الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 52
- بتاريخ: 02 - 07 - 1934
في الموقف الأدبي الحاضر
كان ظهور (الملاح التائه) و (وراء الغمام)، وصدور (الوادي) في لونها الجديد سبباً قريبا في حدوث هذه الضجة الأدبية القائمة. لان الديوانين على رغم ما قيل فيهما نتاج من الطراز الأزل يستحق العناية ويستوجب النقد ويستدعي الخلاف؛ ولان الشاعرين - وان كانا بحكم ثقافتهما غريبين عن العالم الأدبي - قد جذبا إليهما الأنظار، وعطفا عليهما الأنصار، بالطبع الموهوب والذوق الناقد. فلكل منهما في كل قهوة رقيب ورفيق، وفي كلحيفة عدو وصديق، وفي كل ناد مكبر ومنافس؛ ولان الوادي قد أخذت منذ حين تفتح لأدب الشباب (محضراً) في كل أسبوع، وقد تطوع للشهادة له وعليه أساتذة النقد في الجهاد والبلاغ. وكانت الحملة عنيفة على احبي الديوانين لحظهما الوافر من الإجادة ومحلهما الرفيع من الفن؛ فكابد الشاعر الطبيب مبضع العقاد، وقاسى الشاعر المهندس معول المازني. وكان الدفاع عنهما ألكن الحجة أرعن الدليل، لصرفه الجهد في رد المآخذ، ولو عني بتبيين المحاسن كما عني بتحسين المساوئ لأخفى ما ظهر تحت مجهر النقد من ضئال العيوب في بهر الجمال وروعة الصنعة. ولكل عمل من أعمال الناس جهة للمدح وجهة للذم لا تتشابهان على ناظر. والنقدناعة دقيقة لا يحسنها في الغالب إلا شيوخ الادب، لانهم استكملوا عدتها، واكتسبوا ملكتها بإدمان الدرس وطول المران وكثرة التجربة، فرد مآخذهم إذا برئت من الشطط والاعتساف يكون في الكثير الغالب من وراء القدرة الشابة.
كان أسلوب النقد ولا سك مشوبا بصلف الاستاذية، وعنت الحزازة، وعبث التهكم. وحجة النقاد انهم بالطبيعة أولياء الفن، وأمناء هيكله، وأصحاب اذنه، فلا يجمل بهم أن يخلوا فيه من لا يثبت معدنه على شدة السبك، ويخلص جوهره على تقصي النظر؛ وان الأدب اعسر من أن ينال بالدعوى العريضة، والدعاية المريضة، والأساليب الملفقة.
وكان طبيعيا أن يأنف الشباب من هذه اللهجة، ويألموا من هذه الشدة، ويزعموا أن هناك ائتمارا بهم وإنكارا بأدبهم، فيسوء ظنهم بالنقد، وتفيض مجالسهم بالشكوى، ويقابلوا الأستاذية بالتمرد، والحزازة بالعناد، والتهكم بالحنق، وبسطوا الأمر على انه نزاع بين أدبين: قديم يشتهيه الموت، وجديد تبتغيه الحياة، وتنفرج الحال أخيرا بين جيلين مقام الأول من الثاني مقام المدرب المشفق، والمرشد الناصح، والدليل المجرب.
إن شيوخ الأدب وشبابه إنما يصطنعون أدوات واحدة، ويعالجون موضوعات متقاربة،
وينتجون نتائج متشابهة. فتاريخ الأدب يوم يكتب عن هذه الفترة لا يجد للشباب أسلوبا خاصا يسجله، ولا مذهبا جديدا يحلله، ولا أثرا مستقلاً يشرحه ويعلله. إنما هي مطامح الفتوة إلى المثل الذي توحيه الطبيعة، وتقتضيه الفطرة، ويلهمه الاطلاع، تحاول همتهم الوثابة أن تدنيهم منه فيقعد بهم عجز الوسيلة ونقص العدة.
وليس يسوغ في العقل أن يعد التسامح في اللغة والتساهل في الأسلوب والتجاوز عن القواعد ميزة، فان باس الشباب لم ينكسر أمام الشيوخ إلا في هذه الناحية.
والحق أن المسارعة إلي الإنتاج العام قبل استكمال وسائله الأولى غميزة بينة في أدب الجيل الحديث. فان الإلمام باللغات الأجنبية، والوقوف على قواعد الفن الاوربية، لا يجعلان المرء كاتبا في العربية ما لم يدرس هذه اللغة دراسة قوية نزدها طيعة لقلمه، لينة على لسانع، والاعتماد في اكتساب الأدب على محاكاة النماذج وتقليد المثل لا يقوم عليه فن ثابت، ولا ينهض به فنان معدود. وما كان المثل ليغني عن القاعدة وهو لا يضيء إلا ناحية من الطريق، والقريحة نفسها، وهي غريزة الأدب وافن في الإنسان، ليست من الكمال اليوم بحيث تجزى عن القواعد؛ كذلك الذوق وهن أداة الجمال كما أن العقل أداة الحق، لا يمكن أن يكون طريقا مأمونة إلى عمل أدبيحيح. فانه موهبة طبيعية تختلف في الناس وفي الأجناس. وتحتاج إلى المران بالدرس والعادة، وليس لها ما للعقل من سلطان وثبوت؛ وانك لتجد عقلا مطلقا مستقلا لا يختلف ولا يتغير، لان هناك حقيقة مستقلة تتميز بالوضوح والجلاء، ولكنك لا تجد مهما استقريت واستقصيت ذلك الذوق المطلق المستقل الذي لا يختلف باختلاف الألوان والأزمان والأمكنة. أما القواعد فهي نتيجة التجارب وخلاصة الملاحظات على طول القرون. وضعتها القرائح المنطقية المتعاقبة بعد أن فقهت أصول الأشياء، ودرست علائق هذه الاصول، واستخلصت نتائج هذه العلائق، ثماغت هذه النتائج قواعد وقالت لك إنها امثل الطرق لاحسان العمل دون أن تخضع عبقريتك إليها، ولا أن تسمح لهواك بالخروج عليها، فان بين الاستبداد والفوضى نظاما أحق أن نؤثر ويتبع.
وبعد، فان الفنان والناقد إنما يتعاونان على فهم الجمال، كما يتعاون القاضي والمحامي على فهم العدل، فليس من الخير لأحدهما أن يكون مع الآخر على حد منكب؛ وان الأدب الشيخ
والأدب الشاب ليتعاونان على قيادة النفس، كما يتعاون البصر والجناحان على قيادة الطائر. فليس من خير أحدهما أن يكون من الآخر على قطيعة.
والأدب الرفيع من بعد ذلك كلهلة المرء بربه، ينفي الأذى عن لسانه ويذهب الغل عن قلبه.
أحمد حسن الزيات
ديمقراطية الطبيعة
للأستاذ أحمد أمين
يعجبني البحر في جماله وبهائه، وجلاله ولا نهايته، ويعجبني كذلك في ديمقراطيته، فهو لا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التي خلقتها المدنية، يجب أن يتجرد أولا من ملابسه التي تميز بين الغني والفقير، ومن ريائه ونفاقه ومظاهره التي اصطنعها ليجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها في بعض. ففي البحر تتساوى الرءوس، لا غني ولا فقير، ولا ذو جاه ولا عديم الجاه، ولا عالم ولا جاهل ، ولا حاكم ولا محكوم، لا يتميزون بشيء فلا بلباس البحر، وفي الحقيقة ليس هو لباس البحر، وإنما هو لباس البر، فليس للبحر لباس إلا ماؤه. ودليل انه لباس البر أن الناس حاولوا به أن يتميز بعضهم من بعض، واتخذوا منه شعارا للغنى والأناقة واللباقة والوجاهة، والبحر لا يعرف شيئا من ذلك، إنما يعرف ذلك البر، ومن اجل هذا سرعان منا ينغمس الناس في البحر، فيسدل بمائه الأزرق الجميل ستارا على كل أثواب الرياء حتى لا ترى بعد إلا رءوسا عارية لا يميز بينها شيء من الصنعة، ثم هو يرسل أمواجه تداعب الناس على المواء، فتغازل الأسود كما تغازل الابيض، وتصفع الجميل كما تصفع القبيح، وتعبث بلحية العالم، كما تلعب براس الجاهل، وأحيانا يهيج هائجه، وتثور حفيظته، فيزفر من الغضب، حتى ليكاد يخرج من لهابه، ويطفر من ثيابه، ويربد وجهه فيلفظ بالزبد، وينتفخ ويرتعد، ويرقص من غير طرب؛ وهو في هذه الحال لا ينسى ديمقراطيته، يأتي للباخرة الضخمة قد أخذت زخرفها وإزَّينت وظن أهلها انهم قادرون عليه فيبتلعها في لحظة، لا تغني عنه محصنات العلم القديم ولا الحديث، كما يبتلع أحيانابيا وديعا وشيخا ضعيفا، ليبرهن انه لا يعبا بقوة ولا ضعف، ولا يخشى باس كمي، ولا يرحم ضعف اعزل، سواء هو في هزله وجده، وسواء هو في حلمه وغضبه ـ ما اجمل البحر، وما اجله، وما ألطفه، وما أقساه!
على أنه يظهر لي أن الطبيعة في جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية، ولا أرستقراطية إلا في الإنسان الكاذب، فالشمس ترسل أشعتها الذهبية، والقمر أشعته الفضية، على الماس سواء: على المؤمن والكافر، والأسود والابيض، والغني والفقير، والقصر الكبير.
ويأتي الجو بريح سموم فتلفح وجوه الناس على السواء، لا تميز عظيما ولا حقيرا، ولا
شريفا ولا وضيعا؛ ثم يأتي بريح طيبة تنعش الناس كذلك، لا يعرف في شيء من ذلك محاباة، ولا يعرف طبقات، ولا يعرف أي نوع من أنواع التفاوت التي تواضع عليها الناس، يرسل في الصيف شواظا من نار فيدخل على الأمير في قصره، وعلى الفقير في كوخه، فلا يهاب عظيما، ولا يحتقر وضيعا، ويرسل في الشتاء برده القارس فلا يستطيع أن يتقيه الغني بصوفه وملابسه، ولا بمدفأته وناره؛ كما لا يتقيه الفقير في عدمه وبؤسه؛ ثم تطلع شمس جميلة، ويعتدل الجو، فتحتضن الطبيعة الناس على السواء وتكون لهم جميعا أما حنونا، مشفقة بارة_أن تحدث الباشا أو البيك في نفسه بأنه فوق طبقات العامة، وانه يستطيع في شرع العرف والعادة أن ينعم بما لم ينعموا، فتفسح له الطريق، ويخلى له السبيل، وتفتح له أبواب المجتمعات، ويعامل أولاده وأقاربه بما لا يعامل به الفقراء، فلن تحدثه نفسه أن يمتاز من الفقير في حر ولا برد، ولا نور ولا ظلام، فان أخطأ فيذلك وظن انه يغالب الطبيعة في شيء من قوانينهافعتهفعة أمن بعدها بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأدرك انه أن علا الناس بماله أو جاهه، وان تلاعب بأوضاع النام لسخف الناس، فهو أمام أوضاع الطبيعة حقير ذليل.
ثم يأتي القدر فينثر نعمه ونقمه، وشره وخيره على الناس جميعا، فصحة في الأغنياء والفقراء، وشره وخيره على الناس جمنعا، فصحة في الأغنياء والفقراء، ومرض في الأغنياء والفقراء. وتجد غنيا فاتر القوى منقوف الوجه، يبيت يتضور من الألم، يود لو خرج عن كل ماله وجاهه لتعود إليهحته، وبجانبه فقير مستحكم الخلقة، متين البنية، ممتلئ قوة وشدة وصلابة_وتجد جمالا في الأغنياء والفقراء، وقبحا في الأغنياء والفقراء، فهذه فقيرة مشرقة الجبين، افية الاديم، مفرطة الجمال، معتدلة القوام، لا تفتح العين على اجمل منهاورة، ولا أتم منها حسنا؛ وهذه سيدتها الغنية دميمة الخلقة، منكرة الطلعة، تنبو عن منظرها الأحداق، وتتفادى من مراها الأبصار، تريد أن تتجمل بالصناعة والأصباغ والحلي والملابس، فلا يزيدها ذلك كله إلا قبحا، على حين أن جارتها الفقيرة جميلة في طبيعتها، جميلة في بساطتها، جميلة حتى في ثيابها المهلهلة!
وللقدر في ذلك بدع، فاشهر طبيب في القلب يموت بالقلب، واعظم جراح يموت بالتسمم. وتلد الفلاحة الفقيرة في الطريق وهي حاملة قدرتها مملوءة ماء على رأسها، ثم يقطع
(الخلاص) وتحمل طفلها وتذهب إلى بيتها سالمة غانمة؛ وسيدتها الغنية يحلل دمها وغير دمها قبل الوضع، ويعقم كل شيء في حجرة ولادتها، ويقف مشاهير الطبيبات والأطباء على بابها، حتى إذا أذنت ساعة الولادة بالقدوم استخدم كل ما وصل إليه الطب الحديث، والكيمياء بالحديثة، والعلم الحديث، وأمعنت جمهرة الأطباء في التطهير والنظافة واتخاذ وسائل الراحة والحصانة، وغير ذلك مما لم أذكر منه إلا قليلا؛ ثم هي بعد تصيبها حمى النفاس، ويقف الطب والعلم دهشا حائرا، ثم تسلم الروح إلى ربها، هازئا بكل ذلك القدر.
وهناك نوع من الأرستقراطية غريب، هو الأرستقراطية العلمية، فالمتعلمون ذوو الشهادات يعدون أنفسهم_وربما عدهم الناس أيضا_نوعا ممتازا من الناس، يختلفون عنهم نوعا من الاختلاف، ويرتفعون عليهم نوعا من الرفعة، كما ترتفع طبقة الأغنياء وكما ترتفع طبقة الامراء، فالمتعلم ينظر إلى أخيه الشقيق الجاهل نظرة فيها شيء من التعاظم، وشيء من الازدراء، وشيء من الغرور، وان ساواه في الدم، وان ساواه في الغنى أو الفقر، وهو لغروره يظن أن شهادته تخوله الحق أن تكون آراؤه في كل شيء خير الآراء، وان غير الجامعي لا يحق له أن يبدي رأيا بجانب رايه، حتى فيما ليس له اختصاص له اختصاص فيه.
وهو كذلك نوع من الأرستقراطية الكاذبة لا تعبا بها الطبيعة ولا تعيرها أي التفات، فقد جعلت بين المتعلمين أذكياء وأغبياء، وجعلت بين الأميين أذكياء وأغبياء، بل من غرور المتعلمين أن يسموا من لم يقرا ولا يكتب جاهلا وأميا ونحو ذلك من الأسماء، ويسموا من يقرا ويكتب متعلما، كأن وسيلة العلم والحكمة والعقل القراءة والكتابة وحدهما، ونحن لو نحينا غرور المتعلمين جانبا لهزئنا بالقراءة والكتابة في كثير من الأحيان، ولوجدنا وسيلة من وسائل الرقي، ولكن بجانبهما وسائل أخرى، ولوجدنا انهما لا تستحقان هذا الغرور الذي ينشئ نوعا من الأرستقراطية، فالحكمة في تصريف الأمور لا تعتمد على التعليم الجامعي، وسعة العلم كما تعتمد على الفطرة البشرية، والغريزة الإنسانية. ومن ثم قد ترى الجامعي الحائز لاقى الشهادات العلمية وهو أخرق في الحياة، سعيه في التصرف، وأخاه الذي يسمونه جاهلا أميا حكيما في تصرفه مدبرا لشؤونه وشؤون اخوته الجامعيين، وترى الأمة قد تصاب على يد متعلميها في أحوالها السياسية والاجتماعية اكثر مما تصاب على يد
جاهليها، والفلاح القروي الأمي قد يرزق من الحزم في تصريفه، وبعد النظر في آرائه، وصدق الشعور في وطنيته، ما لا يرزقه أخوه الأستاذ في الجامعة أو العالم الحائز لأرقى الدرجات العلمية، بل قد يصدر من الرأي العام الجاهل في شؤون وطنه، وفي المسائل الهامة التي عرض عليه ما يفوق رأي متفلسفة المشرعين، وحيل القانونيين.
إن نظرنا إلى الذكاء، فالذكاء مشاع بين المتعلم والجاهل، وان نظرنا إلى حكمة التصرف، والحزم في إدارة الأمور، وتدبير شؤون الحياة، فذلك أيضا أمر مشاع بين الناس، ففيم غرور المتعلمين وإنشاؤهم أرستقراطية بجانب أرستقراطية الأموال والأعمال والطبقات. يطالبون أن يكال لهم المال جزافا، ويطالبون ألا يهينوا أنفسهم في عمل، ويطالبون أن يكون ميراثهم من آبائهم اكبر نصيب، ويطالبون أن يكون زبدة ما تخرجه الأمة لهم وحثالته لما يسمونه الجاهلين.
ما اسعد الأمة تخفف من غلوها فغي أرستقراطيتها، بجميع أنواعها، وتقلد الطبيعة في ديمقراطيتها واعتدالها.
احمد أمين
موت أم
للأستاذ مصطفىادق الرافعي
رجعت من الجنازة بعد أن غبرت قدمي ساعة في الطريق التي ترابها تراب وأشعة، وكانت في النعش لؤلؤة آدمية محطمة هي زوجةديق طحطحتها الأمراض ففرقتها بين علل الموت، وكان قلبها يحيها فأخذ يهلكها، حتى إذا دنا أن يقضي عليها رحمها الله فقضى فيها قضاءه. ومن ذا الذي مات له مريض بالقلب ولم يره من قلبه في علته كالعصفورة التي تهتلك تحت عيني ثعبان سلط عليها سموم عينيه!
كانت المسكينة في الخامسة والعشرين من سنها، أما قلبها ففي الثمانين أو فوق ذلك؛ هي فيسن الشباب وهو متهدم في سن الموت.
وكانت فاضلة تقيةالحة، لم تتعلم ولكن علمها التقوى والفضيلة ، واكمل النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحل مشاكل وتخلق مشاكل؛ ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الأيمان تقر في كل شيء معناه السماوي فتؤمن بأحزإنها وأفراحها معا، وتأخذ ما تعطى ن يد خالقها، رحمة معروفة أو رحمة مجهولة. هذه عندي تسمى امرأة، ومعناها المعبد القدسي؛ وتكون الزوجة، ومعناها القوة المسعدة؛ وتصير الام، ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها.
ومهما تبلغ المرأة من العلم فالرجل اعظم منها بأنه رجل، ولكن المرأة حق المرأة هي تلك التي خلقت لتكون للرجل مادة الفضيلة والصبر والإيمان، فتكون له وحيا وإلهاما وعزاء وقوة، أي زيادة في سروره ونقصا من آلامه.
ولن تكون المرأة في الحياة اعظم من الرجل إلا بشيء واحد هوفاتها التي تجعل رجلها اعظم منها.
ومشيت من البيت الذي ألبسته الميتة معنى القبر_إلى القبر الذي البس الميتة معنى البيت. وأنا منذ مشيت في جنازة أمي_رحمها الله_لا أسير في هذه الطريق مع الأحياء، ولكن مع الموتى، فاتبعديقا ليس رجلا ولا امرأة لأنه من غير هذه الدنيا، وامشي في ساعة ليست ستين دقيقة لإنها خرجت من الزمن، ولا أرى الطريق من طرق الحياة لأنني فيحبة ميت؛ وتصبح للأرض في رأيي جغرافية أخرى عمى الناس عنها لشدة وضوحها، كالألوهية
خفيت من شدة ما ظهرت.
يقولون: أن الحياة هي. . . هي ماذا، ويحكم أيها المغرورون؛ أفلا ترون هذه الصلة الدائمة بين بطن الأم وبطن الأرض؟
لعمري كيف تجعل هذه الحياة للناس قلوبا مع قلوبهم، فيحس المرء بقلب، ويعمل بقلب آخر؛ يعتقد ضرر الكذب ويكذب، ويعرف معرة الإثم ويأثم، ويوقن بعاقبة الخيانة ثم يخون؛ ويمضي في العمر منتهيا إلى ربه_ما في ذلك شك_ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عمل من قد فر من ربه. . .
هبت الريح في السحر على روضة غناء فطابت لها فعقدت
عقدتها أن تتخذ بها بيتا في ذلك المكان الطيب لتقيم فيه. . .
يالها من حكمة من التدبير! تزعم الريح الإقامة على حين كل
وجودها هو لحظة مرورها، وتحلم بالقرار في البيت وهي لا
تملك بطبيعتها أن تقف.
يالها حكمة سامية! لا يسكنها من المعنى إلا اسخف ما في الحمق!
همد الحي وانطفأت عيناه، ولكنه تحرك في تاريخه مما ضيق على نفسه أو وسع، واصبح ينظر بعين من عمله أما مبصرة أو كالعمياء؛ فلو تكلم يصف الحياة الدنيا لقال: أن هذه النجوم على الأرض مصابيح مأتم أقيم بليل. وما اعجب أن يجلس أهل المأتم في المأتم ليضحكوا ويلعبوا!
ولو نطق الموتى لقالوا: أيها الأحياء، أن هذا الحاضر الذي يمر فيكون ماضيكم في الدنيا هو بعينه الذي يكون مستقبلكم في الآخرة، لا تزيدون فيه ولا تنقصون. وان الدنيا تبدأ عندكم من الأعلى إلى الأدنى، من العظماء إلى الفقراء؛ ولكنها تنقلب في الآخرة فتبدأ من الفقراء إلى العظماء؛ وانتم ترسمونها بخطوط المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة. أن التام على الأرض من تم بمتاعها ولذاتها، ولكن التام في السماء من تم بنفسه وحدها.
يا أسفا! لن يعول الميت للحي شيئا، ومن يدرن؟ لعلنا ونحن نلحد للموتى وننزلهم في قبورهم يرون بأرواحهم الخالدة إننا نحن موتاهم المساكين، وإننا مدفونون في القبر الذي يسمونه (الكرة الأرضية)! وهل الكرة الأرضية من اللإنهاية إلا حفرة برجل نملة لتدفن فيها نملة. . .
الحياة. أتريد أن تعرفها على حقيقتها؟ هي المبهمات الكثيرة التي ليس لها في الآخر إلا تفسير واحد: حلال أو حرام.
ورجعنا مع الصديق إلى بيته، وله خمسة أطفالغار لو أنهم هم الذين انتزعوا من أمهم لترك كل واحد على قلبها مثل المكواة المحمى عليها في النار إلى أن تحمر. ولكن أمهم هي التي انتزعت منهم، فكان بقاؤهم في الحياة تخفيفاً لسكرة الموت عليها. وغشيتها الغشية فماتت وهي تضحك، إذ تراهم نائمين تحت جناح الرحمة الإلهية الممدود، وقالت: إنها تسمع أحلامهم، وكانوا هم عقلها في ساعة الموت!
تبارك الذي جعل في قلب الأم دنيا من خلقه هو، ودنيا من خلق أولادها! تبارك الذي أثاب الأم ثواب ما تعاني، فجعل فرحهاورة كبيرة من فرحغارها!
وجاء أكبر الأطفال الخمسة وكأنه ثمانية أرطال من الحناة، لا ثمانية ـعوام من العمر؛ جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوب مطمئنة، ' ذ كان في عينيه الباكيتين معنى فقدم الأم!
وطغت عليه الدموع فتناول منديله ومسحها يبدو الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها!
وظهر الانكسار في وجهه يعبر ببلاغة انه قد أحس حقيقة ضعفه وطفولته بازاء المصيبة التي نزلت به؛ وجلس مستسلماً تترجم بيئته معاني هذه الكلمة (رفقا بي!)
ثم تطير من عينه نظرات في الهواء كأنما يحس أن أمه حوله في الجو ولكنه لا يراها.
ولا يصدق إنها ماتت؛ فانوتها حي في أذنيه لا يزال يسمعه من أمس.
