المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 517 - بتاريخ: 31 - 05 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥١٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 517

- بتاريخ: 31 - 05 - 1943

ص: -1

‌بيفردج والمرأةَّ

للأستاذ عباس محمود العقاد

قال لي صاحبي وهو يوشك أن يلقى بالصحيفة من يده: وما شأن بيفردج بهذه المسألة؟ ما شأنه بالمرأة وما يقوله الحكماء والشعراء في النساء؟

بيفردج والمشاكل الاقتصادية مفهوم؛ أما بيفردج والمشاكل العاطفية فغريب غير مفهوم، لأنه يبدو للأكثرين في هذه الحالة كمدير المصرف الذي ينظم ديواناً من الشعر على هامش الميزانية! أو كالسياسي الذي يسوق العواطف في خطاب رسمي من خطب الأزمات والمعضلات! وكل ذلك غريب أو (نشاز) كما يقال في لغة الفنيين

كان الذين يعرفون بيفردج قبل هذه السنة يعرفونه قطباً من أقطاب الاقتصاد السياسي ولا سيما في مسألة البطالة ومسائل التأمين الاجتماعي والتموين على الإجمال. فلما ظهر بمشروعه المشهور منذ بضعة شهور ظهر في ثوبه الذي يعهده الناس، وعرفه الأكثرون في أنحاء الأرض كما كان يعرفه الأقلون في البلاد الإنجليزية، رجلاً من رجال الحساب أو الإصلاح المبني على الحساب

أما صاحبي الذي كان يقرأ الصحيفة وأوشك أن يلقيها من يده دهشة فقد خيل إليه أنه يراه في غير زيه ويلتقي به في غير مكانه؛ لأنه رآه في كتاب عجيب صدر قبل ثلاثين سنة ولم يحفل به أحد غير قراء الأدب يومذاك. وهو كتاب جمع فيه المصلح الكبير طائفة مختارة من أقوال الحكماء والأدباء والمفكرين من أقدمين ومحدثين. . . في أي موضوع؟. . . في موضوع لا يتخلله رقم واحد من أرقام الحساب، وهو موضوع المرأة والحب والعاطفة والمناجاة!

قلت لصاحبي: الرجل على حق. . . وأنت المخطئ في هذه الدهشة التي فوجئت بها كما يفاجأ المرء بالمتناقضات. وليس فيها من التناقض شيء على ما أعتقد. بل هي أدل الدلائل على طبيعة الإصلاح المتأصلة في هذا الرجل من أوائل عهده بالاشتغال بالمسائل الاجتماعية، لأنه جمع الإصلاح الاجتماعي من يمينيه وشماله، واحتواه في جميع أحواله وأشكاله. فاهتم بمسألة الرجل والمرأة، كما اهتم بمسألة الفقر والغنى، وهما هما الإصلاح الاجتماعي بحذافيره من قديم الزمان، وفي كل ما تنزل من الأديان أو المذاهب والدعوات

ص: 1

العظات التي نسمعها من عشرة آلاف سنة يبدأها الواعظون ويعيدونها من جديد عصراً بعد عصر وجيلاً وراء جيل، على أي شيء تدور وفي أي معنى تقال مع اختلاف الكلمات والأساليب؟ على العلاقات المشروعة أو غير المشروعة بين الرجل والمرأة، على البيوت والآباء والأمهات، على الرحمة والإحسان أو على الإنصاف في توزيع الأرزاق

وهذه هي خلاصة الإصلاح كله، وهذه هي المسائل التي شغل بها صاحبنا بيفردج واهتم بها وهو يلهو في شبابه كما اهتم بها وهو يعالج المعضلات في مشيبه، كأن أعصابه موصولة بأعصاب المجتمع الإنساني فهو يهتدي إلى المواضع الحساسة بإلهام البداهة

وأعجب من إحساسه البديهي بأصول الاصطلاح دقة إحساسه في اختيار الحكماء والشعراء ثم دقة إحساسه في اختيار ما يقولون. فيخيل إليك أنه لا يختار من الحكماء والشعراء إلا الذين لمسوا مشكلة المرأة في حياتهم الخاصة، ولا يقع من كلامهم إلا على الكلمة التي تمثلهم في الصميم

فمن حكمائه تولستوي الفيلسوف الروسي المشهور الذي خانته امرأته فوصف هذه الخيانة في قصة من أشهر قصصه الصغيرة، وراحت امرأته تبرئ نفسها بعد موته فتصدت لها بنته تكذبها وتأخذ بناصر أبيها وترثى له مما لقيه من خيانة أمها

ومنهم رسكن الناقد الفيلسوف الفنان الإنجليزي الذي سرح امرأته بيديه لتتزوج من عشيقها

ومنهم هازليت ملك النقاد في العالم الذي فشل أفجع الفشل في حبه كما فشل في زواجه

ومنهم روسو ورابيليه وسقراط وأمثالهم من حكماء الأمم الذين عرفوا هذا الجانب من الحياة بالذكاء والفطنة كما عرفوه بالخبرة والمحنة، وهم كثيرون

فالفيلسوف الروسي تولستوي يقول: (إن النساء يعرفن جيداً أن ما يسمى حباّ علوياً أو حباً شعرياً لا يتوقف على الفضائل الأخلاقية كما يتوقف على المقابلات الكثيرة، وعلى (تسريحة الشعر) وألوان الملابس وطريقة تفصيلها)

وروسو يقول: (إن الذكر إنما يكونّ ذكراً في بعض أوقاته. أما المرأة فهي أنثى في جميع حياتها أو على الأقل في جميع أيام شبابها. فكل شيء يذكرها ولا يزال مذكراً لها بجنسها)

وهازليت يقول: (النساء لا يعتمدن على التفكير أو القياس المنطقي أبداً، وإنما يحكمن

ص: 2

بالغريزة على ما يشعرن به مباشرة ولا يشغلن أنفسهن بالعواقب البعيدة. فإذا فاتهن العثور على الأفكار العظيمة فهن أيضاً لا يتورطن في السخافات الضخمة، وإنما هو العقل وحده - أو القياس المنطقي - الذي يجعل الإنسان مثلاً في أصالة الرأي أو مثلاً في الحماقة)

وشسترفلد الذي كتب رسائله المشهورة إلى ابنه غير الشرعي يقول: (اثنتان من النساء يحسن تمليقهما بوصف الذكاء واللباقة، وهما المرأة التي لا شك في جمالها، والمرأة التي لا شك في قبحها. أما المتوسطات بين الجمال والقبح فهن اللواتي يخدعن بوصف الجمال أو على الأقل بوصف الملاحة)

وهولمز يقول: (الإفراط في قلة الكلام من المرأة التي نحبها خير من الإفراط في كثرة الكلام. فإن الطبيعة تعمل لها وتغنيها عن العمل لمصلحتها وهى ساكتة، ولكنها إذا تكلمت فهي تعمل لنفسها (ولن تدرك في ذلك شأو الطبيعة) والحب على ألسنة الرجال عسير الذوبان فهم يكثرون من الكلام فيه، ولكن الكلمة الواحدة تقولها المرأة قد تذيب منه ما يعجز قلب الرجل عن احتماله)

وديوجين - الكلبي - يقول: (إياك أن تأمن المرأة ولو ماتت!)

أما سيجوس فيقول: (لنكن للنساء منصفين، فإنهن لا يزلن على طول الزمن مصدر العزاء الصحيح لجنس الإنسان. إنهن أقدر منا على الشعور بحاجة من يرونه محتاجاً إلى العزاء)

ويقول رسكن مثله: (في المجتمع الذي يبلغ فيه الرجال والنساء غاية المقدور لهم من الكمال تتولى النساء رسالة الهداية والتطهير. أما في المجتمعات الهمجية أو المتأخرة فهن يعانين الظلم جهرة كأنهن من العجماوات، ثم هن يعانينه خلسة - مضاعفاً - في المجتمعات التي يشيع بينها الفساد والسقوط)

ويعود رابيليه فينقض هذا الرأي وما شابهه حيث يقول متهكماً: (يزعمون أنهم قلما يعثرون بحسناء يقيدها العرف أو القانون بقيد الواجب المفروض)

ويتعرض كولردج الشاعر الإنجليزي غريم نابليون للملكات الفنية في المرأة فيقول: (إن النساء روائيات مجيدات ولكنهن شاعرات مخفقات، وذلك لأنهن يفرقن نادراً - أو لا يفرقن أبدا - بين الواقع والاختلاق)

أصحيح هذا؟

ص: 3

الأمثلة المتواترة أمامنا تدل على أنه صحيح كل الصحة. لأننا عرفنا كثيراً من النساء النابغات في كتابة القصة والرواية، ولم نعرف قط شاعرة عظيمة نبغت في أمة من أمم العالم قديمها وحديثها

فهن روائيات مجيدات وشاعرات مقصرات، ولكن لغير السبب الذي يراه كولردج فيما نرجح، وهو قلة التفرقة بين الواقع والاختلاق أو التأليف

والذي نرجحه أن المرأة تحسن كتابة القصة لأنها مطبوعة على الفضول والاستطلاع والخوض في أسرار العلاقات بين الرجال والنساء والإطالة في أحاديث هذه الأسرار مع الاشتياق والتشويق. وهذا كله هو معدن القصة التي تصاغ منه، وهو جوهر من جواهر الرواية قد يغنيها عن المزايا الأخرى من تحليل وتعليل وإبداع في الوصف والتمثيل

أما الشعر فهو ابتكار واقتدار على الإنشاء، وليست المرأة مشهورة بالابتكار حتى في صناعتها الخاصة بها كالطهي وصناعة الملابس والتزيين

والشعر - وأساسه الغزل - هو وسيلة الرجل لمناجاة المرأة، وقد تعودت المرأة بفطرتها أن تكون مطلوبة مستمعة في هذا المجال. فهي لا تحسن الشعر كما يحسنه الرجل، وعلى هذه السنة تجرى جميع الذكور في أنواع الحيوان حين تسترعى أسماع الإناث بالغناء أو الهتاف والنداء

ولا عجب لهذا أن يخلو تاريخ الإنسان من شاعرات مجيدات بل من شاعرة واحدة مجيدة بغير استثناء في جميع اللغات. وحتى (سافو) الشاعرة اليونانية التي ذاع صيتها في الزمن القديم لا تحسب بين الطراز الأول في الشعراء. وإن حسبت من الطراز الأول فهي في شعرها - المعكوس - تمثل الرجال أكثر من تمثيلها النساء، لأنها كانت تنظم الغزل في البنات

هذه طرائف من الآراء التي حام بينها بيفردج لتصوير المرأة بألسنة الحكماء والشعراء في الأمم كافة. ثم لم يمنعه ذلك آخر المطاف أن يلتمس لها المعونة والعذر والإنصاف. وهكذا تكون رحمة العليم ومعذرة الحكيم

قبل في نقد مشروعه الاقتصادي الكبير أنه لم يأت فيه بجديد ولم يجاوز أن يستقصي فيه ما تقدم من خطط الإصلاح مع قليل من التنقيح والزيادة هنا وهناك

ص: 4

ويمكن أن يقال في فلسفته عن المرأة أنها على هذا النحو فلسفة الجمع والتوفيق بين مختلف الآراء

وعلى هذا وذاك يجب أن يقال إنه قد أفاد وأعان على فهم جوانب الإصلاح

ويجب أن يقال بعد هذا وذاك أنه كان مثلاً من أمثلة عدة في الحرب الحاضرة على اتساع آفاق الحياة عند الغربيين. فهم على قدر أعباء الحياة التي ينهضون بها يقابلونها بما يكافئها ويلاقيها في كل ناحية من نواحيها، لا يشغلهم اليوم عن الغد، ولا الجد عن اللهو، ولا العظيم عن الصغير، ولا أحاديث الأزمات والمعضلات، عن أحاديث المساجلة والمناجاة.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌آيتان.

