المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 522 - بتاريخ: 05 - 07 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٢٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 522

- بتاريخ: 05 - 07 - 1943

ص: -1

‌13 - دفاع عن البلاغة

5 -

الأسلوب

خلص لنا من مخض هذه الأحاديث أن الأسلوب الفني يتكون من الصورة والفكرة كما يتكون الماء القراح من الهدروجين والأوكسجين. وكما استحال في فن الطبيعة أن يتكون الماء من أحد عنصريه، فقد استحال في فن الإنسان أن يتكون الأسلوب من أحد جزئيه. ولا أقصر وجه الشبه بين الأسلوب والماء على أن تركُّب هذا وذاك من عنصرين ضربة لازب؛ إنما أمد الشّبه إلى أن نسبة الصورة إلى الفكرة في الأسلوب يجب أن تكون كنسبة الهدروجين إلى الأوكسجين في الماء. وإذن لا يعد من الأساليب الفنية تلك المعاني الحكيمة التي تُعرض في معرض بشع من الركاكّة والغثاثة والتعقيد والخطأ ولا تلك الصور المموهة التي تنتفخ انتفاخ الفقاقيع، وتبرق بريق الشرر، ثم لا يكون من ورائها غير فراغ وظلمة. قال ابن رشيق:(ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. فان اختل المعنى كله وفسد، بقى اللفظ مواتاً لا فائدة فيه وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأى العين إلا أنه لا يُنتفع به ولا يفيد فائدة. وكذلك إن اختل اللفظ وتلاشى لم يصحّ له معنى، لأنا لا نجد روحاً في غير جسم ألبتَّهَ)

على ذلك نستطيع أن نتحدث إليك اليوم عن صفات الأسلوب الذي عرَّفناه وآثرناه. وحاشاك أن تفهم مما قدمتُ أن في ذهني أسلوباً معيناً جعلته النموذج، وأن في بالي نموذجاً خاصاً جعلته المقياس؛ فأني ذكرت لك من قبل أن الأساليب تختلف باختلاف الذهن والثقافة والنوع والغرض والحال والشخص الذي يتحدث. فأسلوب القصة غير أسلوب الرواية، وأسلوب العتاب غير أسلوب الشكر، وأسلوب التأثير غير أسلوب الإقناع، وأسلوب العالم غير أسلوب العامل؛ وكل أسلوب بليغ في بابه، مقبول من أصحابه. ومن العسير عليَّ في هذه اللمحات أن أستوعب الصفات الخاصة بكل أسلوب لكل نوع؛ فإن موضع ذلك عند تفصيل القول في الأنواع الأدبية وقواعدها الثابتة وشروطها المميزة؛ ولكن لهذه الأنواع مهما تعددت واختلفت صفات مشتركة من جهة الأسلوب، كما أن لها ملكات مشتركة من جهة الذهن، هذه الصفات المشتركة هي التي تعنينا ونعنيها، وهي التي سنحاول بسط الكلام

ص: 1

فيها

تقرأ في كتب النقد والبلاغة فتجد من صفحه إلى صفحه سلاسل من الوصف الجزاف تتلاحق على الكلام البليغ فلا توضحه ولا تحدده. ذلك لأن أكثرها من الألفاظ التي أشاعها الكتاب في الناس من غير تقييد ولا تحديد فظلت معانيها مبهمة ودلالها شائعة. من ذلك قولهم: الجزالة والسهولة والعذوبة والرقة والدقة والخفة والقوة والسلاسة والرصانة والنصاعة والوضوح والصدق والحلاوة والرونق والمائية والطبيعية والسبك والحبك والشرف والسمو والجلال، إلى آخر هذه النعوت المتداخلة التي لا تعين حداً ولا تبين مزية

وأنت إذا تدبرت هذه الصفات على علاتها ثم عرفتها وصنفتها لا تجدها تخرج عن صفات ثلاث هي جملتها وجماعها: تلك الصفات الجامعي هي الأصالة والوجازة، والتلاؤم. ويقابلها في الفرنسية ' ، ، ' وسنفيض القول في كل صفة منها ما وسعنا البيان والجهد

يراد بالأصالة في الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين من خصوصية اللفظ وطرافة العبارة. وتلك هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق. وملاك الأصالة ألا تكتب كما يكتب الناس. ملاكها أن تكون أََصيلاً في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك، فلا تستعمل لفظاً عاماً ولا تعبيراً محفوظاً ولا استعارة مشاعة. ولعلك قرأت فيما قرأت كلاماً يرضي اللغويين ويعجب النحاة، ولكنه مضطرب الدلالة مختلط الألوان تفه المذاق لا تستقله روح ولا تمثله صورة. ذلك هو الأسلوب الذي صدر عن الذاكرة ولم يصدر عن الذهن، ونقل عن الناس ولم ينقل عن النفس، وعبر بالجمل لا بالكلمات، وأبان بالتقريب لا بالدقة، وصور بالسوقي المبتذل لا بالأصيل المبتكر أما خصوصية اللفظ فدلالته التامة على المعنى المراد ووقوعه الموفق في الموقع المناسب. وآية مطابقته لمعناه ومبناه أنك لا تستطيع أن تُبدله ولا أن تَنقله. والخصوصية في اللفظ أصل الدقة في التعبير والوضوح في المعنى والصدق في الدلالة؛ لأن الكلمة إذا تمكنت في موضعها الأصيل دلت على المعنى كله؛ فإذا حُشرت فيه حشراً، أو قسرت عليه قسراً، دلت على بعض المعنى أو أبانت عن غيره

وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخَلق؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم؛ فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة،

ص: 2

دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر علية اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة، إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة. وللكلمات أرواح كما قال (موباسان). وأكثر القراء، وإن شئت فقل أكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي أعد لها وهندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد لها الحياة وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعّة والوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والإعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة. وذلك في الجهاد الفني فوز غير قليل.

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

الحياة والموت في الآية القرآنية - احترسوا من الأموات - الغصن الوريق

قرأت السؤال الموجه إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي من أحد أفاضل الفراء، وقرأت إجابة حضرة الدكتور عباس محمود حسين وإجابة ضرة الدكتور حامد البدري الغرابي، ثم رأت أشترك في الإجابة، لأن عندي آراء ترفع اللبس عن الآية القرآنية، وتلقي على الموضوع بوارق من الضياء

القرآن يقول (يُخرج الحيّ من الميت) والعلم يقول إن الحيّ لا يخرج من الميت، فكيف نوفق بين قول العلم وقول القرآن؟

إن هذا الخاطر حير البرية منذ أزمان، فقد قال أبو العلاء:

والذي حارت البرية فيه

حيوانٌ مستحدثٌ من جماد

وأسارع فأقرر أن مصدر الحيرة يرجع إلى عدم فهم المراد من الميت، وعدم فهم المراد من الجماد

وبيان ذلك أن الموت في الآية القرآنية ليس هو الموت الذي ينافي الحياة كل المنافاة، وإنما هو الحالة التي لا تتمثل فيها خصائص الحيوان والنبات من الإحساس والنماء، وكذلك يقال في الجماد وهو الطين في بيت العلاء، فالطين ليس له في الظاهر إحساس ولا نماء، ولكن فيه حيوية تظهر في قدرته على تحويل البذور إلى نبات، فهو يحتضنها بحرارة تشبه احتضان الطير للبيض، وتلك الحيوية متفرعة عن أسباب جوية، ولكنها أصيلة في الطين بدليل قدرته على اجتذاب وسائل الإنضاج، فإنه لا يمكن تصور الفاعلية بدون بدون تصور القابلية، والقابلية استعداد يشهد بالحيوية

يروي أن أستاذنا الروحي في التصوف وهو أبو الحسن الشاذلي قال (نحن كالسلحفاة تربى أبناءها بالنظر) وهي عبارة في غاية من الجمال

ومع أني لم أفكر في تحقيق هذه الظاهرة الطبيعية فقد سمعت أن النعامة تحتضن بيضها بالنظر فقط، لأنها لا ترقد علية وطريقتها في الاحتضان أن تنظر إلى البيض باستقامة لا يعروها التفات إلى اليمن أو الشمال، فإذا تعبت جاء الظليم فوقف مكانها وصوب نظرة إلى

ص: 4

البيض بنفس الأسلوب، لأنه إذا انحرف يمنة أو يسرة خفت الحرارة فبرد البيض

وعن هذه الصورة نقلت بعض الكنائس وضع بيضة الناعمة في المحراب، لتوحي إلى المصلين أن الصلاة لا تقبل إذا اعترى المصلي أي انحراف

فنظرة السلحفاة للتغذية ونظرة النعامة للاحتضان، هاتان النظرتان فيهما حيوية لا يرتاب فيها مرتاب، وهما تشبهان احتضان الطين لبذور الشجر والنبات

قلت مرة إني أنكر أن يكون في الوجود شئ ميت، وهذا رأى كونته بعد تجارب، وهو في يقيني صحيح صحيح، وعندي على صحته براهين

ما رأيكم في الغبار الذي يثور فيسد مسام الأجسام ويقذي العيون؟

في ذلك الغبار حيوية تسبب ذلك الإيذاء، وأن سكت عنها الباحثون، وبرهاني على هذا القول أن القابلية لا تتأثر بدون فاعلية ومعنى ذلك أن الغبار من الأحياء لأنه فعال

يقول الدكتور حامد البدري:

(الإنسان الحي يقتات من المواد النباتية وهي غير حية، كما تقتات من لحوم الحيوانات بعد ذبحها وموتها وموت خلاياها موتاً كلياً)

وأنا لا أقول بهذا القول، فالنباتات التي نأكلها حيةُ وليست بميتة، ولحوم الحيوانات لا تموت خلاياها موتاً كلياً بذبحها وموتها، كما يقول هذا الطبيب، وإنما هي لحوم حية وإن أنضجناها بالنار، وإلا فكيف يمكن أن تعود على أجسامنا وعقولنا بالنشاط والأريحية؟

إن حياة الدجاجة، حياتها الطبيعية، لا تقاس إلى حياتها المعنوية بعد أن تذبح وتؤكل، فقد يكون آكلها قائداً فينتصر في موقعة، وقد يكون شاعراً فينظم قصيدة بليغة، وقد يكون باحثاً فينشط ذهنه لحل أصعب المعضلات

هل تعرفون شيئاً عن طمى النيل، وإلى ذلك الطمي يرجع خصب الأرض المصرية؟

ذلك الطمي ليس غباراً تسفيه الرياح كما يقول جماعة من المهندسين، وإنما هو محصول حيواني ونباتي تنظمه خلائق صغيرة لم يتحدث عنها العلم ولا التاريخ، ولهذا السبب نجد في الفلاحين من يأكل طمي النيل بشهية، لأنه في الواقع طعام من لأتراب، وهو لدسامته المفرطة يؤذي الأمعاء، ويصيب الفلاحين بمرض الرهان

