المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 518 - بتاريخ: 07 - 06 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥١٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 518

- بتاريخ: 07 - 06 - 1943

ص: -1

‌11 - دفاع عن البلاغة

3 -

الأسلوب

أجل، إن الذين آمنوا بالصياغة ودعوا إليها، كانوا أفهم لمعنى البلاغة من الذين كفروا بها وزرَوْا عليها. ذلك لأن تجويد الصور يستلزم تجويد الفِكرَ وليس كذلك العكس. والعناية الدقيقة بالعبارة سبيل إلى إجادة التفكير وإحسان التخيل كما يرى فلوبير. وفلوبير هذا كان إمام الصناعة في فرنسا، أخذ نفسه بالتزام ما لا يلتزم غيره، فكان لا يكرر صوتاً في كلمة، ولا يعيد كلمة في صفحة. وكانت أذنه هي الحَكم الأعلى في صوغ الكلام، فلا تسيغ منه إلا ما حسن انسجامه وتعادلت أقسامه وتوازنت فقره. قال فيه تلميذه ومواطنه موباسان:(كان يرفع الصحيفة التي يكتبها إلى مستوى نظره وهو معتمد على مرفقه، ثم يتلو ما كتب جاهراً بتلاوته، مصغياً لإيقاعه؛ فكان في نَبره وإرساله يوفق بين السكنات والحركات، ويؤلف بين الحروف والكلمات، ويضع الفواصل في الجملة وضعاً دقيقاً محكماً فكأنها الاستراحات في الطريق الطويل).

وقال هو لبعض أصحابه: (تقول إنني شديد العناية بصورة الأسلوب، والصورة والفكرة كالجسد والروح هما في رأيي شيء واحد. وكلما كانت الفكرة جميلة كان التعبير عنها أجمل. إن دقة الألفاظ من دقة المعاني، أو هذه هي تلك).

وقد غالى علماؤنا البيانيون فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها. فمن أخذ معنى بلفظه كان له سارقاً، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخاً، ومن أخذه فكساه لفظاً أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه. على أن هذا الرأي الجريء لم يكن رأي العرب وحدهم، وإنما يراه معهم (بوفون) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن الأسلوب التي ألقاها يوم دخل الأكاديمية الفرنسية، أن الأفكار والحوادث والمكتشفات شركة بين الناس، ولكن الأسلوب من الرجل نفسه.

نعم قال بوفون: إن الأسلوب من الرجل نفسه ' ولم يقل: إن الأسلوب هو الرجل ' ' كما شاع ذلك على الألسنة. ولم يرد بما قال أن الأسلوب ينم عن خلق الكاتب ويكشف عن طبعه كما فهم أكثر الناس، وإنما أراد أن الأسلوب، ويَعني به النظام والحركة المودعين في الأفكار، هو طابع الكاتب وإمضاؤه على الفكرة. ومعنى ذلك أن الأفكار

ص: 1

تكون، قبل أن يفرغها الفنان في قالبه الخاص، من الأملاك العامة؛ فإذا عرف كيف يصوغها على الصورة اللازمة الملائمة تصبح ملكاً خاصاً له، تسير في الناس موسومة بوسمه، وتعيش في الحياة مقرونة باسمه. فالأسلوب وحده هو الذي يملكك الأفكار وإن كانت لغيرك. ألا ترى أن أثر الأخلاق في بقاء الأمم وفنائها معنى من المعاني المأثورة المطروقة؛ فلما أجاد شوقي سبك اللفظ عليه في بيته المشهور أصبح بهذه الصيغة من حسناته المعدودة وأبياته المروية؟

على أنك مهما استقربت لا تجد امرأً سليم الملكات ينكر ما لحلاوة الجرْس وطلاوة العبارة من الأثر الفعال في بلاغة الكلام. وعلماء البيان مجمعون على أن (الكلام إذا كان لفظه غثاً، ومعرضه رثاً، كان مردوداً ولو احتوى على أجل معنى وأنبله). ومنذ تنزلت الشياطين بالسجع والقصيد على كهان الجاهلية الأولى لم يقل أحد غير كتاب آخر الزمان أن البلاغة هي الفكرة وأن البليغ هو المفكر. وفيما سلف من العهود التي صحت فيها القرائح وسلمت الأذواق كان الرجل ينصرف عن الكتابة أو الشعر إذا لم يجد في طبعه براعة الأداء ولا في نفسه ملكة الفن. إنما يحاجُّك في العناية بالأسلوب من اضطر إلى مزاولة الكتابة وهو مدفوع عن البلاغة بوهن سليقته وجفاء طبعه. ولهم في الحِجاج رقاعات سبيلك أن تُسَلم بها لتسلم منها. يقولون مثلاً: إن الناس يتكلمون ليفهم الشاهد، ويكتبون ليفهم الغائب؛ فلماذا لا نكتب مثل ما نتكلم؟ لماذا نؤثر أن يقال: وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً، على أن يقال: كبرت سني وشاب رأسي، والجملتان الأخيرتان أخصر لفظاً وأيسر فهماً؟

على أن من أعداء العناية بالأسلوب قوماً جادّين ليسوا من أبناء العربية ذات الأناقة الذاتية والتلاؤم المطبوع، ولكن لهم آثاراً تُقرأ وآراء تناقش، أولاهم بالذكر الكاتب الفرنسي إميل زولا. فلقد مكن الله لهذا الكاتب في دولة الكتابة وآتاه أسباب النبوغ، ولكنه ابتلاه بشيء من خشونة الطبع وفجاجة الذوق فلم يستطع مجازاة البلغاء من أنداده ومعاصريه في رونق البيان وروعة الأسلوب، فأخذ يهوّن من شأن الصور الفنية في العبارة بمثل قوله: (ليس من مطلق الحق - وإن عارض بوفون وبوالو وشاتوبريان وفلوبير - أن الكاتب يكفيه أن يعنى كل العناية بأسلوبه ليشق له في الأدب طريقاً يبقى على الأبد. إن الشكل عرضة للتغيير

ص: 2

والزوال بسرعة. ولابد للعمل الكتابي قبل كل شيء أن يكون حياً؛ ولا يمكن أن يكون حياً إلا إذا كان حقاً. والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات أحياء) ثم يقول بعد ذلك: (وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرأهما مترجَمين؟) وهذا القول ظاهر البطلان، لأن المخلوقات الحية التي يلدها ذهن الكاتب لا يتسنى لها البقاء على توالي الأعقاب والأحقاب إلا بالأسلوب كما فال شاتوبريان. ومن هنا قل اهتمام الناس بكتب زولا بعد موته، وإن ظلت في تاريخ الأدب هرما شاهقاً ضخما يدل على جبروت الذهن وقوة القريحة، لأنها فقدت النبل في الموضوع والبلاغة في الأسلوب، وبغير هاتين الصفتين لا يخلد كتاب. . .

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌السنة وثبوت العقيدة

للأستاذ محمود شلتوت

منشأ ظنية السنة - التواتر والآحاد - الآحاد لا تفيد اليقين - ندرة المتواتر - الإسراف في وصف الأحاديث بالتواتر وأسبابه - تطبيق

بينا فيما سبق أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة ظن برفع عيسى أو نزوله فضلاً عما يفيد اليقين) وتمت بذلك النظرة الأولى من النظرات الثلاث التي وعدنا بها

وسنعرض في هذا الفصل للمبادئ التي تنبني عليها (قطيعة السنة أو ظنيتها) ثم نطبق هذه المبادئ على الأحاديث التي زعموا أنها تدل دلالة قطعية على نزول عيسى، وهذه هي النظرة الثانية

وأول ما يجب التنبه له في هذا المقام أن (الظنية) تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة: فقد يكون في اتصال الحديث برسول الله صلى الله عليه وسلم شبهة فيكون ظنيّ الورود، وقد يلابس دلالته احتمال فيكون ظني الدلالة، وقد يجتمع فيه الأمران: الشبهة في اتصاله، والاحتمال في دلالته، فيكون ظنياً في وروده ودلالته. ومتى لحقت (الظنيةَ) الحديثُ على أي نحو من هذه الثلاثة فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديثُ العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعياً في وروده وفي دلالته

ولكي يتضح مناط (القطعية والظنية) في ورود الحديث ينبغي أن نبين ما قرره العلماء في (التواتر والآحاد) ليكون مناراً يهتدي به من يريد الوصول إلى الحق:

قسم العلماء (السنة) إلى قسمين: ما ورد بطريق التواتر، وما ورد بطريق الآحاد. وضابط التواتر أن يبلغ الرواة حداً من الكثرة تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب. ولابد أن يكون ذلك متحققاً في جميع طبقاته: أوله ومنتهاه ووسطه، بأن يروي جمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يروي عنهم جمع مثلهم، وهكذا حتى يصل إلينا، وهو عند التحقيق رواية الكافة عن الكافة

ويقول بعض علماء الأصول: (الخبر المتواتر هو الذي اتصل بك من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتصالاً بلا شبهة حتى صار كالمعاين المسموع منه، وذلك أن يرويه قوم لا يحصى عددهم، ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم، ويدوم

ص: 4

هذا في وسطه وآخره كأوله، وذلك مثل: القرآن والصلوات الخمس، وأعداد الركعات، ومقادير الزكوات)

هذا هو التواتر الذي يوجب اليقين بثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما إذا روى الخبر واحد، أو عدد يسير ولو في بعض طبقاته، فإنه لا يكون متواتراً مقطوعاً بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون (آحاديا) في اتصاله بالرسول شبهة فلا يفيد اليقين

إلى هذا ذهب أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وقد جاء في الرواية الأخرى خلاف ذلك، وفيما يقول شارح مسلم الثبوت (وهذا بعيد عن مثله فإنه مكابرة ظاهرة) وقال البزدوي:(وأما دعوى علم اليقين - يريد في أحاديث الآحاد - فباطلة بلا شبهة لأن العيان يرده؛ وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة، ولا يقين مع الاحتمال. ومن أنكر هذا فقد سفه نفسه وأضل عقله)

وقال الغزالي: (خبر الواحد لا يفيد العلم وهو - أي عدم إفادته العلم - معلوم بالضرورة. وما نُقل عن المحدثين من أنه يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علماً، ولذا قال بعضهم: خبر الآحاد يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن)

وقال الأسنوي: (وأما السنة فالآحاد منها لا يفيد إلا الظن)

وقال البزدوي تفريعاً على أن خبر الواحد لا يفيد العلم: (خبر الواحد لما لم يفد اليقين لا يكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد لأنه مبني على اليقين، وإنما كان حجة فيما قصد فيه العمل)

وقال الأسنوي: (إن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين)

وهكذا نجد نصوص العلماء من متكلمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين، فلا تثبت به العقيدة، ونجد المحققين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن ينازع أحد في شيء منه، ويحملون قول من قال:(إن خبر الواحد يفيد العلم) على أن مراده العلم بمعنى الظن كما ورد، أو العلم بوجوب العمل. على أن الكلام إنما هو في إفادته

ص: 5

العلم على وجه تثبت به العقيدة، وليس معنى هذا أنه لا يحدث علماً لإنسان ما، فإن من الناس من يَحدث العلمُ في نفسه بما هو أقل من خبر الواحد الذي نتحدث عنه، ولكن لا يكون ذلك حجة على أحد، ولا تثبت به عقيدة يكفر جاحدها، فإن الله تعالى لم يكلف عباده عقيدة من العقائد عن طريق من شأنه ألا يفيد إلا الظن. ومن هنا يتبين أن ما قلناه في الفتوى من (أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات) قولٌ مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء!

