المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 521 - بتاريخ: 28 - 06 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٢١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 521

- بتاريخ: 28 - 06 - 1943

ص: -1

‌عرض واحد

للأستاذ عباس محمود العقاد

كان خلاصة ما قلناه في مقالنا السابق عن المرأة والفنون أن نصيب المرأة من الفنون محدود لا يرتقي بها إلى مراتب النبوغ العليا بين الشعراء والمصورين والموسيقيين، وختمناه بقولنا:(إن استحضار هذه الحقيقة لازم جد اللزوم في عصرنا هذا، لأننا نسمع المذاهب الاجتماعية حولنا تمارى على حساب أهوائها ومراميها في تقديم الجنسين بين قائل بالتشابه الكامل وقائل بالفوارق والمزايا التي يقتضيها توزيع العمل واطراد الخلق في طريق التخصيص والامتياز. ورأينا نحن أميل إلى هذا المذهب القائل بالفوارق والمزايا، لأنه الحق الواضح أمامنا، ولأنه العدة التي ندرع بها أذهاننا للقاء فوضى المذاهب التي فيها الضير أكبر الضير على المجتمع الإنساني وخلائق الإنسان)

أما المذهب القائل بالتشابه الكامل بين الرجال والنساء فهو مذهب الشيوعية، وهو ينزع هذا المنزع في تقديم الجنسين لأن فلسفة كارل ماركس تقتضيه ولا تستقيم بعضها مع بعض إلا إذا فرضنا أن الجنسين متماثلان متشابهان في الواجبات والحقوق. وآفة كارل ماركس وأتباعه أنهم يريدون أن تتحول الحقائق ليصبح مذهبهم صحيحاً قابلاً للتنفيذ، ولا يريدون أن يتحولوا هم في آرائهم وفروضهم وتقديراتهم لتصبح الحقيقة هي الحقيقة بمعزل عن المذاهب والفلسفات

فالعائلة عندهم هي أساس الاستغلال

وقيام المرأة بشؤون البيت هو أساس العائلة

والتفرقة بين الرجل والمرأة في الواجبات والحقوق إنما تنشأ من قيام المرأة بشؤون البيت وانصراف الرجل وحده إلى الأعمال الخارجية

لهذا يجب أن تكون المرأة مساوية للرجل، وألا يكون بينهما فارق في كفاءة من الكفاءات، لأنهم مضطرون إلى هذا القول في طريق إلغاء العائلة

فلتكن الحقيقة إذن هكذا لأنهم هكذا يريدونها، لا لأن قوانين الخلق والتكوين منذ وجدت الذكور والإناث في الحياة الحيوانية والنباتية تشهد بالتفرقة بين الجنسين، وتشهد بأن الحياة ماضية في طريق تقسيم العمل والاختصاص ولا تمضي في طريق التشابه وإلغاء الفروق

ص: 1

وبلغ من سخف الغلاة منهم في هذا الباب أنهم يسمحون للمرأة بالإجهاض ولا يرون فيه وجهاً للعقاب، لأن الرجال والنساء متساوون

وأنت تسأل: وما شأن هذه المساواة في إباحة الإجهاض؟ فيقولون لك نعم؛ إن الرجل لا يكرهه أحد على إنتاج النسل فلماذا يفرض على المرأة أن تحمل على غير إرادتها؟

حقارة في التفكير هنا لا تقل عن الحقارة في الشعور، لأن هؤلاء الشيوعيين ينسون أساس مذهبهم وهم يلغطون بهذا اللغو السخيف: ينسون أن مذهبهم كله قائم على تغليب المجتمع على حرية الفرد في تصرفاته العامة. فكيف يتفق مع هذا المذهب أن تكون حرية الفرد غالبة حتى على حفظ النوع وتجديد الحياة؟

وليس هذا كل ما هنالك من حقارة التفكير وحقارة الشعور، لأن القياس العقلي معدوم هنا لا يستند إلى برهان. إذ الإكراه وعدم الإكراه إنما يكونان في دور الإرادة والرغبة ولا يكونان بعد خلق الجنين ووجود هذه الحياة الجديدة. والمرأة تستطيع كما يستطيع الرجل أن تمتنع عن العلاقة الجنسية فلا فرق في هذا بين الرجال والنساء، ولكن المسألة إذا وصلت إلى جنين يخلق وحياة جديدة تظهر فلا الرجل ولا المرأة يملك هنا أن يريد أمام إرادة الحياة وأمام القانون الطبيعي والقانون الإنساني اللذين يحميان كل حياة

وهكذا تلتقي في كثير من الآراء الماركسية حقارة الفكر وحقارة الشعور

وهكذا ينبغي أن نحرس عقول الشبان ونفوسهم من هذه الحقارة في شعورهم وهذه الحقارة في تفكيرهم، وأن نضع أيديهم على موطن الداء الذي ليس به كثير خفاء

وموطن الداء فيما نعتقد إنما هو الكسل والحسد

وصدق (فرويد) وأصحابه حين قالوا إن المرتبة الأولى من مراتب الشقاء في العقد النفسية إنما هي كشف العلة الحقيقية لعين المريض المصاب بها

والعلة الخفية التي تجنح ببعض الشبان عندنا إلى التفكير الشيوعي هي أنهم يحسدون وأنهم يكسلون، وأنهم يريدون من المجتمع أن يعطيهم جميع حظوظ الحياة؛ ويخيل إليهم أن المجتمع الشيوعي كفيل بتحقيق هذا المطلب، وإذا لم يكن كفيلاً بتحقيقه

فاقتلوني ومالكا

واقتلوا مالكا معي

على حد قول الشاعر العربي، أو (عليَّ وعلى أعدائك يا رب) كما قال شمشون الجبار

ص: 2

وكلمة وجيزة تفتح عيون هؤلاء المخدوعين على الحقيقة التي تبدو من وراء ستار رقيق

هذه الكلمة الوجيزة هي أن المجتمع الشيوعي لا يدعي أية دعوى في الإصلاح الاجتماعي إلا سمعنا دعوى مثلها من ناحية الفاشيين والنازيين

فمحاربة البطالة وإسعاد المرأة وإنصاف الفقراء وما شابه هذه الدعاوى ذائعة بين الفاشيين والنازيين ذيوعها بين الشيوعيين، والإحصاءات التي يسردها هؤلاء تشبه الإحصاءات التي يسردها هؤلاء، وكلها في الواقع تمثل حالة طارئة أمكن فيها تشغيل معظم الأيدي من الذكور والإناث، وهي حالة الإنتاج الحربي التي تتعلق بعوارض الحرب ولا تتعلق بنظام السلام والاستقرار

ومما يؤسف له أن تسري هذه الخدعة إلى نفوس نفر من الشبان الأدباء فيغتروا بالدعاوى الطوال العراض التي يروجها الشيوعيون عن الحياة الأدبية أو الحياة الفنية بينهم، ويحسبونها الفردوس الموعود لكل أديب أو كل مشتغل بفن جميل

والآفة هنا كالآفة هناك هي الأخذ بالسماع وقلة الاطلاع على حقائق الأمور من وراء الدعاوى والأقاويل

ولو اطلعوا على تلك الحقائق لعلموا أي جو خانق هو ذلك الجو الذي يعيش فيه الأدباء الملهمون من الشيوعيين

ولا ضرورة للإطالة في هذا الصدد لأن كلمة وجيزة قد تغني فيه غناء الإطالة في البحوث والفروض. وما حاجتنا إلى بحث أو فرض بعد أن نعلم أن ثلاثة من فحول الشعراء عندهم قد انتحروا في فترة واحدة، وأن شاعراً آخر هو أكبرهم وأفحلهم قد مات في عنفوان الرجولة ميتة تحيط بها الشبهات؟

أما الشعراء الثلاثة الذين انتحروا فهم مايكوفسكي

وأما الشاعر الذي مات في عنفوان الرجولة فهو ألكسندر ولعله الشاعر الوحيد الذي يقارب في أفقه شعراء النهضة الأولى بين الروسيين

ولو كان هؤلاء الشعراء من أعداء الشيوعية لقلنا إنهم برموا بالحياة لاختلاف العقائد والأمزجة والآمال

ولكنهم جميعاً من الغلاة في الدعوة الشيوعية، وممن ظهروا واشتهروا بعد الانقلاب الأخير

ص: 3

كذلك لو كانوا من طبقة واحدة لأمكن أن يقال إن الشيوعية تلائم طبقة ولا تلائم طبقة أخرى، ولكنهم متفرقون في النشأة، منهم العامل الذي يبشر بالمدينة، والفلاح الذي يبشر بالقرية والمعيشة الريفية، وكلهم كرهوا الحياة في المصانع وفي الحقول. وأصدق ما يقال في هذا أن الشيوعية جو خانق لكل قريحة ملهمة، ولو كان صاحبها من دعاتها الغلاة

ونعود فنقول: (فتش عن الحسد والكسل) لأنهما على التحقيق علة كامنة وراء كثير من الظواهر الغريبة التي تلاحظ على بعض الناشئين في الجيل الحاضر، وبهذه العلة نستطيع أن نهتدي إلى تفسير نزعات كثيرة غير الجنوح إلى الشيوعية وما شاكلها من المذاهب الاجتماعية، ومنها تلك النزعة - أو تلك الضجة - التي ترتفع ثم تخفت آونة بعد أخرى باسم أدب الشيوخ وأدب الشباب

فهي ضجة غير مفهومة إلا أن تكون حسداً معيباً مقروناً بكسل ضعيف

وكل ضجة تساق في تسويغها لا تؤيدها بل تنقضها وتكشف عن الباعث الخفي من ورائها وهو باعث الحسد المعيب والكسل الضعيف

سئلت أخيراً رأيي في بعض الأدباء الكبار من المصريين فقلت عن الدكتور طه حسين إن قدرته في تأريخ العصور الأدبية (تأتي بعد قدرته في القصة أو الكتابة القصصية، فهو يحسن إقامة الحدود بين العصور ويحسن تمييز كل عنصر بمزية عامة، ولكنه أقرب إلى حدود العالم منه إلى حدود الفنان، ويأتي طه حسين الناقد بعد طه حسين المؤرخ وبعد طه حسين صاحب القصة؛ لأن المدار في النقد كله على مقاييس الشعر والبلاغة الشعرية، وليس نصيب الدكتور طه حسين في هذه المقاييس بأوفى نصيب)

كتبت هذا الرأي فعقب عليه بعض الحانقين على شيوخ الأدب يقول: (ونحن إذ ننشر هذا الرأي نوجه إلى الأستاذ العقاد السؤال الآتي: كيف تحتفظ بأمارة الشعر التي خلعها عليك طه حسين ونصيبه من مقاييس الشعر والبلاغة الشعرية ليس بأوفى نصيب؟ رجعة إلى الحق يا عميد الأدب ويا أمير الشعر ويا. . . أدباء الدعاية. . .)