. .

للأستاذ محمود شلتوت

كان فيما قررناه سابقاً: أن القرآن كله قطعي في وروده، وأنه في دلالته نوعان: قطعي لا يحتمل التأويل، وغير قطعي يحتمل معنيين فأكثر، وأن هذين النوعين قد وجدا في العلميات والعمليات، وأن النوع الثاني لا يصلح أن يتخذ دليلا على عقيدة يحكم على منكرها بأنه قد كفر. قررنا هذا ثم أخذنا في تطبيقه على الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله، فأرجعنا هذه الآيات إلى أنواع ثلاثة بينا بطلان رأيهم في نوعين منها، واليوم نذكر النوع الثالث وهو آيتان زعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى:

إحداهما: قوله تعالى في سورة النساء (وان من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا)

والأخرى: قوله تعالى في سورة الزخرف (وانه لعلم للساعة فلا تمترن بها)

ما غاب عنا، وقت أن كتبنا الفتوى، النظر في هاتين الآيتين وفي درجة دلالتهما على نزول عيسى، وما غاب عنا ما ذكره المفسرون من الآراء والإفهام المختلفة فيخما، وما كنا نحسب - ونحن بصدد البحث عن دليل قاطع يحكم بالكفر على مخالفه - أن أحداً يعرض لهاتين الآيتين وقد رأى فيهما ما رأينا من أقوال المفسرين المختلفة في ذاتها، والمختلفة في ترجيحها، فيقول إنهما نصان قاطعان في نزول عيسى! ولذلك آثرنا إذ ذاك أن نترك الكلام عليهما اكتفاء بظهور درجتهما في الدلالة لكل من يقرأ شيئاً من كتب التفسير. ولكنهم أبوا ألا أن يذكروا هاتين الآيتين ويزعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى، فلسنا نجد بداً من أن نضع بين يدي القراء خلاصة لآراء المفسرين فيهما، ثم نقفى على ذلك بما نرى ليتبين الحق واضحاً:

الآية الأولى:

للمفسرين في هذه الآية آراء مختلفة وأشهرها رأيان:

الأول: أن الضميرين في (به) و (موته) لعيسى. والمعنى: ما من أحد من أهل الكتاب يهوديهم ونصرانيهم إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. قالوا: أخبرت هذه الآية أن

ص: 6

أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى قبل موته، وهم لم يؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طلب منهم، فلابد أن يكون عيسى إلى الآن حياً، ولا بد أن يتحقق هذا الإيمان به قبل موته، وذلك إنما يكون عند نزوله آخر الزمان

الثاني: أن الضمير في (به) لعيسى، وفي (موته) للكتابي. والمعنى: أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى. والإخبار بإيمان أهل الكتاب على هذا الوجه لا يتوقف على حياة عيسى الآن، ولا على نزوله في المستقبل، لأن المراد أنهم يؤمنون عند معاينتهم الموت بأنه نبي الله وابن أمته

هذان رأيان مشهوران في الآية عند المفسرين، ولكل منهما من يرجحه. وقد ساقهما ابن جرير، وذكر الآثار التي تدل لكل منهما ثم قال:(وأولى الأقوال بالصحة والصواب قوله من قال: تأويل ذلك، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. وإنما قلنا ذلك لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة؛ فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته لوجب ألا يرث الكتابي إذا مات إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام. . . وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره، لأن من مات مؤمناً بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد. . . وقد أجمع أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه، وما جاء به من عند الله فمحكوم له بحكم ما كان عليه أيام حياته غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته، فدل هذا على أن المعنى: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وان ذلك عند نزوله)

ويريد ابن جرير بهذه العبارة أن الإيمان بعيسى يلزمه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما، لأن رسالة محمد مما جاء به عيسى، وعليه يكون من آمن بعيسى مؤمناً بمحمد فيكون مسلماً له أحكام المسلمين في التوارث والصلاة عليه وغسله ودفنه في مقابر المسلمين. . . الخ. وهذا يخالف إجماع السلمين على عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام للكتابي الذي يموت، وإذا كان هذا يخالف الإجماع فقد بطل أن يكون معنى الآية ما ذكر، وكان (أولى الأقوال بالصحة والصواب) في نظر ابن جرير هو الرأي الأول الذي لا

ص: 7

يترتب عليه مصادمة الإجماع

إلى هنا، وقبل مناقشة ابن جرير فيما رجح به، ليس في الأمر أكثر من أن مفسراً من بين المفسرين قد اختار رأياً من رأيين حكاهما عن أهل المأثور ورجح ما اختاره بما رأى، ولكن القوم تلقفوا هذا عن ابن جرير وصوروه بما يريدون موهمين الناس أن الآية صارت بترجيح ابن جرير دليلاً قاطعاً على ما يزعمون من نزول عيسى. ونحن نلخص ردنا عليهم في النقط الآتية التي غفلوا أم تغافلوا عنها:

1 -

إن ابن جرير يذكر احتمالين في الآية، ويذكر الآثار الدالة لكل منهما، ويصل بالرأي الثاني إلى ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فكيف يعد نصاً قاطعاً غير محتمل لأكثر من معنى ما خالف فيه ابن عباس ومجاهد وغيرهما؟

2 -

إن ابن جرير كما وجه الرؤى الذي اختاره وجه الرأي الثاني أيضاً (بأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه). وهذا فيما أرى هو الذي جعل ابن جرير يقتصد في التعبير عن ترجيح ما اختاره فيقول: (وأولى الأقوال) دون أن يقول مثلاً: والرأي الصحيح

3 -

إن يكون ابن جرير قد رجح أحد المعنيين فقد رجح غيره من العلماء المعنى الآخر ومنهم الإمامان: النووي والزمخشري وغيرهما. قال ابن حجر في فتح الباري: (ورجح جماعة هذا المذهب - يريد الثاني - بقراءة أبي بن كعب (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) أي أهل الكتاب. قال النووي: معنى الآية على هذا: ليس من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى وأنه عبد الله وأبن أمته، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال تعالى:(وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال أني تبت الآن) ثم قال: وهذا المذهب، أظهر لأن الأول يخص الكتابي الذي يدرك نزول عيسى وظاهر القرآن عمومه في كل كتابي في زمن نزول عيسى وقبله)

وقد ذكر صاحب الكشاف قريباً من هذا وأطال فيه ونقله عند الإمام الرازي في تفسيره فليرجع إليهما من شاء

بهذا يتبين: -

1 -

أن هذه الآية ليست نصاً في معنى واحد حتى تكون دليلاً قاطعاً فيه

ص: 8

2 -

أن ما تمسك به ابن جرير في ترجيحه للرأي الأول غير مسلم له، فقد بناه على أن المراد بالإيمان في الآية هو الإيمان المعتبر الذي ينفع صاحبه وتترتب عليه الأحكام، مع أنه أيمان - كما قرره العلماء، ومنهم ابن جرير نفسه - لا يعتد به ولا يقام له وزن ولا تترتب عليه أحكام لأنه إيمان جاء في غير وقته

3 -

أن من ينظر فيما تمسك به أصحاب المذهب الثاني: من العموم الواضح في قوله (وإن من أهل الكتاب) ومن قراءة أبى (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) ومن أن إيمان المعاينة لا ينفع صاحبه عند الجمع، لا يسعه إلا أن يخالف ابن جرير فيما ذهب إليه وأن يقول مع النووي عن المذهب الثاني:(وهذا المذهب أظهر).

والنتيجة الحتمية لهذا كله أن الآية ليست ظاهرة فيما يقتضي نزول عيسى فضلاً عن أن تكون قاطعة فيه!

الآية الثانية

للمفسرين في هذه الآية أيضاً آراء مختلفة، ومن هذه الآراء أن الضمير في قوله تعالى:(وانه لعلم للساعة) راجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو إلى القرآن، ولكننا نستبعد هذا ونرى أن الضمير راجع إلى عيسى كما يراه كثير من المفسرين؛ وذلك لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن عيسى. ومع ذلك نجد خلافاً آخر يصوره لنا بعض المفسرين بقوله:(وإنه: أي عيسى لعلم للساعة: أي أنه بنزوله شرط من أشراطها، أو بحدوثه بغير أب، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث)

ومن ذلك يتبين أن في توجيه كون عيسى علماً للساعة ثلاثة أقوال:

الأول: أنه بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة

الثاني: أنه بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة

الثالث: أنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعث والنشور ولقد كان في احتمال الآية لهذه المعاني التي يقررها المفسرون كفاية في أنها ليست نصاً قاطعاً في نزول عيسى، ولكننا لا نكتفي بهذا بل نرجح القول الثاني وهو (أن عيسى بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة) معتمدين في هذا الترجيح على ما يأتي:

1 -

إن الكلام مسوق لأهل مكة الذين ينكرون البعث ويعجبون من حديثه، وقد عني القرآن

ص: 9

الكريم في كثير من آياته وسوره بالرد عليهم واقتلاع الشك من قلوبهم. وطريقته في ذلك أن يلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يشاهدونها فعلاً أو يؤمنون بها (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)(وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت). (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحي الموتى) وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون)

وهذه هي الطريقة المستقيمة المنتجة في الاستدلال المقتلعة للشك، أما أن يلفت أنظارهم إلى أشياء يخبرهم هو بها كنزول عيسى، وهي أيضاً في موضع الشك عندهم، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شك فذلك طريق غير مستقيم؛ لأنه استدلال على شئ في موضع الإنكار بشيء هو كذلك في موضع الإنكار!