وإذ قد عرفنا الفرق بين مناط القطعية في الورود وهو التواتر، ومناط الظنية وهو الآحادية، فهناك بحث آخر يتصل بالتواتر ولابد من النظر فيه، هذا البحث هو: هل يوجد المتواتر في الأحاديث المروية في الكتب المدونة؟ وقد اختلف العلماء في الجواب عن ذلك: فذهب قوم إلى أنه لا يوجد حديث متواتر فيما روي لنا من الأحاديث ودون في الكتب، ولعل هؤلاء بنوا رأيهم هذا على اشتراط عدم الإحصاء في رواة المتواتر، وهو مذهب لطائفة من العلماء كما تبين مما نقلناه في تعريف المتواتر. وقال ابن الصلاح:(لا يكاد يوجد المتواتر في رواياتهم، ومن سئل عن إبراز مثال له فيما يروى من أهل الحديث أعياه تطلبه، وحديث (إنما الأعمال بالنيات) ليس من ذلك السبيل وإن نقله عدد التواتر وزيادة، لأن ذلك طرأ في وسط إسناده ولم يوجد في أوله. نعم حديث (من كذب علي) نراه مثالاً لذلك، فإن رواته أزيد من مائة صحابي وفيهم العشرة المبشرون بالجنة، ولا يعرف حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا الحديث الواحد)

وذهب آخرون إلى أن المتواتر كثير في هذه الكتب. قالوا: (إن هذه الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً مقطوع بصحة نسبتها إلى مصنفيها، فإذا اجتمعت على إخراج حديث، وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد ذلك العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب كثير)

وليس بنا حاجة إلى أن نعرف مدى هذه الكثرة التي يراها هؤلاء، ويذكرونها في مقابلة القول بالعدم، أو في مقابلة القول بالندرة وإعياء تطلب المثال، وإنما يهمنا أن نلفت النظر إلى أنه لا يحكم لحديث بالتواتر - حتى على أكثر هذه المذاهب توسعاً - إلا إذا اجتمعت في الشروط الآتية:

ص: 6

1 -

أن تخرجه جميع كتب الحديث المشهورة المتداولة

2 -

أن تتعدد طرق إخراجه تعدداً تحيل العادة معه التواطؤ على الكذب

3 -

أن يثبت هذا التعدد في جميع طبقاته: أوله وآخره ووسطه

وإذن: فالحديث الذي لم تخرجه جميع الكتب المتداولة المشهورة، أو أخرجته جميعها ولكن لا بطرق متعددة، أو أخرجته بطرق متعددة ولكن لا في جميع الطبقات، بل في بعضها دون بعض، لا يكون متواتراً باتفاق العلماء أجمعين!

ويجدر بنا بعد هذا أن نعرض لظاهرة غريبة شاعت في الناس، وإن الحق ليتقاضى فيها واجبه من العلماء المسئولين أمام الله وأمام الرسول: تلك الظاهرة هي أنه على الرغم مما قرره العلماء في شأن المتواتر تحديداً ووجوداً، وعلى الرغم من هذا التحفظ الشديد في الحكم لحديث مما دون في الكتب بالتواتر، نرى بعض المؤلفين قديماً وحديثاً يسرفون في وصف الأحاديث بالتواتر، وقد يقتصدون فيخلعون عليها أوصافاً أخرى كالشهرة والاستفاضة والذيوع على ألسنة العلماء، وتلقي الأمة إياها بالقبول والثبوت في كتب التفسير وشرح الحديث، أو في كتب التاريخ والمناقب. . . الخ. وقد يشتط (أناس) في سلوك هذه السبيل، فتراهم يتتبعون مع هذا أسماء الصحابة والتابعين والأئمة والمؤلفين الذين جرى ذكرهم على ألسنة النقلة في رواية الحديث، وهم يعلمون أنها روايات ضعيفة لا تصبر على النقد، وأن هذه الأسماء التي يحرصون على جمعها توجد في كل حديث حتى في الأحاديث الموضوعة، ولكنهم مع ذلك يجمعونها، ويجتهدون في عدها وإحصائها وذكر الكتب التي اشتملت عليها لأنهم يريدون أن يخطفوا أبصار العامة، ويستغلوا عاطفتهم الدينية، ويزعموا لهم أن هذا الحديث أو تلك الأحاديث قد وردت عن نبيكم في هذه الكتب الكثيرة وعلى لسان هذا الجم الغفير من الرواة بين صحابة وتابعين فهي متواترة لاشك في تواترها، وهي متصلة بالرسول لاشك في اتصالها، ومن حاول الطعن فيها، أو الحط من درجتها، فقد ضل ضلالاً بعيداً، وحاد عن سبيل المؤمنين!

ولهذه الظاهرة أسباب:

منها، وقد يكون أقلها خطراً، اشتهار الحديث في طبقة أو طبقتين فتسحب الشهرة على جميع طبقاته، ويحكم عليه حكماً عاماً بالتواتر أو الشهرة من غير تحقيق ولا تمحيص، وقد

ص: 7

لا يصل الحديث إلى حد الشهرة في طبقة ما، ولكنه جاء في (الخلافيات) فقهية أو كلامية فتعصب له أتباع المذاهب وخلعوا عليه وصف الشهرة أو التواتر تأييداً لمذهبهم، وتناقلته الكتب، موصوفاً بذلك منسوباً إلى جمع من رجال الرأي والمذهب فيخاله الناس مشهوراً أو متواتراً وهو ليس بمتواتر ولا مشهور!

ولقد كان للقائمين (بالترغيب والترهيب) ونقل الملاحم والفتن وغرائب الأخبار التي تميل النفوس إلى التحدث بها والاستماع إليها، أثر عظيم في خلع أوصاف الشهرة والتواتر على أنواع خاصة من الأحاديث التي ليست بمشهورة ولا متواترة بل ربما كانت غير صحيحة، وقد تأثرت بذلك طبقة من الخاصة لم تعن بتحقيق الرواية، ولا بمعرفة درجة الحديث، واكتفت بنقل ما يقوله هؤلاء وإجرائه على ألسنتهم وفي كتبهم حتى شاع واشتهر

وإنما استباحوا ذلك معتمدين على ما قرره بعض علماء المصطلح من (جواز التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما، وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب مما لا تعلق له بالأحكام والعقائد)

وبذلك رووا الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة، ثم توسعوا فوصفوا الآحاد بالتواتر، والضعيف بالصحيح، وتناسوا مقاييس التواتر والآحادية، ومقاييس الصحة والضعف، ومن هنا رأينا من يصف (المعجزات الحسية) كانشقاق القمر وتسبيح الحصى وكلام الغزالة وحنين الجذع بالتواتر مع أنها غير متواترة، وإنما هي آحادية كما قرره علماء الأصول. وكذلك رأينا من يصف أخبار المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج وما إلى ذلك مما يذكر باسم (أشراط الساعة) بالشهرة أو التواتر

ولعل أحقر ما رأينا من أسباب الإسراف في وصف الأحاديث بالتواتر أن قوماً من المرتزقة باسم الدين وباسم الغيرة على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم استباحوا لأنفسهم في سبيل أغراضهم الدنيا أن يصطنعوا كل أساليب التلبيس والتمويه في شأن أحاديث عيسى التي لا يمكن أن يكون منها متواتر حتى على أوسع الآراء في تحققه، وهي مع آحاديتها يكثر ويشتد في معظمها ضعف الرواة واضطراب المتون ونكارة المعاني،

ص: 8

فتراهم يقولون هي متواترة قد رواها فلان وفلان من الصحابة والتابعين، وذكرت في كتاب كذا وكتاب كذا من كتب المتقدمين، فإذا رأوا في بعضها ضعفاً أو اضطرابا أو نكارة حاولوا التخلص من ذلك فقالوا: إن الضعيف فيها منجبر بالقوي، وأن العدالة لا تشترط في رواة المتواتر. وهكذا يخلعون عليها ثوباً مهلهلاً من القداسة لا رغبة في علم ولا غيرة على حق، ولكن مكابرة وعنادا، وإصراراً على التضليل، وليقال على ألسنة العامة وأشباه العامة إنهم حفاظ وإنهم محدثون!

بقي بعد هذا أمر لابد من تقريره: وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطيعة الدلالة، فقد تناولتها إفهام العلماء قديماً وحديثاً ولم يجدوا مانعاً من تأويلها. وقد جاء في شرح المقاصد بعد أن قرر مؤلفها أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية ما نصه:(ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة. . . وأول بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية سيما الفقه الحجازي، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك، وفتنة الدجال بظهور الشر والفساد، ونزول عيسى صلى الله عليه وسلم باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح. . . الخ.). ومن ذلك نرى أن السعد لا يقرر وجوب حملها على ظواهرها حتى تكون من قطعي الدلالة الذي يمتنع تأويله، وإنما يقرر بصريح العبارة (أنه لا مانع من حملها على ظواهرها) فيعطى بذلك حق التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل، ثم يحدث عن بعض العلماء أنهم سلكوا سبيل التأويل في هذه الأحاديث فعلاً، ويبين المعنى الذي حملوها عليه، ولا شك أن هذا لم يكن منه إلا لأنه يعتقد - كما يعتقد سائر العلماء الذين يعرفون الفرق بين ما يقبل التأويل وما لا يقبله - إن ما تدل عليه ألفاظ تلك الأحاديث ليس عقيدة يجب الإيمان بها، فمن أداه نظره إلى أن يؤمن بظاهرها فله ذلك، ومن أداه نظره إلى تأويلها فله ذلك، شأن كل ظني في دلالته

ومما تقدم يتبين جلياً (أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطيعة ما، لا من ناحية ورودها ولا من ناحية دلالتها). والسلام على من اتبع الهدى

محمود شلتوت

عضو جماعة كبار العلماء

ص: 9

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

في دار المفوضية الأفغانية - مع النحاس باشا - مع الدكتور طه حسين - مع الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا - نفحات عراقية

في دار المفوضية الأفغانية

كانت عصرية الخميس الماضي موعد الاحتفال بعيد استقلال أفغانستان، فأقبل على دار المفوضية الأفغانية بالزمالك جمهور من رجال السياسة والأدب والدين، وشعر الزائرون جميعاً بأنهم في دارهم، بفضل المودة التي يضمرها سعادة السيد محمد صادق المجددي لأهل هذه البلاد، وبفضل ما يكنه المصريون لهذا الرجل من الإجلال

ولكن ما القيمة الصحيحة للسيد المجددي، القيمة التي توجب أن يبقى في مصر مدة لم تتفق لغيره من السفراء؟

التوفيق بيد الله، ومع هذا فمن الواجب أن نحاول وزن الرجل من الوجهة الأخلاقية، فقد يكون في ذلك ما ينفع بعض الديبلوماسيين من رجال الشرق

المجددي ذكيٌ جداً، ولكن ذكاءه يشبه النبع الذي يترقرق تحت الرمال، فهو يرى الأمور على ما هي عليه من قُرب أو من بُعد، ثم يؤدي واجبه بلا جَلَبة ولا صياح

والمجددي سفيرٌ مسلم في أمة إسلامية، مسلم صادق إلى أبعد حدود الصدق، وقد يُعَدْ من النوادر في بعض السِّمات، وإلا فمن يصدِّق أن وزيراً مفوضاً ينزل من سيارته ليساعد على حمل نعش، عساه يظفر بموعود الثواب؟

والمجددي يقيم حفلات موسمية متصلة بالأعياد القومية في أفغانستان، ولكنه لا يُلقي خطبة إلا في الحفلة التي يقيمها بمناسبة المولد النبوي

وهو يعتكف أياماً من كل سنة في أحد المساجد اعتكافاً لا يسمع به غير الخواصّ. وأين من يصبر على الاعتكاف بالمساجد في هذا الزمان؟

وإسلام المجددي إسلام لطيف فهو يحيا حياة ذوقية قليلة الأمثال

دخلت المفوضية الأفغانية مع السيد خالد الشوربجي، فلما جاء السيد المجددي لاستقبالنا قدَّم إليه الشوربجي سبحة، فقال المجددي: وأين القرنفلة؟

