مصر) ومستشار وزارة المعارف الفني. وقد يخيل لي أن الكلام هنا لابد أن يكون شائكاً لأنه يتناول الإدارة التي أعمل فيها منذ عهد قريب، ولذلك أعتذر مقدماً عن صراحتي التي جرّت عليّ كل مصائبي في هذه الحياة، لأني إن لم أكن صريحاً في الكلام عن هذه الإدارة فماذا أكون؟ إن إلواء الكلام لم يكن قط من سجاياي، وإن كان - قبحه الله - من أحسن فضائل العصر الحديث! وقبل أن أخوض في نقد المنوال الذي تسير عليه إدارتنا المحترمة أنقل للقراء ما يأتي من كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) الذي ألفه الدكتور طه حسين بك. قال حضرته في الفصل الثالث والخمسين (جـ 2 - ص 496 وما بعدها): (وفي حياتنا العقلية تقصير معيب يصيبنا منه كثير من الخزي كما يصيبنا كثير من الجهل وما يستتبعه الجهل من الشر. ولا بد من إصلاحه إن كنا نريد أن ننصح لأنفسنا ونعيش عيشة الأمم الراقية. وإن كنا نريد أن ننصح للعلم نفسه ونشارك في ترقيته وتنميته. وإن كنا نريد أن ننصح للشعب فنخرجه من الجهل إلى المعرفة، ومن الخمود والجمود إلى النشاط والإنتاج. ومظهر هذا التقصير المخزي إهمالنا الشنيع للترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية الحية. . . إلى أن يقول. . . ونحن من غير شك أقل الأمم حظاً من الترجمة، وأقلها علماً لا أقول بدقائق الحياة العقلية الأوربية بل أقول بأيسر مظاهرها. . . وينشأ عن هذا أننا لا نترجم؛ وكيف نترجم إذا كنا لا نقرأ؟ وكيف نقرأ إذا كنا لم نثقف هذه الثقافة التي تجعل القراءة جزءاً مقوماً لحياتنا اليومية؟ وينشأ عن هذا خطر عظيم جداً وهو أن القارئين الكاتبين منا
على قلتهم يجهلون الحضارة الحديثة جهلاً تاماً، لأن كثرة هؤلاء القارئين الكاتبين يجهلون اللغات الأجنبية جهلاً تاماً، ولأننا لا نترجم لها إلى اللغة العربية مالا تستطيع أن تقرأه في اللغات الأجنبية. . . ثم يقول. . . وقد قلنا غير مرة في غير هذا الحديث أن من غير المعقول أن تكلف كثرة القارئين الكاتبين في أمة من الأمم إتقان اللغات الأجنبية؛ فلا بد من أن تنتقل لها خلاصة هذه اللغات إلى لغتها العربية. ذلك حق لها على الدولة، وهو حق لها على المثقفين القادرين على الترجمة. . . إلى أن يقول: فلنترجم إذن ولنكثر من الترجمة، ولنبذل في ذلك أقصى ما نملك من الجهد وأكثر ما نستطيع من المال. وعلى الدولة المسكينة يقع هذا العبء كما يقع عليها كثير من الأعباء وقتاً طويلاً، لأن ظروف الحياة المصرية تقتضي ذلك وتفرضه فرضاً. وإذا كانت وزارة المعارف تمنح الإعانات لكثير من الجماعات والهيئات التي يُشك في نفعها، فلا أقل من أن تنشئ مكتباً للترجمة على أن يكون عمله منوعاً بعض الشيء، فينهض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة التي أصبحت تراثاً للإنسانية كلها والتي لا يجوز للغة حية أن تخلو منها. يترجم هذه الآثار لأغناء اللغة نفسها ومنحها ما تحتاج إليه من المرونة، ولإرضاء الكرامة القومية. . . ثم يقول. . . وواضح جداً أن هذا المكتب لن يستطيع وحده أن ينهض بهذه الأعباء الثقال، فلا بد من تشجيع المترجمين وإغرائهم بالمال. . . الخ)
وليس يخامرني شك في أن الدكتور طه هو أقدر الناس في التعليق على هذا الكلام الحماسي عن الترجمة ومكتب الترجمة الآن، فقد عبر، عندما كان يؤلف كتابه، عن أماني مصر والمصريين وعن حاجة النهضة المصرية إلى هذه الثقافة التي تعتمد - أول ما تعتمد على شيء على الترجمة، وعبّر عن حاجة اللغة إلى ما يغنيها حين ينقل إليها من اللغات الأجنبية ويكسبها المرونة اللازمة لها. . . ثم هو قد رسم المنهاج لمكتب الترجمة الذي هو ضرورة الضرورات لمد النهضة واللغة وجماهير المثقفين والقارئين الكاتبين بروائع الآداب العالمية وإن لم يستطع وحده أن يضطلع بهذا العمل. . . وها هي الأيام قد دارت ووقع اختيار الدولة على الأستاذ الدكتور ليكون مستشارها الفني في تطبيق برنامجه الحافل الذي رسمه في كتابه الجليل. . . والدولة - والله المحمود - سخية أعظم السخاء على جميع المشروعات الحيوية هذه الأيام، وقد بلغت ميزانيتها من الضخامة هذا العام مبلغاً لم