هذا هو التعقيب العجيب

فهل ركب على كتفي إنسان رأس يفهم مما كتبناه عن الدكتور طه حسين أننا أدباء دعاية لو كانت المسألة مسألة رؤوس تفهم وبراهين تساق؟

ص: 4

إن الذي كتبناه لينقض صفة الدعاية خاصة دون غيرها من الصفات

لأنه يدل على أن أدباء الشيوخ لا ينسون آراءهم من أجل دعاية بعضهم إلى بعض، وإنني لا أنسى الحق من أجل الدعاية لنفسي، وإلا لقلت عن الذي سماني أميراً للشعراء أنه الحكم الوحيد في قيم الشعر وأقدار الشعراء

فهل هي إذن مسألة فهم وصدق، أو مسألة حسد وكسل؟

كلا. إنما هي مسألة حسد وكسل ولا زيادة! ولولا الحسد والكسل لخجل هؤلاء المساكين من أنفسهم إذ يهجعون في مراقدهم وينعون على الكتاب المشهورين شهرتهم ولا ذنب لهم إلا أنهم يصدرون الكتاب بعد الكتاب وأولئك المساكين يقلبون شهادة ميلادهم ولا يزيدون

إنه عرض واحد هذا الحسد وهذا الكسل اللذان يفسران النزوع إلى الشيوعية، ويفسران استعجال الشهرة، ويفسران كل انتقاد مريض لا يصحبه عمل ولا تصحيح

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

نفحة اليمن - مكانة مصر بين الأمم العربية - محاسبة النفس - معادن الأرواح والعيون

نفحة اليمن

منذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كان في الديار المصرية كتابٌ اسمُه (نفحة اليَمن، فيما يزول به الشَّجَن)، وهو كتاب في المواعظ كان له في نفسي تأثير. ولو شئت لقلت إن إحدى المواعظ التي وردت فيه كانت دستوراً لحياتي في البيت، ولأسلوبي في معاملة الأهل. فأين من ينشر هذا الكتاب من جديد، عساه يؤدي خدمة يحتاج إليها الناس في هذا الجيل؟

ومنذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كان اسم (حَسان اليماني) هو اسم الحكيم الذي ألهمته الغيوب مصاير الناس في أواخر الزمان، وكانت أحكامه المنظومة تُنشَد على (الربابة) في سهرات الريف

ومنذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كانت رحلة مُعاذ بن جبل إلى اليمن مما يتداوله أكثر الناس، وكانت فيها عظات قليلة الأمثال

واليوم تلقيت نفحة جديدة من نفحات اليمن جاد بها أحد أعضاء (نادي الإصلاح العربي) في عَدَن وهو السيد محمد بركات، فهل تصل مجلة الرسالة إلى عدن كما تصل إلى السيد عثمان شبيكة في ملكال بالسودان؟

كانت أخطار الحرب أوهمتنا أن الصلة انقطعت بيننا وبين اليمن والهند، وأن التخاطب مع سكان تلك البلاد لن يتيسر إلا بعد حين أو أحايين

فيا فرحة القلب لخطاب يصل من عدن بعد أن قيل إن وسائط النقل البري والبحري والجوي قُصِرتْ قصراً على معدات الحرب!

لليمن تاريخ في العمران يجهله أكثر الناس، فلنفصله في كلمات:

أهل اليمن هم أول أمة في التاريخ نظّمت الرّي، بفضل ما عملوا في سَد مارِب

ومن أبناء اليمن كان من نظموا الريّ في الأندلس، والأوربيون يعترفون بأن تنظيم الريّ في بلادهم منقول عن عرب الأندلس

ص: 6

وأول من فكر في إقامة خزان أسوان هو الحسن بن الهيثم، وهو عربيٌّ وَفَد على مصر من العراق منذ نحو عشرة قرون، ولعلهُ يمنيُّ الأصل

واليمنيون هم أقطاب الفاتحين لجُزر البحر الهندي، ولهم أيادٍ في مد لغة العرب إلى الهند والصين

والظاهر أن التنافس بين أبناء الجزيرة كان له صدىً في العالم القديم، فكان أبناء الشمال وهم الفينيقيون يهتمون بتحضير أوربا الشرقية، وكان أبناء الجنوب وهم الحضرميون يهتمون بتحضير آسيا الغربية، ومن هذا الجهاد وذاك رسخ السلطان الحضري لعرب ذلك الزمان

والمفهوم أن قصة السندباد البحري هي أغرب قصة روتها السياحات البحرية، ولعلها أظرف وألطف من بعض قصص الإغريق، فهل تكون إلا من إنشاء حضرمي مفطور على مقارعة الأمواج فوق ألواح هي بالنسبة إلى بواخر اليوم خيوط من العنكبوت؟

وهنا لطيفة من اللطائف لم يتحدث بها متحدث، وهي ديباجة الشعر في مصر لآخر أيام العهد الفاطمي وأوائل العصر الأيوبي، وهي ديباجة أذاعها الشاعر عُمارة اليمني، وعن هذا الشاعر أخذ شاعرنا أحمد شوقي عبارة أو صورة سأذكرها يوم يجيء مكانها في هذه الأحاديث

ثم ماذا؟ ثم كان اليمن يد مصر في التعرف إلى الشرق البعيد، فبفضله وصلت السفائن المصرية إلى آفاق لا نعرف مداها اليوم إلا بأجنحة الخيال

ثم ماذا؟ ثم أعتذر لأستاذنا أحمد زكي باشا، فقد عبت عليه أن يقول في محاضراته بالجامعة المصرية إن صنعاء كانت في قوة باريس أو برلين

وهل حفظنا حق اليمن في التاريخ؟

قيل وقيل إن سقوط بغداد بأيدي المغول أوجب رحلات علماء العراق إلى مصر فكانت النهضات العلمية والأدبية بالديار المصرية

فأين من يذكر أن سقوط سد مارب أوجب رحلات العلماء من الجنوب إلى الشمال فكانت النهضات الأدبية والعلمية بالديار العدنانية؟

أجمع مؤرخو الأدب على أن امرأ القيس هو فاتحة الشعر العربي في العهد الجاهلي،

ص: 7

ونصُّوا على أنه يمنيّ العِرق، فأين من يذكر أنه من كِنْدة؟ وأين من يذكر أن كندة كان لها محلة بالكوفة نُسِب إليها المتنبي فكان الكِندي؟

لنا في اليمن كلام يضيق عنه هذا المجال، وسنرجع إليه بتفصيل وتفاصيل

مكانة مصر بين الأمم العربية

في جرائد سورية وفلسطين ولبنان والعراق كلام كثير عن مكانة مصر بين الأمم العربية، وجرائد تلك البلاد تذكر بالخير مؤازرة مصر لفكرة الحِلف العربي

ويجب أن نذكر جميعاً أن ما يدور حول الوحدة العربية ليس إلا تمهيدات، ولا يعرف أحد متى تتحقق تلك الوحدة على الوجه المنشود

محاسبة النفس

بدأت أشعر بضجر في هذه الأيام، وأخذت أشعر بانقباض الصدر من حين إلى حين، فما سبب هذه الحال؟ وما هو الدواء؟

يخيل إلي - ولعل هذا هو الواقع - أني لا أؤدي حقوق القلم كما يجب، فأنا أتحامى شؤوناً كثيرة، وأسكت عن آراء لو دونتها لكان لها في عالم الفكر مكان

ويزيد في الضجر أن لحياتي ألواناً جديرة بأن تقدم أثمن الغذاء لقلمي، فكيف يفوتني أن أنتفع بتلك الألوان؟

قد يقال أن ظروف الحرب لها دخلٌ في الحدّ من الحرية القلمية، لأنها تقهرنا على مراعاة أمور لم يكن من الحتم أن نراعيها في أيام السلام

وهذا عذر غير مقبول، لأن الشؤون التي تمس الحرب ليست كل ما يعتلج في صدور الرجال، فهنالك معضلات إنسانية تساور العقول والقلوب في كل زمان، وهي معضلات لا تهادن الناس ولو كانوا في ميادين القتال

وربما قيل إن الشؤون التي تعفيها ظروف الحرب لا تعفيها ظروف المجتمع، فقد تكون الرقابة التي يفرضها الجمهور على الأقلام أقسى من الرقابة التي تفرضها الحكومات في أيام الحروب

وهذا أيضاً عذر غير مقبول، ففي مقدور المفكر أن يعالج شؤون المجتمع بأسلوب يخلق

ص: 8

الحب ويبعد العِداء

يظهر أن الآفة هي في طريقة الطب للمجتمع، الطريقة التي تلبس ثوب السيطرة بأقلام الناصحين، ونحن في الأغلب ننسى أن في فطرة الناس ميلاً إلى الدفاع عما يتورطون فيه من ضروب الانحراف، ونجهل أن العنف في النصح قد يخلق للعيوب أنصاراً يجعلون سيئاتها حسنات

أنا موقن بأن سياسة القلم تعوزنا في أكثر ما نكتب، وسياسة القلم معنًى لم نلتفت إليه. ألا ترى كيف نقضي العمر في شقاق مع القراء؟

أين الذي حاول أن يقدم النصيحة المرة في كلمة مغلفة بمجاج النحل؟

وأين الذي واجه الجمهور بأسلوب منزه عن الاستعلاء؟

هذه الحال تشبه أن تكون مرضاً من الأمراض القلمية، وللأقلام أمراض

وأعترف بأن تحرير القلم من الآفات النفسية يحتاج إلى رياضات لا نقدر عليها في جميع الأحايين، لأن الرجل قد يقدر على محاسبة الجمهور ثم يعجز عن محاسبة النفس

وهنالك آفة أخطر وأفظع، وهي آفة المبالغة في تصوير الكمال الذي ننشده للإنسانية، كأن ننتظر أن يعيش الناس بلا أحلام ولا أوهام، وكأن نرجو أن يسلموا جميعاً من طغيان الأهواء، كأن الناصحين سلموا جميعاً من طغيان الأهواء!

أيكون من الخير أن ندعو إلى تجفيف البحار والأنهار ليأمن الناس الغَرَق؟

أم يكون من الخير أن نعلِّم الناس السباحة ونسكت عَن تجفيف البحار والأنهار؟

هنا مَناط المعضلة الأخلاقية، المعضلة التي حيَّرت كرائم الألباب

الشخصية اُلخلقية هي الشخصية المزوَّدة بموجبات الجذب والدفع، وهي الشخصية السليمة من الضعف، ولن تكون كذلك إلا حين تحارب في ميدان من ميادين الأهواء

ولهذه الفكرة شروح سنعود إليها يوم نستطيع محاسبة النفس على التهيب والترقب، ويوم يكون الصدق هو أشرف ما نسمو إليه في عالم البيان

معادن الأرواح والعيون

لكل روح معدن أو جوهر أو عنصر، إلى آخر الألفاظ التي تعبر عن الأصول

والأرواح توحي بأساليب لا تعرفها العيون، وهل كانت العيون إلا وسائل الأرواح في

ص: 9

الإيحاء؟ أستغفر الحب، فقد قلت من قبل إن للعين وجوداً ذاتياً يستقل عن الروح بعض الاستقلال في بعض الأحيان

وما سِرُّ العيون على التحقيق؟

هل يعرف أحد كيف كُوِّنت تلك الخلائق اللطيفة بهذا الوضع اللطيف؟

الوجود كله مدين للعيون، فهي التي شهدت بما فيه من جمال وجلال، وهي التي قالت إنه وجود

وما هذا الصُّنع العجيب، صنع الله في إبداع العيون؟

ينقضي الدهر ولا ينقضي العجب من القدرة المطوية في سريرة مخلوق رقيق اسمه العين؛ وستمر أزمان وأزمان قبل أن يُعرف سر هذه الجارحة الظَّلوم

وما قدرة الطب في تعليل هذه القوة الصمدانية؟

هل يعرف كيف تنظر حتى يعرف كيف توحي، وهي أعجوبة الأعاجيب في النظر والإيحاء؟

ومع هذا فقدرة الأرواح أعجب وأغرب، فهي ترسل السهام من إقليم إلى إقليم، وقد تصادق وتعادي وأصحابها أموات في عرف الناس

ذلك المفكر الذي يعبر الآفاق لغزو العقول بعد أن تمر على موته آلاف السنين. ما سر قوته الروحية؟ ما سرُّه وقد اجتاز أسوار روما بعد ألفي سنة ليقتل أحد تلاميذي بالقاهرة؟

وذلك الشاعر الذي قال:

إذا نُشرَتْ ذَوائبُه عليه

حسبتَ الماَء رفَّ عليه ظلُّ

هل كان يتوهم أن المطربة فتحية أحمد ستنقل خياله بالمذياع إلى جميع الأقطار العربية بعد أن نسيه القاهريون؟

سمعت هذا البيت مع الأستاذ سعد كامل فعجبنا من قدرة الأرواح على اختراق الأزمان

وقال الشريف الرضي:

سهم أصاب وراميه بذي سَلَم

من بالعراق لقد أبعدت مرماكِ

فهل كان يخطر في بال الشريف أن هذا المعنى سيكون حقيقة لا مجازاً فيما سيخلف عصره بأجيال طوال؟

ص: 10

وقال شاعرٌ قديم:

غَنَّتْ سُلَيمى بالحجا

زِ فأطربتْ من في العراق

فهل كان ينتظر ذلك الشاعر أن تصح نبوءته فأسمع من القاهرة صوتاً يغزو روحي وأنا في سهرة بمدينة النجف؟

لقد قضى ذلك الصوت بأن تكون ليلتي ليلاء، وأن أعود إلى بغداد وأنا مفطور الفؤاد

وما معنى قول البهاء زهير شاعر الفطرة المصرية:

إن حالي لعجيبٌ

ما يُرى أعجب منه

كلُّ أرض لي فيها

غائبٌ أسألُ عنه

أليس شاهداً على استبداد الأرواح بالقلوب، وإن تباعدت البلاد؟

أما بعد فهذه الكلمة تحية للروح التي يئست من وفائي، الروح التي ضَنَنتُ عليها بإعلان حبي، لتعيش في أمان من سفاهة الرقباء

يا مصدر الوحي، على رغم البعد واليأس، ويا روحاً هي الروح، ويا تحفة فنية صاغها الفنان المعبود، ويا من لا أسمِّي ولو سُئلتُ يوم الحساب في حضرة صاحب الجبروت، سلام عليك وألف سلام

أنت أمامي حيثما توجهت، وغضبك عليَّ أعذب من الرضوان يا مهاة لا تخطر إلا في البال

ثم أما بعد فأنا مؤمن باختلاف المعادن في الأرواح والقلوب، وروحك يا شقية هي الروح، وسبحان من لو شاء لجعلني من عينيك في أمان!