ثم يعود إلى وجهه الانكسار والاستسلام، ويتململ في مجلسه فينطق جسمه كله بهذه الكلمة (يا أمي!)
أحس_ولا ريب_أنه بمضيعة حدودها الحياة، لان الوجود كان أمه.
ولمس خشونة الدنيا منذ الساعة، بعد أن فقد الصدر الذي فيه وحده لين الحياة، لان فيه قلب
أمه وروحها.
وشعر بالذل ينساب إلى قلبه الصغير لان تلك التي كان يملك فيها حق الرحمة فد أخذت منه وتركته بلا حق في أحد، وليس لأحد أمان.
ولبسته المسكنة لان له شيئا عزيزا أصبح وراء الزمان فلن يصل إليه.
ولبسته المسكنة لأنهار وحده في المكان، كما هو وحده في الزمان.
وارتسم على وجهه التعجب بأنه يسأل نفسه: (إذا لم تكن ـمي هنا، فلماذا أنا هنا؟!)
ثم تغرغرت عيناه فيخرج منديله ويمسح دمعه بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها!
ونهض الصغير ولم ينطق بذات شفة. نهض يحمل رجولته التي بدأت منذ الساعة.
انتهت - أيها الطفل المسكين - أيامك من الأم؛ هذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف الغد فيها قبل أن يأتي معرفتك أمس الذى مضى، اذ يأتي الغد ومعك أمك.
وبدأت - أيها الطفل المسكين - أيامك من الزمن، وسيأتي كل غد محجباً مرهوباً؛ إذ يأتي لك وحدك، ويأتي وأنت وحدك!
الأم؟ يا إلهي، أيغير على الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم؟!
مصطفىادق الرافعي
في تاريخ القضاء في مصر الإسلامية
صور من استقلال القضاء وصور من خضوعه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم تعرف نظرية فصل السلطات الحديثة كثيراً في العصور الوسطى، ولم تطبق بالأخص في ظل الأنظمة المطلقة التي سادت في تلك العصور، فالسلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية التي تقوم الدولة الحديثة على مبدأ الفصل بينها، كانت تجتمع في ظل الأنظمة المطلقة في نفس اليد العليا التي تصرف في سائر الشئون العامة. ولم تشذ الدول الإسلامية عن هذه القاعدة، فقد كان الخليفة أو السلطان أو الأمير نجمع في شخصه كل السلطات ويزاولها مجتمعة أو منفردة على يد عماله. نعم كان هناك توزيع للسلطات، ولكن نظري محض، فقد كانت أصول التشريع قائمة تعدل وتفسر في ظل الدول المختلفة طبقاً لمختلف النزعات المذهبية والسياسية، وكان للقضاء جهة خاصة يعمل في دائرتها، وكان الوزراء ومن إليهم من الكتاب والعمال يمثلون الناحية التنفيذية: ولكن هذه الجهات الثلاث التي تقابل السلطات الثلاث في الدولة الحديثة كانت تمتزج دائماً من الوجهة العملية، وتخضع دائماً سواء منفردة أو مجتمعة لرأي الخليفة أو السلطان أو الأمير؛ وكان هذا الرأي دائما فوق كل قانون وقضاء ونظام، وان كان في معظم الأحيان يلتمس له ظاهر من القانون أو النظام.
وكان القضاء كالسلطة التنفيذية دائماً عرضة للتأثير والتدخل ولكن السلطة العليا كانت تؤثر، في معظم الأحيان، أن تبدو في الظاهر محترمة لرأي القضاء بعيدة عن التأثير في سير العدالة. ذلك أن القضاء كان يتشح دائما بثوب الدين، ويستمد سلطانه من كتاب الله وسنة رسوله، فكان التدخل المرغوب كثيرا ما يحمل طابع التفسير لنص من النصوص. وكان القضاة أعوان السلطان قبل أن يكونوا أعوانا للعدالة، وتقدير استقلال القضاء وحريته يرجع قبل كل شيء إلى السلطان: وقد كان ثمة خلفاء وسلاطين يقدرون استقلال القضاء، وينحنون أمام كلمته؛ وكان ثمة قضاة أقوياء النفس والجنان يتمسكون برأيهم وسلطتهم في الحكم، ويأنفون من التدخل والتأثير. وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي تؤيد هذه الحقيقة نورد بعضها في هذا الفصل، وهي مما يتعلق بتاريخ القضاء في مصر الإسلامية.
كان من قضاة مصر في أوائل القرن الثالث الهجري، الحارث بن مسكين، ولي قضاء مصر الأعلى من قبل الخليفة المتوكل سنة 237هـ. ويصف لنا الكندي مؤرخ قضاة مصر حتى منتصف القرن الرابع، شخصية الحارث بن مسكين وطريقته في الحكم، نقلا عن ابن قديد، وهو فقيه ومحدث مصري عاصر الحارث وعرفه. كان الحارث شخصية غريبة قوية، وكان شديد الحرص على حريته واستقلاله، وكان مقعداً، يركب حمارا مبرقعا، ويحمل في محفة إلى مجلس الحكم بالمسجد الجامع (جامع عمرو)، وكانارما شديد الوطأة جريئا في أحكامه يأبى تلقى الولاة والسلام عليهم. وطلب إليه أن يلبس السواد، وهن شعار بني العباس فأبى حتى انتهى بعض أصحابه بإقناعه بأنه إذا لم يرتد السواد اتهم بالانحراف عن بني العباس والميل إلى بني أمية، فارتدى عندئذ كساء اسود من الصوف. وكان كثير الاجتهاد والابتكار في إجراءاته وأحكامه. ويورد لنا الكندي طرفا من هذه الإجراءات والأحكام، ويذكر لنا كيف أن الحارث بن مسكين آثر الاستقالة على قبول التدخل في أحكامه. وذلك أنه رفع إليه نزاع على ملكية دار الفيل، وهي إحدى دور الفسطاط الشهيرة، وكانت لأبي عثمان مولى الصحابي مسلمة بني مخلد الأنصاري؛ وكان قد قضى في شإنها قبل الحارث عدة من قضاة مصر، فقضى فيها أولا هرون بن عبد الله بإخراج بني البنات من العقب باعتبار أن لا حق لهم في الميراث؛ ولكن خلفه محمد بن أبى الليث قضى بإلغاء هذا الحكم، وحكم لبني السائح المدقين بنصيبهم في الدار؛ فلما رفع النزاع مرة أخرى إلى الحارث بن مسكين، فسخ حكم بن أبى الليث، وقضى بإخراج بني السائح من الميراث، فسافر ابن السائح إلى بغداد، ورفع إلى الخليفة المتوكل تظلما من حكم الحارث والتماسا بإعادة النظر في قضيته، فأحال المتوكل القضية إلى الفقهاء، فحكموا فيها على مذهب الكوفيين، وقضوا بإلغاء الحكم، وكان حكم الحارث على مذهب المدنيين. فلما بلغ الحارث ما وقع، كتب في الحال إلى المتوكل يرفع إليه استقالته من منصبه؛ وقدر المتوكل دقة الموقف فقبل الاستقالة، وكتب وزيره إلى الحارث بقبولها فيما يأتي (إن كتابك وصل باستعفائك فيما تقلدت بأمر القضاء بمصر، وأمر (أمير المؤمنين) أيده الله بإجابتك إلى ذلك. . استعافا لك مما سالت، وتفضل لما أدى إلى موافقتك فيه، فرأيك أبقاك الله في معرفة ذلك والعمل بحسبه) وغادر الحارث بن مسكين منصبه سنة 245هـ، وضرب باستقالته مثلا
قويا في الكرامة والاستقلال بالرأي والحرص على حرمة القضاء وقدسه.
ولما تولى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون قضاء المالكية بمصر سنة 786هـ، في عهد الظاهر برقوق، أبدى في تصرفاته وأحكامه تمسكا شديدا بالرأي، وإعراضا قويا عن كل مؤثر وشفاعة، خلافا لما كانت عليه أحوال القضاء يومئذ، وكان المؤرخ الفيلسوف يسبق عصره بمراحل في فهم استقلال القضاء ووجوبونه عن كل مؤثر؛ ولكنرامته في تطبيق هذا المبدأ أثارت عليه عاصفة من الحقد والسعاية؛ ويقول لنا ابن خلدون في هذا الموطن في (تعريفه) كلاما طويلا عما كان يسود القضاء المصري يومئذ من فساد واضطراب، وما يطبع الأحكام من غرض وهوى، وعما كان عليه معظم القضاة والكتاب والشهود من جهل وفساد في الذمة، وانه حاول إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وقمع الفساد بحزم وشدة، وسحق كل سعاية وغرض يقول (فقمت بما دفع إلى من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الله لومة، ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة، مسويا بين الخصمين اخذ الحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين)
وهذا تصوير قوي لاستقلال القضاء لا يتفق كثيرا مع روحالعصر، ولكن يتفق مع شخصية الفيلسوف القوية، ومع ثقته بنفسه، وسموه برأيه. وفد انتهت العاصفة التي آثارها عليه خصومه باستقالته أو إقالته من منصب القضاء لعام فقط من توليته، وينسب خصوم الفيلسوف تخليه عن منصب القضاء، لأسباب غير استقلاله برأيه ونزاهته في أحكامه، ولكن مؤرخا مصريا كبيرا قريبا من عصره هو أبو المحاسن بن تغري بردي يفر الفيلسوف على عليله، ويقول لنا مشيرا إلى ولايته للقضاء (فباشره بحرمة وافية وعظمة زايدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة، وشفا عات الأعيان. . .)
على أن فهم استقلال القضاء على هذا النحو كان من الأمور النادرة في تلك العصور وكان مرجعه شخصية القضاة أنفسهم، وليس روح العصر أو نظمه. وفد كانت القاعدة العامة كما قدمنا انه لا استقلال للقضاء إلا في حدود رأي السلطة العليا وهواها؛ وكان خضوع القضاء لرأي هذه السلطة ووحيها يبدو بنوع خاص في بعض القضايا الجنائية الهامة التي تريد السلطة العليا أن تسبغ فيها لون القانون والعدالة على قصاص أو انتقام ترى إجراءه، أو
القضايا المدنية الهامة التي يراد فيها اغتيال مال وثروات يطمع فيها باسم الشريعة وقضائها. وكثيرا ما كانت السلطة العليا تغفل في إجراءاتها وأعمالها هذه الصبغة الشرعية، ولكنها كانت في أحيان كثيرة ترى من حسن السياسة إلا تحمل مسئولية القصاص أو الانتقام أو مصادرة الأموال، وان ترد هذه المسئولية إلى القضاء، وهو في نظرها ورأيها أداة من أدوات التنفيذ التي تسيطر عليها وتسيرها طبقا لمصالحها وأهوائها.
وإذا كنا لا نستطيع أن نظفر في تاريخ القضاء في تلك العصور بأمثلة كثيرة لتطبيق مبدأ استقلال القضاء، فأنا نستطيع أن نظفر بالعكس بكثير من الأدلة والوقائع على خضوع القضاء للسلطة العليا ايا كانت وتبعيته لها وتوقفه على إرادتها وهواها. ونكتفي بان نورد لتأييد هذه بالحقيقة مثلا واحدا من تاريخ القضاء في أوائل الفرن التاسع الهجري، نقله إلينا المقريزي وهو من معاصريه وشهوده. وخلاصته انه في عهد الناصر فرج سلطان مصر، أنشأ الأمير جمال الدين الاستادار مدرسة عظيمة بالقاهرة، أوقف عليها أوقافا جليلة، وكان إنشاؤها على ارض عليها أبنية موقوفة على بعض الترب، فاستبدل بها الأمير أرضا من جملة الأراضي الخراجية بالجيزة، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم بصحة الاستبدال وهدم البناء أقام مكانه المدرسة. ثم نكب الأمير جمال الدين وقتله السلطان، وحسن له بعض وزرائه أن يستولي على المدرسة وان يضع اسمه عليها، فادعى السلطان عندئذ أن الأرض الخراجية المستبدل بها كانت ملكه واغتصبها الأمير جمال الدين دون إذنه، وحكم له قاضي قضاة المالكنة، بان بناء المدرسة الذي أقيم على ارض لم يملكها الواقف، لا يصح وقفه، وانه باق على ملكية بانيه إلى حين موته، وعندئذ انتدب الشهود لتقدير قيمة البناء، فقدر باثني عشر ألف دينار ودفع المبلغ إلى أولاد جمال الدين وباعوا المدرسة للسلطان، فصارت ملكه، ثم أوقف السلطان أرض المدرسة وبنائها بعد أن قضى له قاضي الحنفية بصحة الاستبدال، وحكم له القضاة الأربعة بصحة هذا الوقف؛ بعد أن قضوا من قبل بصحة وقف الأمير جمال الدين. فلما قتل الملك الناصر، وتولى مكانه الملك المؤيد، تولى الوزارة بعض أصدقاء جمال الدين، وسعوا لدى السلطان ليرد أملاك جمال الدين المغتصبة إلى أخيه وأولاده، فأجاب السلطان ملتمسهم، وأحيلت القضية مرة أخرى على القضاة الأربعة، وعقدت لذلك جلسة مشهودة (815هـ)، وقضى برد المدرسة وأوقافا
إلى جمال الدين وما نص عليه في وقفيته؛ ورد النظر فيها لأخيه؛ ثم نزع منه النظر بحكم جديد وأعطى لكاتب السر، وهكذا يقول المقريزي (فكانت قصة هذه المدرسة من أعجب ما سمع به في تناقض القضاة وحكمهم بإبطال ماححوهم حكمهم بتصحيح ما أبطلوه، كل ذلك ميلا مع الجاه، وحرصا على بقاء رياستهم، ستكتب شهادتهم ويسألون)
وهذا مثل بارز يصور لنا مبلغ خضوع القضاء للسلطة التنفيذية وتأثره بأهوائنا في بلك العصور، فلم يكن القضاء يومئذ هو ذلك الملاذ النهائي للحق والحرية، ولم يك ثمة احترام لما نسميه اليوم بقوة الأحكام النهائية؛ فما يفتى به اليوم تحقيقا لرغبة سلطان أو أمير أو وزير، يفتي غدا بعكسه تحقيقا لرغبة السلطان الجديد أو وزيره، ويقضي بهذه الأحكام المتناقضة نفس القضاة في كل مرة. وما يقوله لنا المقريزي من أن بواعث هذه الحالة كلها ترجع إلى ميل القضاة مع الجاه وحرصهم على بقاء رياستهم، هو أصدق تعليل لهذا الصدع الخطير في بناء الدولة ونظمها. ونستطيع أن نضيف إلى قول المقريزي، أن هنالك عاملا آخر له قيمته في خضوع القضاء للسلطة التنفيذية على هذا النحو، هو أن القضاء الأعلى لم يكن يتمتع في بلك العصور بما أسبغ عليه في العصر الحديث من الضمانات الكفيلة باستقلاله وحمايته من تدخل السلطة التنفيذية وانتقامها، وأهم هذه الضمانات كما هو معروف هو عدم قابلية القضاة الأكابر للعزل أو النقل، وعدم مسئوليتهم أمام أية سلطة أخرى؛ ولكن القضاء في العصور الوسطى لم يكن يعرف مثل هذه الطمأنينة سواء في الشرق أوفي الغرب، وكان القاضي يخاطر دائما بمركزه وجاهه ورزقه وأحيانا بحياته إذا لم يذعن لرأي السلطة التنفيذية وهواها؛ ولم يكن يستطيع مغالبة هذا التيار الخطر أو تحديه سوى شخصيات قوية جريئة تستهين في سبيل كرامتها في تلك العصور منها سوى القليل.
محمد عبد الله عنان المحامي
بردى.
. .
والتاريخ العربي
للأستاذ علي الطنطاوي
(بردى) سطر من الحكمة الإلهية، خطته يد الله علىفحة هذا الكون، ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت، وروعة الماضي والمستقبل - وخصَّته للأمة العربية، فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة علوية معجزة.
والقرآن الذي جعل الآية المعجزة في القرآن - هو الله الذي جعلها في الأكوان.
والله الذي أعجز ملوك القول، وأمراء البلاغة، بسور من آيات وكلمات وحروف، هو الله الذي أعجز قادة العقل، وأئمة الفلسفة. بسور من بحار وإنهار وكهوف.
وما (بردى) إلا سورة من قرآن الكون المعجز البليغ - وليس إعجازه في أنه يجري؛ ولكن إعجازه في أنه ينطق. وبأن في كل شبر منه تاريخ حقبة من العصور. وتحت كل شبر أنقاض أمة من الأمم: أمة ولدت في حجره، ورضعت من لبانه، وحبت بين يديه، ثم قويت واشتدت، وبنت فأعلت، وفتحت فأوغلت، ثم داخلها الغرور، وحسبت إنها شاركت الله في ملكه، فظلمت وعتت واستكبرت، فبعث الله عليها نسمة واحدة من وادي العدم، فإذا هذه العظمة وهذا الجبروت ذكرى ضئيلة في نفس بردى، وأنقاض هينة في أعماقه، وصفحة أوفحتان في كتاب التاريخ. وإذا بأمة أخرى تخلفها في أرضها، وترثها مالها، ثم يكون سبيلُها سبيلَها: فقام الفينيقيون على أنقاض الحيثيين، والكنعانيوتنن بعد الفينيقيين، والفرس بعد الكنعانيين، واليونان بعد الفارسيين، والروم بعد اليونانيين، والغساسنة بعد الرومانيين، والمسلمون بعد الغسانيين - ثم قام العباسيون بعد الأمويين، ثم قاملاح الدين، ثم جاء الترك بعد السلجوقيين - ثم جاء فيصل بن الحسين، ثم جاءت جيوش الفرنسيين.
هكذا يدور الفلك في السماء، ويدور السلطان في الأرض، فتنشأ من القبر الحياة، ويغطى على الحياة قبر، والسلسلة لا تنتهي، والناس لا يعتبرون. . . و (بردى) يبتسم ساخراً من غرور الإنسان، ضاحكاً من جهالته. يحسب نفسه شيئاً، فيضارع الكون، ويتطاول بعقله إلى الله؛ وما هو من الكون إلا ذرة من الرمل ضائعة في الصحراء، وما عمره إلا ثانية واحدة من عمر (برد ى).
(بردى) وهو يجرى على الأرض، رمز لتاريخ الأمة العربية وهو يجري في الزمان. ففي كل قسم من بردى، فصل من التاريخ:
يخرج (بردى) من بقعة في (الزبداني) منعزلةعبة، لا يبلغها إلا من كان من أبنائها عارفا بمداخلها ومخارجها - كما خرج العرب من هذه (الجزيرة) الصعبة المنعزلة، التي لم تلن إلا لأبنائها، والتي ردت عنها الفاتحين كافة، وجعلت رمالها قبرا لكل من يجرؤ منهم على وطئها، على أنه لم يتجرأ عليها إلا كسرى، فبلغ جيشه (ذي قار)، ولكن الجزيرة قد ابتلعت هذا الجيش وهي تهتف لمحمد، ثم لم يقنعها هذا الثأر، فابتلعت دولته كلها في (القادسية) تحت راية محمد،. . وقالت لعالم: هذا جزاء من يطأ الجزيرة!
ويسير (بردى) في غور عميق لا يخرج الى هذه الجنان الجميلة الفتانة التي قامت على مقربة منه، يسلك قراره الوادي، تلتطم أمواهه وتصطدم: كما كان العرب في جاهليتهم يصطدمون ويقتتلون ويشتغلون بأنفسهم عن العالم، فلم يخرجوا إلى الدنيا، ولم تخضع لجزيرتهم جنات أالشام، ولا سهول مصر، ولا سواد العراق.
ثم يبلغ (بردى)(الفيجة) وهناك تصب فيه أمواهها العذبة الصافية الزاخرة، فلا تخالطه ولا يخالطها، ويسير النهر خمسين متراً، ومن إحدى جهتيه (بردى) القليل العكر، ومن الأخرى (الفيجة) الكثيرة العذبة، ثم يختلطان، فتضيع قلته وكدورته، في كثرتها وصفائها، ويعدو (بردى) قوياً عذباً زاخراً، نحو أرض الورود والثمار.
كمابت على الديانة الجاهلية، مبادئ الإسلام السامية، فتجافى العرب عنها، وأبوا أن يتبعوها، وكادوا لأصحابها، حتى غدت الجزيرة كبردى، فيها المسلمون الموحدون المتحدون، والجاهلون المشركون المختلفون، ثم مكَّن الله لمحمد، فخضعت له الجزيرة لم تخضع قبله لمخلوق، واجتمعت كلها تحت رايته، ولم تجتمع قبل تحت راية واحدة، فقادها إلى الشام والعراق، إلى أرض النخيل والأعناب.
ويبلغ (بردى)(بسيمة) ويبلغ (الجديدة) فيسير بين بسيمة والجديدة، في أجمل البقاع على وجه الأرض، ويسقي هذه الخمائل فيكون شكرها إياه، أفنان الورود، وأغصان الأشجار التي تتدلى فوقه، وتلمس خده لمساً رقيقاً، وتقبل جبينه قبلة طاهرة، وهو يلين تارة فترى حصباءه منفائه، ويشتد أخرى فيرغي ويزبد، ويكون له منظر مرعب ولكنه جميل!
مرهوب ولكنه محبوب!
كما كانت الأمة العربية بعد أن بسطت سلطإنها على العالم القديم كله محبوبة مرهوبة في آن، يفزع أعداؤها من هيبتها، ولكنهم يحبون عدلها، وينتفعون بحضارتها. أغاثت بالعدل بقاع الأرض فكان شكرإنها إياها، هذه الأموال التي فاضت بها خزائنها، وهذا النعيم الذي تفيأ ظلاله أبناؤها، وكانت تستقيم لها الأمور فتلين وتدع هذه الرقعة البسيطة من الأرض جنة يسعد بها أهلها، ويسعد بأهلها أهل الأرض جميعاً، وكانت تستغضب، فإذا غضبت غضب لها الدهر، وإذا سارت إلى عدوها سار في ركابها الموت والدمار أنى سارت: كانت نحمل في يمينها السلام والسعادة، وفي يسراها الموت والشقاء، كما يحمل بردى بين (بسيمة والجديدة) الغيث والثمرات، والطوفان والغرق.
ويبلغ بردى (الربوة) ويمشي حيال اليزبين، ذلك المعنى الذي بني من الشعر، وولد فيه الشعر، استحال إلى مقاه من عيدان تقوم على الخمر والقمر والعهر. . . وينقسم بردى إلى أقسام سبعة انتثرت نثراً بين عدوتي الوادي: يزيد، وتورا، وبردى، وبايناس، وقنوات، والديراني، وعقربا - منها القوى الممتلئ، ومنها الضعيف القليل - كما انقسمت الأمة العربية إلى طوائف وحكومات، منها القوي المتين، كحكومةلاح الدين التي ردت - علىغرها - أوربة كلها يسوقها الجهل والتعصب، وانتزعت في (حطين) الفريسة من (قلب الأسد)، وحكومة سيف الله التي هدت في (الحدث) حكومة الرومان هداً، ومنها الضعيف المستكين وقد ازدهرت الحضارة في هذا العهد وأثمرت، كما ازدهرت الأشجار في (الربوة) وأثمرت.
ثم يدخل بردى (دمشق)، فلا يصفق بالرحيق السلسل، ولا يتمايل على الورود والرياحين، بل يصفق بالأوحال والحشائش، ويميل على الأقذار والأوساخ، ويشح ماؤه وينضب ثم يضيع ويضمحل، كما ضاعت عزة العرب واضمحلت. . .
ثم يخرج إلى (الغوطة) فإذا نشق نسيمها عاودته الحياة، ونشأت في مجراه الجاف الصلب، عيون وينابيع، فإذا بلغ (جسر الغيضة) عاد قوياً زاخراً عذباً - كما عادت الأمة العربية اليوم إلى الحياة، ورفعت في الشام ومصر والعراقروحاً جديدة، لن تلبث إلا قليلاً حتى تكون خالصه لأصحابها، من دون الناس أجمعين!