تعرفه من قبل، فماذا صنع الدكتور لمكتب الترجمة؟ هل نال هذا المكتب بعض ما تناله قنطرة أو مصرف أو تطهير ترعة أو مدرسة إلزامية ولا أقول ابتدائية أو ثانوية؟ وهل أصبح هذا المكتب - الذي هو ضرورة الضرورات لنهضتنا الثقافية - من الأشياء التي لا نفكر فيها إلا ذلك التفكير الخلفي؟ وبهذه السرعة ننسى الأحلام التي يزخرفها لنا الخيال ونحن نؤلف؟ وهل يستطيع هذا المكتب ولما يبلغ أعضاؤه العشرة، أن يؤدي للنهضة حقوقها عليه؟ وهل العمل الذي فرض على هذا المكتب، والذي لن ينتهي في أقل من عشر سنوات هو من قبيل التنويع الذي أشار إليه الدكتور للنهوض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة؟ وأخشى أن يكون الدكتور قد نسى تلك المثل العليا التي كان يغازلها خياله الخصب وهو يكتب فصوله الشائقة عن الأدب والأدباء والترجمة والمترجمين والتمثيل والممثلين في كتابه الجليل. لقد كان الأجدر بإدارة الترجمة أن تكون شيئاً آخر غير هذا الشيء الذي لن تشعر به الأمة إلا بعد عشرات السنين. . . لماذا نفرغ إلى هذا العمل البطيء السلحفائي الذي يخمد الأنفاس ولا تعطي لنا الحرية في نقل روائع الآداب العالمية التي أشار إليها الدكتور في كتابه؟. . . إني لا أجادل في قيمة الموسوعة التاريخية التي ننقلها إلى العربية، ولكني أجادل في عدم الملائمة بين احتياجاتنا وبين أعمالنا. . . وليس يجادل أحد في أننا أحوج ألف مرة إلى روائع المسرح العالمية وروائع القصص العالمية منا إلى هذا التاريخ العام الذي يأتي دوره بعد أدوار الآداب المختلفة بمراحل شاسعة. فإن لم يكن بد من القيام بكل ذلك، فلنعن على الأقل بهذه الإدارة الضيقة (ولتبذل لها الدولة أقصى ما تملك من جهد وأكثر ما تستطيع من المال) كما يقول الدكتور في كتابه. أما أن نحلم بأشياء جميلة فتتاح لنا الفرصة في إنشائها فنوجدها ولا نوجدها في وقت واحد، فهذا من المتناقضات التي ينبغي ألا نقع فيها، كما يجب ألا تتبعثر جهود تلك الإدارة التي يرأسها أقدر رجال الترجمة في مصر فيما هو بالمحل الثاني أو الثالث مما نحتاج إليه أصلاً. إن الساعات الثمينة التي يقضيها شباب المترجمين يومياً في نقل هذه (الأضابير) التاريخية إلى اللغة العربية كانت تتيح لهذه اللغة عشرين أو ثلاثين درامة كل سنة من أروع الدرامات التي تمد المسرح والقراء في وقت معاً بثروة لا تعدلها ثروة
(للحديث بقية)
دريني خشبة
بحث لغوي آُنُف
للأستاذ عبد القادر المغربي
كنت ألقيت في ردهة المجمع العلمي العربي بدمشق محاضرة في غريب اللغة قصصت في آخرها خبر الأميرة العمانية (ابنة الجلندي)، وكانت تحمق، أي تنسب إلى الحمقى. وقد ذكروا من حمقها أنها أرادت يوماً أن تلهو، فألبست سلحفاة لها حليّ زينتها، ونزلتها تسرح في حديقة قصرها. وكانت الحديقة على شاطئ البحر، فانسابت السلحفاة إلى الشاطئ وغاصت في الماء بما عليها من الحلي. فأمرت الأميرة جواريها أن يغترفن ماء البحر بأكفهن، ويصببنه على رمل الساحل. وكانت تقول لهن منشطة (نزافِ نزافِ، لم يبق غير قُدافِ) أي لم يبق غير غرفة؛ فعيروها بحمقها، وضربوا به المثل. فتخيلت أنها دافعت عن نفسها بقولها: إن الحروب البشرية التي يقع فيها التغريق والتدمير، لم ينسبوا أهلها إلى الحمقى، فكيف يحمقونها هي؟ ثم قلت على لسانها (أنا غرّقت وهم غرّقوا، وشتان بين ما محَّقت ومحَّقوا، أفيكون من العدل أن أحمّق ولا يحمّقوا؟)
فاستعملت فعل (محّق) من باب (التفعيل)، وعلى أثر ذلك كتب الأستاذ صلاح الدين المنجد في مجلة الرسالة الزاهرة (العدد 441 من السنة التاسعة) مقالاً أثنى فيه على المحاضرة، ولكنه أنتقد استعمالي لفعل (التمحيق مكان (المحق) وسأل عما إذا كان يصح هذا الاستعمال، فأحببت أن أجيبه على نقده بالكلمة التالية:
حقاً إن فعل المحق لا يجيء في كلام العرب إلا ثلاثياً، ونقل بعضهم مجيئه من باب الإفعال، لكنهم اتفقوا على أنه لغة رديئة بل أنكرها الأصمعي بالمرة. هكذا قال أصحاب اللسان والصحاح ومختار الصحاح والمصباح، فإنهم جميعهم ذكروا (المحق والإمحاق) ولم يذكر التمحيق. وقد خالفهم في ذكره صاحب القاموس وشارحه وهذه عبارتهما:(محقه كمنعه محقاً أبطله ومحاه، كمحّقه تمحيقاً للمبالغة. ومنه قراءة عبد الله بن الزبير (يمحق الله الرّبا، ويُرِّبي الصدقات، يمحق من التمحيق ويربي بتشديد الباء من التربية) هـ وظاهر هذا القول أن التشديد لغة في التخفيف
وأرى أن قول أرباب المعاجم هو الحق، وأنه لا (تمحيق) في اللغة، وإنما الذي فيها هو (المحق) وقد سها صاحب القاموس فقال بالتمحيق، وما استشهد به من قراءة ابن الزبير
محلاً للاستشهاد، وإن صحّت القراءة.