2 -

ومما يؤيد هذا قول الله تعالى تفريعاً على أن عيسى علم للساعة: (فلا تمترن بها) فإنه يدل على أن الكلام مع قوم يشكون في نفس الساعة، والعلامة إنما تكون لمن آمن بها وصدق أنها آتية لا ريب فيها؛ أما الذي ينكر وقوعها أو يشك فيها فهو ليس بحاجة إلى أن يتحدث معه عن علامتها، بل لا يصح أن يتحدث في ذلك معه، وإنما هو بحاجة إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولاً ليمكن أن يقال له بعد ذلك: هذا الذي آمنت به علامته كذا

3 -

ثم إنه من الأصول المقررة في فهم أساليب اللغة العربية أن الحكم إذا أسند في اللفظ إلى الذات، ولم تصح إرادتها معنى، قدر في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالاً بها. فإذا طبقنا هذه القاعدة على قوله تعالى:(وإنه لعلم للساعة) وعلمنا أن ذات عيسى من حيث هي لا يصح أن تكون مرادة هنا، وإنه لا بد من تقدير في الكلام، ثم وازنا بين النزول، والخلق من غير أب، وإحياء الموتى، فلا شك أننا نجد الخلق من غير أب أقرب هذه الثلاثة إلى الذات، لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه لا إلى شيء عارض له، وحينئذ يتعين الحمل عليه ويكون معنى الآية الكريمة:(لا تشكوا في الساعة، فإن الذي قدر على خلق عيسى من غير أب قادر عليها)

وبهذا يتبين:

أولاً: أن الاختيار بنزول عيسى لا يصلح دليلاً على الساعة يقتلع به ما في نفوس المنكرين

ص: 10

لها من شك ويصح أن يقال عقبه (فلا تمترن بها)

وثانياً: أن جعل عيسى بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة لا يستقيم هنا، لأن الحديث مع قوم منكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تذكر لهم علاماتها

وثالثاً: أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بيناه.

أما بعد فهذه هي الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله. ولا شك أن القارئ المنصف بعد عرضها على هذا النحو وتطبيقها على المبادئ التي ذكرنا لا يخامره شك في أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهرة غلبة ظن بنزول عيسى أو رفعه فضلاً عما يفيد القطع الذي يكون العقيدة، ويكفر منكره كما يزعمون)

محمود شلتوت

عضو جماعة كبار العلماء

ص: 11

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

حياة أسيوط - الدفع مقدماً. . . - بلادة أدبية! - المعارك القلمية في مصر - الطبيعة والناس

حياة أسيوط

كان من المنتظر أن يتأذى قوم من الكلمة التي كتبتها عن أسيوط، وفي دفع تلك الكلمة تلقيت خطابين كريمين، أحدهما من الأستاذ أحمد فتحي القاضي المحامي، والثانية من الآنسة (ليلى) فماذا أقول في مناقشة هذين الخطابين؟

أذكر أولاً أن لي غاية من التجني على أسيوط، فأنا أريد التنبيه إلى أن هذه المدينة لا تأخذ حظها من الاهتمام الواجب لمدينة في مثل مكانتها التاريخية. وأنا أريد أيضاً تأييد الرأي الذي يقول بإنشاء جامعة في أسيوط لتسترد المدينة حيويتها العلمية والأدبية. وهل ينكر أحد أن من واجب الكتاب الوطني أن يدعو قومه إلى المبادرة بتزويد الحواضر الكبيرة بأزواد العلوم والآداب والفنون؟

أن أكابر أسيوط يهجرونها طائعين، رغبة في الحياة القاهرية، حياة السيطرة على المجتمع السياسي، وأنا أحب أن تعيش العصبيات الإقليمية على نحو ما كانت عليه قبل سنتين، وأتمنى أن يرى الرجل في بلده من قوة الذاتية ما يغريه بالزهد في صوت القاهرة الصخاب

وتقول الآنسة (ليلى) إني لو درست حياة أسيوط بعناية لأدركت أنها أعظم من سنتريس. وأقول إن البلاد تحيا بحب أهليها، وأنا أحب بلدي بأكثر مما يحب الأسيوطيون بلدهم الجميل

حدثني أحد أساتذة الكلية الأمريكية بأسيوط قال: إن الكلية دعت معالي الأستاذ نجيب باشا الهلالي ليكون خطيب الحفلة الختامية في هذه السنة فتفضل بالقبول ثم اعتذر بعد ذلك

فقلت: الكلية لم تراع ظروف الخطيب، فإن الهلالي باشا نفسه حدثني أنه لم يزر أسيوط منذ عشر سنين، ومن المؤكد أن هذه المدة الطويلة مرت فيها مناسبات تفرض عليه زيارة وطنه الأول، مناسبات عائلية في الأفراح أو الأتراح، فكان يكتفي بالبرقيات في التهنئة أو العزاء، فمن العسير عليه أن يعود في مناسبة وقتية لإلقاء خطاب يستطيع إرساله بالبريد

ص: 12

إن أراد

وأعجب ما في هذه القضية أن للهلالي باشا مصالح في أسيوط تعطلت بسبب انصرافه عن زيارة تلك المدينة، فله دار فخيمة تعرضت للتصدع بسبب هذا الانصراف

قلت لصاحبي وأنا أحاوره: هل تعرف أن للديار أرواحاً يؤذيها الجفاء؟

فقال: المعروف أن الديار مجموعة أحجار وأخشاب، فهي جمادات لا تتأثر بالهجران

قلت: هذا وهم في وهم، فالديار تتأذى بالهجر كما يتأذى الأحباب، وليس في الوجود كائن بلا روح، ولو كان في الاصطلاح من الجماد

يستطيع الهلالي باشا أن يعتذر لداره بالشواغل التي تصده عن زيارة أسيوط، ولكن لي رأيا آخر، هو أن نجعل زيارة دورنا بالأقاليم النائية من شواغلنا الأساسية، فلتلك الديار حقوق، وهي أيضاً من ضمائر الوطن الغالي

وبماذا يجيب الهلالي باشا لو دعوته إلى بناء دار بأم درمان أو الخرطوم؟

لو التفت هذه الالتفاتة لكان من السهل عليه أن يخلق لمصر صداقات جديدة في السودان

بإحدى المحاضرات الافتتاحية في الكولليج دي فرانس ألقى علينا المسيو ماسينيون محاضرة عن مشاهداته في إيران، وبعد المحاضرة سألته عن السبب في كثرة أسفاره إلى إيران، فأجاب: ألا تعرف أن لي داراً هنالك؟

وفي مقابل هذا أذكر أن كبيراً من كبرائنا باع أملاكه في بلده لتكون ثروته في القاهرة، عساه يشرف عليها بلا عناء

ومع هذا يعاب على أن أقول إن أكابر أسيوط يهجرون أسيوط!

يجب أن نقول ونقول ثم نقول بأن الإقبال على الحياة القاهرية سيؤذي الأقاليم المصرية أشد الإيذاء

هذا مع أن النيل يرشدنا إلى الواجب في كل لحظة باختياره الموفَّق لأطايب البقاع، ولو سايرنا النيل في هواه لكان عندنا مئات مت غُرر البلاد

وهل ننسى أننا لم ننشئ مدينة جميلة في (القناطر الخيرية) وهي بقعة لا نظير لها في أي أرض؟

وقطار الإسكندرية يمر بنا على مدينة اسمها (كفر الزيات) على موقع من أجمل مواقع

ص: 13

النيل، فما تلك المدينة؟ ومتى تخطر في البال؟

والنيل بين زفتي وميت غمر على جانب العظمة الطبيعية والجمال الأصيل، فأين من فكر في الاستظلال بتلك العظمة وذلك الجمال؟

إن الحمائم والعصافير تعرف من سرائر بلادنا ما لا نعرف ألم أحدثكم مرة أن لها مغاني في أكثر البقاع المصرية؟

لكل مكان في مصر روح وأرواح، وبلادنا نشأت أول ما نشأت على فطرة الاستقلال، فقد كان لكل قطر من أقطار مصر سيادة محلية، وكان بكل قطر من أقطار مصر سادة يتعالون باسم الشرف والجود، فكيف نحول هذه القوى إلى بقعة واحدة هي البقعة القاهرية؟

هل نتعزى بأن يقال إن القاهرة أعظم مدينة في الشرق ونحن نعرف أنها تجنى على الحواضر المصرية بغير حق، كما تجنى أسيوط على منفلوط؟

وهنا يجيء حديث المناطق في وزارة المعارف، وقد سمعت أن نظام المناطق في طريق الإلغاء

وأقول بصراحة إن أول وزارة عرفت نظام المناطق هي وزارة الداخلية، وهي لا تستطيع التخلي عنه بأي حال، لأنه أفضل الأنظمة في صيانة الحياة الداخلية، ولأن المشرفين عليه كانوا السبب في تنظيم حواضر البلاد

وإذا استطاعت وزارة المعارف أن تمنح ممثليها بالأقاليم قوة تشبه القوة الممنوحة لممثلي وزارة الداخلية فستظفر الأقاليم بإصلاحات قائمة على أساس الفهم والذوق، وقد تفك الحصار المضروب على رجال التعليم، وهم رجال عوقتهم الظروف عن تحقيق ما يريدون في إصلاح الأقاليم

هل يعرف أحد كيف يجوز أن يكون ممثل وزارة الداخلية هو الرجل الأول في المديرية، ولا يكون مثل هذا الحظ لممثل وزارة المعارف؟

نحن اخوة، فكيف نفترق في الواجبات ولم نفترق في الحقوق؟ ما الذي يمنع من إعطاء مدير التعليم فرصة الإصلاح الممنوحة لمدير المديرية؟

أنا أوجه القول إلى وزير المعارف، وأسأله برفق عن تعطيل مواهب رجال التعليم في الأقاليم، وفي مقدورهم أن يخدموا الإصلاح خدمات عظيمات؟

ص: 14

لقد اقترحت أن يكون وزير المعارف هو الوزير الأول، ليكون المعلم هو الرجل الأول، فهل كنت في هذا الاقتراح من المسرفين؟

إن كان ذلك فأنا أطالب معالي وزير الأشغال بأتعابي، وقد وجهت إليه كلاماً عن (نفق شبرا) يستحق ألوفاً من الجنيهاتً فليدفع الأتعاب قبل أن أقاضيه بمحكمة مصر الجديدة. . . وهل في مصر الجديدة محكمة أهلية؟

هذا إشكال جديد، وسأخاصم فيه وزري العدل بعد حين!

ثم ماذا؟ ثم يبقى القول في رد ما جاء بالخطابين الكريمين، خطاب ابن منفلوط، وخطاب بنت أسيوط، فإلى اللقاء!

الدفع مقدماً. . .!