وبعد، فهل أحزنك يا بردى أنك اليوم ضائع في اهلك، لا ترى حولك عزة العروبة ولا جلال الإسلام؟ كلا، لا تحزن يا بردى فما أنت وحدك المضاع، إن هناك أمة بقضها وقضيضها، هي مثلك مضاعة، وهي مثلك بنت المجد والشؤدد.
لا تحزن يا بردى! بل اصبر حتى إذا أعجزك الصبر فثر بأمواهك، وليضطرم موجك حتى تغسل عن قومك عار الذلة والخنوع، أنه لا يغسله إلا ثورتك، هذه سنة الحياة يا بردى: لا بالحق ولكن بالقوة.
وإذا غرهم منك لينك، فأرهم شدتك، إن الماء لينه يجرف جبلاً على جبروته وكبريائه، ولقد ثرت مرة، فبلغ رشاشك بواتيه من هنا، وحيدر آباد من هناك! فهل استنفدت تلك المرة قوتك كلها؟ أما فيك بقية من الشباب؟ تعبت إذ تجري هذه الملايين من السنين؟ إنها فترةغيرة من عمرك، فعلام الونى؟ انك لا تزال شاباً، ولم تنس بعد جيش خالد ولا موكب الوليد، لقد كان ذلك أمس، وسيكون مثله في غدٍ.
فاصبر ولنصبر يا بردى! إن الصبر مفتاح الفرج يا بردى. . .
دمشقعلي الطنطاوي
آراء حرة
القصة في الأدب العربي
للأستاذ فخري أبو السعود
حب تتبع الحوادث وحكايتها مركب في الطبع الإنساني، ولكن القصة كانت آخرور الأدب ظهورا، فلم تعرفها الآداب القديمة ولم تظهر في الآداب الأوربية الحديثة إلا أخيرا، ولذلك أسباب منها الوهم الذي وقر في نفوس الأدباء المتقدمين وإن يكن يبدو لنا اليوم غلطه واضحاً: أعني توهم أن القصة إن هي إلا أحبولة أكاذيب لا يليق بالأديب الراقي أن يلهو بحوكها، وأن القصص مرتبة من التأليف سهلة يستطيعها كل من رامها فلا يجمل بالأديب القدير أن يتدلى إليها.
ومن ثم كان العرب يؤثرون الأخبار التاريخية والأدبية ويخصونها بالحفظ والرواية مهما خالطها التحريف، لاعتبار إنها حقيقة لا اختلاق، وكثرت بينهم كتب التواريخ والسير دون كتب القصص، ومن ثم أيضا لم يسلك سبيل القصص من الأدباء المجيدين إلا من كان له غرض آخر دون القصص يوهم قراءه أو يوهم نفسه أنه الغاية التي إليها يقصد: إما بإعطاء القصص مغزى وعضياً كما في كتاب كليلة ودمنة، أو بإلباسه ثوباً قشيباً من الصناعة البلاغية كما في مقامات الهمذاني والحريري، بينما تركت الأقاصيص المجردة للعامة الذين يفشو بينهم القصص في كل العصور نتيجة لذلك الميل الطبعي في الإنسان، وتتداول بينهم أساطير المردة والسحرة ووقائع الأبطال الغازين ومخاطرات التجار والملاحين ونوادر الظرفاء والمعتوهين.
بيد أن القصة إن انعدمت من الآداب اليونانية والرومانية القديمة ومن الآداب الأوربية الحديثة إلى عهد قريب، فقد قامت مقامها عند تلك الأمم الرواية التمثيلية التي تؤثر في النفوس لا من طريق الميل الطبعي إلى القصص وحده، بل من طريق أخرى هي الميل إلى محاكاة الأشخاص وتقليد الحركات، ومن طريق ثالثة هي الثوب الخيالي الشعري الذي اسبغ على تلك الروايات التمثيلية.
ثم التفتت رويداً رويدا إلى أحوال المجتمع فتناولت وصف شؤونه وتصوير أخلاق أفراده، أما العرب فلم تقم لديهم لا القصة المقروءة ولا الرواية التمثيلية، فإلام يعزى ذلك؟ يعزى إلى أمرين: أولهما إيجابي هو موقف أدباء العربية من مجتمعهم، وثانيهما سلبي هو مكانة
الشعر لدى العرب.
فكتاب العربية وشعراؤها عاشوا دائما بنجوة عن مجتمعهم لا يشتركون في تقلباته السياسية والاجتماعية، ولا يعبرون عن شعوره وحاجاته، ومن ثم ندر الأدب الوطني في العربية وإن كثر الأدب العصبي، وندر الشعر الاجتماعي، وكان جل شعر الشعراء فرديا يعبر عواطفهم وحاجاتهم الشخصية ويفيض بذم منافسيهم وأعدائهم الشخصيين ومدح أولياء نعمتهم من الكبراء والأمراء الذين يعتمدون عليهم دون الشعب ويبتغون رضاهم قبل رضا الشعب، فلم يكن هناك تواصل وتجاوب بين الأدباء ومجتمعهم ولا رغبة لدى الأدباء في معالجة شؤون المجتمع وتحليلها ومحاولة إصلاح فاسدها عن طريق أدبهم، فلم يقم في العربية أمثال أديسون وستيل ودكنز وجالزورذي من الأدباء الإنجليز الذين جعلوا إصلاح الأخلاق أو ترقية المرأة أو إنهاض العامل نصب أعينهم، ولا ريب أن هذا التواصل والتجاوب بين الأدباء والمجتمع واعتماد الأدباء على جمهور القراء دون هبات النبلاء أساس نمو القصة التي تصف المجتمع وتحلل الأخلاق، ولم تنشأ القصة الحديثة في أوربا في القرن الثامن عشر إلا بقيام ذلك التواصل والتجاوب بين الأدب والمجتمع، وكانت الطباعة التي سهلت انتشار الكتابات مساعدة لذلك ولا ريب.
وأما مكانة الشعر الممتازة لدى العرب - والتي لعله لم ينلها لدى أمة أخرى - فإنها ثبطت ماعدا الشعر منور الأدب، فقد كان الشعر لدى العرب هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة، فصرفهم شديد اعتدادهم به وتوفرهم عليه عما عداه، وأودعوه عواطفهم وأخبارهم وقصصهم، فلو أن الشعر ترك مجالا لغيره لاحتمل أن يلجأ أديب كأبي نواس إلى القصص يودعه أنباء لهوه ووقائع غرامه ويشرح فيه ما سبر من غور العواطف وبلا من سريرة المرأة سادلاً على شخصيته ستاراً رقّ أو كثف، ولربما كان منه في العربية نظير لموباسان في الفرنسية، ولكن الشعر كان كما تقدم هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة، فلميتردد أبو نواس في سلوك السبيل التي سلكها ابن أبى ربيعة من قبل، سبيل الشعر القصصي أو القصص المنظوم شعراً.
إن الناظر في أدب العرب وتاريخهم لا يسعه إلا أن يرى هذه الحقيقة بارزة: حقيقة أن الشعر نال من المنزلة عندهم ما لم يبلغ عند سواهم حتى طغى على ما دونه من ضروب
الأدب، وأن الأدب على إطلاقه بلغ لديهم مكانة طغى بها على ما عداه من الفنون وصبغ ثقافتهم بصبغته - برغم بعده عن معالجة الحالة السياسية والاجتماعية فكان كاتبهم في التاريخ وتقويم البلدان وغيرهما من العلوم يتحدث عن الأدباء ويرجع إلى محفوظه من الأدب، وكم من أعلام للشعر العربي لو كان التصوير والنحت رائجين لدى العرب رواج الأدب والشعر لانصرفوا إليهما دونه أو لمارسوهما معه.
ولقد كتب الأستاذ الفاضل محمود خيرت في الرسالة أخيراً يثبت وجود التصوير لدى العرب فلم يعد أن أثبت أنه كان في حالة أولية لا يفتخر بها ولا يغتبط: فإن الفن الذي لا ترى له باقية ولا يمكث له أثر في أدب اللغة وكتبها، ولا يتوصل إلى إثبات وجوده إلا بشذرة شاردة فيحيفة من كتاب، لا يكون فنا قد نال حظا من الرقي وخالط نفوس الأمة واستدعى اهتمام مثقفيها، والحكاية التي رواها الأستاذ عن المقريزي تشهد بذلك، حكاية المصورين اللذين رسماورتين إحداهما كأنها داخلة في الحائط والأخرى كأنها خارجة منه: فإن تفاخر الرجلين بهذا العمل الضئيل ودهش الوزير له وإسباغه عليهما المنن من أجله ووقع القصة من نفس المؤرخ حتى أثبتها في كتابه، كل ذلك لا يدل على ارتقاء الفن في ذلك العصر. بل يدل على كونه في حالة بدئية، وعلى ندرة المصورين المجيدين بل المتوسطي الحظ من الإجادة، وكلام المؤرخ كله يدل على أن التصوير الذي عرف لذلك العهد لم يتعد الصناعة ذات الغرض العملي التي يزاولها الصناع كما يزاولون النقش والطلاء، ولم يرق إلى مرتبة الفن الخالص المنزه عن الأغراض العملية.
إنور المدارس الإيطالية والهولندية وغيرها منتشرة في الأقطار تملأ المتاحف وتتحدث عن نفسها وعن رقى الفن عند أهلها قبل أن تحدثنا عن ذلك مئات الكتب التي الفت فيها، فأين آثار مصوري العرب التي تحدثنا عن مثل ذلك؟ بل أين الكتب المؤلفة فيها؟ بل أين الصور العربية التي كانت وحيا لشعراء العربية كما كانت الصور الأوربية وحياً لوردزورث وتنيسون وغيرهما، أو كما كانتور الأطلال الفارسية وحيا لسينية البحتري؟
لن لخفر بشيء من ذلك إذا طلبناه، ولن يسعنا إلا الإقرار بالحقيقة التي تطالع قارئ تاريخ العرب وأدبهم: وهي أن العرب كادوا أن يكونوا أمة ذات فن واحد هو الأدب وبخاصة الشعر الذي استوعب ملكات جل نوابغهم واحتوى دراسات جل مثقفيهم ذلك بأن العرب
كانوا منذ جاهليتهم أمة لسان وبيان.
فخري أبو السعود
خصومة
للأستاذ توفيق الحكيم
بعثت إليه أول النهار بالرسالة التي سماها (باقية على الدهر) ثم أويت آخر النهار إلى بيتي فوجدت اسطوانات (بيتهوفن) التي استعارها مني قد ردها إلي، فعك إنها القطيعة. فوقفت واجماً في مكاني وزالت آثار الغضب ولم يبق في نفسي إلا ألم عميق: لقد انتهى كل شئ بيني وبين الدكتور طه حسين. . ولم أستطع أن أقرأ شيئا في ليلتي، وما إن أقبل الصباح حتى أوفدت إلى الدكتور طه حسينديقين كريمين يحادثانه في أمر الرسالة، وإذا به قد دفعها إلى المطبعة، وإذا به يأبى إلا أن يعلن الخصومة إلى الناس. وحاول الصديقان عبثا أن يحولا بينه وبين هذا الإعلان. وحاولا عبثا أن يقنعاه بإبقاء الخصومة سراً بيننا حتى يعرض أمرها على الأستاذ الجليل لطفي السيد بك وكلانا ولده وهو أولى من جمع بين القلوب النافرة وكان إلى ذلك سبيل. لكن الدكتور طه أراد أن ينتقم فتناول القلم ووضع قصة روى فيها ما كان من أمري وأمره.
قرأت القصة فدهشت. أي روعة وأي إبداع! إنها في ذاتها أثر من آثار الفن الخالد، إني أشهد أنها عمل فني عظيم. فيها من سعة الخيال وروعة الأسلوب ما يضمن لها البقاء. إنها هي التي ستبقى على الدهر.
لقد أعجبت حقيقة بهذه القصة إعجاباً شديداً، وهي عندي من أقوى ما كتب الدكتور. ولقد أنساني إطارها الأدبي ما احتوته
من اتهامات قاسية، وماذا يهم؟ إن شخصي ليس يعنيني كثيراً، كما أنه ليس يعنيديقي الدكتور منذ اليوم. إنما الذي حفلت به حقيقة وأحفل به الآن، هو تلك القطعة التي تشيع الحرارة في جوانبها، ويمتلئ أسلوبها بمرارة مؤلمة. قطعة لا ينساها من يقرؤها. وأغلب ظني أن الدكتور قد أصر على نشرها لأنه يعلم أنه قد كتب شيئاً جميلاً: وأني الآن لأرضى أن يضحي شخصي الزائل في سبيل ظهور هذه القطعة الباقية. على أن القارئ وقد فرغ من القصة لابد يسأل نفسه: ما كل هذا الذي بين توفيق وبين الدكتور؟ وأني أمد القارئ بالجواب فأقول: لا شئ في رأيي غيرداقة لا يمكن أن تزول لأنهالة بين قلبين اجتمعا على حب الجمال الأعلى: جمال الفن والحقيقة، ولئن قامت خصومة بيننا اليوم أو الغد، فهي
خصومة من اجل الرأي والتفكير، إن الشخصية الحرة هي كل ما يحتاج إليه الأديب الحقيقي. ومهما يكن من قيمة الصداقة الأدبية العظيمة لا ينبغي أن تقتات على هذه الحرية. إن الدكتور طه حسين العميد الرفيع المقام، والزعيم الجليل الشأن في أدبنا العربي الحديث يفهم هذا حق الفهم، وإنه ليعلم أني أقدره أحسن تقدير وأضعه من نفسي في أسمى مكان وأحفظ له على مر الزمن ما أسدى إلي من جميل، ولا أنسى أنه هو الذي ألقى الضوء على وجودي، غير أنه يخطئ إذا فهم أنداقتي له معناها التزام موافقته على كل رأي أدبي يبديه، والتسليم والتأمين على كل ما يخرج من قلمه أو من فيه. إن الحكم المطلق إذالح في دولة السياسة فهو لا يصلح في دولة الأدب. وأني لا أخالديقي الدكتور طه نفسه يرضى لي أو يرضى لفني وتفكيري هذه الحرية المقيدة. هذه هي كل الخصومة التي بينه وبيني. فهو قد استاء مني إذ عارضته في بعض آرائه في مقالات نشرت في (الرسالة) أو في (المصور) وفاته أني أجد لذة عقلية في معارضة منطقه السليم وآرائه المستقيمة دون أن أحفل بالنتائج. ولقد استاء كذلك مني يوم أخرجت الطبعة الثانية من (أهل الكهف) بغير مقدمته، وعقيدتي أنه على حق في هذا الاستياء لو أنه فهم من تصرفي أني قصدت خدش كبريائه، أو أني رأيت أحداً غيره أولى منه بهذا التقديم.
أما وقد فهم أني لم أقصد هذا ولا ذاك، وأن الحقيقة لا تعدو أني شخص بسيط لا أمقت شيئاً في الأدب مثل المقدمات، وأني روح حر يأبى أن يقيد نصوصه بتفسيرات، فضلاً عما قام في ذهني يومئذٍ من إبطائه أنه جاد في وعده بالمقدمة. فهل تراه يصر بعد ذلك اتهامي بسوء القصد؟. أني أحب الحرية، حرية التصرف، وحرية الكلام، وحرية إبداء الرأي. وأعتقد أن أثمن كنز يغدقه المجتمع على رجال الفن هو (الحرية)، وأعتقد أن خير هدية أهديهاديق العزيز علي، هي (الحرية) ولقد بلغ من إخلاصي فيداقتي لطه حسين أن أعطيته (حريتي). فهو لن ينسى أني ما أتصرف في عمل أدبي بغير رأيه، وما استشارني أحد في أمر يتصل بمكتبي إلا أحلت المر عليه، وانتظرت كلمته فيه. على أني أحب من جهة أخرى أن أستعير بعض هذه الحرية أحيانا لأناقشه في فكرة من الفكر، أو أحاوره في مسألة، أو أرد عليه في مقال. فأنا كما يعلم الدكتور طه ذو طبيعة لا تسير على نظام.
إني أعطى كثيراً ثم آخذ فجأة، ثم أعود فأرد ما أخذت. وعلىديقي أن يكون رحب الصدر،
سخي النفس كمصرف فتح لي فيه حساب جار. وإني أشهد أن الدكتور طه يحمل نفساً من أنبل النفوس وأندرها؛ ولقد سجلت هذه الشهادة في قلبي قبل أن أسجلها في كتابي الفرنسي الذي بعثت به إليه منذ شهرين. غير أن الدكتور لم يعرفني حق المعرفة، وأراه يأخذ بعض تصرفاتي على سبيل الجد، حيث لا ينبغي أن تؤخذ على سبيل الجد. ولست أدري ماذا كان يضيره لو أنه غضب ما شاء من رسالتي العنيفة ثم مزقها دون أن يحفل بها، ودون أن يعلن للناس، ودون أن يدخل الناس بيننا؛ وهو يعلم لو رجع إلى قلبه أن لا شئ في هذا الوجود يستطيع أن يحول بيني وبينه، ومع ذلك فل ن هذه الرسالة الغريبة قد أدت إلى الأدب العربي أجل خدمة، فهي التي ألهمت الدكتور كتابة قصة من أروع القصص، وإني أؤكد للدكتور أنها خير نموذج للون جديد في الأدب كان ينبغي أن يوجد. وأخشى أن تحدثني نفسي بتكرير فعلتي كلما تاقت نفسي إلى متعة فنية، وكلما آنست في إنتاجنا الحديث فراغاً.
وبعد، فياديقي الدكتور أنا محزون حقا. فقد فكرت، فإذا خطيئتي بديهية، فقد كان يجب على الأقل أن أستشيرك قبل أن أبعث بتلك الرسالة. فماذا ترى في موقفي منك؟ ويزيدني حزناً لطفك حين تتجاوز في سهولة وكرم عن كل هذا.
إنما أنت في حقيقة الأمر فنان كبير، فنان حقا. وإني لأعترف بأني لم أمنح هذه النفس، ولست أنا خليقاً بالفن ولا بك.
واليك الآن ما تمت عزيمتي عليه إذا احتفظت بغضبك على فسأعرض عن كل حياة أدبية
توفيق الحكيم
تعليق
نقلنا في العدد الماضي عن الوادي ما سماهديقنا الدكتور طه (قصة تمثيلية للأستاذ توفيق الحكيم)، لأن (الرسالة) كانت مسرحاً لهذه الرواية، فمن حق قرائها الذين لا يصل إليهم الوادي أن يشهدوا فصلها الأخير، ولأن (الرسالة) سجل لأوان الأدب الحديث، فمن حق الأدب أن نسجل في تاريخه ما يقع بين رجاله من الخلاف الجدي فيه كاملاً غير منقوص. ولهذين السببين نقلنا أيضاً عن الوادي ما كتبه الأستاذ توفيق الحكيم تعليقاً على تلك
(الرواية)، وأنه ليسرنا أن نسجل كذلك أن الود قد اتصل، بين الصديقين الكريمين، وأن الدكتور طه قد أعلن في الوادي (أن ما كان بين الأستاذ توفيق الحكيم وبينه من خلاف قد انتهى أمره وحي محواً بعد ذلك الكتاب الرقيق).
أما هذا الذي نشره في الواديديقي طه وسماه عتاباً فلعله من الأمور التي تسمى بغير أسمائها وتجري على غير أوضاعها في هذا العهد العجيب الذي استغل الناس فيه كل شئ حتى حياء الحيي ووفاء الوفي وتسامح الصديق.
الزيات
الرسوللى الله عليه وسلم
للأستاذ محمود حمد شاد
قرأت في عدد الرسالة الذيدر بتاريخ الاثنين 13ربيع الأول سنة 1353 باباً من القصص الشعري عن (إسلام حمزة) رضي الله عنه وقد وضع هذه القصة واضعها وهو يقصد بها - إن شاء الله - خيراً. إلا أن طريق الخير إلى ما قصد إليه قد التوى به التواء يذهب بكل ما عمد إليه، فانه وضععلى لسان الرسول شعراً نزهه الله عنه بقوله (وما عَلَّمناهُ الشِّعرَ وما ينبغي له)، ثم يلي ذلك أنه قد وضع على لسانه ما لم يقلهلى الله عليه وسلم.
وليعلماحب هذه القصة أن الرسوللى الله عليه وسلم يقول (من كذب علىَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار) ويقول (من حَدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين). فكيف بصاحبنا وهو ينطق رسول اللهلى الله عليه وسلم بما لم يقله، ثم يكون ما أنطقه به من الكلام مصوغاً في القالب الذي نزَّه الله نبيهلى الله عليه وسلم؟
هذه المسألة مما يريد بعض الناس أن يحتال لها بمنافق الكلام ليستحل ما لا يحل أبداً. وهم يراودون الناس فيها عن عقولهم أولاً ثم عن أيمانهم ثانياً، لينقادوا لهم في الرضا بها والمتابعة عليها. . . والمسألة لو تناولت أحداً غيراحب الرسالة لقلنا عسى ولعل. . .
ولنظرنا في المخرج الذين يتأولونه نظر المنطق، ولكنها تتناول إنسانية وحدها قد جعلها الله بمنزلة فوق منازل سائر البشر، وإن لم تخرج عن منزلة البشر في أعراض الحياة وما يكون فيها وما يأتي منها.
إن إنسانية الأنبياء وحدها التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولاً، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانياً، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شئ من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحد منه وهماً يخرج - فيما يُقبل من أمر الدنيا - بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الذي عملوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبداً، وتزدهر دائماً، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا.
وليس يقال في قصةاحبنا أو غيرها أن ما أنطق به الرسول لا يتناول تشريعاً أو أدباً أو حكماً، وإنما يتناول الكلام المتعاطي بين الناس فليس به من ثم بأس. . . ليس يقال مثل
هذا لأن التشريع حين يوضع ويراد به سد أبواب من الشر والفتنة يأتي منعاً مصمتاً لا مدخل فيه ولا ثغر حتى يدفع المحزبين والمفسدين والعابثين ويضرب على أيديهم من كل ناحية. ولو كان الأمر على غير ذلك لتناول كل لص مفتاح الباب الذي يريد أن يدخل منه إلى عقول الناس ليستغرهم ويزلزلهم من جنة الأيمان إلى جحيم الإلحاد في الدين من الطريق الخفي الذي لا تبصر فيه العامة ولا تهدي به إلى أرشد أمرها في الحياة.
فنحن هنا نتقدم إلى الأستاذاحب القصة بأن يتدبر ما شاء، فهو سيدع ما سلك إلى سبيل أهدى، فإن الأدب الذي له نعمل لم يقتصر ولم يضق حتى ندع ما أحل الله إلى ما نهى عنه، ونترك سبيل الرشاد إلى سبيل تنحدر بنا إلى هاوية لا قرار لها، ولا عاصم منها.
محمود محمد شاكر
في الريف
بقلم عبد الرحمن فهمي
ليسانسييه في الآداب
إذا أردت أن تمتع النفس بجمال الطبيعة فانك لست واجداً هذا الجمال في المدينة لأنها دائمة الصخب والضجيج، مشتبكة المصالح العامة والخاصة بشباك يتعذر على المرء الولوج منها إلى حيث الحرية الطبيعية التي وهبها الله عباده. ولا شك أن المدينة أحد العوامل التي أرخت ظلها الثقيل على جمال الطبيعة في المدن. بل إن هذه المدينة نفسها هي التي اضطرت ابن الطبيعة إلى أن يعقها إرضاء لشهوة المدة، حتى إذا سئم حياة المدينة - وسرعان ما يملها لأنها حياة مضنية للعقل والجسد - تطلع إلى الطبيعة وارتمى في أحضانها إلى أن يرتوي ببهائها.
وجمال الطبيعة في مصر يتجلى في الريف والصحراء والبحر بصورة جلية واضحة، وقد ذقت لذة الجمال في كل فطبت نفسا بهدوء الريف وسذاجته، وأخذتني روعة الصحراء ورهبتها، ورقصت مع أمواج البحر وأعجبت بعظمته، ولكني لم ألق جمالاً أكثر تأثيراً في النفس مثل جمال الريف الطبيعي.