والفلاح بطبعه يترك الماء المقطر، ويقبل الماء المعكر لأن عكارة ماء النيل غذاء، وهي

ص: 5

السبب فيما نتمتع به من الخيرات. لا تنسوا أن العكارة هي في الأصل عناصر نباتية والحيوانية، وإن سكت عنها الأطباء في القديم والحديث

ثم ماذا؟ ثم أمضى إلى نهاية الشوط فأقول:

ما الذي يوجب أن تكون الرسوم الهوامد من أسباب الإيحاء، إلى الشعراء؟

وتذكروا الفاعلية والقابلية، لتعرفوا أن الرسم الهامد لا يخلو من حياة، وهل يوحي الأموات إلا وهم في بعض أحوالهم أحياء؟

الناس في جميع العهود يؤمنون بالعين، أو يخافون العين، وتلك أسطورة معروفة عند بني إسرائيل، وعنهم نقلها أكثر شعوب الشرق، وما سميتها أسطورة إلا تلطفاً مع العلم الحديث وإلا فهي حقيقة من الحقائق، فعين الحاسد يصدر عنها شعاع محرق، شعاع يحسه الحاسد نفسه، كما نص بعض القدماء، وهذا الشعاع يسلم الرجل إلى القبر، والجمل إلى القدر، كما جاء في بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول

قال يعقوب لبنيه عند دخولهم عاصمة مصر لذاك العهد: (يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد، وأدخلوا من أبواب متفرقة) فما معنى هذه الوصية؟ قال جماعة من المفسرين: إنه خاف عليهم عيون الحاسدين

ولنفرض أن الحسد خرافة في خرافة، وأن الجاهلين افتروا على النبي محمد والنبي يعقوب، فكيف تفشت تلك الخرافة في اكثر الشعوب؟

هل تصدر الخرافات بدون أصل؟

إن كان ذلك فحدثوني عن سر التوافق بين المصريين والفرنسيين في هاتين العبارتين:

إن خاف المصري الحسد قال: عين الحسود فيها عود. وإن خاف الفرنسي الحسد قال: إلمس الخشب

فما معنى هذا التوافق العجيب في الفكرة والصورة؟

هل كان المصريون والفرنسيون يدركون قيمة الخشب في دفع باس الكهرباء؟

هذه والله إحدى العجائب

المهم هو أن أقرر بصراحة أن ليس في الوجود شئ ميت، وأن القرآن حين قال:(يخرج الحيّ من الميت) لم يكن يريد الموت المطلق، وإنما كان يريد الموت الاصطلاحي، وهو

ص: 6

الحالة التي لا تتمثل فيها خصائص الحيوان والنبات من الإحساس والنماء

وما هو الموت إذا أريدت حقيقة الموت؟

إن كان الموت هو الفناء فلا فناء

قال القرآن المجيد: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) ومع هذا فالله لن يتركنا أبداً، فالكتب السماوية صريحة في أنه سيردنا إليه، للثواب أو العقاب، وعلى هذا لن يكون الموت لغير غفوات قصار أو طوال

ثم ماذا؟ ثم أسأل عن التفسير الصوفي لعبارة (يخرج الحي من الميت) وهو تفسير سكت عنه أساتذتي في التصوف، ومن حقي أن أتأدب بأدبهم فأدير الحديث بالرمز والإيماء

الميت في التصوف هو الإنسان الفاني، والحي في التصوف هو الإنسان الباقي، ومن فضل الله على عباده الفانين، أن يجعل منهم عباداً خالدين

فإن قيل: وكيف يخرج الله الميت من الحي على الطريقة الصوفية؟ فأنا أجيب:

الحي في هذه المرة هو الدنيوي المفتون، وسينتقم الله منه فيجعل ميتاً بالعقاب يوم الحساب

أما بعد فهذه كلمات لم أرد تفنيد ما قال ذانك الطبيبان الفاضلان، وإنما أردت أن أقدم إلى قرائي حقائق تعتلج في صدري، وهي حقائق متصلة بالشروح التي أيدت بها نظرية وحدة الوجود

لا موت ولا فناء

فاسمعوا كلامي واعتقدوا أن في مقدور كل مخلوق أن يظفر بالخلود إن أراد جاهدوا لتحيوا، فلا حياة بدون جهاد

لا تكونوا صحراوات لا يترقرق فيها غير السراب، وإن كان للصحراء حياة تتمثل في قدرتها على تفويت ألوان السراب كل شئ حي، حتى الصحراء التي تبدع السراب، فأين من سمع قبل اليوم أن الصحراء تؤيد غناها الموهوم بتلك الأحابيل؟

وكيف يكون غنى الصحراء غنى موهوماً وهي لا تقل في الثروة والمناعة عن البحر المحيط؟

أنا لا أخاف عليكم الموت ولا الفناء، لأني أنكر الموت والفناء، وإنما أدعوكم إلى التسلح بسلاح الفاعلية لا القابلية

ص: 7

لا تكونوا مقابر توحي فكرة الخوف والخذلان، وكونوا آساداً توحي فكرة السيطرة والافتراس

القبر يوحي والأسد يوحي، فاختاروا الأفضل والاشرف من الوحيين

لا موت في الوجود ولا فناء

ولكن الميت قد يحيا، والحي قد يموت

أموركم بأيديكم، فاصنعوا بأنفسكم ومصايركم ما تريدون، فقد بلغت في نصحكم غاية ما أملك من عافية الروح وصراحة البيان

احترسوا من الأموات

وراء كل إنسان حي إنسان ميت يسوقه بعنف إلى مصاير فيها المقبول والمردود، تبعاً لما يملك الميت من آراء وأهواء

ومن غرائب ما يقع في القدوة الفكرية أن الناس في الأغلب لا يحترمون رأي المفكر إلا بعد أن يموت. هل التفت الناس إلى آراء الشيخ محمد عبده إلا بعد أن مات؟

إن الشيخ عبده كان يتندر بمعاصريه فيقول إنهم لا يحترمون غير الرأي المنصوص عليه في كتاب قديم بعد عهد صاحبه بالحياة ولأحياء

وغفلة بني آدم من هذه الناحية أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فقد أشاع أبو نواس وأصحابه أن الخمر لا تجود إلا إن قدم عهدها بالوجود، ولهذا نجد تجار الخمر يعفرون الزجاجة بالتراب ليوهموا الغافلين أن جوهرها عتيق، كما كنا نرى في بعض مخازن الخمور بمدينة باريس

والقديم في الأدب هو الأصل، فقد مرت أزمان والناس يعتقدون أن أشعار الجاهليين أقوى وأبرع من أشعار الأمويين والعباسيين

القدم في عرف بني آدم يمنح صاحبه قدسية تفوق الوصف، وهو شارة من شارات النضج العبقري في الأشخاص وفي المعاني بسبب ما درج عليه الناس من احترام الأموات

أي العبارتين أقوى: عبارة قال القدماء، أو عبارة قال المعاصرون؟

وازنوا بين هاتين العبارتين من الوجهة النفسية لتصدقوني

وأي الحفظين أنفع في نظر المتأدبين: حفظ ديوان المتنبي، أم حفظ ديوان شوقي؟

ص: 8

إن الأموات يسيطرون على الجماهير سيطرة روحية وعقلية لا يرتاب فيها إنسان، ولو كان من أكابر الحكماء

فكيف ننكر أن يخرج الحي من الميت، وهذا هو الحال في تصورات الأفهام والعقول؟

للموت قدسية رائعة، فهو يرفع الأموات إلى آفاق لم تخطر لهم في بال، ألم تسمعوا أن كلمة الموت أصبحت مرادفة لكلمة الخلود؟

تبارك من يخرج الحي من الميت، وعفا عن صاحب ذلك الاعتراض!

الغصن الوريق

هذا الغصن هو مصدر الوحي، وهو أنضر فنن من أفنان الجمال جمالة عندي ليس جمال الشراب المعتق، وإنما هو جمال الماء الصابح في بحر سنتريس

أهفو إليه وهو سرحة ناشئة لم يغرد فوقها غير شعري وخيالي، وأشتاق رؤيته لأحميه من رقة النسائم في لطائف الآصال

فوق أوراقك أيها الغصن الوريق تراق دموع الهوى، وهي أرق من قطرات الندى، ومن أجل الوفاء لهواك يفتضح من يكره الافتضاح

وهل عرف أحد هويتك، أيها الغصن الوريق؟

أنت نفسك لا تعرف أنك المعنى بما يهتف به روحي في رسائلي وأشعاري، يا أجمل جاهل في هذا الوجود

هل تعرف أيها الغصن رفقي بك في القريب من أيامك ولياليك؟

كان بيدي أن أصيرك صرخة لا يترنم فوقها بلبل، ولا يفرح بمداعبتها نسيم، ولا يتطلع إليها نور الصباح

كان بيدي أن أهصرك، أيها الغصن الوريق، فكيف جاز أن أسلك مسلك الزهادة فيك؟

رأيت أن أجعلك فوق مشتهيات العيون والقلوب؛ يا أجمل وأظرف ما تشتهيه العيون والقلوب

كان رأيك أنني ترفقت بنفسي فلم أقل إنك هواي، وكان رأيي أني أرحمك فلا أقول إنك هواي، لأني أقدر منك على مقاومة الرقباء

فيا أنضر غصن في أجمل شجرة تتخايل في أعظم بستان، ما رأيك فيمن يكتم هواك؟ ألا

ص: 9

يكفي أن الغناء بحبك صيرني أشقى الأشقياء بالحب في زماني؟

سكت فقال العاذلون أنت، ونطقت فقال الكاشحون أنت، فمن أنت؟

آفتي في زماني أني أحب الغصن الوريق، فليعرف من لم يكن يعرف أن هواي مقصور على الأغصان الوريقة بحديقة داري في سنتريس، مع الأدب في حق من زار تلك الدار وكأنه طيف من أطياف الخلود

زكي مبارك

ص: 10

‌ألف ليلة.

. .

للأستاذ دريني خشبة

كلما تعبت الإنسانية أو جثمت على صدرها الهموم والآلام، لجأت إليك يا ألف ليلة الحبيب تخدر بك أعصابها المنهوكة، وتحسو من نهر أحلامك تلك الجرعة السحرية العجيبة، فتستسلم للأحلام. . .

أنت أيها الأغنية الخالدة التي تترقرق في أرواح المحزونين ما أبدع شاديك وما أملأ بالفتنة ناديك!

لله حورياتك التي تثب كالقطا نحو أبواب الشرق بعد إذ فتحت أكمام الورد، وغسلت بالندى أحداق النرجس، ووسوست في صدر العرائس، وأيقظت الحياة في القرية الحالمة، وداعبت كل أم بالأماني، وجمشت الديكة فأطلقت حناجرها للريح تتأذن للشمس أن تشرق، وللبدر أن يغيب، وللأنجم الظالمة أن تغرق في فيض الضوء الذي يفتر عنه فم الصباح!