وبين ذلك أنّ (يمحّق الله الربا) المشدّد الحاء في قراءة ابن الزبير إنما جاء مشدداً للمزاوجة بين فعلي (يمحِّق) و (يرِّبي) فيصبحان كلاهما مشددين
والتزاوج بين كلمات اللغة في الكلام الفصيح مذهب للبلغاء معروف وطريق مطروق. ومنه الحديث الشريف (إرجعن مأزورات غير مأجورات) فقوله (مأزورات) إنما هُمزَ ليواخي ويُزاوج (مأجورات) فلا يُقال إن الفعل من (مأزورات) هو (أزر) بالهمز وإنه بمعنى (وزر). ثم لا يجوز استعمال أزر في الكلام من دون غرض المزاوجة المذكورة، كما لا يجوز تدوين فعل (أزر) في المعاجم في مادة (أ. ز. ر). ومثله (محَّق) بالتشديد فهو إنما ورد في قراءة ابن الزبير لغرض المزاوجة وليس هو لغة للعرب. ولذا لا يجوز استعماله في جملة لا ازدواج فيها، كما لا يجوز تدوينه في المعاجم. وهذا ما جعل أرباب المعاجم يهملونه
فأستنتج من كلِّ ما مر أنه تجوز تخطئة صاحب القاموس في تدوينه فعل التمحيق وتخطئة شارحه في عدم الإشارة إلى أمر المزاوجة، كما يجوز لي أن أعتذر لنفسي في استعمال فعلي (محَّقتُ ومحَّقوا) بالتشديد، أعتذر بأني إنما ذكرته مزدوجاً بأشباهه من الأفعال المشددة قبله وبعده، (أنا غرَّقتُ وهؤلاء غرّقوا، وشتان بين ما محَّقت ومحَّقوا، أفيكون من العدل أن أحمَّق وما يحمقوا!):
وهناك وجه آخر لصحة فعل التمحيق ربما ذهب بعضهم إليه، وهو أن علماء الصرف ذكروا أنه يأتي بالفعل الثلاثّي من باب التفعيل لإفادة المبالغة تارة والتعدية تارة؛ فلم لا يكون محق إنما شُدد لهذا الغرض، أي غرض المبالغة لا غرض المزاوجة؟ والجواب على ما يذهبون إليه هو أن هذه المسألة، أي مسألة ما يقوله علماء الصرف في قياسية صيغ الأفعال المزيدة على اختلافها، وما تفيده تلك الزيادات من الدلالة على التعدية والمبالغة وغيرها - هذه المسألة ما زالت ولا تزال موضعاً للأخذ والرد بين العلماء وبين أعضاء مجامعنا العلمية خاصة. وكل ما فعل مجمع مصر من التوسعة والترخيص في زيادات الأفعال المزيدة، أنه قرر قياسية تعدية الفعل الثلاثي بالهمزة (مجلة المجمع ج 1 ص 230) ولم يبت الرأي في ما وراء ذلك بعد. ولعله يعود إلى الترخيص في قياسية التضعيف لإفادة
المبالغة في مثل أفعال (حَلّل، برَّر، عضَّد، نقّد، وصَّف) فإن في الترخيص بذلك سداً للثلمة، ووفاء للحاجة، وتأدية لأغراض المتكلمين في العلوم العصرية والفنية وماله اتصال بها من صناعات واختراعات
وما قلناه في عدم جواز استعمال (التمحيق) هو رأينا، ما دمنا لم نجد نصّاً على جوازه غير قراءة ابن الزبير فإذا وُجد النص فنحن له تَبع.
(دمشق)
عبد القادر المغربي
نائب رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق
وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
(دمشق)
كيف عرفت الرافعي
للأستاذ محمود أبو رية
(ننشر هذه الكلمة بعد انقضاء ستة أعوام على وفاة أديبنا
الكبير مصطفى صادق الرافعي طيب الله ثراه، ونرجو أن
تكون تحية طيبة منا نقابل بها ذكراه، وآية صادقة على أنه
مهما باعدت بيننا وبينه السنون فأنا لن ننساه.)
(أبو رية)
رغب إليّ بعض إخواني من الذين يعرفون ما كان بيني وبين أديبنا الكبير مصطفى صادق الرافعي رضي الله عنه من وُصلة الصداقة، وما ربطني به من آصرة المحبة، أن أنشر بعض ما لدي من كتبه الخاصة التي كان يرسلها إليّ؛ فصادفت هذه الرغبة مني قبولاً وارتياحاً، لأنها من أمانيَّ العزيزة، التي كنت أود من قبل أن أقوم بها مع ما هو واجب عليّ أداؤه للناس في هذه الحياة لولا ما رمتني به الأقدار من مصائب في أولادي ومصاعب في حياتي حتى أصبحت ممزق القلب مشرد اللب لا أكاد أحسن عملاً أتولاه، ولا أجيد أمراً أقوم به
ولقد كان أشد هذه الضربات على تلك التي نفذت إلى صدر أكبر أولادي بعد أن تم دراسته العالية فخر منها صريعاً
وإذا كان نشر هذه الكتب سيكون فيه شيء من الخير للأدباء بما سيرون فيها من آراء أديبنا الرافعي وفتاواه في أغراض كثيرة من الأدب ورجاله، فإنه سيكشف لهم كذلك عن جوانب جديدة من أدبه وحياته لم يطلعوا عليها من قبل، ويعرفون كيف كان يكتب رسائله الخاصة التي تصدر في الغالب بغير أن ينالها تهذيب أو يصيبها تنميق، وإنما ترسل إرسالاً من عفو الخاطر وصفو الهاجس، وهذه ناحية لا يتم تأريخ رجال الأدب وأمراء البيان إلا بمعرفتها والاطلاع عليها
ولقد كنت أظهرت الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في بعض أحاديثي معه على هذه الأُمنية
فرحب بها وطلب مني تحقيقها.
على أني رأيت أن أقدم لما سأنشره من كتب الرافعي كلمة أذكر فيها كيف عرفت هذا الأديب الحجة، والسبب الذي جعلني أتصل به ذلك الاتصال الذي نما حتى صار صداقة وثيقة امتدت بيننا أكثر من ربع قرن خلطني فيها بنفسه، واصطفاني لصحبته، حتى لقد كان يشاورني في خاص أحواله، ويظهرني على مكنون أسراره
وليس من همي اليوم أن أعرض لتاريخ هذه الصداقة، ولا يتجه قلمي لبيان ما كان لها من أثر وما كان فيها من خير لأن لذلك يوماً أرجو أن أبلغه
ترجع معرفتي بأديبنا الكبير إلى أوائل سنة 1912. ذلك أن الحرب الطرابلسية كانت حينئذ مستعمرة بين الترك والطليان. وكان الأمير الجليل شكيب أرسلان قد ألم بمصر في سفره مع بعثة الهلال الأحمر إلى طرابلس الغرب، وما كاد يحط بها رحاله حتى أشرق على الناس نور بيانه فاستنارت به الأندية واستضاءت به وجوه الصحف، وكنت يومئذ في صدر شبابي والأدب العربي قد غلب على حبه حتى أغرمت به غراماً؛ ولكني لم أكن أعرف كيف السبيل إلى دراسته ولا قرأت من مصادره إلا كتباً قليلة كان قد أشار عليّ بقراءة بعضها العالم الكبير محمد فريد وجدي بك حفظه الله.