من العبارات المألوفة في البيع والشراء عبارات: الدفع مقدماً، والدفع فوراً، والدفع بالتقسيط

والمفهوم أن الدفع مقدماً أدل على النفاسة من الدفع فوراً، أما العبارة الثالثة فهي شاهدة بهوان المعروض. وكل معروض مهان

ولكن ما الرأي إذا التقسيط من تلطف البائع، لا من هوان المبيع؟

ما الرأي إذا كانت السلعة المبذولة غنيمة وجدانية لا تقوم بالمال، وإنما تقوم بقصيدة أو مقالة تؤخذ أقباسها من لهيب الروح؟

ألا يكفي أن تصبح ذمة الكاتب والشاعر في غنى عن الضمان؟

سأرى كيف أصنع في سداد الديون بالتقسيط. ولعلني أسارع ليكون من حقي أن أطمع في غنائم جديدة من غنائم الوجدان، في المدينة التي قال فيها أحد الشعراء:

ولا عيب فيها أن نسميها

يزيد سعير القلب وقداً إلى وقد

بلادة أدبية

هي بلادة الأدباء الذين يسألون من وقت إلى وقت عن السبب في خمود نار الخصومة بيني وبين الدكتور طه حسين. وإني لأنظر فأرى لهم غاية من تأريث تلك الخصومة، لأنها تشفى صدوراً يعجز أصحابها عن الوقوف موقف الخصماء

ص: 15

إن خصومتي للدكتور طه حسين خصومة أدبية لا شخصية، وسأخاصمه كلما لاحت فرصة لنقد ما يصدر عن قلمه من آراء، وهو لا يزال في الميدان فليس من البعيد أن أرجع إليه بعد أسبوع أو أسابيع

المهم هو تسجيل هذه الظاهرة الغريبة، ظاهرة البلادة الأدبية عند بعض الأدباء البهاليل، فما الذي يصدهم عن نقد الدكتور طه بأقلامهم إن كانوا يرون في مذهبه الأدبي شيئاً من الاعوجاج؟

إن الذين يتوهمون أن في مقدورهم أن يثيروني على الدكتور طه حسين بمثل ما توسل به أحدهم من النمائم لفي ضلال، فما يستطيع قلمي أن يصول بغير الحق، ولو في مناوشة أعدى أعدائي، على فرض أن الدكتور طه من الأعداء، وله في قلبي مكان

المعارك القلمية في مصر

لخصت مجلة الصباح الدمشقية ما دار بيني وبين الأستاذ عباس العقاد من صيال، ثم قالت:

(هذا نمط من المعارك القلمية التي تثور في مصر اليوم، وبمثل هذا النقد اللاذع يتراشقون)

والجواب حاضر، فمصاولة الأدباء المصريين بعضهم لبعض لا تغض من النهضة الأدبية في الديار المصرية، وإنما هي شاهد صادق على حيوية الأدباء المصريين

قلت مرة ومرات: إننا نختلف أقل مما يجب، ويا ويلنا إذا لم نختلف!

فإن شاء رفاقنا في دمشق أن يعدوا الاختلاف من عيوبنا فهم مخطئون

ألم أقل لكم: إن السلام ضرب من الموت؟

الطبيعة والناس

في اللحظات التي يتزحزح فيها برد الشتاء من وضع إلى وضع تبدأ الطبيعة بإعداد الخلائق الجديدة في عوالم الشجر والنبات والطير والحيوان

والأمر كذلك في حياة الناس. . . ألم تسمعوا بهجوم الربيع في دنيا الحرب؟

كان ذلك لأن الربيع يوقظ القوى الغافية، قوى الحب والبغض، والصلح والقتال

أكتب هذا وقد سمعت ما سمعت وقرأت ما قرأت من أخبار العراك في مجلس النواب. فما دلالة هذا العراك؟ وهل يحط من أقدارنا في أنظار أهل الشرق والغرب، كما قيل؟

ص: 16

الرأي عندي أن مصر غنمت بهذا العراك غنائم لم تكن تخطر في البال، فقد ظهر جلياً أن عندنا خطباء من الطراز الأول في اللغة العربية، وظهر جلياً أن عندنا رجالاً من أصحاب الأعصاب الحديدية. وهل من القليل أن يكون عندنا وزراء يقضون نهارهم في مكاتبهم على خير حال من النشاط، ثم يقضون صدر الليل في مصاولات برلمانية تفل الحديد؟

ماذا يقول الجيل المقبل حين يرى مضابط البرلمان؟ ماذا يقول؟

كل ما أتمناه أن تدوم هذه اليقظة العقلية والروحية على نحو ما رأينا من القوة والحيوية، ليعرف الجيل المقبل أن آباءه كانوا أصحاء في الأرواح والعقول، وأنه جدير بأن يخلفهم في ميادين المنطق والفكر والبيان

أظهر ما عيبت به تلك المصاولات هو صدور ألفاظ نابية على ألسنة بعض النواب، فهل تفردنا بخلق تلك الألفاظ، ولها نظائر في جميع اللغات؟ وهل كان مجلس النواب مجلس سمر لا يدور فيه غير مصقول الأحاديث؟

إن خصوم الحكومة قالوا فيها ما قالوا، وقالت فيهم ما قالت، وعرف الجمهور عن طريق العلانية كل شيء، برغم قيام الأحكام العرفية

إن موقفي موقف المؤرخ لعهد من عهودنا الأدبية في البلاغة البرلمانية، وهي بلاغة وصلت إلى غاية من أرفع غايات البيان، وشهدت بأن للفكر في مصر أقطاباً وأساطين.

زكي مبارك

ص: 17

‌2 - أدباؤنا والمسرح

للأستاذ دريني خشبة

تكلمنا في الكلمة السابقة عن السبب الأول من أسباب عقم الإنتاج المسرحي بين أدبائنا المصريين، وذكرنا أن هذا السبب الأول هو تأخر الترجمة في مصر، وضآلة النقل الفني المسرحي، إن لم يكن انعدامه. . . ثم وزعنا جريرة هذا التأخر فتكلمنا عن نصيب كل من كبار أدبائنا، وكلية الآداب، ووزارة المعارف ممثلة في إدارة الترجمة من هذه الجريرة. . .

4 -

وتأتي بعد ذلك جريرة دور النشر، ودور النشر مع الأسف الشديد يملكها ويسيطر عليها تجار لا يعرفون للأدب طعماً ولا لوناً، ولا يفهمون منه إلا أنه مغنم لهم ومغرم على الأدباء المساكين، فهم دائماً يلقون في روع الأديب أن طبع كتابه مجازفة قد تجر على داره الخسارة إن لم يدع أنها تجر عليها الخراب والإفلاس، وأنه - أي صاحب الدار يريد أن يضحي والسلام، فإما أفلحت التضحية وإما (أهي خدمة للأدب والسلام!!) - والسلام الذي يتمشدق به هذا التاجر أو ذاك من أصحاب دور النشر هو السم الذعاف الذي يجرعه للأدباء. على أننا لا ندري لماذا تقف لجان الترجمة والتأليف والنشر من شباب الأدباء نفس الموقف الذي تقفه منهم دور النشر التجارية، مع ما تبذله الحكومة لهذه اللجان من المعونات المتواضعة أحياناً السخية أحياناً أخرى؟ ولا ندري أيضاً لماذا تتفشى روح البيرقراطية الأدبية بين السادة القائمين بأمر هذه اللجان؟ إن الشباب من الأدباء يداولون فيما بينهم ألواناً من الشكاوي التي لها ما يبررها بلا ريب، وقد أثبتت أحوالنا الأدبية أن مشايخنا الأدباء المصنفين لا يصلحون بحال للانتاج المسرحي لما صح من أنهم عاشوا أعمارهم الطويلة المباركة هذه ولم يلتفتوا قط إلى أهمية الأدب المسرحي بدليل أنهم لم ينتجوا فيه شيئاً قط ولم يترجموا له شيئاً قط. والذي لا شك فيه هو أن الشباب من الأدباء أقدر على هذا كله من أساتذتهم أدباء أمس الدابر. فإلى أن ينظم أدباء الشباب أمورهم يجب أن يتقدموا إلى الدولة بطلب المعونة التي تبذلها لمشايخ الأدباء، ولكن عليهم قبل ذلك أن يستعدوا. . . فلا يتقدموا لطلب هذه المعونة وأيديهم فارغة، وإلا أضحكوا الدنيا كلها عليهم. . . وإذا هم أقبلوا على نقل المسرحيات الأجنبية إلى اللغة العربية فإنهم بذلك يؤدون خيراً مزدوجاً لنهضة المسرح المصري أولاً ولأنفسهم ثانياً

ص: 18

5 -

أما نصيب أغنيائنا من هذه المسئولية فنحن نكتب عنه، ثم نغضي، لأننا أعرف بالنتيجة، ولكنها فرصة طيبة للتكلم عن نصيب الأغنياء في بعض الأمم وفي عصور التاريخ المختلفة في إحياء النهضة الأدبية على العموم، والأدب المسرحي على الخصوص، ففي اليونان القديمة كان الشاعر من شعراء المآسي ينظم مأساته ثم لا يذهب إلى بيوت الأغنياء كي يبذل لديهم ماء وجهه ابتغاء أن يتولى أحدهم الإنفاق على إخراج هذه المأساة، وكان إخراجها يقتضي القناطير المقنطرة من المال، بل كان الأديب لا يلبث أن يذيع في الأوساط الأدبية أنه يوشك أن يتم مأساته التي نظمها في موضوع كذا حتى يتهافت عليه الأغنياء يعرضون العروض السخية لكي يتم لأحدهم شرف إخراج هذه المأساة. . . وإذا علمنا أن كلا من إسخيلوس وسوفوكليس وبوريبيذز وأرستوفان (وعشرات غيرهم من رجال المسرح اليوناني) قد ألف أكثر من مائة مأساة أو ملهاة، وأن الدرامة الواحدة كانت تكلف الموسر الذي يتولى الإنفاق على إخراجها أكثر من ثلاثة آلاف من الجنيهات، عرفنا كيف كان أغنياء اليونانيين يجودون بملايين الجنيهات. ولا نقول بمئات الألوف - في سبيل تشجيع الأدباء والنهضة المسرحية في ذلك العصر اليوناني القديم - ولا يحسبن القارئ أننا ننفخ في كلمتنا هذه روح المبالغة بذكر تلك الأرقام التي كان سراة اليونانيين يسخون بها على مسارحهم وتيسير أحوال شعرائهم، فقد كان الشاعر ومساعداه ورجال الخورس - ويتراوح عددهم بين الخمسين والثمانين - يأكلون ويشربون ويسكنون ويقبضون أحسن الرواتب لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر حتى يتم إخراج الرواية على حساب هذا المثري كما كان يدفع لهم ثمن الملابس التمثيلية (أربعة أطقم لكل منهم) وأثمان الملابس التنكرية التي كانت مرتفعة جداً، فإذا بدأ التمثيل تولت الدولة الإنفاق على هؤلاء الممثلين وإعطائهم رواتب حسنة، كما كانت تسبغ على الشاعر أجزل المكافآت (غير راتبه الخاص)

كان هذا في اليونان من أربعمائة وألفين من السنين. . . أما في أوربا، فقد لقي المسرح ما يقرب من هذا التشجيع في جميع الممالك وفي فرنسا وإنجلترا خاصة. . . ففي إنجلترا مثلا كانت تتكون النقابات التمثيلية أو من أرباب الحرف المختلفة، وذلك بعد أن انتقل زمام التمثيل إليها من أيدي رجال الأكليروس في الطور الثاني من أطوار حياة المسرح