لله عذاراك يا ألف ليلة الحبيب! إن في عيونهن كحل الشرق، وفي وجوههن صباحته التي لا تعرف الدمام! إنهن يسبحن فوق السحاب الموشى بأجنحة من ذهب لا ثقل له. . . لأنه ذهب مما تصب سبائكه أخيلة الشعراء والحالمين والظامئين، تلك الأخيلة التي تصنع الطوبى، وتنبت الجنان، وترسل الألحان الصامتة، وتنحت التماثيل الحية، وتفرش أديم الأرض الطيبة بأوراق الورد والبنفسج، وتفجر فيها أنهار المعرفة، وتعطر نسيمها بعبق الزنبق، وتملأ أرجائها بألسن الموسيقا، وتبنى فيها القصور للعشاق والمحبين من البلور واللؤلؤ المنثور. . .

أملأ كأسك السحرية يا ألف ليلة الحبيب لتشرب الإنسانية المتعبة نخب أحلامك. . . إنها تود أن تنام فلا تصحو. . . إن الأشباح الكريهة الشائهة قد ملأت عليها عالم الحقيقة، وهجمت عليها فجأةً من الغابة المظلمة الفاحمة أفاعي الأحقاد. . . هاهي ذي الضباع الجائعة التي أصابها السعار تنوشها من كل فج، وتتلقفها في كل مكان. . . في البحر. . . في البحر. . . في الهواء. . . تحت الماء. . . في المخابئ. . . في الخنادق. . . في البروج المشيدة. . . في البيداء. . . في القرية. . . في المدينة. . . في كل مكان يا ألف ليلة الحبيب تجد الإنسانية الأشباح ذات الظفر والناب. . . أشباح السباع والضباع

ص: 11

وعفاريت الجن والسحراء والأفاعي والرخاخ الهائلة التي تحمل فراخها الفيلة، والتنانين الطائرة التي تنزع الأشجار وتحطم المدن وتجعل العامر يباباً داثرا

لشد ما تفزع الإنسانية يا ألف ليلة الحبيب بهذه الرؤى التي زحمت حولها عالم الحقيقة، فهبها كأسك السحرية مترعة لترسل بها إلى وادي أحلامك. . . وادي البدور والحور والعطور والبخور. . . وادي الأشجار والأزهار والأثمار والأطيار. . . الوادي الجميل الذي لا لغوب فيه ولا كروب ولا حروب. . . الوادي الأخضر السندسي الذي يستطيع كل شئ فيه أن يبتسم وأن يغني وأن يتكلم بلغة الموسيقا. . . لأن كل شئ فيه يستطيع أن يحب. . .

الوادي الذي تبتسم شطئانه، وتبغم غزلانه، وتغازل الأرواح ألوانه، وثلج الصدور ريعانه. . . نضر ريان، حلو فينان؛ حينما تدخله الإنسانية الباكية تطرح أشجانها، وتنسى عند بابه أحزانها، فتمشي فيه بقدميها الورديتين، اللتين أرهقهما المشي في تلك الطريق الجافة الجافية المضرجة بالدماء، تبكي أطفالها، وتضحك من رجالها. . . ولا من يرثي لحالها.

حينما يداعب الحب قلوب العشاق، لا يقنع إلا أن يترك فيها ندوباً يجري منها الدم. فتارة يلون هذا الدم خدود العذارى وثغورهن، إن كن رقيقات رحيمات. . . أما إن كن قاسيات عاتيات، لا قلوب لهن، فإنهن يتركن الدم الشهيد المسكين يسقط ليروي الأرض. وقد يمشين فيه ويتلاعبن فيه حتى يخضب أقدامهن وبنانهن، فيخيل للمخدوعين أنها وردية

ومن حسانك يا ألف ليلة الحبيب من يملأن دنياك مباهج ومسرة. إنهن أرأف بالمدنفين من النسيم الغزل بالزهرة الظامئة؛ حين يبل صداها بالرذاذ النحيل الذي تحمله أجنحته ذات الزغب فيطبعه كالقبل فوق أوراقها التي ترتعش

أولئك المحصنات المحسنات المحسنات يا ألف ليلة، اللائي يمهدون للإنسانية طريق الخير، ويبتن فيها الورود والرياحين وأفواف الزهر

ومن حسانك يا ألف ليلة من يشببن حرب الحياة جذعة. هن جميلات ذاك الجمال الفائز المتأجج الذي كل من مسه يحترق وجميع من دخل تيهه يضل، ولا بد لمن يضرب في بيدائه من التعاويذ والطلسمات والرقي. . . تلك البيداء المسبعة المحواة التي تعزف جنباتها الجن، وتفح الأفاعي، وتعربد الغيلان والسعالي. . .

ص: 12

الجمال الخطر المتبرج الذي صنعته يد الشيطان، وباركه إبليس الأكبر، فقصر من ذيله، وحسر عن ساقه، وأرسل شعره كالزوابع الهوج تعصف بالقلوب الرطبة، وتزيغ العيون الجائعة، وتحرق العواطف المحرومة. ثم جعله سائباً طليقاً في الطرقات ليهدم ما تبنيه الآداب والأديان والمدارس وليثير غرائز الحيوان فيعود بالإنسانية إلى الغابة

هات يا ألف ليلة الحبيب من جرعتك السحرية فقد طال الانتظار بمعروف المسكين الإسكاف!

لقد ضاق بالشدتين: صنعته وزوجه، فابعث إليه بهذا العفريت من الجن يحمله إلى بلاد الصين، حيث يتزوج من ابنة الملك! وحيث يحمل علاء الدين مصباحك السحري إلى أمه فيرد بأساءها رخاء، ومتربتها هناء وفقرها غني. . . ويطلب إليها أن تخطب عليه ابنة الملك! بالضبط كما تتهيأ الفرصة لمعروف الإسكافي. ولكل بائس محروم يفكر في الناحية الأخرى المقابلة، حيث الفرج والسخاء والرضا، حيث طاقية الإخفاء وخاتم الملك والعصا السحرية ومصباح علاء الدين، حيث الأرض الطيبة، وجنة الأحلام، والطوبى السعيدة الخالية من الآلام. ألا ما أحوج الإنسانية إلى طاقيتك اليوم يا ألف ليلة الحبيب! ما أبدع أن تلبسها لتستخفي من الطائرات والغواصات والطرابيد ومدافع الهاون ومدافع الميدان والمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية وقنابل الثمانية آلاف رطل!

إنك إن تفضلت بها اليوم فحملتها على رأسها الذي يضطرب داخله ذلك البركان الأحمق، فإنك تريحها من أبنائها الحمقى، وأطفالها السكارى العرابيد!

إنها تستطيع إذن أن تتخلص من مارس المتوحش الدموي وعماله المتوحشين الدمويين، ومن تلك المجزرة المجنونة التي صنعت في معمل الأبالسة، وأُعدت في جب الشياطين! اخلع عليها تلك الطاقية يا ألف ليلة وليلة لتصل إلى خزائن الأسرار الحربية، فتريحنا من اختراعات الأبالسة، ولتضع مكانها أشباح تيمورلنك وجنكيز خان وهولاكو وأتالاكي تصيح في أوجه الجبارين:(مكانكم، ما هذا الدمار وما ذاك التخريب؟ لقد دمرنا من قبل، وخربنا من قبل، وحرقنا المدائن والقرى. . . ثم دمرنا الزمان وأحرقنا التاريخ، فلم نك شيئاً)

اخلع عليها طاقيتك يا ألف ليلة الرحيم لتصل إلى خزائن البخلاء والمنهومين ومختزني الأرزاق والأقوات، أولئك الذين تركوها تتضور جوعاً وترتعد عرياً،. . . وتذوب من

ص: 13

الاستحياء والتعفف لا لشيء. . . إلا لتمتلئ بطونهم بنار الذهب الوهاج. . . ليقتنوا الدور ويشيدوا القصور. . . وليضاعفوا بعد من آلامها. . . تلك الآلام التي يشربونها في كؤوسهم خمراً لذة، وسلافة مزة، وشرباً لا بارداً ولا طهوراً!

لقد طال بكاء معروف ومسغبته يا ألف ليلة، فامنحه طاقيتك ليستخفي بها قليلاً من عصا زوجه وثقلها. . . فما جنى شيئاً؛ ولكن جنت عليه تلك الحرب التي لم يشعل نارها وهو يصلى بأوارها

أين الخاتم يا ألف ليلة؟ خاتم الملك العجيب الذي يملك الدنيا من ملكه؟ أين خادمه الجبار لينقل الإنسانية إلى كوكب غير هذا. . . كوكب بعيد قصي. . . كوكب غير قريب من المريخ فلا يراها مارس وأعوانه المردة الذين لا ري لهم إلا من دماء الأبرياء، ولا شبع إلا. . . بأكباد الأمهات والأيامى والمساكين وقلوب اليتامى والحزانى

أين خبأت هذا الخاتم يا ألف ليلة؟ لماذا تبخل به علي إصبع الإنسانية المرفوع إلى السماء، والدم يقطر من بنانها؟ من به عليها لتكتم أنفاس المدافع، ولتوزع على الجائعين أرغفة بدل هذه القنابل والمنشورات التي تلقيها عليهم الطائرات؟

لقد ضلت الإنسانية سبيلها في تلك المفازة، فألق إليهم بالخاتم يا ألف ليلة. . . ولقد اشتد الظلام الذي تضرب فيه على غير هدى؛ فأشعل لها مصباح علاء الدين لحظات حتى تتبين سبيل الرشد، وحتى تفئ إلى الحق، وحتى تعود لها نعمة الحياة التي يعدها المردة من سخافات الماضي

(لماذا هذا الحديث الطويل عن الدم والآلام والحلبة؟

أليس في الدنيا ركن أختبي فيه بهذا الناي الذي في يميني، وذاك القرطاس الذي في شمالي، حيث أخلو إلى أناشيدي التي أملأ بها أسماع الرياح وآذان الآرام؟

لماذا يعوزني التحدث إلى الإنسانية ذات الأسمال، وها هو ذا الورد يصغي إلى ألحاني، ويعطر الحديقة الضاحكة بعبير بياني؟)

هكذا وقفت شهر زادك تسأل نفسها يا ألف ليلة:

(سأمشي على ثبج هذا البحر بقدمي الجميلتين، فنهرع إلى جنياته وعرائسه. . وسأسبح على رؤوس الآكام في الهواء فتثب إلى بنات الغاب وعذارى الخمائل. . . ثم أسبح فوق

ص: 14

السحاب. . . في صميم الأثير، فتقبل إلى ملكات العلالي. . . أما جنيات البحر وعرائسه فتقبل قدمي وتتلقى أوامري. . . فوجمالي ومفاتني لا يأذن لغواصة أن تلج فيه ولا لبارجة أو ملقية طوربيد أو نحوها. . . ولتمخر فيه الجواري المنشئات كدأبها من قديم آمنات مطمئنات

وأما بنات الغاب وعذارى (الخمائل) فتقبل بناني، ثم لا يأذن لمدفع أو دبابة أن يشوه جمال دنياي الخالدة. . . لن تصعد الآهات المكروبة من خرائب المدن الباكية بعد اليوم. . . ولن تكون هناك أطلال تذكر بتلك المجزرة المجنونة

وأما ملكات العلالي فتقبل يدي، وتنثر على الأرض المتعبة لآلئ الحكمة، وتنشر في الهواء لواء السلام، وترد إليها المحبة والإخاء)

ما أجمل ما تغني شهر زاد يا ألف ليلة الحبيب؟!

