المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 519 - بتاريخ: 14 - 06 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥١٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 519

- بتاريخ: 14 - 06 - 1943

ص: -1

‌المرأة والفن

للأستاذ عباس محمود العقاد

ليس أكثر من المرأة في هذه الدنيا

وليس أخطأ ولا أضل مع هذا من الكلام عنها بين الرجال والنساء على السواء

كأنهم يتكلمون جميعاً عن (عينة) نادرة في بقعة من بقاع الأرض النائية، أو عن بقية من مخلفات العصور الأولى في قارورة مغلقة عليها، أو كأنما هذه المرأة التي نحسبها آدمية - كما قال بعض العلماء - إن هي إلا أنثى حيوان داثر تغلب عليه الإنسان وانتزعها منه لفاقة أصابته في نسائه. وليست هي في النوع الإنساني بالأنثى الأصيلة فيفهمها الرجل وتفهمه كما يتفاهم الزوجان من جنس واحد

وسر هذا الخطأ والضلال فيما نرى هو أن المرأة خلاصة الحياة الحسية كلها، فلا محيص من الخطأ فيها إذ لا محيص في الحياة الحسية من التجدد والتناقض، ومن رؤية الشيء الواحد على شتى الوجوه، حسبما تعرضه لنا المناسبات والطوارق التي لا يضبطها عنان

ومن أكثر الأهداف عرضة للخطأ في موضوع المرأة كلام الناس عن نصيبها من الفنون الجميلة ونصيب الفنون الجميلة منها. نلمح ذلك كلما كتبنا عن المرأة ووحي الفن، أو المرأة وحقيقة الجمال، أو المرأة والشعر والشعراء، ولمحناه في العهد الأخير بعد مقالنا في الرسالة عن (بيفردج والمرأة) حيث نقول إن النساء روائيات مجيدات وشاعرات مقصرات؛ لأن الشعر ابتكار واقتدار على الإنشاء، وليست المرأة مشهورة بالابتكار حتى في صناعاتها الخاصة بها كالطهي وصناعة الملابس والتزيين، وزدنا فقلنا: إن الشعر وأساسه الغزل (هو وسيلة الرجل لمناجاة المرأة، وقد تعودت المرأة بفطرتها أن تكون مطلوبة مستمعة في هذا المجال. فهي لا تحسن الشعر كما يحسنه الرجل، وعلى هذه السنة تجري جميع الذكور في أنواع الحيوان حين تسترعى أسماع الإناث بالغناء أو الهتاف والنداء

قلنا هذا فلم نر أكثر من المستغربين أن تكون المرأة عالة على الشعر وهي مصدر وحيه إلى الشعراء فيما يقولون. مع أن المسألة هنا مسألة واقع محسوس وعلة معقولة، وليست مسألة فروض أو مذاهب تفكير. فنحن نقول: إن إجادة المرأة للشعر نادرة في آداب الأمم قاطبة، فمن شك في ذلك فعليه أن يذكر أسماء الشواعر الكثيرات اللوائي يكذبن ما نقول من

ص: 1

ندرتهن في الآداب العالمية. فأين هن أولئك الشواعر الكثيرات المجيدات؟

لا يزدن على الأربع أو الخمس عدًّا في آداب العالم من قديمها وحديثها. وفي إجادتهن للشعر مع هذا شك كثير يطول فيه الخلاف، وإن بطل الخلاف في إجادتهن فأيسر الأشياء أن ترد هذه الإجادة إلى شذوذ في بعضهن يلحقهن بالرجال، ولا يقصرهن على طبائع النساء

ونحن نقول إن علة القصور الذي يلاحظ على المرأة في ميدان الشعر أنها لا تحسن الابتكار والإنشاء حتى في صناعاتها الخاصة بها كالطهي وصناعة الأكسية والزينة. فمن شك في ذلك فعليه أن يقول لا: بل تحسن المرأة هذه الصناعات ولهذا تتقدم الطاهيات على الطهاة، وتتقدم مخترعات الأزياء على مخترعيها، وتتقدم المشتغلات بالتجميل على المشتغلين به، ولا سيما في العصر الحديث

فهل يقول ذلك القول أحدٌ وله سند من الواقع الذي نراه كل يوم؟

إن الواقع الذي نراه كل يوم هو أن الطهاة المقتدرين أكثر جداً من الطاهيات المقتدرات، وإن اختراع الرجال للأزياء وأدوات الزينة أكثر جداً من اختراع النساء، وإن معاهد التجميل لا تعتمد على فنون النساء كما تعتمد على فنون الرجال. ولو انعكس الأمر لما كان عجباً للوهلة الأولى مع المتبادر إلى الأذهان من اختصاص المرأة بهذه الصناعات.

ونحن نقول إن الشعر أساسه الغزل، وإن الغزل من عمل الرجل وليس من عمل المرأة. لأن المرأة خلقت مطلوبة تستمع النداء فتجيبه، وسنتها هذه هي السنة التي تجري عليها جميع الذكور في أنواع الحيوان حين تسترعي أسماع الإناث بالغناء أو الهتاف والنداء

فمن شك في ذلك فسبيله أن يقول لا: بل هناك باب من الشعر هو أحق من الغزل بأن يكون أساساً للشعر كله، وهو أقرب إلى ملكات المرأة منه إلى ملكات الرجل

وسبيله أيضاً أن يقول لا: بل الإناث هي التي تدعو الذكور وليست الذكور هي التي تدعو الإناث

فأما والقول بذلك بعيد التصديق بعيد المرجع والبرهان فليكن الواقع إذن عمدتنا من نصيب المرأة من الفنون، ولا يكن عمدتنا الفرض والظن والجدل الذي يحيط بالفروض والظنون

والواقع ينتهي بنا إلى حصر الفن الأنثوي في مجالين اثنين نصيبهما من التقليد والمحاكاة

ص: 2

أكبر من نصيب الابتكار والإنشاء، وهما مجال الرواية ومجال التمثيل

أما الرواية فالذي نرجو كما قلنا: (إن المرأة تحسن كتابتها لأنها مطبوعة على الفضول والاستطلاع والخوض في أسرار العلاقات بين الرجال والنساء والإطالة في أحاديث هذه الأسرار مع الاشتياق والتشويق، وهذا كله معدن الرواية الذي تصاغ منه، وهو جوهر من جواهرها قد يغنيها عن المزايا الأخرى من تحليل وتعليل وإبداع، في الوصف والتمثيل)

وأما التمثيل فالإجادة فيه قائمة على قدرتين أو على نوعين من القدرة لا على نوع واحد: قدرة الخلق والإنشاء كأنما يخلق الممثل حياة بطله مستمداً لها عناصر الخلق من حياته. فهو لا يحاكي رجلاً بعينه رآه أو قرأ وصفه وعرف سيماه من الصور والتماثيل، وإنما يعمد إلى صفات هذا الرجل فيفرغها في بوتقة من حسه وخياله ويخرجها من هنالك إنساناً حياً جديداً لا موضع فيه للمحاكاة والتقليد

والقدرة الأخرى هي قدرة التقليد والتصنع وسهولة اتخاذ المظاهر والألوان على حسب الدواعي والبيئات، وهذه القدرة في المرأة على أوفى نصيب، فهي مطبوعة على التصنع والمداراة وإظهار الحب في موضع البغض والتمنع في موضع الإقبال، وهي تتلقى الأحاسيس التي توائم طبيعة الأنوثة لأنها مستغرقة في الحس طوال حياتها فلا يجهدها كثيراً أن تحضر على المسرح إحساساً من الذي جربته أو تقدر على تجربته في عالم الحقيقة

ولهذا نبغ في العالم روائيات وممثلات، وإن لم يعرف عن ممثلة نابغة أنها خلقت دوراً من محض خيالها وتفكيرها كما يتفق لنوابغ الممثلين من الرجال

أما الشعر فلم يكثر فيه نبوغ النساء لما قدمناه من الأسباب، بل هن لم ينبغن فيه حتى فيما هو أقرب إليهن وأحرى أن يتفوقن به على الرجال

خذ مثلاً لذلك شعر الرثاء وهو أقرب إلى المرأة التي تطيل الندب والعويل على موتاها. فهل في آداب العالم كله شاعرة راثية تفوق بالرثاء طاقة الشعراء من الذكور!

الخنساء التي يضربون بها المثل بين الشواعر لا تخرج من ديوانها بأكثر من أبيات متفرقات في بكائها على أخيها قلما ترتقي إلى منزلة الشعر الجيد السيار، وما عدا ذلك من قصائدها العديدة فكله تكرير وترديد وإعادة وإبداء في معنى واحد، بل في ضرب من القول

ص: 3

واحد لا يصح أن يقال عنه إنه معنى من معاني القريحة والخيال

وعلى إدمان المرأة البكاء والرثاء لم توجد قط راثية بلغت في هذا الباب ما بلغه رجل كالشريف الرضي في رثاء أمه، أو رجل كابن الرومي في رثاء أولاده، أو رجل كالمعري في رثاء أصدقائه، سواء رجعنا إلى وصف الشعور أو إلى معاني الحكمة ومعارض الاعتبار

وإذا كان هذا شأن البكاء والرثاء فما بالك بالمطالب الأخرى التي لا تقترب من طبائع المرأة هذا الاقتراب

وقد يظن أن التصوير مخالف للفنون الأخرى في هذا القياس لأن النقش والتطريز من معدن واحد على ما يخيل إلى بعض الناظرين، وللمرأة حظ من إجادة التطريز والوشي قد تضارع به حظوظ الرجال في هذه الصناعة الآلية

ولكن الحقيقة بعيدة مما يتخيله هؤلاء الناظرون، لأن التصوير كالتمثيل يعتمد أيضاً على نوعين من القدرة لا على نوع واحد، وهما الخلق والتقليد

فأما التقليد فهو لا يعدو صبغة الألوان وظاهر الأشكال، وقد يتاح للمرأة أن تجيد نقل الألوان ومحاكاة الأشكال فيقال إذن إنه تطريز بالريشة يجري على منوال التطريز بالإبرة ولا يزيد

وأما الخلق فهو صوغ المرئيات في بوتقة النفس والخيال ثم إعادتها على اللوحة صورة نفسية خيالية ليس نصيب العين منها إلا نصيب الأداء والإبلاغ

وهذا هو الجانب الذي لم تنبغ فيه المرأة بين المصورين، ولا نحسب أننا عرفنا مثلاً هاماً من الأمثلة الدالة على إجادتها فيه

وفحوى هذا جميعه أن المرأة موضوع حسن للفن وأهله، وأنها قد توحي إلى أهل الفن معاني يرتفعون بها إلى مراتب النبوغ، ولكن الموضوع لا يخلق شيئاً إلا بخالق، ولو جاز أن يكون إيحاء المرأة للفن حجة على نبوغها الفني لجاز كذلك أن تنبغ البساتين والبحار وكواكب السماء مثل هذا النبوغ