متى نلتقي على الشط، بالرمل، لأقول مع الشريف:

ولو قال لي الغادون ما أنت مشتهٍ

غداة جزَعنا (الرمل) قلت أعود

قال بديع الزمان في المقامات على لسان أبي الفتح الإسكندري:

إسكندرية داري

لو قرَّ فيها قراري

ويرى الأستاذ إسعاف النشاشيبي أنها إسكندرية مصر في مقال نشره بالرسالة وهو يحيي الشواربي باشا. ويرى الشيخ محمد عبده في شرح مقامات البديع أنها بلد بالأندلس، ورأيت بعيني وقلبي أن إسكندرية أبي الفتح بلد بالعراق

ص: 11

فمتى نلتقي في إحدى الإسكندريات الثلاث، بغض النظر عن اختلاف الأقوال؟

إن رمل الإسكندرية هو (الرمل) الذي عناه الشريف، وسنلتقي هناك بعد أسابيع.

زكي مبارك

ص: 12

‌لكي ننتفع بتجاريب غيرنا

3 -

المسرح في أوربا بين حربين

(في ألمانيا والنمسا)

للأستاذ دريني خشبة

ألمعنا في الكلمة السابقة إلى انتشار المسارح الشعبية الحرة في ألمانيا، وعرفنا ما يدخل في صناديق هذه المسارح من الإيراد الضخم بطريق الاشتراك بين الأعضاء، ويبلغ عددهم في أحد مسرحي برلين حوالي ستين ألفاً معظمهم من العمال! أي أن المبلغ المتحصل من الاشتراك فقط يربو على ثلاثة آلاف من الجنيهات شهرياً - إذ يدفع العضو شهرياً خمسة قروش أو نحوها - أضف إلى ذلك مثل هذا الإيراد من غير المشتركين، وأضف إليه أيضاً إعانة البلدية للمسرح؛ وقد عرفنا أن بلدية كولونيا تُعين مسرحها الشعبي بخمسة وعشرين ألفاً سنوياً، كما أن مدينة ثورن، أو بالأحرى قرية ثورن، تعين مسرحها الصغير المتواضع بألف جنيه كل عام. . . وقبل أن نتكلم عن المذهب يسود المسرح الألماني والذي ارتفع به إلى الأوج قبل قيام الاشتراكية الوطنية لا نرى محيصاً من الرجوع قليلاً. . . إلى ما قبل الحرب الكبرى، وربما إلى ما قبلها بخمسين سنة أو يزيد. . . إلى هذا الوقت الذي كانت فيه فينا - عاصمة النمسا - هي مركز المسرح الألماني العتيد، حينما كان الأدب المسرحي في شمال ألمانيا ما يزال في المهد، وما يزال أدباً رومانتيكيا (إبداعياً) يقصد به التلهي وإشباع غريزة التشوُّف الأدبي فحسب. . . وقد كنا نؤثر أن نرجع إلى أكثر من ذلك. . . إلى أيام عاهل الدرامة النمسوي الأكبر فرانز الذي بدأت تباشير عبقريته تظهر في مشارق القرن التاسع عشر، لولا ما ننتويه من إفراد فصول مستقلة لكتاب الدرامة في الأمم الأوربية المختلفة وذلك بعد الفراغ من هذا الاستعراض السريع لحالة المسرح الأوربي بعد الحرب الكبرى، والذي نريد به استخراج العبرة التي نهتدي بنورها في تشييد دعائم المسرح المصري وخلق العنصر المسرحي المنعدم في الأدب العربي

فحسبنا إذن أن نبدأ من تلك السنة اللامعة ذات البريق في التاريخ الألماني، ألا وهي في سنة 1871، تلك السنة التي تم فيها تكوين الإمبراطورية الألمانية، بعد الانتصارات

ص: 13

السبعينية على الجيش الفرنسي. والعجيب أن تلك الانتصارات، بالرغم مما صحبها من الزهو العسكري، لم تستطع أن تمحو من نفوس الشعب الألماني روح التشاؤم الذي أشاعته فيها فلسفة شوبنهاور، والتي تمكنت من ألباب الخاصة المثقفة تمكناً كان يوشك أن يؤدي إلى اليأس المطلق، لولا ما اضطلع به أدورد فون هَرْتمان من تلطيف تلك الموجة من الشعور الأسود، ولولا أن أصاخ إليه شباب الجامعات وأساتذتها الذين رسموا الطريق للنهضة الذهنية الألمانية، فانحرفوا بها عن طريق الأدب - إلى حين - إلى طريق العلوم، فازدهرت الفلسفة وفقه اللغات والتاريخ والعلوم التجريبية، حتى إذا أينع هذا الشباب ودّوت في أسماعه الصيحات الآتية من خارج ألمانيا. . . تنبه إلى صوت كَنْت العظيم فترك هيجل الألماني وراءه، ولم يلبث أن أتاه الصوت العظيم الآخر من داخل ألمانيا نفسها، فتلفت فرأى قيثارة الشعر والأمل ترقص في يدي جوته الخالد، كما رأى فيلسوف القوة الألمعي فردريك نيتشه ينهض جباراً مرعداً ليهدم شوبنهاور، وليهدم تقاليد الماضي العتيق الذي كان يجثم كابوسه المخيف فوق الذهن الألماني، ثم ليخاصم في سبيل ذلك صديقه الأعز رتشارد ثم لينشر إنجيله الجديد: هكذا تكلم فيقلب به الفكر الألماني ويجعله عدواً لكل قديم؛ ثم ليطلع على الناس بهذه الطوبى الجديدة، طوبى الإنسان الأعلى - أو السبرمان - الذي يعد الناس بالنسبة إليه (حبلاً ممتداً بين الحيوان وبين السبرمان) ثم ليجدف ضد أديان السماء تجديفاً هداماً لا يعرف القيود، ثم ليحدد وظيفة الرجل ووظيفة المرأة، فيجعل الأول للحرب والثانية لتكون متعة لرجل تلك الحرب، فإذا رأى أحداً يقصد إلى زوجه أوصاه ألا ينسى سوطه!؛ ثم ليبرر تسلط القوي على الضعيف وتحكمه فيه، لأن الذي لا يستطيع القيام على شأنه ينبغي عليه أن يسلم قياده للغير. ثم ليعتبر هذه الطائفة من الفضائل المتعارفة بين الناس، كالرحمة واحترام العهود وخفر الذمم والتواصي بالضعفاء، رذائل نشأت عن ضعف كامن في سويداء هذا الحيوان الذي نسميه الإنسان. . . الخ ويفتتن أدباء الشباب بهذا الإنجيل الجديد ويبشرون به ويصفقون له، لأنه في زعمهم جعل الأدب الألماني أدب (أفكار) جريئة حرة لا تعرف هذا الإله التنين الذي يقول: هذا كفر فدعوه، وذاك إلحاد فلا تخوضوا فيه. . . هذا الإله (الشرقي!) الذي يلوح بالنار ويغري بالجنة لا لشيء إلا ليشل تفكير الإنسانية. . . إلى آخر هذا الضلال. . . وقد ترددت

ص: 14

أصداء هذا الصوت الجديد في المسرح الذي أخذ بدوره يتحلل من الدرامة الإبداعية (الرومانتيكية) متأثراً بالدرامة الواقعية التي نفذت إليه من فرنسا وسكنديناوه (النرويج والسويد) وأول ما ظهر هذا التأثر في روايات إرنست فون الروايات التاريخية التي هاجم فيها كاتبها روح التشاؤم على هدى من تعاليم نيتشه. على أن معاصراً نمسوياً لهذا الكاتب وأعظم منه نشاطاً وأغزر فناً وأوفره مقدرة، اسمه لدفج قام يخلص الدرامة الألمانية من الإسفاف الذي تردت فيه بالمبالغة التي لا مبرر لها، واستثارة عواطف الجماهير (بالبهلوانيات!). . . استبدل لدفج بهذا النوع المستهتر المألوف - روايات واقعية مستمدة من صميم الحياة الريفية الهادئة وإن تكن لم تخل من التأثر بنيتشه - وفي سنة 1888 افتتح برلين المسرح غرار المسرح وذلك برواية إبسن النرويجي (الأشباح) التي أثرت تأثيراً كبيراً على المؤلفين الثوريين الشباب، ونخص بالذكر منهم جرهارت هوبتمان، ثم هرمان ألفا لمسرح برلين المستقل كثيراً من الروايات التي كانت نواة الأدب المسرحي الألماني الحديث. ولقد كان سودرمان يتأثر الدرامة الواقعية الفرنسية ويجري دائماً في أذيال دوماس، وقد بلغ من ظهور طابعه على المسرح الألماني أن اعتبره النقاد المثل الأعلى الذي يقاس عليه، ولا يجوز أن يحاد عنه حتى انتهى الأمر إلى تفشي الروايات المتشابهة ذات الموضوع كأنما صبت جميعها في قالب بعينه، وهو نفس المآل الذي انتهت إليه الدرامة الفرنسية الـ التي كانت تؤلف دائماً في موضوع الحب الخاطئ مما أشرنا إليه في الفصول السابقة. وقد فطن سودرمان إلى هذا الخطر فحاول هجر ميدان الدرامة الواقعية إلى المأساة السيكلوجية، ثم إلى تقليد شيلر في دراماته الكلاسيكية إلا أنه فشل في ذلك. أما هوبتمان فكان أضعف شخصية وأوهى استقلالاً من سودرمان. . . كان يقلد كل من تدخل سمعته في المسرح الألماني من الخارج على حد ما عبر بعض نقاده. وكان تأثره بكتاب سكنديناوه أوضح من غيره، على أنه بتجاوب أصداء المسرح في أوربا عن طريقه داخل ألمانيا قد خدم المسرح الألماني من غير شك. فهذان هما أشهر مؤلفين واقعيين ظهرا في ألمانيا في تلك الفترة من فترات الانتقال الهامة هناك. على أن الحركة الواقعية لم تلبث أن انكمشت ثم أخذت تختفي جميع المسارح الألمانية، وحلت محلها الدرامة الغامضة الرمزية المجازية. وقد سبقت النمسا كعادتها جميع الشعوب الجرمانية،