ولما رأيت الأبصار قد اتجهت إلى الأمير شكيب أرسلان، وذكره قد استفاض حتى نفذ إلى كل مكان، وأن رجال الأدب قد ذهبوا في الإعجاب به إلى أن لقبوه بأمير البيان، دفعتني الرغبة المشبوبة بين جوانحي لدراسة الأدب إلى أن أتوجه له بكلمة أرغب إليه فيها أن يبين لي وللذين هم مثلي في هوى الأدب كيف يبلغون منه غايتهم، فأجابني حفظه الله بجواب طويل ملأ صدر العدد الذي خرج من جريدة المؤيد في 19 فبراير سنة 1912 وكان صدر هذه الجريدة يزين كل يوم بمقال ممتع من تحبيره في الأدب والسياسة؛ وكان المؤيد يقدم لكل مقال له بهذه العبارة:(لسعادة الكاتب العثماني الكبير صاحب الإمضاء) أما الأمير فكان يرمز لاسمه في أعقاب ما يكتب بهذا الحرف (ش) وقد ساق الأمير الجليل في هذا الجواب القيم الذي لازلت أحتفظ به وأعده من نفائس البيان نصيحة غالية لكل من يريد دراسة الأدب، ثم أنشأ بعدها يبين للناس طريقته هو التي اتخذها في دراسته. ولما عرض للمصادر والكتب التي يجب على كل أديب أن يقرأها أخذ يثني ثناء طيباً على كتاب
(تاريخ آداب العرب للرافعي) وكان قد صدر يومئذ الجزء الأول منه، فكان مما قاله هذه العبارة البليغة:(لو كان هذا الكتاب خطَّاً محجوباً في بيت حرام إخراجه منه لاستحق أن يحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نواشيء الأسحار لكان جديراً أن يعكف عليه)
ومن ثم عرفت الرافعي وفضله ولم ألبث أن أقبلت على ما له من كتب أدرسها وأنتفع بها. وبعد انقضاء بضعة شهور على ذلك رأيت أن أجاذبه حبل المودة وكان ذلك في أواخر سنة 1912 ولكن أنى لي ذلك وأنا لا أعرف أين مكانه ولا بأي عمل يعمل؟ على أني استخرت الله وأرسلت إليه خطاباً جعلت عنوانه على القاهرة إذ ظننت أنه من أهلها وما كان أشد فرحي إذ تلقيت منه بعد أيام قليلة أول جواب وهذا الجواب مؤرخ 20 ديسمبر سنة 1912
وقد امتدت بيني وبينه بعد ذلك أسباب المراسلة طوال السنين التي صادقته فيها حتى بلغ ما لدي من كتبه أكثر من ثلاثمائة خطاب، منها نحو مائتين في شؤون أدبية وغير أدبية يصح نشرها كلها وإن كان في بعضها ما قد يؤلم بعض أدبائنا المعاصرين بما جاء عنهم فيها
أما سائر الكتب وهي أكثر من مائة فهي في أمور خاصة بي وبه لا يمكن نشرها ولا يصح إظهار أحد على ما جاء فيها.
(المنصورة)
محمود أبو رية
أغنية
ذكريات. . .
حِينَما كُنْتُ أَرَاهَا وَتَرَانِي
…
مِنْ بَعِيدٍ كالتِمَاعَاتِ اْلأَمَانِي
فَتَقَارَبْنَا عَلَى بُعْدِ الْمكانْ
…
وَتَحَابَبْنَا عَلَى رَغْمِ الزَّمَانِ
وَبَلغْنَا مِنْ أَمَانِينَا مَدَاهَا
فَتَلَاقَيْنَا عُيُوناً وَشفَاهَا!!
لَسْتُ أَنْسَى وَقْفَةً عِنْدِ الْغَديِر
…
وَهجِيرُ الصَّيْفِ كالشَّوقِ المُثيِرِ
فَخَلَقْنَا نَحْنُ مِنْ نَارِ السَّعِيرِ
…
جَنَّةً لِلْحُبِّ فَاضَتْ بِالْعَبِيرِ
قَدْ خَلَقْنَاهَا وَسَوَّيْنَا رُبَاهَا
وَعَلَيْنَا حَرَّمَ الله جَنَاها!!
لَسْتُ أَنْسَى في صِبَانَا مَرْبَعَاً
…
كانَ مَلْهَانَا نُقَدِّيهِ مَعَاً
فَرَكْبِنَا الّلهْوَ وَالدَّهْرُ سَعَى
…
لَا الصِّبَا دَامَ وَلَا الصَّفْوُ رَعَى
رَبَّةَ الآمَالِ وَاستْبقَى صِبَاهَا
وَكأنِّي لَمْ أكنْ قَبَّلْت فَاهَا!
أَيْنَ مِنِّي جَنَّةُ الأَمْسُ القرَيبِ؟
…
أَيْنَ مِنِّي خَمْرَةُ الثَّغْرِ الشَّنِيبِ؟!
أَيْنَ مِنَّي رِقَّةُ الْغُصنِ الرَّطِيبِ
…
يَا حَبيِبي أَيْنَ مِنِّي يَا حَبيبي
جَلْوَةُ الْحُبِّ وإِشْرَاقُ ضُحَاهَا!
خَيَّمَ الّليْلُ عَلَيْهَا فَمَحَاهَا!!