واستحضار هذه الحقيقة لازم جد اللزوم في عصرنا هذا، لأننا نسمع المذاهب الاجتماعية حولنا تمارى على حسب أهوائها ومراميها في تقويم الجنسين بين قائل بالتشابه الكامل

ص: 4

وقائل بالفوارق والمزايا التي يقتضيها توزيع العمل واطراد الخلق في طريق التخصيص والامتياز، ورأينا نحن أميل إلى هذا المذهب القائل بالفوارق والمزايا، لأنه الحق الواضح أمامنا، ولأنه العدة التي ندرع بها أذهاننا للقاء فوضى المذاهب التي فيها الضير أكبر الضير على المجتمع الإنساني وخلائق الإنسان

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الإجماع وثبوت العقيدة

للأستاذ محمود شلتوت

آراء العلماء في الإجماع: حقيقته وحجيته وما يكون فيه - شيوع حكاية الإجماع في المسائل الخلافية وسببه - الإجماع عند المحققين - تطبيق

نظرنا - على ضوء المبادئ العامة لثبوت العقيدة - نظرتين في الآيات والأحاديث التي زعموا أنها تدل دلالة قاطعة على حياة عيسى الآن ونزوله آخر الزمان، وبينا مدى ما تفيده الآيات والأحاديث في ذلك، وبقي أن ننظر النظرة الثالثة فيما زعموا من إجماع في هذا المقام

ويحسن بنا - جريا على ما اتبعناه في هذه البحوث - أن نقدم للقراء العلميين مقدمة إجمالية تصور لهم موقف العلماء من الإجماع: حقيقته، وحجيته، وما يكون فيه من أحكام، ثم نتبع ذلك بما نريد من إبطال زعمهم الذي يزعمون

إني لا أكاد أعرف شيئاً اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام، ثم تناولته الآراء واختلفت فيه المذاهب من جميع جهاته كهذا الأصل الذي يسمونه (الإجماع)

فقد اختلفوا في حقيقته: فمنهم من رأى أنه (اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي)، ومنهم من رأى أنه (اتفاق أكثر المجتهدين فحسب) ومنهم من ذهب إلى أنه اتفاق طائفة معينة) فلا يعد اتفاق غيرها إجماعا. ثم اختلف هؤلاء في هذه الطائفة مَنْ هي؟ فقيل (الصحابة) وقيل (أهل المدينة) وقيل (أهل البيت) وقيل (الشيخان: أبو بكر وعمر) وقيل (الأئمة الأربعة) الخ

واختلف الذين قالوا بالجميع: هل الإجماع بهذا المعنى ممكن متصور الوقوع، أو هو غير ممكن لأن الاجتهاد ليس له مقياس بارز متفق عليه بين العلماء، ولأن المجتهدين غير محصورين في بلد واحد أو إقليم واحد؟

واختلف الذين قالوا بإمكانه وتصور وقوعه: هل يمكن معرفته والاطلاع عليه أو لا؟ وممن روى عنه المنع الإمام أحمد رضي الله عنه إذ يقول في إحدى روايتين عنه: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب

واختلف الذين قالوا بإمكان معرفته والاطلاع عليه: هل هو حجة شرعية فيجب العمل به

ص: 6

على كل مسلم أو ليس حجة شرعية فلا يجب العمل به؟

واختلف الذين قالوا إنه حجة شرعية: هل ثبتت حجيته بدليل قطعي يكفر مُنكره، أو بدليل ظني فلا يكفر؟ وهل يشترط في وجوب العمل به أن ينقل إلينا بالتواتر أو يكفي أن ينقل ولو بالآحاد؟ وهل يشترط أن يبلغ المجمعون عدد التواتر أو لا يشترط؟ وهل يشترط أن يصرح الجميع بالحكم مشافهة أو كتابة، أو لا يشترط فيكفي تصريح بعضهم وسماع الباقين مع سكوتهم؟. . . الخ

وكما اختلفوا في حقيقته وفي حجيته اختلفوا فيما يكون فيه من أحكام: فقال قوم: إنه حجة في العلميات والعمليات جميعاً. وقال غيرهم: إنه حجة في العمليات فقط. ومن ذلك كله يتبين أن حجية الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعي فضلاً عن أن يكون الحكم الذي يثبت به معلوماً بدليل قطعي فيكفر منكره

ولعل اختلاف العلماء في الإجماع على هذا النحو يفسر لنا ظاهرة منتشرة في كتب القوم وهي حكاية الإجماع في كثير من المسائل التي ثبت أنها محل خلاف بين العلماء، وذلك من جهة أن كل من حكي الإجماع في مسألة هي محل خلاف قد بنى حكايته على ما يفهمه هو أو يفهمه إمامه أو الطائفة التي ينتمي إليها في معنى الإجماع وما يكفي لتحققه

وعلى الرغم من ظهور السبب في تلك الظاهرة قد تأثر بها كثير من المتأخرين فخضعوا لها، وتوسعوا فيها تأييداً لآرائهم في المسائل الخلافية: فتجدهم في علم الفروع يحكون الإجماع على إلزام الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وعلى تحريم لحم الخيل، وعلى حل أكل الضب، وغير ذلك. وتجدهم في علم أصول الأحكام يحكون الإجماع على العمل بخبر الواحد، وعلى تقديم الإجماع على النص عند التعارض، وعلى العمل بالقياس. وتجدهم في علم الكلام يحكون الإجماع على رؤية الله بالأبصار، وعلى ظهور المهدي والدجال ونزول عيسى، وما إلى ذلك من المسائل العلمية والعملية التي ثبت فيها الخلاف ولم تكن محل قطع وإجماع. ولقد كان في وسعهم أن يقيدوا ذلك بالإجماع الطائفي أو المذهبي ولكنهم قصدوا أن يرسلوا كلمة الإجماع ليسجلوا على المخالف لوازمها الشائعة بين الناس: من مخالفة سبيل المؤمنين، ومشاقة الله ورسوله، وخرق اتفاق الأمة، إلى غير ذلك مما يتحرجه المسلم ويخشى أن يعرف به عند العامة. وكثيراً ما نراهم يردفون حكايتهم للإجماع بقولهم:

ص: 7

(ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج) أو (بمخالفة أهل البدع والأهواء) أو (بمخالفة المعتزلة والجهمية) ونحو ذلك مما يخيفون به، وبهذا امتنع كثير من العلماء عن إبداء رأيهم في كثير من المسائل التي هي محل خلاف ضناً بسمعتهم الدينية، فوقف العلماء، وحرمت العقول لذة البحث، وحيل بين الأمة وما ينفعها في حياتها العملية والعلمية. ونحن معشر الأزهريين لا ننسى شيوع القول بحرمة الاشتغال بالعلوم الرياضية والكونية والحكم بالزندقة والإلحاد على من شذ فتعلمها أو أباح تعلمها!

وفي مثل هؤلاء الذين يحكون الإجماع في مواضع الخلاف يقول ابن حزم: (ويكفي في فساد ذلك أنا نجدهم يتركون في كثير من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماع، وإنما نحوا إلى تسميته إجماعاً عناداً منهم وشغباً عند اضطرار الحجة والبراهين إلى ترك اختياراتهم الفاسدة)

وقد كشف جهابذة العلماء عن حقيقة الإجماع التي تسمو عن الخلاف والتي هي حجة ملزمة عند الجميع؛ قال الشافعي: (ولست أقول، ولا واحد من أهل العلم: هذا مجمع عليه، إلا لما لا تلقى عالماً أبداً إلا قاله لك، وحكاه عمن قبله، كالظهر أربع ركعات وكتحريم الخمر وما أشبه هذا). وقال ابن حزم: (وصفة الإجماع هو ما تُيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز واليمن ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأن بني أمية ملكوا دهراً طويلاً ثم ملك بنو العباس، وأنه كانت موقعة صفين والحرة وسائر ذلك مما يعلم بيقين وضرورة)

ولا يخفى أن معنى ما ذكره الشافعي وابن حزم أن الإجماع لا يكون إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفيما كان طريق العلم به هو التواتر الذي يفيد قطعية الورود وانتفاء الريب، فهذا هو الإجماع الذي تتم به الحجة ولا يصح أن يخالف، ولا ريب أن العمل في مثل هذا لا يكون عملاً بالإجماع من حيث هو إجماع وإنما هو عمل بما تلقته الكافة عن الكافة مما لا شبهة في ثبوته عن صاحب الشرع، وأن الإجماع فيه لم يكن إلا أثراً من آثار الثبوت على هذا الوجه فلا يكون مصدراً له ولا أصلاً في ثبوته

ومن هنا قرر العلماء أن منكر حجية الإجماع لا يكفر في حين أنهم حكموا بالكفر على من

ص: 8

أنكر المجمع عليه

هذا وقد رأى بعض الباحثين أن الإجماع الذي كان يرجع إليه ويجرى على الألسنة في الصدر الأول حيث لا نص هو إجماع بمعنى آخر غير هذا الإجماع الذي اصطلح عليه الأصوليون واشتهر بين الناس أنه حجة شرعية، واعتمدت عليه عصور التقليد في سد باب الاجتهاد، وعصور التعصب في الرمي بالتضليل والتفسيق والخروج عن سبيل المؤمنين. ونرجو أن تهيأ لنا فرصة قريبة نشرح بها نظرية هؤلاء الباحثين ونبين ما لها من الآثار الطيبة المباركة على الشريعة وعلى الأمة الإسلامية

نعود بعد هذا إلى موضوعنا فنقول: إن الذين ذهبوا إلى حجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يحتج به فيه سوى الأحكام الشرعية العملية، أما الحسيات المستقبلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا:(إن الإجماع عليها لا يعتبر من حيث هو إجماع لأن المجمعين لا يعلمون الغيب، بل يعتبر من حيث هو منقول عمن يطلعه الله على الغيب، فهو راجع إلى الإخبارات فيأخذ حكمها، وليس من الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الحسي المستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه، فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع، وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نزول عيسى إلى مبدأ القطعية والظنية في الورود والدلالة، وقد سلف بيان ذلك في موضوع (السنة وثبوت العقيدة)

وعلى فرض أن أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه نقول: إن نزول عيسى قد استقر فيه الخلاف قديماً وحديثاً:

أما قديماً فقد نص على ذلك ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) حيث يقول: (واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبداً، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه السلام: أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟ وهو عيسى بن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد عليه السلام كما نص عليه أيضاً القاضي عياض في شرح مسلم، والسعد في شرح المقاصد، وقد سقنا عبارته في البحث السابق وهي واضحة جلية في أن المسألة ظنية في ورودها ودلالتها!