ص: 19

الإنجليزية. وكان لكل طائفة من الصناع نقابتها التمثيلية الخاصة بها، فثمة نقابة للدباغين وثانية للسقائين وأخرى لتجار الأقمشة. . . الخ. وكان أصحاب رؤوس الأموال ومدير والمصانع ينفقون على هذه النقابات ويمدونها بالأموال الضخمة لما اضطلعت به من إخراج الروايات القديسية أو الكرامية فكانت النقابات بدورها لا تألو جهداً في الإنفاق عن سعة على الإخراج حتى تبلغ به حد الإتقان استعداداً للمواسم التمثيلية التي تشبه ما كان يقام منها عند اليونانيين القدماء في أعيادهم الدينية، والتي كانت تقام في الأعياد الدينية الإنجليزية أيضاً، مثل عيد الميلاد وعيد الفصح وأحد العنصرة وعيد الجسد أو القربان المقدس. . . الخ. وقد نالت نقابات بعض المدن شهرة كبيرة أدت إلى تنافس شديد بين المدن الإنجليزية كي يبز بعضها بعضاً في الكمال التمثيلي. وكان هذا التنافس الشديد سبباً في أن تضاعف النقابات، وبالأحرى الأغنياء من أصحاب رؤوس المال، ما ينفقون على فرقهم التمثيلية. . . فهذا اتحاد نقابات لندن ينافس اتحاد كوفنترى، كما ينافس اتحاد دبلن اتحاد يورك، وكما تتنافس شسنر ولاتكستر وبرستون. . . وهكذا كانت جميلة رائعة حرب السلام والفن والفكر والأدب هذه بين سائر المدائن الإنجليزية في فجر النهضة التمثيلية في القرن الرابع عشر. وأظرف من هذا التنافس بين المدن، التنافس المحلى الذي كان ينشب بين أحياء المدينة الواحدة لكي يفوز أحدها بتمثيل الرواية فيه دون الأحياء الأخرى، فكانت الأحياء تتبارى في إجزال العطاء لفرق النقابات كي تفوز بهذا الشرف، وكانت الفرق مطلقة الحرية في قبول العطاء الأسخى. وكثيراً ما كانت العطاءات تنيف على الخمسمائة جنيه للحفلة الواحدة، وكثيراً ما كان العرض يستمر لمدة ثمانية أيام متتالية للرواية الواحدة كما حدث في رواية (طوفان نوح) التي مثلت في إسخلين بلندن سنة 149 في عهد الملك هنري الرابع. فهاتان منافستان. ثم كانت هنالك منافسة من نوع ثالث بين المنازل نفسها، فالمنزل الذي يساهم في العطاء بأكثر مبلغ هو الذي يفوز بتمثيل الرواية أمامه، وكان أصحاب المنازل يتبارون من أجل ذلك في الدفع حتى كان أحدهم يدفع قرابة الخمسمائة جنيه حتى لا ينتصر عليه في مضمار المباهاة أحد أعيان الناحية!! وكانت أجور الممثلين والمنشدين مرتفعة جداً حتى كانت تصل إلى خمسة جنيهات عن الحفلة الواحدة وذلك بعملتنا الحاضرة، وقد كان ذلك سبباً في دخول الاحتراف المسرحي في إنجلترا. ولما حدث

ص: 20

هذا الإقبال العظيم من الشعب على شهود التمثيل اضطرت النقابات إلى المؤلفين الذين ينتجون الروائع في سرعة فنشأ الاحتراف في التأليف أيضاً. غير أن مؤرخي المسرح الإنجليزي يقررون بكل أسف أن النقابات كانت تعتصر دماء المؤلفين بالثمن البخس، وكان عنصر الربا يدخل في المعاملة بينها وبين المؤلفين لتذلهم إذلالاً، وتربط حياتهم بها ربطاً محكما حتى لا تغر بهم النقابات الأخرى بالعطاء الأجزل. . . وذلك من قبيل ما تبديه دور النشر عندنا من جشع

ذلك بعض ما كان يسخو به الأغنياء الإنجليز لتعضيد المسرح وما كان يحدث أعظم منه في فرنسا، فمتى يصل هذا الصوت إلى أغنيائنا فيشاركوا في صناعة الذوق العام لهذه الأمة بإحياء المسرح المصري؟

6 -

وإذا كنا نطمع أن يعضد أغنياؤنا الأدب المسرحي - وسيضحك القراء جميعاً حين يقرأون هذا الهذيان! - فنحن نطمع في أن يتشبه أمراؤنا بأمراء أوربا في عصر النهضة، وذلك بحماية المؤلفين ورعاية الأدباء المسرحيين بوجه خاص. فالأمير الذي يساعد مؤلفاً أو يوفر الراحة الذهنية لشاعر، إنما يقدم لأمته أثمن هدية في الحياة. . . إنه يقدم لها قلباً من القلوب النابضة، وقريحة من القرائح الخصبة التي تشيع فيها النشاط وترد إليها العزة. . . وكل من درس تاريخ النهضة وإحياء العلوم في أوربا يذكر أن هذه النهضة العجيبة التي عم خيرها جميع شعوب الأرض هي من صنع أمراء فلورنسا من أسرة دى مديشي تلك الأسرة التي كانت تنفق معظم أرباحها التجارية في شراء الكتب والمخطوطات مهما كانت أثمانها عالية باهظة، كما كانت تحمي العلماء والأدباء ورجال الفكر، والتي أنشأت في فلورنسا تلك الأكاديمية الفلسفية لدراسة آراء الفلاسفة الإغريق فكانت أول منارة شع نورها في ظلمات أوربا السادرة في الجهالات. وستظل أسماء كوزيمو وحفيده لورنزو وابن لورنزو الثاني جيوفاني دىمديشي كواكب ساطعة على الزمن في سماء النهضة العالمية، فإليهم يرجع الفضل في إحياء التراث اليوناني الخالد من فلسفة وأدب، وذلك بما أنفقوا من حر مالهم في سبيل الحصول على مخطوطات أفلاطون وآرسطو وأدباء المسرح اليوناني القديم، مما قدره علماء الببليويلزم (جمع الكتب والمخطوطات القديمة) بملايين الجنيهات

كذلك يعلم كل من درس تاريخ النهضة ما كان لأمراء بافاريا وغيرها من الولايات

ص: 21

الجرمانية من فضل على النهضة الألمانية. وكان لحماة الأدباء من لوردات إنجلترا أكبر الأثر في رعاية المسرح الإنجليزي، وكل من له معرفة بشكسبير يعلم تلك الصلة الخالدة التي كانت بينه وبين هنري ريوتسلي (إرل أوف سوثمبتون). الحق. . . أنه قد آن أن يكون للوطن حق معلوم في الأموال المصرية التي تفتقر إليها العبقريات المصرية. ولن تنسى مصر تلك اليد التي أسداها إلى الفنون الرفيعة واحد من أبر أمرائها

وبعد، فقد أطلنا القول في أسباب تأخر الترجمة وما جرت إليه من تأخر الآداب المسرحية في مصر، وما أدى إليه ذلك من فقر الأدب العربي الحديث بالقياس إلى آداب الأمم المتحضرة، إذ نكاد نكون الأمة الوحيدة - بين جميع الأمم - التي ليس لها أدب مسرحي تقريباً.

ومن أسباب عقمنا في الإنتاج الأدبي المسرحي هذا التهيب الذميم الذي نتناول به تاريخنا الديني والسياسي. والمدهش أن الأدباء إنما يخشون رجال الدين وما عساهم أن يحدثوا من ضجة إذا هم وضعوا درامات مشتقة موضوعاتها من أحداث التاريخ الإسلامي، وما أروع أحداث هذا التاريخ! وهذا الذي يخشاها الأدباء في مصر، حدث ضده في تاريخ المسرح الأوربي الحديث، فقد نشأ التمثيل أول ما نشأت أوربا في الكنائس والبيع، وكان الأحبار والقسيسون والرهبان والعرفاء هم الذين ابتدعوا الدرامات الإنجيلية والدرامات الكرامية وأخذوا موضوعات النوع الأول من الكتاب المقدس مع المحافظة على حرفية القصص، كما أخذوا موضوعات النوع الثاني من خوارق القديسين ومعجزات الأنبياء وكرامات أهل التقى والورع. ولما رأى رجال الدين إقبال الشعب على شهود تمثيلياتهم الدينية هذا الإقبال فكروا في تنشئة صبيان البيع على هذه الصناعة الجديدة فكان الاحتراف في التمثيل، وبذلك وجد عمل شريف عظيم لهذه الكثرة من رجال الدين - غير المتفقهين - ممن عندنا منهم آلاف مؤلفة احترفت قراءة القرآن بأبخس الأثمان على المقابر والمزارات وفي المنازل والمتاجر للتبرك مما يستنكره ديننا وتأباه كرامة الإسلام وتألم له روح نبينا العظيم ويبغضنا الله من أجله. . . فلو أن الذي حدث في أوربا حدث بعضه عندنا لخلصنا من هذا الخرى المنتشر بيننا مما جعلنا أمة جنائزية عجيبة الأحوال. . . وإذا كنا نحرص على عدم تمثيل شخصيات الرسل الكرام توفيراً للوقار الذي ينبغي لهم، مع أن القصص العظيم الذي

ص: 22

جاء به القرآن هو أسمى ألوان القصص التمثيلي الذي تندق دون تقليده أعناق المقلدين، فما بالنا جعلنا الانصراف عن ذلك عاماً بحيث شمل جميع الموضوعات الدينية والشخصيات الدينية؟ إن في سير صحابة الرسول الكريم آيات من القصص التمثيلي لو عرفنا كيف نبرزها عن المسرح لتوفرت لنا مئات من التمثيليات الرائعات التي تزري بما هو نوعها عند الأمم الأخرى. . . وأقول مرة أخرى إنني وأنا أكتب ذلك الكلام الآن ألمح هذه الابتسامات الساخرة ترقص على بعض الشفاه التي لم تشد قليلاً ولا كثيراً من تاريخنا الإسلامي - على أنها شفاه جاهلة لا تزن ما للدين من أعمق الأثر في توجيه الأمة المتدينة - على أنني أيضاً لست أريد أن نبدأ في نهضتنا المسرحية من حيث انتهت أوربا، وإلا تكون دعوة إلى نكسة لا تليق بنا، لكنني أرى استغلال الروائع العظيمة من سير الصحابة الذين يجلهم الشعب في إيجاد مسرحيات دينية تمس روح الشعب الدينية وتلعب على أوتاره الحساسة في سبيل النهوض به وهدايته إلى مثله الأعلى الذي يرفعه إلى منازل العز والسؤدد الأخلاقي. يجب أن نفهم روح العصر ونتخذ الوسائل المستحدثة في الوصول إلى روح الجماهير، ويجب ألا نتخلف عن موكب الإنسانية فنتخذ وسائل عقيمة غير التي يتخذها هذا الموكب وإلا كنا شذاذاً - ويجب أن نصنع ذلك ما دام لا يناقض ديننا. . . إن رواية القصة على الأسماع ليس له من السحر في النفس والأسر في القلب ما تحدثه مشاهدتها على المسرح تتحرك شخصيتها، وتتحرك وقائعها، وتتحرك مشاهدها، فتثبت في الذاكرة إلى الأبد. يجب ألا نكون أميين فنفسد آذاننا عن هذه الحقائق