أَصْبَحَ الْحُبُّ وَأَمْسَى ذِكْرِيَات
…
وَانْقَضَى عَهْدُ الْهَوى والصَّبَوَات
وَوَلّى الْعُمْرُ إِلاّ زَفَراتِ
…
لَم تَزَلْ تُشْعِلُ قَلْبِي بِشَكَاتِي
أَيْنَ عَيْناَهَا وَأَيَّامُ هَوَاهَا؟؟
لَيْتَنيِ كُنْتُ، أَنَا وَحْدِي، فِدَاهَا!
أحمد أحمد العجمي
(كوم النور)
الأحلام
للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون
بقلم الأستاذ ألبير نادر
(ترجمة المحاضرة التي ألقاها الفيلسوف هنري برجسن في
دار المعهد العام لعلم النفس)
إن المحاضرة التي عُهد إليّ بإلقائها معقدة ومثيرة لمسائل عديدة: منها ما يتعلق بعلم النفس، ومنها ما يتعلق بعلم الحياة وأيضاً بما وراء الطبيعة. والموضوع يتطلب شرحاً طويلاً ولدينا القصير من الوقت، لذلك أطلب إليكم أن تعفوني من كل مقدمة حتى نبحث الموضوع مباشرة
هاك حلم: أرى أشياء مختلفة تمر أمامي وليس واحد منها موجوداً فعلاً - يخيل إليّ أنني أغدو وأروح، أمر بسلسلة من الحوادث بينما أنا نائم في فراشي بكل هدوء. أصغي إلى نفسي تتحدث وأسمع من يجيبني، ولكن أنا لا أفوه بشيء. فمن أين هذا الوهم؟ لِمَ ندرك أشخاصاً وأشياء كأنها موجودة حقيقية؟
ألا توجد أشياء حقيقية؟ أليست هناك بعض المواد الحسية تتهيأ أمام السمع أو البصر أو اللمس الخ. . . في وقت النوم كما هو الشأن في وقت اليقظة؟
لنغمض أعيننا ونرى ماذا يحدث. كثيرون من يقولون إنه لا يحدث شيء لأنهم لم يتبصروا في الأمر، ولكننا في الحقيقة نرى أشياء عديدة: أولاً نرى قاعاً أسود ثم بقعاً مختلفة الألوان باهتة حيناً وبراقة حيناً آخر، وهذه البقع تتمدد وتنقبض، تبدل ألوانها وتتحدى الواحدة منها الأخرى. وهذا التبدل يمكن أن يكون بطيئاً متدرجاً ويمكن أن يتم في بعض الأحيان بسرعة شديدة. فمن أين هذه التخيلات؟. تكلم علماء الحياة وعلماء النفس عن (غبار منير) وعن (طيف بصري) وعن (شرار العين) فتراهم ينسبون هذه الظواهر إلى التغيرات البسيطة التي تحصل باستمرار في الدورة الدموية في شبكة العين، أو إلى الضغط الذي يسببه الجفن المقفل على المقلة والذي يؤثر تأثيراً آلياً على العصب البصري - ولكن قلما يهمنا شرح الحادث أو الاسم الذي يطلق عليه - إن هذا الحادث عام لدى الجميع ويقدم بلا شك المادة
التي تنقش عليها كثير من أحلامنا. لاحظ ألفريد موري كما لاحظ في نفس الوقت المركيز درثي دي سان ديني أن هذه البقع الملونة ذات الأشكال المتحركة المتقلبة يمكنها أن تثبت عندما نخمل؛ فترسم حينئذ دوائر الأشياء التي تكون الحلم. ولكن علينا أن ننظر إلى هذه الملاحظة بعين الحذر لأنها ناتجة عن علماء نفس أنصاف نُيّم. تصور الفيلسوف الأميركي لار الأستاذ في جامعة يال طريقة أكثر إحكاماً ولكنها صعبة التطبيق لأنها تتطلب شيئاً من المران. تنحصر هذه الطريقة في إبقاء العينين مقفلتين عندما نستيقظ والمحافظة مدة لحظات على الحلم الآخذ في الزوال من حقل البصر وبالتالي من حقل الذاكرة. ترى عندئذ موضوعات الحلم تتحول إلى شرار العين وتمتزج بالبقع الملونة التي كانت تشاهدها العين حقيقة عندما كان الجفنان مغلقين. فإذا كنا نطالع جريدة مثلاً فها هو الحلم يتكون ثم تستيقظ وتبقى من الجريدة التي ارتسمت سطورها في العين بقعة بيضاء وبعض السطور السوداء المبهمة. هذا ما في الواقع. أو إذا كنا نتنزه في عرض البحر بالحلم، وعلى مدى البصر كان المحيط ينشر أمواجه الرمادية التي تكللها رغوة بيضاء. فعند اليقظة كل هذا يتلاشى في بقعة كبيرة اللون الرمادي الباهت تتخططها نقط براقة. البقعة موجودة وكذلك النقط اللامعة؛ إذاً يوجد غبار بصري بدا لإدراكنا أثناء النوم وهذا الغبار استعمل في صنع الحلم
هل يستعمل هذا الغبار وحده فقط؟ لكي نختصر الحديث على حاسة البصر نقول إنه بجانب الاحساسات البصرية الصادرة من الداخل توجد احساسات أخرى صادرة عن سبب خارجي. مهما يكن الجفنان مغلقين فالعين لا تزال تميز بين النور والظلام وتتعرف أيضاً - إلى حد ما - على نوع النور؛ لكن الاحساسات الناتجة عن نور حقيقي هي أصل لكثير من أحلامنا، فشمعة تضاء فجأة تحدث عند النائم عدة رؤى تسود فكرة الحريق ويذكر تيسيه مثلين لذلك: (فلان يحلم أن النار تلتهم مسرح الإسكندرية واللهب يضيء حياً بأثره، وفجأة يجد نفسه قد انتقل إلى ميدان القناصل، وهناك يرى شريطاً من النار يجري على مدى السلاسل التي يربط بعضها ببعض علامات الحدود الغليظة الموجودة حول الحوض، ثم يجد نفسه في باريس في المعرض وقد التهمته النار. . . يشاهد مناظر مؤلمة الخ. . . فيستيقظ بغتة: إن عينيه كانتا متأثرتين بحزمة النور المنبعث من مصباح الواعية وهي تمر في جولتها الليلية وكانت قد سلطت المصباح على السرير
فلان آخر يحلم أنه التحق بوحدة مشاة البحرية حيث خدم سابقاً - يذهب إلى نوردي فرانس، إلى ظولون، إلى كوريان، إلى القرم، إلى القسطنطينية، يشاهد برقاً، يسمع رعداً، ثم يشاهد معركة يجد فيها النار تخرج من أفواه المدافع فيستيقظ - ومثل فلان الأول استيقظ بسبب النور المنبعث من مصباح الواعية عند مرورها) - هذه هي الأحلام الناتجة عن نور شديد مفاجئ.