شهر زاد! روايتك الخالدة! مخترعة الطاقية والخاتم ومصباح علاء الدين والعصا السحرية. . . مسخرة الجن، وصانعة التعاويذ والطلسمات والرقى

شهر زاد! حلم الإنسانية الجميل!

متى تصحو شهر زاد يا ألف ليلة الحبيب؟!

دريني خشبة

ص: 15

‌على هامش النقد

النماذج البشرية المهموسة!

للأستاذ سيد قطب

حينما يذكر هذا التعبير (نماذج بشرية) تتواكب على النفس، وتخطر في الخيال، عشرات أو مئات أو ألوف من السحن المتمايزة، والملامح المتغايرة. سحن الأجسام والطبائع، وملامح النفوس والجوارح، من هؤلاء البشر الذين نلتقي بهم في الحياة اليومية، أو نسمع عنهم في القصص والتاريخ، أو نستشرف إليهم في الأساطير والخيال

وكل نموذج من هذه النماذج (أصيل) في بابه - حين ننظر إلى الحياة بعين فنان - وكلها جدير بأن (يسد خانته) ويؤدي دوره على المسرح الحافل الرحيب الذي تعرض فيه الحياة شتى النماذج وشتى الأدوار.

فإذا أردنا أن نضيق من هذه النظرة، فننظر بعين الفرد الإنساني ورغباته وميوله وما يحب في هذه الحياة وما يكره من الطبائع والأشكال؛ فلنا حينئذ أن نحب نموذجاً ونؤثره على نموذج؛ ولكن ليس لنا أن نطلب من النماذج الأخرى جميعاً أن تستحيل إلى المثال الذي نحبه؛ لأن في هذا تضييقاً لمسرح الحياة!

ولكن الأستاذ (مندور) كما يستهويه لون واحد من ألوان الأدب، لا يفرق بين الجيد والرديء من أمثلة، ما دام الجيد والرديء فيه ملونا بهذا اللون الخاص الأثير عنده المحبب لديه. يستهويه كذلك لون واحد من ألوان النماذج البشرية، وهو (الشخصيات المهموسة) التي لا تجهر مرة واحدة في حياتها، والتي تنزوي دائماً وتتضاءل وتتفانى وتخنس، والتي يتوافر فيها الحنان أو الحنين في همس واستخفاء

ولقد كتب في مجلة الثقافة بضع مقالات يستعرض فيها أعمالا في القصة والرواية لأدباء مصريين وأوربيين. والقارئ لهذا الاستعراض لا يحتاج إلى كبير عناء ليعرف أن آثر شخصية من شخصيات القصص قد أنس إليها وأحبها، وأطنب في عرضها والتذ هذا الإطناب. هي شخصية (فيليستيه) التي صورها الروائي الفرنسي الكبير (فلوبير) في قصة بعنوان:(قلب ساذج)

تلك الشخصية التي يقول عنها هو: (في عنوان القصة، وفي اسم البطلة ما يشخص هذا

ص: 16

الأنموذج المؤثر. ولو أنك طلبت إلي أن أترجم هذا الاسم وكان ذلك من حقي لما وجت خيراً من (أم السعد) فإنا نحس في هذا اللفظ سذاجة القلب وطيبته.

(فليستيه) خادمة من خدم الريف. عقل محدود وقلب رحب. وعن هذه المفارقة يشع نبل حياتها المتواضعة الحزينة. . . مثلها كمثل كلب أمين لأن الأمانة من طبعه، يقاتل دون سيده، ولقد يمسه الأذى ويعود من المعركة لا يذكر إلا ما به من جراح يحيها ألمه. . .)

ولا علاقة لي هنا بقيمة هذه القصة من الناحية الفنية ولا بمقدار إجادة المؤلف في رسم هذه الشخصية. وإنما يعنيني فقط إعجاب الأستاذ مندور بشخصية معينة

إنها ليست مصادفة عارضة أن تكون شخصية (فيليستيه) أو (أم السعد) هي أحب شخصية من شخصيات القصص إلى الأستاذ مندور بما فيها من (سذاجة وطيبة) و (بحياتها المتواضعة الحزينة) وبما فيها من شبه بالكلب الجريح (تحيى آلامه جراحه). وأن يكون آثر ألوان الأدب لديه هو (الشعر المهموس) والنماذج التي اختارها خاصة من هذا الشعر بما فيها من (نفس تئن) و (موسيقى حزينة). وأن تكون دعوته إلى الأدباء، هي الهمس والتواضع والاختفاء. وأن يكون المتنبي والعقاد بما فيهما من فحولة وضخامة وجهارة من الشخصيات التي لا تقع بينه وبينها ألفة في الأدب أو الحياة! إنما هي تلبيه لمزاج خاص يهفو إلى الحنان والحنين، ويستنيم إلى الهمس و (الوشوشة) والتهويم!

ولم تكن كذلك ملاحظة عابرة تلك التي لاحظتها على (مزاجه) فاجتماع هذه المصادفة، إنما يوحي بدلالة خاصة واضحة!

ولا أعيد هنا ما سبق لي تقريره من حاجة الذي يتصدى للنقد إلى أن يوسع آفاقه فينظر إلى ألوان الأدب والى نماذج الشخصيات وأنماط الطبائع من زوايا كثيرة مختلفة، لا من زاوية واحدة صغيرة

فشخصية (فيليستية) بصفاتها تلك، قد تكون شخصية محبوبة تستدعي العطف والرثاء، ولكن الحياة ليست مطالبة أن تحيل الناس جميعاً (فيليستيهات)! لتعجب الأستاذ مندور فهناك شخصيات جهيرة جاهرة، وشخصيات عظيمة شاعرة بما فيها من عظمة، وشخصيات ضخمة جبارة، وشخصيات طاغية عاتية؛ بل هناك شخصيات مريدة شريرة، وشخصيات دعية داعرة. وكلها جديرة بريشة الفنان. وليس نموذج آخر في عرف الفن ولا

ص: 17

في عرف الحياة. ولم يقع أن التذ الأستاذ مندور نموذجاً آخر من هذه النماذج البشرية الكثيرة أو عني باستعراضه فيما كتب ولهذا دلالته بلا جدال!

و (الأدب المهموس) قد يكون لوناً محبوباً من ألوان الأدب - مع وجوب التفرقة بين الصحيح منه والمريض - ولكن الحياة ليست مطالبة كذلك أن تحيل الفنون جميعها همساً، لأنها لا تستطيع أن تحيل الطبيعة كلها همسات خافتة أو حشرجات لاهثة لتعجب الأستاذ مندور، فالحياة أرحب من ذلك وأكبر وأعرف بقية الأنماط المختلفات!

وتشاء المصادفات أن يكتب الأستاذ مندور في عدد الرسالة الماضي كلمة في الرد عليّ، فتنضح بدليل جديد على هذا المزاج الخاص حين يقول:

(وأما عن النثر فما أظن القراء في حاجة إلى أن أدلهم على أن (رثاء أحد الشبان لأمه) الذي أورده الأستاذ قطب لا يمكن بحال من الأحوال أن يقارن (بأمي) لأمين مشرق. فرثاء الشاب المذكور لا إيقاع فيه ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل. وكيف تريد من شاب يؤلمه من موت أمه أنهم لم يعودوا يعرفون (بأُسرة) أن يصل في فن الكتابة إلى مشرق الذي يذكر (فستانها العتيق) و (يديها اللطيفتين) و (وقع قدميها حول سريره) و (غابة السنديان) وما إلى ذلك من فتات الحياة)؟

وأريد أن أتجاوز عن شئ من الالتواء في اختيار الأستاذ مندور لإحساس واحد من أحاسيس الشاب المصري في رثاء أمه ليس هو أبرز أحاسيسه تجاه الفاجعة، وحشده في مقابل هذا الإحساس الواحد خلاصة أحاسيس أمين مشرق كلها ليصل إلى غرض خاص في الموازنة!

أريد أن أتجاوز عن هذا الالتواء في العرض، وأكتفي بأن أضع بإزائه تصرفي في عرض رأيه هو، وعودتي في المقال الثاني من مقالاتي إلى توضيح هذا الرأي كاملاً بفقرات ونصوص حين أحسست أنني في مقالي الأول لم أعرضه العرض الكافي لتحقيق الأمانة الأدبية!

أتجاوز عن هذا لأتحدث في لب الموضوع فأثبت أولاً للقراء ذلك النص الذي يعنيه من رثاء الشاب المصري لأمه:

(من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا، ما عنواننا الذي نحمله في

ص: 18

الحياة ونعرف به؟ إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان، بل أصبحوا يقولون: هذا فلان، وهذا أخوه، وهاتان أختاه!)

هذا هو الإحساس الذي لا يعجب الأستاذ مندور: شعور الأبناء - بعد أمهم - بأنهم فقدوا عنوانهم في الحياة أمام أنفسهم وأمام الناس، وأنهم لم يعودوا يعرفون من هم، بل لا يعرفون ما هم!