دريني خشبة

ص: 23

‌في التصوير الإسلامي

ليلى والمجنون

للدكتور محمد مصطفى

- 3 -

أقام المجنون بين أهله وذويه، يواسونه ويعطفون عليه، ويخصونه برعايتهم وعنايتهم، حتى تاقت نفسه إلى رؤية حبيبته ليلى، فاصطحب بعض أصحابه المخلصين، وذهب معهم إلى حي قبيلتها، فوجدوها جالسة أمام بيتها مع بعض أهلها. وعرفته ليلى فحيته وحياها، ولكنه لما أراد أن يقترب منها ليحادثها منعه ذووها. فأعاده أصحابه إلى بيت والديه مهموما حزيناً متفكراً. وظل يتفكر في أمرها حتى منعه ذلك من الطعام والشراب، وترك محادثة الناس، وصار في حد يرحمه كل من رآه من عدو وصديق، فكان يقول:

ما بال قلبك يا مجنون قد خُلعا

في حب من لا ترى في وصلها طمعا

الحب والود نيطا بالفؤاد لها

فأصبحا في فؤادي ثابتين معا

ولامه أهله وعذلوه وقالوا: لا خير لك في ليلى ولا لها فيك، فلو تزوجت واحدة من بنات عمك، نرجو أن يذهب عنك بعض ما بقلبك من حب ليلى، فأنشأ يقول:

قضى الله بالمعروف منها لغيرنا

وبالشوق مني والغرام قضى ليا

أراني إذا صليتُ يممتُ نجوها

بوجهي وإن كان المصلى ورائيا

وما بي إشراك ولكن حبها

وعظم الجوى أعيا الطبيب المداويا

أحب من الأسماء ما وافق اسمها

وأشبهه أو كان منه مدانيا

واشتد بالمجنون الأمر حتى خاف عليه أهله، فذهب معه أبوه وبعض رجال عشيرته إلى والد ليلى وقالوا له: إن هذا الرجل لهالك، وإنك فاجع به أباه وأهله، فنشدناك الله والرحم أن تزوجه ليلى، فوالله ما هي أشرف منه، ولا لك مثل مال أبيه، وقد حكمك في المهر، وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل. فأبى وحلف بالله وطلاق أمها أنه لا يزوج ابنته هذا الرجل المجنون أبداً، فقال قيس:

ألا أيها الشيخ للذي ما بنا يرضى

شقيتَ ولا هنيتَ من عيشك الغضّا

ص: 24

شقيتَ كما أشقيتني وتركتني

أهيم مع الهلاّك لا أطعمُ الغمضا

كأن فؤادي في مخالب طائر

إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا

كأن فجاج الأرض حلقة خاتم

على فما تزداد طولاً ولا عرضا

وسمعه أبوه الملوح فأشفق عليه، وقال إن ابنه عاقل وليس به جنون، ثم التفت إليه وناداه أن يتقدم ويخاطب والد حبيبته ليثبت له عقله ورشاده. . . وتقدم قيس. . . وإذا بكلب ليلى يظهر بغتة، فيعرف فيه حبيب سيدته، ويبصبص له بذنبه. . . فلم يتمالك المجنون من أن يلقى بنفسه على الأرض، إلى جانب الكلب، ليحتضنه ويناجيه ويسأله عن ليلى. . . فكان في ذلك أكبر دليل على جنونه. ورجع أبوه معه إلى بيته حزيناً وقد خاب أمله

ولما حاول أهله مرة أخرى أن يزوجوه إحدى بنات عمه، مزق ملابسه، وفر هارباً. . . إلى حيث تأتيه ذكريات ليلى. . . إلى جبل التوباد. . . ولما دنا منه قال:

وأجهشتُ للتوباد حين رأيته

وكَبَّر للرحمن حين رآني

وأذريتُ دمع العين لما عرفته

ونادى بأعلى صوته فدعاني

فقلت له أين الذين عهدتهم

حواليك في حفظ وطيب زمان

فقال مَضوْا واستودعوني ديارهم

ومَنْ ذا الذي يبقى على الحدثان

ثم خر مغشياً عليه، فوجده بعض عابري سبيل، فأشفقوا عليه، وحملوه إلى منزل والديه

وفي (شكل 1) اجتمع الملوح بن مزاحم وبعض أقاربه بوالد ليلى يخطبونها لأبنهم قيس. ويرى قيس وقد ألقى بنفسه على الأرض يحتضن كلب ليلى ويناجيه، ويحاول أخوه عبثاً أن يجره إلى الخلف ليبعده عن الكلب. وجلس والد ليلى في الوسط وقد ثبت ما قاله عن جنون قيس، وإلى يمينه الملوح وقد ظهر على وجهه الحزن والأسى. ووضع بعد الحاضرين أصابعهم السبابة في أفواههم دلالة على ما اعتراهم من دهشة لهذا المنظر الغريب الغير مألوف لديهم. وهذه الصورة في مخطوط من منظومات الشاعر هاتفي الجامي، مؤرخ سنة 941هـ (1535م) ومحفوظ في مكتبة الدولة ببرلين.

أفاق المجنون من غشيته حائل اللون ذاهلاً، فوجدة نفسه في منزل والديه وقد جلسا إلى جانبه مع اخوته ابن عمه زياد بن مزاحم وبعض أقاربه، يبتهلون إلى الله تعالى أن يخفف عن قيس ويرد إليه عقله. وأجال المجنون بصره فيمن حوله، فتبينهم وعرف فيهم أهله

ص: 25

وذويه، فترك لنفسه العنان، وجعل يبكي أشد بكاء وأوجعه للقلب ويقول:

صريع من الحب المبرح والهوى

وأي فتى من علة الحب يسلم

وتقدم الناس إلى أبيه أن يخرجه إلى مكة، ويعوذه بيت الله الحرام، لعل الله يعافيه مما ابتلى به. فخرج به أبوه، وسار معه ابن عمه زياد، الذي جعل يلازمه ويدون ما يقول من أشعار وأناشيد. ومروا في طريقهم بحمامة تنوح على دوحة، فوقف المجنون صاغياً لها يبكي، وتخلف معه زياد وقال له: ما هذا الذي يبكيك؟ سر بنا نلحق الرفقة. فأنشد المجنون:

أأن هتفت يوماً بوادٍ حمامةٌ

بكيتَ ولم يعذِرك بالجهل عاذرُ

دَعتْ ساقَ حرٍ بعدما عَلَت الضحي

فهاج لكَ الأحزانَ إن ناح طائرُ

يقول زيادٌ إذ رأى الحيَّ هَجَّروا

أرى الحيَّ قد ساروا فهل أنت سائرُ

وإني وإن غالَ التقادمُ حاجتي

مُلِمٌّ على أوْطان ليلى فناظرُ

ولما دخل مكة أمره أبوه أن يدعو الله أن ينسيه ذكر ليلى ويبغضها إليه، فقال المجنون: اللهم زدني لليلى حباً، وبها كلفاً، ولا تنسني ذكرها أبداً. فزجره أبوه وأخذه حتى أمسكه أستار الكعبة وقال له: قل اللهم أرحني من ليلى وحبها. فتعلق المجنون بأستار الكعبة. . .

ولكن قال يا ربُّ

ملكت الخير والشرَّا

فهات الضرَّ إن كان

هوى ليلى هو الضرَّا

وإن كان هو السحر

فلا تُبطلْ لها سحرا

ويا رب هب السلوى

لغيري وهب الصبرا

وهب لي موتة المُضْني

بها لا ميتة أخرى

(شوقي)

فلما سمعه أبوه رق له، وأخذ بيده نحو (منى) يريد رمي الجمار. وكان الوقت موسم الحج، والطريق غاصة بقوافل الحجاج، تغدو وتروح بين بيت الله لحرام وجميع بلاد العالم الإسلامي. وكان قيس يسير بين أهله متفكراً، يستقبل الريح التي تهب من ناحية نجد، وإذا به يسمع صوت حاد يتجه صوب تلك الناحية، حيث مضارب بني عامر على سفح جبل التوباد. ثم يتعالى الصوت قليلاً قليلاً حتى يظهر الحادي ومن ورائه قافلة تسير، وأنصت قيس، وإذا بالحادي ينشد في صوت عذب حنون:

ص: 26

هلا هلا هيَّا، إطوى الفلاطيا، وقربي الحيا، للنازح الصب جلاجل في البيد، شجية الترديد، كرنة الغرِّيد، في الفنن الرطب هلا هلا سيري، وامضي بتيسير، طيري بنا طيري، للماء والعشب طيري اسبقي الليلا، وأدركي الغيلا، العهد من ليلى، ومنزل الحب بالله يا حادي، فتش بتوباد، فالقلب في الوادي، والعقل في الشعب

(شوقي)

ولما سمع المجنون الحادي يردد في أنشودته ذكر ليلى والتوباد، صرخ صرخة مدوية وخر مغشياً عليه. واجتمع عليه قومه، وأبوه باك حزين، وجعلوا يروحون له ويرشون على وجهه الماء إلى أن أفاق مصفر اللون وأنشأ يقول:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى

فهيج أحزان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

إطار بلى طائراً كان في صدري

دعا باسم ليلى أسخن الله عينه

وليلى بأرض الشام في بلد قفر

عرضت على قلبي العراء فقال لي

من الآن فاجزع لا تمل من الصبر

وفشا أمر المجنون بين الحجاج، فلامه بعض قومه وطلب منه أن يستشعر الصبر ويستبقي مودة الحبيب بكتمان الحب، فكان من جوابه أن قال:

إن الغواني قتَّلت عشاقها

يا ليت من جهل الصبابة ذاقها

في صدغهن عقارب يلسعننا

ما من لسعن بواجد ترياقها

إن الشقاء عناق كل خريدة

كالخيزرانة لا تمل عناقها

زانت روادفها دقاق خصورها

إني أحب من الخصور دقاقها

إن التي طرق الرجال خيالها

ما كنت زائرها ولا طراقها

ثم انسل من بين أهله، ومزق ملابسه، ولجأ إلى جبل التوباد، حيث جعل يخطط بإصبعه في التراب، ويجمع العظام حوله، ويعاشر الظباء والوحوش.

وفي (شكل2) نرى الناس وقد أحاطوا بالكعبة الشريفة رافعين أيديهم بالدعاء لقيس أن يمن الله عليه بالفرج. بينما تعلق قيس بأستار الكعبة وهو يقول:

أتوب إليك يا رحمن مما

عملت فقد تظاهرت الذنوب

فأما من هوى ليلى وتركي

زيارتها فإني لا أتوب

ص: 27

وقد صور المصور الإيراني الكعبة الشريفة بأستارها كما هيأها خياله، وجعل الحمام يطير حولها عليها في أمن وسلام. وهذه الصورة من تصوير المصور حيدر قولي في أسلوب المصور الشهير رضا عباسي. وهي في مخطوط من المنظومات الخمس للشاعر الكنجوي كتب حوالي سنة 1034هـ (1624م) في مدينة أصفهان. وهذا المخطوط محفوظ في المكتبة الأهلية بباريس.

(يتبع)

محمد مصطفى

مساعد فني دار الآثار العربية

ص: 28

‌من تحت الأنقاض

(. . . . . .)

للأستاذ محمد محمود شاكر

حَسْرةٌ وَلَّتْ، وَأُخرَى أَقْبَلَتْ،

كَيْفَ؟ مِنْ أَينَ؟ مَتَى؟ لم أَعْلَمِ!