لكن الأحلام الناتجة عن نور مستمر ولطيف (خفيف) مثل نور القمر فتختلف عن الأولى بعض الاختلاف - يذكر كراوس أنه ذات ليلة عندما استيقظ لاحظ أنه لم يزل يمد ذراعيه نحو ما كان يظنه في حلمه غادة، ولم تكن سوى القمر يرسل له شعاعه - إن هذه الحادثة ليست فريدة في نوعها. يظهر أن شعاع القمر عندما يداعب أعين النائم يمكنه ان يثير رؤى طاهرة. أليس هذا ما تذكره قصة أنديمون:(الراعي النائم دائماً الذي تحبه الإلهة سيلينيه (أي القمر) حباً جماً؟. . .
للأذن أيضاً احساساتها الداخلية مثل الطنين والرنين والصفير التي لا تقوى على تمييزها وقت اليقظة ولكن النوم يبرزها بكل وضوح - لا نزال ونحن نائمين نسمع بعض الأصوات الآتية من الخارج مثل طقطقة دولاب أو تلألؤ النور أو صوت المطر المنهمر على النافذة أو الريح المتقلب النغمات؛ فكلها أصوات تصدم الأذن ويحولها الحلم إلى محادثة وصراخ وألحان ألخ. . .
حك بعضهم مقصاً بملقط أمام أذن الفريد موري وهو نائم، ففي الحال حلم أنه يسمع صوت المدفع ويشاهد حوادث 1848 - ويمكنني أن أسرد لكم أمثلة أخرى ولكن يجب أن يكون للأصوات نفس الأهمية التي للأشكال والألوان في أغلب الأحلام - إن الاحساسات البصرية لها الأسبقية وفي غالب الأحيان نرى فقط حينما نظن أننا نسمع أيضاً. . .
ويلاحظ مكس سيمون أننا نقوم بمحادثة كاملة في الحلم، ونلاحظ بغتة أنه لا شخص يحدثنا ولا أحد يتكلم - لقد كان هناك بيننا وبين محدثنا تبادل مباشر في الأفكار، محادثة ساكنة - إنه لحدث غريب ولكنه سهل التفسير - فلكي نسمع أصواتاً في الحلم يجب أن تكون هناك دائماً أصوات حقيقية نحس ونشعر بها لأن الحلم لا يصنع شيئاً من لا شيء؛ وإن لم تقدم له مادة رنانة فيصعب عليه أن يصنع ما هو رنان.
ومن جهة أخرى يتدخل اللمس بقدر ما يتدخل السمع، فأي لمس وأي ضغط مهما يصل إلى الوجدان أثناء النوم فحاسة اللمس تقمر بتأثيرها الصور الموجودة حينئذ في الحقل البصري؛ وعليه يمكنها أن تُغيّر شكل هذا الحقل ومعناه. لنفرض أننا نشعر فجأة بملامسة الجسم مع القميص فالنائم يتذكر أن ما يرتديه من ملابس خفيف. وإذا ظن حينئذ أنه يتنزه في الشارع فإنه سيظهر أمام أعين المارة في هذا اللباس البسيط جداً. ولكن المارة لا تتأثر من هذا لأنه نادراً ما تبدو الأشياء الخارقة
التي نستسلم إليها في الحلم، مثيرة لدهشة المراقبين بينما نحن يعترينا منها الحياء والخجل.
(يتبع)
ألبير نادر
من أزهار الشر
للشاعر شارل بودلير
شبح
1 -
الظلمات
في غيران الحزن الذي لا قرار له، حيث رماني القدر، وحيث لا ينفذ شعاع وردي مرح، أُراني وأنا منفرد مع الليل، هذا الزائر العبوس، كمصور قضى عليه إله ساخر أن يرسم ويا للأسف! صورة على الظلمات، أو كطاه ذي شهوات كئيبة تُفضي إلى الموت، أغلى قلبي وأجعله أُكلتي
وفي لحظة تألق طيف صيغ من الرواء والجلال، وعندما بلغ آية روعته في مشيته الشرقية الحالمة، عرفت زائرتي الجميلة:
إنها هي. . .! سوداء وإنها لسنية
2 -
العطر
أيها القارئ ألم تستنش، في شيء من السكر والنهم المتمهل، رائحة البخور التي تملأ جو المعابد، أو عطراً معتقاً من مثبنة حسناء؟
إنها لفتنة عميقة سحرية، تبعث في نفوسنا النشوة بالماضي الذي يعود في اللحظة الحاضرة! كذلك يجني العاشق الزهرة الناضرة من ذكرياته الغابرة، وبين يديه جسد معبود
فمن جدائلها اللدنة الجثلة، هذه المثبنة الحية، هذه المبخرة التي تملأ جو المخدع، كانت تفوح رائحة وحشية ضاربة
ومن ثيابها الحريرية والمخملة، العامرة بشبابها الناضر، كان ينبعث أريج الفراء
3 -
الإطار
مثل الإطار الجميل الذي يضيف إلى الصورة الجميلة، وإن كانت بريشة رسام عظيم، مالا أدري من الغرابة والسحر حين يعزلها عن الطبيعة الهائلة، مثل ما حولها من الحلي والأثاث والمعادن والطلاء، فإنها كانت تتسق مع جمالها النادر. فلم يحجب وصفائها الساطعة شيء، وقد بدا كل شيء كزينة أحاطت بها حتى خالت ذات يوم أنها تريد أن
تتعلق بها حباً، فأغرقت جسمها العاري باشتهاء في لثمات الأطلس والكتان، وكانت كلما تمايلت في أناة أو سرعة تبدي في لفتاتها رشاقة القرد الساذجة
4 -
الصورة
إن العلة والمنية تحيل النار التي تشتعل بها حياتنا إلى رماد. فماذا تبقى من هذه العيون النجل المتوهجة الوردية، ومن هذا الثغر الذي كان يغرق فيه قلبي، ومن هذه القبل القديرة كالسلوان، ومن هذه النظرات التي تفيض بالحياة أكثر من الأشعة؟ ماذا تُبقي؟ إنه لمروع يا نفس! فماذا تُبقي غير صورة شاحبة من ثلاثة خطوط
ويحي! من مثلي يموت في الوحدة، ومن مثلي يلطمه الدهر، هذا الظالم المسن، كل يوم بجناحه القوي؟
أيها القاتل الأسود، يا عاصب الحياة والجمال، لن تقضي، في ذاكرتي، على تلك التي كانت بهجتي ومجدي!