وفي هذا الرثاء أحاسيس أخرى صادقة عميقة. تجاوزها ولم يشر إليها؛ ففيه الإحساس بالتناثر، والإحساس باليتيم، والإحساس بالغربة في الحياة كلها. وفيه الأسى على صور الأمومة الحية النابضة حين يقول:

(من ذا الذي يقص علي أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب. ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود)

وحين يقول:

(عندي لك أنباء كثيرة. كثيرة جداً ومتزاحمة. تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد بغيبتك، وإنه ليخيل إلي في لحظات ذاهلة: أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدثك بما جد لنا في غيبتك من أحداث، وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه، ولن تدب فيها الحياة يا أماه إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات فسيدركها الفناء. وستغدوا إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى)

هذه الأحاسيس، وهذه الصور لا تعجب الأستاذ مندور:(ولا إيقاع فيها ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل) ولا تدل بحال من الأحوال ذكر (الفسطان العتيق) ولا (اليدين اللطيفتين) ولا (وقع القدمين حول السرير) ولا (غابة السنديان)

لماذا؟ لأن في القطعة الأولى معاني كبيرة وأحاسيس عميقة، وليس فيها (فتات). ولهذا دلالته القوية فيما نحن بصدده. فهنا مزاج موكل بالأحاسيس الصغيرة الهامسة والمظاهر التافهة الساذجة، لا يستقل حسه بإحساس ضخم، ولا بصورة مركبة، ولا يطيق أن يرى في الحياة إلا الأطياف الباهتة، ولا أن يسمع في الطبيعة إلا الهمسات الخافتة. وتلك الجزيئات المفردة تستلفت نظر المرأة بشدة في الحياة، ونظر ذوي الأمزجة الخاصة كذلك

ص: 19

والأستاذ مندور كرجل ذي مزاج خاص مطلق الحرية في أن يختار ما يطيق حمله وما يستطيع أن يقله، ولكنه لا يصلح حكما يشرع للآخرين من أقوياء البنية القادرين على حمل ما يؤوده حمله، وعلى إدراك ما يقصر عنه حسه!

أما ما قاله عن الأستاذ محمود حسين إسماعيل فليس اليوم مجال الحديث فيه؛ وحتى التسليم به لا يؤثر في الحكم على الشعر المصري كله

سيد قطب

ص: 20

‌أدباء عالميون

2 -

موريس ماترلنك

للأستاذ صلاح الدين المنجد

وأخرج ماترلنك، بعد (الأميرة مالين) درامته المسماة:(بالدخيل وهي ذات فصل واحد، تجري حوادثها في بهو مظلم، من قصر قديم. أما أشخاصها فقلال: جد أعمى، وأب، وعم، وثلاث فتيات. كما رأيت أن أشخاص الأميرة (مالين) هما الملك والملكة. . . فالملكة تجن، والملك يموت. . . ولكنهما يخفيان وراء شخصيهما أمراً، ذلك أن الناس كلهم أمام تلك القوة الخفية التي تؤثر فينا متشابهون، سواء أنسبوا ذلك للمصادفة أو الحظ أو الشقاء أو الموت. . . لأن أشد الناس اختلافاً وتبايناً يصبحون متساوين متشابهين أمام العدم. . .

إذن فأشخاص الدرامة الثانية قليلون. وهاهم أولاء في غرفة يكاد مصباحها لا يضئ. . . يتكلمون وأصواتهم لا تسمع. . . يقطعون الليل قلقين مظطربين وفي غرفة مجاورة تنام تلك التي يقلقون عليها ويظطربون. . . تلك المرأة المشرفة على الموت. لقد كانت تجود بنفسها، في حين كان الأب والعم، والفتيات يطمئن بعضهم بعضاً:

- لقد تكلمت هذه الأمسية

- (إنها تنام نوماً عميقاً

- (هذه أول ليلة تشعر براحة فيها. . .

- (أحسب أن لنا الحق بالضحك أيضاً بلا خوف. . .)

ولكن الجد العجوز، لا يزول اظطرابه ولا قلقه؛ ولا يخفف من قلقه واظطرابه هذا الهراء الذي يسمعه، لأن عينيه لا تريان هذه المظاهر الخارجية التي تمنع الروح من الجولان، فهو متصل بالكون بروحه، يلتقط بها الأشياء ويدركها. هي كلاقطة المذياع. . . يعلم بها ما سيقع وسيكون. لا جرم أن لدينا جميعاً هذه اللاقطات، ولكنها تختلف في قوتها؛ فكلما كانت الروح قوية كان هذا الإدراك أو ذاك الشعور قوياً. ولكننا لا نفيد منها جميعاً. . . لأن بصرنا يقف عند ظاهر الأشياء. فالواقع الذي نشاهده يمحو الحق وهذه الفكرة ملازمة لآثار ماترلنك يعرضها ويفصلها ويشرحها. وإن ما نعتبره أدوات كشف وفهم كالبصر والنطق، لهي عاهات. . . فالأعمى في هذه الدرامة يرى ببصيرته، يرى ما لا يراه أولئك

ص: 21

الذين يثرثرون من حوله. . . ويتكلمون

ويمضي ماترلنك في درامته هذه، فيصور لنا وساوس الجد المسكين وقلقه. إنها لم تشعر بالروح والنشاط كما زعموا. . لا. . ولكن ماذا حدث. . .؟ فلقد هب الهواء. . . وخرست العنادل، وهاهو ذا خفق أقدام البستاني يرتفع. لقد بدأ عمله. . ويثرثر الفتيات؛ ويضطرب الشيخ، فقد شعر بدخول مخلوق لا يستطيع أحد أن يراه. . . إنه يرى. . . يرى ما لو تكلم به لسخروا منه. . . دخل هذا المخلوق الرهيب. . . إنه هنا، في الدار، يحس به ويضطرب قلبه له. ويطرق الشيخ الأعمى لحظة، وتدخل الراهبة فترسم الصليب. . . لقد ماتت المرأة. . .

وجهد ماترلنك في إفهام القارئ أن الموت دخل إلى غرفه أولئك الأحياء، وكان بينهم، كما أنه في كل ساعة، وفي كل مكان، يستطيع أن يدرك المخلوقات كلها

وماترلنك يدخل الموت في جميع مسرحياته، فالموت يسدد ضرباته دائماً للشباب والنعيم والحب، لا لأن السعادة أو الحب تصبان بما لا يصاب به الحقد والألم والبغض، بل لأن ضرباته شداد في السعادة والحب. . . خفاف في الشقاء والحقد.

وينحو النحو نفسه في درامته (العميان فمن هم هؤلاء الإثنا عشر أعمى: ستة عميان، وست عمياوات، التائهون في غابة من غابات أفريقية الاستوائية، تحت سماء صافية مزدانة بالنجوم. ينتظرون عودة الكاهن الذي قادهم إلى تلك المناطق البعاد، فتركهم فيها ومضى. هؤلاء العمى رمز الإنسانية القلقة الحائرة، التي تجهل الطريق الواجب اتباعها، وترتقب نجدة خارجية من دين أو فلسفة، فتنقذها مما هي فيه. إن أولئك العميان وهم في تلك الغابة، لا يجهدون ولا يتحركون لأشد ضعفاً من الأطفال. . . ماذا يفعلون وقد غاب الدليل. . . إن صخوراً شما، وهوى سحاقاً تحيط بهم. لقد حكم عليهم أن يبقوا في هذا السجن وسلط عليهم الموت، فهم يشعرون به عندما يفقد بعضهم بعضاً ولكنهم لا يجدون إلى رؤيته سبيلاً.

على أن درامته المسماة (بيلياس وميليزاند أشد سحراً ورقة، وأقرب ما كتب ماترلنك من الواقع. وقد افتن الموسيقيون في وضع ألحانها، فجلتها موسيقى شعبية ذائعة. حتى أن سلطان النغم أكسبها قوة ورقة، وأن كانت هذه الموسيقى قد أوضحت بعض ما كان ينبغي

ص: 22

أن يبقى غامضاً، كالأم والقلق والخيبة. . . هذه الأشادي التي يجب أن تضل كالضلال. . . وراء الأقوال. . . يدركها المرء بروحه ويستخرجها بنفسه. . .

لقد تزوجت (ميليزاند) الحسناء (جالود الأمير وكان هذا صياد ماهراً، ذا بأس وقوة. وكان أخوه بيلياس فتى غرانقاً، فأحبته ميليزاند، وأحبها. وأنهما لفي خلوة من خلوات الحب، إذ يفجؤهما خولود. . . فيثور ويغضب ويشهر سيفه ويطعن ميليزاند فتخرج، ويحاول أن ينتحر. . . ويفر بيلياس فيرى بنفسه في هوة سحيقة. . . فتتناثر قطع جسمه في جنباتها. وتموت ميليزاند بعد أن تضع غلاماً. . . وهنا تزداد الدرامة رفعة بالموسيقى. . . على أن بيلياس وجولود وميليزاند ليسوا أشخاص الدرامة الأوائل. . . وإنما كان صاحب (الدور) الأول، ذالك المجهول الذي لا يرى، رغم وجوده

كان ماترلنك، عندما كتب هذه الدرامة، متشائماً. فهو يصور القدر يسير الكون، فلا يستطيع أي مخلوق أن يقف في وجهه. فالقدر هو الذي سلط على ميليزاند الآلام القتالة بعد فرارها من زوجها؛ وهو الذي وصل بين قلبيها وقلب بلياس بالحب. . . هذا الحب العنيف الذي لا يقاوم، وهو الذي دفع جالود إلى القتل، وحال دون سعادة مخلوقين بريئين، ثم هو الذي ضرب العاشقين ضربات مؤلمات على جريمة لم يرتكباها. . . فهذه القوة التي لا ترحم. . . هي التي فعلت هذا كله. العقيدة المسيحية (تبرر) الأم بأنه عقاب أو تكفير عن ذنوب. ولكن بلياس وميليزاند لم يرتكبا جريمة، إنهما بريئان، وإنما تحابا. . . فكان الحب جريمة لا تغفر.

(دمشق - للبحث بقية)

صلاح الدين المنجد

ص: 23

‌مناهضة أزياء النساء قديماً

للأستاذ كوركيس عواد

بلغت النساء في عصرنا مبلغاً عظيماً من التفنن في ضروب الملبس وابتكار صنوفه. فأضحينا نرى أو نقرأ بين الفينة والأخرى عن زي جديد يشيع بين طبقات منهن، ثم لا يلبث أن ينقلب أمره فيصبح قديماً مستهجناً في أنظارهن، فيهمل استعماله ويعدل عنه إلى غيره

ومثل هذا التقلب بين الأزياء لا يمكننا عده بدعة جديدة أو أمراً مستحدثاً؛ فإن من يتصفح الأسفار القديمة، لا يعتم أن تستوقفه أخبار من هذا القبيل. وما يلفت الأنظار إليه بوجه خاص، ما كانت تلقاه بعض الأزياء من معارضة واستنكار ممن كانت بأيديهم مقاليد الحكم والتدبير. وقد وجدنا أحد المؤلفين الأقدمين، وهو ابن الأخوة القرشي الشافعي، المتوفى سنة 729 للهجرة (1328م) ينعى على نساء عصره ما انتهين إليه من سوء الحال في الأزياء المتكلف فيها والتصنع الممقوت في المظهر، كما يبدو من عبارته التالية:

(والنساء في هذا المقام أشد تهالكا من الرجال، ولهن محدثات من المنكر أحدثها كثرة الإرفاه والإتراف، وأهمل إنكارها حتى سرت في الأوساط والأطراف. فقد أحدثن الآن من الملابس ما لا يخطر للشيطان في حساب، وتلك لباس الشهرة التي لا يستتر منها اسبال مرط ولا أدنى جلباب. ومن جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثلة الأسنمة، ويخرجن من جهارة أشكالها في الصورة المعلمة)