ص: 15

ولا سيما شمالي ألمانيا إلى الأخذ بهذا النوع الجديد من الروايات الرمزية، حيث ظهر فيها مؤلفون أحيوا درامات القطولة القديمة التي اشتهرت في المسرح الفرنسي في القرن السابع عشر مع فارق واحد، هو أن أبطال هذه الدرامات لم تظهر على المسرح الألماني كأنصاف آلهة منزهة، ولكن كرجال ونساء ذوي عواطف مشبوبة ولهم مشكلاتهم التي يعرفها الإنسان في كل زمان ومكان. وهكذا لم يلبث المسرح الألماني أن استقل بأدبه عن جميع المسارح الأوربية، وأصبح له مذهبه الدرامي الخاص الذي يتفرد به بين هذه المسارح حتى صار في مقدمتها افتناناً من وجهتي الشكل والموضوع، وحتى صار معهداً دائب الحركة، محتفظاً بجمهوره المشغوف بكل جديد وبكل شاذ. ولا جرم أن مذهب (التعبيرية قد ينشأ من مذهب الرمزية إن لم يكن هو نفسه هذه الرمزية بعينها، وربما اضطر إليه المؤلفون ليخفوا وراءه ما أشربت به قلوبهم من فلسفة نيتشة الكفرية، وذلك اتقاء مجابهة الجمهور المتدين إلى حد ما بأفكارهم الثورية ضد (الشرق) بأديانه وتقاليده، وضد الضعف الذي شقيت به ألمانيا قبل أن تتوحد، وليستطيعوا بذلك أن يبثوا فيه تلك النُّعرة الجرمانية التي تدعى أن الألمان هم أقرب الأجناس البشرية إلى (السبرمان) وأنهم أولى الأمم بالتحكم في بقية القافلة الإنسانية. . . والدرامة التعبيرية لا تصرح بأسماء الأعلام في فصولها - أو في مناظرها بتعبير أدق - فلا تسمي أبطالها زيداً أو عمراً أو إدورد أو شرلوت بل تسميهم الرجل الأول والرجل الثاني والخادم والصانع والمرابي والحبيب والحبيبة والقاتل. . . الخ وهي في ذلك تشبه الدرامة الأخلاقية التي نسخت الطورين الأولين من أطوار نشوء الدرامة الإنجليزية والفرنسية، ألا وهما طور الدرامة السمعية أو الإنجليزية والطور النقابي إذ لا نسمع في الدرامة الأخلاقية أسماء أعلام قط، بل تحل محلهم أسماء الفضائل المجردة والرذائل المجردة، فهذا ممثل يمثل الأمانة وذاك ثاني يمثل الشر وهذا ثالث يمثل الصدق، وذاك يمثل الكذب وهكذا

ويأخذ النقاد الإنجليز والفرنسيون على هذه البدعة من بدع الدرامة الألمانية أنها إحياء لمذهب قديم ثبت فساده، لأن الأسماء المجسمة - أي أسماء الأعلام - أثبت في الذهن من هذه الرموز التي لا تؤثر في الجمهور، حتى ولا في الخاصة، كما تثبت وتؤثر أسماء الأعلام. . . فشخصيات هملت وعطيل وشيلوك ورومير ولير وطرطوف وما إليها من

ص: 16

الشخصيات الخالدة لم يكن من الممكن أن تكسب هذا الخلود لو سميناها الشباب والغيرة والربا والحب. . . الخ أو لو سُمِّيت الشاب والأسود واليهودي والعاشق. . . الخ

وذلك لأن الرابط التذكري في أسماء الأعلام أقوى منه في الصفات والمصادر. ويتساءل النقاد الذين ذكرنا فيما كانت النقلة من الدرامة الأخلاقية التي لا نذكر فيها أسماء الأعلام والتي استوعبت الطور الثالث من أطوار نشوء الدرامتين الإنجليزية والفرنسية إلى المأساة التي استوعبت الطور الرابع العظيم من تأريخ تلكما الدرامتين؟ لابد أن التجربة قد دلت على فساد تلك الرموز التي كانت تطلق على شخصيات الدرامة الأخلاقية، ولابد أن الجمهور قد مل هذه الألغاز الذي لا مسوغ له ولا ضرورة تلجئ إليه ولا خبر يرجئ فيه إلا أن يكون وسيلة لذلك الغرض الخفي المستتر الذي أشرنا إليه، وهو الخوف من مجابهة الجمهور بالحقائق السافرة، وإيثار اللف والطرق الملتوية على الجادة الواضحة والنهج السوي. ولو فطن مبتدعو المذهب الرمزي - والتعبيري - ممن يدينون بنيتشه، لآثروا الصراحة على الالتواء، لأن فيلسوفهم دعا إلى الشجاعة قبل أن يدعو إلى فضيلة أخرى من الفضائل. . . وأي شجاعة، بل أي تهور، أشد من الدعوة إلى الثورة على الله!

يتساءل هؤلاء النقاد: لم لم ترتفع أية درامة تعبيرية - درامة واحدة - إلى الأفق السامي الذي ارتفعت إليه درامات شيكسبير وبن جونسون وسنج وشو وشريدان وإبسن ومترلنك وشيكوف وموليير وساردو وسارسي وبيراثدلو وجاكنتو بينافنت إلى آخر هذا الثبت الحافل العظيم من مؤلفي الدرامة الأوربية الخالدة من غير المؤلفين الرمزيين؟. . . وهذا في الواقع سؤال له وجاهته. ويزيد في دلالته على أنه الحق، أن مسارح المستودعات ما تزال قائمة في ألمانيا وما تزال تعرض درامات هؤلاء المؤلفين الذين سمينا هنا وغيرهم فيقبل عليها الشعب الألماني إقبالاً عجيباً يترجم عما يكنه هذا الجمهور من النظارة من الشغف بتراث الإنسانية العظيمة النيرة و (لسنا نقول هذا غضاً لقيمة الدرامة الرمزية في ألمانيا؛ إذ أن لها جمهورها الراقي المثقف الذي يتألف من خلاصة رجال الفكر الألماني. . . إلا أننا نرى أنها ليس مما يلائم جماهير النظارة ممن يقصدون إلى المسارح الشعبية)

دريني خشبة

ص: 17

‌الخطابة

بين الحرب والسياسة

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تستند الخطابة إلى الإقناع والتأثير، فلها سبيلان العقل المقتنع والقلب المتأثر. وهي في كل أمة وعصر أتخذها الرومان في دور القضاء وساحات العدل دفاعا عن مظلوم، أو تبرئة لمتهم، أو إدانة لمسيء. واتخذها تاعرب في الجاهلية سجعاً لكاهن، أو عدة لواعظ، أو نصيحة لحكيم. كما فعل قس بن ساعدة الأيادي في خطبته المروية في كثير من كتب الأدب. تلك الخطبة التي ذكر الناس فيها بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج. وكما فعل أكثم بن صيفي في خطبته التي اشتملت على الموعظة الحسنة والحكمة البالغة.

واتخذها الإسلام في أول أمره نشراً لدعوة وتشجيعاً للجنود المقاتلة، وتأليفاً للقلوب، وتذكيراً للغافل، وتنبيهاً للخامل.

وتروج سوق الخطابة في المنازعات والخصومات عند اختلاف الرأي وتنوع الفكر وتعدد المذاهب، كما حدث بين العلويين والأمويين والزبيريين والخوارج، وكما حدث في إنجلترا بين المحافظين والأحرار، وكما حدث في أمريكا بين أهل الجنوب وأهل الشمال.

ومن الطبيعي أن يظهر عند احتدام الفكر واصطراع الرأي قوتان متعارضتان تمثل كل منهما رأياً معيناً. وهنا يظهر الخطيب في جانب، ويبرز في الجانب المقابل من يبطل دعوته ويبطل حجته.

ففي القرن التاسع عشر كان في إنجلترا غلادستون زعيم الأحرار وخطيبهم الذي لا يجارى. وأمامه في الخصومة بيكونسفلد لسان المحافظين ومدرههم.

ولا تجد الخطابة فرصة أكثر صلاحا لها وأحسن ملاءمة من الثورات العنيفة والتيارات القوية الشديدة. وقد تصنع الأقوال في خلال الثورات مالا تصنع الفعال. وأصدق شاهد على ذلك المجر في منتصف القرن التاسع عشر. فقد كمت النمسا الأفواه وألجمت الألسن إلا لساناً واحداً تأبى على القيد وامتنع على المقاومة؛ هو لسان كوشوت الزعيم المجري؛ فرحل عن وطنه مجاهداً في سبيله بجنان فتى ولسان عضب قوي. فأكرمت إنجلترا وفادته،

ص: 18

كما أحسنت أمريكا ضيافته. فكان فيهما حر اللسان طلق البيان، حلو العبارة صريح الإشارة. وأقام متنقلاً بين الأمتين زماناً أسمع الشعوب الحرة خلاله صوت أمته المهضومة وبلاده المظلومة. ولم يطل على الأمة المجرية أمر الكفاح حتى استعادت قوتها واستردت حقوقها، وأصبحت شريكة في مملكة النمسا والمجر.

وقد تساعد الثورات نفسها على تقدير خطباء لم يتح لهم من مواهب الخطابة ما يسمو بهم إلى مراتب التقدير. فهذا كرومويل زعيم الثورة الإنجليزية في عصر الملك تشارلس الأول ملك إنجلترا. كرومويل هذا كان ثائراً أكثر منه خطيباً. إلا أن روح الثورة واتجاهها وعنفها جعلته من الخطابة في المحل الأول. وجعلت الشعب يجد في الاستماع إليه لذة وميلاً. مع أن كارليل الناقد المشهور يقول عنه في إحدى مقالاته: (إن خطب كرومويل لا تجري على أساليب صحيحة من البلاغة أو قواعد مرتبة من التفكير المنطقي. فهي تخالف كل أسلوب معروف في الخطابة إلا أنها أتيح لها من الشأن في حينها ما لا يقل شأناً عن خطب ديموستين في أثينا)

وقد تتمخض بعض الثورات العنيفة عن زعماء يؤثرون العمل على الكلام أو يفضلون النضال على المقال وطعن السنان على وخز اللسان. والثورة الفرنسية أصدق دليل على ما نقول. فلقد كان من زعمائها دنتون وروبسبير ومارا الذين ضج الناس مما سفكوا من دم وأزهقوا من روح. وكانوا يعتمدون في الثورة على القتل أخذاً بالظنة ورمياً بالشبهة؛ حتى شك الناس في أخيرهم مارا ورموه بالتهم فدافع في إحدى خطبه عن نفسه. إلا أن ذلك لم يجد عليه فقتلته فتاة في الحمام وأراحت الناس من شره

ولقد قالوا إن الأمة العربية لم تنكب بخطيب مثل الحجاج ابن يوسف الثقفي في حبه لسفك الدماء وإذلال النفوس وإرادتها على القسر والإرغام، وفي شراسة الطبع وغلظ الكبد. وهذا كلام ينطبق على مارا في الأمة الفرنسية، وفرق ما بينهما أن الثقفي كان يرتكب جرائمه باسم الاستبداد، ومارا الفرنسي كان يرتكبها مع صاحبه باسم القانون

والخطيب السياسي يعتمد على الشجاعة والجرأة الأدبية في كل ما يصدر عنه، سواء أكان حاضاً على ثورة أم حاثاً على جهاد أم مدافعاً عن رأي، أو مبطلاً لبعض الرأي. ولقد تتحرج أمام الخطيب السياسي الساعات ويحزب الأمر فلا يزيده ذلك إلا شجاعة وجراءة

ص: 19

وإليكم مثالين:

1 -

وقف الحجاج على منبر الكوفة فقال: (والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل)

2 -

ووقف مارا الفرنسي يدافع عن نفسه بعض التهم التي جزاؤها الإعدام فقال في شجاعة نادرة لهيئة القضاة التي تحاكمه: (لقد كان هذا رأيي يعرفه من اتصل بي أو قرأ لي، ولقد كنت أصدر الآراء مشفوعة بتوقيعي، مصحوبة بإقراري. وما أنا ممن يخشون الجهر بآرائهم. وإذا كنتم أنتم لا تفهمون ذلك ولا تعرفونه عني فتباً لكم وسحقاً)