وأما حديثاً فقد قرر ذلك كل من الأستاذين المغفور لهما: الشيخ محمد عبده والسيد رشيد

ص: 9

رضا، وفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي:

فالشيخ عبده رضي الله عنه يذكر وهو بصدد تفسير آية آل عمران (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ)(أن للعلماء هنا طريقتين: إحداهما وهي المشهورة أنه رفع بجسمه حيَّاً وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى. . . والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه وهو الإماتة العادية وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح. . . الخ) ثم يذكر (أن لأهل هذه الطريقة في أحاديث الرفع والنزول تخريجين: أحدهما أنها آحاد تتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما تأويل النزول) بنحو ما سبق نقله عن شرح المقاصد

وقد ورد على المغفور له السيد رشيد رضا سؤال من (تونس) وفيه (ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسمه من روحه؟ وما قولكم في الآية (إني متوفيك ورافعك). وإن كان حيًّا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم حيواني كما هي سنة الله في خلقه؟) فأجابه السيد رشيد إجابة مفصلة عما سأل عنه نقتطف منها ما يأتي:

قال بعد أن عرض للآيات وآراء المفسرين فيها (وجملة القول أنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء حيا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى غذاء فيتوجه سؤال السائل عن غذائه، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثها في المسلمين) ثم تكلم عن الأحاديث وقال: (إن هذه المسألة من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى السماء)

أما فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فقد كتب بمناسبة السؤال الذي رفع إلى فضيلته وكان سبباً في فتوانا، إجابة جاء فيها:(ليس في القرآن الكريم نص صريح قاطع على أن عيسى عليه السلام رفع بجسمه وروحه، وعلى أنه حي الآن بجسمه وروحه. وقول الله سبحانه: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا) الظاهر منه أنه توفاه وأماته ثم رفعه، والظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفع درجات عند الله كما قال في إدريس عليه السلام:(ورفعناه مكاناً عليا) وهذا الظاهر ذهب إليه بعض علماء

ص: 10

المسلمين فهو عند هؤلاء توفاه الله وفاة عادية ثم رفع درجاته عنده فهو حي حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء. لكن جمهور العلماء على أنه رفعه بجسمه وروحه فهو حي الآن بجسمه وروحه، وفسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوِّغ تفسير القرآن بها) ثم قال فضيلته:(لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة، والعقيدة لا تجب إلا بنص من القرآن أو بحديث متواتر) ثم قال: وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه السلام حي بجسمه وروحه، والذي يخالف في ذلك لا يعد كافراً في نظر الشريعة الإسلامية)

هذه نصوص صريحة يقرر بها هؤلاء العلماء قديماً وحديثاً أن مسألة عيسى مسألة خلافية، وأن الآيات المتصلة بها ظاهرة في موته عليه السلام موتاً عادياً، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد لا تثبت عقيدة وهي مع هذا تحتمل التأويل، وأنه لا تكفير لمسلم بإنكار رفع المسيح أو نزوله، فأين مع هذا كله ما يدعونه من إجماع؟

ولعلنا، يعد إظهار فتوى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، نستريح من لغط بعض العلماء الرسميين الذين عرف عنهم أن تمسكهم بالرأي وما يزعمون أنه دين ليس إلا بمقدار جهلهم برأي فضيلته (وهو شيخ الجامع الأزهر) فإذا ما عرفوا رأيه وهو شيخ الجامع الأزهر خلعوا أنفسهم من ربقة رأيهم الأول وسارعوا إلى اعتناق رأيه بل تسابقوا في توجيهه وتأييده (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعلمون محيطا)

محمود شلتوت

عضو جماعة كبار العلماء

حاشية: لعل الأستاذ الفاضل (دسوقي إبراهيم) قد وجد في

بحثنا السابق (السنة وثبوت العقيدة) وفي بحثنا هذا جواب ما

سألنا عنه في بريد الرسالة بالعدد الماضي، وله منا الشكر

والتحية.

ص: 11

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

هنا تقرأ الرسالة - تمثال سعد باشا - منارة أبي العباس - عهود ومواثيق

هنا تقرأ الرسالة

بهذه الجملة هتفتُ حين سمعت النداء بالرسالة صباح الأحد في شاطئ ستانلي، وحين رأيت مع بائع الجرائد كمية من أعداد الرسالة لم أكن أنتظر أن أراها في ذلك المكان. وقبل ذلك بيوم رأيت في مكتب (بريد سيدي جابر) جماعة من أفاضل الموظفين يحدثونني عن مقال أسيوط. ومن هذا وذاك فهمت أن المجلات التي تُعنى بالأدب الصِّرف أخذت تسيطر سيطرة روحية على أكثر الميادين، وكانت فيما سلف مقصورة على طوائف قليلة من الخواص

إن وصول المجلات الأدبية إلى الشواطئ له دلالة معنوية، فهو شاهد على رقي الذوق، ودليل على أن روّاد الشواطئ ليسوا جميعاً من اللاهين، فقد ظهر أن فيهم من يتخير المكان الذي يقرأ فيه، كما يتخير الكاتب المكان الذي يكتب فيه. والقراءة كالكتابة تحتاج إلى جوّ يسود فيه الجمال

أقمت بالشاطئ ساعتين مع جماعة من رجال الأدب ومحبيه، فدار الحديث حول كثير من المعضلات، ودار أيضاً حول اللآلئ المنثورة فوق الرمال. . . وأُخِذْت صور، وأُنشِدتْ قصائد، وتجاوبتْ عيونٌ وقلوب

ثم أنظر فأرى رجلاً ملء العين والقلب يشرِّف الشاطئ، وهو سعادة الأستاذ الجليل محمد العشماوي بك، فيقع هذا السجال:

- ماذا تصنع هنا يا دكتور مبارك؟

- جئت أحاول إتمام التصنيع الذي بدأته قبل أربع سنين

- وما ذلك الصنيع؟

- هو تأليف كتاب عن (أدب الشواطئ)

- وما أساس الفكرة في ذلك الكتاب؟

- أساس الفكرة أن المصريين أنشأوا فناً جديداً في الأدب العربي هو أدب الشواطئ، وقد

ص: 13

يكون ابتكارهم لهذا الفن جديداً بالنسبة لسائر الآداب

- تريد أن تقول إنه فنٌ لم يوجد في الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً؟. . .

- هو ذلك، مع الاعتراف بأن لشعراء فرنسا وإنجلترا أفانين متصلة بالحياة البحرية، ولكنها تخالف إحساس المصريين بالشواطئ في مواسم الاصطياف

- وهل تفردت الشواطئ المصرية بخصائص؟

- هذا مؤكد، فأنت لا تستطيع أن تحدد موعد لقاء على شاطئ فرنسي أو إنجليزي بعد أسابيع ولا بعد أيام، لأن الطبيعة هنالك مفطورة على التقلب، أما في مصر فتستطيع أن تحدد موعداً على أحد الشواطئ بعد سنة أو سنتين، لأن جو مصر مفطور على القرار والاطمئنان

- إن كان الأمر كذلك فكيف تأخر أدب الشواطئ في مصر، ولم نر له بوارق فيما مضى من العهود؟

- بدعة الاصطياف على الشواطئ بدعةٌ حديثة العهد في الشرق والغرب

- تعني أنها لم توجد قبل أن يوجد الشيخ أبو العيون؟

- الشيخ أبو العيون وجد قبل قرون!

- متى؟

- وُجد باسم السخاوي

- وكيف؟

- كان السخاومي مولعاً بعدّ هفوات ابن خلدون، فطاب له أن يدون في كتاب (الضوء اللامع، في أعيان القرن التاسع) أن ابن خلدون كانت له جولات في الشاطئ السكندري أيام الصيف

وما معنى هذا؟

- معناه أن شواطئ الإسكندرية كانت مراتع صبوات في ذلك الزمان

- وهل قال ابن خلدون شعراً أو نثراً في الشواطئ؟

- حكاية ابن خلدون غريبة جداً

- وما وجه الغرابة في حكاية ابن خلدون؟

ص: 14

- حدثنا الأستاذ محمد المهدي بك في إحدى محاضراته بالجامعة المصرية سنة 1917 أن السفينة التي أقلت ابن خلدون من تونس إلى الإسكندرية غرقت وهي مشرفة على الشاطئ، فهلك أهله وأصحابه، ونجا بعد أن كاد يمسي من المغرَقين

- وإذن تكون جولات ابن خلدون على شواطئ الإسكندرية مناجاة لتلك الأرواح، وهذا معنى جهله السخاوي ولن يجهله أبو العيون

- في هذا الكلام لواعج ذاتية، فهل كان لك مع شواطئ الإسكندرية تاريخ؟

- كان ذلك أيام الاعتقال

- هل اعتُقِلْتَ يا دكتور؟

- قال ناسٌ إني كنت من خطباء الثورة المصرية، وإنني استصبحت بغياهب الاعتقال

- وأنا أيضاً لم أسمع به قبل اليوم

- تلك إذن دعابة من دعاباتك؟

- هي دعابة من دعاباتي، بلا جدال، ولكن لها عقابيل

- لا تؤاخذني يا دكتور في جهل هذا الجانب من حياتك

- أي جانب؟ أنا أمزح!

- وأنا أحب أن أسمع هذا المزاح

- دخلت الإسكندرية أول مرة في سيارة مغلقة من سيارات الجيش البريطاني، دخلتها بعد انتصاف الليل وفي أعنف وقت من قسوة الشتاء، فاجتهدت في زحزحة الأحجبة عساني أرى وجهاً من وجوه الحياة فوقع نظري على غابة من النخيل

- وأين كان المعتقل في الإسكندرية؟

- لا أدري أين! كنا في (سيدي بِشْر)، ولكن أين؟

- هل فكرت في التعرف إلى مكان الاعتقال؟

- فكرت وفكرت، ولكني لم استطع الاهتداء إليه، برغم الشوق إلى المكان الذي أودعت فيه ذخائر شبابي

- هذه رموز تحتاج إلى تفاسير

- كنت بطل البحر في ذلك العهد، ولعلني أول سابح عرفته البحار على نحو ما كنت

ص: 15

- وكيف؟

- كنت أثبتُ قدميّ في الماء بصورة لا تختلف عمن يثبت قدميه فوق الجبال، وكان من المستحيل أن أتزحزح ولو صارعني أمهر السابحين، فأين الماضي الجميل لعهد فتوّتي وشبابي؟ أنا اليوم أزور الشاطئ زيارة الطيف، وكل ماضيّ فيه أنني أنقذت من الغرق جماعة فيهم فلان، وهو مخلوق لا يؤذيه أن يُذكر فضلي عليه وبعض الناس يكربهم الوفاء!

- وبمثل هذه الخواطر تزور هذا الشاطئ؟

- ينبغي أن أقول كلاماً من هذا الطراز، لينسى الناس أنني قلت فيه:

رعاه الحب من شطٍّ جميل

خفيف الروح مصقولٍ أنيقِِ

بهيّ الرمل تحسبهُ سُجُوفا

مطرَّزةً بحبات العقيق

أطوف به فيغلبني خشوعي

كأني طفت بالبيت العتيق

- هذه شيطنة الشعراء!