ولا عجب إذ تراني أقضي بعض أوقات فراغي في قريتي بالمنوفية وهي قريةغيرة بحجمها كبيرة بتاريخها، ومن أبنائها العالم الكبير، والوزير الخطير، والمدير القدير، ونسبة المتعلمين فيها طيبة. فإذا حللت بها نسيت كل شئ إلا الجمال: فهذه حقول واسعة تتزيا في كل موسم بلباس خاص قد يكون أخضر سندسياً مسترسلاً موشى بالأبيض اللامع والأصفر الفاقع في موسم البرسيم الجميل، وقد يكون ذهباً براقاً عندما تنضج سنابل القمح والشعير إيذاناً بالبركة والخير الجزيل، وقد يكون أبيضافياً عند ظهور وبر القطن ثروة القطر وأمل الجميع، وقد يأبى هذا اللباس إلا أن يكون ذا خطوط متقاطعة أو متوازية عند إطلاق الماء في المصارف قبل أن ينبت الزرع. وهذه دور ساذجة تقرأ فيها أخلاق القروي من بساطة العيش ووداعة النفس وشئ من الدهاء مقرون بالسذاجة، ونوع من الإهمال ممزوج بالجهل، يشرف على هذه الدور جميعاً، مئذنة مسجدغير ينبعث منها كل وقتلاةوت مسترسل عذب يدعو المؤمنين إلى ربهم.
ويعجبني جمال الخلق الذي عفا معظمه في المدن، فالفضيلة لا تزال محافظة لكيانها في القرية، فلا بغاء ولا فحش، ولا يمكنك أن ترى قروياً ثملاً في أحد طرق البلدة، بل إن أغلب القوم متمسكون بالعروة الوثقى. والشرف ظاهر في جوانب الحياة، والكرم والسخاءفتان ملازمتان للقروي والقروية.
توقظك في الصباح الباكريحات الديكة المتناوبة، وزقزقة العصافير المرحة، فإذا أطلّت الشمس من خدرها مؤذنة الحياة والكد والعمل، خرج الفلاحون من دورهم إلى حيث انعامهم فجهزوها ورووها بالماء وقادوها إلى العمل طوال النهار، ويعطف القروي عليها ويحنو، عطفاً كبيراً وحنواً زائداً، ولا عجب فهي ذراعه اليمنى التي يعتمد عليها في حياته، تطعمه وتهيئ أرضه للزرع.
ينعم الفلاحون في الحقل بكثرة العمل ونقاء الهواء وضوء الشمس إلى أن يؤذنهم غروبها بوجوب العودة إلى دورهم وهم في ذلك أيضاً أول ما يعنون به بهائمهم يقودونها إلى حضائرها وينثرون أمامها التبن والفول أو البرسيم والعشب، أما هم فتمد لهم ألوان الطعام على الأرض وهو طعام دسم كثير وهو الوجبة الوحيدة التي يعتمدون عليها في غذائهم فضلاً عن وجبة أخرى أو وجبتين من الخبز والجبن المخزون.
وفي العشية والمساء يجتمع أهل القرية جماعات في البيوت أو خارجها على المصاطب يتسامرون، أو يهيئونفقة بيع أو يتفقون على ري قطعة من الأرض بعد قطعة، أو يصلحون بين متخاصمين وتلحظ عليها جميعا روح المعاونة والحب.
وعلى ضفة النهير الذهبية برملها المبلور اللامع ترى الفتيات النواهد الحسان كلهن في جلابيبهن السوداء قد بدون سافرات الوجه في زينة طبيعية جميلة، وما أجمل الوجه القروي الناعم الذي لم تعمل فيه يدناع! وقد حملن فوق رؤوسهن الجرار، هذه تغسل جرتها وقد ارتسم جسمها الجميل علىفحة الماء الصافي، وتلك تغترف من الماء ما هي في حاجة إليه، وضفة النهر في هذه الفترة من كل يوم في نظري ناد لأولئك الفتيات يتقابلن فيه ويتحدثن عنده ويستعرضن يومهن الذي خلا، وقد يغنين بصوت متناسق جميل أناشيد قروية طريفة:
وأظهر ما تلحظه في القرية اليوم نوع من الركود المالي، فبعد أن كانت عقب مواسم الحصد نشطة بحركة بيع المحصول بالأثمان العالية أصبحت متأثرة بالأزمة، فأسعار رزق
الفلاح رخيصة، وديونه كثيرة، وموارده قليلة، وقد نتج عن هذا هجرته إلى المدينة باحثاً عن عمل يلقى منه أجراً يومياً أو راتباً شهرياً.
وتقام في القرية رغم هذا سوق أسبوعية تعرض فيها أنواع التجارة فيبتاع القرويون ما هم في حاجة إليه من أقمشة أو بضاعة. ويبيعون ما هم في غنى عنه من الغلال أو الطيور أو الزبد. ويفد إليها كثير من أبناء القرى المجاورة يبتاعون ويبيعون.
ومنذ بضع سنوات لم يكن بالقرية محطة للسكة الحديدية، أو دار للشرطة، أو بكتب للبريد والبرق، وإنما كان المسافرون يحتملون عناء السفر بركوب ظهور الدواب ومتن النهر إلى أن يصلوا إلى محطة بعيدة يستقلون منها القطار، وكان ساعي البريد الجوال يصل إلى القرية كل يوم على حماره فينفخ في بوقه فيهرع القوم إليه ويقرأ عليهم الأسماء فيتناول منه كلاحب رسالة رسالته، أما اليوم فأسباب المواصلات موفورة.
ويثلجدرك بعض الشيء أن ترى بالقرية اليوم مكتباً للتعليم الإلزامي، وفكرة ناضجة في النفوس عن خطر الأمراض لا سيما (الرمد، والبلهارسيا، والانكلستوما) وغيرها، ورأيي أن أفضل ما تقوم به حكومة مصرية هو ترقية شئون الفلاح وأحوال القرية، لأن الفلاحين هم كثرة سكان مصر، ولأن القرية مما مورد ثروة البلاد الأساسي.
عبد الرحمن فهمي
6 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
السيد على الببلاوي
المالكي
هو على بن محمد بن احمد المالكي الحسني الادريسي من ببلاو، قرية تابعة لعمل ديروط الشريف التابعة لمديرية أسيوط، ولد بها في شهر رجب سنة 1251 ونشأ بها فحفظ القران ومبادئ العلوم وحضر للأزهر سنة 1269 فقرأ به على شيوخ وقته كالشيخ محمد عليش، والشيخ منصور كساب، والسيد محمد الصاوي، والشيخ علي مرزوق، والشيخ إبراهيم السنجلفي، والشيخ احمد الإسماعيلي، والشيخ محمد الانبابي، والشيخ علي بن خليل الأسيوطى، وكان له به نوع اختصاص في الحضور، وصحب مدة حضوره الشيخ حسونه النواوي، فكانا يسكنان معاً، ويحضران معاً الدروس إلا في درس الفقه فإن المترجم كان مالكياً والشيخ حسونه حنفياً. ولم يزل يجد ويجتهد حتى تأهل للتدريس فدرس بالأزهر والمسجد الحسيني الكتب المتداولة، وفي سنة 1280 سافر للحجاز فحج، ثم استخدم، بدار الكتب الخديوية بالقاهرة مغيراً، حتى كانت الثورة العرابية، واتجهت الأنظار لتنصيب المصريين في المناصب الكبيرة فساعدهديقه ومريده محمود سامي باشا البارودي على إقامته ناظراً هذه الدار سنة 1299 فتمت له نظارتها بعد ما سعى كثيرون لها فلم يوفقوا.
ثم لما هدأت الأمور وأطفئت الفتنة كان المترجم يتوقع القبض عليه كما فعل بكثيرين للملم بأنه مننائع البارودى، ولكن الله سلمه، ولم يشأ الخديو أذاته لاشتهاره عنده بالصلاح والتقوى والبعد عن الفتن فاكتفوا بفصل من دار الكتب وجبروا خاطره بالخطابة في المسجد الحسينى، ثم جعل شيخاً لخدمة هذا المسجد في ثانيفر سنة 1311. ولما غضب الخديو على السيد توفيق البكري نقيب الأشراف وشيخ الطوائف الصوفية وأمره بالاستقالة من النقابة فاستقال، سعى للمترجمديقه وروفيقه في الحضور الشيخ حسونه النواوى، وكان إذ ذاك رئيسا لمجلس إدارة الأزهر قبيل إقامته شيخاً عليه، فقبل الخديو منه وأقام المترجم نقيبا للأشراف في 6 شوال سنة 1312 فاعتنى بضبط مدخولها وجدد من أوقافها ست دور
بناها بجهة الحلمية، وصار يصرف الاستحقاقات في أوقاتها، وسئل في رياسة الخدمة بالمسجد الحسيني فقال إن كانت النقابة تمنعني من خدمة سيدنا الحسين لا أقبلها فأبقي كما كان وأقام المترجم في النقابة نحو ثماني سنوات يجدد من معالمها، ويحيي ما درس منها، حتى نقل منها شيخاً إلى الأزهر، وكان سبب ذلك أن الخديو انحرف عن شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري وانتهى الأمر باستقالته يوم الأحد 2 ذي الحجة سنة 1320، وأراد الخديو إعادة الشيخ حسونه النواوى أو تنصيب الشيخ محمد بخيت المطيعي فلم يوافق النظار على ذلك، فرشح الشيخ احمد الرفاعي المالكي وأعلمه بذلك، وكادت تتم له لولا عوارض اعترضت، ثم سعى الشيخ على يوسفاحبحيفة المؤيد ومن اكبر المقربين من الخديو للشيخ أمين المهدى بن العلامة محمد المهدي العباسي فرد عليه بأنه لا يصلح لخموله وعدم توليته أموراً قبل الآن، فأجاب بأنه وان كان كذلك فهو من بيت علم وغنى، تربى في نعمة فلا تطمح نفسه لشيء مما في الأيدي، وتدربه على الأمور قريب مدرك فرضي الخديو به، ولكن النظار لم يوافقوه عليه لأمور نقمها عليه ناظر الحقانية مدة ما أقامه عضواً بالمجلس الحسبي فحار الخديو وحنق، وطلب دفتر أسماء العلماء فوقع نظره على أسم المترجم فارتفضاه وجنح إلى توليته، ولم يكن قد خطر على بال أحد، وساعد الشيخ على يوسف على ذلك ليتمكن من رد السيد محمد توفيق البكري إلى النقابة فتم له الأمر ورضى به النظار وأعيد البكري إلى النقابة مضافة إلى ما بيده من رياسة الطرق الصوفية وصدر الأمر في 2 ذي الحجة بإقالة الشيخ سليم من الأزهر وتنصيب المترجم، فلما ذهب لشكر الخديو كالعادة استصحب معه ولده الأصغر السيد محموداً والتمس إقامته شيخاً على السجد الحسيني بدله، كما أقيم أخوه الأكبر السيد محمد قبل خطيباً له فقبل ملتمسه وأجيبت رغبته.
وكان الخديرو ذلك الحين منحرفاً عن الشيخ محمد عبده مفتى مصر والعضو بمجلس إدارة الأزهر وصاحب الكلمة العليا فيه، فكان يظن أن المترجم يوافقه في معاكسة الشيخ ومعارضته وعرقلة مساعيه، فأخطأ ظنه، لأن المترجم مال للشيخ كل الميل ووافقه في كل مشروع، واتحد به واندرج فيه حتى لم يكن له من الرياسة غير رسومها، والكلمة كلمة الفتي، وعوتب في ذلك من أحد المقربين فاعتذر بأن الرجل لا يريد غير الإصلاح فلا
يرى وجهاً لعارضته، فكان ذلك سببا لميل الخديو عنه بعد إقباله عليه، وضعف المفتي عن معاندة الخديو ولم يجد من الإنكليز المساعدة التي كان يرتكن عليها فعزم على نفض يده من الأزهر، ورأى المترجم أن الأمور لا تجري على مرغوبه فاستقال من الأزهر يوم الثلاثاء 9 المحرم سنة 1323 فأقيل يوم السبت 12 منه وأقيم بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي واستقال أيضا المفتي من مجلس الإدارة مرغماً.
* * * * * * * * * * * * * * * * *
وأقام بعد ذلك المترجم بداره التي بجهة المناصرة بعد أن رتب له الخديو خمسة وعشرين ديناراُ مصريا من الأوقاف الخيرية تصرف له كل شهر، هي مواظبا على كثرة تلاوة القران كعادته، مقبلا علىالعبادة حتى ازداد به المرض سنة 1323، وتوفاه الله في غروب يوم الجمعة الثالث من ذي القعدة من تلك السنة فشيعت جنازته بعد عصر يوم السبت وصلى عليه بالمسجد الحسينى وطيف به حول المقام كوصيته، ثم دفن بقرافة المجاورين في بستان العلماء رحمه الله رحمة واسعة. وله من المؤلفات رسالة اسمها الأنوار الحسينية على رسالة المسلسل الأميرية، ورسالة فيما يتعلق بليلة النصف من شعبان، ولده السيد محمود تعليق عليها سماه عروس العرفان في الحث على ترك البدع وشوائب النقصان على الرسالة الببلاوية المتعلقة بليلة النصف من شعبان.
وأعقب المترجم من االذكور ولدين كبيرهما السيد محمد الببلاوى سس له والده حين انفصاله من نظارة دار الكتب فجعل مغيراً بها ثم جعل وكيلا لها وخطيبا للمسجد الحسينى ونال درجة العالمية الثانية بالأزهر، ثم جعل بعد ذلك نقيبا للأشراف. والآخر السيد محمود جعل شيخا للمسجد الحسينى لما أقيم والده شيخا للأزهر ثم جعل بعد ذلك شيخا للمسجد الزينبى.
الشيخ أحمد الرفاعي
المالكي
اشتغل بالحضور في الأزهرعلى مشايخ وقته حتى تأهل للتدريس فدرس الكتب المتداولة، وقرأ عليه كثيرون من كبار علمائه الآن كالشيخ محمد عبده والشيخ محمد بخيت والشيخ أبى الفضل الجيزاوى والشيخ محمد حسنين العدوي والشيخ محمد النجدى الشرقاوى وغيرم، وقد أصبح في أواخرأيامه وليس في الأزهر إلا من هم تلاميذه أو في طبقتهم إلا الشيخ الشربيني والشيخ البشري
وكان من عادته ألا يقطع الأقراء طول السنة ولا يسامح في اوقات المسامحات ولا يقعده عن الاشتغال إلا المرض، فقرأ الكتب المتداولة مراراً ومهر فيها بسبب كثرة اشتغاله حتىار المستعصي منها عنده بمنزلة السهل عند غيره. وأتقن فن التجويد فجعل شيخاً على المقارئ مد ة طويلة. ولما أقيم الشيخ حسونه النواوي شيخا علىالأزهر في المرة الأولى ولم يجد إقبالا من علمائهاحبه المترجم وتحبب إليه ولازمه في غدواته وروحاته. ثم لما انحرف الخديو عباس باشا الثاني عن الشيخ محمد عبده مفتي مصر والعضو بمجلس أدارة الأزهر وأراد كف يده عنه ساعده المترجم على ذلك واخذ في معاكسة، الشيخ وتدبير المكايد له، وتنفير الأزهريين منه، وتقرب من الخديو واكثر من الترداد على قصر القبة ومداخلة الحاشية حتى حظى عنده واقبل عليه إقبالا عظيما، فلما عزل الشيخ سليماً البشري عن الأزهر في 2 ذي الحجة سنة 1320 وأراد إرجاع الشيخ حسونه النواوى أو تنصيب الشيخ محمد بخيت ولم يرض النظار، رشح المترجم واستدعاه وأعلمه بانتخابه له فعاد إلى داره جذلا وأشاع الأمر وهيأ السكر لشرب المهنئين والرمل الأصفر لفرشه بصحن الدار، وكاد الأمر يتم له لولا أن بعض مبغضيه من المقربين للخديورفه عن توليته وذكر عنه هنات الله أعلم بها، فعدل الخديو عن تنصيبه الا أنه التمس لنفسه مخرجا من وعده الذي وعده به فأعملبعض المقربين
الحيلة واستدعوه بحضرة الخديو وسألوه عن قبوله للتولية فقال لهم نعم ولاني مولاي وقبلت، فاخذوا يذكرونعوبة مراس أهل الأزهر والمشاق التي يعانيها شيخهم لاخضاعهم ولمحوا له بأنهم لا يظنونه يقوى عليهم فقال ومن اهل الأزهر، انا أدوسهم بقدميّ فقاوا إنك
ستكون مع الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان العضوين بمجلس الادارة فهل ترضى بأن يشاركاك في الادارة؟ وكيف يكون شأنك معهما؟ فقال كلا لا أرضى بأن يشاركاني بل أشترط لقبول التولية عزلهما وهما عندي كافران لايوثق بهما، فاستغرق الخديو في الضحك وقال شرطك لايمكن تنفيذه، ونحن نريحك من رياسة الأزهر ونعوضك عنها بشئ نجريه عليك من الأوقاف فأسقط في يده ورضى مرغما ثمرفوه
ثم وقعت منه في أواخر أيامه زلة، قيل إنه تصرف في وقف بغير وجه شرعي ولكن الله لطف به فلم يقع له بسبب ذلك غير فصله من المقارئ، وكثرت غمومه وهمومه لما لاكته الألسنة في هذه المسئلة، فانقطع عن التدريس لمرض أصابه إلى أن توفي بعد ظهر يوم الاثنين 18فر سنة 1325 ودفن يوم الثلاثاء وآذنوا له على المآذن كالعادة في موت كبار العلماء، وقد بلغ من السن نحو خمس وسبعين سنة، وكان قصيراً دحداحا خفيف الحركة رحمه الله تعالىوتجاوز عنه.
وله من الؤلفات حاشيته على شرح بحرق على لامية الافعال لابن مالك طبعت بمصر.
قس بن ساعدة الأيادى
للاستاذ عبد المتعال الصعيدى
مدرس بكلية اللغة العربية بلأزهر
نسبه: قال ابو حاتم السجستاني هو قس بن ساعدة ابن حذافة بن زفر أو زهر بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وقد نقل ابن حجر العسقلنفي في كتاب الاصابة هذا النسب عن أبى حاتم ولكنه ذكر جذامة بدل حذافة، وقالاحب الأغاني هو قس بن ساعدة بن عمرو أو شمر أو عمرو بن شمر بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر بن وائلة بن الطمثان بن زيد مناة بن مهدم أو يقدم بن أقصى بن دعمي بن إياد، فبينه وبين إياد على القول الأول ثلاثة اباء، وبينهما على القول الثاني اثنا عشر أبا أو ثلاثة عشر أبا، وقد يكون النسب الأول هو الثاني مع اختصار فيه، ولكن يبعد هذا وجود أسماء فيه لاتوجد في النسب الثاني، فلا بكون مع هذا مختصرامنه، ولعل كلا من هذين النسبين يمثل رأيا من رأيين في قدم قس أو قربه من زمن ظهور الاسلام، فقد ذكره أبو حاتم في المعمرين، وحكى أنهم قاوا أنه عاش ثلثمائة وثمانين سنة، ونقل المرزباني عن كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة، ونقل الأبشيهي في كتاب ألمستطرف أنه عاش سبعمائة سنة، فهوإذا كان قد عاشقبل ألاسلام هذه ألقرون الطويلة (600 أو 700 سنة) فلابد أنه لم يكن بينه وبين إياد الا نحو هذه الثلاثة الاباء، وإذا كان لم يعمر قبل الاسلام إلا الحد المعقول في معمري عصره، فيكون بينه وبين إياد ما ذكرهاحب الأغاني من تلك الأصول، وقد يكون قس على القول بقدمه إلى ذلك الحد لم يعمر أيضا إلا التعمير المعقول، فلا يكون بينه وبين إياد إلا تلك الثلاثة الأصول ولا يكون من رجال ذلك العصر الجاهلى الذي كان قبيل الاسلام، بل يكون عصره ابعد في القدم منه، وبكون ابتداء ظهوره في نحو عصر كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار من أجداد النبىلى الله عليه وسلم، وهو قريب من زمن حواريي المسيح الذين قيل إنه أدركهم، فإذا عاش إلى أن ادرك جداً أو جدين أو ثلاثة بعد كنانة يبقى بعد هذا بينه وبين عصر الجاهلية الذي كان قبيل الأسلام أزمان طويلة.
وليس هذا كل ما يحيط بنسب قس إلى الأصل الأول لقبيلته وهو إياد من الغموض، فهناك غموض اشد منه فيحة نسبته! لى إياد نفسه، ويكاد يقتلعه من هذا الأصل وتلك القبيلة التي
أجمع النسابون على أنه منها اى قبية أخرى غيرها، فقد ذكراحب الاغاني في سلسلة نسب قس أقصى بن دعمي بن اياد، وذكر أيضا في نسب النابغة الشيباني أقضى بن دعمي بن جديلة بن أسد في ربيعة بن نزار فيكون أقصى بن دعمي على هذا من ربيعة بن نزار لا من إياد بن نزار، ويكون قس من ربيعة لا من إياد، ومن البعيد أن يكون أقصى بن دعمي المكور في نسب قس غير المذكور في نسب النابغة، وأن بكون الاتفاق في اسميهما واسمي أبيهما من باب المصادفة، على أنه روي مع هذا أن الجارود بن عبد الله لما وفد في وفد عبد ألقيس على رسول الله سأله يا جارود هل في جماعة عبد القيس من يعرف لنا قسا؟ قالوا كلنا نعرفه، وفي رواية أخرى أنه لما قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله قال لهم ما فعل قس بن ساعدة الايادي؟ قالوا مات يا رسول الله، وفي رواية ثالثة أن وفد بكر بن وائل قدموا على النبىلى الله عليه وسلم فقال هل فيكم أحد من إياد؟ قالوا نعم، قال ألكم علم بقس بن ساعدة؟ قالوا مات يا رسول الله، فكل هذه الروايات تفيد اتصال نسب قس بعبد القيس وبكر وهما من قبائل ربيعة، نعم قد يمكن أن تكون إياد مجاورة في السكن لهاتين القبيلتين فسأل رسول لله وفدهما عن قس لمجاورتهما لقبيلته، ولكن هذا لا يكفي في دفع ما يفيده ظاهر هذه الروايات مع ما يفيده ذكر أقصى بن دعمي في نسب قس ونسب شيبان وبكر وعبد القيس وغيرهما من قبائل ربيعة، بل إن سؤال رسول الله بكرا وعبد القيس عن إياد ظاهر في أن إياد كلها من ربيعة لا قسا وحده، وربما يؤيد هذا أن إياد لوكانت فرعاً مستقلا من نزار لما أمكنه أن يحافظ على وحدته ذلك العهد الطويل، لما تأباه طبيعة بلاد العرب، إذ يعيش فيها أهلها عيشة ارتحال وتنقل، وقد قضت تلك الطبيعة على فرعيمضر وربيعة أن ينقسما إلى مالا يحصى من القبائل، فلا يمكن أن ينجو من تأثيرها فرع إياد على ما يراه النسابون من تفرعه من نزار مع ذينك الفرعين في ذلك الأمد البعيد، وإذا كانت إياد من ربيعة فيكون التقاؤها مع قبائلها في أقصى بندعمي، ويكون إياد بعد أقصى لا قبله، وقد دخل أنساب القبائل تخليط كثير مثل هذا وغيره، وربما كانت إياد فعلت ذلك عن عمد بعد حروبها مع عبد القيس وغيرها منقبائل ربيعة.