وكانت بعض أزياء النساء قد أصابت مقاومة عنيفة، لما كانت تنطوي عليه من غرابة وتبذل، فعمد أكابر القوم إلى إبطالها بما وسعته طاقتهم وأسعفهم سلطانهم. ومن الشواهد على ذلك ما رواه ابن إياس في حوادث سنة 751 هـ (1350 م) من أن السلطان الملك الناصر أبا المحاسن حسن بن الملك الناصر محمد بن المملوك المنصور قلاوون (أبطل ما أحدثه النساء من القمصان التي خرجت في كبر أكمامها عن الحد، وأبطل ما أخرجوه من الأزر الحرير والأخفاف الزركش؛ فأشهروا المناداة في القاهرة بإبطال ذلك، فرجعت النساء عن ذلك)

ونظير ذلك ما حكاه ابن كثير في أحداث سنة 762 هـ (1360م) أن (في العشر الأوسط

ص: 24

من جمادي الآخرة، نادى مناد من جهة نائب السلطنة حرسه الله تعالى في البلد (دمشق)، إن النساء يمشين في تستر، ويلبسن أزرهن إلى أسفل من ثيابهن، ولا يظهرن زينة ولا يداً. فامتثلن ذلك)

ومثله ما رواه شمس الدين محمد بن طولون، عن ناصر الدين ابن شبل المحتسب أنه في سنة 830 هـ (1426 م)(أنكر على النساء لبس الطواقي، ومنعهن، وبالغ حتى أحرق بعض القصع على رؤوسهن بما عليها من المناديل، فامتنع النساء من الخروج)

وكانت بعض النساء ينتهزن الفرص للخروج إلى المتنزهات والظهور بأزيائهن المختلفة، بما لا يكون مرضياً في بعض الأحيان؛ فكن يلقين ممانعة من أولي الأمر وامتعاضاً من مسلكهن البعيد عن الاحتشام. فمن ذلك ما نقله المقريزي في بعض كتبه، واليك كلامه بحرفه:

(وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون: وفي سنة ست وسبعمائة (1306)، رسم الأميران بيبرس وسلار بمنع الشخاتير والمراكب من دخول الخليج الحاكمي (خارج القاهرة) والتفرج فيه بسبب ما يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات اللأتي تجمع الخمر، وآلات الملاهي، والنساء المكشوفات الوجوه، المتزينات بأفخر زينه من كوافي الزركش والقنابيز والحلي العظيم، وينصرف على ذلك الأموال الكثيرة، ويقتل فيه جماعة عديدة. ورسم الأميران المذكوران أن لمتولي الصناعة بمصر أن يمنع المراكب من دخول الخليج المذكور، إلا ما كان فيه غلة أو متجر أو ما ناسب ذلك. فكان هذا معدوداً من حسناتهما ومسطوراً في صحائفهما)

ومثل هذا الإنكار والمنع شئ كثير في كتب التاريخ والأدب لا يسعنا استقصاؤه في هذه النبذة. وقد اكتفينا بذكر بعض الأمثلة، لما فيها من فائدة بكونها تطلعنا على بعض أصناف ملابس وأزياء النساء كانت شائعة بين القوم في المائتين السابعة والثامنة للهجرة

ولا نريد أن نطيل الكلام الآن على الأوامر الجائرة التي أصدرها الحاكم بأمر الله في هذا الصدد. فهي في جملتها إجحاف بحقوق النساء وإرهاق لهن، ولم يكن فيها ما يستند إلى عقل ويحتكم إلى منطق، إنما كان ذلك دأبه في غالب أوامره ونواهيه. من ذلك ما رواه ابن تغرى بردى في حوادث سنة 404 هـ (1014 م) أنه (منع النساء من الخروج من

ص: 25

بيوتهن. وقتل بسبب ذلك عدة نسوة)

(بغداد)

كوركيس عواد

ص: 26

‌تشارلز دكنز

مواهبه وخصائص فنه

للأستاذ محمود عزت عرفة

(تتمة ما نشر في العدد 520)

ضحك. . . وبكاء

قد تعجب للكاتب الواحد يجمع بين الجد الصارم والفكاهة المرحة، أو يمزج في حديثه بين ضحكات الهتانة: ولكن هكذا كان ديكنز! فهو في ثاني كتبه (صحائف بكويك) يرتفع بأدب الفكاهة إلى القمة حتى لتكاد تلمح روحه المرح خلال كل حادث، ومن وراء كل حوار. بل لقد أصبحت تلك الأساليب ذوات المعاني الطريفة الافتراضية التي أجراها دكنز على لسان بطله سامويل بكويك رمزاً أو معنى ينضوي تحت هذا النوع، مما يطلق عليه اليوم اسم ولقد كان انسجام هذه العبارات دقيقاً وتواؤمها طريفاً مع فكاهات سام ويلز - بطل الرواية الثاني - التي جرت في أعقاب ظهورها على كل لسان، وأبهجت بطرافة معانيها نفس كل قارئ. حتى لقد قال أحد نقاد الإنجليز في وصف هذا الكتاب:(أن الهدف الأسمى لصحائف بكويك إنما هو الفكاهة لذاتها، وما نشك في أن هذا الكتاب قد ابتعث في صدور قرائه من الضحكات المرحة البريئة أكثر مما ابتعثه أي كتاب آخر في لغتنا. . .)

أما رواية (حانوت الطرف العتيق) فإنها تعرض علينا صوراً محزنة من الحياة يسترعي التفاتنا، من بينهما قصة (نل الصغيرة) تلك التي أثارت أشجان الكثيرين وهي تطالعهم كل أسبوع بحوادث حياتها في حلقات متتاليات

ويذكرون أنه عندما اتضحت خاتمة القصة، وظهر للقارئين أن (نل) على وشك أن تموت، بعث أحد أصدقاء دكنز إليه بكتاب يرجوه فيه أن يبقي عليها ولو إلى حين. ولكن عبثاً كان هذا الرجاء، فقد تقرر مصير البطلة المسكينة، وظهرت بعد قليل حلقة وفاتها، فاستدرت الدموع، واشجت قلوب الآلاف من القارئين

الواقع أن مفارقات دكنز ومضحكاته. . . وصوره المؤلمة وأحزانه، إنما هي سلاح واحد ذو حدين يرمى به إلى غاية بعينها، ويهدف به إلى غرض واحد لا يبغي سواه

ص: 27

فهو قد نصب لأخطاء هذا المجتمع وأغرى بعيوبه؛ وإنه ليحارب هذه الأخطاء والعيوب في كل ما يكتب؛ يتهكم منها أحياناً فيكشف عن سوآتها، ويذيل بسخريته اللاذعة ستارها البراق بحالة تقزز منها النفوس؛ ويصورها بصورة قاتمة محزنة أحياناً فيستثير عليها أعمق مشاعر البغضاء والكراهية. وهو في كلتا الحالتين يعمل على هدمها ويجاهد في تبرئة المجتمع من وصمتها. ومن يقرأ رواية (مغامراة أوليفر تويست) ير كيف يضرب دكنز بسلاحه ذي الحدين في مقتل واحد!

فعوامل البؤس التي ألمت بأوليفر من مبدأ طفولته تحلق في جو الرواية كالسحابات القواتم، وتغمر نفس القارئ بصور من الوحشة والإشفاق والألم تطالعه خلال كل سطر، وتبرز إليه من وراء كل عبارة

فيتم أوليفر الباكر، وحياته البائسة في الملجأ، ثم تحت مسز مان (تلك العجوز التي كانت تتخذ من تربية الأطفال تجارة مربحة!) وانتقاله بعد ذلك للعمل في حانوت مستر سوربري، وسوء المعاملة التي لقيها هنالك مما حمله على الهرب إلى لندن تحت جنح الظلام، ووقوعه ثمة في أيدي عصابة اللصوص التي أوشكت أن تقضي على آخر نوازع الخير في نفسه. . . كل هذه مشاهد أليمة محزنة تملأ النفس بالحسرة، وتثقل على القلب بأشجانها، فلا يخفف من وقعها إلا بعض تلك الجوانب المشرقة التي يعرضها دكنز خلال حديثه فينفس عن القارئ بعض التنفيس. . . كشخصية مسز سوربري - عنوان - وابنتها شارلوت، ومشهد اشتباكهما في معركة مع أوليفر المسكين قبيل هروبه بهيئة تختصب منا الابتسام وإن كانت القلوب مفعمة بالألم؛ ثم منظر القبض على أوليفر في لندن عندما (نشل) زميلاه منديل المستر براونلو، واندفاع المارة خلفه وهم يتصايحون بإيقافه وفي مقدمتهم اللصان الأصيلان؛ وخروج جمهور مسرح بنش برمته والرواية في أدق مواقفها للاشتراك في مطاردة اللص المزعوم. . . إلى آخر ما هنالك. فهذه كلها مواقف مرحة طريفة تستجلب الضحك وتقلل من عنف المأساة التي تمثلها حوادث القصة، فيسير القارئ خلال فصولها وقد اعتدل مزاجه أو كاد، وتوازنت دواعي القلق والارتياح في نفسه

هذه الفكاهة

على هذا النحو البارع يجمع دكنز في حديثه بين الجد القابض والفكاهة المرحة، وفي

ص: 28

وسعنا أن نتصور مبلغ الوحشة التي كانت تبدو فيهما رواياته لو أنها خلت من هذا الروح الممتع الذي يتألق خلال حوادثها، كما تتألق النجوم اللوامع في ظلمة الليل البهيم

على أن ثمة علاقة وثيقة بين الفكاهة والألم يجتمعان لها في أكثر الأحيان

فقد ذكرنا أن جهاد الرذيلة إنما يكون بأحد سلاحين؛ عرض سورها المشوهة المؤلمة لتأليب النفوس عليها وحشد عوامل الكراهية والبغضاء فيما حولها؛ أو غمزها والسخرية منها ومن مرتكبيها، وإثارة روح التحقير والازدراء بها وبهم. وقد يكون السلاح الأخير أشد نكاية وأعمق أثراً، فضلاً عن سلامة عقباه وسهولة متناوله. والأستاذ (العقاد) كلام نفيس قرأته له في الرسالة منذ سنوات في تعليل انتشار الروح الفكاهي بمصر في فترات الانحطاط السياسي وقيام المظالم الاجتماعية. على أني لست أحاول هنا أن أفترض أن دكنز كان من أهل التقية في محاربة المظالم التي نصب لها، فقد كان له من طبيعة نفسه، ومن حال بيئته ما يؤديه إلى أتم الصراحة ويحمله على أبلغ الجرأة؛ ولكني أقول إنه اجتمعت في نفسه عوامل السخرية وبواعث الألم جميعاً، وإنه استغل هذه الموهبة الفذة التي أوتيها: موهبة الذوق الفكاهي، والقدرة على التهكم اللاذع القاسي، استغلالاً أتاح له أن يخرج نوعاً من الأدب قل أن أتيح لغيره أن ينتج مثله

أهداف وإصابات

كان دكنز يهدف بكل كتاب يخرجه إلى غاية إصلاحية يضعها نصب عينيه، ويتجه في الوقت نفسه نحو رذيلة من الرذائل يحاول أن يهدم كيانها ويجتث أعمق أصولها. فهو يحمل معول الهدم في يد ومواد البناء والتجديد في أخرى؛ أو هو يهدم، يخطط الأوضاع - على الأقل - لمن يقوم بعده بمهمة البناء

ففي صحائف بكويك يعالج - فيما يعالج - مشكلة السجون، ويكشف عن بعض مثالب النظام فيها. وفي مغامرات أوليفر تويست يندد بقسوة المجتمع على الأطفال المتشردين، ويحمل أنظمته الجائرة تبعة انحدارهم إلى مهاوي الرذيلة والفساد.