مَوجةٌ سوَدَاءُ تَنقضُّ عَلَى

مَوجةٍ في بَحْر لَيْلٍ مُظْلِم

تَتَفَانى وَهْيَ لَا تَفْنى، وَكَمْ

رَدَّهَا تَيَّارُهَا كالضَّيْغَمِ!

صَمّمَتْ، حَتَّى إِذَا مَا الْتهَمَتْ

نُورَ أَيَّامِي طَاشَتْ في دَمِي

فَهْوَ أَموَاجُ ظَلامٍ: لا تَرَى،

لا تُبَالِي، لا تَعِي، لا تَحتَمِي

زَهرةٌ حَنَتْ، فبَاحَتْ فَذَوَت

أذْبَلَتْهَا نَفْحةٌ لم تُكْتمِ

شَكتِ الُبثَّ لِنَجمٍ سَاطِعٍ،

ثُمَّ ظَنَّتْ في شُعَاعٍ مُلهِمِ

شَعْشَعْت عِطراَ، فَلَم يَعبأْ بِهِ

لَثِمَ الْمَوطِئ أَمْ لَمْ يَلثَمِ

فَضَّ سِرٌّ سِرَّها، فَاننفَضَتْ،

فَهوتْ سَاجدةً لمْ تُرحمِ

وَرَمَى النَّجمُ شُعاعاً وسَناً.

ثُمَّ ضاعَ النَّجمُ بَيْنَ الأَنْجُمِ

قَدْ جَلا الوَهمُ عَرُوساً زُينَتْ

لبَسَتْ حِليتَها للِمأتَمِ

إنَّما أثْواَبُها أكَفَنهُا،

والأَغَانِي لَحْنُ قَبرٍ مُعتمِ

وَوُجُوهٌ أشْرقَتْ مِنْ نَشْوَة

لمْ تَكْد. . . ثُمَّ هَوَت لم تَسلم

شَهَواتٌ أَشْعَلَتْ ثُمَّ خَبَت:

لَمْ تكنْ إلاشَكَاةَ المُغْرَمِ

نَظرةٌ، ثُمَّ هَوى، ثُمَّ مٌنى،

ثُمَّ. . . وانْفَضَّ كأنْ لم تَحْلُم

لَا أرَى إلا فَنَاء أوْ سُدًى،

فَبَصِيرٌ في ضَلالٍ أَو عَمِ

وَلَيَالٍ أَضْلَمَتْ أَنْوَارُهَا،

وَلَيالٍ نُورُها لم يُظْلِمِ

وَهُما الدَّهرُ. . . فلا لَيْلَ ولَا

صُبحَ، بَلْ وَالِدةٌ لم تَعقمِ

وَحَيَاةٌ منْ فَنَاءٍ فُجِّرتْ

لِفَنَاءٍ في حيَاةٍ يَرْتَمِي

كُلُّهُ لَمْحُ وَميضٍ خَاطِفٍ

ثُمَّ. . . لا شَيَء. . . فَجَاهِد أَوْنَم

محمود محمد شاكر

ص: 29

‌2 - الأحلام

للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

بقلم الأستاذ ألبير نادر

سبق أن ذكرت حلماً مشهوراً، وهاكم حلما آخر ربما رآه الكثير منكم. موضوعه أن يشعر الإنسان بأنه يطير ويرفرف ويمر بالفضاء دون أن يلمس الأرض. فإذا ظهر هذا الحلم مرة ففي الغالب يحاول أن يظهر مرة أخرة، وفي كل مرة تقول: (كثيراً ما حلمت أني أطير فوق الأرض، ولكنني في هذه المرة مستيقظ تماماً - الآن أعرف وسأبين للآخرين - أنه يمكننا أن نتحرر من قانون الجاذبية. فإذا استيقظت فجأة أظن أنك تجد الآتي: تشعر بأن قدميك فقدتا نقطة ارتكازهما، بما أنك كنت متمدداً فعلاً. ومن جهة أخرى اعتقادك بعدم نومك هو عدم شعورك بالنوم. كنت تقول في نفسك إنك لم تلمس الأرض بالرغم من أنك كنت واقفاً. هذا هو الاعتقاد الذي كان يزيده فيك حلمك في الحالات التي تشعر فيها أنك تطير. لاحظ أنك تظن أنك تقذف بجسمك إلى الجانب يميناً أو شمالاً وأنت ترفعه بحركة ذراع فجائية كأنها ضربة جناح، ولكن هذا الجانب هو نفسه الجانب الذي كنت نائماً عليه، استيقظ تجد شعورك بمجهودك لتطير هو نفس الشعور بضغط الذراع والجسم على السرير، وضغط الذراع والجسم هذا إذا فصل عن سببه لم يعد إلا شعوراً غامضاً ناتجاً عن التعب وسببه المجهود. وإذا ارتبط هذا الشعور بالضغط باعتقادك بأن جسمك ترك الأرض، يتحول هذا الشعور إلى شعور واضح بمجهود للطيران

من المهم أن نلاحظ كيف أن احساسات الضغط عندما تصعد إلى الحقل البصري وتستفيد من الغبار المضيء الموجود فيه يمكنها أن تتحول حينئذ إلى أشكال وألوان. حلم ذات يوم ماكس سيمون أنه أمام كومتين من قطع الذهب، وأن هاتين الكومتين غير متساويتين، وكان يحاول أن يسويهما ولكن عبثاً. فشعر بانقباض شديد، وازداد هذا الشعور من لحظة إلى أخرى حتى أيقظه. فلاحظ حينئذ أن ساقاً من ساقيه كانت معاقة بثنايا الغطاء، وأن قدميه لم تكونا في مستوى واحد، وكانت كل واحدة تحاول عبثاً الاقتراب من الأخرى، فبدون شك نتج عن ذلك شعور مبهم بعدم المساواة، وانتشر في الحقل البصري حيث قابل (وهي النظرية التي أقدمها) نقطة صفراء أو أكثر، وظهر على شكل بصري بواسطة عدم التعادل

ص: 31

هذا بين كومتي قطع الذهب. فيوجد إذاً في باطن الاحساسات اللمسية أثناء النوم استعداداً لكي تتحول إلى احساسات بصرية وتدخل على هذه الصورة في الحلم

وأهم من هذه الاحساسات الخارجية احساسات اللمس الداخلي الناتجة من جميع أجزاء الجسم، لا سيما الحواشي. فالنوم يمكنه أن يمنحها، أو بالأحرى أن يهبها دقة وحدة فريدتين، أن هذه الاحساسات موجودة بدون شك زمن اليقظة، ولكننا نكون غافلين عنها بسبب الحركة لأننا نعيش حينئذ خارجاً عن أنفسنا، ولكن النوم يجعلنا نعود إلى أنفسنا

يتفق أن بعض الأشخاص المعرضين لالتهاب الحلق أو الغدد يشعرون بأن هذه النوبات انتابتهم ضمن حلم، ويشعرون حينئذ بوخزات مؤلمة جهة الحلق. وعند ما يستيقظون يقولون إنها وهم وحسب؛ ولكن مع الأسف سرعان ما يتحقق هذا الوهم. يذكرون أن أمراضاً وعوارض خطيرة مثل ذبحة صدرية ونوبة قلبية. . . كانت قد ظهرت وتنبأ عنها في الحلم. فلا نندهش إذا رأينا فلاسفة مثل شوبنهور يقولون إن الحلم يشخص أمام الوجدان اهتزازات صادرة من الجهاز العصبي السمبثاوي، وإذا رأينا علماء نفس مثل شرنر يقولون إن كل عضو له مقدرة خاصة لينتج أحلاما نوعية تمثله تمثيلاً رمزياً، وأخيراً إذا رأينا أطباء مثل أريتج يكتبون مجلداً عن (قيمة الأحلام وما تنبئ به)، وعن طريقة استعمال الحلم لمعرفة نوع الأمراض، وحديثاً بين تيسيه: كيف أن خللاً في الهضم، أو في التنفس، أو في الدورة الدموية، يظهر في أحلام معينة

خلاصة ما تقدم: أننا أثناء النوم الطبيعي لا تكون حواسنا مقفلة تماماً للتأثيرات الخارجية. نعم إنها حينئذ لا تكون على نفس الدقة التي لها زمن اليقظة، بل عوضاً عن ذلك تصادف كثيراً من التأثيرات الشخصية التي لم نكن نشعر بها أثناء اليقظة عندما كنا نتحرك في عالم خارجي مشترك لجميع الناس، ولكنها تظهر أثناء النوم حيث أننا لا نعيش عندئذ إلا لأنفسنا فقط. ولا يمكننا أن نقول إن إدراكنا يتقيد عندما ننام بل بالعكس فالإدراك يوسع حقل عمله في بعض الاتجاهات على الأقل. نعم إنه يفقد دقة ما يكسبه في التوسع لأنه يأتي إلا بالمسهب والمبهم مما يدل على أننا نصنع الحلم بواسطة إحساس حقيقي

كيف نصنع الحلم؟ إن الاحساسات التي نستخدمها كمادة تكون مبهمة وغير معينة. لنأخذ مثلاً الاحساسات التي تبدو في الصف الأول أي البقع الملونة التي تتطور أمامنا عندما

ص: 32

يكون جفنانا مغلقين - ترى سطوراً سودا على مسطح أبيض يمكنها أن تمثل سجادة أو صفحة مخطوطة أو عدة أشياء أخرى أيضاً. من الذي سيجري الاختيار؟ أي شكل سيعين هذه المادة غير المعينة؟ هذا المشكل إنما هو التذكر - لنلاحظ أولاً أن الحلم عادة لا يخلق شيئاً. نعم يذكرون بعض الأمثلة عن عمل فني أو أدبي أو علمي نفذ أثناء الحلم، ولا أذكر هنا إلا المثل الأكثر شيوعاً: كان تارتيني - وهو موسيقي عاش في القرن الثامن عشر - يجد في تأليف قطعة موسيقية، ولكن قريحته كانت عاصية، فنام. وهاهو الشيطان قد ظهر له بنفسه واستولى على القيثارة وعزف القطعة المنشودة. ولما أستيقظ تارتيني سطر هذه القطعة من ذاكرته ووهبها لنا تحت أسم (أنشودة الشيطان). ولكن لا يمكننا أن نستخلص شيئاً من قصة مختصرة كهذه. يجب أن نعرف هل كان تارتيني جاداً في إتمام هذه الأنشودة عندما كان يتذكرها؟ إن مخيلة النائم الذي يستيقظ تضيف في بعض الأحيان شيئاً إلى الحلم وتبدله بمقتضى فاعلية رجعية وتسد ثغراته التي يمكنها أن تكون عديدة. بحثت عن ملاحظات أدق وخصوصاً أكثر صدقاً فلم أجد سوى ملاحظة الروائي الإنجليزية استيفنسن في كتاب عنوانه (فصل في الأحلام): يخبرنا استيفنسن أنه ألف أو بالأحرى رسم في الحلم قصصه الأكثر غرابة. لنقرأ بإنغام الفصل نجد أن المؤلف عاش فترة من حياته بحالة نفسية لم يتمكن أثناءها أن يعرف ما إذا كان نائماً أو مستيقظاً. إني أعتقد أنه ليس هناك نوم عندما ما تخلق (تبدع) النفس شيئاً، وعندما تقوم بالمجهود الذي يتطلبه تأليف عمل أو حل مسألة. وعلى الأقل جزء النفس الذي يعمل ليس هو الجزء الذي يحلم. فالجزء الأول يعمل في ثنايا الوجدان الخفية (العقل الباطن) باحثاً ولكن بدون أي تأثير على الحلم، وهذا البحث لا تظهر نتيجته إلا عند اليقظة. . . أما بخصوص الحلم ذاته فما هو إلا إحياء الماضي. ولكن هذا الماضي يمكننا أن نتعرفه، فيكون في غالب الأحيان حدثاً قد نسيناه، أو ذكرى بدت لنا كأنها زالت ولكنها في الحقيقة كانت متوارثة في أعماق الذاكرة. وفي الغالب تكون الصورة المتذكرة صورة شيء أو حدث نظرناه ونحن غير مبالين وبدون أن نشعر به تقريباً وقت اليقظة. وتوجد خصوصاً أجزاء ذكريات مشتتة تجمعها الذاكرة من هنا وهناك وتقدمها إلى وجدان النائم على شكل غير متماسك. فأمام هذه المجموعة التي لا معنى لها يبحث العقل عن معنى (والعقل يستمر في التعقل مهما قيل في ذلك) والعقل ينسب