ص: 11

وكان ذلك لأن المجددي نسِي في المفوضية العراقية سبحة وقرنفلة، ولم يفته حين ترّد إليه السبحة أن يذكر القرنفلة، كأنها أُهديتْ إليه في ساعة صفاء

ويظهر ذوق المجددي في أحاديثه الإخوانية، الذوق المطول بندى الوجدان، فهو يحادثك بروحه وقلبه حديث الرجل المفطور على صدق الطوية، ولا تلمح في بشاشته أي تكلف أو افتعال

وقد ربى أبناءه في مصر تربية عربية إسلامية، ليكون اتجاههم إلى المشرق لا إلى المغرب، وليضمن انتفاعهم بالإقامة في وطن الأزهر الشريف

لم تكن لمصر مفوضية في أفغانستان، فسعى السيد المجددي لحمل الحكومة المصرية على إنشاء مفوضية هناك، ثم لاحظ أنها تتردد، فأعلن أن هذا التردد قد يقهره على مفارقة مصر بعد أن أحبها أصدق الحب. وبهذه اللمحة الوجدانية وصل إلى ما يريد

أما بعد فهذه كلمة نكتبها لوجه الله في تحية رجل من المؤمنين بالله

مع النحاس باشا

كانت مصادفة جميلة في ذلك اليوم الجميل، فقد جلست مع رفعة النحاس باشا على مائدة واحدة وتجاذبنا أطراف الأحاديث والنحاس باشا يترسل حين يتحدث، ويحرص على أن يقدم لمحدثه أطايب من المعاني اللطاف

مرَّ اسم (عباد الشمس) بالحديث فقال إن اسمه بالفرنسية لأنه يدور مع الشمس، وهو رمز الرياء

فقلت: إن عباد الشمس يدور مع الشمس بإرادة لا تعرف التقلب، فمن الظلم أن نضيفه إلى زمرة المرائين، وإن سمح رفعة الرئيس فأنا أذكر أن رمز الرياء هو (أبو رياح) لأنه يدور مع الرياح بلا إحساس، وبهذا الوصف عرفه العرب، وكان له مكان فوق أبواب القصور وأسوار البساتين

وعند ذلك قال عبد الفتاح باشا الطويل، ولا يزال أبو رياح معروفاً عند باعة الحلويات، ويكثر وجوده في الموالد والأسواق

وسأل أحد الحاضرين من الأجانب رفعة الرئيس عن موعد اصطياف الحكومة بالإسكندرية فأجاب: سيُحدد الموعد بعد استئذان جلالة الملك في أن يكون انتقال الحكومة إلى هناك

ص: 12

بصفة رسمية، فقال السائل: وما الفرق بين الصفة الرسمية وغير الرسمية في الاصطياف؟ فأجاب رفعة الرئيس: الاصطياف الرسمي يوجب انتقال الهيئة الديبلوماسية إلى هناك

فقلت في نفسي: هذا بعض ما كنت أجهل من تأثير الرسميات

ثم اعتذر الرئيس بأن عليه أن يحضر حفلة يونانية وانصرف قبل نهاية الاحتفال

مع الدكتور طه حسين

والتفت فرأيت الدكتور طه بك قريباً مني فمضيت للتسليم عليه، ودار الحديث:

- هل يعرف سيدي الدكتور أن ورق الطباعة قد انعدم أو كاد؟

- إنها فرصة ثمينة جداً

- انعدام الورق فرصة ثمينة جداً؟

- بالتأكيد، لأنه يريح الناس من مؤلفات زكي مبارك سنة أو سنتين!

- ولكن ما رأيك في الكتب المدرسية؟

- هذا ما نفكر فيه؛ وقد نصل إلى شيء، فليس من الصعب أن نقنع الحكومة بأن استيراد السماد لا يغني عن استيراد الورق

- وهل يعرف سيدي الدكتور أن إرسال المطبوعات المصرية إلى الشرق قُيِّد بقيود ثقال؟

- أعرف ذلك وقد انتهينا إلى حَل

- ما هو ذلك الحل؟

- قيدنا إصدار المؤلفات القديمة، وأبحنا إصدار المؤلفات الحديثة بلا قيد ولا شرط، تشجيعاً للتأليف الحديث، فليس من الرفق ولا من العدل أن تصد المواهب المصرية عن الاتصال بأمم الشرق، ويكفيها ما تعاني من أزمة الورق وغلاء المطبوعات

- ولكن ما الموجب لتقييد التصدير بالنسبة للمؤلفات القديمة، ولبعضها أهمية لا تحتاج إلى بيان؟

- المؤلفات القديمة موجودة في أكثر بقاع الشرق، فمن واجب كل أمة عربية أو إسلامية أن تنشر ما تحتاج إليه من تلك المؤلفات. وهل تظن أن الجاحظ مثلاً يحتاج إلى تشجيع الحكومة المصرية؟ إنما يحتاج إلى التشجيع جماعة المؤلفين من الأحياء، وقد نشأوا في زمن لا ينقل فيه الفكر بغير الطباعة والتوزيع.

ص: 13

وما كدنا نفرغ من هذا الحوار الهادئ حتى رأينا رجلاً يقول: يا دكتور طه بك، عندي مؤلفات عميقة جداً لا يفهمها أحد غيرك، فمتى أعرضها عليك، لأعرف رأيك؟

فقلت: اسمع يا حضرة المؤلف العميق، إن الدكتور طه مشغول في هذه الأسابيع، فانتظر إجازته الصيفية ليَفرُغ لك ولأمثالك من أهل العمق العميق!

وتفضل حضرة المؤلف فمنح الدكتور طه بطاقته الغالية ليذكره حين يستريح في إجازة الصيف!

قال الجراح الدكتور محمد كامل حسين وهو يتأمل تلك البطاقة المزخرفة: يجب على وزارة المعارف أن تؤلف لجنة لدرس مؤلفات هذا المؤلف العميق!

فقلت: ومن أجل هذا المؤلف توصد الأبواب في وجه الجاحظ!

وأسرع الدكتور طه فانصرف قبل أن يتم الحديث

مع الشيخ مصطفى باشا

ولقيت فضيلة الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرازق باشا عند الباب فرجعت معه لآنس بحديثه لحظات، ولم أكن رأيته منذ شهور طوال فاقترحت عليه أن يقيم في كل سنة موسماً دراسياً بالرواق العباسي، إحياء لذكرى الشيخ محمد عبده، فقال إن ذكرى الشيخ تقع في يونية. فقلت ليس المهم ذكرى الوفاة وإنما المهم ذكرى الدرس، وهي مقيدة بالعام الدراسي

- في النية أن تقام في مباني الأزهر الجديدة قاعة محاضرات باسم الشيخ محمد عبدة

- أهم من هذا أن يقترن الرواق العباسي باسم الشيخ محمد عبده، ففي ذلك الرواق تألق نجم الشيخ، وفيه دارت المساجلات بين طلاب الحق واليقين

- ما الذي يمنع من أن تقدم هذا الاقتراح لفضيلة الشيخ المراغي؟

- الشيخ المراغي يرحب كل الترحيب، فاستعد أنت، وليستعد من انتفعوا بآراء الشيخ محمد عبده، عساكم تحيون ذكراه بأبحاث متصلة بالمعضلات العقلية في هذا الجيل

ثم تحدثنا في تأثير الشيخ عبده في زمانه، فقال الشيخ مصطفى: كان السلطان حسين كامل يحمل المصحف دائماً. وكان يقول: أنا مسلم على مذهب الشيخ عبده

وتحدثنا عن صنيع الشيخ رشيد رضا في نشر مؤلفات الأستاذ الإمام فقال الشيخ مصطفى: خدمات الشيخ رشيد لا تنكر، ولكنه ظل بعيداً عن روح الشيخ عبده، فقد كان يسرع إلى

ص: 14

تكفير المسلمين لأقل الشبهات، مع أن الشيخ كان يحكم بأن الرأي الذي يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ويحتمل الإيمان من وجه واحد يجعل صاحبه من المؤمنين

وعرفت من حديث الشيخ مصطفى أن أوراق الشيخ عبده قدمت إلى الشيخ رشيد لينتفع بها في تدوين تاريخه بعد أن اعتذر الشيخ عبد الكريم سلمان، وأن تاريخ الشيخ عبده روعيت في تدوينه أشياء، فلم يدوَّن على الوجه الصحيح فيما يمس تلك الأشياء

ثم ماذا؟ ثم أذكر أن المستر بلنت قال في مذكراته: لقد وجب عليَّ أن أسجل شعوري نحو الشيخ محمد عبده، فهو في نظري أصدق رجل عرفته في الشرق

وأنا أشعر بمثل هذه العاطفة نحو الشيخ مصطفى عبد الرازق فهو في نظري أصدق الاوفياء، وهو معي في كل وقت، وإن كنا لا نلتقي إلا في القليل من الأحايين

الصديق الحق هو الذي يجعل الصداقة في مكانة من القدسية لا تتأثر بالقرب أو البعد، ولا تختلف باختلاف الظروف، ولا يزيدها تقادم العهد إلا صفاء إلى صفاء

نفحات عراقية

أصدرت مجلة (الغَرِيّ) عدداً خاصاً بالوفد العلمي، وفد الأساتذة المصريين إلى النجف، وهو مجموعة من الخطب النفيسة والقصائد الجياد، وفيه ذُكِرتْ مصر بالخير على ألسنة فصاح، وأفئدة صحاح

قرأت تلك المجموعة حرفاً حرفاً، ومتعت خاطري بذكريات النجف والموصل والبصرة والحلة وبغداد، وهي بلاد الأهل والاحباب، ثم سرني أن أرى خطباء النجف وشعراء النجف بعافية، وإن لم أر اسم السيد عبود شلاش بين الخطباء

وتذكرت الصديق الذي زرت معه النجف، فمن ذلك الصديق؟

لن أنسى أبداً أني زرت النجف مع السيد صادق الوكيل، ولن ينقضي حزني عليه، وكان أكرم صاحب وأكرم أليف

لو عاش هذا الفتى لوصل إلى خفايا الدقائق من التاريخ الإسلامي

ولو كنت أعرف أنه سيُخْتَضَر لأديت إليه بعض حقوق الوفاء

كان طيِّع القلم في الرسائل الإخوانية، فكنت أتلقى منه خطاباً في كل أسبوع، برغم تقصيري في الجواب، لأنه كان يعرف أن الوقت لا يوافيني بما أريد، والصديق الذي

ص: 15

يعتذر عن أخيه نادر الوجود

إن زرت العراق بعد حين أو أحايين فسأمر على كربلاء، لأقرأ الفاتحة على قبرك يا صادق، ولأعزي أهلك، إن جاز لمن يفقدك أن يجد العزاء

أترك هذه اللواعج وأشكر لمجلة الغَرّي لطفها مع الأساتذة المصريين، راجياً أن تلوح فرصة قريبة نجزي فيها العراق لطفاً بلطف، وجميلاً بجميل

زكي مبارك

ص: 16

‌موسيقى.

. .

للأستاذ دريني خشبة

كلما جلست وحدي تحت قبة السماء، لا يمضي غير قليل حتى تملأ أذني موسيقى الأفلاك. . . الأفلاك العلوية. . . التي تسبح فوقها الملائكة!

ما أطيب الوَحدة في هذا الزمن! إنها تصلنا بالأول والآخر، والظاهر والباطن. . . إنها تصلنا بالله!

ما أجمل موسيقى هذا الوجود المشرق بنور ربه! النور الذي يُدَوي بأعذب الألحان في قلوب الشعراء والمؤمنين والمحبين! النور الذي يفيض على الخمائل فيغني الورد، وتصدح البلابل، وتسقسق العصافير، ويهتز الأيك، ويستيقظ الوادي النائم، ويصحو النهر الوسنان، وتهرول الأنجم الحَيْرى، ويقف البدر الخجول مستأذناً عند أبواب المغرب الفضية!