وإذا اقترنت شجاعة الخطيب الأدبية بحسن القريحة وسرعة البديهية وحلاوة النادرة كان ذلك أوقع في نفوس السامعين وأشد تأثيراً فيهم. وللمستر لويد جورج الخطيب الإنجليزي المشهور في ذلك الميدان مجال أي مجال

حدثوا أنه كان يخطب مرة في الحكم الذاتي فقال: سنعطي الحكم الذاتي لكندا وسنعطيه لايرلندا وسنعطيه لـ. . . ولم يكد يكملها حتى قال رجل من السامعين. . . لجهنم فرد عليه لويد جورج قائلاً: هو ذاك. يعجبني أن يتذكر كل إنسان وطنه

وقد يكون في بعض السامعين للخطباء من يغمزهم بكلام أو يتعرض لهم بملام. وهنا تظهر مقدرة الخطيب على سرعة الرد وحسن الدفاع ومواتاة الجواب. فقد حدثوا أنه وفد جماعة من العرب على كسرى وفيهم من السادة الخطباء من انتهى إليه الشرف وبلغ السيادة في قومه والمنزلة في قبيلته. وأخذ كل منهم يتكلم بما يعرف لإبانة ما للعرب من فضيلة. حتى انتهى الدور إلى الحارث بن ظالم فأجاد الكلام وأحسن الدفاع. فقال له كسرى: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن ظالم. قال كسرى: إن في أسماء آبائك لدليلاً على قلة وفائك وأن تكون أولى بالغدر وأقرب من الوزر! قال الحارث: إن في الحق مغضبة، والسرو التغافل. ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة. فلتشبه أفعالك مجلسك

وخطب الوفود هذه من الخطب السياسية التي لا يغفل شأنها. وقديماً استعملها النعمان بن المنذر ليدفع عن العرب ما رماهم به كسرى وما تجناه عليهم، وليعلمه أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه. فاختار جماعة من خيارهم فيهم أكتم بن صيفي وحاجب بن زرارة والحارث بن عباد وقيس بن مسعود والحارث ابن ظالم. فتكلموا ودافعوا عن مآثر

ص: 20

صالحات، وحموا عن نسب صحيح

وكان الروم والهند والصين يفدون على كسرى وفيهم الخطباء المصاقع فيذكرون من بلادهم ما يدخل اليوم في باب الدعاية السياسية. ولاشك أن هؤلاء الرسل كانوا يختارون من أحسن الناس كلاماً وإلا ضاعت الحكمة من إيفادهم وذهبت المزية من اختيارهم

والخطابة تروج في زمن الحروب وتصادف من الآذان سمعاً واستجابة. وسيسجل تاريخ الحرب الحالية أسماء صفوة من الخطباء من أنصار الديمقراطية ومن أعدائها. وكم يكون الأدب سعيداً لو أن هؤلاء الخطباء أنجبتهم ظلال السلامة ومنابت الأمن والطمأنينة. ألا إن الدفاع عن الحرية يتطلب دائماً ثمناً غالياً.

وقد يكون القائد المحارب نفسه خطيباً مفوهاً ومتكلما فصيحاً؛ فيمسك قائم سيفه بيده ولسانه بفمه يحض الجنود على القتال ويشجعهم على المصابرة كما فعل خالد بن الوليد في معركة أجنادين بين الروم والعرب حين قال فيما قال: (اقرنوا المناكب، وقدموا المضارب، ولا تحملوا حتى أمركم بالحملة، ولتكن السهام مجتمعة إذا خرجت من القسي كأنها تخرج من كبد قوس واحدة. فإنه إذا تلاحقت السهام رشقاً كالجراد لم يخل أن يكون فيها سهم صائب)

أو كما فعل طارق بن زياد حين عبر العدوة من الأندلس وبلغه دنو (الذريق) فخطب خطبته المشهورة التي أولها (أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر)

ومن الخطب السياسية خطب الفتوح وتلقى عادة عند إتمام فتح أو إكمال غزو. والغرض منها بالطبع الدعوة للفاتح الجديد وتهنئته وإدخال الناس في طاعته. وضمهم إلى حوزته. وأشهر الخطب من ذلك النوع خطبة القاضي محيي الدين بن علي المعروف بابن الزكي التي ألقاها في مسجد القدس مهنئاً صلاح الدين بأخذ بيت القدس من الصليبيين. وهي خطبة تاريخية طويلة تمتاز بقوة عبارتها ألا إن السجع يفشو فيها جريا على طريقة عصرهم وأسلوب زمانهم

وهناك طائفة من الخلفاء تغلب الصنعة الخطابية عليهم؛ فلقد كان الخلفاء الراشدون خطباء فصحاء كما كان معاوية وعمر بن عبد العزيز الأمويان والمنصور المهدي والرشيد العباسيون

ص: 21

وقد يجتمع الشعر والخطابة في واحد كما كان ذلك عند العرب في قطري بن الفجاءة شاعر الخوارج وخطيبهم وعلي ابن أبي طالب. وعند الفرنجة في لامارتين وفكتور هوجر. ومن الوزراء الخطباء وليم بت واللورد جون رسل أكبر زعماء الأحرار في القرن التاسع عشر، وغلادستون، ولويد جورج وتشرشل

ولابد للخطيب على كل حال من الصوت الحسن وحلاوة الألقاب وحسن النغم. وممن أوتوا تلك الموهبة جون برايت الإنجليزي مناصر غلادستون، وأنجرسول الأمريكي الذي كان يستهوي سامعيه بحسن إيقاعه وحلاوة صوته؛ وغلادستون الذي له في السياسة الإنجليزية في القرن التاسع عشر مواقف مأثورة

محمد عبد الغني حسن

ص: 22

‌أدباء عالميون

1 -

موريس ماترلنك

للأستاذ صلاح الدين المنجد

ماترلنك من الأدباء الذين فتنوا بآثارهم القلوب ولذّوا العقول، بلغ من شأنه أن خُصَّ بآثاره نُهاد المئة من الدراسات الطوال الجِياد في لغات مختلفات. فقد أوتيت آراؤه من الأصالة والواقعية والخيال ما جعلها تأسر وتُعجب، فهي سحر من السحر لا يقاومه إنسان

ولد ماترلنك في (غاند) من أسرة قلامندية. فشدا طرفاً من العلم على الآباء اليسوعيين. وكان له هوى شديد إلى القراءة فكان لا يدع كتاباً وقع في يديه حتى يفرغ منه، غير آبهٍ بموضوعه، ولا حافل بجودته وغثاثته. ولم يستطع الآباء اليسوعيون أن يؤثروا فيه فنشأ عزوفاً عن الدين ضعيف الإيمان. فلما فرغ من دراسة الإنسانيات، انصرف إلى دراسة القانون، لا رغبة منه فيه، ولكن ابتغاء مرضاة ذويه. على أنه لم يُرافع أمام المحاكم إلا مرات معدودات. ثم صدف عن القانون ويمم وجهه إلى باريس (1886) فأقام بها وعرف أدبائها. فاجتمع (بسان بول رو وو (إفرام واستطاع (فيلير دُليل ' أن يملك قلب هذا الفلمندي الشاب بقوة شخصيته وخصب قريحته. وكان فيلير من أدباء المذهب الرمزي، فنحا ماترلنك نحوه، ونشر في مجلة (البلياد قصة سماها (مذبحة الأبرياء) فأعجب بها الناس، وتطلعوا إلى هذا الأديب الجديد

وقضى ماترلنك في باريس سبعة شهور، ثم مضى إلى الفلاندر فكان يقطع الشتاء في (غاند) ربع ميلاده، والصيف في (أوستاكر في مزرعة ريفية، حيث يعنى بغرس الأزاهر وتربية النحل، وهو يصف لنا حياته فيها بصفحات ممتعات من كتابه (حياة النحل ويظهر أثر الطبيعة الفنانة في تأريث وحيه الأدبي

أخذ يكتب ماترلنك لمجلة بلجيكا الفتاة فنشر فيها مأساته الأولى (الأميرة مالين ولم تثر هذه المأساة اهتمام الناس، عند نشرها، حتى أتيح لها ناقد ينقدها، وإذا بماترلنك يسمو إلى ذروة المجد، وإذا بصيته يذيع وبشهرته تستفيض. فلقد كتب عنها آنئذ الروائي أوكتاف ميربو هذا الهجاء اللاذع، والأديب الذي أخرج أروع المآسي الحديثة. رأى ميربو ما في مأساة ماترلنك من جمال وكمال، فتكلم عليها بمقال ظهر في (الفيفارو) سنة 189. وما

ص: 23

ظهرت المقالة حتى تردد اسم ماترلنك، وإذا بالناس يقبلون على مأساته يقرأونها ويناقشونها، ويجعلون كاتبها من العباقرة الخالدين

لقد كتب ميربو يومئذ يقول: (وما أدري إن كان هذا المؤلف شيخاً أم شاباً، غنياً أم فقيراً، ولكني أعلم أن ليس بين الأدباء رجل مغمور مثله، وأعلم أنه أتى بمأساة رائعة، تضمن له الخلود، وتضمن له إعجاب أولئك الذين يتتبعون الجمال، وأعلم أنه أخرج لهم مأساة فتانة كتلك التي يحلُم بها الفنانون الملهمون في ساعات الحماسة، وكالتي لم يكتب أحد مثلها حتى اليوم. لقد قدّم لنا موريس ماترلنك أعظم أثر عبقري في زماننا، لا أغالي إذا قلت إنه يسمو في جماله على ما في آثار شكسبير من جمال، هذه المأساة، هذا الأثر يسمى (الأميرة مالين)، فهل في هذا العالم عشرون رجلاً يعرفها. . .؟)

ولم يصرف هذا النجاح المتألق ماترلنك، عن طريقه التي سار فيها، وشعر بدافع يدفعه نحو الصوفية. . . ودأب على إصدار درامات طريفات، ليس في أدب من آداب الأمم مثلها، وسنلخصها ونبين ما فيها من سحر وجمال

ولابد من الإشارة قبل المضي في تحليل آثار ماترلنك، إلى أن قليلاً من الكتاب مَنْ يستطيع أن يجاري ماترلنك في سلاسة أسلوبه وصفائه، وخصوبة ألفاظه وبراعته، وسحر الجو الذي يحيط به دراماته. وقد يكون من العسير أن أبين لك صفات الأشخاص نفسها، فهي مخلوقات، فوق المخلوقات البشرية لا تحس إحساسنا ولا تشعر بما نشعر به من عواطف دنيا. بل تهزها أبداً عواطف نبيلة سامية، أكثر رفعة، وأكثر صفاء من العواطف التي تغمرنا. ومع ذلك فإنك لترى ألفاظاً عميقة تصف هذه العواطف النبيلة لا تجدها عند غيره. ولقد استطاع أن يصور الحب والقلق والحسد والألم والرعب والطمأنينة بما لم يصفه بها أحد. وهو في أكثر دراماته يحاول أن يبين تلك القُوى العلوية التي تؤثر في مصيرنا وأعمالنا وحياتنا، وهو لا ينصح ولا يدعو إلى الأخلاق. . . عمداً، فقد يضحي من أراد ذلك بجمال المأساة أو القصيدة الفني (ولكن ما على الشاعر أو الأديب من حرج إذا أوصلنا إلى حقائق أخلاقية مقبولة دون أن يُفقِد القصيدة شيئاً من زينتها في شكلها وفكرتها)

وإذن، فنحن إلى جانب عنايتنا بتبيان الناحية الفنية في آثار ماترلنك سنعنى بتبيان آرائه الفلسفية التي يسوقها عن تلك القوى العلوية، عن العالم المجهول