ص: 33

عدم التماسك هذا لثغرات يسدها بمناجاة ذكريات أخرى تبدو غالباً بدون نظام، وتتطلب بدورها تعبيراً جديداً، وهكذا دواليك. ولكني لا أريد الشرح الآن وإنما أقول إجابة عن السؤال الموجه منذ لحظة: أن التذكر هو القوة التي ترشد إلى المواد الصادرة عن أعضاء الحس، والقوة التي تحول إلي أشياء واضحة ومعينة تلك التأثيرات المبهمة الصادرة عن العين والأذن وعن كل مدى الجسم وعن داخله

(يتبع)

ألبير نادر

ص: 34

‌البريد الأدبي

النسل وصفاته المتوارثة

أشار الأستاذ الجليل الدكتور زكي مبارك في مقاله عن: أخطار الطعام الواحد؛ إلى وصية الرسول عليه الصلوات بالزواج من غير القريبات

وهذا الحديث المشهور: (لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا) قد أصبح - رغم الشك في صحة نسبته إلى الرسول - منبع حقيقة اعترف بها القدماء جميعاً وسجلوها في غير موضع من مؤلفاتهم؛ ثم جاءت علوم الأحياء الحديثة ودراسة طبائع أجسام الحيوان والنبات، مؤيدة لصحتها تمام التأييد

وقد عقد الغزالي في باب النكاح من كتابه (إحياء علوم الدين) فصلاً تحت عنوان: الخصال المطيبة للعيش التي لا بد من مراعاتها في المرأة. . . فجعل ثامنة هذه الخصال ونهايتها: ألا تكون من القرابة القريبة؛ وأورد الحديث الذي ذكرناه، ثم علل لذلك بضعف الشهوة بين المتقاربين. . .

وقد أورد الدكتور في مقاله مثل هذا التعليل؛ ثم زاد على ضعف النسل بسببه جسمياً، آفة أخرى نفسية فقال: إن الاكتفاء بالقريبات يضيع فرصة الموارد الجديدة من الطبائع والأذواق. . .

ونقول أننا مع اعترافنا بالعلاقة الوثيقة القائمة بين الأجسام - في قوتها وضعفها - والطبائع والأذواق - في رقيها وانحطاطها - نحب أن نسجل حقيقة استرعت نظرنا أثناء مطالعتنا المختلفة حول هذا الموضوع

فقد أشار الدميري صاحب حياة الحيوان عند حديثه عن (البغل) إلى تركبه من الفرس والحمار؛ ثم قال: لذلك صار له صلابة الحمار وعظم آلات الخيل. . . وهذا يؤيد الحقيقة التي ألمعنا إليها. ولكنه عاد فوصف هذا الحيوان برداءة الأخلاق والتلون (لأجل التركيب)، ثم قال: وشر الطباع ما تجاذبته الأعراق المتضادة، والأخلاق المتباينة، والعناصر المتباعدة. . . وذكر في موضع آخر أن (أكثر الحيوانات المركبة من نوعين من الحيوان أخبث طبعاً من أصولها التي تتولد منها وأشد شراسة، كالسمع والعسبار ونحوهما) - وكلاهما يتولد بين الضبع والذئب -

ص: 35

وظاهر من هذا أن تحسن (النسل المتولد من متباعدين) في صفاته الجسمية، لا يستتبع تحسنه في صفاته النفسية، أو فيما ركب فيه من طبائع وأذواق. . . بل على العكس من ذلك، ينشأ النسل الجديد أخبث في الطبائع من أصوله، أو هو يكتسب أسوأ ما في أبويه من صفات نفسية؛ وهذا متحقق - على الأقل - في أنواع الحيوان المركب من نوعين، وفقاً لما قاله الدميري

بقى أن ننظر في نسل الآدمي المتولد من متباعدين. . . أي الصفات النفسية يجتمع فيه؟ وهل هو في اكتسابه أحسن الصفات الجسمية من أبويه، يكتسب أيضاً أفضل ما فيهما من صفات عقلية وخلقية؟

وإذا كان الأمر كذلك، فلم هذا التفريق - من هذه الوجهة - بين الإنسان والحيوان؟

على أنه إذا نفينا هذا التفريق، فماذا يبقى من الثقة بكلام الدميري في طبائع الحيوان المركب، وهو قد ضرب لإثباته الأمثلة المحسوسة من طبائع البغل والسمع والعسبار وغيرها من هذه الأنواع؟

(جرجا)

محمود عزت عرفة

نظرات في مهرجان الربيع

أمسى ثغرنا السكندري على حقل أدبي كبير زفت فيه تحايا الربيع في أثواب من النغم الشعري البديع، وآيات من الكلم النثري الرفيع. . . ولعل السر في هذا يتمثل في اشتراك نفر من أسرة (الرسالة) الغراء في هذا المهرجان، فقد مثلها من شيوخها الأستاذ الكبير محمود البشبيشي، والأستاذ الفاضل خليل شيبوب؛ ومثلها من شبابها الأستاذان: حسين البشبيشي، ومصطفى علي عبد الرحمن. وكان لا بد للناقد من التأثر فالتأمل فالتعبير. . . وكان لا بد لتعبيره أن يتناول الهنات قبل المحاسن، ويحق لنا أن نقول إن بعض الخطباء قد أصاب، وبعضهم قد تردد في النطق واضطراب في الإبانة. . . وزل لسان بعضهم بلحنات يجدر بالخطيب الحق أن يتفاداها. ولكن الذي يخفف من تلكم الهنات ويذهب بها ذلكم البيان الدافق والقدرة الخطابية العجيبة التي غمر بها الحفل أستاذنا القدير محمود

ص: 36

البشبيشي، الذي عرض فيها لمجهودات الجماعة في بيان جامع، وحيا الربيع بأسلوب رائع!

وقد كان جميلاً من الأستاذ البشبيشي ذلك الوفاء لإخوانه القاهريين (أعضاء رابطة العروبة) الذين ذكرهم بكل خير

أما عن الشعر فقد أوشك أن يحتكر المهرجان لذاته، إذ رأينا فيه اتجاهين من الشعر يعرضان لونين مختلفين: الشعر الذي يحفظ على الديباجة ويلمس المعاني بهوادة. ثم الشعر الذي تغلب روعة معانيه على حيوية ألفاظه، وينطلق في جواء من الخيال الوضئ. ولقد مثل النوع الأول الأستاذ خليل شيبوب، ومثل النوع الثاني الأستاذان مصطفى علي عبد الرحمن وحسين البشبيشي

ومن قصيدة الأستاذ شيبوب قوله:

عيد الطبيعة والشباب كأنه

فطر يعيد بعد صوم شتائه

والشاطئ المسحور دار كأنه

أفق الجمال حنا على دأمائه

ومن قصيدة الأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن قوله:

على الشاطئ المسحور دنيا رحيبة

عليها الجمال العبقري تجسما

أرى الموج فيها والرمال تعانقا

ولم يعبآ بالناس ترنو إليهما

وحولك جنات تفيض عيونها

وتندى بشاشات وتورق أنعما

ولقد كانت ربيع الحفل، ودرة القصائد بحق، قصيدة الأستاذ حسين البشبيشي الذي وفق فيها إلى مقارنة ربيع الطبيعة بربيع قلبه إذ قال:

ربِّ هبني الحياة كي أصحب الدني

اإلى مولد الربيع الثاني

آه. . .! عاد الربيع وانطلق الح

ب وراء المنى بكل مكان

يا ربيعي الذي انطلقت ولم تر

جع بقلب ممزق حيران

أنت دنياي والربيع الذي يه

فو إلى ورده فؤادي الفاني

عبد العزيز البيسي

عضو جامعة نشر الثقافة بالإسكندرية

ص: 37

عثرات:

جاء في المقال الأول من الرسالة:

(هبني سألت حضرة القاضي المحترم: ألا تزال تضرب امرأتك؟ فبماذايجيب؟ إن كان لم يضربها قط ثم قال (لا) ففي هذا النفي معنى الاعتراف بالضرب فيما مضى وإنكاره الآن، وإن قال (نعم) فقد خالف الحقيقة. . . الخ)

والصواب أن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي كان الجواب بالحرف (بلى) إثباتاً وبالحرف (نعم) نفياً. أما (لا) فلا موضوع لها هنا

وأما الثانية ففي كلامه أيضاً:

(فلا نخالنا ننسى شيئاً كثيراً إذا حصرناها في ثلاث مسائل كبريات)

وصواب الكلام (ثلاث مسائل كبار) إذا لم يرد التفضيل؛ فإن أراده قال (مسائل أكبر) وذلك لأن (كبريات) جمع (كبرى) مؤنث أكبر، فهي أسم تفضيل؛ وهو يجب إفراده وتذكيره إذا كان مجرداً من (أل) والإضافة، فإذا أضيف إلى المعرفة جازت المطابقة والإفراد مع التذكير.

وأما الثالثة ففي كلام الأستاذ سهيل أدريس (وأيقنت أن ذلك سيعود على تاريخ الأدب العربي بفوائد جمة إن يسرع في تحقيقه)

والصواب (إن شرع في تحقيقه) لأن جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط ماضياً، وما عدا ذلك فهو شاذ لا يقاس عليه.

محمد محمود رضوان

المدرس ببني سويف الابتدائية

من شعر الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا

حدثنا صديقنا الأستاذ الزناتي عن عطار يمنى لقيه بالفشن أن الشيخ (شعيب) عمدة هليه من بلاد الصعيد مدح صاحب السعادة الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا بقصيدة فرد عليه بهذين البيتين:

ص: 38

أبديتَ من خِدْر فكِر

سامي المقام عروسا

هي ابنة لشعيب

فأين في الناس موسى

وقصة زواج الرسول موسى من ابنة النبي شعيب معروفة.

1

ص: 39