غَنِّ يا قلبي فكل ما في الوجود يغني!

هات ألحانك فكل ما في الوجود ألحان!

ألحان صامتة هنا، وألحان مُدَوِّية هناك؛ وألحان من ألوان الزهر الضاحك، والفَنَنِ المورق، والبلبل الشادي، والخرير المترقرق، والنسيم العاشق، وعبير الحب في القلوب اليافعة، وابتسام الأمل في قلوب العذارى، وبراءة الحَمَل وهو يقضم الكلأ، ثم يحسو جرعة من صفحة الغدير!

تلك موسيقى الخلود أيها الفؤاد المعمود!

ألست ترى إلى قطرات الكد التي تتحدر فوق جبين العامل! وتفيض ملء أسارير الفلاح؟. . . إنها صلوات الرجاء الذي لا ينقطع، وأدعية الأمل الذي لا يخيب. . . إن لها بين يَدَي الله لغِناء تردده الملائكة من حول العرش، كما تردده الأطفال من حول الأم. . . أما في قلوب العمال والفلاحين، فهي موسيقى الإيمان الذي لا ينقم، والرضى الذي لا يسخط، والقناعة التي لا تضيق، والتسليم الذي لا يعرف الحسد

كل ما في الكون ألحان فتغن يا فؤادي

ليست ألحان الرياح في أوتار الدوح، ولا هديل الحمائم في ضحى القرية، ولا موسيقى الكروان في هدأة الليل، ولا تنهدة الحسناء في ضوء القمر، ولا تناجي المحبين في غفلة

ص: 17

الرقباء، ولا هَمْس القُبَل المذعورة في أول لقاء، ولا رعشة الشفاه الظامئة وهي تعترف، ولا المعاني الراقصة وهي تغازل خيال الشاعر، ولا مس فم الأم وهي تسجل أسرار قلبها فوق جبين الطفل، ولا قطرات الندى وهي تُفتح أكمام الورد، ولا آراد الشمس وهي توشي أذيال السحاب عند ما يتنفس الصبح، ولا حفيف الريشة في يد المصور وهي تجمش اللوحة، ولا صلاة الناسك وقد فني في الله في سكون الخَلْوة، ولا تبرج الموج وهو يعانق حِسان الصيف قريباً من الشاطئ، ولا براءة الطفلة وهي تضم القُطَيطَة إلى صدرها النابض، ولا غناء القلوب الملتاعة حين تلتقي، فتتماس، وتخفق ثم تهدأ. . .

ليس هذا كله إلا موسيقى الوجود المتحد، فغن مع القافلة يا قلبي!. . .

اتحد بالأغنية الكبرى التي تصغي إلى موسيقاها العذبة الحنون ترددها قرائح الشعراء، وتصدح بها أسراب الطير، وتنفخ في نايها أنفاس الريح، وتستروح إليها قلوب المدنفين، ويستجيب لها بيان الأديب الذي يغدو لها مزماراً، ويقدم من روحه لجرسها قيثاراً، فيجعلها دموعاً في أعين المحبين، أو رحمة في جوانح الحزانى، أو حمرة في شفة كل عذراء، أو سحراً في أهداب كل حورية، أو نفحة في فؤاد كل مبتئس. . . أو ما شاء له فنه الذي جعله الله مرآة هذه الحياة الدائبة، ولسان هذا العالم الشادي

لله ما في حناياك من حناياي يا وتر!

تعال أسمعك أناتي التي هاجت حَرّها أناتك. . . أنت أيها المعجب المطرب، إن عندي ما يشجي وما يبكي!. . . إن هذا النغم الحلو النحيل الذي يمس المشاعر المترنحة كما يمس الفراش أفواف الزهر. . . إن هذا النغم الذي يشبه الأهداب الطويلة الناعسة، هو نغم ضحوك طروب ثمل، يصدر عنك ولا يرتد إليك. إنه يمس القلوب مساً خفيفاً ثم يمضي كما تمضي الذكريات السعيدة، ويتبدد كما تبدد الأحلام الفضية، وقلما يبقى منه شيء في السويداء تستعين به على تخفيف آلامها وتلطيف مآسيها. . . وإن بقي منه شيء فإنما يكون أطيافاً. أطيافاً من آهات ولوعات ولهفات، تزيد الشجا في صدر الشجي، وتؤجج اللظى في قلب المشتاق. إنها تزيد المواجع ولا تشفيها، وتثبتها ولا تنفيها، إنها تفجر دموع الضعفاء الذين يعتزلون الدنيا من أجل غادة، ويلبسون المسوح من أجل حب خائب، وغرام تعس

أما موسيقاي يا وتر! فمن لي بكلمات أعصرها من قلبي دماً، إذا جعلته سطوراً على أديم

ص: 18

طروسي، وقرأها الناس، ملأت قلوبهم، قبل أن تملأ أسماعهم. . .!

هذاك قلمي يا وتر! إنه أشبه اليراعات بالناي الذي يبكي معك ليبكي الناس! أليس ينفث من شباته ما تتغنى به الإنسانية من ألحان هذا الزمان المضرج بالدماء، مثل ما ينفث نايك من ألحانه الخمرية التي يتغنى بها السهاة اللهاة العرابيد!

اسمع إلى موسيقاي يا وتر، تحملها الصبا من جوانح الأمهات والأيامى والمنكوبات في جنبات الفستولا وحفافي اليانج وضفاف الروهر. ثم من مغاور الأولمب وكهوفه، وليس من شعافه ومشارفه التي كان يصدح فوقها أبوللو، إذ تهدهد مركبته أورورا الوردية فوق السحب مطلع كل شمس

هَلُمَّ أسمعك موسيقاي يا وتر!

هلم أسمعك دقات القلوب النابضة. . . القلوب المجروحة. . . قلوب العذارى البولونيات اللائي لَدَيَّ من همس عيونهن، ومشبوب ضلوعهن، ما لا يدور لك في خلد! تعال. . . أرهف آذانك التي يملؤها الشدو دائماً بما تتشكى هذه الفتاة التي تقول لي وهي تبكي: (لقد كان لي أب. . . لقد كان لي أم. . . لقد كان لي حبيب. . . والآن هاأنذي جائعة. . . هاأنذي ظمأى. . . ظمأى إلى كل شيء. . . إن صدري يمزقه الظمأ، وتشويه الحُرَق، وتقتات به الآلام. . . وإن جمالي الذي كان العالم يفتتن به، قد ذبل، إنه يدمى الآن في أسمال الفاقة، وفي وادي الموت والتشريد. إنه يبكي على الآباء والأمهات والأخوة ، ، ، وعلى كناره الذي كان يملأ جنة حبه بالشدو، ويغسل أرضها بالدمع، ويورق أغصانها بالتغريد. . . يا رب أين ذهب كناري. . . لم لم يفرد جناحيه للريح حين هبت زوابع الهون؟ هل ظن أنه يحول بيني وبينهم بأغنياته؟ ما كان أرق فؤاده يا ربي؟. . . ولكن ما لي أذكر كناري الحبيب ولا أذكر بيانكا. . . بيانكا الصغيرة ذات العامين، التي ظلت تحت الردم يومين، ولما أُخرجت في الثالث سألتني بصوتها النحيل الباكي الذي يتحشرج: ماما. . . أين ماما؟ فلما أنبأتها أنها تنتظرها في الجنة. . . تلك الحديقة الكبيرة اليانعة التي غرستها يد الله، تبسمت، وأطبقت جفنيها وأسلمت آخر أنفاسها وصعدت إلى الله القادر اللطيف لتقابل أمها في الحديقة الكبيرة اليانعة. . . ولعلها تتذكر حينما تلقي البستاني فتروي له ما صنع الهون

ص: 19

ولأترك لك بقية القصة، قصة البولونية تلحنها أنت وتغنيها أنت. . . وتزفر بها أنت. ثم تبكي بها ملء عيون الإنسانية وملء قلوبها يا وتر!

تعال. . . تعال أسمعك من أناشيدي الباكية يا وتر!

هل سمعت ما قالت كيتي اليونانية، عذراء كوريتزا، وهي تبكي؟! إن أنين القيثار كله يذهب في بعض أنينها يا وتر. . . لقد كانت تذيب روحها قطرات من الدمع المختنق ترسله قطرة فقطرة من عينيها الثرتين، إذ هما ترويان مأساتها. . . مأساة أفروديت ويالَّلا وسيرز وبندورا. . . بل مأساة الجمال والحكمة والخير والأمل!!

اسكبي دموعك يا ورود الحديقة على فينوس الجميلة التي أثخن الأعداء جسمها البض بجروح الوحشية المتبربرة المزهوّة بالطائرات والدبابات والغواصات والطرابيد!

اسكبي دموعك يا ورود الحديقة على أدونيس الغُرانِق الذي جند له الخنزير البري وراح يلغ في دمه، ويسلب القوت من أطفاله العُراة الظِّماءِ الجياع الذين هبوا يردون من عرينهم الضبع، فهب الخنزير البريُّ إلى معونة ابن عمه. . . لكنه ذاده آخر الأمر عن الجثة التي غرز فيها أظافره، ووقف على رمتها يُقهقه ويُغني

اسمع إلى كيتي عذراء كوريتزا يا وتر، وهي تروي مأساتها:

(لقد كان لي أب. . . لقد كانت لي أم. . . لقد كان لي كِنارٌ حبيب يملأ حديقة حياتي ترجيعاً وتسجيعاً. . . يبتسم لي وأبتسم له. . . ويملأ قلبي بالمُنى البيضِ، وأفعم حياته بغُر الأماني. . . ثم جاءت القائمة السوداء تنعيه من ميدان المجد والشرف. . . فلبست عليه البياض الذي ترى يا وتر. . . لأنه قَدَّم قلبَينا قرباناً للوطن. . . ولما مضيت في إثره أقتل الهون البرابرة الذين قتلوا كناري، قبض عليَّ سفّاحهم في طريق الحومة، ولما أقتل من كلابهم غير عِلْجَيْن. . . فوا أسفاه على أن لم أُروّ الأولمب بدمائهم جميعاً. . .)

اسمع إلى لحن الإنسانية المجنونة يا وتر!

الإنسانية التي أصابها هذا السُّعار المحزن الذي جَرح القلوب وقَرح العيونَ وبرِّح بالقافلة. . .

ألا أيها الليل الطويل متى ينبلج الفجر؟

ألا أيتها العِير الضالة متى تطلع الشمس؟

ص: 20

ألا أيها الوتر الماجن متى تجد فتسمع قومي هدير الموج الصخاب وهزيم الريح الصِّر وانفطار قلب الإنسانية الباكية. . .

الإنسانية التي تدفن أطفالها تحت الردم، وتهوي جواريها في بطن اليم، وتبث ألغامها في البحر واليَبَس. . .

الإنسانية التي تضحك وتبكي، وتنوح وتغني، وتلبس السواد وتلبس البياض، وترقص في العُرس كما ترقص على المقبرة، وتتحمس في الخندق كما تتيه في الحانة. . .

ما هذا؟

ماذا تسمع يا وتر؟

ما هذا الصوت العذب الجميل الذي يقول:

أيها الخفاق في مسرى الهواء؟

ولمن هذا اللحن الخلاب:

يا شباب النيل!

يا عماد الجيل؟!

يا للموسيقى؟!

أين هو اللواء الخفاق؟ وأين هم شباب النيل عماد الجيل؟

اصدقي يا موسيقى. . . اصدقي. . . اصدقي فقد جد الجد، وآن أن يزهق الباطل!