ص: 24

كانت أولى دراماته، كما ذكرنا، الأميرة مالين. فهي التي دفعت به إلى قمة المجد، بعد أن كتب عنها ميربو ما كتب. في هذه الدرامة تشعر بجو غريب لا عهد لك به. . . بلاد واسعة لا نهاية لها، تحسبها في آن واحد، بلاداً خرافية، وحقيقية. . . وفيها يدع ماترلنك الإنسان والطبيعة يقدمان الأدلة على الشك في قوتهما وضعف إرادتهما، وعبوديتهما. في هذه البلاد، ترى بحيرات راكدة محاطة بالغابات، وقصوراً شماً ذات دهاليز مظلمات، وأقبية سوداً مخيفات؛ وترى بروجا مهدمة تريد أن تنقض تحت ثقل القرون الطوال. وترى حدائق غُلباً لا تطأها قدم إنسان، وقد ألفها الحزن والظلام. هذه القصور التي تجثم فوقها ذكرى الجرائم الخاليات، والآلام الدائمات، هي في آن واحد عظيمة وحقيرة، مأهولة ومقفرة. يروع أهلها ذات يوم خوف شديد، فيجتمع شبانها وشيوخها يتبادلون الرأي، ويبحثون في الأمر ويتحاورون محاورات يظهر فيها ماترلنك البعد الساحق بين هؤلاء وهؤلاء في أفكارهم وأعمالهم ومصائرهم

ويبقى القارئ في جو غامض لا يدري أنى يخرج منه. وفجأة تبرز له المشكلة التي بنيت عليها الدرامة. لقد وقف الموت: هذه القوة التي لا ترى أمام الحب والسعادة، لأن هذه القوة الفاجعة، تبغض هذه السعادات؛ هي تبغض الحب، والأمن والهدوء، فهي أبداً تسعى لتهديمها. وهنا يظهر ماترلنك متشائماً، فأي سعادة ترتجيها والموت حيال عينيك لا يزول؟

والحق أنه ليس أدعى إلى التشاؤم واليأس من قدَر مالين. لقد كانت تحب. وكانت تُحَب. لقد سميت على ولي العهد؛ حبيبها وخطيبها. ولكنها، وهي في فوران الهناءة والسرور، تسمع بخيانة خطيبها؛ فتجن وتموت بالخناق دون أن تتثبت مما سمعت؛ ويعلم خطيبها (هجالمار) بما فعلت حبيبته فينتحر

والفكرة بسيطة كما رأيت؛ ولكن ماترلنك يوقظ فيك وأنت تقرأها أدق المشاعر، وأخص العواطف؛ ويؤثر فيك تأثيراً بالغا. ًوهي لعمري درامة شكسبيرية بكل ما في هذه الكلمة من معنى

(للبحث بقية - دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 25

‌4 - الأحلام

للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

بقلم الأستاذ ألبير نادر

أين الفرق بين الإدراك والحلم؟

ما هو النوم؟ إني لا أتساءل طبعاً ما هي الشروط الجسمية للنوم - هذا أمر يبت فيه الأطباء ولم يفصل فيه بعد. أتساءل كيف يجب أن نتصور الحالة النفسية لرجل نائم لأن النفس تستمر في العمل أثناء النوم. فالنفس - كما سبق أن ذكرنا - نائمة كانت أو يقظة، تربط الاحساسات بالذكريات التي تدعوها - وآلية العمليتين تبدو واحدة في الحالتين: حالة اليقظة وحالة النوم - ولكن يوجد الإدراك الطبيعي من جهة والحلم من جهة أخرى - فآلية العملية لا تقوم بنفس العمل في الحالتين، فأين الفرق إذاً؟ ما هي الميزة النفسية للنوم؟

دعونا، لا نثق كثيراً بالنظريات. يقولون إن النوم عبارة عن انفراد عن العالم الخارجي، ولكننا بينا أن النوم لا يمنع الحواس تماماً من التأثيرات الخارجية، لكنه يستمد منها مادة الكثير من الأحلام. ثم بينا أن وظائف العقل السامية أثناء النوم تستريح ويتسبب عن ذلك توقف في التعقل. لا أظن أن الأمر كذلك. إننا أثناء الحلم نصبح غير مكترثين بقوانين المنطق؛ ولكننا لا نكون عاجزين عن كل منطق، وأكثر من ذلك، وهنا أخشى أن أدهشكم، أن ذنب النائم هو أنه يعقل أكثر من اللازم. والنائم يتجنب المحال إذا كان مجرد مشاهد لاستعراض رؤياه - ولكنه عندما يريد، بقدر المستطاع أن يعبر عنها، يكون منطقه المخصص لربط الصور المبعثرة بعضها ببعض غير قادر إلا على تقليد منطق العقل، ويتلمس حينئذ المحال. نعم إن وظائف العقل السامية تنحل أثناء النوم؛ وإن ملكة التعقل تلهو أحياناً بتقليد التعقل الطبيعي ولو لم تشجعها على ذلك الصور المتماسكة. ويمكننا أن نعمم هذا القول فيما يخص الملكات الأخرى. إننا لا نعلل الحلم بانعدام التعقل ولا بإغلاق الحواس ولنترك جانب النظريات ونتصل مباشرة بالواقع

يجب أن نقوم باختبار حاسم في أنفسنا. عندما نخرج من الحلم سنراقب انتقالنا من حالة النوم إلى حالة اليقظة، إذ أننا لا نستطيع أن نحلل حالتنا أثناء الحلم نفسه. ولنتتبع هذا

ص: 27

الانتقال بقدر المستطاع - لنوجه التفاتنا إلى حالة عدم انتباه عندنا، ولنأخذ على غرة الحالة النفسية لإنسان لم يزل نائماً، ولكنه في طريق اليقظة. نعم إن هذا العمل عسير ولكنه ليس بالمستحيل لمن مرن نفسه عليه بكل صبر. اسمحوا لي أن أقص عليكم حلماً من أحلامي وأقول لكم ماذا ظننت عندما استيقظت. ظننت أني على منبر أخاطب حشداً من الناس، فصعدت تمتمة مبهمة من مؤخرة المستمعين، ثم أخذت في الوضوح؛ وأصبحت رعداً، ثم نباحاً، ثم ضجيجاً فضيعاً - ثم دوى من كل جانب وعلى وتيرة منظمة صراخ يقول: إلى الباب إلى الباب. استيقظت فجأة عندئذ - وكان كلب ينبح في الحديقة المجاورة، وكلما كان يعوي كان الصراخ القائل: إلى الباب يمتزج بكل عوية من عواء الكلب - هذه هي اللحظة التي يجب انتهازها. فشخصية اليقظة التي ظهرت الآن تتحول نحو شخصية الحلم التي لم تزل موجودة وتقول لها: (أقبض عليك متلبسة بجرمك؛ تظهرين لي حشداً يصرخ وليس هناك إلا كلب يعوي! لا تحاولي الهروب. إني قابضة عليك. ستدلين لي بسرك وأمرك - ستدعينني أرى ماذا كنت تصنعين) وشخصية الحلم تجيب قائلة: انظري! إني لم أكن أفعل شيئاً؛ ولأجل ذلك كانت شخصيتانا مختلفتين، فتقول لها شخصية اليقظة: أتظنين أنك لا تفعلين شيئاً وأنا أسمع كلباً ينبح وأفهم أن من ينبح هو كلب؟ إنه لضلال مبين. . . أنت تبذلين مجهوداً كبيراً بدون أن تشعري بذلك - يجب أن تجمعي كل ذاكرتك وكل تجاربك المتراكمة وتقوديها بواسطة حصر مفاجئ حتى لا نقدم للصوت الذي تسمعينه سوى جزء من هذه الذاكرة أعني الذكرى التي تكون أكثر شبهاً بهذا الإحساس والتي يمكنها أن تعبر عنه أحسن تعبير: فحينئذ إذ تغطي الذكرى الإحساس. ثم يجب أن تكون هناك الموافقة التامة حيث لا يترك أي فرق بين الذكرى والإحساس (وإلا فستكونين في حالة حلم).

لا يمكنك أن تضمن هذه المطابقة وهذه الموافقة التامة إلا بواسطة الانتباه أو بالأحرى بواسطة مجهود مشترك من قبل الإحساس والذاكرة. هكذا يفعل الخياط عندما يجرب لك رداء قصَّه فقط، فهو يضع الدبابيس ويشد بقدر الإمكان القماش على الجسم حتى ينسجم عليه تماماً. وحياتك في حالة اليقظة هي حياة عمل وإن ظننت أنك لا تعملين شيئاً. وذلك لأنه يجب عليك في كل لحظة أن تختاري وأن تعزلي. إنك تختارين بين احساساتك لأنك تبعدين عن الوجدان آلاف الاحساسات الشخصية التي تعود إلى الظهور حينما تنامين. إنك

ص: 28

تختارين بكل دقة وتأن من بين ذكرياتك بما أنك تبعدين كل ذكرى لا تنسجم وحالتك الحاضرة. هذا الاختيار الذي تقومين به بلا انقطاع، وهذه المطابقة (بين الذكريات والحالة الحاضرة) المستمرة والدائمة التمدد هما الشرط الأساسي لما يسمونه الصواب. ولكن المطابقة والاختيار يجعلانك في حالة إجهاد غير منقطع أنت لا تشعرين به في الحال كما أنك لا تشعرين بالضغط الجوي ولكنك تتعبين إذا ما طال. والصواب متعب جداً.

(لقد قلت لك تواً: إني أتميز عنك لأني لا أفعل شيئاً. والمجهود الذي تبذلينه بدون انقطاع أنا أمتنع فقط عن بذله. أنت تتمسكين بالحياة وأنا أنفصل عنها. لم أعد أكترث بشيء ولا أهتم بشيء. النوم عدم اهتمام ونحن نيام بقدر ما نكون غير مبالين. الأم النائمة بجانب طفلها يمكنها ألا تسمع قصف الرعد، بينما تنهدة واحدة من تنهدات طفلها توقظها. فهل كانت غافلة (نائمة) حقاً بالنسبة لطفلها؟ إننا لا نغفل عما يزال يهمنا

(تسألينني عما أفعل عندما أحلم؟ سأقول لك ماذا تفعلين أنت أثناء اليقظة. تأخذينني أنا شخصية الأحلام، أنا مجموعة ماضيك وتقودينني، مضيقة على الخناق، حتى تحصريني داخل الدائرة الضيقة التي تخطينها حول عملك الحالي، هذه هي حالة اليقظة: الحياة النفسية الطبيعية، الجهاد، الإرادة. أما الحلم فهل أنت بحاجة لأن أعبر لك عنه؟ إنها الحالة التي تلاقين فيها نفسك في حالتها الطبيعية عندما تتركينها على غاربها، عندما تهملين حصرها في نقطة واحدة، عندما تكف الإرادة عن العمل. وإذا ألححت أو أصررت في طلب شرح أي شيء فسلي كيف تعمل إرادتك في أي وقت من أوقات اليقظة حتى يمكنها أن تحصر كل تحمله فيك في نقطة واحدة تهمك وذلك بدون أن تشعري واسألي فجأة حينئذ حالتك النفسية وقت اليقظة، ووظيفتها الأساسية أن تجيبك لأن اليقظة والإرادة شيء واحد)

هذا ما تقوله شخصية الأحلام، وإنها لتقص علينا أشياء أخرى كثيرة إذا تركنا لها المجال لذلك. لكن لقد حان الوقت للوصول إلى النتيجة. ما هو الفرق الجوهري بين الحلم واليقظة؟ سنلخص ما سبق قائلين إن القوى نفسها تعمل سواء كنا في حالة اليقظة أو في حالة الحلم. فقط في الحالة الأولى تكون هذه القوى منحصرة وفي الحالة الثانية تكون منطلقة

الحلم هو الحياة العقلية بأكملها ينقصها مجهود الحصر. فلا نزال ندرك ولا نزال نتذكر ولا

ص: 29

نزال نعقل. والحالم يمكنه أن يدرك ويتذكر ويعقل كثيراً. والإكثار في هذه العمليات لا يعني أن النفس تبذل مجهوداً لأن ما يتطلب المجهود إنما هو الدقة والتأني في الانسجام. فنحن لا نعمل شيئاً ولا نبذل أي مجهود ليرتبط نباح الكلب صدفة بذكرى حشد متضجر، ولكن يجب بذل مجهود فعلي حتى يتصل هذا النباح بذكرى نباح الكلب وحتى يمكننا التعبير عنه أنه فعلاً نباح. ولكن لم تبق عند الحلم أي قوة لبذل هذا المجهود، فبذلك وبذلك فقط يتميز الحالم عن اليقظان