- وماذا يصنع الملائكة لو طافوا بهذه الشواطئ؟ هل ينسون أن الله هو الذي جمَّل هذه الخلائق؟ هل ينسون أن أعظم نعمة من نِعم الله هي نعمة الجمال الوهّاج؟ هذه الشواطئ كنوزٌ أتحف الله بها هذه البلاد، فلنشكر لله هذه التحفة الغالية، ولنسأله أن يجعل أيامنا مواسم لشيطنة الشعراء

ثم انتقل الحوار إلى مسائل سأعود إليها بالتفصيل بعد حين

تمثال سعد باشا

أعجب ما يقع في مصر أن يفاجأ الجمهور بأشياء لم يؤخذ فيها الرأي، كالذي وقع في تمثال سعد باشا زغلول، وإلا فمن يذكر أن تمثال سعد أُخذت فيه الآراء قبل أن يقام في القاهرة والإسكندرية على ذلك الوضع الغريب؟

قاعدة التمثال يعاب عليها ما يعاب على قاعدة التمثال القائم بميدان باب الحديد، فهي مرتفعة بطريقة لا تخلو من عُنُجهية

والتمثال نفسه سيئ التعيير في أكثر نواحيه، فعزيمة سعد باشا تتمثل في يده الشمال، وقد أُرخيتْ يمناه بصورة لا تليق

وهنالك لوحة جانبية تَفْرض على سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي أن

ص: 16

يقدموا مطالب الأمة إلى رجلٍ قاعد وهم وقوف، فهل كان السير وِنجتْ قاعداً وهو يستقبل أولئك الرجال؟

وفي هذه اللوحة يقف عبد العزيز فهمي وقفة غير مقبولة، فما الموجب لذلك؟

وهنالك لوحة ثانية جانبية حُمِل فيها سعد على أعناق مريديه، وقد برز نعلاه بروزاً يأباه الذوق

أعيدوا النظر فيما رُسِم على جوانب ذلك التمثال

منارة أبي العباس

قلت مرةً إن منارة أبي العباس المُرسى ستشهد بإسلام الإسكندرية حين تنار بعد الحرب، وستكون على الشاطئ المصري نظيرةً لبُرج (نوتردام دي لاجارد) على الشاطئ الفرنسي. والتنافس بين الإسلام والنصرانية سيمتد إلى آخر الزمان

واليوم أذكر أن سعادة الأستاذ عبد الهادي الجندي باشا أسدى خدمة جليلة إلى الإسكندرية الإسلامية قبل أن يترك وزارة الاوقاف، فقد كلَّف الأستاذ حسن السندوبي تأليف كتاب تُفصَّل فيه أخبار أبي العباس وأخبار مريديه من الصوفية، ليوزع على المصلين يوم يتفضل جلالة الملك بافتتاح ذلك المسجد البهيج

فما مصير ذلك الكتاب، وقد راعني ما فيه من تفاصيل؟

أيُهْمَل باستقالة الوزير الذي أشار بأن يؤلَّف؟ أيوضَع عليه اسمٌ جديد إن كُتبَ له البعث من مَرقَد وزارة الأوقاف؟

إن معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق في غِنىً عمن يُذكِّره بأن الإسكندرية الإسلامية منسية في عالم التأليف، فليس من الكثير أن يذاع كتابٌ يؤرخ عهداً يفوق في الروحانية عهود اليونان والرومان، وهو أيضاً في غِنىً عمن يذكره بأن إسلام الإسكندرية ينتظر الإحياء

عهود ومواثيق

لم أسمح لنفسي يوماً بالراحة باسم المرض، ولم أَشْكُ لغير الله ما يعتريني من التعب في بعض الأحايين، فكيف جاز أن أفكر في الرجوع إلى القاهرة قبل أن أقضي في الإسكندرية

ص: 17

لحظات بين هدير البحر وظلام الليل؟

وماذا يقول أبنائي حين أرجع إليهم بعد يوم وأنا مكروب؟

بيني وبين الله عهود ومواثيق، والعهد بيني وبينه أن أقضي العمر ساجعاً فوق ما أبدع من أفنان الجمال، فأنا واثقٌ بأن العافية لن تضيع من يدي، وهل يُرضي الله أن أسجع سجع الجريح؟

سأفارق الإسكندرية حزيناً هذه المرة، وسأجد في أصدقائي بها من يعتذر عني، فما عندي بسمات ولا ضحكات ألقاهم بها لقاء الحبيب للمحبوب

سنلتقي حتما يا أحبائي، وسنلهو معاً بمصارعة الأمواج، وسنُسِرُّ أحاديث تُصغي إليها ضمائر السماء، فمن المستحيل أن ينفصم ما بيني وبين الله من عهود ومواثيق

زكي مبارك

ص: 18

‌لكي ننتفع بتجاريب غيرنا

1 -

المسرح في أوربا

بين حربين

للأستاذ دريني خشبة

(تحيتي وشكري للأستاذ الصديق زكي طليمات أحد الذين

تدخرهم مصر لنهضتها المسرحية)

لم تمض سنوات قلائل بعد إذ وضعت الحرب الكبرى أوزارها حتى أخذ النقاد المسرحيون - ولا سيما في أمريكا - يتلفتون حولهم، ويتساءلون ماذا أصاب المسرح بعد الذي أصاب العالم من تقتيل وتخريب؟ وقد ذهب كثير من النقاد الأمريكيين إلى أوربا يجوبون أطرافها ويدرسون أحوال المسرح فيها، مارين بإنجلترا بادئ الأمر، حيث هالهم ما أصاب المسرح الإنجليزي من الانتكاس المؤلم، وما عراه من الشعبذات التي لم تكن قط مما يروج في سوقه، أو ينفق في ناديه. . . ثم ذهبوا بعد ذلك إلى فرنسا ثم إلى إيطاليا، فإلى بلجيكا، فإلى ألمانيا وروسيا. . . ثم عادوا أدراجهم إلى أمريكا ليكتبوا، ولينقدوا المسرح الأوربي، ولينشروا في ذلك المؤلفات القيمة وغير القيمة، ثم ليثنوا على هذا المسرح، وليقدحوا في ذاك، مما أوجد في أوربا رد فعل عظيم أرهف الآذان وفتح الأعين، وكان سبباً في حركة إصلاحية مباركة تضافرت جميع القوى في القيام بها بالاشتراك بين الهيئات الحرة وجهات الاختصاص الحكومية

ولقد كان الناقدان الأمريكيان: كِنثْ ماك جَوَانْ - و - روبرت إدموند جونس في مقدمة الذين ألفوا في هذا الموضوع، إذ أصدرا كتابهما الفذ المسمى: (البراعة الأوربية في الإخراج المسرحي - صرحا فيه بانحطاط المسرح الإنجليزي وتخلفه عن المسرح في القارة الأوربية واضطرارهما إلى تجنب الكلام عنه وتناول الإخراج فيه تبعاً لذلك في حين أنهما أثنيا الثناء العطر على المسرح الأوربي فيما عدا إنجلترا من الممالك الأخرى. وقد جاء إلى أوربا ناقد أمريكي آخر هو الأستاذ ستارك يونج فجاب معظم ممالكها، متفقداً حالة المسرح في كل منها، ثم عاد ليكتب فصوله البارعة في مجلة أمريكا الشمالية وهي تلك

ص: 19

الفصول التي أقامت إنجلترا وأقعدتها لما صرح فيها بمثل ما صرح به الناقدان الأسبقان من مر القول عن المسرح الإنجليزي الذي انحط بكل عناصره جمهوراً وروايات وإخراجاً وغرضاً، عن سائر المسارح في أوربا. وقد انبرى للرد على هؤلاء النقاد الأمريكيين عدة كتاب من المشتغلين بالمسرح الإنجليزي وفي مقدمتهم الأستاذ جون ألف كتابه جمع فيه ما ألقاه من المحاضرات عن المسرح الإنجليزي في إنجلترا رداً على المستر ستارك يونج وأضرابه، ودفاعاً عن المسرح الإنجليزي وتاريخه العتيد. والذي حدا بنا إلى الاهتمام بما كتبه المستر أرفن هو انطباقه على المسرح المصري انطباقاً يوشك أن يكون كاملاً مع أنه ألقى محاضراته سنة 1923 ونشرها في كتابه سنة 1924 وقد تكلم فيه عن:

1 -

المسرح الإنجليزي والمسرح الأوربي إجمالاً

2 -

جمهور النظارة من الإنجليز

3 -

انحطاط الدرامة الإنجليزية بعد الحرب الكبرى وتعليل ذلك

4 -

المسارح التجارية واضطرارها إلى النزول إلى مستوى الجماهير، وعدم محاولتها إطلاقاً أن ترتفع بهم حتى لا يختل ميزانها الاقتصادي

5 -

نتائج الحرب الكبرى الاقتصادية والأخلاقية والفنية وأثر ذلك في المؤلف والنظارة، ومديري المسارح والإنتاج المسرحي وفي الذوق العام للشعب الإنجليزي

6 -

موازنات طريفة بين الذوق الزراعي والذوق الصناعي والثقافة الزراعية والثقافة العمالية. . . أي بين الريف والمدن

7 -

تطبيق هذه الموازنات على إنجلترا في عصر إليزابث وإنجلترا في القرن التاسع عشر إلى اليوم

8 -

العوامل التي تتحكم في حياة المسرح بعد الحرب الكبرى غير العوامل التي أنتجت العبقريات الخالدة في عصر إليزابث

9 -

نفقات الإخراج وإيجار المسارح وأجور الممثلين وأثمان الملابس والمناظر والإضاءة والدرامات مما يبهظ عاتق المديرين ويضطرهم إلى اعتبار العامل الاقتصادي قبل أي اعتبار فني آخر

10 -

واجب الحكومة، وواجب الشعب، وواجب الفرق التمثيلية.

ص: 20

وقد تناول الكلام عن مئات من الأسباب والنتائج غير هذه القضايا العشر حيث عرض الموضوع عرضاً عادلاً ووفاه حقه من البحث بطريقة تبدأ في نظر القارئ خطأ في خطأ، وشروداً عجيباً عن الموضوع الذي زعم لنا أنه بسبيله، ثم لا يفتأ أن يدخل بنا في الحقائق التي مهد لها بالمقدمات التي وهمنا أنها شاردة، فإذا هي تبدهنا، وإذا نحن منها في النور الساطع.