قبيلة اياد: كانت قبيلة إياد نازلة في قديم أمرها بين
إخوتها من قبائل معد، في تهامة والحجاز ونجد، وكانت تقيم هي وأنمار معا في أرض
تهامة، بين حد أرض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها، ثم نزحت من تهامة في حرب وقعت بينها وبين ربيعة ومضر في خانق، فغلبت فيها وخرجت إلى العراق فنزلت في سواده قرب مكان الكوفة، فأقامت هناك دهرا، وانتشرت في تلك الأنحاء، وكانت تغزو أهل العراق من العجم وغيرهم، فلما كان عهد كسرى أنوشرؤان أغارت على نساء من الفرس فأخذتهن، فأرسل إليها أنوشروان جيشا أجلاها عن أرض العراق، وشتتها في البلاد،، فنزل بعضهاتكريت، ونزل بعضها الجزيرة، ونزل بعضها أرض الموصل، ثم سلط عليها أنوشروان قومًا من بكر ففتكوا بها، وفرقوها في أرض الروم، وبلاد الشام وقد اشتهرت قبيلة إياد بخطبائها، وظهور قوة الخطابة فيها، وكان خطباؤها مضرب المثل في الفصاحة وقوة البيان، وفي وصفهم يقول بعض الشعراء:
يرمون بالخطب الطوال وتارة
…
وجى الملاحظ خفية الرقباء
فذكر المبسوط في موضعه، والمحذوف في موضعه، والموجز والكناية، والوحى باللحظ ودلالة الاشارة. وكانت قبيلة عبد القيس من ربيعة تسامي إياد في خطبائها، وشيوع الخطابة بين أفرادها، ولعل هذا مما يقوي ما رجحناه من اتصال نسب إياد بنسب عبد القيس وربيعة، ولكن عبد القيس لم تظهر فيها الخطابة إلا بعد أن انتقلت من البادية إلى عمان والبحرين، حتى قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: وشأن عبد القيس عجيب، وذلك انهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان، وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين، وهم من أشعر قبيلة في العرب، ولم نكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية، وفي معدن الفصاحة، وهذا عجب.
ولاشك أن إياد كانت في سرة البادية مثل عبد القيس، ثم انتقلت منها إلى العراق، فالظاهر أن الخطابة لم تظهر فيها إلا بعد أن انتقلت من البادية مثل عبد القيس، وقد علل ذلك بأنهم حينما تركوا سرة البادية جاوروا الأعاجم في تلك الأماكن، وكان الاعاجم أهل خطابة وكتابة، ولهذا كثر الخطباء أيضما في اليمن عند اختلاط أهله بالفرس الذين أتى بهم سيف بن ذي يزن لاخراج الحبشة منه، وهذا يفيد أن الخطابة العربية ماخوذة من الخطابة الفارسية مع أن الجاحظ قال في موضع اخر في الموازنة بين خطابة العرب وخطابة الفرس، وبيان الأمم التى انفردت بالخطابة: (وجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب
والفرس، وأما الهند فانما لهم معان مدونة، وكتب مجلدة، لا تضاف الى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف؛ وليونانيين فلسفة وصناعة منطق، وكاناحب المنطق نفسه بكئ اللسان، غير موصوف بالبيان، وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام لهم فانما هو عن دراسة وطول فكرة، ومشاورة ومعاونة، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم، وكل شيء للعرب فانما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ومكابدة، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، أو يحتاجوا إلى تدارس، وليس هو كمن حفظ علم غيره، واحتذى على من كان قبله).
وإذا كان هذا شأن خطابة الفرس وخطابة العرب، فأين احداهما من الأخرى؟ وكيف أخذت الثانية من الأولى، وهما يختلفان هذا الخلاف، ولا يوجد بينهما أدنى شبه يدل على تأثير إحداهما بالأخرى، واحتذاء خطباء العرب بخطباء الفرس في الخطابة؟ ولا يؤثر في هذا أنا لا نسلم لجاحظ ما يزعمه من انفراد الفرس والعرب بالخطابة، وانفراد العرب بالقدرة على ارتجالها، فقد يوجد في غير العرب من يقدرعلى ارتجال الخطابة في لغته، وقد يكون في العرب من لا يخطب إلا بعد ترو وتدبر، ولكن العرب لشيوع الأمية فيهم، كان يقل من يذهب هذا المذهب في خطبائهم.
فلم يبق إلا أن نعلل ذلك بأن أخبار هذه القبائل قبل انتقالها من البادية بعيدة عنا، ولم يصل الينا إلا قليل منها، فما يدرينا أنها لم يكن فيها خطباء حين كانت بسرة البادية؟ ولعله كان لها من الخطباء فيها ما لا يكون هناك محل لتعجب الجاحظ أو غيره منه.
دراسة حياته: إذا رجع الباحث إلى ما كتب عن قس
في كتب الأقدمين المختلفة لا يمكنه أن يؤلف من الأخبار التي وردت فيها عنه سيرةحيحة، متلائمة غير متدافعة، متصلة غير منقطعة، لها بداية معروفة، ووسط غير مجهول، ونهاية ليست غامضة، وانما هي أساطير لا يمكن أن يعرف منها يقيناً زمنه متى بدأ؟ ومتى انتهى؟ ولا مكانه في تلك الأمكنة التي تنقلت فيها قبيلته؟ وهل كان يعيش بينها؟ أو كان يعيش بين قبيلة أخرى غيرها؟ أو كان يعيش هائما متنقلا لا يقر في مكان؟ فقد ورد أنه ادرك حواري عيسى عليه السلام، ولكن ورد مع هذا أنه أدرك محمداًلى الله عليه وسلم قبل
بعثته، بل ورد أنه أدرك بعدها وآمن به وعد من أصحابه، ولا يمكن أن يكون قد أدرك هذين العهدين المتباعدين إلا اذادقنا أنه عمر حوالي ستمائة سنة، كما يذكر هذا من يعده في معمري العرب، وهذا أمر لا يمكن تصديقه، ولم يحدث مثله من عصر الحواريين الى العصر الذي نعيش فيه الآن.
وورد أيضا أنه كان أسقف نجران، فلا بد أنه كان يعيش عيشة مألوفة بين أهلها من النصارى، ولكن أين اياد من نجران وقد كانت إياد مستقرة بالعراق في الزمن الذى ظهرت فيه النصرانية بنجران؟ بل أين هذا مما يروى من أنه لم تكنه دار، ولا يقره قرار، ويتحسى في تقفره بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوام، وأخبر بعضهم أنه رآه على جبل بالشام يقال له سمعان، في ظل شجرة إلى جنبها عين ماء، فإذا سباع كثيرة وردت الماء لتشرب، فكلما زأر منها سبع علىاحبه ضربه بعصا، وقال كف حتى يشرب الذي سبق، قال فتداخلني لذلك رعب، فقال لي لا تخف ليس عليك بأس، ورووا أنه كان يفد على قيصر زائراً فيكرمه ويعظمه، وقد سأله مرة ما أفضل العلم؟ قال معرفة الرجل بنفسه، فقال له فما أفضل العقل؟ قال وقوف المرء عند علمه، فقال له فما أفضل الأدب؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه، فقال له فما أفضل المروءة؟ قال قلة رغبة المرء في اخلاف وعده، فقال له فما افضل المال؟ قال ماقضي به الحق.
وهذا كل ما يروونه عن قس في حياته، يحيط به الغموض في بدئه، ويستمر متماشيا معه، ثم يلازمه إلى نهايته، فلا تنتهي حياته بين قبيلته إياد، ولا بين أتباعه الذين كان فيما يقال أسقفا عليهم في نجران، بل يقال إنه توفي بروحين فيلحف جبل بها، وهي قرية قريبة من حلب، وله بها مشهد يزوره الناس، ويقصدونه بالنذور، وله أوقاف محبوسة عليه، وقد زاره أبو جعبل الألبيري فقال فيه:
هذى منازل ذي العلا
…
قس بن ساعدة الايادى
كم عاش في الدنيا وكم
…
أسدى إلينا من أياد
قدنالها بحلى البلا
…
غة مفصحا في كل ناد
قد قر في بطن الثرى
…
متفرداً بين العباد
وقد قدروا له السنة التي توفي فيها سنة 600 م وذلك قبل الهجرة باثنتين وعشرين سنة.
ولكن هذا الغموض الذي يحيط بحياة قس من بدئها إلى نهايتها، وهذه الأخبار القليلة التي لايمكن أن يؤلف منها لقس سيرة متصلة تعرف منها أطوار حياته طوراً فطورا، كل هذا لايمكن أن يتفق مع عيش قس في هذا الزمن القريب من ظهور الاسلام، فك رجال هذا العصر من شعراء وغيرهم معروفون لنا، وقد وردت إلينا أخبارم معلومة مفصلة. ولا تحيط بها هذه الأساطير من كل ناحية، ولا يتفق مع هذا إلا ما رجحناه في نسب قس من إدراكه عصر الحواريين، وتعميره فيه التعمير العقول في مثل هذا العصر، فتكون وفاته قبل الاسلام بتلك الأزمنة المتطاولة، التي تسمح بهذا الغموص الذي يحيط بحياة قس على شهرته وظهور أمره، نعم قد روى حديث قس وسماع النبي له في سوق، عكاظ من طرق متعددة، وقد أفرد بعض الرواة طريقه وفيه خطبة قس وشعره، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها، ولكن أبن حجر العسقلاني ذكر في كتاب الاصابة، أن طرقه كلها ضعيفة، فلا يحتج بها في مثل ذلك.
عقيدته: قد ذكر الأب لويس شيخو اليسوعي قساً في كتابه
(شعراء النصرانية) وقد ورد فيما روى من أخبار قس أنه كان
أسقف نجران، وقد ذكر الجارود بن عبد الله فيما وصفه به
النبيلى الله عليه وسلم أنه كان يلبس المسوح، ويتبع السياح
على منهاج المسيح، لا يغير الرهبانية، مقراً بالوحدانية،
تضرب بحكمته الأمثال، ويتنكشف به الأهوال، وتتبعه
الأبدال، أدرك راس الحواريين سمعان
ولا شك أن الأب لويس لا يعنى بالنصرانية التي يثبتها لقس
الا هذه النصرانية التي تكاد تتصل بموت المسيح عليه السلام، ومن أهم أصولها عقيدة التثليث وعقيدة الصلب والفداء، وما إلى هذا من أصول هذه النصرانية، ولا شك أن الأخبار التي وصلت ألينا عن قس، والاثار التي وردت إلينا عنه فيما كان يدعو العرب
إليه، لا تفيد أكثر من أنه كان يدعوهم إلى التوحيد، والايمان بالبعث والحساب، ولم يرد فيها أنه كان، يدعو إلى عقيدة التثليث والصلب والفداء ونحوها، وهي العقائد التي لا تثبت النصرانية التي يريدها القس لويس إلا بها، بل لم يرد فيها أنه كان يدعو إلى، الايمان بعيسى عليه السلام، وإنما ورد أنه كان يبشر العرب بدين جديد قرب ظهوره بينهم، فلا يمكن أن تكون عقيدته هذه النصرانية إلى يدعو إلى دين بعدها، وهي ترى أنها خاتمة الأديان، وان عيسى هو اخر الأنبياء الذي بشر به موسى عليه السلام، فلا يمكن بعد هذا أن يكون قس أسقفا على نصارى نجران، ألا أن تكون نصرانيتهم نصرانية أخرى غير هذه النصرانية، ولكن الذي يفيده التاريخ أنها كانت من نصرانية الروم والحبشة، ولهذا حاربوا أهل اليمن من أجلها، ومع هذا فقد أثبتنا أن قسا كان أقدم من ظهور النصرانية بنجران، ثم انه كان من إياد وكان أهل نجران من اليمن، فلا يقبلون رآسة مثله عليهم، لما كان من العصبية بين العدنانيين والقحطانيين، وأما خبر الجارود إنح فلا يفيد إلا انه كان مثل عيسى في ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث تشبيه أبى ذر الغفاري بعيسى في زهده وترهبه.
فلا يعدو أمر قس إلا أن يكون من قدماء الحنفاء الذين ظهروا في بدء انحراف العرب عن ملة إبراهيم إلى الوثنية، فكان يعوهم إلى ملة أبيهم إبراهيم، ويحارب فيهم هذه البدعة، وهكذا كان شان كل أولئك الحنفاء في العرب، وهذه كانت وظيفتهم فيهم، وقد حاول الأب لويس في كتابه (النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية) أن يلحق كل أولئك الحنفاء بالنصرانية ولا يخفى أن شأنهم في ذلك مثل شأن قس بن ساعدة.
خطابة: كان قس خطيب العرب وحكيمها وحكمها في عصره، وكان على شهرته بالخطابة يقول الشعر، فإذا خطب أتى في خطابته بشيء من شعره، يناسب موضوع خطابته، وقد جدد في الخطابة العربية بعض أمور تنسب إليه، منها انه أول من قال فيها (أما بعد) وبعضهم ينسبها لغيره، وقد نسبت لداود عليه السلام، وفسر بها قوله تعالى (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) ولكن أسلوب الكلمة عربي خالص، ولغة داود كانت عبرية، وإنما عظم شأن هذه الكلمة في الخطابة وغيرها، لأنها تساعد على الانتقال من غرض إلى غرض فيها ولا تحوج الخطباء في ذلك إلى تكلف مناسبات طامية لا تقف فيه عند حد، ويصعب على
كل واحد فيه أن يأتي بما لم يأت به غيره، وإنما تحسن (أما بعد) في الخطابة والكتابة دون الشعر، لأنها أسلوب نثري، ولأن الشعر فيه من آثار الفنون ما ليس في الخطابة والكتابة، فيحسن التفنن فيه، ويقبح التزام أسلوب وا، حد في التنقل بين أغراضه. ومما ينسب إلى قس أيضاً أنه أول من خطب على شرف، وأول من اتكأ في خطابته على سيف أو عصا، وأول من كتب من فلان إلى فلان.
ولم يبلغنا من خطابة قس إلا قدر قليل لا يمكننا أن نعرف منه تماما كنه خطابته، ولا المميزات التي تمتاز بها من غيرها، ولا الدرجة التي يستحق أن يوضع فيها قس بين خطباء العرب، وإن كان قس في الخطابة مضرب المثل، وان كان الناسقد أجمعوا قديماً وحديثاً على تقديمه فيها، وقد قال فيه أعشى قيس:
وأحكم من قس وأجرأ مِلّذي
…
بذي الغيل من خفان أصبح خادراً
وقال الحطيئة:
وأقْوَل من قس وأمضى إذا مضى
…
من الرمح إذ مَسّ النفوسَ نكالُها
وقد يمكننا أن نحكم من القدر الذي وصل إلينا من خطابة قس حكما تقريبيا بأنه كان يعنى بالخطابة الدينية أكثر من غيرها، فكانت أكثر خطابته في الدعوة إلى التوحيد، والإيمان بالبعث والحساب، وما إلى ذك ممل كان يدعو العرب إليه، كما يمكننا أن نحكم أيضاً بأنه كان يؤثر فيها الألفاظ السهلة على غيرها، وكذا السجع القصير الفواصل لما له من التأثير في النفوس، وما كان له في ثقافته وعلمه وحكمته واشتغاله بهذه الدعوة العامة، إلا أن يدع التكلف في خطابته، ويخاطب الناس بهذه السهولة التي يفهمونها، وقد أنكر عليها بعض أدباء عصرنا هذه السهولة، فحكم بأنها خطابة إسلامية مختلقة على قس، وليست خطابة جاهلية ملائمة لما كان في هذا العصر من بداوة وخشونة، ولا يخفى أنه لا يمكن أن يستقل عصر من العصور بالتأثير في خطبائه أو شعرائه، وإلا وجب أن تتحد مسالكهم فيه، وألا يختلفوا في أساليبهم من حيث السهولة والشدة وغيرهما، وكم كان في الإسلام من خطباء يؤثرون الشدة في خطابتهم، وخطباء يؤثرون فيها السهولة على الشدة، فلا بدع في أن يهون بجانب الشدة في عصر الجاهلية تلك السهولة، وان تجتمع فيه كما اجتمعت في غيره الرقة والخشونة.
عبد المتعال الصعيدي
عروس الورد
شذى الخزامى وريا النرجس العطر
…
سرت بها نسمات الروض في السحر
والفجر قاد جيوش النور منتصراً
…
والليل أدبر لا يلوي على أثر
إلا بقايا نجوم وهي حائرة
…
في افقها ورشاش من سنا القمر
سرى فأنعشني ريح الصبا سحراً
…
فرحت أستعرض الماضي من الذكَر
والذكريات كأسراب القطا كُثُرٌ
…
لما تحوم على الغدران والنهَر
والقلب كالطير قد أرداهائده
…
بين الظلوع خفقاً خفق محتضر
أهيم والشوق يطويني وينشرني
…
والدمع طافٍ بجفني غير منهمر
حتى مررت بروض شاق منظره
…
قد أتقن الصنع فيه حذق مقتدر
لا الشعر وافٍ ولا التصوير يدركه
…
وإن سمت ريشة الفنان في الصور
هنا الغصون بأعطاف لها رقصت
…
مثل الكواعب ذات الدَّلِّ والحور
والعندليب يغنيها فيُسمعها
…
أشجى النشيد بلا عود ولا وتر
والزهر في مهرجان ريحه عبق
…
ما بين منتظم زاهٍ ومنتثر
والحوض يبدو كمرآة قد انعكست
…
في وجههاور الأفنان والثمر
أو خد عذراء لم يجذب بتطرية
…
إذا تدلت عليه خصلة الشعر
وقفت بالباب والأشواك تحرسه
…
أسأل الطائر الشادي عن الخبر
فأومأت مورفات الدوح مخبرة
…
تزوج الورد بنت السوسن النضر
فالورد في حمرة الجلباب متشح
…
أما العروس ففي بيض من الأزر
يحنو عليها وأحيانا يقبلها
…
كمدنف آب للأحباب من سفر
كلاهما ليس يخشى عين مرتقب
…
في الحب أو قول واش في الهوى أشر
يداعبان ضياء الشمس في شغف
…
وظلمة الليل في أنس وفي سمر
روحان قربت الأشواق بينهما
…
على اقتراب من الريحان والزهر
والكل جذلان لا الأيام توحشه
…
ولا تبدلفو العيش بالكدر
ثم التفت إلى نفسي وقد عصفت
…
فيها الهموم وأذوت زهرة العمر
بيني وبين الليالي ما يكدرني
…
كأنني جئت ذنباً غير مغتفر
فقلت يا ليتني في الروض زنبقة
…
أو بعض ورد ولم أخلق من البشر
دمشق
عبد الجبار جرمود
لوعة الربيع
وقفت - ولم أقصد - على ضفة النهر
…
وطرفي ممتد إلى حيث لا أدري!
وفي النفس ما فيها! عواطف جمَّة
…
يضيق بهادري، ويعيا بها فكري
عواطف، لا أدري حقيقة أمرها
…
ولكنها بين الكآبة والشعر!
أراقب سير الموج، والريح سجسجُ
…
تعابث وجه الماء، وهو بها يزري
ودجلة يجري في جلالٍ وروعةٍ
…
وعزم كعزم الدهر، كراً بلا فرّ
تطلُّ عليه الشمس من خلف رفرفٍ
…
- على الضفة الأخرى - من النخل والسِّدر
فينساب، لا يلوي على ما وراءه
…
كأن به شيئاً من التيه والكبر
يجرُّ على الشطَّين فضل غلالةٍ
…
من الموج، كالأملاك في غابر الدهر
رزين، قويّ، يملأ النفس هيبةً
…
وقور، فسيح الصدر، متزن السير
فخيلّ لي - والماء ينساب جارياً
…
كان حياة بين أثنائه تجري
ولو كان ذا روح، لعمرك - لم يكن
…
بأهيب منه وهو يجري، ولا يدرى!
فحولت وجهي، ساكن النفسامتاً
…
سوى خفقان خافت الجرس فيدري
فما هاجني إلا جلالة موكبٍ
…
تسير به شمس الأصيل إلى الخدر
وقد برزت في حل من شعاعها
…
مذهبة، في منظر فاتن مغري
ومن خلفها، يحملن فضل إزارها
…
جوار من السحب المنوّرة الأز
ودرت بيميني حول نفسي فلم أجد
…
سوى كل ما عند الطبيعة من سحر
فذى الأرض كيف إزَّينت وتجملت
…
بثوب من الأعشاب رصّع بالزهر
وهذا النسيم الرطب، نشوان فارح
…
بما نال عند الزهر من عاطر الذكر
وهاتيك أرواح تَجولُ في الفضا - ءِ محسوسة التأثير، مجهولة الأمر
لعمرك ما أدري! أأرواح جِنّة
…
ترفرف، أم روح الربيع انبرت تسري
أم السحر هذا، أم خيالات شاعر
…
سبت لبّه أشباح آلهة الشعر
وذانك عصفوران من خلف دجلة
…
يطيران في جو من الحب والطهر
وتلك حمامات ينحن نوادباً
…
يساجلن فوق الدوحادحة القمر
وكلٌّ بتمجيد الطبيعة هاتفٌ
…
مُهنٍّ بميلاد الربيع ابنها البكر
بدت تعلن البشرى بشتى لغاتها
…
فذا الطير بالنجوى، وذا الزهر بالنشر
وتلمح حتى للجماد بشاشة
…
ووجهاً ودوداً يستميلك كالسحر!
حياة لعمري لامست كل ميت
…
تحس بها نفسي، وينكرها فكرى!
فمالك ياقلبي كأنك نائم
…
تساورك الأحلام غامضة السر؟
لئن كنت في ليل الطبيعة راقداً
…
شتاءً، فأنت اليوم في غرة الفجر
حنانيك هذا يومك المرتجى فقم
…
وباكر لذاذات الهوى الطامح العذري
حرام علينا أن يمرّ بنا سُدى
…
ولم نقض منه مأرب الشاعر الحر
فجارِ الملا إن كنت منهم ومثلهم
…
وطر في الفضا إن كنت من زمرة الطير
ونُح بالأسى إن كنت أسوان يائساً
…
وبح بالهوى إن كنتبا أخاضر
وفيما الأسى واليأس - والكل منقضِ؟
…
وأنت لدي عيدين جاءا على الأثر
فهذا ربيع للطبيعة ناضرٌ
…
جميل المحيا، زاهر، باسم الثغر
وهذا ربيع الشباب محبب
…
بأحلامه، حلو المنى، ناعم البشر
وما العمر إلا مدة ثم تنقض
…
كالحلم، بما فيها من الخير والشر
لقد فاتني ما قد خلقت لأجله
…
وأدركني ما يرتجي نيله غيري
فما طعم عيشي؟ لا شقاء ولا هنا
…
ولا يائسة تقضى ولا أمل يغرى!
حنانيك فامرح في الضلال أو الهدى
…
وهبتك ما تهوى فمالك من عذر
وخذ قسطك الأوفى - من الأرض والسما
…
من الروح والريحان والنور والنِّور
العراق - العمارة
عبد الحق فاضل الصيدلي
من الأدب الهندي
الببغاء
لشاعر الهند الأكبر طاغور
ترجمة الأستاذ مصطفى كامل المحامي
كتب طاغور هذه القصيدة التي نترجمها اليوم منذ بضع سنين في بنغالي تحت عنوان (الببغاء) وقد فهم بعض الناس في الهند عند قراءتها أنها رمز لاذع عن النظام المدرسي المدخل بالهند، ثم انتشرت هذه القصيدة في بلاد أخرى من آسيا فقال الناس (من الممكن أن الشاعر قد أراد بشعره أن يشير إلى النظام الذي أدخل في بلادنا) ورأى آخرون أن غرض النظام الذي أدخله الأوربيون في آسيا هو الحصول على النتائج التي نجحت مع الببغاء؛ وتصايح بعض لأوربيين (أرأيتم الام يؤدي الأمر إذا أردنا أن ندخل التعليم العالي في شعب لا يفهم شيئاً من مبادئنا التعليمية العالية) ثم يديرون رؤوسهم والرضى ملء نفوسهم، وقليل ما هم الذين أدركوا أن ببغاءهم أيضا ينحدر إلى الموت في نفس الوقت.