هذا هو الفرق ونحن نعبر عنه بطرق مختلفة. وإني سأتجنب التفصيلات؛ فقط ألفت نظركم إلى نقطتين أو ثلاث وهي: عدم استقرار الحلم، والسرعة التي يمكنه أن يسرد بها، والأفضلية التي يعطيها للذكريات التافهة

من السهل التعبير عن عدم الاستقرار، إذ أن الحلم من خاصيته ألا يجعل الإحساس ينطوي تماماً على الذكرى، بل يترك في ذلك مجالاً للعب، فعليه يمكن لذكريات مختلفة تمام الاختلاف أن تنطبق على الحلم. إليك مثلاً بقعة خضراء منتشرة عليها نقط بيضاء، وذلك في حقل البصر - فيمكنها أن تحقق ذكرى جزء مزدهر في حديقة أو ذكرى مائدة لعب الكرات مع كراتها، أو أشياء أخرى كثيرة. وجميع الذكريات تريد أن تعود إلى الحياة في هذا الإحساس وكلها تعدو وراءه. ففي بعض الأحيان تبلغه الواحدة تلو الأخرى، والجزء المزدهر في الحديقة يصبح مائدة لعب الكرات، ونشاهد حينئذ تطورات مدهشة. وفي بعض الأحيان تبلغه جميعها فيصير الجزء المزدهر مائدة لعب الكرات، ويحاول الحالم أن يرفع عنه هذا التناقض بواسطة تفكير يزيد في دهشته

(البقية في العدد القادم)

ألبير نادر

ص: 30

‌المؤلفات العربية القديمة

وما طبع منها في سنة 1942

للأستاذ كوركيس عواد

في غير موطن من هذه المجلة، نشرنا قوائم بالتصانيف العربية القديمة التي طبعت في السنوات 1939 و1940 و1941 مما كنا وقفنا عليه بالذات أو ما كان اتصل بنا خبره. وهانحن أولاء نواصل ما بدأنا به سابقاً، مع علمنا بصعوبة إدراك ما نتمناه في هذه السبيل وهو الوقوف على كل ما يطبع منها وحصره حصراً تاماً. ولعل ذلك التقصير راجع في أغلبه إلى الظرف الذي يلابسنا، فقد تعسر فيه سير البريد بين بعض الأقطار وتعذر في غيرها، ذلك بعد أن كان فيما مضى من أيام السلم مضرب المثل في انتظامه وسرعته

وعلى كل حال، فإننا نذكر فيما يلي ما انتهى إلينا من مطبوعات سنة 1942، ثم نردفها ببعض المستدركات على مطبوعات سنة 1941، متبعين في سياقتها الترتيب الهجائي لعناوين الكتب، شأننا فيما فعلناه في القوائم السالفة.

أولاً: مطبوعات سنة 1942

1 -

الأشباه والنظائر في النحو لجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911هـ. نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد في أربعة مجلدات، صحائفها على التوالي 340 و334 و303 و253

2 -

الأفعال: لأبي القاسم علي بن جعفر السعدي اللغوي المعروف بابن القطاع الصقلي المولد، المتوفى بمصر في سنة 515 وقيل 514هـ نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد. ظهر منه مجلدان (398 و491 ص) فيهما ذكر الأفعال المبدوءة بالهمزة فالباء إلى الفاء. وسيظهر المجلد الثالث وبه يكون تمام الكتاب

3 -

الألحان واختلاف الناس فيه: هو قسم من كتاب الياقوتة الثانية في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربة المتوفى سنة 328هـ. نقله إلى الإنكليزية المستشرق فارمر وطبعه في مدينة برسدن باسكتلندة ضمن المجموع الموسيقي الموسوم

5 ; 27

ص: 31

وقد ظهرت الرسالة أولاً في المجلة الآسيوية البريطانية

4 -

الإمتاع والمؤانسة: لأبي حيان التوحيدي، المتوفى بعد سنة 400هـ الجزء الثاني، صححه وضبطه وشرح غريبه الأستاذان أحمد أمين بك وأحمد الزين (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 205 + 26 ص) الجزء الأول صدر سنة 1939

5 -

بلاغات النساء وطرائف كلامهنَّ ومُلَح نوادرهن وأخبار ذوات الرأي منهن وأشعارهن في الجاهلية وصدر الإسلام: لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المعروف بطيفور، المتوفى سنة (280هـ). نشرته المكتبة المرتضوية ومطبعتها الحيدرية في النجف في 226 صفحة

6 -

التاريخ الكبير: للإمام البخاري المتوفى سنة 251هـ. القسم الثاني من الجزء الرابع، نشرته دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد في 465 19 ص. وفيه تراجم رجال الحديث من باب (مدرك) إلى باب (يونس). القسم الأول من الجزء الرابع ظهر سنة 1941 ولم يطبع شيء مما قبله

7 -

التصوير عند العرب: للمغفور له العلامة أحمد باشا تيمور، المتوفى سنة 1347هـ. أخرجه وزاد عليه الدراسات الفنية والتعليقات الدكتور زكي محمد حسن (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 15 324 ص منها 114 ص للمنن الأصلي والباقي للناشر. والكتاب مزدان بصور عديدة

8 -

تفسير سفر هُوْشع (أحد أسفار التوراة). تأليف يافث بن عليًّ القرًّائي (من أهل المائة العاشرة للميلاد) نشره المستشرق برنبام إلى ثماني نسخ خطية لهذا الكتاب، ومضيفاً إليه تعليقات ومقدمة بالإنكليزية. (فيلادلفية (الولايات المتحدة) 62 + 274ص)

9 -

الجرح والتعديل: لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، المتوفى سنة 327هـ، الجزء الثالث، نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، في قسمين صحائفهما 435 و340. أما سائر الأجزاء فلم تطبع

10 -

ديوان أبي تمام: لأبي تمام الطائي الشاعر المشهور، المتوفى سنة 228هـ. باب الهمزة منه، شرحه ودرسه الأستاذ أحمد عثمان عبد المجيد (طبع في القاهرة)

11 -

رسالة في اتصال العقل بالإنسان: لابن باجة الفيلسوف الأندلسي الشهير، المتوفى سنة 533هـ، خاطب بها بعض إخوانه. نشرها المستشرق أسين في مجلة الأندلس

ص: 32

الإسبانية 1 - 47 - ، ، 1942 بعنوان:

12 -

السلوك لمعرفة دول الملوك: لتقي الدين المقريزي، المتوفى سنة 845هـ القسم الثاني من الجزء الثاني، عني بتحقيقه الدكتور محمد مصطفى زيادة على غرار الأجزاء السابقة. وهو يشتمل على بقية عهد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، 250 ص)

13 -

ضوء الصباح في مدح الوزير عبد الفتاح: وهو ديوان شعر محمد بن مصطفى الغلامي الموصلي (من أبناء المائة الثانية عشرة للهجرة)، أهداه إلى الوزير عبد الفتاح باشا بن إسماعيل باشا الجليلي سنة 1183هـ، نشره الأستاذ محمد رؤوف الغلامي في آخر كتاب (العلم السامي في ترجمة الشيخ محمد الغلامي)(مطبعة أم الربيعين بالموصل الصفحة 298 - 360)

14 -

علم البيان: رسالة صغيرة كتب على غلافها أنها (تأليف العلامة أبي بكر) نشرها الأستاذ عبد المجيد الملا. (مطبعة الفرات، بغداد 32 ص)

15 -

كتاب الكنى: هو جزء من التاريخ الكبير للأمام البخاري (256هـ) نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد في 98 صفحة

16 -

المزهر في علوم اللغة وأنواعها: لجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911هـ عني بشرحه وتصحيحه الأساتذة محمد أحمد جاد المولى بك ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي نشرته دار إحياء الكتب العربية (مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بالقاهرة، في 651 صفحة)

17 -

المعَرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم: لأبي منصور الجواليقي، المتوفى سنة 540هـ. حققه وشرحه الأستاذ العلامة أحمد محمد شاكر (مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 40 + 456 ص)

18 -

المفضليات: جمعها أبو العباس المفضل الضبًي، المتوفى سنة 168 أو 170هـ. الجزء الأول، حققه وشرحه الأستاذان أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون. (مطبعة المعارف ومكتبتها بالقاهرة، 200 ص)

ص: 33

19 -

المفضليات الخمس: للمفضل الضبي (168 أو 170هـ) حققها وشرحها الأستاذ عبد السلم محمد هارون (مطبعة المعارف ومكتبتها بالقاهرة، 48 ص)

20 -

من شعر أبي تمام: فيه نصوص من شعر أبي تمام والقصائد الخمس الأولى من المفضليات. ضبطه وشرحه وعلق عليه الأستاذ محمد محمد رضوان (طبع في القاهرة)

21 -

نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة. للقاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي المتوفى سنة 384هـ الجزء الثاني بتحقيق المستشرق في (مجلة المجمع العلمي العربي) بدمشق، في أعداد المجلد 12 منها (سنة 1932 - والمجلد 13 (سنة 1933 - 1935) والمجلد 17 (سنة 1942) إن الجزء الأول من هذا الكتاب النفيس، نشره مرجليوث (القاهرة 1921)، والجزء الثامن منه نشره المستشرق المذكور والمجمع العلمي العربي (دمشق1930) ولا يعلم اليوم من أجزاء النشوار، التي تبلغ أحد عشر مجلداً، غير هذه الثلاثة، الأول والثاني والثامن

22 -

همزيات أبي تمام: شرحها وحققها الأستاذ عبد السلام محمد هارون (مطبعة المعارف ومكتبتها بالقاهرة 79 ص)

23 -

وجائب الضمير: تأليف يحيا بن يوسف بن بقواد (المتوفى نحو سنة 1050 م) نقله من أصله العربي إلى اللغة العبرية يهوذا بن تبون ونقله إلى الإنكليزية هيامسن وقد نشرت الترجمتان معاً في نيويورك، في 5 + 156 ص

ثانياً: المستدرك على مطبوعات سنة 1941

1 -

الإباتة في أصول الديانة: لأبي الحسن علي بن إسماعيل البصري الأشعري (قيل إنه توفي سنة 324هـ) نقله من العربية إلى الإنكليزية المستشرق بمقدمة وتعليقات، في المجلد 19 من (نيوهافن 13 + 143 ص)

2 -

أزهار الرياض في أخبار عياض: لشهاب الدين المقري التلمساني، المتوفى سنة 1041هـ الجزء الثاني، نشره وعلق عليه الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ شلبي، طبع على نفقة بيت المغرب (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 430 ص) الجزء الأول ظهر سنة 1939

3 -

أنباط المياه الخفية: لأبي بكر محمد بن الحسن الحاسب الكرخي (من أهل المائة

ص: 34

الخامسة للهجرة) نشرته مطبعة المعارف العثمانية بحيدر آباد بعناية الأستاذ السيد هاشم الندوي (74 صفحة فيها أشكال توضيحية)

4 -

أولياء حلب في منظومة الشيخ أبي الوفاء الرفاعي (1765 - 1847م) نشرها الأب فردينان توتل اليسوعي، بمقدمة وتعليقات وفهارس (المشرق 38 (بيروت 1940) ص 321 - 422). وقد وضع الناشر ترجمة أبي الوفاء في المشرق (39 (1941) ص 164 - 184).