1 -

ولقد تناول المستر أرفن تاريخ المسرح في أوربا قديماً وحديثاً، وقبل الحرب الكبرى ثم بعدها، فقرر ما سبق إلى تقريره مؤرخو الأدب المسرحي من ازدهار المسرح في الأمم التي تشتغل غالبية سكانها بالزراعة، حتى إذا بدأت هذه الغالبية تتحول إلى غالبية صناعية أخذت دورة الفلك تتبدل، وأخذ الانتكاس المسرحي يعمل عمله، ولا سيما في الأمم التي أخذت نفسها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بالصناعات الكبيرة التي ترمي إلى سرعة الإنتاج وكثرته والتي تخصص من أجل ذلك الأيدي العاملة آلافاً آلافاً لصنع جزء من ألف جزء من السلعة بحيث يقضي العامل كل حياته وهو لا يدري من الصناعة شيئاً غير عمل رأس دبوس أو خرم سَمِّ الخياط (عين الإبرة) أو تلوين جزء خاص من صورة من صور الشوكولاته بالأزرق أو الأحمر، أو عملية بعينها من مئات العمليات في مصنع للنسيج أو الغزل، أو تركيب مسمار بعينه في مدفع يتركب من مئات الأجزاء في مصنع للأسلحة المختلفة. . . إلى آخر ما هنالك من أمثال هذه الصناعات المركبة. . . ويقيم المستر إرفن الدليل على أن أمة تشتغل الكثرة الساحقة من أبنائها في مثل هذه التفاهات هي بلا شك أمة من الأميين الفقراء في ثقافتهم، الفقراء في أمزجتهم، الفقراء في صحتهم، الفقراء في تقديرهم للحياة الفنية، الفقراء في مساكنهم التي يتراكم فوقها الدخان ويزيدها الضباب واكفهرار الجو المستديم بلاء على بلاء. . . أما الأمة التي تكون غالبية أفرادها من الزراع - كاليونان القديمة وإنجلترا في عصر إليزابث، وفرنسا في القرن الثامن عشر، وروسيا وإيطاليا. فهي أمة ذات مزاج رفيع وذوق سامٍ وتقدير متئد للفنون بكل أنواعها وإن كانت غالبية سكانها أميين كذلك، لأن الزارع الأمي أوسع ثقافة من غير شك من الصانع الذي شدا هذا اللون الفقير من ألوان التعليم الإجباري حتى إذا بلغ سنا معينة وابتلعه المصنع، لم يبق في رأسه شيء مما شداه في المدرسة، خصوصاً بعد أن يصبح عبداً للآلهة

ص: 21

على النحو الذي أسلفنا. . . أما لماذا يكون الزارع الأمي أوسع ثقافة من مثل هذا الصانع، فذاك لأنه نشأ على حسن الملاحظة في الريف الزراعي الجميل، فهو لا يحبس نفسه في المصنع طول حياته ليثقب إبرة أو ليصنع رأس دبوس، بل هو ينطلق حراً في فردوسه الشاسع الواسع يشق الأرض بمحراثه، ثم يخططها بالسليقة تخطيطاً يعجز عنه الهندسيون، ثم يقسمها أحواضاً ليس فيها حوض أوسع من حوض، ثم هو يلاحظ خروج الشطء من البذر، ويعرف متى ينبغي سقي الزرع، ويقوم بالحصاد حين يأتي الزرع أُكله، فيبدأ الدرس. . . إلى آخر هذه السلسلة من الأعمال التي يلاحق بعضها بعضاً. . . ثم هو يربي الماشية ويتخذ من ألبانها صناعات مختلفة، كما يربي الشاء والخنازير ويعرف من طباع الطير ما لا يعرف أهل المدن، بله الصناع، ثم هو يستمتع في كل ذلك بالصحة الكاملة والحرية المطلقة، ولا يعيش في جنته عبداً لآلة نجعل الصناع بعد قليل قطعة منها لا قيمة لها لأنها ربما استطاعت الاستغناء بنفسها عنهم. . . وليس المسرح وحده هو الذي يرقى في الأمم الزراعية وينحط في الأمم الصناعية، بل سائر الفنون والآداب، فها هو ذا فن النحت في مصر القديمة واليونان القديمة، وهو ذا فن التصوير فيهما وفي إيطاليا، وهاهو ذا الشعر اليوناني القديم والشعر الروماني القديم. . . شعر فرجيل وهوراس وأوفيد وكاتولوس، وهاهي ذي الفلسفة اليونانية القديمة، وفلاسفة النهضة الأوربية الذين نشأوا في حمى الأستقراطيين الزراعيين. . . وهاهي ذي روائع الفن القديم التي لا يسمو إليها شيء من شوائه النحت الحديث أو التصوير الحديث. ثم هاهي ذي موسيقا القرنين السابع عشر والثامن عشر الزراعيين. . . تلك الموسيقى العلوية التي نشتفي بها ونسكن إليها في القرن العشرين. . .

ومن أجمل ما قرره المستر إرفن هو إقبال الشعوب ذوي الثقافات الزراعية على المأساة المسرحية في حين لا تقبل الشعوب الصناعية إلا على الملهاة. . . والملهاة الخفيفة المرحة التي ترتكز على الشعبذة والنكات الطائرة التي تحلقها المناسبات إن لم تقحم هي نفسها في تلك المناسبات إقحاماً. . . والعجيب أن تروج المأساة في العصور الذهبية للأمم، كعصر بركليس العتيد وعصر إليزابث البهي، حتى إذا أخذت الشيخوخة تحل محل الفتوة في حياة الأمة من الأمم، أخذت المأساة تنزل عن عرشها، متخلية عنه للملهاة الخفيفة الطائشة التي

ص: 22

تنخذ مادة تهريجها من شخصيات العظماء والمصلحين. . . فقد ارتفع المسرح اليوناني إلى الذروة في أعظم فترة من فترات القوة في التاريخ اليوناني الحافل بالأمجاد، وكانت المأساة هي مادة ذلك المسرح في هذا العهد، فلما أخذت الروح اليونانية تفسد، وتسرب الضعف إلى روح الشعب، بدأت الملهاة تنتعش، وأخذ أرستوفان يكتب ملاهيه الساخرة، متخذاً من يوريبيدز فخر المأساة اليونانية، ثم من غيره من المصلحين، مادة لتهريجاته. . . أما في عصر إليزابث فقد كتب شيكسبير وبن جونسون وأضرابهما عدداً كبيراً من المآسي والملاهي، إلا أن الشعب أقبل إقبالاً منقطع النظير على المآسي ولم يقبل ذاك الإقبال على الملاهي، مع أنها كانت من الملاهي الجميلة العميقة التي ترتفع درجات فوق ملاهي أرستوفان. . . وقد علل إرفن ذلك بأن روح الشعب الزراعي أقوى من روح الشعب الصناعي، وأعصابه أقوى من أعصابه، فهو يستطيع أن يتفرج بالآلام ويصبر على مشاهدتها تمثل أمامه ويتسلى بذلك جميعاً كما يحلو له أن يتأسى أيضاً، ويشعر خلال ذلك بأضعاف اللذة التي يشعر بها المتفرج بالملهاة. . . أما الشعب الصناعي فهو مركب من كثرة منهوكة الأعصاب مختلة التوازن الفكري، ومن قلة من أصحاب المصانع والتجار رفعتها المضاربات فجأة فوق أكداس من الثروة الطائلة ومن أوساط عجماء عادة، إن صح هذا التعبير. . . فالكثرة تريد الترويح الخفيف عن أعصابها المتعبة، وذلك إنما يكون بالملهاة ذات البهرج الزائف من مناظر الرقص والافتنان في الشعبذة، والنكات التي تداعب الأسماع وتثير أعصاب الضحك، كما تثير حركات (البهلوان) أعصاب الضحك عند الأطفال. أما القلة من الأغنياء فهي فقيرة بثقافتها وأسلوب حياتها عن أن تسيغ المأساة؛ وهي تحمل عقلية وضيعة لا تسمو كثيراً فوق عقلية الكثرة من الصناع. ولذلك فهي تشاطرها ميولها وأهواءها

أما في فرنسا، فقد أوشك تاريخها في المائة سنة الأخيرة أن يكون حلقة متصلة من الحروب المستمرة، ولذلك أصبحت الأعصاب الفرنسية أكثر تأثراً وأشد نصباً من غيرها، ولذلك أيضاً أصبح لا يمثل على المسرح الفرنسي إلا نوع واحد من الدرامات المتشاكلة التي تتناول موضوع الحب غير الشرعي. ولعل إرفن نسي أن يعلل ذلك بكثرة الأزواج الذين فقدوا في حروب الثورة وحروب نابليون وحرب السبعين والحرب الكبرى، مما كان سبباً

ص: 23

في كثرة الأرامل وكثرة العوانس وقلة الأزواج. . . هذا وإن يكن الإخراج في المسرح الفرنسي قد بلغ الأوج الذي لم يبلغه قط في أيٍ من مسارح العالم

أما في ألمانيا فقد ظهرت جماعة (التعبيريين) التي تدعو إلى أن تكون الدرامة من مناظر كثيرة متعددة، لا من فصول، كما أصبحت الحال في السينما، على أنه لا في ألمانيا ولا في روسيا كان المسرح أحسن حالاً منه في إنجلترا أو فرنسا فقد خرجت ألمانيا المهزومة من الحرب كما خرجت روسيا بروح جديدة ونظام من الحكم جديد حور مرافق الدولة جميعاً وأخضعها لأغراضه واستعان بكل شيء، ولا سيما بالمسرح، في تثبيت دعائمه والوصول إلى أهدافه. والاشتراكية في ذاتها تنكر الفنون والآداب كما تجحد الأديان والأخلاق، وذاك أنها لا تعترف إلا بالعلم، وهي تعتبر هذه الأشياء آخر ما يشغل العالم به نفسه. كما تفسرها على أنها ألوان من الخبز واللحم حتى أن الألمان ليقولون في أمثالهم (يكون الناس كما يأكلون!). والاشتراكية في إنكارها للفنون والآداب والأديان والأخلاق لا تغض من قيمتها، ولكنها تتركها في مؤخرة برنامجها لتأتي من نفسها طائعة مختارة كما يدعون، وعلى كل فلم تنتج النازية كما لم تنتج الشيوعية بطلاً من أبطال الدرامة أو المسرح يعتد به، ولعل هذا راجع إلى أنهما لم تسلخا في التجربة أكثر من ربع قرن بعد. وهاهي ذي تلك الحرب العالمية القائمة قد أخذت تحصد الأرواح الفينانة التي أبقت عليها الحرب السالفة، كما أخذت تضاعف آلام الإنسانية وأحزانها في كل مكان، ولم تتوحش هذه الحرب بعد كما توحشت في الأعوام الثلاثة الماضية بين النازية والشيوعية. أليس كل من النظامين إنما يؤمن بالعلم وحده ويريد أن تأتيه الفنون والآداب والأخلاق والأديان طائعة مختارة؟

(يتبع)

دريني خشبة

ص: 24

‌عبد الحميد الديب

شاعر البؤس والفاقة والحرمان

للأستاذ علي متولي صلاح

من أراد أن يلتمس حظ الأديب في الشرق، وما يلاحقه من فاقة وحرمان، وما تضطرب به حياته من أوجاع وآلام، فيلتمس ذلك كله في حياة عبد الحميد الديب

ذلك شاعر قطع حياته غريباً عن هذا العالم الذي يعيش الناس فيه، لم يكن يدري أنه حي، لأنه لا يُرزق والأحياء يرزقون!