- 1 -
كان عصفورا شديد الجهالة يهزج كل يوم، يقفز ويطير من هنا وهناك، دون أن يعنى بالعلم أو حسن السلوك.
فقال الملك يوما لا يصلح هذا العصفور لشىء، وهو يحدث مع ذلك أضرار جمة، فيتلف ثمار الحديقة الملكية؛ واستدعى في الحال وزيراً وأمر أن ويعلم العصفور أحسن التعليم.
- 2 -
كلف ابن أخي الوزير بتعليم العصفور، فعقد المعلمون أولاً مجلسهم، ثم تباحثوا وتجادل دون انقطاع، في الأسباب الحقيقية لجهل العصفور؛ وقرروا أخيراً أن عش الطائر المصنوع من الخشب، شديد الضيق فلن يسع العلم العريض، ورأوا قبل كل شيء أن يصنع له قفص جميل.
- 3 -
استدعواانعنا ليصنع قفصاً من ذهب، فجاء آية فنية مثيرةللإعجاب، حتى بادر الناس من
كل فج لرؤيته وقالوا: (سيتل العصفور أخيراً تعليماً حسناً)؛ وصرح آخرون: (حتى ولم ينل أحسن التعليم، فإن له الحظ أن يكون له قفص جميل! ما أسعد جَد هذا العصفور! ورجع الصانع سعيداً ملئ اليدين من حسن الجزاء، وابتدأ الأستاذ درسه بعد أن جذب نفساً من غليونه، وقال لا بد لي من مكتبة. فدعا ابن أخي الملك نساخي البلاد، فنسخوا ونقلوا الكتب حتى تجمع منها الكثير، فقال كل من رأى هذه الأسفار:
(مرحى سيكون له الآن من المعرفة قدر وفير)، ورجع النساخون بجوائز طردت عنهم إلى الأبد شر الفاقة.
وبذل الوزير لهذا القفص الثمين من ضروب العناية ما ليس له حدود، حتى جهر الناس جميعا وقالوا: سيتقدم التعليم بكل هذه الجهود، وتوفر على العناية بهذا القفص كثيرون، ولرقابة هؤلاء توفر نفر أكثر، وفازوا جميعاً بأسمى الهبات والعطايا.
- 4 -
تنقص الدنيا أشياء كثيرة، إلا أن الساخطين لا ينقصهم أن يهمسوا، (إن القفص معني به كل العناية، لكن العصفور على ما يظهر مهمل)؟ وبلغ الهمس آذان المليك.
فاستدعى الوزير واستخبره معنى هذا الهمس، فقال الوزير:
(يا مولاي، إذا أردتم معرفة كل الحقيقة، فاستدعوا المعلمين والنساخين والصائغ والرقباء على القفص ومراقبي الرقباء وقد قال الساخطون ما قالوا، لأنهم يتضورون من الجوع)، فاقتنع الملك وجزى الوزير، فأهدى سلسلة من الذهب إليه.
- 5 -
وتاق الملك يوماً إلى معرفة نجاح العصفور، فتوجه إلى المدرسة في حفل من الوزراء والأصدقاء والندامى، وأذاعوا زيارة الملك في الأبواق، ودقت النواقيس المعلقة فوق المدرسة، وأخذ العلماء يرتلون الأجزاء المقدسة، وهتف البناؤون والعمال والنساخ والصائغ فيوت واحد (ليحيى الملك).
وقال الوزير (مولاي! انظر!)
فأجاب الملك (مدهش! ولكن ما هذه الضوضاء؟)
فقل الوزير: ليست هذه ضوضاء فحسب، فان وراءها معنى خبيئاً؛ وطرب الملك كثيراً
وجاز الدهليز، وحين أراد امتطاء الفيل خرج الناقد من مخبئه خلف شجيرة وقال بخبث:(هل رأيت العصفور يا مولاي؟)
فأجل الملك وقال: (لم أر العصفور حقاً) وكر راجعاً مع الأساتذة وهو يقول: (أريد أن أعرف الطريقة التي اتبعتموها في تعليم العصفور، فلما رآها الملك وجدها بديعة، ولم يلاحظ نقصاً في شيء، كما أن الأوامر كلها مرعية، ما كان في القفص ماء ولا حَب، وإنما كان يحشى فم العصفور بأوراق الكتب، فلم يعد قادراً على التغريد، إذ لم تبق أدني فرجة يخرج الصوت منها؛ وما كان أبشع المنظر! وقبل أن يمتطى الملك الفيل أمر بالناقد فلكمه جنده.
- 6 -
وغدا العصفور دقيقاً رقيقاً على مر الزمن حتى بدا كالميت، لكن الحراس ظنوا أنه مازال هناك أمل، والتفت العصفور نحو ل الضوء في الصباح، ورفرف بالغريزة على حائط القفص بجناحيه، وحاول أن يقطع أسلاك القفص الذهبية بمنقاره الواهن، فصاح الحارس:(أي أحمق!) وأسرع فأحضر الحداد فصنع أسلاكا من الحديد، ثم قصوا جناحي الطائر.
وقال أصدقاء الملك وهم يهزون الرءوس: (ليست طيور هذه الملكة جاهلة فحسب، وإنما تجمع إلى الجهل نكران الجميل)، وعاود المعلمون واجبهم باليقين الراسخ، ورجع الحداد قريراً بإلعطاء الجزيل، والحارس القانع بالراتب المبذول جزاء انتباهه
- 7 -
وقضى العصفور، ولميعرف أحد متى مات، واذاع الناس قالة السوء، واستدعى الملك ابن أخيه يسأله عما حل بالعصفور:
- إن تعليمه قد تم يامولاى
- الا يقفز الآن؟
- كلا!
- أما يزال يطير؟
- كلا!
- أيغني؟
- كلا!
- فمذا يفعل إذا جاع؟
- لاشىء
- أحضره إلى فاني اريد أن أراه
واحضروه إلى الملك فلمسه وضغطه دون أن يظهر الطائر علامة على الحياة الا حفيف الورق الذي حشوا به معدته، على حين اهتزت أوراق الشجر وقد مرت بها نسمة من نسمات الربيع!
(طاغور)
العلوم
خلق المادة في الكون
بقلم فرح رفيدي
أين يخلق الكون؟ - كيف توصل ملكان إلى اكتشاف مصدر الأشعة. الكونية وبناء نظريته في خلق المادة في الكون؟ في الفضاء خليط من المؤثرات إلتي تفعل فعلها في الأجسام والأشياء وهي مستترة في الأثير، لا ترى وكأنها ترى، كائنة وكانها غيركائنة. وهي مزيج من الاشعاع المنبعث من جميع الجهات. فاشعاع من الشمس تراه العين وتحس به، واشعاع اخر من الشمس لا تراه العين ولا تحس به، وأشعة مصدرها الأرض وأخرى مصدرها النجوم وا لشمس، أشعة إكس وأشعة والراديوم، والأشعة الكهربائية واللاسلكية وأشعة الحرارة. وكل هذه تنطلق بسرعة متناهية في الفضاء ونحن لانشعر بها ولا ندري حركتها. ولهذه الأشعة تأثير خاص في الهواء المحيط بنا وبها وخصوصا الأشعة ذات الموجة القصيرة كأشعة أكس او الراديوم، فانها تحلل الهواء إلى ذرات مكهربة تكهرباً سلبيا او ايجابيا
والذرات المتشابهة بالكهربائية تتنافر من بعضها كلما تقاربت، والذرات المختلفة الكهربائية تلتصق وتتحد في تلاقيها وبذالك تفقدفة التكهرب وتصبح مادة في حالتها الطبيعية.
لقياس مقدار تكهرب الهواء أو تحلله إلى ذرات من تأثير هذه الأشعة توجد الة خصوصية تقيس الكهربائية إلى درجة دقيقة جداً. وهذه الآلة هي (الالكتروسكوب). جرب أحد العلماء أن يمنع الأشعة المعروفة من دخول هذه الآ له ليرى هل يبقى تأثيرها في الهواء أم يتلاشى باختفائها ومنعها، فوضع الالة في داخلندوق من الرصاص الغليظ ليمنع دخول أقوى أشعة معروفة، فوجد بعكس ما توقع من أن الآلة ظلت متأثرة بالرغم من احاطتها بالرصاص فاستنتج من ذلك وجود أشعة أقوى من الأشعة المعروفة قدرت أن تخترق سماكة الحائط الذي بناه وتتصل بالآلة التي وراءه.
ظل هذا الاكتشاف سبع سنوات غامضا، إلى أن قإم رجل سويسرى سنة 1910 وصعد إلى علو 4500 متر ومعه الالكتروسكوب، فوجد خلاف المنتظر، بان تكهرب الهو اء. أو تأينه (تحليله إلى ذرات مكهربة تسمى الواحدة منها أيون ازداد مع ارتفاعه. فقد ظن أن مصدر
هذا التأثير أشعة منبعثة من الأرض وليست من السماء، فعلى ذلك مقدار التأين يجب أن يقل بدلا من أن يزداد مع الارتفاع. بعد ذلك بقليل قام المانيان وطارا إلى علو 9 كيلو مترات فوجدا أيضا ذات النتيجة.
لم يكن العالم الأميركي أثناء ذلك ساكتاً عن هذه (التجارب ونتيجتها الواحدة، بل أثرت عليه كل التأثير، وحفزته للعمل بأن يقوم بهذه المهمه في اكتشاف أصل هذا التأثير ومصدر تلك الأشعة التي لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال. فقام في سنة 1926 مع مساعدة وصعد منطادينغيرين في الفضاء إلى علو 15 كيلو متراً. وكان المنطادان مرتبطين الواحد بالآخر، وحجم أحدهما مصنوعا بالقدر الذي ينفجر فيه عند العلو الطلوب، والآخر كان ليقل الأدوات الأتوماتيكية لقياس وتقييد ألتأثيرات الجوية ولارجاعها بعد بلوغ علوها إلى الأرض سالمة. فكان من هذه الآلات الالكتروسكوب لقياس الكهربائية والترمومتر للحرارة والبارومتر لمقدار ضغط الهواء، والاواح الفتوغرافية المختلفة لتنطبع عليهاور التأثيرات المختلفة، ثم الالة التي تسير كل هذه الأجهزة حركة أوتوماتيكية مطردة. ومع كل ذلك فأن وزن المنطادين مع مافيهما من غاز وآلات متعددة لم يزد على 190 جراماً أو ما يعادل 50درهماً تقريبأ. وذلك مما يدل على دقة الصنع والتركيب ويبين مقدار أهتمام ملكان بالتجربة وتفرغه لها. والنتائج التي ظهرت من هذه التجربةأتت مطابقة للتجارب الأولى. فلم يعد بعد شك في وجود أشعة خفية دقيقة ذات تأثيرعظيم.
على أن ذلك لم يقنع ملكانقط، ولم يقلل من شوقه لمعرفة تلك الأشععة وما أليها. ففي ذات السنة التي أجري فيها تجربت المنطادين، عد بالأكتروسكوب الى قمم جبال مختلفة العلو في أميركا، ليرى تماما مقدار اختلاف التأين باختلاف معين في الارتفاع. وقد تحقق من ذلك شيئان: الأول أن قوة (الأشعة تزداد مع الارتفاع، وذلك يؤكد بأن مصدرها ليس هو الأرض بل السماء. والثاني أن هذه الأشعة ليست متجانسة، بل من ثلاثة أنواع، تختلف عن بعضها بقوة نفوذها فى الهواء، فمنها لقوتها من قدرت أن تخترق الهواء كله وتصل سطح الأرض، ومنها من استطاعت فقط أن تنفذ في بعضالطبقات العليا غير المتكاثفة، والأخيرة لضعفها لم تقدر على التعمق كالأوليين فظل تأثيرها محصواً في الطبقات الرقيقة من الهواء. تجارب في الفضاء وفوق سطح الأرض أكدت أن الأشعة آتية من فوق، ولكن
يتحقق من ذلك أكثر، خطر لملكان أن يجري تجاربه في داخل الأرض تحت الماء. فوضع الكتروسكوباً أدق من لأول فيندوق من الرصاص يحتمل الضغط على عمق 67 قدما في الماء، أي يحتمل ضغط كيلو جرامين لكل سنتيمتر مربع. فاذا كان مصدر هذه الأشعة حقيقة من الفضاء فالتأثيرات تحت الماء يجب أن تقل كلما ازداد الاناء عمقا، لأنه كلما نزل الاناء في جوف الأرض بعد عن مصدر الأشعة، وبذلك ضعف تأثيرها على الهواء بحكم السافة البعيدة التي تقطعها. والنتيجة أتت - كما توقع - أي أنها كانت تضعف تدريجيا في نزولها تحت الماء. وقد وجد من اختراق هذه ام لأشعة جميع طبقات الهواء، ومن نفوذها 50قدما في الماء. أن لها من ألقوة ما يعادل 100 ضعف قوة أشعة إكس، وأن طول موجتها أصغر من طول موجة الثانية ب 5000مرة تقريبا. وهي لذلك قادرة على اختراق حائط من الوصاص عرضه متران.
اجرى بعد ذلك ملكان تجارب متعددة في الليل والنهار، وفي أوقات مختلفة من الليل وأوقات مختلفة من النهار، وفي ضوء القمر وتحت ستر الظلام والنجوم بكثرتها لامعة مشعة، وفي أمكنة ببعدة عن الجبال عن المدن، وفي المغاور حيث لا تدخلها الشمس، ولا ينفذ اليها شعاع النجوم، وفي الصيف تحت تاثير حراره الشمس المحرقة، وفي الشتاء تحت تأثير البرق والرعد، ليرى هل لكل هذه الأشياء والظواهر الطبيعية تأثير خاص على الأشعة وقوة انفعالها في الهواء. فوجدها غير متأثرة بها جميعا. فكان تأثيرها واحداًيفا وشتاءً ليلآ ونهارا، وما كان ليفرق بين تأثيرِ وتأثير إلا الارتفاع والهبوط. فاستنتج من ذلك أن الشمس والنجوم ليست مصادر هذه الأشعه.
ذكرنا أن التجارب دلت على وجود ثلاثة أنواع من هذه الأشعة، تختلف عن بعضها بقوة نفوذها. وقد وجد ملكان من الحقائق التي توصل اليها أن نسبة هذه القوى الى بعضها كنسبة الأرقام الثلاثة هذه: 35،.: 8 ' ،.،:4.،. الى بعضها. وكل رقم منها يشيرالى نوع من هذه الأشعة. وقال ملكان من حيث ان الأشعه لا تأتينا من الأرض او من النجوموالشمس فلا بد من ان تكونادرة عن احوال ومقتضيات مضادة للأحوال والمقتضيات إلى في جوف الشمس أو في داخل النجوم. وبما أن الأحوال فيالثمس تدعو إلى انصهار وهدم المادة من شدة الحر والضغط فالأشعة هذه يجب أن تكون ناتجة عن بناء المادة
وتركيبها من ذرات (الكترونات وبروتونات) في أماكن بعيدة عنا في الفضاء، حيث تقرب درجة الحرارة من الصفر المطلق. 273 - قسم آستون العالم السويدى جميع العناصر التركب منها
الكون إلى قسمين: مشعة كالراديوم وغير مشعة كالحديد والرصاص. وقد لاحظ أنه لما كان عنصر الهيدروجين أبسط العناصر تركيبا، إذ هو مركب من بروتون واحد والكترون واحد، وأخفها وزنا، فانه يمكنافتراض أن جميع العناصر الأخرى متركبة منه كتركيب جميع الأعداد الصحيحة من الواحد الصحيح، فذزة الهليوم تساوي في وزنها أربع ذرات ذرات من الهيدروجين، وذرة الصوديوم تساوى 23 ذرة من الهيدروجين أيضا. وكذلكافترض ملكان ان الهيدروجين يدخل في تركيب جميع العناصر، وأنه الحجر الأساسي في بناء الكون. وقد افترض ملكان أيضاً طبقا لمعادلة اينشتاين (القائلة بأن انصهار جزء من المادة في داخل النجوم يولد جزءاً مقابلاً من الحرارة والقوة تشع في كل أنحاء الفضاء). إن هذه الحرارة والقوة المنبعثة باستمرار من النجوم، ستصير يوما ما وفي مكان ما مادة تحت الظروف الملائمة لبنائها، وأنه ما من مادة تنعدم في النجوم إلا ويقابلها بناء ثان في غير النجوم.
بقسمه العناصر إلى ، مشعة وغير مشعة ترى أن المواد المشعة اقل من المواد غير المشعة، وهذا شيء طبيعي، لأن هذه المواد باشعاعها الدائم تتحول إلى مواد أخرى، وبذلك تقل نسبة وجودها في الكون تدريجياً. فأخذ ملكان بعد ذلك ثلاثة عناصر تولف الجزء الأكبر في تركيب الكرة الأرضية والشهب والنجوم. ووجد أن هذه العناصر الثلاثة في الهيليوم والأو كسجين والسليكون. وقال اذا كانت هذه الأشعة التي لاحظناها ناتجة عن بناء العناصر فأن الهيدروجين وهو أبسطها تركيباً الحجر الأساسي في هذا البناء. وبواسطة معادلة اينشتاين استخرج مقدار القوة الضائعة في بناء كل ذرة لكل من العناصر الثلاثة وبواسطة معادلة أخرى اشترك في إيجادها ثلاثة شباب: (ديراك شاب انجليزي، و (كلاين شاب ألماني، و (نشينا شاب ياباني، استخرج نسبة قوى هذه العناصر الضائعة إلى بعضها، فوجدها كما يأتي: 3،.:8.،.: 4.،. وهذه كما نرى ذات الأرقام التي استنتجها من تجاربه، إلا في الرقم الأول فالاختلاف فيه تعلله قلة الضبط في التجارب فقط.
وهكذا كان نجاح ملكان في تعليل نظريته في بناء الكون من طريقين: طريق التجربة التي أدت إلى اكتشاف تلك الأشعة الصادرة عن بناء الكون، ولذلك سميت الأشعة الكونية؛ وطريق الرياضيات التي طابقة نتائج تجاربه كل المطابقة، فدلت لا على اكتشاف أشعة جديدة من مصدر جديد فحسب بل أيضا على توحيد النظريات والمعادلات الرياضية مع الظواهر الطبيعية، وعلى دقتها وتلاؤمها بعضها مع بعض.
جامعة بيروت
فرح رفيدي
3 -
اسحاق نيوتن
1642 -
1727
للأستاذ مصطفى محمود حافظ
كتاب (البرنسببا):
في ابريل سنة1676 تقدم نيوتن إلى الجمعية الملكية بكتابه المشهور (البرنسبيا) وهو في ثلاثة اجزاء. وقد شرح في الجزء الأول منةنظريته الخاصة بتحرك الأجسام مع البرهان الكامل لقانون الجذب العام. وقد أمرت الجمعية الملكية أن يطبع هذا الكتاب علىنفقتها الخاصة، ولكن ذلك لم يتم لانها لمتشأ أو لم تقدر على جميع النفقات الازمة لذالك. ولك ن (هالي) ديق نيوتن قام بذلك على نفقته الخاصة. فخرج الكتاب بالاتينية في مايو سنة1687.
ولم تكد تظهر أصول الجزء الأول من (الرنسبيا) حتى قام دكتور (هوك) ينسب إلى نفسه الأسبقية في الكشف عن قانون التربيع العكسي متهماً نيوتن بأخذ هذا الاكتشاف عنه. وبذك اتسعت شقة الخلاف بين العالمين، ولكندكتور (هالي) تمكن بتأثيره على نيوتن من أن يجعله يشير في كتابه إلى أنه مع (رن) و (هوك) و (هالي) توصلوا في نفس الوقت إلى قانون الجاذبية من قوانين (كبلر) في حركة الكوكب.
وقد اشتمل الجزءالثاني من البرنسبيا على مبادى علم الأيدروستاتيكا، والأيدروديناميكا، كما اشتمل على تطبيق قانون الجذب العام في شرح ظواهر المد ونسبتها إلى مكان القمر من
البحار، وقد أضاف إليها هو مواضع الشمس أيضا. وقد احتوى البرنسبيا أيضاً على موضوع المذنبات، فاعتبرها أجساماً سماوية تسير في قطع ناقص هائل، ولا تظهر لنا إلا وهي تقطع جزءاًغيراً من هذا القطع الناقص بالقرب من الشمس، وعلل بذلك ظهورها بعد أزمنة معينة: وبذا يكون قانون الجاذبية قد امتد خارج المجموعة الشمسية فشمل هذه المذنبات أيضاً. لقد احتوى هذا الكتاب نواة الفلسفة الطبيعية، ولكنه لم يؤخذ به كأساس هي لذلك إلا بعد سنوات، وذلك لحملات النقد الكثيرة التي كانت توجه إليه من أمثال (هوك) و (هيجنز) و (ديكارت) وأن كان البعض قد آمن به بعد حين. وبرغم اتصال نيوتن بجامعة كامبردج طول حياته فانها لم تكن الجامعة الأولى التي أخذت بما في كتابه من فلسفة، وسبقتها في ذلك جامعات اسكتلندا.
حياته العامة:
أخذ نيوتن راحة طويلة بعد ذلك المجهود الذي مكنه من اتمام البرنسبيا في سنتين فقط. وفي سنة1688 اختير عضواً برلمانياً بعد دفاعمجيد قام به مع غيره لصيانة حرمة جامعته عندما أمر الملك (جيمس الثاني) جامعة كامبردج أن تمنح قساً جاهلاً درجة (الأستاذية)، مما كان له أثر في رجوع الملك عن أمره. وقد انصرف إلى أعماله البرلمانيهسنتين، ولو أنه لم يسجل له أي مساهمة في مناقشة سياسية. وفي ذلك الوقت اصابتة أكبر محنة لاقته في حياته، تلك هي وفاة امه التي ضحت من أجله بالكثير من القليل وساعدته للوصول إلى ما وصل اليه. فبرغم قلة دخلها السنوي الذي لم يتجاوز الثمانين من الجنيهات، كانت تقتر على نفسها لتنفق عليه في (جرانتام) وفي سنواته الأولى في كامبردج.
وفي سنة1690 عاد إلى كامبردج ليزاول التدريس مرة أخرى، كما اشتغل بدراسة تأثير الضوء على شبكية العين بتجارب أجراها في نفسه. وقد أجرى تجارب لتقدير درجات انصهار بعض المعادن وملاحظة معدل برودتها، وقال إن هذا المعدل يتناسب وزيادة درجة حرارة الجسم على درجة حرارة الوسط الذي يحيط به. ولكن بحوث (دولنج دبتي) أثبتت بعد ذلك أن هذا ليس بصحيح إلا إذا كان الفرق بين درجتي الحرارةغيراً.
وقد شاء نيوتن أن يخرج للعالم كل ما وصل إليه في علم البصريات، وهو العلم الذي كان يشغل دائما جزءاً من وقته، ولكن كارثة لا يعلم إلى الآن سببها الحقيقي سببت حرق أغلب
مذكراته. فقد ترك غرفته ليلاً وبها شمعة موقدة وأخر إلى أجل قليل، فعاد ليجد الشمعة قد انكفأت فأحرقت جُل مذكراته. ويقال إن كلباًغيراً يدعى (دياموند) كان السبب في ذلك،
ولكن لسوء الحظ لم يعرف عن نيوتن الميل إلى إبقاء مثل هذه الحيوانات برغم حبه العظيم لها. وبذا لم يتمكن نيوتن من إعادة مذكراته وإتمامها إلا بعد اثني عشر عاماً.
في دار سك النقود
لم تكن المائتي جنيه التي كان يتقاضاها نيوتن سنويا عن وظيفة الأستاذية في الجامعة لتكفي للقيام بحاجاته؛ فسعىديق له يدعى (شارل مونتاج) حتى عين في سنة 1695 وكيلا لدار سك النقود بمرتب سنوي يتراوح بين 500 و 600 جنيه. فوجه كل عنايته إلى عمله بعيداً عن المناقشات العلمية، ولكنه مع ذلك كان يشتغل بحل المشكلات إلى تقابل غيره. ففي سنة 1797أعلن الرياضي الكبير (جون برتولي) عن معضلات رياضية يطلب إلى العلماء حلها، ففعل ذلك نيوتن في يوم واحد. وفي سنة1699 أصبح رئيساً لدار السك بمرتب سنوي قدره 1200 من الجنيهات، فترك مهنة التدريس التي كان يزاولها مع وكالته للدار.