(بغداد)

كوركيس عواد

ص: 35

‌البريد الأدبي

معنى قوله تعالى (يخرج الحي من الميت)

لقد اطلعت في مجلة الرسالة الغراء على تفسير لهذه الآية الكريمة،

ولما كنت قد فسرتها في كتابي (الحمل وخلقة الإنسان بين الطب

الحديث والقرآن) تفسيراً آخر رأيت أن أدلي به على صفحات هذه

المجلة

فالمقصود من قول الله تعالى (يخرج الحي من الميت) أي أنه تعالى يخرج الإنسان الحي من الطين الميت؛ ويشير إلى ذلك قول الله تعالى: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) ثم يجعله يتكون وينمو من أشياء ميتة؛ فالإنسان الحي يقتات من المواد النباتية وهي غير حية كما يقتات من لحوم الحيوانات بعد ذبحها وموتها وموت خلاياها موتاً كلياً، فيحول الله تعالى هذه الأشياء الميتة في جسم الإنسان إلى جسم حي فينمو الإنسان ويكبر. فالإنسان يستمد حياته من الحيوان والنبات، والحيوان يبنى جسده من النبات، والنبات ينمو من مواد الأرض فلا شك أن جسم الإنسان كله ينمو من الطين. وهذه معجزة الله الخالق العظيم الذي بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل بناء جسمه من الطين

فالمواد التي تدخل في تركيب أجسامنا موجودة في حفنة من تراب أو في حثوة من طين، ولكنا لا نستطيع الانتفاع بها مباشرة وإنما ننتفع بها عن طريق النبات. فعلى ذلك يحول الله تعالى المادة غير الحية إلى مادة حية في أجسامنا، وهذا هو إخراج الحي من الميت

وإما إخراج الميت من الحي فهو مثل خروج الإفرازات كاللبن وهو شيء ميت من جسم حي

أما قول كثير من المفسرين من إن إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي هو إخراج الإنسان من النطفة وإخراج النطفة من الإنسان على اعتبار أن النطفة شيء ميت، فأعتقد أن ذلك لا يساير الحقيقة وقد ثبت أن النطفة جسم حي بحيواناتها المنوية الحيّة.

(بني سويف)

الدكتور حامد البدري الغرابي

ص: 36

من رسائل الرافعي. ألفاظ العلوم. الترادف في السجع

الشعر الجاهلي

منع الجاحظ أن يستعمل الخطيب - إذا كان متكلماً - ألفاظ المتكلمين إلا إذا عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً؛ وحرم العسكري على الأديب استعمال تلك الألفاظ في أي غرض؛ وأوجب ابن الأثير على الكاتب أن يعرف مصطلحات كل صناعة وأن يلم بكل علم وفن. فسألت الرافعي رحمه الله عن هذه الآراء الثلاثة وسألته كذلك عما أخذه ابن الأثير على الصابي من أنه يرادف السجع في المعنى الواحد؛ ثم طلبت بعد ذلك أن يفضي برأيه فيما ذكره المنفلوطي رحمه الله من أن الشعر الجاهلي شعر ساذج. فجاءني هذا الجواب الشامل:

(أيها الأخ: السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فإنه يسرني أن أعرف لكم هذه العناية بالأدب والتوفر عليه، ولعلكم واجدون فيه شيئاً من التعزية عما ترونه في حادثات الدهر من سوء الأدب. . . أما الأسئلة فإني مجيبكم عنها بإيجاز. . ولو أعان الله على إظهار ما بقي من أجزاء تاريخ آداب العرب لرأيتم فيها الجواب مطولاً مبسوطاً

أما كلام الجاحظ فصحيح؛ لأنه يريد (بالمتكلم) الرجل من أهل الجدل وعلماء الكلام؛ وهذا إذا هو استعمل ألفاظ صناعته في مخاطبة الناس من أهله وجيرانه، أو الكتابة إلى من هو في حكمهم والخطابة عليهم، كان ذلك مرذولاً منه وعُدَّ متكلفاً ودخل في باب الغريب الذي يسمونه العي الأكبر؛ ولكن الجاحظ لم يمنع أن يفيض المتكلم مع المتكلمين بمثل تلك الألفاظ بل هو نبه على أن ذلك محمود منه

والأصل هو ما ورد في الحديث: خاطبوا الناس على قدر عقولهم. وصاحب المثل السائر لا يرمي في كلامه إلى ما أراده الجاحظ بل هو يريد أن يلم الكاتب بمصطلحات كل صناعة ويشارك في كل علم وفن، إذ يجد في ذلك مادة ربما احتاج إليها في توليد معنى، أو في الكتابة عن واحد من أهل تلك الصناعات أو في ديوان من دواوين الإنشاء القديمة التي كانت تتناول أكثر أمور الدولة يومئذ، ففيها كاتب الرسائل وكاتب الخراج وكتّاب آخرون، وكانت تلك أغراض الكتابة من حيث هي صناعة. على أن ألفاظ العلوم الخاصة بها مما

ص: 37

يصطلح عليه لا يجوز أن يستعان بها في الإنشاء إلا لغرض يستدعيها وإلا كانت من العي والفهاهة ونزلت منزلة الحشو ووقعت أكثر ما تقع لغواً. وهذا هو غرض العسكري

وأما عيب صاحب المثل علي الصابي في ترادف السجع فأنا أراه في موضعه من النقد، لأن السجع صناعة لا سجية، والترادف قد يحسن الأسلوب المرسل لمتانة السياق وقوة السرد كما تجده في كتابة الجاحظ وغيره، ولكن الذي يسجع لا يضطر إليه لأن كل سجعة فاصلة فهو من باب الحشو لا غير. والصابي علي قوته في الترسل ضعيف في السجع لا يبلغ فيه منزلة البديع، ولا جرم كان ذلك من ضعفه فيه

وأما شعر الجاهلية وسذاجته فلم أقرأ ما كتبه المنفلوطي في ذلك، ولكن شعر الجاهلية كشعر غيرهم إنما يصف أحوال الحياة التي شهدوها فيقع فيه ما يقع في سواه من القوة والضعف ويكون فيه الجيد والسخيف. على أن شعر فحول الجاهلية لا يتعلق به شيء من شعر غيرهم في صناعة البيان لا في صناعة الشعر إذ هم أهل اللغة وواضعوها

وفي الجزء الثالث من تاريخ الأدب زهاء أربعمائة صفحة في تاريخ الشعر العربي وفلسفته وأدواره الخ

على أني أحب لك ألا تحفل كثيراً بأقوال المتأخرين وكتاباتهم ومحاوراتهم فيما يختص بالأدب العربي وتاريخه لأنهم جميعاً ضعاف لم يدرسوه ولم يفكروا فيه، فابحث أنت وفكر واجتهد لنفسك فهذه هي السبيل. . .

كتبت على عجلة ساعة الانصراف، ففكر في الجواب واستخرج من قليله مالا يكون به قليلاً. والسلام عليكم ورحمة الله

14 أكتوبر1916

(المنصورة)

(مصطفى صادق الرافعي)

محمود أبو رية

تصحيح اسم طبيب

كتب صديقنا القديم الدكتور باول كراوس المدرس بكلية الآداب مقالين نفيسين في الثقافة

ص: 38

الغراء عن (هبة الله بن جميع الإسرائيلي المصري طبيب الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب. وضبط الدكتور الفاضل اسم الطبيب المصري هكذا (ابن جميع أو ابن جُميِّع)

وعجبت جداً كيف يغفل صديقنا المحقق عن صحة اسم هذا الطبيب الإسرائيلي المصري فيرويه على وجهين، مع أن النصوص والأخبار جميعها متفقة على رواية واحدة وهي ابن جميع بفتح الجيم لا غير. فلا حاجة بنا إلى تشديد الياء

قلت إن الأخبار الأدبية والتاريخية تؤيد هذا الوجه ولا تعرف غيره وخاصة أن هذه الأخبار لأعلام عصر المؤلف وشعرائه المشهورين

ودليلنا على ذلك ما قاله ابن المنجم المصري الشاعر المشهور في عصر صلاح الدين وكان معاصراً لابن جميع في عجائه:

دعوا ابن جميع وبهتانه

ودعواه في الطب والهندسة

فما هو إلا رقيع أتى

وإن حل في بلد أنحسه

وقوله من أبيات أخرى.

لابن جميع في طبه حمق

يسب طب المسيح من سببه

وقوله من أبيات أخرى

كذبت وصحفت فيما ادعيت

وقلت أبوك جميع اليهودي

فهذه النصوص كلها تدل على أن اسمه ابن جميع بفتح الجيم لأن الشعر لا يستقيم وزنه على الوجه الثاني (ابن جميِّع) الذي ذكره الدكتور

بقي أن هذه الأبيات التي أوردتها هي في هجاء ابن جميع، وقد صدرت عن شاعر خبيث اللسان كما يعترف بذلك ابن أبي أصيبعة صاحب طبقات الأطباء ج 2ص113، ولكنها على كل حال لا تغض من قيمة ابن جميع العلمية ولا تنقص من قيمة رسالته الصلاحية النفيسة التي أورد الدكتور كراوس نبذاً منها في عدد الثقافة الأخير

محمد عبد الغني حسن

(إبليس يغني) للأستاذ صلاح الدين المنجد

ص: 39

الأستاذ صلاح الدين المنجد في طليعة الشباب السوري الممتاز بالجمع بين الثقافتين العربية والغربية. وقلما تجد هذا الجمع على نسبة عادلة في غير هذه الفئة الصالحة التي تنتج الأدب السوري اليوم وتجدد فيه وتقوم عليه؛ فهي تمتاز من غيرها بإشراق الديباجة وسلامة البيان من جهة التصوير، وبشمول الثقافة وجدَّة الفكرة من جهة التصوُّر. والمتتبع لمقالات الأستاذ المنجد في الرسالة يلاحظ هذه المزايا واضحة جلية. وقد أصدر اليوم بعنوان (إبليس يغني) ثلاث روايات قصيرة هي: إبليس يغني، وإبليس يلهو، وحسناء البصرة. نقلها عن حكايات قديمة (كتبت في عصر يباين عصرنا فأصبح يعوزها أن تعرض برشاقة، وتهذب بذوق، وتصقل بفن، وتثقف بدقة. . .) وقد قال الأستاذ: (فوضعت حوارها على طراز تمثيلي حديث، ولم أشأ أن أبدل في جوهرها، ولكن تصرفت بعض التصرف في ترتيبها وتفصيلها وتبويبها، فجاءت كتاباً خاصاً ما أحسب أن أحداً أفرد مثله لمثلها. . . أقدمه رياً للقلب الرغيب في التماس الجمال في أدب القدامى، ومتاعاً للنفس العطوف على الفن أنى كان، ووسيلة لتحبيب الشباب في أدبنا القديم). والكتاب مطبوع في مطبعة الترقي بدمشق طبعاً جميلاً على ورق جميل. فللأستاذ المنجد الشكر على كتابته، ولجمهور القراء التهنئة بقراءته

بنو إسرائيل والطعام الواحد

قرأت ما رد به الأستاذ (س) على الدكتور زكي مبارك في فهم الآية الكريمة: (اهبطوا مصراً. . .) فراعني منه أن يبنى على وجه التخطئة على ما يأتي:

أن (مصر) النيل المبارك فهي علم ممنوع من الصرف. . . كيف هذا وصاحب الكشاف يقول ما نصه. . . ويحتمل أن يريد العلم وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث لسكون وسطه كقوله: نوحاً ولوطاً. . . وأن يريد مصراً من الأمصار. وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش: اهبطوا مصر بغير تنوين كقوله: ادخلوا مصراهـ

وعندي لتعليل تنوين مصر مع كونه علماً وجه آخر ذكره النحاة في كتبهم، وأظنه لا يغيب عن مثل حضرة الأستاذ، وهو أن العلم إذا أريد به البقعة لم يصرف لأنه اجتمع فيه التأنيث مع العلمية، وإن أريد به المكان صرف

ص: 40

والذي يرجح أن المراد بمصر مصر النيل قوله سبحانه (فإن لكم ما سألتم) إذ المعنى أنهم إذا نزلوا هذا البلد المعين فإنهم سيجدون سؤلهم، وسيكون المعنى على فهم الأستاذ الجليل أنهم إذا نزلوا أي مصر من الأمصار وجدوا ما يطلبون. فأي المعنيين أليق بعظمة القرآن وجلال التبيان؟!

إبراهيم السعيد عجلان

ص: 41