وفي (حياة ومغامرات نكولاس نيكلباي) يكشف عن مساوئ التعليم الأهلي في إنجلترا، ويوجه النظر إلى أشهر عيوبه كما أنه يعالج مشاكل الأسرة في روايات (عيد الميلاد) ويحاول أن يضع نموذجاً عالياً لمجتمع فاضل قوامه التعاطف والتواد، وملء أفقه السعادة

ص: 29

والرضا وحب الإحسان، مع الشعور بآلام الغير وبأفراحه ومشاركته في بأسائه وفي ضرائه

ولقد عاش دكنز حتى شاهد بعيني رأسه جل نظراته يتحقق، وأكثر أمثلة العليا يصبح أمراً واقعاً ونهجاً في الحياة مسلوكاً

وهو يعد - إلى جانب ذلك - أول من رفع من شأن الروح (الفكاهي المرح) في إنجلترا واحله في الأدب مكاناً مرموقاً. فلقد كانت الشخصيات الفكاهية قبل دكنز أمثلة تامة للخيبة والجهالة، ووسائل مصطنعة للإضحاك والترفيه ليس غير. . . حتى جاء دكنز فنفض عن هذا الروح غبار الإهمال والتخلف. وهو ذلك لم يبتدعه من نسج خياله أو يخلق به شيئاً من العدم؛ وإنما وجده بأتم أوضاعه في أزقة لندن، واقتبسه من صدور أبنائها - بل من صدره هو نفسه - ثم أظهر للناس قيمته في تذليل مصاعب الحياة ومواجهة أحداثها

ويقول الإنجليز إن هذا الروح المرح، روح أبناء لندن الصميمين، أو ما يسمونه: هو سر نجاحهم ودعامة انتصارهم في كل معترك. وإنه - إذا حللناه - لمزيج عجيب التركيب من الهدوء والسخرية والصلابة والاستسلام والتصميم جميعاً وذلك شئ قديم في طبائع القوم، ولكن جاء دكنز فأعطى منه أمثلة روائع تنبض بالحياة، فأدبر بذلك من قيمة، ورفع من قدره كخلق اجتماعي نافع، وسلاح في معترك الحياة لا يفل له أو حد أوتنبو عنه ضريبة.

مراحل أخرى

نشر دكنز جل رواياته في حلقات أسبوعية متتابعة، فكان لا يرى أكثر وقته إلا منهمكاً في تحرير أو غارقاً في تفكير. . . ولقد أثر فيه هذا المجهود المضني فألم به المرض غير مره خلال عام 1841م

ثم رحل إلى أمريكا طلباً للاستشفاء والراحة فقوبل هناك بأجل مظاهر الحفاوة. ولما عاد اصدر كتابه (مذكرات أمريكية) ويبدو أنه كان فيه صريحاً إلى الحد الذي أثار عليه عاصفة قوية من الاحتجاج في سائر مدن الولايات المتحدة!

ومرت فترة قصيرة ظهر بعدها بقصته (أغنية عيد الميلاد) فكانت الحلقة الأولى من سلسلة روايات عيد الميلاد التي دأب على إصدارها في مثل هذه المناسبة من كل عام

وفي سنة 1846م تولى رئاسة تحرير الديلي نيوز، ولكنه تخلى عن هذا المنصب بعد قليل ليمضي في رحلة إلى سويسرا، وهناك كتب رواته: دومي وولده

ص: 30

وبدأ ينشر في عام 1849م فصول أشهر رواياته على الإطلاق: دافيد كوبر فيلد، وأنشأ في الوقت نفسه مجلة أسبوعية تحت عنوان: وصايا منزلية. واستبدل بها فيما بعد صحيفة أخرى سماها، دورة العام الكامل

وقد استنفذ هذا المجهود الهائل قواه ولكن لم يزده ذلك إلا تهالكاً على العمل

وبدأ في عام 1853م يلقي فصولاً من رواياته في مجتمعات عامة. . . بدأ ذلك في برمنجهام بروايته: أغنية عيد الميلاد، واستأنفه في سائر المدن الإنجليزية إجابة لدعوات ملحة، ولقد درت عليه هذه المحاضرات فيما بعد أرباحاً وفيرة

وفي عام 1856م تيسر له - كما أشرنا من قبل - أن يشتري بيت أحلامه منذ الطفولة (قصر جادز هيل) حيث أنشأ في رحابه كوخاً على النسق السويسري أتم بين جدرانه تأليف كثير من رواياته الخالدة. ولقد ارتفعت أرباح دكنز من قراءاته العامة خلال فترة ما إلى نصف ألف من الجنيهات كل أسبوع؛ ولكن أوهن هذا المجهود المتوالي من صحته وأذال من قواه حتى اقتضب حبل حياته، لا سيما وأنه كان يوالي إلى جانبه إصدار رواياته في فصول متلاحقة

وفي عام 1866م شد رحاله مرة أخرى إلى أمريكا ليحاضر القوم برواياته، ثم عاد إلى إنجلترا مستأنفاً مهمته الشاقة حتى صرفه عنها المرض وفرط المجهود فأمسك مرغما.

النهاية

أقبل خريف عام 1869م فاعتكف دكنز في جادز هيل ليكتب روايته الأخيرة (سر إدوين درود ولكن تقطعت به أسباب العيش قبل تمامها. . .

وكان موته فجائياً، فقد أصيب بنكسة شديدة في اليوم الثامن من يونية سنة 1870م وتوفي في مساء اليوم التالي

وكان لنعيه وقع شديد في كل مكان، ورنة حزن قوية

زلزلت قلوب المعجبين به. . . وما أكثرهم

ولم يكن عجيباً أن تصل تعزية الملكة فكتورية في أوائل الرسائل التي تدفقت من سائر الجهات تدفق السيل العرم، وهي التي دعته في أخريات أيامه إلى التشرف بلقائها في قصر بكنجهام وتقبلت هديته التي رفعها إليها من مؤلفاته بأحسن قبول

ص: 31

وكان طبيعياً أن يكون مقر دكنز الأخير بين جنبات كنيسة وستمنستر مثوى الأبطال والزعماء والنابغين في كل فن

وقد احتفل بدفنه في بساطة وهدوء وفق وصيته الأخيرة، ولم يخط على صفائح قبره إلا هذه الكلمات القصيرة:

(تشارلز دكنز: ولد في 7 فبراير عام 1813، وتوفي في 9 يونيه 1870).

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 32

‌قطرة دمع

(إلى روح صديقي شهيد الواجب. . المرحوم أحمد شلبي)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

أَسْكَنتْهُ بَغْتَةُ الْمَوْتِ الرّغَامَا

أَيْقِظُوهُ، فَهُوَ يَأْبَى أَنْ يَنَامَا!

أَيْقِظُوهُ، فَهُوَ يَأْبَى أَنْ يَرَى

هَامِدَ التَّرْبِ لجَنْبَيْهِ مَقَامَا

أَيْقِظٌوهُ! فَهُوَ فَجْرٌ رَاقِدٌ

لَمْ يُعَوَّدْ نُورُهُ هَذَا الظَّلَامَا

لم يَكَدْ يُشْرِقُ حَتَّى انْدَفَعَتْ

رَاحَةُ التَّابُوتِ تَسْقِيِهِ القَتَامَا

كَيْفَ لم يَعْصِفْ بِهاَ وَهْوَ الذَّي

لم يَكُنْ إِلاّمَضاََء وَاعْتِزَامَا؟

في شَبَابِ الْعُمْرِ يَغْليِ أَمَلاً

وَحَيَاةً، وَانْبثاقاً، وَاَحْتِدَامَا

لم يَكُنْ يَدْرِي الصِّبَا إِلاّ خُطىّ

أَرْخَتِ الرُّوحُ لِسَاقيْهَا الزِّمَاما

في سَماَءِ الْمَجْدِ يَمضْيِ طَائِراً

يَهتْكُ الرِّيحَ وَيَجْتاَحُ الْعَمَامَا

لَا هُدُوه، لا وُقُوفٌ، لا هَوّى

يَلْفِتُ الإِعْصَارَ أَنْ يَمْضِي أَمامَا

لَا كَلَالٌ، لَا مَلَالٌ، لا دُجَيّ

يُوقِفُ السَّارِيَ أنْ يَخْشَى الزحَاما

وَإِذَا الْكأسُ التي مِنْ فَمِهَا

تَشْرَبُ الأقدارُ آجَالَ النَّدَامَى

فَاجَأَ الْغَيْبُ بِهاَ أَحْلَامَهُ

فإِذَا هِي بَيْنَ كفّيْهِ حُطَامَا

وَإِذَا آمَالُهُ فَوْقَ الثّرَى

رَكْبُ أَزْهَارٍٍ عَلَى قَبْرٍ تَرامَى

ذَا بِلَاتِ النُّورِ تَبْدُو مِثْلَمَا

قَرَّحَ الإْثْكاَل أَجْفَانَ الأيامى

باَكِياَتٍ. . . أَنَا أَدْرِي دَمْعَهَا

وَأَرَاهُ بَيْنَ جَنْبَيَّ ضِرَامَا!

وَإِذَاهُ جَذْوَةٌ هَامِدَةٌ

وَصِباً في مَضْجَعِ الْهَلْكَى أَقاَمَا

لا تَلُومُوهُ عَلَى رَقْدَتِهِ

غَفْوَةُ الأكْفاَن لا تَدْرِي الْمَلَاما

وَاسْأَلوا الْغَيْبَ فَإِنَّي عَاجِزٌ

لم أَجِدْ إِلاّ قُبُوراً وَرمامَا. . .