دريني خشبة

ص: 21

‌على هامش النقد

الأدب (المهموس) والأدب الصادق

للأستاذ سيد قطب

قلت في كلمتي السابقة عن اللون المفضل من ألوان الأدب الذي يدعو إليه الأستاذ مندور

(من جميع النماذج التي اختارها حتى الآن - والنموذج كما قلت أكثر دلالة من الشرح العام - أستطيع أن أسمي هذا اللون باللون (الحِنَيّن) حسب تعبير أولاد البلد من القاهريين! الذي تحس فيه (بالحنية) أو بالهمس والوداعة الأليفة حسب تعبيره هو)

ولست أحب أن أظلم الأستاذ (مندور) ولا أن أشوه صورة اللون الأدبي المفضل لديه. فليس في الأمر ما يدعو إلى هذا العناء، أو هذا الالتواء. فأنا أسجل له هنا - في الرسالة - بعض الشرح لما يريده نقلاً عن (الثقافة). قال في أحد الأعداد:

(الهمس في الشعر ليس معناه الضعف، فالشاعر القوي هو الذي يهمس، فتحس في صوته خارجاً من أعماق نفسه في نغمات حارة؛ ولكنه غير الخطابة التي تغلب على شعرنا فتفسده، إذ تبعد به عن النفس، عن الصدق، عن الدنو من القلوب)

ثم قال في عدد آخر:

(وبعد، فهناك شعر صادق جميل، وهناك نثر صادق جميل، سميتها مهموسة لأعبر عما يثيره التعبير الفرنسي - الذي نستطيع ترجمته حرفياً بـ (نصف الملفوظ) والمعنى في نفسي ليس واضحاً تمام الوضوح، لأنه في الحق إحساس أكثر منه معنى، وإنما أستطيع أن أوحي للقارئ بشيء منه. إن قلت إنني أقصد إلى ذلك الأدب الذي سلم من الروح الخطابية التي غلبت على شعرنا التقليدي منذ المتنبي)

ثم يقول في نفس المقال:

(لست أدري أأفصحت أم لا. ولكني في الحق أعتمد على نفاذ روح القارئ، لأني يائس من أن أحمل إليه ما في نفسي حملاً تاماً، ولهذا أترك له دائماً مشاطرتي التفكير والإحساس. عليه أن يصل ما أقطع، وأن يفصل ما أجمل، وأن يضفي على الإشارة كل ما خلفها. . .

وقد عنيت أن أسجل هذه الفقرات، ولعلها أقوى وأوضح ما يصور فكرة الأستاذ مندور - أو إحساسه بتعبير أصح - وهذا اللون الذي يدعو إليه في الأدب، لون حبيب، ما في ذلك

ص: 22

شك؛ ولكنه ليس اللون الوحيد الذي نعادي كل ما سواه، لأنه ليس الصورة الوحيدة للحياة

ولم يكن خطأ الأستاذ مندور في هذا التضييق وحده - عند رسم آفاق الأدب - ولكنه كان كذلك في رسم صورة واحدة لهذا اللون الواحد عند اختيار نماذجه - والنموذج الواحد هو الذي يكشف عن الصورة الباطنة في نفس المتحدث - فإذا جاز لي أن أعد النماذج التي جاء بها صورة اللون الذي يدعو إليه، لم أكن حينئذ ظالماً له، ولا مشوهاً لغرضه حين سميت الأدب المهموس بالأدب (الحنين)!

وأحب أن أطمئن الأستاذ مندور على أنني أحس ما في نفسه مما لا يستطيع أن يحمله إلى القارئ حملاً تاماً - كما يقول - ولا أرى في استنجاده بإحساس القارئ لتكملة ما يريد وتفصيله، عجزاً ولا قصوراً - كما رأى البعض - فالحس الفني لا تستطيع الألفاظ دائماً أن تحمل معانيه كاملة بوضوح، وحسبها أن تشير إليه وأن تستثير في نفوسنا المعاني والأحاسيس والذكريات الخاصة به

وهو في شرحه للأدب المهموس، كان أوسع أفقاً وأرحب صدراً، من الأمثلة التي جاء بها جميعاً من لون واحد، ولو كانت المسألة مسألة علمية أو فكرية لكان هذا الشرح هو كل شيء. ولكنها مسألة فنية، فالمثال هو الأصدق والأصح في تصوير الشرح العام

وإذا قلت: كان أوسع أفقاً وأرحب صدراً، فإنما أقيسه إلى نفسه في فهم الأدب. ولا أحتاج أن أقول: إن ذلك الأفق ليس وسيعاً، وهذا الصدر ليس رحيباً، بالقياس إلى الفهم العام الذي يجب أن تعنيه جميع الألوان الصادقة من الفنون، لا لون واحد قد يكون أفضل الألوان، وقد لا يكون!

وقد قلت في الكلمة السابقة: (إنه كان موفقاً في اختيار بعض النماذج، غير موفق في اختيار بعضها، فقصيدة (يا أخي) لميخائيل نعيمة، وقصيدة (ترنيمة سرير) لنسيب عريضة يعدان نموذجاً طيباً لهذا اللون بذلك القيد. ولكن ماعداهما من مختاراته كان نماذج رديئة للشعر عامة، ولهذا اللون من الشعر كذلك، لا في الأداء وحده، ولكن في حقيقة الشعور)

فأحب أن أفصل هذا القول بعض التفصيل

يقول الشاعر (نسيب عريضة) بعنوان (ترنيمة سرير):

ظلام الليل قد جنا

وبوق الهمِّ قد رنَّا

ص: 23

فنم يا طفل لا يهنا

غني بات شبعانا

قتام اليأس غطَّانا

فَنمْ، لا عين ترعانا

إذا ما صبحنا حانا

حسبنا الصبح أكفانا

ألا يا همُّ يكفينا

لقد جفَّتْ مآقينا

لو أن الدمع يغذونا

أكلنا بعض بلوانا

فتنال هذه القطعة إعجاب الأستاذ (مندور) وحبه، وهي حقيقة أن تنال هذا منه، ومنا نحن أيضاً - بوصفها لوناً من ألوان الأدب، لا بوصفها اللون الوحيد الذي يحب -

ولكن الشاعر يقول قطعة أخرى بعنوان (يا نفس) لا تبلغ أن تكون في هذا المستوى، ولا أن تكون نموذجاً شعرياً، فتنال إعجاب الأستاذ مندور كذلك لأسباب سنذكرها بعد. وهذه بعض مقطوعاتها:

يا نفس مالك والأنين

تتألمين وتُؤلمين

عذبت قلبي بالحنين

وكتمته ما تقصدين!

قد نام أرباب الغرام

وتدثروا لحف السلام

وأبيت يا نفس المنام

أفأنت وحدك تشعرين؟

والليل مر على سواك

أفما دهاهم ما دهاك

فلم التمرُّد والعراك

ما سور جسمي بالمتين

ولا يعلو مستوى بقية القصيدة عن هذا المستوى، الذي لا شعر فيه ولا حرارة. وأحسب أن وضع القصيدتين متقابلتين - وهما لشاعر واحد - يكفي للإحساس القوي الواضح بما بين مستواهما من فروق. ولكن الأستاذ مندور يصب إعجابه عليها جميعاً، ورائده في ذلك أمران:

الأول: أن القصيدتين لشاعر من شعراء المهجر. وهو يحب شعراء المهجر، لأنه حين ذهب إلى أوربا كان يحمل بعض أدبهم، وبعد أن عاد إلى مصر لم ينفسح له الوقت ليقرأ الشعراء المصريين المحدثين!

والثاني: أن في كلتا القصيدتين نغمة أسى دفين متهالك. وهو لا يحوجنا في هذا إلى التخمين إذ يقول عن القصيدة الأولى: (أعود أنصت إليه - أي إلى نسيب عريضة -

ص: 24

يهدهد طفله في (ترنيمة سرير) حزينة بموسيقاها المطردة!) وكان قد قال عن المقطوعة الثانية: (وهانحن منذ المقطوعة الأولى في جو الشعر فالنفس تئن)

يكفي إذن عند الأستاذ (مندور) أن تكون القصيدة لأحد شعراء المهجر، وأن يكون فيها حزن وأنين، لتنال منه الحب والاستحسان! ومرد هذا كما قلت إلى (مزاج خاص) هو إلى الحالات المرضية أقرب فيما أعتقد

هناك عقدتان نفسيتان لعلهما تلتقيان عند عقدة واحدة. فالأستاذ - كما لمحت في أحاديثي القصيرة معه - حاد المزاج، سريع التأثر، شديد الحنين والألفة، وهي صفات إنسانية تحب، ولكنها لا تصلح للناقد ولا يستقيم معها النقد. وهو يقول في إحدى مقالاته:

بلغني أن (أمين مشرق) قد قتلته سيارة بأمريكا، فحزنت وراجعت نفسي في سر ذلك الحزن، وهذا رجل ما رأيته قط، ولا حدثني عنه أحد، وإنما هي مصادفات الحياة ساقتني وأنا طالب، إلى كتاب به مختارات لشعراء المهجر، فتفتحت لنغماتهم نفسي، واصطحبت الكتاب إلى أوربا سنوات، وعدت (بكتابي) القديم كما ذهبت به، وإن تكن جلدته قد ضاعت، وأوراقه الأولى قد تآكلت، وأصبحت لا أعرف له عنواناً. ولكنني أفرغ إليه كلما ضاق الصدر أو عض الألم، فأجد بين صفحاته من عبير الروح ما يحيي الإيمان

(أمين مشرق، بين من يضمهم (كتابي). له فيه صفحات من الشعر والنثر. كم آنست من وحشتي ورفعت من قلبي. إنه صديق قديم)

هكذا كتب الأستاذ (مندور) وأنا (أحب) هذه النغمة منه. ولكني من أجلها لا أثق بأحكامه الأدبية - وبخاصة في الشعر - ومن أجلها كذلك أحذر القراء من الاطمئنان إلى هذه الأحكام!

في (مندور) حنان وألفة، وهو قد (هاجر) إلى أوربا وحمل معه إلى المهجر كتاباً يضم مختارات لشعراء (المهجر) وكان هذا وحده يكفي لأن يحب هذا الكتاب وشعراء هذا الكتاب. ولكنه كان كذلك كتاب الصبا الذي رافقه وهو (طالب)، وجلدته قد ضاعت، وأوراقه قد تآكلت. ولكنه عاد (بكتابه) القديم كما ذهب به، فزاده ذلك إعزازاً لديه وأثارة عنده. وصار يفزع إليه كلما ضاق الصدر أو عض الألم. وكان (أمين مشرق) بين من يضمهم كتابه فاستحق لقب (الصديق القديم) وكان سواه من شعراء المهجر كذلك. فكل منهم

ص: 25

إذن هو (صديق قديم)!

ولقد قلت إنني (أخشى أن تكون حادثة ما أو عدة حوادث كامنة في ماضي الأستاذ مندور، تتحكم في نفسه دون شعور) فهذه حادثة من تلك الحوادث التي افترضتها ومن يدري فلعل وراءها من نوعها الكثير!

على أن هناك عاملاً آخر تتأثر به أحكام صاحب (الميزان الجديد)؛ فقد عاد إلى مصر قريباً، ولم يتسع له الوقت بعد ليقرأ الشعراء والأدباء المصريين؛ إذ كان مشغولاً في الوقت القصير الذي تلا عودته بكتابة رسالة يتقدم بها إلى الجامعة. فهو - كما فهمت من حديث سريع معي - كان يحسب الشعر المصري هو ذلك الذي تنشره الأهرام في بعض (المناسبات)، فأصدر عليه حكماً جازماً سريعاً. كما أنه عندما تحدث عن (بيجماليون) لتوفيق الحكيم، لم يكن قرأ كل مؤلفاته فأصدر عليه حكماً جازماً سريعاً. وهكذا كان أمره - فيما أحسب - مع شعر العقاد وشعر سواه: نظرة خاطفة سريعة، وحكم جازم سريع! وليس هكذا يصنع (أصحاب الموازين)!