وقد وجه نيوتن عنايته إلى إصلاح العملة الانجليزية مما دخلها من الغش، فوفق إلى ذلك بعدعوبات لاقاها هو وصديقه (هالي) الذي عينه مديراً لأحد الفروع، ممن كانوا يستفيدون من ذلك الغش. فاتهموه بالرشوة عندما وجدوه يرفضها.
وفي سنة 1700 اكتشف نيوتن آلة السدس (السكستانت) وعي الآلة التي يتمكن بها الملاحون من معرفة أماكنهم في عرض البحار، ولكن هذا الاكتشاف ينسب عادة إلى (هادلي).
وفي سنة 1703 نال نيوتن اعظم شرف منحه في حياته، وهو رياسة الجمعية الملكية؛ وقد لبث في هذه الرياسة حتى موته، ولا تزالورته معلقة فوق كرمي الرياسة. وبعد سنة من ذلك التعيين توفي منافسه الدكتور (هوك) وأتم كتابه (البصريات). وقد احتوى هذا الكتاب كل ما وصل إليه في علم الضوء، كما احتوى أيضا على رسالة في حساب التكامل، قال إن أساسها هو ما وصل إليه في سنة 1665 عندما كان في (وولثورب)، فقام يعارضه في ذلك العالم الرياضي (ليبنتز)، الذي اصبح بعد وفاة (هوك) شر خلف لأعند سلف. هاجم نيوتن
مهاجمة عنيفة، فاتهمه بسرقة اساس علم التكامل منه، فقام دكتور (كيل) من اكسفورد وأعلن أن (ليبنتز) هو سارق حساب التكامل من نيوتن. والواقع أن كليهما وصل مستقلاً إلى علم حساب التكامل، إلا أن نيوتن له الأسبقية في ذلك وإن لم ينشرما وصل إليه في حينه، كما أقرت بذلك اللجنة التي عينتها الجمعية الملكية للتحقق من مبلغحة أقوال المتنافسين. عند ذلك اختار (ليبنتز) ناحية أخرى يهاجم منها نيوتن، فادعى أن فلسفته إلحادية، واستمر زمناً طويلاً كان هو البادئ بالعدوان دائما. وقد تحدي نيوتن مرة أن يحل مسالة رياضية فحلها نيوتن في ليل واحدة بعد كل اليومي في دار السك.
نيوتن الرجل
كان طويل القامة، كث الشعر أبيضه، وقد لحقه الشيب ولما يزل في سن الشباب؛ كان كثير التفكير، يندر أن يشترك في مناقشة كلامية.
ذاق نيوتن طعم الفقر والحرمان في أيامه الأولى، وحتى بعد انتخابه عضواً في الجمعية الملكية قصرت موارده عن أن يدفع رسم دخول واشتراك الجمعية، فاعفي منهما مع ضآلتهما. ومع ذلك كان كريماً يساعد أقاربه وأصدقاءه.
كان وديعاً خجولاً متواضعاً، وكان دائماً يردد قوله:(لا أعلم ماذا يعتقده الناس فيّ، ولكني أعلم أنني كطفلغير ألعب على الشاطئ فأجد من حين لآخر حصاة قدقلتها الأمواج، أودفة تدعوني إليها بحسنها، بينما محيط الحق أماي لم أكشف منه شيئاً).
لم يكن يميل إلى الظهور واسترعاء الأنظار إليه، كما كان لا يميل إلى المناقشات والمشاجرات، ومع ذلك لازمته ولاحقته بعد كل جديد كان يصل إليه. كان ضعيف الذاكرة، لا يعتني كثيراً بملابسه، غريباً في أذواقه. ولكنه كان يفني نفسه في عمله، وكثيراً ما آثر ذلك فيحته.
كان نيوتن يعتقد بوجود الله، رغم ما اتهمه به (ليبنتز) من الكفر والإلحاد. كان يعتقد بوجود قانون كوني عام يحكم كل أجزاء الكون، وهذا القانون هو إرادة الله. وقد رأى في ثبوت قانون الجذب العام سيطرة الخالق على الكون بأجمعه. وقد أنعمت عليه الملكة (آن) بلقب الفروسية (سير) في زيارتها لجامعة كامبردج في سنة 1705. وكان يعيش في أواخر أيامه في لندن وقد أصبحت له مركبة خاصة.
لم يتزوج نيوتن برغم انه كان يحب (مس ستوري) التي تزوجت مرتين، وكانت تعتني به (حنا) أخته من أمه. وقد أخذتحته في الاضمحلال في سنة 1724، وأخذ يشكو مرض الشيخوخة، ولكنه ظل يرأس الجمعية الملكية حتى مات في سن الخامسة والثمانين في مارس سنة 1727. ودفن في وستمنستر، وقدرت ثروته بمبلغ 32 الفاً من الجنيهات، الجنيهات أوصى بها إلى أولاد اخوته.
(تم البحث)
مصطفى محمود حافظ
مدرس بمدرسة المعلمين بأمبابة
الملاح التائه
للشاعر المهندس على محمود طه
بقلم الدكتور محمد عوض محمد
بعد كتابي الذي أرسلته إلىديقي الزيات منذ أيام، قد أدرك القارئ أنني راضٍ كل الرضى عن هذا العنوان الذي اتخذه الشاعر المهندس سمة لكتابه الجديد. وكيف لا نرضى عن هذا العنوان، وكثير منا من استقل زورق العمر، يطفو به فوق بحر الحياة، تتدافعنا رياح الحوادث، وتتجاذبنا أعاصير القضاء، وتحدق بنا الصخور والأمواج من كل جانب. فإذا أبصرنا على بعد جزيرة أمل ماثلة لأعيننا، لم نلبث أن نضل السبيل في البحث عنها، فلا نزال حائرين، ولا ننفك تائهين!.
كان ظهور (الملاح التائه) لعلي محمود طه و (وراء الغمام) لإبراهيم ناجي في شهر واحد وفي سنة واحدة من أحسن النعم الأدبية على قراء العربية. وقد ظهر كلاهما في شهر أيار، حين تخرج الورود والرياحين، فتملأ الأرجاء عبيراً وبهجةً وجمالا. ولست أشك في أن هواء الأدب قد امتلأ أيضا بأريج هذه الزهرات الأدبية اليانعة.
إن شعر علي محمود طه ليس مجهولاً للقراء؟ فقد ظهر منه (الرسالة) وفي (المقتطف) وفي (أبولو) شيء كثير. ولكن هناك فرق بين أن نطالع شعر الشاعر موزعاً متفرقاً، وبين أن نتناوله مجموعاً في سفر واحد. فأنا نجده في الصحف ملقى بين مختلف المواضيع والمنشآت التي تشبه في تنوعها وكثرتها (سلطة) الفواكه، قد اختلط منها التفاح بالموز، والعنب بالبرتقال، والشليك بالكمثرى، بل قد تجد أيضاً قطعاً كبيرة من اللفت أو الفجل، لا تدري كيف اتخذت سبيلها إلى تلك البيئة الغريبة عنها.
لهذا كان ظهور تلك الأشعار مجموعة في كتاب مستقل حادثاً يسترعي الأنتباه، ويستوقف النظر الذي كان يمر بتلك القصائد من قبل مراً سريعاً. ولدينا ويا للأسف شعراء كبار مثل حفني ناصف وإسماعيلبري لم يعنوا - ولم يعن أحد بعدهم - بجمع أشعارهم في كتاب. فليس في قلبنا منهم سوىورة مبهمة ناقصة فإخراج أشعار علي محمود طه في كتاب هو الحادث الذي يتيح للمرء أن يجلس لكي يتذوقها، ويتناولها بالنقد وبالدراسة.
تمجيد الشاعر
أول ما يلفت النظر في علي محمود طه أنه شاعر يعرف للشاعر منزلته العالية، ومكانه السماوي الهائل وسط هذه المخلوقات الأرضية البائدة، ولهذا نراه يخص الشاعر بقسم كبير جداً من قصائده الممتازة؛ فنراه يخبرنا في أولى قصائده أن (ميلاد الشاعر) حادث جليل ترقص له الأرض، وتبتهج السماء، وتبرق أسارير الدهر، ويزداد له البدر إشراقاً ونوراً. فتتنادى الملائكة، وتتجاوب الأصداء: ليستبشر العالم فقد ولد فوق الأرض شاعر!
وفي قصيدة أخرى يرينا الشاعر وهو يناجي ربه، في شيء من غرور الشعراء. وإذا كنا نرى في هذه القصيدة ما يجعلنا أحياناً نصيح:(تأدب يا موسى؟) فيجب على الأقل أن نذكر أن الشاعر اقرب الكائنات إلى الله، فيجوز له ما لا يجوز لسواه.
وفي قصيدة ثالثة: تعد آية في الشعر العربي يصف لنا الشاعر في غرفته، وصفاً بديعاً لا عهد لنا بمثله، ولئن كان في هذه القصيدة ينحو نحو الفرد دي موسه أو غيره كما يقول الأستاذ طه حسين، فإن هذا لا ينقص من جمال القصيدة ذرة واحدة، بل انه ليدهشنا أن تكون المعاني الغريبة قد انسجمت هذا الانسجام الجميل في ثوبها العربي القشيب. ولها من وزنها العربي ما يسمو بها فوق الأوزان الإفرنجية الركيكة.
وفي قصيدة رابعة يحدثنا عن (قبر الشاعر). وقد أثارها في نفسه حديث عن الشاعر الفاضل المرحوم فوزي المعلوف، الذي قفي نحبه وهو بعد في ريعان الشباب ومزدهر الشعر، وسيحس القارئ في هذا التمجيد للشاعر شيئاً من تقدير المؤلف لنفسه، وإن لم يقل كلمة واحدة عن نفسه، وهذا خير مثال نضربه للذين لم يفهموا بعد أن هنالك مدرسة جديدة ومذهباً جديداً في الشعر العربي. فالقدماء من الشعراء كانوا هم أيضاً يقدرون للشاعر قدره. ولكن هذا الشعور كان مظهره فخر الشاعر بنفسه وبأدبه:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
…
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
هذا عتابك إلا أنه مقة
…
قد ضُمّنَ الدر إلا أنه كلم
واني وان كنت الأخير زمانه
…
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وفي الشعر العربي من هذا الشيء الكثير جداً، ذلك كان دأب القدماء ومن نحوا نحوهم من المحدثين، وقد تلطف شوقي وسلك طريقاً جديداً حين جعل غادته تقول:(أنتم الناس أيها الشعراء!) ولكن علي محمود طه لم يقل عن نفسه شيئاً ولم يفتخر بل جعل يصف لنا
الشاعر في مولده وحياته وفي أحلامه وأوهامه وفي تفكيره وحيرته، وفي أثناء ذلك نتبين ما للشاعر من قدر جليل ومكانة سامية.
ورجائي إلى الذين لم يصدقوا بعد أن هنالك تجديداً في الأدب العربي أن يفكروا في هذا المثل وحده الذي ضربته! فلعل فيه ما يقنعهم بان هنالك نواحي جديدة قد أخذ شعراؤنا يسيرون فيها وإنها من غير شك أكثر ملاءمة لروح عصرنا، فنحن اليوم لا نعبأ بشاعر يقول لنا إنه إذا قال شعراً أصبح الدهر منشداً. فلقد كان للفخر والتفاخر زمان غير هذا الزمان. ولكننا نرحب ونستأنس بهذه الصور التي تمثل الشاعر في أطواره المختلفة كما يحكيها لنا علي محمود طه.
تمجيد الطبيعة
الظاهرة الثانية التي تكاد تبرز أمامنا واضحة قوية في كلفحة منفحات (الملاح التائه) هي تمجيد الطبيعة، وهذه الظاهرة بادية فما ظهر من أدبنا الحديث كله، ولكنها شديدة الظهور في شعر علي محمود طه، وليس ذكره للطبيعة ذكراً سطحياً بل فيه تدبر وتعمق وإمعان فكر. وهي أحياناً تسيطر على القصيدة كلها كما هي الحال في (الشاطئ المهجور) و (صخرة الملتقى) و (القطب) و (عاشق الزهر) و (إلى البحر). ولكنها إلى جانب هذا منتشرة في الكتاب كله، ولن نعدم إشارة إليها في كل موضع.
وهذا يرينا كيف يسير شعراؤنا، بفطرتهم - ومن غير تعمد على ما أظن - في نفس الدور الذي سارت فيه حركة الرومانتزم في الشعر الغربي، فقد كان من أهم مظهرها الرجوع إلى الطبيعة.
والقارئ يعلم أن للوصف - سواء كان لظاهرة طبيعية أو لغيرها - طريقتين الأولى موضوعية فيحاول الكاتب بالألفاظ والعبارات أن يعطيناورة واضحة لما يراه أمامه كقول القائل:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى
…
ذهب الأصيل على لجين الماء
وكقول علي محمود طه نفسه:
نَزَلَتْ فيه تستحمُّ النجومُ الزُّ
…
هرُ في جلوة المساء المنيرِ
راقصاتٍ به على هزج المو
…
ج عرايا مهدلات الشعور
وعلىدره الخفوق طوينا الليل
…
في زورق رضى المسير
ورياح الخليج دافئة تثنى
…
حواشي شراعه المنشور
والطريقة الثانية في الوصف يرينا فيها الشاعر تأثير الموصوف في نفسه، ويتخذ من مظاهر الطبيعةوسيلة لأخراج ما يكنهدره من عاطفة أو حب أو ذكرى. كقول مهيار:
يانسيم الريح من كاظمة
…
شد ما هجت الجوى والبرحا
الصبا - ان كان لابد - الصبا
…
إنها كانت لقلبي أروحا
وكقول علي محمود طه في قصيدة (عاشق الزهر):
يا ليت لي كالفراش أجنحة
…
أهفو بها في الفضاء هيماناً
أروح للنور في مشارقه
…
وأغتدي من سناه نشواناً
وأرشف القطر من بواكره
…
فلا أرود الضفاف ظمآناً
والأمثلة على هذا ونحوه كثيرة جداً لا حاجة إلى الزيادة منها. وقد كانت عناية القدماء بالنوع الأول اقل من عنايتهم بالثاني. وأما هاهنا فسيجد القارئ من النوعين قدراً وافياً. . ومن رأيي أن قصيدة الوصف يجب أن تشتمل على النوعين فيبدأ الشاعر بتصوير الظاهرة التي أمامه حتى يكادالقارئ أن يلمسها، ثم ينتقل إلى تأثيرها في نفسه وإلى ما توحي به من حكمة أو عاطفة، وهذا سر القوة الهائلة التي نجدها في قصيدة مثل سينية البحتري في إيوان كسرى.
الغموض
والآن فلأعد. إلى علي محمود طه. وهنا أريد أن أسر إلى القارئأن مطالعة هذا الشاعر هي أحياناً عبارة عن لذة سهلة سائغة كما يجدها القارئ في قصيدة (عاشق الزهر) أو (قبلة) أو (غرفة الشاعر). أو رثاء عدلي يكن. ولكنه أحياناً، وفي بعض القصائد الخطيرة، سيجدها لذة لا تدرك بسهولة. بل لا بد لها من التأني والتدبر. أما الموسيقى فهي هناك لاشك فيها. لكن المعاني فيها بعض الخفاء.
وقد يرجع هذا الخفاء لازدحام المعاني المتعددة في البيت الواحد. انظر مثلاً إلى قوله في مطلع (الوحي الخالد)
لوجهك هذا الكون ياحسن كله
…
وجوه بفيض البشر من قسماتها
فمثل هذا البيت لابد أن يقرأ في هدوء وتؤدة وأن يعاد غير مرة حتى نستوعبه فهماً.
لكن هذا النوع من الخفاء لا يعترض عليه؛ بل قد يكون جميلاً مستحسناً. أما النوع الأخر فهو الذي دار فيه الجدال في (الرسالة) من قبل. وذلك أن هنالك شعراء لا يعنون فقط بالصور الواضحة الملموسة البارزة، بل يكون كذلك بالصور التي يحيط بها غشاء من الإبهام، كالتي يراها الحالم بين النوم واليقظة أو كالظل لا هو نور ساطع ولا ظلام حالك. وهذا ما يعبر عنه في الفرنسية ذلك مذهب الرمز بين أمثال فرلين وأتباعه يمثلهم في الشعر الإنكليزي إلى حدٍّ ما الشاعر سوِ ْنبِرْن.
فالقارئ لأمثال هؤلاء الشعراء يجد في شعرهم موسيقى بديعة وأنغاماً رخيمةً. أما المعاني البارزة الملموسة فإننا قد نطلبهادائماً، ولكنا لن نجدها دائماً. ويجب أن نكتفي منهم بصورة لا نعيها تماماً. بل نفهمها نصف أو ربع فهم. وذلك بالطبع لأنهم هم أنفسهم لم يفهموها الفهم كله، وإنما تأثروا بها غامضة مبهمة خافية، وأرادوا أنينقلوا هذا ألينا هذا الأثر كما هو.
وفي شعر علي محمود طه شيء يسير من هذا. نجده في مواضيع متفرقة، في مثل قصيدة (عاصفة في جمجمة)، أو في (الله والشاعر) وفي غيرهما. وكثير منا يعز عليه أن يمر بالبيت فلا يحيط بمعناه تمامًا، أو بالصورة فلا يتبين شكلها تماماً. وهذا الطراز من الناس لا يميل إلى هذا الضرب من الشعر وينكره. وقد يكون له بعض الحق في هذا الأنكار، ولكن يجب أن نذكر أن الشاعر الذي يخلص لشعره ولشاعريته مضطر لأن ينقل إلينا ما يراه أو يتوهمه من الصور واضحة من الصور واضحةأو خافية.
والذي قد نؤاخذ الشاعر عليه حقيقة شيء واحد، ومن السهل جداً عليه معالجته إذا وافقنا على رأينا فيه، وذلك أن الشاعر خيالاً قوياً مفرطاً في القوة، وكثيراً ما يركب هذا الخيال بلا سرج ولا لجام فيذهب به فيفياف بعيده وأقطار قاصيةلا نستطيع غالباً - أن نصحبه إليها. هذا الخيال القوي الذي كثيراً ما يطربنا ويعجبنا نراه أحياناً يتعبنا وينصبنا.
يعجبنا حين يرينا الشاعر هذه الصورة:
أيها الشاعر الكئيب مضى الليل
…
وما زلت غارقاً في شجونك
مسلماً رأسك الحزين إلى الفكر
…
وللسهدذابلاتجفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى
…
في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناضب به حر أنفا - سك يطغى على ضعيف آذينك
أو هذه الصورة:
وأطلت الأزهار ر من ورقاتها
…
حيرى تعجب للربيع الباكر!
وجرى شعاع البدر حولك راقصاً
…
طرباً على المرج النضير الزهر
فهذا وأمثاله كثير في (الملاح التائه) - هو من المعجب الطريف. وقد ساعده خياله القوي على إخراج هذه الصور الرائعة انظر إلى البيت الثالث في القطعة الأولى. ما أروعه وما أبدعه، وهو مع ذلك لا يحكي سوى حقيقة واضحة ملموسة. حقاً إن أبدع الخيال ما كان وسيلة إلى تصوير الحقيقة.
وإلى جانب هذا سيجد القارئ إن شاعرنا قد يذهب به الخيال مذاهب بعيدة: انظر مثلاً إلى قوله في (أغنية ريفية) إلى أن يمل الدجى وحشتي=وتشكو الكآبة مني الضجر
بيت موسيقاه جميلة مطربة. ولكنا لا ندري كيف تشكو الكآبة منه الضجر. وكذلك نرى خيال الشاعر قد بعد عنا إلى حيث لا نلحقه في قصيدة (عاصفة في جمجمة)، ولا نستطيع أن نأتي بها هنا كلها، ونكتفي بمثال أو اثنين كقوله:
أحياة سمتهاخر ونار
…
حفت الأشواك من يسلكه
تنقضي الآجال فيه والسفار
…
أبدى، ويح من تهلكه!
احملوا أمس إلى حفرته
…
وتخطوا هوة الوادي السحيق
واحفزوا النجم إلى ثورته
…
واحطموا أنو الليل ل ايفيق،
وبالطبع عذر الشاعر في هذا كله أنها (عاصفة في جمجمة) ويجب أن تثور مثل هذه العاصفة في جمجمة القارئ لكي يستمتع بهذه القصيدة.
كذلك قد يجد القارئ أن الخيال قد ذهب بعيداً في قصيدة (النشيد) حيث يجرد الشاعر من حبه شخصاً يصاحبه إلى لقاء الحبيب. وفي بعض المواضع نجد من الصعب علينا أن نتصور الموقف تماماً.
هذا ما يبدو للناقد في خيال الشاعر، أنه قد يفرط في القوة فيذهب مذاهب بعيدة. فإذا وافق الشاعر على هذا الرأي، فمن ابسط الأمور عليه أن يخفف من حدة هذا الخيال.
الأسلوب
الأسلوب هو طريقة الأداء، وهو من المعاني كالجسد من الروح. وإذا نظرنا في أسلوب علي محمود طه نجد عبارته منسجمة طلية وألفاظه في الغالب متخيرة، ودليله في الاختيار حسن وقعها في الأذن، وهذا نجده في معظم الكتاب، حتى في المواضع التي يخفى أو يغمض المعنى لانعدام الموسيقى على كل حال.
وفي اختيار الشاعر لأوزانه نراه يكثر من الخفيف والرمل. ونصف قصائد الكتاب من هذين البحرين، وهو أحياناً يكتب القصائد الطويلة على الطراز المألوف من قافية واحدة؛ واكثر الكتاب من هذا الطراز ولكنه - لحسن الحظ - قد أتى بقصائد ذات قواف متعددة، وهذه على ثلاثة أنواع؛
(1)
في الأول منها تتغير القافية عدة مرار بلا قيد ولا شرط كما في قصيدة ميلاد الشاعر.
(2)
وفي الضرب الثاني تتغير القافية في كل أربع أبيات كما في (غرفة الشاعر) و (قبله) و (قبر شاعر) وترجمة (البحيرة) وقد نظم شعراء آخرون قصائد على هذا النظام الرباعي ولهذا يخيل لي أنه طراز طبيعي مستحسن. والمنتظر لهذا النوع أن ينتشر، ومن المستحسن جداً أن ينتشر.
(3)
أما النوع الثالث ومنه قصيدة (الله والشاعر). فان فيه كل بيتين على حدة؛ والمصراع الأول يتفق في القافية مع الثالث والثاني مع الرابع. وهذا الطراز منتشر أيضاً في الشعر الحديث.
وهذا النظام الجديد للقافية من الظاهرات التي نرحب بها في شعر شعرائنا المحدثين. فقد انقضى الزمن الذي يفتخر فيه الشعراء بطول النفس؛ وبأن الواحد منهم ينظم القصيدة في مائة أو مائتين بل مئات من الأبيات، لا يكرر فيها القافية. كان
هذا الفخر سخفاً لا طائل تحته. فليس نظم القصائد الطوال في قافية واحدة بالشيء العسير على من أراد أن يقيد المعنى بالقافية. وان يجعل الجسم كله متوقفا على شكل الذِّنب! وأكبر شعراء العربية لم يكونوا من المطيلين مثل أبي نواس، والمتنبي. ولم يخرج عن هذه القاعدة سوى ابن الرومي. الذي كان يكرر معانيه ويفصلها ويستقصيها فتطول قصائده تبعاً لذلك.
وليس من شك في أن تنويع القافية سيشق أمام شعرائنا طرقاً كانت مغلقة أمام المتقدمين،
ويفتح لهم أبواباً جديدة.