ترجمة
عثمان علي عسل
البريد الأدبي
الإصلاح والحرية
اطلع قراء الرسالة في العدد 512 على تنبيه للبحث الذي اعتزم الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت نشره في الرسالة، مدافعاً عن فتواه بشأن (نزول عيسى)، داحضاً أقوال مخالفيه في هذه المسألة. وقد فوجئنا في العدد التالي، بأن أسباباً قاهرة حالت دون نشر الرسالة لهذا البحث القيم، وهي إشارة لا تستبهم على من تتبع حركة الإصلاح الديني في مصر، وما لقيته في العهد الأخير من تعنت الجامدين، ومناهضتهم كل رأي جديد وبحث حر، مهما كان نصيبه من الإخلاص والغيرة على الشريعة السمحة التي أطلقت العقول من عقالها، وجعلت حرية التفكير من ألزم خصالها
وبينما يتطلع العالم الإسلامي إلى مصر لتكون موئل التفكير الحر، ومثابة الإصلاح المثمر لدينه وتقاليده وآرائه، ويتلقى بشغف بالغ الدعوات الكريمة والأبحاث الجريئة التي يتقدم بها أساطين العلم وجهابذة الفكر من رجالات مصر - يقف مبهوتاً كلما علم أن هذا الباحث أو ذلك المصلح قد حيل بينه وبين ما يريد من إبلاغ دعوته ونشر أبحاثه، وهذا في مصر التي حدثنا التاريخ أنها وسعت كل مذهب، وآوت كل حر طريد
نحن نعلم أن الخلاف لابد منه بين أهل البحث، ولا ننكر على مصر وجود طائفة تناهض الإصلاح وتخاصم المصلحين، ولكننا ننكر على هذه الطائفة أن تخاصم بالوقيعة وتستغل عواطف العامة، مستمدة في ذلك أسباب الغلب عندما تعوزها الحجة والبرهان.
ونفهم أيضاً أن يعرض أولو الأمر لحماية العقائد وصيانة الأخلاق، ويحولوا دون إفسادها بالآراء الشاذة والنشرات الخبيثة؛ ولكننا لا نسيغ أن يمنع عالم مصلح كالأستاذ شلتوت من الدفاع عن رأيه في مسألة دينية، وهو يتمتع بمركز علمي يعلو صاحبه عن كل شبهة تحول دون نشر أبحاثه على الناس، لاسيما في عهد الإمام المراغي الذي يرتقب فيه المسلمون خيراً كثيراً، ولن يبلغ المسلمون أمنيتهم من الإصلاح ما دام أنصار الجمود يملكون من النفوذ ما كانوا يملكونه في عهد ابن تيمية ومحمد عبده (هم العدو فاحذرهم).
(نابلس - فلسطين)
حلمي الأدريسي
فائدة القرض من المصارف المالية
قرأت السؤال الذي وجهه إليَّ الفاضل (محمد عبد الفتاح محمود الحسن - من فلسطين) في البريد الأدبي بالعدد 515 من الرسالة الغراء، فيما يتعلق بفائدة القرض من المصارف المالية، وإني لا أشك في شدة الحاجة إلى وضع حد بيّن في هذه المسألة المتصلة اتصالاً وثيقاً بحياة المسلمين الاقتصادية في هذا العصر، وأقرر في الوقت نفسه أن وضع هذا الحد في مثل تلك المسألة التي تشعبت فيها الآراء قديماً وحديثاً، واتخذت على ألسنة بعض الناس في جميع فروعها صفة العقيدة ليس من السهل أن يبادر به فرد واحد، وإنما ينبغي أن يصدر عن هيئة دينية كجماعة كبار العلماء في الأزهر، حتى تكون له قيمته العملية وتتلقاه القلوب بصدق وإذعان
ولقد توجهت منذ عامين إلى جماعة كبار العلماء باقتراح يتضمن أن تعالج الجماعة أمثال هذه المسألة مما (جد ويجد في المعاملات ويحتاج المسلمون إلى معرفة حكم الشرع فيه). ولا يزال هذا الاقتراح بين يدي فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس الجماعة الموقرة. هذا ما أراه الآن وللسائل الفاضل تحياتي
محمود شلتوت
عثرات. . .
أما الأولى ففي كلام أديبنا الكبير الدكتور زكي مبارك:
(يا مهاةً لا تخطر إلا في البال)
كلام جميل. . . لكنه غير دقيق، ففي العبارة ما يسميه علماء المعاني (القصر)
وفي قصر خطور هذه المهاة على (البال) نظر، كما يقول سادتنا الأزهريون، إذ أنه يقتضي جواز خطورها بشيء آخر غير البال. . .