وبعد فلقد كان اليوم موعدي مع القراء لعرض نماذج من الشعر الهامس الصحيح؛ فمعذرتي إليهم أن الفرغ المتاح قد استغرق كله. والى اللقاء القريب

(حلوان)

سيد قطب

ص: 26

‌إنشاء معهد لفنون التمثيل

ضرورة لا غنى عنها

للأستاذ زكي طليمات

المدير الفني للفرقة المصرية للتمثيل والسينما

(تحية للأستاذ دريني خشبة الذي يعنى بشئون المسرح المصري ويفسح لها من علمه وأدبه)

إن ما تجري عليه الحكومة من وسائل ترقية فن التمثيل وتشجيع القائمين به - وأبين مظاهرها قيام الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى - إنما هو علاج مؤقت لحالة يجب أن يشملها إصلاح واسع يرتكز على سياسة إنشائية ترسم الوجهة التي يجب أن يولي المسرح المصري وجهه شطرها، ويكون من أول ما تسعى إلى تحقيقه إنشاء معاهد لفن التمثيل تعلم فيها فنونه وصناعاته على حقيقتها، وتكفل نشر ثقافة حقة لهذا الفن الجميل

وإنا إذ نقرر هذا ونشير به لا ننسى اعتباراً آخر له أهميته في تدعيم أساس لفن التمثيل وأدبه، وأعني به المسرحية المحلية ومؤلفها، بيد أن إيجاد هذا المؤلف النابه لا يتم بمجرد استشعارنا الحاجة إليه والبحث عنه، إذ أنه من فعل البيئة الثقافية وصنع الواعية الباطنة للمجتمع، وهذه أشياء تخرج على طوقنا لا حيلة لنا في السيطرة عليها. غير أنه مما لا شك فيه أن إذاعة ثقافية منظمة لهذه الفنون وتنظيم فرق تمثيلية تتسامى في عملها على الارتجال والجهل والتهويش والعرض الزائف لمما يساعد على خلق البيئة الفنية الصالحة التي قد ينجم منها المؤلف المسرحي الذي يسجل سمات الإنسانية العامة في معالم جيله، ويكشف عن القلب البشري في مسرحياته. لهذا نتجاوز عن هذا الاعتبار على أهميته، لنعالج عنصراً آخر له أيضاً أهميته لأنه مما يقوم عليه المسرح في كل زمان ومكان، ألا وهو الممثل والمخرج

إن إنشاء معاهد للتمثيل ضرورة ملحة مأتاها أن فن التمثيل باللسان العربي ليس أصيلاً في الأدب العربي، ولا هو من مرائي الحياة الاجتماعية في مصر، بل هو لون من الفن والأدب منتحل من الغرب، دخيل على المجتمع المصري منذ أن تفتحت أبواب من الأدب

ص: 27

العربي على الأدب الغربي في أواسط القرن الماضي، فتقاليده غير ممتدة في التربة المصرية، وفنونه وصناعاته غير مستبطن دخائلها، والقائمون بأمره ليسوا كلهم مما يرتفع بهم هذا الفن ويسمو، وذلك لخفة مؤونتهم من التعليم العام والثقافة الفنية. وإن ما انتهى إليه المسرح المصري في شتى نواحي هذا الفن، ولا سيما فن الأداء التمثيلي والإخراج، إنما هو ثمرة الجهاد الذي يقوم على الموهبة العاجزة والميل الشديد أكثر مما يقوم على الموهبة المثقفة والدراية الكاملة بمعارف هذه الفنون ولمقاليدها، وهو جهاد كان يسفر ولا شك عن مستوى أرفع مما انتهى إليه لو أنه أحيط بالدراسات التي تنمي مواهب القائمين به وتوسع في آفاق تفكيرهم وتردهم دائماً إلى الموثوق بصحته من التعاليم الفنية، إذ أن كل فن جميل إنما يقوم على عمادين: الدراسة والميل، ولا يقوم على واحد منهما

ولا أغالي إذا قررت أن فن التمثيل في مصر يتفرد بين جميع الفنون بأنه قائم من غير مدرسة ولا خطة تعليمية ما، وهذه حال تثير العجب والأسف في وقت واحد

وليس فن الأداء التمثيلي وصناعات المسرح وفن الإخراج مما يرتجل ارتجالاً بدفعة الميل والرغبة، وإمداد الجرأة، ومواتاة المدارك فحسب، وإنما هي فنون تقوم على التثقيف النظري الواسع والممارسة السليمة من الزيف، بعد أن تناولها العلم بالصقل والتوليد، فقعّد لها القواعد وأصّل الأصول

نقرر هذا من غير أن نجحد ما للمواهب التي تركبها الطبيعة في الخلق من أثر كبير في نتاج الفنان، فقد وعت حافظة المسرح في مختلف الأقطار أسماء ممثلين اتسم عملهم بالنبوغ من غير أن يخضعوا لتعاليم معهد أو كتاب فن، ولكن هذا النبوغ قليل، يكاد يخرج على كل قاعدة وتعليم، فهو أمر خارق وشاذ لا يؤخذ به في وضع النظم التعليمية العامة

وفن الأداء التمثيلي وفن الإخراج، عنصران لهما خطرهما وأهميتهما في هذا الفن. وذلك باعتبار أنهما أداة الاتصال بين المسرحية والجمهور. المخرج والممثل: الأول يرسم وينشئ، والثاني يؤدي ويطالع الجمهور، فبطريقيهما يجري التأثير وتتم الفائدة من حضور الرواية

وقد سبق لوزارة المعارف العمومية أن أخذت بوجهة النظر هذه بعد أن سجلتها في تقريري الذي قدمته إليها مفصلاً معززاً بأقوال الثقاة من رجال الفن المسرحي في أوربا، وهو تقرير

ص: 28

قدمته عام 1929 عقب عودتي من البعثة الفنية في مسارح أوربا ومعاهدها، فكان أن أنشأت معهداً حكومياً للتمثيل عام 1930، ولكن هذا المعهد لم يقطع من سني حياته غير العام الأول، ثم ذهب ضحية المنازعات الشخصية التي كان يختلج بها صدر الوزارة في ذلك الوقت، فأغلقت أبوابه بدعوى أنه مخالف للتقاليد الشرقية!

وكان من جراء هذا أن انهار ركن كبير من سياسة إنشائية مرسومة، وحرم المسرح العربي من أن تعمل فيه وجوه جديدة لها مستواها الثقافي العالي ومواهبها الممتازة، فكان ذلك القصور المشهود في فنون المسرح، وكانت هذه المعاناة في سبيل إصلاحه. وها قد مرت اثنتا عشرة سنة منذ أن أغلق المعهد الحكومي أبوابه، بذلت أثنائها جهود مختلفة للارتقاء بمستوى المسرح، ولم تسفر عن شيء في سبيل تحقيق هذه الغاية، وبقيت الفرق العاملة تشكو ما كانت تكابده من ضعف في وسائل الأداء، وما تعانيه من افتقار إلى وجوه جديدة تحمل المشعل بأيد فتية وتواصل الجهاد إلى جانب ذلك النفر العزيز من الممثلين والممثلات المقتدرين، وهم نفر قليل عددهم قد برزوا في فنهم بخصب مواهبهم وفيض مؤهلاتهم. وإنني أتساءل ماذا يحل بالمسرح المصري في ناحية فن الممثل لو أن هذا النفر العزيز تنحى عن خدمة المسرح مختاراً بدافع الشبع والزهد، أو مجبراً بعامل المرض أو الوفاة؟.

إن إنشاء معهد للتمثيل أصبح ضرورة لا مندوحة عن مواجهتها لوزارة الشؤون الاجتماعية التي آل إليها أمر الفرقة المصرية وإعانات التمثيل والموسيقى

وما دامت الوزارة قد أولت المسرح المصري هذه العناية المأثورة إذ تتعهد الآن بنفسها أمر توجيهه وتقويمه ورعاية القائمين بأمره، فما أظن أن رعايتها تقصر عن إنشاء معهد للتمثيل يكون حجر الزاوية لمرحلة جديدة ينتقل إليها المسرح وقد رسخت له قدم ثابتة فيها هي جوهر له وأساس.

زكي طليمات

ص: 29

‌الصديق أبو بكر

بين العقاد وهيكل

للأستاذ محمود أبو رية

كانت هذه الكلمة في أصلها ستخرج خالصة لكتاب (عبقرية الصديق) الذي أخرجه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، ولكن عرض ما غير وجهة القول، وجعلني أتناول بالحديث كتاباً آخر معه، ولعل الخيرة فيما وقع.

ذلك أن أحد الأدباء واجهني بسؤال قال فيه: ترى ماذا بقي من تاريخ أبي بكر بعدما أتى به هيكل باشا في كتابه، فيجري به قلم غيره؟ وأني أجيبه هنا فأقول: إن هيكل باشا قد عنى في كتابه بذكر الأخبار وإيراد الوقائع التي حدثت في عهد أبي بكر متبعاً في ذلك سَنن من قبله من المؤرخين الذين ينقل بعضهم عن بعض

وعلى أنه قد أطال في النقل حتى خرج عمله في سفر ضخم، فإنه - كما قال صديقنا الكاتب السيد محب الدين الخطيب - قد فاته الاطلاع على مراجع وثيقة واعتمد على مصادر واهية لا يصح التعويل عليها (المقتطف والفتح)

ومن أجل ذلك ترى كتابه قد حمل أخباراً ما كان لمؤرخ محقق أن يأخذ بها، مثل ما روي أن علياً حمل فاطمة على دابة وخرج بها يطوف على الناس يجر هذه الدابة وهي تناشد الرجال وتتوسل إليهم أن ينصفوا بعلها وهم يعتذرون آسفين. وقد عجب الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني في البلاغ من إيراد هيكل باشا لهذه القصة وقال (إن المرء لا يحتاج إلى ذكاء أو علم ليدرك أنها مختلقة من أولها إلى آخرها)

ومن الأخبار التي نقلها هيكل باشا إلى كتابه وهي إلى الخرافات أدنى منها إلى الحقائق أن العنكبوت خيمت على الغار لتحجب النبي وصاحبه عن الناس. ومن العجيب أن ما أتى به في كتابه من مثل هذه الخرافة قد عابه على الدكتور طه حسين يوم أن نشر الجزء الأول من كتابه (على هامش السيرة) وكان مما قاله في ذلك: (إن هذه الأمور إنما وضعت لإفساد العقول والقلوب من سواد الشعب ولتشكيك المستنيرين ودفع الريبة إلى نفوسهم في شأن الإسلام ودينه)(السياسة الأسبوعية)

هذا هو كتاب هيكل باشا ونحن بما أظهرنا من نقد - لنا ولغيرنا - لا نغض منه، وإنما

ص: 30

نقول إنه قد أصبح مصدراً من المصادر التي يجد فيها الباحث تاريخ الإسلام في عهد أبي بكر وبخاصة تاريخ حروب الردة

أما العقاد فقد اتخذ في تأليفه منهجاً جديداً يباين ما ذهب إليه رجال التاريخ الإسلامي جميعاً، ذلك أنه جعل وجهته دراسة شخصية أبي بكر وتحليل ملكاته. وقد بين هذا المنهج بقوله:(إنني لا أكتب ترجمة للصديق رضي الله عنه، ولا أكتب تاريخاً لخلافته وحوادث عصره، ولا أعني بالوقائع من حيث هي وقائع، ولا بالأخبار من حيث هي أخبار، فهذه موضوعات لم أقصدها. . . ولكنما قصدت أن أرسم للصديق صورة نفسية تعرفنا به وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله كما تجلو الصورة ملامح من تراه بالعين، فلا تعنينا الوقائع والأخبار إلا بمقدار ما تؤدي أداءها في هذا المقصد. . . وهي قد تكبر أو تصغر فلا يهمنا منها الكبر أو الصغر إلا بذلك المقدار، ولعل حادثاً صغيراً يستحق منا التقديم على أكبر الحوادث إذا كان فيه دلالة نفسية أكبر من دلالته، ولمحة مصورة أظهر من لمحته)(ص 3)