وقد لاحظ الأستاذ طه حسين على شاعرنا أن قول فيه أحياناً غير متفقة في مثل (نورها وقبرها) وفي مثل (فاتها ويواقيتها) و (ووجهها وتيهها) في قصيدة (الله والشاعر) وهذه الأمثلة حقيقة نادرة في الكتاب. ولكن يجمل بشاعرنا الذي ينشد الكمال أن يلاحظها:
ولقد يؤخذ على شعرائنا المحدثين انهم قلما يهتمون بدراسة موضوع العروض والقوافي في اللغة العربية. اتكالاً على أن هذا من الأشياء التي تجيء للشاعر الموهوب عفواً. هذا مع أن الكثير منهم - وليساحب (الملاح التائه) أحدهم - ربما خلط - بين الوافر والهزج، وبين السريع والكامل، وبين الكامل والرجز. ولو أنهم أتعبوا أنفسهم قليلاً في دراسة كتاب مختصر عن الوزن والقافية لكفوا أنفسهم شر هذه الزلات.
إن العرب قد اصطلحت على أن القوا في الآتية - مثلا -:
ليلى - ذْيلا - قوْلا - هولا. لايجوز أن تجتمع في قصيدة واحدة مع هذه القوافي - مثلا -: قبلا - عدلا - جهلا - مهلا. فالمجموعة الأولى فيها حرفا علة - الواو والياء - لهما موسيقى خاصة لا تتفق مع الحروف الساكنة الأخرى. فلو عرف شعراؤنا هذا الاصطلاح العربي القديم لأمكنهم أن يتذوقوا القافية التذوق اللازم. وليس من حسن السياسة في شئ أن نجهل أو نتجاهل ما اهتدى إليه الشعراء من قبل باحساسهم وذوقهم. ومهما كما كانت غرائز شعرائنا قوية وصادقة. فان جموع غسرائز شعراء العربية في مختلف العصور والبلاد أقوى وأصدق. لهذا كان لابد لشعرائنا من دراسة العروض دراسة وافية لكي يطلعوا على زبدة تجارب المتقدمين.
وفي الختام أهنئديقاحب (الملاح التائه) على كتابه البديع الذي قد تبوأ مكاناً ثابتاً خطيراً في الأدب العربي. واذا كان الأستاذ طه حسين قد قال عنه إنه مبتدئفليس معنى هذا أنه ينقصه النضوج أو الجمال. فهذا واضح في الكتاب كل الوضوح. ولكن معنى ذلك في نظرى أن لديه ما لمبتدئ من حماس ومن قوة ومن سعي وراء الكمال.
جوان لي بان
عوض
القصص
منور الريف
كفارة. . .!!
. . . نهار من أيام الخريف، بدأ ثقيلاً طويلا قاتماً، ومضى عاصفاًاخبا، وأقبل اليل فسال الظلام على جوانب الكون كثيفا مطبقا، الريح تعصف عنيفة باردة والساء يغشاها سحاب أسحم ومطر سخي، أوراق الثسجر تساقط مستسلمة، وسهف النخيل يتخدى العاصفة، والعاصفة تداعبه وتعبث به، فتشيع في أطراف الليل حفيفأ موحشأ يشبه أن يكون أنين أرواح هائمة في أودية العذاب، أصوات الذئاب يتجاوب بها الصدى، والكلاب ترد عليها بنباح قوي مختلط يتصل حيناً طويلا، ثم ينقطع لحظات، ثم يعود فيتصل ويختلط، على ان هذه الأصوات المختلطة المبهمة كانت تنجلي أحيانا عن نداء أو غناء يردده أحد الفلاحين في حقل بعيد
سكون موحش يثير القلق، ويحمل على الشك، ويدفع الرهبة إلى النفوس دفعا. . . وقف بيومي قليلا ثم تردد في استئناف السرى. . . لقد جسم له الوهم والخوف من الظلام أعمدة جاثمة تعترض الطريق كأنها المردة السود، وكان بيومي يقف أحياناً يتطاول بعنقه ويرهف سمعه ويضرب بعينيه فيميم الظلام كأنما يبحث عن قبس أو هدى: إنه يحمل في جيبه مالاً كثيراً وهو يوجس خيفة، وهو فوق هذا وذاك يحس شيئاً من الجوع والتعب وبين بلده ساعةً وبعض ساعة فلماذا لا يبيت بلدة (قلوصنا) وهي على بضع دقائق فقط ريثما يسفر الصبح؟ إن لهديقاً قديماً هو شيخالخفراء وأكبر الظن أنه سيطعمه من جوع ويؤمنه من خوف ويهيء له من امره راحة وأمناً. . . ومن أحق بهذا من شيخ الخفراء؟! ولكن بيومي لا يستريح إلى هذا الحل ويتردد طويلاً قبل أن يبيت فيه لأنه يعلم عن شيخ الخفراء ما ليس لنا به علم، إنه يخشى أن يجيئه الهلاك من مأمنه، فلشيخ الخفراءحائف في ثبت الأجرام، وأكبر اليقين أنه لا يتورع من أن يضيف إليها فصولاً جديدة. ولكن أتراه يعتدي على ضيف ينزل بداره ويلجأ إليه؟ ربما! وهو فوق ذلكديقه! ولنترك بيومي يضطرب بين الشك واليقين ويتصارع في نفسه الأحجام والأقدام فلعل الله أن يجعل له فرجاً من الضيق، ومخرجاً من الحيرة، ومن الخوف أمناً وهدى. . .
أما عبد الهادي شيخ الخفراء فهو رجل مديد القامة، شديد البأس، قوي مفتول، له وجه تشيع في قسماته الصرامة، وعينان ينبعث منهما التحدي والشر، كان فيما فرط من أيامه يقطع الطرق ويهدد السارينويسلب الناس، ولم يجد في القتل حرجاً ولا في السلب جناحاً، بل إنه ليعدها من مفاخره. وعبد الهادي يثبت نظرية لمبروزو في المجرمين فقد كان من القرويين الذين تغلب فيهم سيطرة الأجرام، ويتحكم في رجولتهم شر اسود في لون هذا الليل العاصف المدلهم، لم يكن يردعه قانون ولا دين، ولا يمنعه عقل ولا عاطفة، عُين شيخاً للخفراء فزاد عبثه وما زال يصل أسبابه بأصدقائه القدماء من اللصوص والقتلة، يغريهم بالناس ويدلهم على مواطن الصيد ويمهد لهم سبل الإفلات. . .
واتصلت جرائمه واضطرب الأمن في بلده والبلاد القريبة، والناس يعلون أن لعبد الهادي يداً في كل شيء، لكنهم امتون لايهمسون، لأن لعبد الهادي عيناً ترقب الثرثار، ولأن الناس يدفعون هذا الصمت ثمناً لأرواحهم وأموالهم إشفاقاً من انتقامه وهم يؤدون إليه ما يفرض عليهماغرين إذاً اختفت سوائمهمفترد إليهم من حيث يعلمون ولا يعلمون.
أما بيومي فقد قلب الأمر غير مرة وانتهت المعركة في نفسه أخيراً. . . وتغلبت على وساوسه نوازع الثقة في الله ودوافع الخوف من السرى في الظلام والبرد، وتعاونت هذه الأسباب كلها على أن تسوقه إلى بيت عبد الهادي ضيفاً. . .
طرق بيومي باب عبد الهادي في رفق ففتح له وأحسن استقباله وقدم إليه طعاماً وأعقبه بالشاي مثنى وثلاث، ثم سمر معه إلى وهن من الليل وتركه ليجول في البلاد جولة بعد أن أوصى به ابنه سالماً أن يهيئ له فراشه في المنظرة، سهر بيومي وسالم ما طاب لهما، وسمرا ما تشقق بينهما الحديث وشربا الشاي غير مرة، ودخنا كثيراً ثم ثقلت أجفانهما وفترت أعضاؤهما ولحقهما الخمول، وأحسا الحاجة إلى الراحة فقام كل منهما إلى فراشه، ونام بيومي بعد أن قرأ ما تيسر من القران وتوكل على الله وأسلم إليه وجهه.
وعاد عبد الهادي بعد ما انتصف الليل وقد طوعت له نفسه أمراً، وأحسب أن هذا الأمر قد اختصم في نفسه طويلاً مع الواجب، واحسب أن بقايا المروءة المتناثرة في زوايا قلبه قد تجمعت فانطلقت تقرع أذنيه في عنف واتصال. . .! ربما لم يسمع، وأكبر الظن انه سمع، ولكنه سخر من ضميره وضحك من هذا الخور الذي لم يألفه في أعصابه، اتجه إلى الباب
ففتحه ودار ببصره في الظلام والنجوم، ثم أرسل ضحكه مكبوتة كأنها في فحيح أفعى هائلة ثم انقلب إلى الداخل ثانية وأجمع رأيه قبل أن يبدله ما يرده إلى النكول أو التردد، حمل الذئب (بلطته) وتسلل إلى المنظرة فدخل ثم وقف وأنصت وتقدم إلى النائمفناوله ضربات متصلة قطعت ما بينه وبين العالم من أسباب الحياة.
اضطرب القتيل قليلاً ثم ساد السكون مرة أخرى. . .! وتحسس عبد الهادي جيب القتيل فلم يجد معه من المال قليلاً ولا كثيراً.
عرته الدهشة. .! أين اختفى المال الذي كان مع بيومي.؟ لاشك أنه حفظه في مكان ما في نفس المنظرة. . . ولم يتردد
عبد الهادي في أن يخفي أثر الجريمة أولاً. . . فلف الجثة وحزمها ثم حملهامطمئنا آمناً، لأن الشك ينحسر عنه وإن فاض حول جميع الناس. . شيخ الخفراء طبعا. .!! وللمرة الأولى أحس عبد الهادي رجفة تأخذ أعصابه وهماً مبهماً جائشاً يستبد بروحه ويضيق عليه أنفاسه، وثورةاخبة تصم أذنيه وتدور برأسه. . . لقد أخذه الندم! وأفاق ضميره ولكن متى. . .!؟ سمع عبد الهادي وقع حوافر الخيل تخب مسرعة وتناديه أن يقف. . إنهم العسس (الداورية)! غامت الدنيا في عينيه وملكه اليأس وأسقط في يده ولم يملك إلا أن يتطامن للقضاء الأعلى ويعنو لأرادة الله التي ترى كل شيء وتدبر كل شيء. . .! قاتل! وشيخ خفراء!! جريمة ذات شعبتين، قاده الجند إلى منزله أولاً وعلى كتفه ضحيته. . وحسر الجند اللفائف وتفرسوا في وجه القتيل وصرخ عبد الهادي وخرعقا. .!
لقد قتل ابنه خطأ. . .! واستيقظ بيومي فزعا فأدرك كل شيء، وأعلن أنه كان ينوي أن يبيت في المنظرة لولا أن سالما رأى أنها رطبة لا تلائم الضيف فنقله إلى غرفة أخرى وأخذ مكانه في المنظرة.!
وكان يوم الحكم فشرقت القاعة بالوفود ووقف القاتل في القفص يبكي في إطراق طويل وصمتاخب ومرارة ملتهبة وحسرة لجوج، وساد السكون فجأة لما ارتفعوت القاضي يدوي في القاعة قوياً جلياً هادئاً (أشغال شاقة مؤبدة).
وقاد الجند الرجل المحطم إلى قاعة النيابة في أعلى المحكمة وهو. لا يزال ينشج كالأطفال. . . وغافل الرجل المحطم الحراس وألقى بنفسه من أعلى المحكمة فهوى خليطاً
هامداً من اللحم والعظم. . . قلوصنا
محمود البكري القلوصناوي
يوميد
للأديب حسين شوقي
ما كادت تلوح بالأفق خيوط النهار الفضية الأولى، حتى كنا انتبهنا من نومنا: ديقاي وأنا، وقد أزمعنا الذهاب لصيد البط في ضواحي الهرم، وكان كل منا يحمل بندقية ذات عيارين وعدداً كبيراً من الخرطوش، عدنا السيارة ونحن أشد بهجة من فصائل اسكندر المقدوني الفتية لدى زحفها على أسيا.
أما المدينة فكانت غارقة في النوم في تلك الساعة المبكرة ساكنة بأحقادها وشهواتها، ولم يكنأحد مستيقظاً، اللهم الا محرك سيارتنا.
سارت بنا السيارة في شارع الهرم، ولما بلغنا المستنقعات الواقعة في الجهة الغربية من طريق الهرم، غادرناها وركبنا زورق طلي بالطلاء الأسود حتى لا نشعر البط بوجودنا بالمستنقع، وكان موجوداً بكثرة على سطح الماء. . هل كان البط نائماً وقتئذ؟ لم يكن لدينا شك في ذلك برغم اعتراض دليلنا - وكان فتى قرويا - وذلك لسكونه سكوناً عجيباً. .
ولكنا كنا مخطئين إذ لم نكد نقترب منه حتى انطلق في الجو. كأنه سهم ناري فأطلقنا عليه البنادق في الهواء ولكن بدون جدوى رغم عدده الكثير. . لقد ظهرنا في عيني دليلنا القروييادين غير ماهرين، فانتزع بندقية أحدنا وأطلق طلقة واحدة أسقطت بطة في الحال!
وا أسفاه على الدروس التي تلقيتها فيباي للصيد في الهواء! كنت أتمرن وقتئذ على البيض، يقذفون لي البيض في الهواء فأطلق عليه بندقيتي فاذا أصيب البيض وهو ما كان يقع نادراً - سال فأمطرنا مطراً اصفر.
وبعد محاولات يائسة لصيد البط، غادرنا المستنقع إذ لم نجد سبيلاً إلى البط فهو شديد الفطنة. .
كيف يدرك البط الخطر على مسافات بعيدة؟ إن شأنه شأن الحمام الزاجل الذي يعرف طريق الوطن على بعد مئات من الأميال. هل تكشف لنا الطبيعة يوماً عن مثل هذه الأسرار؟
قبل أن نغادر تركنا لدليلنا القروي البطة التيادها هو، حتى لا تذكرنا فشلنا على الدوام. .
هل كنا نعود وقتئذ إلى المنزل؟ لم يكن في استطاعتنا أن نفعل ذلك، إذ لوعدنا لصرنا
سخرية للجميع. . ممنا بعد ذلكعلى البحث عن طير يكون أقل فطنة من البط. .
ها نحن أولاء نسير وسط الغيطان التي كسيت بساطاًأخضر جميلاً من البرسيم. . وثم اعترضتنا ترعة لاجسر عليها للمرور، وكنا في حيرة من أمرنا حينما اقبل قروي وتطوع أن يحملنا على ظهره عبر الترعة. وقد مرت بهذه الطريقة، ومر أحدديقي. وأما الصديق الثالث وكان بديناً، فقد غرز هو وحامله في الطين، وبدلاً من أن يعمل على الخروج من الترعة، أخذ يضرب القروي المسكين!. ياله من منظر مضحك أنسانا فشلنا مع البط!
ثم أقبل قرويان آخران فقاما بعمليه النجدة. . بعد ذلك بلغنامكاناً مظللاً بالأشجار الكثيفة، حيث أخذت العصافير تزقزق جزلة مسرورة. . وقد شاهدنا على أحد الغصون يمامتين تتناجيان، كم كان منظرهما جميلاً، وقد طوق عنقاهما بطوق فاحم جميل، كما رصع منقاراهما بالياقوت. .
ثم حدث ما كنت أخشى وقوعه، فقد اقترحديقاي أن نصطادهما! لم يكن في طاقتي أن أطلق النار على هذين المخلوقين الجميلين، إنها حقا لوحشيه! لذلك رفضت، فقال أحدديقي ليقنعني: أطلق ولاتكن غبياً، لقد حللت لك الصيد قوانين السموات والأرض! فقلت: ليكن، ولكن قلبي لا يطاوعني! ولما رآنيديقي مصمماً على الامتناع، أطلق هو عياراً
فأردى إحدى اليمامتين، سقطت وقد كسر جناحها، كما أن خرطوشة أخرى لا بد أنها اخترقت قلبها، لأن الدم كان يسيل من منقارها بغزارة.
ورغم وحشيتنا هذه. كانت عينا اليمامة ترمقاننا في حنان، كأنها قد غفرت لنا فعلنا كما غفر عيسى من قبل لمضطهديه اليهود! يا للأسف! إننا ما زلنا متوحشين نسر لرؤية الدم! كم نحن بعيدون عن المثل العليا التي ينشدها أفلاطون!
ومن ذلك اليوم كرهت الصيد، فكل عام اجدد رخصتي دون أن أجدد رغبتي.
حسين شوقي
الكتب
علم الدولة
(الجزء الأول في أصول الدولة وتطورات فكرتها)
تأليف الأستاذ أحمد وفيق
يقع الجزء الأول من هذا الكتاب الفذ في نحو أربعمائةفحة من القطع الكبير، وهو ثمرة جهود شاقة وتجاريب طويلة وحسبك أن فكرة الكتاب قد جالت في رأس مؤلفه الفاضل منذ خمسة وعشرين عاماً، وأن العمل على إصداره ظل شغله الشاغلطوال هذه المدة، ذلك لأنه أثر التريث وإمعان النظر وإطالة البحث والاطلاع حتى جاء عمله في النهاية جديراً بفضله وأدبه وواسع خبرته.
مهد الأستاذ لموضوعه الواسع بمقدمة ضافية محكمة فتكلم عن أسباب إصداره هذا الكتاب مشيراً إلى حاجة الشرق في نهوضه إلى مثل هذه البحوث، ثم عرف هذا العلم إلى القاريء وجاء بلمحة تأريخية عنه، وبين له كيف تدرس فكرة الدولة عملياً، وتعرض لآراء العلماء في ذلك وهي بحق مقدمة شيقة، تدلك على شدة اهتمام الأستاذ بموضوعه كما تشهد بحسن فهمه واستيعابه له.
بعد ذلك تكلم الأستاذ في هذا الجزء من كتابه عن أصول الدولة وعرض في إسهاب ودقة النظريات المختلفة التي وضعت للدولة، فتكلم عن نظرية الطبيعة، وعن نظرية الأصل الاصطلاح شارحاً العقد الاجتماعي واصله، مورداً آراء الفلاسفة في ذلك. ثم انتقل إلى نظرية التكوين الاختياري الضروري للدولة ذاكراً في كل نظريه ما دار حولها من الآراء.
وبعد أن انتهى الأستاذ من سرد النظريات وشرحها، عاد إلى الكلام عن التطور التاريخي لفكرة الدولة: فتكلم عن فكرة الدولة في الهند وفارس والصين ومصر ودولة الإسرائيليين واليونان والرومان، ثم انتقل إلى العصور الوسطى وعهد إحياء العلوم وعهد الإصلاح مورداً في كل هاتيك الخطوات آراء العلماء والفلاسفة شارحاً جميع الحركات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي لم يكن منها بد لموضوعه، وقد ختم الجزء الأول عند هذا الحد، وسيفتتح الجزء الثاني بتناول الفكرة ابتداء من عهد الانتقال بين عصر الإصلاح وعصر الثورة الفرنسية.
وأني وقد أعجبتني طريقة الأستاذ وفيق في بحثه، وراقتني فصاحته وخبرته لأتقدم إليه باقتراح أرجو أن ينال عنده القبول، ذلك أن يفرد بابا من كتابه لفكرة الدولة في الإسلام وتطورها منذ عصر الخلفاء، فان القاريء الشرقي ليتطلع إلى هذه. الناحية في شوق عظيم، ولا سيما إذادرت من عالم جليل كالأستاذ وفيق له مثل هذه الخبرة عن الدولة وفكرتها.
م. الخفيف
غاندي والحركة الهندية
تأليف الأستاذ سلامة موسى
غاندي والحركة الهندية كتاب جدير بأن يطلع عليه كل شبابنا فهو حافل بدروس الوطنية الصادقة مصورة في حركة من أروع وأجل الحركات الوطنية وفي شخصية من أعظم شخصيات التاريخ هي شخصية غاندي الرجل العظيم والزعيم النادر المثال والإنسان الكامل، الذي لايجود الزمان بأمثاله من العظماء الإ كل حقبة طويلة من الدهر.
أعجبني في هذا الكتاب تفصيل الموضوع وحسن تقسيمه وتقريبه إلى أذهان القراء في مهارة ولباقة عرف بهما مؤلفه الفاضل. ثمأعجبني أكثر من ذلك ما أحسسته من حماس الأستاذ. وصراحته وصدق تأثيره بما يكتب واندماجه في موضوعه حتى لتحار فيما لو كان الأستاذ يسرد عليك تاريخ وتطور حركة من الحركات الوطنية أم هو يسمعك آراءه الصريحةالجريئة في الاستعمار أو وما ينجم عنه من نكبات كل ذلك في أسلوب علمي دقيق جمع بين حماس القلب ورزانة العقل.
قسم الأستاذ هذا الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، ففي الجزء الأول يتكلم عن الأحوال العامة في الهند، وفي الجزء الثاني يبسط لك سياسة غاندي وفلسفته، وفي الجزء الثالث يورد لك بعض مقالات وحكم كتبها غاندي ونشرت في المجلات الهندية.
وغاية الأستاذ من هذا الكتاب جديرة بالثناء، انظر إلى قوله (ونحن في جهادنا للمباديءالإمبراطورية البريطانية نشبه. الهنود وإن كانت قدم الإنجليز في الهند ارسخ وتاريخهم أطول، ولهذا السبب نفسه يجب أن نستنير بحركتهم كما استناروا هم بحركتنا
فان زعماءهم كثيراً ما ذكروا الاتحاد بين المسلمين والأقباط في مصر ودعوا أبناء أمتهم المسلمين والهندوكيين إلى مثله في الهند. وسيجد القاريء المصري في هذا الكتاب كثيرا ًمن المواضيع التي يهمه معرفتها، كأصل الحركة الهندية والديانة الهندوكية، والفقر والنجاسة، والدستور الجديد، وغاندي وحياته وموقفه من المدينة الحديثة وما لم يعرف عن غاندي، وصوم غاندي الأول، هذا إلى بعض مقالات غاندي نفسه، مما يجعل الكتاب جديراً بالمطالعة والانتفاع مما جاء فيه من دروس نحن أحوج ما نكون إليها.
مثلنا الأعلى
قصة وضعها عبد المجيد عباس المعلم في مدرسةتطبيقات دار المعلمين
مطبعة الحكومة - بغداد
قصة تمثيلية تقع في أربعين صفحة من القطع الكبير، موضوعها الوحدة العربية والدعوة إليها، أهداها صاحبها الفاضل المغفور له فيصل بن الحسين فقيد العرب العظيم وجاء في هذا الإهداء أنها (مُثلت في حضرة جلالته فحباها بالإعجاب، وظفرت من جلالته بالرضا).
ونحن لا يسعنا إلا الإعجاب بكل ما يكتب عن الوحدة العربية والدعوة إليها كما أني أشعر بالغبطة والارتياح بعد تلاوة القصة، وذلك لما تخللها من شعور كريم وآراء سديدة. ولكني إذا نظرت للقصة من ناحية الفن، أجدني ميالاً إلى أن أصرح لمؤلفها الفاضل بأن هذا الموضوع الكبير، كان يحتاج إلى طريقة خير من طريقته التي اتبعها، كما أن القصة يكاد ينعدم منها الجو القصصي، وكأني في مواضع كثيرة منها كنت استمع إلى مناظرة في موضوع الوحدة العربية، فالحوار ينقصه (الفن في الأداء والتوجيه، والآراء تسرد بطريقة سطحية جافة كما يجيء على لسان مدرس المطالعة عند شرح موضوع درسه، هذا إلى أنها تكاد تخلو من المواقف المثيرة والمفاجآت القوية، كما أن مناظرها محدودة وأشخاصها قليلون لا أكاد أفرق بينهم في خلق، غير أني أشعر بميل المؤلف الفاضل إلى القصة واتخاذها أداة لنشر ارائه، ولعلنا نجد منه في المستقبل ذلك الفنان الناضج الذي يجمع بين الموهبة والثقافة
م. الخفيف