أَيْنَ مِنْ دُنْيَاكَ قَلْبٌ ضاَحِكٌ

أَتْرَعَ الأيام صًفْواً وَابْتِسَاما؟

أيْنَ آمَالٌ وَنَفْسٌ رَفْرَفَتْ

كَصَبَاحِ الصَّيْفِ نورَاً وَسَلَاما

أَيْنَ؟ لَا أَيْنَ. . فَماَذَا بَعْدَهَا

غَيْرُ دَمْع فاَضَ مِن قْلَبْي كلامَاً!؟

أنتَ أخْرَسْتَ بَيَانِي مِثْلمَا

يُخْرسُ الإعْصَارُ في الدَّوْح اليَمامَا

ص: 33

مَزَّقَ النَّعْمُى سُكُوني وَمَضَى

أتُرى أغمَد في الصَّمْت حُسَاما؟!

جِئْتُ أَرْثِيكَ فَماَلِي مُلْجَمٌ

تَزهَقُ اْلأَنْغاَمُ في عُودِي إذا ما. .

يَا رَبِيعَ الْعُمْرِ، يَا نَشْوَتَه

كَيْف أَطْلَقْتَ بِوَادِيه الْحِمَاما؟

وَهْوَ فَجْرٌ مِنْكَ مَطْلُولُ الرُّبى

وَأدُهُ كاَنَ عَلَى الْمَوْتٍ حَرامَا

ص: 34

‌كانت لنا أيام

للأستاذ حسن كامل الصرفي

كانت لنا أيام

يا طيِبَ ما كانت!

لو هانت الأعوامْ

بالله ما هانت!

مرَّت بنا أحلامْ

حتى إذا حانت

إِشراقةُ الإلهامْ

وَلَّتْ فما بانت

كانت لنا. . كانت!

كُنَّا مع الأطيارْ

نَغْشَ البسَاتينَا

يُهَدْهِدُ الأزهارْ

شَدْوُ أغانينا

وَيَفْتِنُ النَّوّارْ

سِحْرُ أمانينا

تحبسُ الأسحارْ

هَمْسَ تَنَاجينا

وتكتمُ الأشجارْ

سِرَّ تلاقِينا

وكانت الأنوارْ

تَغْمُرُ وَاديِنا

نَغْفُو عَلَى القِيثارْ

وهو يغنَّينا

في غفْلَة الآلامْ

أَغْنَيِةَ الأحلامْ

كانت لنا أيام

يا طبيب ما كانت!

متى يفقُ النورْ

من غَشْيَةِ الإظْلَامْ

وَتستعيد الدُّور

عهد المنى البسَّامْ

وتزْدَهي بالحورْ

معارض الأجسامْ

ويهتف العصفورْ

بأعذب الأنغامْ

ويُطْلِقُ المأسورْ

سُجَّانُهُ الظُّلاّمْ

متى؟ متى يا نُورْ

تُعَدِّدُ الأوهامْ

وتهزم الدَّيْجُورْ

فتمَّحِى الآثامْ

ص: 35

وتنقضي الآلامْ!

لو صحَّت الأحلامْ!

وعادت الأيام

تَصْفو كما كانت!

ص: 36

‌البريد الأدبي

من شاعر إلى شاعر

تناولت أمس بالبريد مجموعة (زهر وخمر) للشاعر الساحر علي محمود طه فصار عندي من مجموعاته الخمس اثنتان: الملاح التائه وزهر وخمر. أما ليالي الملاح التائه، وأرواح وأشباح فستصلني بالبريد حالما يقع نظر أخي الشاعر على هذه الكلمة، فأنا أحبه وأحب شعره، ولن أكلف نفسي مشقة إفهام خصومه لماذا أحب شعره ولماذا أحبه، فإذا كان شعره لا يستطيع أن يضع في عيون أولئك الخصوم نوراً، وفي أنوفهم عطوراً، وفي قلوبهم فلن يستطيع لساني

فيا خصوم علي محمود طه؛ ستموتون ويبقى هو حياً. فغراب الموت البشع يقعقع في سطوركم، وعروس الحياة الجميلة تحلم في قصائده

ألا تعرفون حكاية الضفدع والحباحب؟ إذن فاسمعوها: رأى ضفدع يوماً حباحباً يلمع على حافة غدير، فخرج إليه قذراً ساخطاً وراح يبصق عليه. فقال الحباحب:(ماذا فعلت بك؟ من أين جاءك هذا الغضب؟) فأجابه الضفدع: وأنت من أين جاءك هذا اللمعان؟)

على أن ما يعزيني ويطربني ويملأ نفسي رجاء أن الإقبال على شعر علي محمود طه كبير، وفي هذا دليل كاف على أن الشعور بالجمال مطرد النمو في مصر كما هو في لبنان

فيا أخي الشاعر علي محمود طه! أنا أقطن أجمل بقعة في الأرض: ورائي شيخ الجبال، وأمامي وحولي أروع وأعذب ما مهرت به الطبيعة بلداً من بلاد الله: شاطئ كشعرك ذهب وفضة: فضة حين أتركه في الصباح إلى المدينة، وذهب حين أعود إليه في المساء، وخليج كله فتنة كشعرك في (الجندول) أو في (كليوباترا)(فاتنة الدنيا وحسناء الزمان)، ورواب كشعرك شماء وادعة، وسماء. . . سماء كأنها شعرك: جمال وحب وإلهام، وجو كله كشعرك غناء؛ وماذا أقول بعد؟ في هذه البقعة الطيبة في هذا الإطار الساحر قرأت شعرك أو قل تغنيت به وأحببتك. ويقيني أنك ستجيء يوماً إلينا، فأصعد بك إلى الشيخ صنين وننحدر معاً إلى الروابي فالخليج فشاطئ الذهب والفضة. ويقيني أيضاً أن هذا الشاطئ سيظفر منك بأغنية أشجى من أغنية لا مرتين في شاطئ سرنته، أو (سرنت) على قافية (برلنت)

ص: 37

إلياس أبو شبكة

تصويبات شعرية في كتاب السلوك للمقريزي

يقوم الدكتور محمد مصطفى زيادة بنشر كتاب (السلوك في دول الملوك المقريزي) نشراً علمياً مضبوطاً بالغاً غاية الجودة في التحقيق والتعليق. وحبذا لو نشرت كتبنا وتراثنا الأدبي العلمي بمثل هذه الدقة والتوفر على الضبط وحسن الإخراج، حتى لو بعث المؤلف نفسه ما تمنى أن يخرج كتابه على خير من هذه الصورة. غير أنني لاحظت في الكتابين الأول والثاني من الجزء الثاني بعض هفوات في الشعر المروي أرجو أن يتسع لها صدر الناشر الفاضل لما أسمع عن رحابة صدره وحسن قبوله جاء في القسم الأول من الجزء الثاني ص 263 س 16 هذا البيت:

يا قاضياً شاد أحكامه

على تقى من الله وأقوى أساس

والبيت مكسور، وبحره السريع. وكلمة (من) في الشطر الثاني زائدة والفعل (شاد) بكسر الشطر الأول. ولعل الرواية الصحيحة التي يستقيم بها الوزن هي:

يا قاضيا شيد أحكامه

على تقى الله وأقوى أساس

وذكر الدكتور زيادة في هامش صفحة 29 (أن الموشحات يلتزم فيها اللفظ العربي الصحيح) وهذا كلام جرى فيه الناشر على رأي غير المحققين من الأدباء. وللمغفور له العالم الثبت الشيخ حسين والي كلام في هذا الموضوع من مخطوط له نفيس اسمه (عصا موسى) وهو تحت يدي الآن. ولعل الله يوفق أقارب الشيخ الجليل وهم من أفاضل العلماء لطبع هذا المخطوط

وفي القسم الثاني من السلوك ج 2 ص 441 س 13 هذا المصراع

واردعه ردع كل مفسد وهو مصراع مكسور، لأن المخمسة التي هو منها من بحر الرجز، فهنا كلمة ناقصة ولعلها (باغٍ) أو عاتٍ أو ما إليهما فيكون المصراع هكذا: واردعه ردع كل باغ مفسد

وفي صفحة 476 سطر 7 من هذا القسم خمسة أبيات وردت كأنها قصيدة واحدة، والواقع أن فيها قافيتين، فالبيتان الأولان قافيتهما الياء والثلاثة الأخر قافيتها الشين، وليست الهاء

ص: 38

في الخمسة الأبيات قافية. والبيت الأول منها هو هذا:

يا ملكا أصبح في نشوة

من نشوة الظالم في نشيه

وعلى كلٍ، فالأول من السريع ولأربعة الباقية من بحر الكامل وإيراد الأبيات الخمسة على هذه الصورة فيه هذه الأخطاء:

1 -

الهمزة في أول البيت زائدة في الطبع أو النسخ

2 -

البيت الأول بعد حذف الهمزة وزنه السريع

3 -

البيت الأول من بحر والأربعة الباقية من بحر آخر؛ ولكن إيرادها على هذه الصورة يوهم أنها كلها من بحر واحد

4 -

البيتان الأولان من قافية والثلاثة الباقية من قافية أخرى. وأرجو أن لا يفوت الدكتور الفاضل تصويب هذا الشعر وتصحيحه في الجزء القادم خدمة للعلم واعترافاً بالحق وصوناً لجهده العظيم أن يرمى بالتهاون في التحقيق

محمد عبد الغني حسن

إلى الأستاذ العقاد

يدل رأيكم عن الرواية والشعر في مقاليكم الأخيرين على أنكم ترون الفن الروائي لا يقوم - كالشعر - على الإنشاء والابتكار، وهذا رأي جديد، والعهد بالفن عامة أنه يرجع إلى قوة الخلق والابتكار، أو إلى الخيال الإبداعي، لا فرق في ذلك بين قصة وقصيدة، أو صورة وسيمفونية. وبتلك النظرة يعالج بها فلاسفة الفن وعلماء الجمال فصل الخلق أو الإبداع الفني فيستشهدون بأنواع الفنون على السواء ومنها الرواية والقصة. فكيف لا تعدون التركيب الروائي وتصوير الشخوص وتحليلها من الإنشاء والابتكار؟ بل كيف فاتكم أن رواية كالأرض الطيبة أو الفندق الكبير وكلتاهما من تأليف امرأة - لا تقل منزلتها عن أية منزلة شعرية؟!

حافظ. . .

إلى الأستاذ الدكتور محمد مصطفى

قرأنا على صفحات الرسالة مقالاتكم الرائعة (عن ليلى والمجنون) وقد كانت كلمة طيبة

ص: 39

وتعبيراً جميلاً وتصويرا ساميا، وكنا نأمل أن نقرأها حتى انتهاء القصة؛ غير أنكم انقطعتم عن الكتابة. فنرجو أن تعاودوا النشر وأن تجمعوها متى انتهت في كتاب، والله يوفقكم.

(جنين - فلسطين)

ابن الطاهر

ص: 40