صدفتْ عنه النعم جميعاً، وحلّتْ به النقم جميعاً. عاش لا يعرف السكن، ولا يعرف الأهل، ولا يعرف الوطن

حاول مرةً أن يتخذ لنفسه سكناً كما يفعل الناس، وأن يعيش مثلهم ذلك العيش الرتيب المريح، فجمع كل عزمه، واستأجر غرفة في أحد الأحياء الوطنية بالقاهرة، وأقام بها أياماً يفترش أرضها ويلتحف سماها، ثم تأمَّل حياته فيها، ومُقامه بها فقال:

أراني بها كلَّ الأثاث فمعطفي

وساد لرأسي أو وقاءٌ من البرد!

وهجرها إلى غير رجعة وعاد إلى ضلاله وتيهه!

عاش هذا الفنان البائس لا يعرف المال إلا من فضل ما يمنحه إخوانه من دراهم معدودات يسد بها بعض رمقه، ويقضي بها بعض لبانته، ولكنها لا تكاد تفي له بشيء، فعاش على الجوع والطوى، إنْ أصاب طعام يومه ففي ذمة الحظ والمصادفة طعام غده، وأخيراً جداً أرادوا به خيراً، فوظفوه في وزارة الشؤون الاجتماعية براتب هو جنيهات خمسة! فقبل الوظيفة راضياً شاكراً، وذهب إلى (الديوان) نشوان فرحاً، حامداً الله على نعمته، والتمس كرسياً يجلس اليه، ومكتباً يعمل عليه فلم يجد، فأرسل إلى الوزير يقول:

بالأمس كنت مشرّداً أهليًّا

واليوم صرت مشرداً رسميَّا!

وبعد ثلاثة أشهر من توليه هذه الوظيفة، لفظ الشاعر آخر أنفاسه، وقضتْ عليه علة طارئة لم تجد العلاج النافع

كانت هذه المحن التي ألمت بهذا الشاعر، وطاردته طول حياته لا يكاد يفر منها إلا إليها، وهذه النكبات التي انصبت على رأسه لا يعرف عنها منصرفاً. كان كل ذلك مُلهباً لنفسه،

ص: 25

مثيراً لحفيظته. رأى الحرمان الشامل يحيط به ويُلازمه فحقد على المجتمع ووجد عليه، وهو الأديب الفنان ذو الحس المرهف، واستحال الشاعر جحيماً من العداوة والكره والبغضاء للناس، تغنّى آلامه وأوجاعه بالبليغ الجزل مما عرفت العربية من شعر الشكوى والأنين، كنتُ - وأنا بعدُ في صدر الشباب - أغشى مجالس الأدباء والشعراء في العاصمة فما رأيتُ - علم الله - مصدوراً يُنفس عن كربته إلا بشعر عبد الحميد الديب، ولا مُؤلماً يشكو آلامه، ولا متعباً يشكو أوجاعه إلا بشعر عبد الحميد الديب وهو هو النكرة المجهول المحروم المقصيُّ عن الناس بفقره وخصاصته

لك الله أيها الأديب، ولكم الله أيها الأدباء، أنتم بحقٍ جنود هذا المجتمع المجهولون، تحترقون أيها الأدباء لتنيروا للناس، وتجوعون أيها الأدباء لتشبعوا الناس، وتعروْن أيها الأدباء ليكتسي الناس، وأنتم - بعد - لا تنالون منهم جزاءً ولا شكوراً

شدَّ ما مَنَّى غروراً نفسه

تاجر الآداب في أن يربحا!

أما أنت يا عبد الحميد، فهيات أملك وصفك الحق للناس - وقلَّ فيهم من يعرفك - هيهات يا عبد الحميد أن أعطيهم عنك صورة صادقة صحيحة سليمة لنفسك ولمتاعبك وشقائك، فلأعرض عليهم بعض شعرك ليعرفوا يا عبد الحميد من أنت

1 -

دمع المنازل

بِوَاد كدار الخلد برِّ المنازل

حييتُ فمالي لا أفوز بنائل؟

أقاسي به في ليله ونهاره

معيشة أفَّاق ووحدة ثاكل

وكم سألوني كيف تشقى مع الحجى

وفي شعرك الهامي عذاب المناهل؟

فقلت بهذا الشعر بؤسي وشقوتي

كما قتل الصدَّاحَ زهر الخمائل

فلا تسألوني عن دمائي وسفكها

سلوا بدمي الغالي جريمة قاتلي

فكم مرَّت النعمى عليَّ بسيمة

فأبعدني عنها وضيع الوسائل

ورفض لئيم كاشح القلب حاقد

منالي أرزاقي بهمة عامل

بكت بلدتي حزناً عليّ وحسرةً

وأحزن ما أبصرت دمع المنازل

وكم ندبتني في حماها ضريرةٌ

تنوح بصوت خافت الصوت ذابل

وشيخ أبيَّ الدمع إلا بمحنتي

وفي ثوبه مجد الكرام الأماثل

ص: 26

هما والداي الصالحان: كلاهما

على شدة البأساء موئل سائل

فيا ربِّ إما نعمة من حصافتي

وإما حياةٌ في حماقة جاهل!!

2 -

الطلل الباكي

لو أستطيع البكا يأيها الطللُ

بكيت حتى شكت من دمعي المقل

أرى الحوادث ذؤباناً مقذفةً

عليَّ دون الورى تعدو وتقتتل

فكم تصوَّح عودي بعد نضرته

وكم خبا في دياجي عيشي الأمل

وكم دعت لي أمي وهي باكيةٌ

وكم دعا لي أبي يقظان يبتهل

وأجلس الليل في صحبي أسامرهم

وكلهم بمجالي رقتي حفل

حتى إذا سلموا للعود وانصرفوا

سريت جوعان يفرى عزمي الطلل

جوعان! يا محنةً أربت على جلدي

كأن ليلي بيوم البعث متَّصل

كأن حظي رحيق الدهر يشربها

بكراً معتقة فالدهر بي ثمل

فإن تطلبت عيشي مت من كمد

وإن تطلبت حيني يبعد الأجل

3 -

البائس

أذله الدهر لا مال ولا سكن

فتى تزيد على أنفاسه المحن

إذا سعى فجميع الأرض قبلته

وإن أقام فلا أهل ولا وطن

مهاجر بين أقطار الأسى أبداً

كأنه بيد الأرزاء مرتهن

كأنه حكمة المجنون يرسلها

من غير قصد فلا تصغي لها أذن

ثيابه كأمانيه ممزقةٌ

كأنها وهو حي فوقه كفن

هو الهدى صرفتكم عنه محنته

إن العزيز مهين حين يمتحن

ألا فصونوه من عزائه كرماً

ولا تخلوه يوري شره الزمن

فرب عزم يثير البؤس فيصله

فينبري لسبيل الشر لا يهن

4 -

مصرع الحظ

حظي ومصرعه في لين أخلاقي

وفيض عطفي على قومي وإشفاقي

ومن حبته الطلى أخلاف نشوتها

عدا على الكأس طوراً أو على الساقي

ص: 27

بين النجوم أناس قد رفعتهمو

إلى السماء فسدُّوا باب أرزاقي

وكنت نُوح سفين أنشئت حرماً

للعالمين فجازوني بإغراق

وكم وقيت الردى من بتُّ مضطرباً

في أسره المر لم أظفر بإطلاق

يا أمة جهلتني وهي عالمةٌ

أن الكواكب من نوري وإشراقي

أعيش فيكم بلا أهل ولا وطن

كعيش منتجع المعروف أفاق

وليس لي من حبيب في ربوعكمو

إلا الحبيبين: أقلامي وأوراقي

ريشت لحظي سهام من نميمتكم

فصارعتني ومالي دونها واق

لم أدر ماذا طعمتم في موائدكم

لحم الذبيحة أم لحمي وأخلاقي

قالوا: غويٌّ شقيٌّ قلت يا عجبا

قد امتُحنت بكفار وفساق

وما تألمت من خطب ضحكت له

كما تألمت من خطبي بعشاقي

أنا على القرب منهم كل متعتهم

وإن نأيت حبوني فيض أشواقي

فما لهم قد أشاعوا كل مخجلة

عني، وقد أعلنوا بؤسي بأبواق

كصاحب الطير لا ينفك يسجنه

سجنين من قفص مضن وأطواق

حظي هو الأيكة الخرساء ذابلة

هو النسيم سموحاً غير خفاق

هو السحاب جهاماً والندى أسفاً

هو الضياء لهيباً حين إحراقي

كأنه أذرع شلاء راحتها

أو أنه أعين من غير أحداق

لا تسألوني عن بؤسي وعلته

سلوا به الحظ ميتاً فوق أعناق!

والسلام عليك يا صديقي ما انبعث أنين، وصرخت شكوى والتهبت صدور.

(المنصورة)

علي متولي صالح

ص: 28

‌3 - الأحلام

للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

بقلم الأستاذ ألبير نادر

التذكر!

في حالة اليقظة تمر بنا ذكريات تظهر وتغيب متطلبة انتباهنا على التوالي وعلى الدوام. ولكنها ذكريات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحالتنا وعملنا. إني أتذكر في هذه اللحظة كتاب المركيز درني في الأحلام لأني أبحث في موضوع الحلم وأنا الآن في معهد الدراسات النفسية ومحيطي ومشاغلي وما أراه وما أنا قائم به من عمل، كل هذا يوجه نشاط ذاكرتي نحو اتجاه معين. إن الذكريات التي نناجيها وقت اليقظة، مهما تبدو غريبة عن مشاغلنا الوقتية فإنها تمت إليها دائماً بصلة ما. ما هي وظيفة الذاكرة عند الحيوان؟ هي أن تُذكره في كل مناسبة العواقب النافعة أو المضرة التي سبق أن تلت حوادث متشابهة للحوادث الحاضرة، وتخبره عندئذ بما يجب عليه عمله. - عند الإنسان - اعترف بأن الذاكرة تكون في حالة تحرر عن العمل أكثر مما هو الحال عند الحيوان؛ ولكنها لا تزال مرتبطة بالعمل، فإن ذكرياتنا في وقت ما تكون كلاً متماسكا. قل إذا شئت هرماً قمته في حركة مستمرة ومتفقة مع وقتنا الحاضر وتغوص معه في وقتنا المستقبل. ولكن خَلف الذكريات التي ترتكز هكذا على مشاغلنا الحاضرة وتظهر بواسطتها، توجد ذكريات أخرى - آلاف وآلاف أخرى - موجودة في الأسفل، خلف المسرح المضاء بواسطة الوجدان. أجل أظن أن ماضينا موجود هناك محفوظ حتى أقل جزء منه، وأننا لا ننسى شيئاً، وأن كل ما أدركناه، وكل ما فكرنا فيه وأردناه منذ أول فجر وجداننا فإنه يدوم أبداً. ولكن الذكريات التي تحافظ عليها ذاكرتي هكذا في أظلم أعماقها موجودة هناك على شكل أشباح خفية - ربما تتشوق إلى النور ولكنها لا تحاول أن تصعد نحوه فهي تعرف أن هذا من المستحيل - وإني أنا الكائن الحي الفعال لديَّ مشاغل أخرى تنهاني عنها. ولكن لنفرض أنه في وقت ما أكف عن حالتي الحاضرة، عن العمل الملح أي عن كل ما كان يحصر في نقطة واحدة كل نشاط ذاكرتي. لنفرض باختصار أني نائم - فحينئذ تتحرك تلك الذكريات الثابتة عندما