وهذا المذهب لذي اتخذه لدراسة أبي بكر هو ما نحتاج إليه ولا ريب في هذا العصر وما يجب على كل كاتب مجيد أن يسلكه، لأنه كما يقول العقاد:(أوجب مما كان في الأزمان الغابرة لأن الأسباب التي تغض من وقار للعظمة لم تزل تتكاثر منذ القرن الثامن عشر إلى الآن. . . وأن الإنسانية لا تعرف حقاً من الحقوق إن لم تعرف حق عظمائها، وأن الإنسانية كلها ليست بشيء إن كانت العظمة الإنسانية في قديمها أو حديثها ليست بشيء)(ص 6 و 7)

ولكي يُحكم التصوير ويُوفى بعمله على الغاية جعل من عقله وفكره وعلمه مجهراً جعله أمام شخصية أبي بكر ثم أجرى قلمه على القرطاس ليرسم ما يستعلن في هذا المجهر حتى خرجت هذه الشخصية في صورة (صادقة كل الصدق في جملتها وتفصيلها)

وإذا كانت الصورة الجميلة التي تغترق العين لا يمكن لواصف أن يجلوها على حقيقتها فإنا نشير إلى بعض ملامح تلك الصورة التي أبدعها قلم العقاد إشارة عابرة تومئ ولا تغنى

لقد جعل العقاد من مذهبه إذا ما ترجم لعظيم أن يستقصي في الدرس ويمعن في التحليل حتى يقبض بيده على مفتاح شخصيته ثم يعطيه لكل باحث لكي ينفذ به إلى سر عبقريتها،

ص: 31

ويكشف عن دخائل ملكاتها. وقد كشفت له دراسته لأبي بكر عن مفتاح شخصيته فإذا هو (الإعجاب بالبطولة) وقد تحدث عن هذه البطولة فقال: إن البطولة التي أعجب بها أبو بكر هي البطولة التي ليس أشرق منها، بطولة تعرفها النفس الإنسانية، هي بطولة الحق وبطولة الخير وبطولة الاستقامة؛ وهي بعد هذا وفوق هذا بطولة الفداء يقبل عليها من يقبل وهو عالم بما سيلقاه من عنت الأقوياء والجهلاء، تلك هي بطولة محمد) ص 68

ولما عرض إلى ما بين أبي بكر وعمر من تقابل قال: (كان أبو بكر نموذج الاقتداء، وكان عمر نموذج الاجتهاد) ص 84 وبعد أن بين ما بينهما من اختلاف في الصفات قال تلك الكلمة الحكيمة: (وموضع العبرة بل موضع الإعجاز هو تلك الدعوة التي شملت هذه القوى كلها في طية واحدة، وضمت هؤلاء الرجال حول رجل واحد، وجذبت إليها أكرم العناصر التي تأتي بالعظائم وتصلح للخير وتقدم على الفداء) ص 95

وإذا كان مما لا ريب فيه أن أهم الأحداث التي نجمت بعد وفاة الرسول إنما هو أمر الخلافة وأمر الردة، فإن العقاد بعد أن استقصى الأمور كلها - في الأمر الأول - وقلبها على جميع وجوهها قال: (ومصلحة المسلمين في ولايته راجحة في كل حساب؛ لأن المسلمين كانوا يومئذ أحوج إلى عهد يكون امتداداً لعهد النبي حتى يحين وقت التوسع والتصرف الخ ص 33

ولقد أصاب العقاد في ذلك، إذ ما كان أحد يصلح للخلافة أو ينهض بأعبائها بعد رسول الله غير أبي بكر، لا لأنه أفضل الصحابة - فما ذلك قصدنا - ولكن لما كان عليه العرب حينئذ عامة، وبنو أمية خاصة، هؤلاء الذين كانت عصبيتهم المكبوتة تنتهز الفرصة للوثبة. فإذا أتيح لها أن تتولى الأمر بعد وفاة الرسول لأعادتها جاهلية، ولصار أمر الإسلام إلى زوال. وناهيك بما فعلوه بعد أن تولى عثمان أمر المسلمين، وكانت الدعوة قد استقرت والأمور قد تمهدت! وإذا كان عهد أبي بكر كما قال العقاد آنفاً امتداداً لعهد النبي فإنه كان كذلك عهد تمحيص وتثبيت. وكذلك ما كان يَصْلح للأمر بعد أبي بكر غير عمر ولا يتولى بعده إلا من يكون في مثل قوته وصرامته حتى يكون أمر المسلمين بعيداً عن أعاصير الأهواء وعواصف الفتن

أما أمر الردة فبينا ترى هيكل باشا يكتفي بأن يقول فيه عن الذين ارتدوا (إن كثيراً منهم

ص: 32

راجعهم الحنين إلى عقائدهم الأولى فلم يلبثوا حين علموا بوفاة رسول الله أن ارتدوا عن دين الله) ص 14. ويقف في التعليل عند ذلك، إذ بك تبصر العقاد قد أرجع هذا الارتداد إلى علل منطقية ودلائل عقلية لا نطيل بذكرها. ص 141 وهذا هو الفرق ما بين من يأخذ الأمور من ظواهرها وبين من يوغل في دراستها إلى أن يصل إلى بواطنها

بقي أمر لابد من أن نقول فيه كلمة صريحة، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة بنت الرسول رضي الله عنها وما فعل معها في ميراث أبيها. وهذا أمر نخالف فيه الأستاذ العقاد وكل من يرى رأيه؛ لأننا إذا سلمنا معهم بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وأنه قد ثبت أن النبي قد قال إنه لا يورث. وإنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة رضي الله عنها بعض تركة أبيها كأن يخصها بِفَدك، وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخص من شاء بما شاء؛ وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي. على أن فَدَك هذه التي منعها أبو بكر من فاطمة لم تلبث أن أقطعها (الخليفة) عثمان لمروان

هذه لمحات قصيرة من ملامح صورة أبي بكر التي صورها العقاد؛ أما هذه الصورة على حقيقتها فإنه لا يغني القول فيها عن الاطلاع عليها

ولعل القارئ قد أدرك بما بيناه بعد ما بين عمل هيكل باشا وعمل العقاد؛ فذاك قد آثر حشد الأخبار وسوق الأحداث فِعل الإخباريين، وهذا قد أبدع مذهباً جديداً في التأليف أعانه عليه أنه لم يتوله إلا وهو مستحصد المِرَّة من عقل وفكر، مستكمل الأداة من اطلاع وعلم. وقد خرج هذا النحو من التأليف في عبارة محكمة السرد لم يستلهم فيها وحي الخيال، وإنما استعان بمنطق الفيلسوف الذي يفتح من آفاق الحقائق ما لا يبلغه خيال الشاعر أو الكاتب

وإذا كانت مؤلفات العقاد تعمل على تربية العقل وتنمية الفكر فإن ما يكتبه عن عباقرة الإسلام يربى على ذلك بأنه خير دعاية للدين الإسلامي وأنجع وسيلة لإظهار فضل رجاله الذين هم أهل لكل تعظيم

(المنصورة)

محمود أبو رية

ص: 33

‌حصاد القمر.

. .!

(وحي سياحة قمرية في ليلة من ليالي الحصاد بين حقول

القمح، والنخيل. حيث كان الشاعر ضيف القمر بقرية (أم

خنان) الهاجعة في مروج الجيزة الخضراء)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

سِيَّانِ في جَفْنِهِ اْلإغْفَاءُ وَالسَّهَرُ

نَامَتْ سَنَابِلُهُ وَاسْتَيْقَظَ القَمَرُ!

نَعْسَانُ يَحلُمُ وَاْلأَضْوَاءُ سَاهِدَةٌ

قَلْبُ النَّسِيم لَهَا وَلْهَانُ يَنْفَطِرُ

مَالَ السَّنَا جَاثِياً يُلْقى بِمَسْمَعِهِ

هَمْساً مِنَ الْوحْي لَا يُدْرَى لَهُ خَبَرُ

وَأَطْرَقَتْ نَخْلَةٌ قامَتْ بِتَلْعَتِهِِ

كأَنَّهَا زَاهِدٌ في اللهِ يَفْتَكِرُ

إِنْ هَفَّ نَسْيم بها، خِيلَتْ ذَوَائبُهَا

أَنَامِلاً مُرْعَشاَتٍ هَزَّهَا الْكِبرُ!

كأَنَّماَ ظِلُّهَا في الحَقْلِ مُضْطَهَدْ

صَمْتُ السَّكِينَةِ عَنْ جَانِيهِ يَعْتَذِرُ

الدَّوْحُ نشوَانُ! فَاخشَعْ إِنْ مَرَرتَ بِهِ

فَضَيْفُهُ الْباطِشاَنِ: الّليْلُ، وَالْقَدَرُ!

كأَنَّ أَغْصَانَهُ أَشبَاحُ قاَفِلَةٍ

غَابَ الرَّفِيقَانِ عَنَّهَا: الرَّكْبُ، وَالسّفرُ

مّبْهوُرَةُ شَخَصَتْ في الجَوِّ ذَاهِلَةً

كأَنَّهَا لحَبيبٍ غَابَ تَنْتَظِرُ!

أوْ أَنَّهَا نَسِيَتْ عَهْداً، وَأَنْعَشَهَا

شَجْوُ الرِّياح فَهَاجَتْ قَلْبَهَا الذِّكَرُ

أَوْ أَنَّهَا وَاْلأَسَى الْمَكْبوُتُ في فَمِهَا

بَنَاتُ وَعْدٍ بها عُشقُهَا غَدَرُوا

عَجْمَاَء تَنْبِسُ كالتمْتَامِ عَاتِبَةً

وَمِلْءُ أَفْوَاضهَا التَّهْوِيمُ وَالْحدَرُ!

يَا سَاكِبَ النُّورِ لا يَدْري مَناَبِعَهُ

لأَنْتَ قَلْبٌ يُشِعُّ الْحُبَّ، لا قمرُ!

هَيْمَانُ تَحْمِلُ وَجْدَ الّليْلِ أَضْلُعُهُ

وَالّليْلُ تقْتُلُهُ اْلأَشْجَانُ وَالْفِكَرُ

كأَنَّهُ زَوْرَقٌ في الخُلْدِ رحْلَتُهُ

تَيَّارُهُ مِنْ ضِفَافِ الْحُورِ مُنْحَدِرُ

ياَ طَائِراً في رُبَى اْلأَفلَاكِ مُخْتَفِياً

يَمْشِي عَلَى خَطْوهِ الإِجْفَالُ والْحَذَرُ

أََرْخِ الِّلثَامَ، فمهْمَا سِرْتَ مُحْتَجِباً

نمَّتْ عَلَى نُورِكَ الأسْدالُ وَالسُّترُ

عَلَامَ ضَنُّكَ بالأنْوَارِ في زَمَنٍ

إِليْكَ يَظْمأُ فِيهِ الرَّوح والْبَصَرُ!

اْلأَرضُ مُظْلمَةُ الأسْرَارِ سَاخِرَةٌ

كأَنَّهَا شَيْخَةٌ بالنَّاس تَتَّجِرُ!

ص: 35

تَقَبَّلَتْ كلَّ مَوْلُودٍ بِقَهْقَهَةٍ

وَقَهْقَهَ الّلحْدُ لَّما جَاَء يَنْدَثِرُ!