أفهم أن يقال: (لا تخطر إلا في بالي) فالقصر واقع على باله وحده دون بال غيره من الناس. وإن كان في هذا المعنى غضٌّ من جمال هذه المهاة الذي لا يؤثر إلا فيه وحده، أما قصره الخطور على (البال) دون سائر جوارح البدن، فهو قصر لا معنى له.
وأما الثانية ففي كلام فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت إذ يقول: (وهل إذا قال
المسلمون في مسألة. . . وهل إذا أنكر عالم. . . وهل إذا قال قائل. . . الخ)
وعلماء المعاني - وعلماء النحو أيضاً كصاحب المغنى - يقولون: إن هل الاستفهامية لا يقع بعدها الشرط أبداً. . . وهذا فرق بينها وبين الهمزة. . .
وأما الثالثة ففي كلمة الأديب حسين البشبيشي التي يخطئ فيها شعراً نشرته (الثقافة)، وذلك إذ يقول:(والأعجب من كل ذلك هو هذا البيت الغريب. . . الخ.)
ولو أن الأديب البشبيشي رجع إلى أبيه - أستاذنا الفاضل - لدلَّه على أن أفعل التفضيل إذا كان محلى بأل امتنع الإتيان بعده بالمفضل عليه مجروراً بمن، وأن الصواب إن أراد ذكر المفضل عليه أن يقول:(وأعجب من كل ذلك) بتجريده من أل.
محمد محمود رضوان
المدرس ببني سويف الابتدائية
في القصة والمقامة
أهدى إليّ الأستاذ الفاضل محمد جميل سلطان الدكتور في الآداب وعضو المجمع اللغوي للدراسات السامية في باريس، وأستاذ الأدب العربي في تجهيزي دمشق الرسميين وفي الكلية الشرعية الإسلامية، رسالته في (القصة والمقامة) وهي رسالة صغيرة تقع في 56 صفحة من القطع الصغير. وقد طبعت في مطبعة الترقي بدمشق في هذه السنة
وهي تتضمن بحثاً طريفاً في القصة وشروطها، وتبين كيف تدرجت القصة حتى وصلت إلى المقامة في عصر الهمذاني والحريري وكيف اهتدى إلى هذا بديع الزمان، وهل هو الذي اخترع فن المقامة، وما الفرق بينها وبين القصة، وبين عمل الهمذاني وعمل الحريري فيها. فإذا انتهت من هذا كله في دراسة دقيقة مستفيضة انتقلت منه إلى بيان ما طرأ على المقامة بعد الحريري، فذكرت في هذا من تناولها من الأدباء إلى عصرنا الحاضر، وبينت حالها في ذلك من قوة وضعف واستقامة وانحراف، وقد ختمت ببحث طريف في المقامات عند غير العرب، بين فيه أثر هذا الفن العربي في الأدب الفارسي والأدب السرياني والأدب العبري؛ فجاءت بهذا كله رسالة جامعة لكل ما يتعلق بموضوعها. ولهذا نحث المشتغلين بالأدب على اقتنائها.
عبد المتعال الصعيدي
حول تراجم المعاصرين
أمنية يطيب للنفس أن تتعلق بها ولكن الشواهد التي حولنا توشك أن تثبط الهمم. فمن كان يتوهم أن أديباً فاضلاً سيعجز عن جمع طرائف المرحوم حافظ ونوادره؛ وأن هذه الملح ستتبخر من واعية أصدقاء حافظ وجلسائه وخاصته!!
بل من كان يتوهم أن أديباً يكتب كتاباً فيذكر فيه (المرحوم فلان!) وفلان هذا لم يزل ينعم بأنفاس الحياة!!
وأكثر من هذا. فإن الكثير من شعرائنا لا يقيمون وزناً لتأريخ ظروف قصيدهم مما يضيع على الأدب فوائد يدركها الناقد الفطن
ولقد كان الظن أن تقوى هذه الناحية من الأدب في عصر الطباعة والراديو! ولكن المشاهد غير ذلك. . . وتلك هي المسألة، كما يعبر الغربيون. . . أفيكون هناك أثر نفسي خطير (لانتشار الطباعة) سبّب ضعف الذاكرة وتهاونها، وقعد بالناس عن مسايرة الأخبار وروايتها؟
إنا لنعتقد ذلك. . . فإن وفرة المطبوعات أيقظت في الناس رغبة الخمول والاعتماد على (الغير) ممن يؤلفون. . . وهؤلاء نفر قليل قد لا يلازمهم التوفيق في كل الأحايين. ومع هذا فإننا لنعتقد أن باب النقد والتحليل في كبريات مجلاتنا كالرسالة والثقافة والمقتطف والهلال يقدم صورة مصغرة لتراجم المعاصرين. وبعد فما من شك في أننا نجهل الكثير من أطوار حياة كتابنا، ولقد كنت إلى عهد قريب أجهل أن أستاذنا الكبير الزيات يحمل شهادة الحقوق، وأن هناك بعض كتب ألفها ليضع غيره عليها اسمه! لو أننا اهتممنا بتراجم المعاصرين لأنكشفت لنا أسرار وأسرار، ولتركنا لخلفنا آثار أدبية واضحة التقاسيم سديدة المرامي
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي
جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية
أعلنت جماعة نشر الثقافة عن إقامتها لمهرجان الربيع بمسرح نادي الحكومة عند الساعة الخامسة من مساء يوم الاثنين الموافق 24 مايو 943، وسيكون شعراء الحفل وخطباؤه وفنانوه الأساتذة الأفاضل:
(1)
محمود البشبيشي
(2)
خليل شيبوب
(3)
مصطفى علي عبد الرحمن
(4)
حسين جنيد الموسيقار
(5)
أحمد الطاهر
(6)
السيدة منيرة توفيق
(7)
حسين محمود البشبيشي
(8)
فرقة موسيقى نادي الموظفين
(9)
صلاح الدين طاهر
(10)
عثمان حلمي
(11)
أحمد السمرة
(12)
المطرب طاهر القرضاوي