ص: 29

تشعر بأني نزعت العائق ورفعت الحاجز الذي كان يجعلها ملازمة قاع الوجدان، فتنهض وتهب وتضطرب وتقوم برقص قبري عظيم في ظلمات الوجدان - وجميعها تتجه نحو الباب الذي انفتح، تريد أن تمر كلها ولكنها لا تقدر لكثرة عددها. فما هي الذكريات المختارة من هذا الحشد المدعو؟ أنكم تدركونها بسهولة. منذ لحظة، عندما كنت في حالة اليقظة، كنت أختار فقط الذكريات التي تمت بصلة قرابة إلى الحالة الحاضرة، أعني مداركي الحالية. وإنها الآن لأشكال أكثر إيهاماً ترتسم أمام عينيَّ وأصوات أقل وضوحاً تؤثر في أذنيَّ؛ ولمس أقل وضوحاً مبعثر على طول مساحة جسمي ولكنها أيضاً احساسات أكثر عدداً تأتيني من داخل أعضائي. ولكن من بين هذه الذكريات الشبحية التي تحاول أن تكتسب ثقلاً بواسطة اللون والرنين والمادية، فقط تظهر تلك التي يمكنها أن تمتثل الغبار الملون الذي أشاهده، والأصوات الخارجية والداخلية التي أسمعها الخ. والتي تتفق أيضاً والحالة العاطفية العامة التي تكونها التأثيرات العضوية، ومتى حصلت هذه الصلة بين التذكر والإحساس ينتج الحلم.

في صفحة شعرية من صفحات كتاب التساعيات يشرح لنا الفيلسوف أفلوطين - مترجم أفلاطون ومتممه - كيف يولد الناس وينالون الحياة - يقول: تبدأ الطبيعة في صنع الأجسام الحية ولكنها تبدأ فقط، وإذا تركت الطبيعة وشأنها فلا يمكنها أن تصل إلى النهاية. ومن جهة أخرى تسكن الأرواح في عالم المُثل حيث لا يمكنها أن تعمل، وهي لا تفكر في العمل فترفرف مرتفعة عن الزمن خارجة عن الفضاء - ولكن بين الأجسام ما يكون أكثر ملاءمة بفضل أشكالها لأغراض هذه الأرواح أو تلك - ومن بين الأرواح ما يجد نفسه أكثر ملاءمة ليحل في هذه الأجسام أو تلك - والجسم - وهو لا يخرج حياً تماماً من بين أيدي الطبيعة - يرتفع نحو الروح التي تهبه الحياة الكاملة. والروح تنظر إلى الجسم الذي تظن أنها ترى فيه صورتها فتنجذب وتنخدع كأنها أمام مرآة وتترك نفسها تندفع نحوه وتنحني وتسقط - وسقوطها هو ابتداء الحياة - إني أشبه الذكريات التي تنتظر في ثنايا الوجدان الخفية بتلك الأرواح المنفصلة - وهكذا احساساتنا الليلية فإنها تشبه هذه الأجسام في بداية تكوينها. الإحساس حار ملون رنان، وتقريباً هي كذلك ولكنه غير مستقر - والتذكر واضح معين ولكنه فارغ وبدون حياة. يبحث الإحساس عن شكل يثبت فيه خطوطه المتقلبة.

ص: 30

والتذكر يبحث عن مادة تملأه وتعطيه ثقلاً حتى يتحقق فيجذب الواحد الآخر، والتذكر الشبحي يتخذ شكلاً مادياً في الإحساس الذي يقدم له الدم واللحم ويصير كائناً يعيش عيشة خاصة أي حلماً

فتولد الحلم ليس بأمر غريب. إن أحلامنا تتكون تقريباً مثل ما تتكون رؤانا للعالم الواقعي. إن آلية العملية واحدة بالإجمال. فما نراه من أشياء أمام أعيننا، وما نسمعه من كلام أمام أذننا، ما هو إلا الشيء القليل بالنسبة إلى ما تضيفه الذاكرة. عندما تطالع جريدة أو تتصفح كتاباً أتعتقد أنك ترى فعلاً كل حرف وكل كلمة أو كل كلمة ضمن كل جملة؟ إذا كان الأمر كذلك فلا يمكنك أن تطالع الكثير في جريدتك - في الحقيقة أنت لا ترى من الكلمة أو من الجملة سوى بعض الأحرف أو بعض العلامات المميزة، وهو ما يلزم حتى تخمن الباقي. يبدو لك أنك ترى كل الباقي ولكنك في الواقع تتوهمه - هناك اختبارات عديدة ومتفقة لا تترك أي مجال للشك في هذا الصدد

ولا أذكر هنا سوى اختبارات جلوشيدر وموللر: إنهما كتبا أو طبعا صيغة دارجة عادية وهي مثلاً (ممنوع الدخول بتاتاً) أو (مقدمة الطبعة الرابعة) الخ. ولكنهما أخطآ بتبديل الحروف أو بحذف بعضها. ثم يوضع الشخص الذي سيعمل بواسطته الاختبار أمام هذه الصيغة في الظلام، وهو يجهل طبعاً ما كتب على اللوحة أمامه. ثم تضاء هذه الصيغة المكتوبة مدة قصيرة من الزمن حتى لا يتمكن المشاهد لها من أن يرى جميع الحروف. وفعلاً كانا قد توصلا إلى معرفة الوقت اللازم لمشاهدة حرف من حروف الأبجدية وذلك عن طريق التجربة. فمن السهل إذاً عمل الترتيب اللازم حتى لا يتمكن المشاهد من أن يميز أكثر من ثمانية حروف أو عشرة مثلاً من الثلاثين أو الأربعين حرفاً التي تكوِّن الصيغة. ففي غالب الأحيان يقرأها بدون صعوبة، ولكن ليست هذه النقطة هي المهمة في الاختبار - إذا سألنا المشاهد ما هي الحروف التي شاهدها بكل تأكيد، فالحروف التي يذكرها يجوز أن تكون موجودة فعلاً ولكنه سيذكر أيضاً حروفا كانت ناقصة أو استبدلت بحروف أخرى. هكذا يبدو له أنه شاهد الحروف الناقصة ترتسم في الضوء لأن الحس يتطلب ذلك. فالحروف التي شاهدها فعلاً ساعدت على تذكره شيئاً ما. ووجدت الذاكرة الباطنية مرة أخرى الصيغة التي بدأت تحققها هذه الحروف فتبعث بها التذكر إلى الخارج

ص: 31

على شكل وهمي. فالمشاهد رأى هذه الذكرى بقدر ما رأى وأكثر ما رأى الصيغة المكتوبة نفسها. فالمطالعة العادية باختصار عمل تخمين ولكنها ليست مجرد تخمين. إنها انبعاث ذكريات إلى الخارج أي مجرد تذكر إدراكات غير واقعية تنتهز فرصة تحقيق جزئي تصادفه هنا وهناك حتى تتحقق بأكملها

هكذا في حالة اليقظة تتطلب معرفتنا لشيء ما عملية مشابهة للعملية التي نقوم بها في الحلم. إننا لا ندرك من الشيء إلا ابتداءه؛ وهذا الابتداء يتبعه تذكر الشيء بأكمله. والذكرى الكاملة الكامنة في عقلنا والتي كانت في الباطن مجرد نكرة تنتهز هذه الفرصة لتندفع إلى الخارج. ونحن عندما نرى الشيء نتوهم هذا النوع من الوهم المحاط بحاجز واقعي. ويمكننا أن نقول الكثير في تصرف الذاكرة أثناء هذه العملية. لا يجب أن نعتقد بأن الذكريات الموجودة في ثنايا الذاكرة تبقى فيها ساكتة جامدة وغير مكترثة، لا بل إنها صاغية وفي انتظار. إذا كان عقلنا مشغولا بعض الانشغال وفتحنا جريدة يقع بصرنا صدفة على كلمة تتفق تماماً ومشغلتنا؟ لكن ترى الجملة عارية عن كل معنى وسرعان ما نلاحظ أن الكلمة التي قرأناها لم تكن الكلمة المطبوعة. فقط توجد بينهما بعض العلامات المشتركة أو تشابه ضئيل بين شكليهما. فالفكرة التي كانت تشغل بالنا أيقظت في خفايا شعورنا جميع الصور المتجانسة وجميع الذكريات عن الكلمات المتشابهة، وعللتها، بنوع ما، بالعودة إلى الوجدان، والذكرى التي تعود إلى حقل الوجدان هي التي بدأ في تحقيقها إدراك وقتي لشكل من أشكال الكلمة

هذه هي آلية الإدراك الحقيقي وآلية الحلم - يوجد في الحالتين تأثير حقيقي على أعضاء الحس من جهة ومن جهة أخرى توجد ذكريات تنضم إلى التأثير وتنتفع بحيويته لكي تعود إلى الحياة

(يتبع)

ألبير نادر

ص: 32

‌البريد الأدبي

روسيا والثقافة العربية

روت وكالة الأنباء العربية أن الأستاذ أجناني كراشوفسكي - العضو في المجمع العلمي، ومن أنصار العرب المعدودين - تلا بياناً عن الجهود التي بذلها أنصار الشؤون العربية، أمام معهد اللغات لشعوب الجمهوريات السوفيتية في موسكو، متحدثاً فيه عن مبلغ العناية التي وجهت إلى دراسة لغة العرب وثقافتهم وتاريخهم، مسترعياً أنظار المستشرقين الروسيين إليها قائلاً: إنها أساس الثقافة الإسلامية القديمة الفنية التي تعتنقها شعوب كثيرة تستوطن آسيا الوسطى كالقوزاق والتتر الذين يؤلفون جزءاً من جامعة الأمم السوفيتية وإن آثاراً عديدة عن الثقافة العربية تقوم في آسيا السوفيتية والقوقاز. وما زال بعض سكان داغستان وشيستو ينجوشتيا يتكلمون بلغة عربية قديمة إلى جانب لغتهم الأصلية، ويستخدمونها في التخاطب والكتابة، حتى في نظم الشعر وفق الأوزان العربية القديمة. ويعتبر قسم أنصار العربية في معهد الدراسات الشرقية وفي جمعية أنصار العربية التي تضم بين أعضائها علماء من كافة أنحاء روسيا دليلاً على الاهتمام الكبير الذي تبديه روسيا بشأن مسائل الثقافة العربية. ورغماً من ظروف الحرب لا يزال العمل مستمراً في تنفيذ مشروعات عربية أدبية وتاريخية. وقد تمت في الأعوام الأخيرة أعمال كثيرة بفضل دراسة الموضوعات العربية باعتبارها من الموارد التي يستقي منها تاريخ الشعوب الروسية