ياَ طَائِفاً لم يَنَمْ سِرٌّ عَلَى كَبِدٍ

إّلا وَحَفَّكَ مِنْ أَحْلامِهِ أَثَرُ

تمْشِي الْهُوَيْنَا، كما لو كُنْتَ مُقتْفِياً

آثاَرَ مَنْ دَنَّسُوا مَغْناَكَ وَاسْتَتَرُوا

ليْلَاتُكَ الْبِيضُ وَاْلأَيَّام تَحْسُدُهَا

عَرَائِسٌ عَنْ صِبَاهَا انْحَلَّتْ اْلازُرُ

سَمِعْتُ سِحْرَكَ في الأضْواءِ أَغْنِيَةً

حَيْرَى تَأَوهَ عَنْهَا الرِّيحُ وَالشَّجَرُ!

وَعَيْتُها وَنَقلْتُ السِّرَّ عَنْ فمها

لِمنْ أَبوُحُ به وَالنَّاسُ قد كَفَروا؟!

آمَنْتُ باللهِ! كلُّ الْكَوْنِ في خَلَدِي

هَادٍ إلَيْهِ. . . الْحَصَى، والذَّرُّ، وَاَلْحَجَرُ!

ذرَتْ عُيُونكَ دَمْعاً لَيْسَ يَعْرفُهُ

إلا غَرِيبٌ بصَدْرِي حَائِرٌ ضَجِرُ!

قلْبٌ، كَقَلْبِكَ مَجْرُوحٌ. . . وَفي دَمِهِ

هَالاتُ نورٍ إليهَا يَفْزَعُ الْبَشَرُ!

إِنَّ الْعَذَابَ الَّذِي أَضنَاكَ في كَبِدِي

مِنْ نَارِهِ جَذْوَةٌ تَغْلِي وتَسْتَعِرُ

سَرَى كِلَاناَ وَنَبْعُ النُّورِ في يَدِهِ

أَنْتَ السَّناَ! وَأَناَ الإنْشَادُ وَالْوَتَرُ!

وَأَشْرَبَتْناَ اللّيالِي السُّودُ أَدْمُعَناَ

وَأَنْتَ سَالٍ وَنَفَسِي غَالَهَا الشَّرَرُ!

كأَنَّ وَجْهَكَ في الشُّطْآنِ حِينَ غَدَا

إليْكَ يُومِئُ مِنْ أَدْوَاحِهَا نَظَرُ. . .

مُبَشِرٌ بِنَبيٍّ. . . ذَاعَ مُؤْتَلِقاً

عَلَى الْعَوَالمِ مِنْ أَضوَائِهِ الْخبَرُ!

اللهُ أَكْبرُ! يا ابْنَ الّليْلِ. . . يا كَبِداً

لم يُضْنِ أَسْرَارَهَا التِّطْوافُ وَالسَّهَرُ!

بَكَى الْحَيارَى عَلَى الدُّنْياَ مَوَاجِعَهُمْ

وَصَرَّعَتْهُمْ بَلاياَ الدَّهْرِ وَالْغِيَرُ

وَأَنْتَ حَيْرَانُ مُنْذُ الْمَهدِْ. . . لا وَطَنٌ

وَلا رَفِيقٌ، وَلا درْبٌ. . . وَلا سَفَرُ!

لكن طَرفَكَ نَشوانُ السنا، ذَهَبَتْ

منابِعُ السِّحْرِ من بلواهُ تنهَمِرُ!

قِفْ مرةً في سماء النيلِ واضْعَ إِلى

محيرينَ سَرَوْا في الحَقلِ وانتشروا

قومٌ. . . هُمُ الدَّمْعُ والآهاتَ تحمِلُها

أقفاصُ عظمٍ لَهُمْ مِنْ خَطوِها نُذُرُ!

كادتْ مناجِلَهم والله مُشرِبُها

بأس الحديدِ من البأساءِ تنصهِرُ!

مَشوا بها في مغاني النورِ تحسَبُهُمْ

جَنائِزاً. . . زُمَرٌ أنتْ لها زُمَرُ!

جاسوا الحقولَ مساكياً جلائِبُهُمْ

توراةُ بُؤْسٍ عليها تُقرأُ العبَرُ

يجنونَ أيامهُمْ ضَنكاً ومسغبةً

مِما أفاَء لهم وأدبهُمُ النَّضِرُ!

ساءلْتُ سُنبُلَهم: ما سِرُّ شقوتِهِمْ

ومِنْ غُبارِ يديهم مَرْجُكَ العَطِرُ؟

ص: 36

فمالَ واسترجَعَتْ عيدانُهُ نغَماً

يلغُو من الموتِ في أصدائِهِ سَمَرُ!

وإذ بها في تُرابِ الحقلِ نائمةً

تحكِي توابيتَ لم توجد لها حُفَرُ

بكى الحصيدُ على أحزانِ غارِسِهِ. . .

متى سَيُحْصَدُ هذا الدمعُ. . . يا قَمَرُ؟!

ص: 37

‌البريد الأدبي

من شعر الأستاذ مصطفى عبد الرازق باشا

نشرت الرسالة في العدد الماضي بيتين من الشعر لسعادة الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا، وقد يحسب بعض القراء أن هذين البيتين يتيمان ليس له غيرهما ولكنا نقول لهم إن لسعادته أشعاراً كثيرة ولكنه لم يُعن بنشرها، ونحن نذكر هنا بضعة أبيات من قصيدة مدح بها الأستاذ الإمام محمد عبده عند عودته من أوروبة وتونس والجزائر سنة 1903 (أي منذ أربعين سنة) وهاهي ذي:

أقبل عليك تحية وسلام

يا ساهراً والمسلمون نيام

تطوى البلاد وحيث جئت لأمة

نشرت لفضلك بينهم أعلام

كالبدر أنَّى سار يشرق نوره

والحق أنَّي حل فهو إمام

إن يقدروا في الغرب علمك قدره

فَلَمصْر أولى منهم والشام

فيك الرجاء لأمة لعبت بما

يُلهى الصغار وجدت الأيام

لا زلت غيظاً للضلال وأهله

والله يرضى عنك والإسلام

وقد كان جزاءه من شيخه أن كتب إليه كتاباً رقيقاً هذه نسخته:

ولدنا الأديب. . .

خير الكلام ما وافق حالاً، وحوى من النفس مثالاً، تلك أبياتك العشرة رأيتني والحمد لله متربعاً في سبعة منها كأنها الكواكب تسكنها الملائكة وما بقي كله كأنه الشهب، نور للأحباء، ورجوم للأشقياء، ما سررت بشيء سروري بأنك شعرت من علم حداثتك بما لم يشعر به الكبار من قومك. فلله أنت ولله أبوك! ولو أذن لوالد أن يقابل وجه ولده بالمدح لسقت إليك من الثناء، ما يملأ عليك الفضاء، ولكني أكتفي بالإخلاص في الدعاء، أن يمتعني الله من نهايتك، بما تفرسته في بدايتك، وأن يخلص للحق سرك، ويقدرك على الهداية اليه، وينشط نفسك لجمع قومك عليه

محمود أبو رية

وزير سوري يؤلف معجماً زراعيا

ص: 38

عرف الأمير مصطفى الشهابي وزير الدولة في حكومة سورية المؤقتة بأنه من الأعلام الثقات في وضع مصطلحات عربية للعلوم الزراعية، وقد شرع معاليه الآن يطبع معجمه المسمى (معجم العلوم الزراعية) بالفرنسية واللاتينية والعربية وهو معجم يضم نحو عشرة آلاف كلمة

إلى فضيلة الأستاذ الكبير محمود شلتوت

ملكتْ قلوبنا بحوثك الممتعة في: نزول عيسى عليه السلام وتقرير العقيدة الدينية على أساس من العلم كما هو متفق وأصول الدين: وإيماناً بما أفاضت علينا الرسالة الغراء من سامي تحقيقك وخالص نصحك أرجو إفادتي عن:

1 -

قول بعض العلماء المتقدمين كالنووي والقاضي عياض بصحة الأحاديث الواردة في نزول عيسى واستدلالهم عليه بأهل السنة

2 -

إذا ثبتت صحة الأحاديث الواردة في نزوله، ولكن لم تنهض دليلاً لاعتقاد ذلك لأنها لم تبلغ حد التواتر الذي تبنى عليه عقائدنا، فما موقفنا إزاء تلك الأحاديث الصحيحة؟

دسوقي إبراهيم

دفع لاعتراض

أخذ الأستاذ محمد محمود رضوان على الأستاذ العقاد أنه استعمل الحرف (لا) جوابا لسؤال هو (ألا تزال تضرب امرأتك؟) وحقيقة أن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي كان الجواب بالحرف (بلى) إثباتاً وبالحرف (نعم) نفياً. ولكن العبارة التي معنا لم تدخل فيها الهمزة على نفي، بل دخلت على إثبات، لأن لا للنفي وتزال للنفي، ونفي النفي إثبات، فهي في قوة قولك (أتضرب امرأتك إلى الآن) فكيف تكون الإجابة بعد ذلك بنعم ويكون المراد بها نفي الضرب؟ لعل هذه القاعدة مقيدة بما إذا كان النفي لم ينتقض

محمد أبو سريع حسين

بمعهد القاهرة

ذكرى السيد جمال الدين

ص: 39

بهذا العنوان قرأت أول ما قرأت بشوق ولهفة مقال الأستاذ محمود شلبي في عدد الرسالة 506

فهو لعمر الحق مقال ممتع قوي التعابير، محكم التراكيب تعلوه موجة أدبية لا يشعر بها إلا من منحه الله ذلك الإحساس الفني والشعور الأدبي

وكيف نستكثر على الرسالة واتجاهها هذا اللون الإنشائي وهي قد مهدت الطرق لرفع مستوى الأسلوب الفني في مصر والأقطار العربية؟ وإني لازلت أتذكر جيداً كلمة أستاذنا محمود البشبيشي في موضوع الرسالة، وقد كان يدرس لنا الإنشاء إذ قال إن الرسالة حملت عبء مدرس الإنشاء في المدارس العالية، وقد كان المدرس ينوء بحملها

وقد استرعت تفكيري أمور في مقال الأستاذ شلبي لا يحسن السكوت عليها، فقد ذكر أن السيد جمال الدين ولد في قرية (أسعد أباد من قرى كنر) ولا أعلم من أين أخذ الأستاذ هذه المعلومات في حياة هذا الفيلسوف العظيم. وعلى فرض أنه استند إلى جريدة أو مجلة فإن قراء الرسالة لا يغتفرون له هذا الاستناد بل يرجون منه ومن غيره تحقيقاً وتمحيصاً فإن آذانهم مرهفة، وأبصارهم شاخصة لكل ما يكتب في الرسالة

وكان الجواب على الأستاذ أن يطلع على الكتاب الذي أصدره منذ سنيهات عن السيد جمال الدين ومحمد علي الكبير مساعدُ أستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت باللغة الفارسية واسم الكتاب (مودان نامي شرق) فهذا الكتاب منجم ثري لمن أراد الكتابة عن السيد جمال الدين وفيه مراسلات جميلة وطريفة بينه وبين العالم السيد مرزا حسن الشيرازي

أما ولادته ففي قرية (أسداباد من قرى همدان) لا في قرية (أسعد أباد من قرى كنر) وفي هذه القرية اليوم مدرسة اسمها (الجمالية) تخليداً لذكرى السيد جمال الدين

ودراسته الأولى كانت على والده ثم رحل إلى النجف، وله فيها حتى الآن أصهار وأقارب. وإذا أراد الأستاذ التعرف إلى أقاربه فإني أحيله على الأستاذ المحامي السيد صادق كمونة في النجف فهو خير من يعرف عنهم

أما قبره ففي تركيا وقد كان مهجوراً دارساً إلا أن المستر كراين الأمريكي تبرع لبنائه لما زار تركيا. وللأستاذ شلبي مني ألف تحية.

(بغداد)

ص: 40

عبد الكريم الدجيلي

المدرس بدار المعلمين الابتدائية

ص: 41