ولم تكن الحرب عائقاً كبيراً لتطور هذه الأبحاث العربية، بل اقتصر أثرها على إرجاء صدور بعض المؤلفات التي تم وضعها وبخاصة في ليننجراد؛ ولم يفقد أو يضع منها أي مؤلف برغم أخطار الحياة ومتاعبها في هذه المدينة وقت الحصار الذي كان مضروباً حولها، فقد حفظت هذه المؤلفات جميعاً بعناية كبرى

ولا يزال يواصل أنصار العربية في روسيا عملهم في هذه الأبحاث

مشكلة النظافة في مصر

أعجبني وأثار تفكيري استطراد الأستاذ الجليل أحمد أمين بك إلى مسألة - النظافة عند المصريين - وهو يسوق حديث المرحوم الشيخ رفاعة الطهطاوي في إعجابه بنظافة

ص: 33

(الفرنساوية) وقد امتطى ظهر سفينتهم إلى أوربا، واستنكاره لقذارة المصريين وهو يعترف بها في حديثه على مضض

والحق أن للمصريين شهرة بعيدة بقلة النظافة لا يفيدنا في شيء أن ننكرها أو نتصام دون سماعها. وقد رد الأستاذ ذلك إلى سببين: أولهما (الفقر المنتشر والبؤس الشائع) اللذان يحولان بين عامة الشعب واستكمال وسائل نظافته؛ وثانيهما تقصير الحكومة في الدعوة الصحية و (عدم تدخل أولي الأمر في نظافة الشعب وتعويده أن يقوم النظافة قيمتها الحقة)

والواقع أن كلا السببين ينقصه الوجاهة، ويعوزه شيء من صدق التأييد. فالفقر والبؤس لا يغرسان عادة القذارة في نفوس طبعت على حب النظافة، وليس صحيحاً هذا الارتباط الذي نتوهمه بين الفقر والقذارة أو بين الغنى والطهارة!

بل إن الأستاذ لينقض رأيه هذا في نفس الكلمة حين يقول: (ومن نعم الله أن تكاليف النظافة رخيصة إذا وجدت نفوساً تأنف القذر) أما الحديث عن مهمة الحكومة في تنظيف الشعب فحديث عجيب، حتى لكأننا - نحن أفراد هذه الرعية - من طينة، ورجال حكومتنا من طينة أخرى

وهب الأمر كذلك، فما قيمة الشعرة الواحدة البيضاء في أديم الثور الأسود؟ ما أثر دعوة الحكومة إلى النظافة إذا صح أن نرجع بالقذارة إلى أسباب طبيعية أقوى من أن تخضع للإرشاد أو تتأثر بتزجية المقال؟

ولتوضيح هذا نقول: إن جذور القذارة عندنا أعمق مما يبدو في كلام الأستاذ؛ ومنبعها - فيما أرى - يرتد إلى أسباب طبيعية ثابتة قوامها البيئة والمهنة، أكثر مما يرتد إلى هذين السببين المعارضين اللذين ساقهما خلال حديثه

فطبيعة الطقس في مصر، بين شدة حرٍ وندرة مطر، مما يلوث الجو ويوبئه، ويهدم سياج النظافة، بل ويضاعف المشقة على من يتحرى ذلك في ملبسه أو في جسمه، بله المسكن وسائر الأدوات والمرافق الأخرى. ولو راقبنا الأجنبي عندنا في صيف أو شتاء لرأيناه راضياً لنفسه بمستوى من النظافة يقل عما يألفه في بلده، وإلا فهو مرغم على بذل مجهود أكبر، ليصل إلى الدرجة التي كان يبلغها هنالك بأيسر المجهود

هذا ولمهنة المصريين الطبيعية أثر لا يقل عما ذكرناه وضوحاً؛ فالفلاحة لا تترك لدى

ص: 34

الزارع المخلص مجالاً للتحرز من أوساخ الأرض. وليس صميما في مصريته من يكره الخوض في الأوحال أو يضيق ذرعاً بهذا الطمي العالق بماء النيل، وإنه لسبب حياتنا ونعمتنا، بل سبب الرزق الذي يتحدر من أيدينا إلى لهوات شعوب وشعوب

وإن قولتنا المشهورة - أرض مصر من ذهب - لحقيقة صادقة لا يعلق بها مجاز، أو يقلل من تصريحها كناية. فليس بضائر فلاحنا أن يوشي ثوبه بالطين والغبار، إذا توشت ثياب غيره بخيوط الذهب، وتزين صدره بقلائد النضار

وأخلص من كل هذا إلى تقرير أمرين: الأول أن النظافة - كخلق أو عادة أو سمها كيف شئت - تخضع في كل أمة إلى ظروف من بيئتها ومن طبيعة عملها خضوعاً تقف معه عند مقاييس خاصة، وتضطرب بسببه في مجال محدود وأفق معين، يختلفان ضيقاً وسعة عن مثلهما في الأمم الأخرى. والثاني: أن إهمال الحكومة وتفشي الفقر. . . هما داعيان - فقط - من دواعي استدامة هذه الحال التي نشاهدها من قذارة أغلب العامة من أهل مصر؛ ولكنهما ليسا العلة الأساسية في وجود هذه الحالة التي قد ترتقي في بعض الأحيان إلى مستوى (العادة) المتأصلة؛ ولكنها تزول مع ذلك - في سهولة ويسر بالغين - إذا نحن هيأنا لأقذر من نختار من المصريين شيئين اثنين فقط: هما الجو اللطيف، والعمل النظيف

(جرحا)

محمود عزت عرفة

ديوان زهر وخمر

إن من عرف ديوان الملاح التائه فقد عرف الأستاذ علي محمود طه على حقيقته: ذلك لأن روح القلق المشوب بالمرح تغلب على شعر صاحب الجندول حتى لتكاد تجعل منه نغمة واحدة تجمع بين الحيرة والفرحة، وهذه الروح التي تعبِّر أصدق تعبير عن طابع الحياة العام، يلمسها قارئ ديوان (زهر وخمر) في سهولة ويسر؛ فإن ثمة موجة هائلة تغمر بفيضها كل شيء في الوجود، عند صاحب هذا الديوان؛ إذ ينظر المرء فيرى المجداف يمرح، والزورق قد رنحته الأمواج، والأضواء ترقص مع الموج، والشعاع يمرح مع الأمواج الخليعة. . . إلى آخر تلك التعبيرات التي تضفي على كل شيء روحاً من البهجة

ص: 35

والمرح. . . وما عسى أن يكون هذا إلا صدى لروح الملاح التائه الذي يستعذب القلق والحيرة، ويجد فيهما الفرح والبهجة؟

إن الأستاذ (علي محمود طه) ليصور لنا في ديوانه الجديد روح الملاح التائه، فيعرض لنا في قصيدته (سارية الفجر) صورة جميلة لغادة فاتنة عبرت به في الصباح الباكر؛ وهنا نراه ينظر إليها نظرة الملاح التائه أيضاً، إذ ينبئنا بأنها عرضت له عند الفجر حتى لقد عجب لهذه الغادة وقال:

هذه الساعة تسعى امرأةٌ

حين لم يخفق جناح الطائر!

وهو لا يقف عند هذا الوصف، وإنما يضيف إليه وصفاً جديداً تكتمل به صورة الحيرة والقلق، فيصور تلك الغادة وقد أخذت تقطع الإفريز كالأسير الهارب من الأسر، وهي تتقي الأعين أن تبصرها، وتلتفت إلى العابرين التفات الحائر، ولا تعبأ بالمطر الذي يصيبها والبرد الذي يلفحها. . . الخ. وينظر المرء مرة أخرى فلا يرى في هذه الصورة غير طيف لتلك الصور التي عرضت لصاحب (الجندول) حين كان يلتقي بغادات أوربا الجميلات فلا يستطيع أن يظفر منهن بغير اللفتة العاجلة والنظرة العابرة! وهل كان الحب عند الملاح التائه غير هذا القلق المغَلَّف بالمرح والبهجة؟

إني لأكاد أجزم بأن الحيرة والمرح هما كل شيء في (شاعرية) الأستاذ علي محمود طه؛ ومن أجل ذلك فإننا نراه يعنف حيناً في تصوير موقف الإنسان أمام الطبيعة، ونراه يفرط حيناً آخر في تصوير متعة الإنسان التي يجدها في الطبيعة. وهو في كلتا الحالتين يعبر عن روح الملاح التائه التي قد يطغي عليها القلق حيناً فتعنف وتشتد، ولكنها لا تلبث أن تعود إلى مرحها فتطرب وتبتهج. والظاهر أن المرح أغلب على تلك الروح، فإن الحيرة تمتزج بالحب فتذهب مرارتها في عذوبته. والحب عند الملاح التائه ينزع إلى أن يصبغ كل شيء في الوجود بصبغته الجميلة المستحبة. وهل ننسى أن صاحب الجندول هو الذي يقول:

كل نجم مهجة تهفو

وعينٌ لا تنامْ

وشعاع البدر معش

وق به جُنَّ الغمامْ

يا حبيبي كل عَيْشٍ

ما خلا الحبَّ حرامْ

ص: 36

أجل! هذا ما يقوله صاحب (زهر وخمر)؛ ومن قبله قال جيته شاعر الألمان: (ليس ثمة نعمة في هذه الحياة، أعظم من أن يَعشِق المرء ويُعْشَق)

زكريا إبراهيم

محمد بن عبد الوهاب

أصدر صديقنا الأستاذ الفاضل أحمد عبد الغفور العطار الأديب الشاعر الحجازي المعروف كتابه الجديد عن هذا الزعيم العربي المصلح، فسد في كتب التراجم فراغاً ملموساً وأسدى به إلى الزعيم المسلم الصادق يداً سيذكرها له المعجبون بمحمد بن عبد الوهاب في جميع الآفاق. والكتاب برغم المآخذ القليلة التي يمكن تداركها في الطبعة الثانية هو مصدر نافع يفيد كل من يريد الإلمام بالمصلح النجدي كما يلقي الضوء على هذه الشخصية العربية التي جددت سنة الرسول الكريم ودعت إلى العود بدينه إلى الفطرة التي صدر عنها ويشر بها، واتخذ من رسول الله أسوته الحسنة في كل ما تجشمه بسبيلها. ونحن في مصر نرحب كل الترحيب بالكتاب الجديد ونتمنى له الذيوع والانتشار فإنه لهما أهل

دريني خشبة

ص: 37